الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الإحكام في أصول الأحكام
المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ)
عدد الأجزاء: 8     
نقص العقل والتمييز عظيم نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة فكل شيء بيده لا إله إلا هو وحدثنا طائفة من الأشعرية أبدعوا في قولهم بالتقليد قولا طريفا في السخف وهو أن قالوا الفرض على العامي إذا نزلت به النازلة أن يسأل عن أفقه من في ناحيته فإذا دل عليه سأله فإذا أفتاه لزمه الأخذ به ولا يحل للعامي أن يأخذ بقول ميت من العلماء قديما كان أو حديثا صاحبا كان أو تابعا أو من بعدهم فإن نزلت بذلك العامي تلك النازلة بعينها مرة أخرى لم يجز له أن يأخذ تلك الفتيا التي أفتاه الفقيه بها ولكن يسأله مرة ثانية أو يسأل غيره فما أفتاه به أخذ به سواء كانت تلك الفتيا الأولى غيرها وقالوا إن الفرض على كل أحد إنما هو ما أداه إليه اجتهاده فيما لا نص فيه فكل مجتهد في هذا الموضع فهو مصيب قال أبو محمد ويكفي من بطلان هذا القول أنها كلها قضايا مفتراة ودعاوى بلا برهان أصلا فإن قالوا قال الله تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} قلنا صدق الله تعالى وكذب محرف قوله أهل الذكر هم رواة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء بأحكام القرآن برهان ذلك قوله تعالى {ثاني عطفه ليضل عن سبيل لله له في لدنيا خزي ونذيقه يوم لقيامة عذاب لحريق} فصح أن الله تعالى إنما أمرنا بسؤالهم ليخبرونا بما عندهم من القرآن والسنن لا لأن يشرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى بآرائهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق
(6/119)
 
 
فصل ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد قال أبو محمد قد ذكرنا كل ما موه به القائلون بالتقليد وبينا بطلانه وانتقاضه بعون الله تعالى لنا ولله الحمد ونحن الآن ذاكرون ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد ونبين وجه الحجاج في بيان سقوطه وأنه لا يحل تصريفه في دين الله عز وجل أصلا فمن ذلك أن يقال لمن قلد ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت فإن أخذ يحتج في فضل من قلد ووصف سعة علمه سئل أكان قبله أحد أفضل منه وأعلم أم لم يكن قبله أحدا أعلم منه ولا أفضل منه فإن قال لم يكن قبله أحد أفضل منه كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله إننا لا ندرك بإنفاقنا مثل أحد ذهبا مد أحد من أصحابه ولا نصيفه وبقوله صلى الله عليه وسلم إنه ما من عام إلا والذي بعده دونه وقائل هذا مخالف للإجماع وخارج عن سبيل المؤمنين ولا شك عند كل مؤمن أن أبا بكر وعائشة وعليا وعمر ومعاذا وأبيا وزيدا وابن مسعود وابن عباس أعلم بما شاهدوا من نزول القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل من سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وابن القاسم وداود ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأبي ثور وهؤلاء الفقهاء رحمهم الله هم الذين قلدتهم الطوائف بعدهم ما نعلم الآن على ظهر الأرض أحدا يقلد غيرهم لا سيما وقد حدثنا أحمد بن عمر العذري ثنا علي بن الحسن بن فهر ثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي ثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني
(6/120)
 
 
الهيثم بن جميل قلت لمالك بن أنس يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وحدثنا فلان عن إبراهيم بكذا ونأخذ بقول إبراهيم قال مالك صح عندهم قول عمر قلت إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم فقال مالك هؤلاء يستتابون
قال أبو محمد فإن قال بلى قد كان من ذكرتم وغيرهم مما كان بعد ما ذكرتم ومع هؤلاء المذكورين وقبلهم أفضل منهم وأعلم بالدين قيل له فلم تركت الأفضل والأعلم وقلدت الأنقص فضلا وعلما فإن قال لأنه أتى بعض الأولين متعقبا قيل له فقلد من أتى بعدهم أيضا متعقبا على هؤلاء فإن كان مالكيا أو شافعيا أو حنفيا أو سفيانيا أو أوزاعيا قيل له فقلد أحمد بن حنبل فإنه أتى هؤلاء ورأى علمهم وعلم غيرهم وتعقب على جميعهم ولا خلاف بين أحد من علماء أهل السنة أصحاب الحديث منهم وأصحاب الرأي في سعة علمه وتبجحه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وفتاوى الصحابة والتابعين وفقهه وفضله وورعه وتحفظه في الفتيا أو قلد إسحاق بن إبراهيم الحنظلي فقد كان كذلك مع دقة النظر وصحة الفهم أو قلد أبا ثور فقد كان غاية في ذلك كله وإن كان حنبليا فقيل له قلد محمد بن نصر المروزي فإنه أتى متعقبا بعد أحمد ولقد لقي أحمد وأخذ عنه وحوى علمه ولقي أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أصحاب أبي حنيفة وأخذ علمهم وقد كان في الغاية التي لا وراء بعدها في سعة العلم بالقرآن والحديث والآثار والحجاج
(6/121)
 
 
ودقة النظر مع الورع العظيم والدين المتين أو محمد بن جرير الطبري فكان في علمه ودينه بحيث عرف أو الطحاوي فقد كان من العلم أو داود بن علي فكان من سعة الرواية والعلم بالقرآن والحديث والآثار والإجماع والاختلاف ودقة النظر والورع بحيث لا مزيد وقد أتى متأخرا متعقبا مشرفا على مذهب كل من تقدمه فإن قلد داود قيل له قلد من أتى بعده متعقبا عليه ومخالفه كولده وابن سريج وكالطبري وكمحمد بن نصر المروزي والطحاوي وهكذا أبدا يقلد الآخر فالآخر وهذا خروج عن المعقول والقياس وعن الدين جملة وحتى لو مالوا إلى تقليد الأفضل لبطل عليهم بأن الأفاضل على خلاف ذلك فقد رجع عمر إلى قول المرأة من عرض النساء إذ هم بالمنع من المغالاة في الصداق وعمر أفضل منها بلا شك وقد كان أبو بكر وعمر يجمعان الصحابة
ويسألانهم فلو كان قول الأفضل واجبا أن يتبع لما كان لجمعهما الصحابة معنى لأنهما أفضل ممن جمعا ليعرفا ما عندهم ولكانا في ذلك مخطئين
 
وكل هذه أقوال فاسدة بلا برهان على صحة شيء منها وليس طريق الفضل من طريق الاتباع في شيء فقد يخطىء الفاضل فيحرم اتباعه على الخطأ ولا ينقص ذلك من فضله شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء سلمان أفقه إذ منعه سلمان من قيام جميع
(6/122)
 
 
الليل ومن مواترة الصيام فكان سلمان أفقه من أبي الدرداء وكان أبو الدرداء أفضل من سلمان فأبو الدرداء بدري عقبي لا تجزأ سلمان منه وأول مشاهد سلمان فالخندق فقد شهد صلى الله عليه وسلم أن الأنقص فضلا أتم فقها وقد قال صلى الله عليه وسلم فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقد قال صلى الله عليه وسلم ورب مبلغ أوعى من سامع وإنما خاطب بذلك الصحابة فغير منكر ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق ويكفي من هذا أن كل ما ذكرنا من الفقهاء الذين قلدوا مبطلون التقليد ناهون عنه مانعون منه مخبرون أن فاعله على باطل وقد حدثنا حمام عن الباجي عن أسلم القاضي عن المازني عن الشافعي أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره وحدثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد بن سعد ثنا أحمد بن خالد أنا يحيى بن عمر أنا الحارث بن مسكين ثنا ابن وهب قال سمعت مالكا وقال له ابن القاسم ليس أحد بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر قال له مالك من أين علموا ذلك قال منك يا أبا عبد الله قال مالك ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها هم قال أبو محمد كيف وقد أغنانا الله تعالى عن قولهم في ذلك بما نص في كتابه من إبطال التقليد فمن قول الله عز وجل {مثل لذين تخذوا من دون لله أوليآء كمثل لعنكبوت تخذت بيتا وإن أوهن لبيوت لبيت لعنكبوت لو كانوا يعلمون} ثم قال الله تعالى على أثر هذه الآية {وتلك الأمثال نضربها
(6/123)
 
 
للناس وما يعقلهآ إلا العالمون} قال أبو محمد فمن اتخذ رجلا إماما يعرض عليه
قول ربه وقول نبيه صلى الله عليه وسلم فما وافق فيه قول ذلك الرجل قبله وما خالفه ترك قول ربه تعالى وقول نبيه صلى الله عليه وسلم
 
وهو يقر أن هذا قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم والتزم قول إمامه فقد اتخذ دون الله تعالى وليا ودخل في جملة الآية المذكورة اللهم إننا نبرأ إليك من هذه الفعلة فلا كبيرة أعظم منها وقال تعالى {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم لله لذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون لله ولا رسوله ولا لمؤمنين وليجة ولله خبير بما تعملون} {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم لله لذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون لله ولا رسوله ولا لمؤمنين وليجة ولله خبير بما تعملون} } قال أبو محمد ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه عيارا من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام سائر علماء الأمة وقال تعالى {يوم تقلب وجوههم في لنار يقولون يليتنآ أطعنا لله وأطعنا لرسولا * وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا لسبيلا} وقال تعالى {فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين} وقال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} قال أبو محمد فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهد لقوله أو ببرهان على صدق قوله وإلا فليس صادقا لكنه كاذب آفك مفتر على الله عز وجل ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ضل بنص القرآن واستحق الوعيد بالنار نعوذ بالله منها وما أدى إليها وقال تعالى حاكيا عن الجن الذين أسلموا مصدقا لهم ومثبتا عليهم {وأنا ظننآ أن لن تقول لإنس ولجن على لله كذبا} فبطل ظن من ظن ذلك في رئيس قلده لم يأمر الله تعالى بأن يقلده وقال تعالى {إذ تبرأ لذين تبعوا من لذين تبعوا ورأوا لعذاب وتقطعت بهم الأسباب}
(6/124)
 
 
قال أبو محمد هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم فإنهم رحمهم الله تبرؤوا في الدنيا والآخرة من كل من قلدهم وفاز أولئك الأفاضل الأخيار وهلك المقلدون لهم بعد ما سمعوا من الوعيد الشديد والنهي عن التقليد وعلموا أن أسلافهم الذين قلدوا قد نهوهم عن تقليدهم وتبرؤوا منهم إن فعلوا ذلك ومن ذلك ما حدثنا أحمد بن عمر ثنا علي بن الحسن بن فهر حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثنا مالك قال كان ربيعة يقول لابن شهاب إن حالي ليس يشبه حالك أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به ومن شاء تركه وقد ذكرنا قول مالك وندامته على القول به وقال أبو حنيفة علمنا هذا رأي من أتانا بخير منه قبلناه منه وقال عز وجل {وإذا قيل لهم تبعوا مآ أنزل لله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} قال أبو محمد وهذا نص ما فعل خصومنا بلا تأويل ولا تدبر بل تعرض عليهم الآية والحديث الصحيح الذي يقرون بصحته وكلاهما مخالف لمذاهب لهم فاسدة فيأبون قبولها لا بفارق ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا فقد أجابهم تعالى جوابا كافيا وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} وقال تعالى {أفرأيت من تخذ إلهه هواه وأضله لله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد لله أفلا تذكرون}
قال أبو محمد هذه صفة ظاهرة من كل مقلد يعرفها من نفسه ضرورة لأنه هوى تقليد فلان فقلده بغير علم ووجدناه لا ينتفع بسمعه فيما يسمع من الآي والسنن المخالفة لمذهبه ولا انتفع بصره فيما أري من ذلك ولا بعقله فيما علم من ذلك ووجدناه ترك طلب الهدى من كتاب الله تعالى وكلام نبيه
(6/125)
 
 
صلى الله عليه وسلم وطلب الهدى ممن دون الله تعالى فضل ضلالا بعيدا فواحسرتاه عليهم وواأسفاه لهم وقال تعالى {قل أندعوا من دون لله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا لله كلذي ستهوته لشياطين في لأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى لهدى ئتنا قل إن هدى لله هو لهدى وأمرنا لنسلم لرب لعالمين} قال أبو محمد وهذا نص فعل المقلد لأنه التزم اتباع من لا ينفعه ولا يضره ولا يشفع له يوم القيامة ولا ينيله من حسناته حسنة ولا يحط عنه من سيئاته سيئة وكذلك دعاه أصحابه إلى الهدى بزعمهم فأكذبهم تعالى وقال {ولن ترضى عنك ليهود ولا لنصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى لله هو لهدى ولئن تبعت أهوآءهم بعد لذي جآءك من لعلم ما لك من لله من ولي ولا نصير} فلم يجعل هدى إلا ما جاء من عنده تعالى وقال تعالى {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ آباءنا ولله أمرنا بها قل إن لله لا يأمر بلفحشآء أتقولون على لله ما لا تعلمون} وهكذا فعل المقلدون فإنهم أباحوا لحوم السباع والحمر الأهلية وقد جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريمها وآخذوا الناسي وألزموا شريعة الكفارة المخطىء وقد جاء نص القرآن والسنة بإسقاط ذلك كله فلما أخبروا أن ذلك كله فواحش قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها وقال تعالى ذاما لقوم قلدوا أسلافهم وحاكيا عنهم أنهم قالوا {بل قالوا إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم
قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون}
 
وقال تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل لله وإلى لرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} وقال تعالى {يأيها لناس كلوا مما في لأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون * وإذا قيل لهم تبعوا مآ أنزل لله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}
(6/126)
 
 
ومن قلد فقد قال على الله ما لا يعلم وهذا نص كلام رب العالمين الذي إليه معادنا وبين يديه موقفنا وهو سائلنا عما أمرنا به من ذلك ومجازينا بحسب ما أطعنا أو عصينا فليتق الله على نفسه أمرؤ يعلم أن وعد الله حق وأن هذه عهود ربه إليه وليتب عن التقليد وليفتش حاله فإن رأى فيها هذه الصفات التي ذمها الله تعالى فليتدارك نفسه بالتوبة من ذلك وليرجع إلى بشرى قبول قول ربه تعالى إذ يقول {ولذين جتنبوا لطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى لله لهم لبشرى فبشر عباد * لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب} {ولذين جتنبوا لطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى لله لهم لبشرى فبشر عباد * لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب} فالمحروم من حرم هذه البشرى وخرج عن هذه الصفة المحمودة نسأل الله أن يكتبنا في عداد أهلها وأن يثبتنا في جملتهم آمين فقد فاز من وصفه الله تعالى بأنه هداه وبأنه مبشر وأنه من أولي الألباب وهذه صفة من استمع الأقوال فلم يقلد واختار أحسنها والأحسن هو ما شهد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بالحسنى مما وافق القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق فقد صح بنص كلام الله تعالى بطلان تقليد الرجال والنساء جملة وتحريم اتباع الآباء والرؤساء البتة وعلى هذا كله السلف الصالح أخبرنا محمد بن سعيد النباتي ثنا
أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا
 
شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء وهو ما دون الولد والوالد فقال عمر بن الخطاب إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر قال أبو محمد هذا هو الحديث الذي موهوا به واستحلوا الكذب بإبراء مفردا مما قبله وإنما استحى عمر من مخالفة أبي بكر رضي الله عنهما في اعترافه بالخطأ وأنه ليس كلامه كله صوابا لا في قوله في الكلالة
(6/127)
 
 
وبرهان ذلك أن عمر أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء وقد اعترف بأنه لم يفهمها قط وحتى لو صح أنه وافق أبا بكر في الكلالة في الحديث المذكور لما كانت فيه حجة لأن الشعبي راوي الحديث لم يدرك عمر وأبعد روايته فعن علي على اختلاف في رؤيته أيضا وأما الاضطراب عن عمر في الجد فإن محمد بن سعيد أخبرني عن أحمد بن عون الله عن قاسم بن أصبغ عن الخشني عن بندار عن ابن أبي عدي شعبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال قال عمر بن الخطاب حين طعن إني لم أقض في الجد شيئا وأما الاختلاف عنه رضي الله عنه في الكلالة فهو أن حماما حدثني قال ثنا ابن مفرج عن عبد الأعلى بن محمد بن الحسن قاضي صنعاء عن الديري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابا فمكث يستخير الله يقول اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي فلم يدر أحد ما كان فيه فقال إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه قال عبد الرزاق وحدثنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أوصى عند الموت فقال الكلالة كما قلت قال ابن عباس وما قلت قال من لا ولد له قال أبو محمد هذا أصح سند يرد في هذا
الباب عن عمر لاتصاله وعدالة ناقليه
 
وإمامتهم وصحة سماع بعضهم من بعض وهو كما ترى مخالف لرأي أبي بكر في الكلالة لأن أبا بكر كان يقول الكلالة من لا ولد له ولا والد
(6/128)
 
 
وعمر عند الموت يقول الكلالة من لا ولد له فقط بالسند الذي لا داخلة فيه فبطل بهذا ما رواه الشعبي الذي أبعد ذكره رؤيته عليا رضي الله عنه بالكوفة يتوضأ في الرحبة هذا إن صح أنه رآه أيضا أخبرنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا شعبة عن عاصم عن الشعبي قال سئل عبد الله بن مسعود عن امرأة توفي عنها زوجها ولم يفرض لها فاختلف إليه شهرا فقال ما سئلت عن شيء منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد علي منه لم ينزل فيه قرآن ناطق ولا سنة ماضية أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن الشيطان والله منه بريء وذكر الحديث قال أبو محمد فهذا ابن مسعود يعترف بالخطأ وبمغيب السنن عنه وفي هذه القصة سنة صحيحة خفيت عنه ثم علمها بعد ذلك ولا سبيل إلى أن يوجد عن أحد من الصحابة والتابعين غير الاعتراف بجواز الخطأ عليهم والصحيح من رواية الشعبي في الخبر الذي ذكرنا هو ما أخبرناه محمد بن سعيد بن نبات عن أحمد بن عون الله عن قاسم بن أصبغ عن الخشني عن بندار عن غندر ثنا شعبة عن يحيى بن سعيد التيمي تيم الرباب قال
(6/129)
 
 
ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقض حتى يبين لنا فيهن أمرا ينتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا فهذا هو المتصل من طريق الشعبي ثم إنا نقول إن العجب ليطول ممن اختار أخذ أقوال إنسان بعينه لم يصحبه من الله عز وجل معجزة ولا ظهرت عليه آية ولا شهد الله له بالعصمة عن الخطأ ولا بالولاية وأعجب من ذلك إن كان من التابعين فمن دونهم ممن لا يقطع على غيب إسلامه ولا بيد مقلده أكثر من حسن الظن به وأنه في ظاهر أمره فاضل من أفاضل المسلمين
لا يقطع له على غيره من الناس بفضل ولا يشهد له على نظارته بسبق إن هذا لهو الضلال المبين
 
فليت شعري ما الذي أوجب عليه أن يميل إليه دون أن يميل إلى غيره ممن هو مثله في الظاهر أو أفضل منه في الظاهر أو في الحقيقة من سابقي الصحابة حتى صاروا يتدينون بقوله في دينهم الذي هو وسليتهم إلى الله تعالى لا يرجون النجاة من عذاب الآخرة بسواه ونجدهم المساكين في أمور دنياهم لا يقلدون أحدا ولا يبتاع أحدهم شيئا فما دونه أو فما فوقه إلا حتى يقيسه ويتأمل جددته ويتقي الغبن فيه وهو لا يتقي الغبن في دينه الذي فيه هلاكه أو نجاته في الأبد فتجده قد قبله مجازفة وأخذه مطارفة هات ما قال مالك وابن القاسم وسحنون إن كان مالكيا أو ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إن كان حنفيا أو ما قال الشافعي إن كان شافعيا ولا مزيد ووالله لو أن هؤلاء رحمهم الله وردوا عرصة القيامة بملء السموات والأرض حسنات ما رحموه منها بواحدة ولو أنه المغرور ورد ذلك الموقف بملء السموات والأرض سيئات ما حطوا منها واحدة ولا عرجوا عليه ولا التفتوا إليه ولا نفعوه بنافعة ونجده يضرب عن كلام نبيه
(6/130)
 
 
صلى الله عليه وسلم الذي لا يرجو شفاعة سواه ولا أن ينقذه من أطباق النيران بعد رحمة الله تعالى إلا اتباعه إياه فأين الضلال إن لم يكن في فعل هؤلاء القوم ثم ننحط في سؤالهم درجة فنقول ما الذي دعاكم إلى التهالك على قول مالك وابن القاسم فهلا تبعتم أقوال عمر بن الخطاب وابنه فتهالكتم عليها فهما أعلم وأفضل من مالك وابن القاسم عند الله عز وجل بلا شك ونقول للحنفيين ما الذي حملكم على التماوت على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن فهلا طلبتم أقوال عبد الله بن مسعود وعلي فتماوتم عليها فهما أفضل وأعلم من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن عند الله تعالى بلا شك ونقول لمن قلد الشافعي رحمه الله ألم ينهكم عن تقليده وأمركم باتباع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث
صح فهلا اتبعتموه في هذا القولة الصادقة التي لا يحل خلافها لأحد أو ليس قد قال رحمه الله وقد ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه فقال
 
رحمه الله إن صح هذا الحديث فبه أقول ونبرأ من كل مذهب خالف حديث النبي صلى الله عليه وسلم والحديث المذكور في غاية الصحة من طريق عائشة رضي الله عنها ثم أنتم دأبا تتحيلون في إبطاله بأنواع من الحيل الباردة ونهاكم عن قبول المرسل ثم أنتم تأخذون به في تحريم بيع اللحم بالحيوان تقليدا لغلطه رحمه الله الذي لم يعصم منه أحد فقد كان تقليد ابن عباس أولى بكم إذ ولا بد لأنه أفضل وأعلم عند الله عز وجل من الشافعي وقد قال قائلون منهم نحن لم نرزق من العقل والفهم ما يمكننا أن نأخذ الفقه من القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا بالتي تملأ الفم فيقال لهم أمنعكم الله تعالى العقل الذي تفهمون به عند ما قد ألزمكم فهمه إذ يقول عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن أم على قلوب أقفالهآ} وقد سمعتموه يقول {يأيها لذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا هتديتم إلى لله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} وسمعتموه يقول {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل
(6/131)
 
 
نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وسمعتموه يقول {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} فلولا أن في وسعكم الفهم لأحكام القرآن ما أمركم بتدبره ولولا أن في وسعكم الفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره بالبيان عليكم ولا أمركم بطاعته هذا إن كنتم تصدقون كلام ربكم فليت شعري كيف قصرت عقولكم عن فهم ما افترض الله تعالى عليكم تدبره
والأخذ به واتسعت عقولكم للفهم عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وما أمركم الله تعالى قط بالسماع منهم خاصة دون سائر العلماء ولا ضمن لكم ربكم تعالى قط العون على فهم كلامهم كما ضمن لكم في فهم كلامه إنه لا يكلفكم إلا وسعكم وقد أيقنا أن الله عز وجل لا يأمرنا بشيء إلا وقد سبب لنا طرق الوصول إليه وسهلها وبينها فقد أيقنا بلا شك عندنا أن وجوه معرفة أحكام الآي والأحاديث التي
أمرنا بقبولها بينة لمن طلبها إن صدقتم ربكم وإن كذبتم كفرتم وأما ما لم نؤمر باتباعه من رأي مالك وأبي حنيفة وقول الشافعي فلا سبيل إلى أن نقطع بأن فهمه ممكن لنا حدثنا أحمد بن عمر العذري نا أبو محمد الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس أنا أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي نا أبو الحسن علي بن عبد العزيز نا الأصبهاني نا عبد السلام نا غطيف بن أعين المحاربي عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي يا ابن حاتم ألق هذا الوثن من عنقك فألقيته ثم افتتح سورة براءة فقرأ حتى بلغ قوله تعالى
(6/132)
 
 
{تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} فقلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحلون لكم الحرام فتستحلونه ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه قلت بلى قال فتلك عبادتكم قال أبو محمد فسمى النبي صلى الله عليه وسلم اتباع من دون النبي صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم عبادة وكل من قلد مفتيا يخطىء ويصيب فلا بد له من أن يستحل حراما ويحرم حلالا وبرهان ذلك تحريم بعضهم ما يحله سائرهم ولا بد أن أحدهم مخطىء أفليس من العجب إضراب المرء عن الطريق التي أمره خالقه بسلوكها وضمن له بيان نهج الصواب فيها وأمره أن يكون همه نفسه لا ما سواها فيترك ذلك كله ويقصد إلى طريق لم يؤمر بسلوكها ولا ضمن له نهج الصواب فيها بل قد نهي عن ذلك وعيب عليه ولامه ربه عز وجل على ذلك أشد الملامة مع أن الذي قلدوه ينهاهم عن تقليده فمن أضل من هؤلاء وقد احتج بعض من قلد مالكا بأنه المعني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنذاره بزمان يأتي لا يوجد فيه عالم أعلم من عالم المدينة أخبرنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن
معاوية عن أحمد بن شعيب أنا
 
علي بن محمد ثنا محمد بن كثير عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن
(6/133)
 
 
أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله يضربون أكباد الإبل ويطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة فقال النسائي قوله أبو الزناد خطأ إنما هو أبو الزبير قال أبو محمد وهكذا حدثناه أحمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا ابن مفرج قال ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا عمرو بن علي ثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريح عن أبي الزبير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن تضرب أكباد المطي فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة قال البزار لم يرو ابن جريج عن أبي صالح غير هذا الحديث حدثنا أحمد بن عمر ثنا علي بن الحسن بن فهر أنا محمد بن علي ثنا محمد بن عبد الله البيع إجازة أنا أبو النضر الفقيه أحمد بن محمد العنزي ثنا عثمان بن سعيد الدارمي ثنا أبو مسلم عن عبد الرحمن بن يونس المستلمي نا معن بن عيسى حدثني زهير أبو المنذر التميمي ثنا عبيد الله بن عمر بن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ناس من المشرق في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة وقال عالم أهل المدينة حدثنا أحمد بن عمر ثنا فهر نا ابن أحمد بن إبراهيم بن فراس ثنا ابن الأعرابي ثنا محمد بن إسماعيل الصوفي ثنا علي بن المديني ثنا سفيان بن عيينة
(6/134)
 
 
فذكر الحديث فقال ابن عيينة وضعناه على مالك بن أنس قال ابن فراس ثنا محمد بن أحمد اليقطيني نا محمد بن أحمد بن سلم الحراني ثنا أبو موسى الأنصاري وذكر هذا الحديث فقال بلغني عن ابن جريج أنه كان يقول نرى أنه مالك بن أنس قال أبو محمد هذا حديث لم يقنعوا بقبيح فعلهم في التقليد حتى أضافوا إلى ذلك الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة المذكورة في الحديث المذكور على أن في سنده أبو الزبير وهو مدلس ما لم
يقل حدثنا أو أخبرنا ومع ذلك فليست تلك الصفة موجودة في عصر مالك لأنه كان في عصره ابن أبي ذئب وعبد العزيز
 
بن الماجشون وسفيان الثوري والليث والأوزاعي وكل هؤلاء لا يمكن لمن له أقل إنصاف وعلم أن يفضله في علمه وورعه على واحد منهم ولا في فهمه للقرآن ولا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وليت شعري ما الذي دلهم على أنه مالك دون أن يقولوا إنه سعيد بن المسيب الذي كان أفقه من مالك وأفضل وذكروا عن سفيان بن عيينة أنه قال كانوا يرونه مالكا قالوا فإنما عنى سفيان بذلك التابعين قال أبو محمد فزادوا كذبة وما دليلهم على أن سفيان عنى بذلك التابعين لو صح عن سفيان ولعله عنى بذلك مقلدي مالك من صغار أصحابه قال أبو محمد هذا بارد وكذب وليت شعري أي شيء من إدراك سفيان للتابعين مما يوجب أنه عناهم بهذا القول فكيف يصح عن سفيان إلا ما رويناه آنفا من أنه ظن منه ومثل هذا من الإقدام على القطع بالظنون
(6/135)
 
 
لا يستسهله إلا من يستسهل الكذب نعوذ بالله من ذلك ومما يوضح كذبهم في هذا على سفيان بن عيينة ما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري ثنا أحمد بن عيسى بن إسماعيل البلوي ثنا غندر ثنا خلف بن القاسم الحافظ ثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري قال محمد بن أبي عمر قال سفيان بن عيينة لو سئل أي الناس أعلم لقالوا سفيان يعني الثوري فهذا سفيان بن عيينة يقطع بأنهم كانوا يقولون سفيان أعلم الناس فدخل في ذلك مالك وغيره وأما الرواية عن أبي جريج فلا يدرى عمن هي وإنما هي بلاغ ضعيف كما ترى وبالله تعالى التوفيق وقد ضربت آباط الإبل أيام عمر في طلب العلم حقا الذي هو العلم بالحقيقة وهو القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر الناس في خلافته إلى المدينة متعلمين للعلم ومتفقهين في الدين وما كان في أقطار البلاد يومئذ أحد يقطع على
أنه أعلم من عمر لا سيما مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالعلم والدين وأقصى ما يمكن أن يشك هل يساويه في العلم علي وعائشة ومعاذ وابن مسعود وأما أن يقطع بأنهم أعلم منه جملة فلا أصلا
 
وأما الإكثار من الرأي فليس علما أصلا ولو كان علما لكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن أعلم من مالك لأنهم أكثر فتيا ورأيا منه فإذا ليس الرأي علما وإنما العلم حفظ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين فقد كان في عصر مالك من هو أوسع علما منه كشعبة وسفيان ومن هو مثله كسفيان بن عيينة والأوزاعي وهشيم وغيره فظهر كذب من كذب في الحديث المذكور وبالله تعالى التوفيق ثم لو صح وصح أنه مالك باسمه ونسبه لكان إنما فيه أنه لا يوجد أعلم منه قط وليس فيه أنه لا يوجد مثله في العلم فبطل احتجاجهم ولم يمنع وجود مثله في العلم
(6/136)
 
 
وعارضهم بعض الشافعيين بما حدثناه هشام بن سعيد الخير بن فتحون قال ثنا عبد الجبار المقرىء بمصر نا الحسن بن الحسين النجيرمي ثنا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب نا أبو داود الطيالسي نا جعفر بن سليمان عن النضر بن معبد عن الجارود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما اللهم إنك أذقت أولها عذابا أو وبالا فأذق آخرها نوالا فقالوا هذه صفة الشافعي فما ملأ الأرض علما قرشي غيره وحدثنا أحمد بن محمد بن الجسور قال نا ابن أبي دليم نا ابن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر الأزهري عن سهل بن أبي حثمة
(6/137)
 
 
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعلموا من قريش ولا تعلموها وقدموا قريشا ولا تؤخروها فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش قال أبو محمد وهذا حديث صحيح أصح من حديثهم الذي شنعوا به وأما الحقيقة في ذلك الحديث فهي أن الصفة التي بين صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث لم تأت بعد هذا إن صح الحديث المذكور لأن الزمان إلى
الآن لم تكن قط فيه البلاد عارية من عالم يضاهي علماء المدينة فقد كان في عصر الصحابة بالعراق ابن مسعود وعلي وسليمان وكان بالشام معاذ وأبو الدرداء وكان بمكة ابن عباس ولا يحل لذي ورع وعلم أن يقول إن عمر وعائشة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت كانوا أفقه من علي وابن مسعود ومعاذ وما ابن عباس بمتأخر عمن ذكرنا ثم أتى التابعون فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول إن سعيد بن المسيب
وسليمان بن يسار كانا أفقه من عطاء والحسن وعلقمة والأسود ثم أتى صغار التابعين فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول إن ربيعة والزهري وأبا الزناد كانوا أفقه من إبراهيم النخعي وعامر والشعبي وسعيد بن جبير وأيوب السختياني وعمر بن عبد العزيز ثم أتى عصر مالك فكان معه ابن أبي ذئب وسفيان الثوري والأوزاعي وابن جريج والليس وليس أحد ممن ذكرنا دونه في رواية ولا دراية ولا ورع ثم هكذا إلى أن انقطع الفقه من المدينة جملة واستقر في الآفاق فإنما ذلك الحديث إن صح إذا قرب قيام الساعة وأرز الإيمان إلى المدينة ومكة وغلب الدجال على الأرض حاشا مكة والمدينة فحينئذ
(6/138)
 
 
يكون ذلك وإنما حتى الآن فلم تأت صفة ذلك الحديث وهذا بين ظاهر وأما الإنذار بما ذكرنا فكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي زيد المروزي عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل البخاري حدثنا إبراهيم بن المنذر نا أنس بن عياض حدثني عبيد الله عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها وكما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهل الأعرج ثنا شبابة بن سوار قال ثنا عاصم بن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها وكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي زيد عن الفربري عن البخاري ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا الوليد بن مسلم ثنا أبو عمرو الأوزاعي ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وذكر باقي الحديث ثم نقول لهم هبكم حتى لو صح الحديث المذكور ثم
لو صح أنه مالك بلا شك أي شيء كان يكون فيه مما يوجب اتباعه دون غيره من العلماء ولا شك عند أحد من نقلة الحديث في صحة الحديث المسند إلى رسول الله
(6/139)
 
 
صلى الله عليه وسلم أنه
 
رأى رؤيا فيها أنه أعطي قدحا فشرب منه حتى رأى الري يجري في أظفاره ثم ناول فضله عمر فقيل له يا رسول الله ما أولت ذلك فقال صلى الله عليه وسلم العلم وصحة الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أري أمته وعليهم قمص بعضها إلى الثديين وعلى عمر قميص يجره وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك الدين فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر من أعلم أمته وأصحابه ومن أئمتهم دينا ولا خلاف بين أحد المسلمين أن عمر وعليا وابن مسعود وعائشة أعلم من مالك بلا شك وليس ذلك يوجب تقليد أحد ممن ذكرنا ولا اتباعه على جميع أقواله كما فعلوا هم بمالك فبطل تعلقهم بالحديث المذكور لو صح وتأولهم فيه كذب بحت لا يحل لأحد نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الفرق بينهم في الإقدام وبين الشافعيين لو استحلوا أن يقولوا إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الأمر برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم إن المراد بهذا هو الشافعي لأنه قرشي النسب فيجب أن يكون الناس تبعا له وبين الداوديين لو أنهم استحلوا فقال إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن العلم أو هذا الدين بالثريا لتناوله رجل أو رجال من أبناء فارس المراد بهذا داود وأبو حنيفة لأنهما من أبناء فارس هذا على أن هذين الحديثين صحيحان لا شك في صحتهما وحديث عالم المدينة معلول لا يصح فإن قالوا قد كان في قريش علماء غير الشافعي وفي الفرس علماء غير داود وأبي حنيفة قيل لهم وقد كان بالمدينة علماء غير مالك بلا شك وكان هذا استحلال للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستجيزه ذو ورع قال أبو محمد وأما احتجاجهم بقول مالك هذا العمل ببلدنا فهذا لا معنى له لأن العمل بالمدينة قبل مولد مالك بثلاث وعشرين سنة
لم يجز
(6/140)
 
 
إلا بالظلم والجور والفسق ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان ثم عمال بني العباس كالحجاج وحبيش بن دلجة وطارق وعبد الرحمن بن الضحاك وغيرهم ممن لا يعتد بهم وما أدرك مالك قط بالمدينة بعقله عمل أمير ووال يقتدي به أصلا ولقد كان التغيير بدأ في السنن من قبل ما ذكرنا كقول مروان ذهب ما هنالك ودليل ما ذكرنا تركهم عمل عمر وعثمان في نصوص الموطأ فبطل الاحتجاج بالعمل جملة ولا يبق
إلا
(6/141)
 
 
الرواية التي رواها ثقات العلماء عن أمثالهم إذ لم يمكن الظالمين أن يحولوا بينهم وبين ألسنتهم كما حالوا بينهم وبين العمل وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ومن البرهان اللائح على بطلان التقليد أن أهل العصر الأول والعصر الثاني والعصر الثالث وهي القرون التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق بن السليم عن ابن الأعرابي عن أبي داود عن مسدد وعمرو بن عون قالا ثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن الحصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم والله أعلم أذكر الثالث أم لا ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويحربون ولا يؤتمنون ويفشون فيهم السمن قال أبو محمد وهكذا في كتابي والصواب يخونون ولا يؤتمنون وبلفظة يخونون رويناه من طريق مسلم عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن أبي حمزة عن زهدم عن عمران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي صلى الله عليه وسلم والفقه في القرآن ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه صلى الله عليه وسلم عملوا به واعتقدوه ولا يقلد أحد منهم أحدا البتة فلما جاء أهل العصر الرابع تركوا ذلك كله وعولوا على التقليد الذي ابتدعوه ولم يكن
(6/142)
 
 
قبلهم فاتبع ضعفاء أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة وأصحاب مالك مالكا ولم يلتفتوا إلى حديث يخالف قولهما ولا تفقهوا في القرآن والسنن ولا بالوا بهما إلا من عصمه الله عز وجل وثبته على ما كان عليه السلف الصالح في الأعصار الثلاثة المحمودة من اتباع السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه في القرآن وترك التقليد وأما أفاضل أصحاب أبي حنيفة ومالك فما قلدوهما فإن خلاف ابن وهب وأشهب وابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم لمالك أشهر من أن يتكلف إيراده وقد خالفه أيضا
ابن القاسم وكذلك خلاف أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد لأبي حنيفة أشهر من أن يتكلف إيراده وكذلك خلاف أبي ثور والمزني للشافعي رحمه الله وكذلك خالف أصبغ وسحنون ابن القاسم وخالف بن المواز أصبغ وكذلك خالف محمد بن علي بن يوسف المزني في كثير وكذلك خالف الطحاوي أيضا أبا حنيفة وأصحابه فإن كان النظر حقا فقد أخطؤوا في التقليد وإن كان التقليد
حقا فقد أخطؤوا النظر وترك التقليد فقد ثبت الخطأ عليهم على كل حال والخطأ واجب أن يجتنب قال أبو محمد وقد سألناهم فقلنا لهم أنتم مقرون معنا بأن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام ينزل إذا خرج الدجال اللعين فيدبر أهل الإسلام بملتهم لا بملة أخرى فقالوا لنا أبرأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أو بتقليد مالك وابن القاسم وسحنون يحكم بين المسلمين ويقضي في الدين ويفتي المستفتين ألا إن هذا هو الضلال المبين ولقد نكس الإسلام وذلت النبوة وهانت الرسالة وخزي الحق وأهله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه وكلمته يرجع تابعا لمثل هؤلاء الذين لا يقطع لهم بنجاة ولا يضمن ما هم عليه عند الله تعالى فلا والله بل ما يقضي ويحكم ويفتي إلا بما أتى به أخوه في الرسالة وصاحبه في النبوة وقسيمه في نزول الوحي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
(6/143)
 
 
وليبطلن الآراء الفاسدة فلا خوف من أحد فمن أضل طريقه ممن يدين بشيء هو موقن أنه لم يكن أول الإسلام ولا يكون عند نزول المسيح عليه السلام ومن يضلل الله فما له من هاد ابن فراس نا محمد بن علي بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم أنا ابن أبي ليلى عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل أن رجلا مات وترك ابنته وابنة ابنه وأخته لأبيه وأمه فأتوا أبا موسى الأشعري فسألوه عن ذلك فقال لابنته النصف والنصف الباقي للأخت فأتوا ابن مسعود فذكروا ذلك له فقال لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين إن أخذت بقول الأشعري وتركت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ابن مسعود يسمي القول من الصاحب إذا خالف النص ضلالا وخلافا للهدى وحدثنا أحمد بن عمر نا أبو ذر نا عبد الله بن أحمد نا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد نا أبو نعيم عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال سئل حذيفة عن قوله تعالى {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج لرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فلله أحق أن
تخشوه إن كنتم مؤمنين} قال لم يكونوا يعبدونهم ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه
 
قال أبو محمد هذه صفة المقلدين لأبي حنيفة ومالك والشافعي ولا يحرمون إلا ما جاء عن صاحبهم تحريمه ولا يحلون إلا ما جاءهم عن صاحبهم تحليله نبرأ
(6/144)
 
 
إلى الله تعالى من مثل هذا الاعتقاد ونعوذ به منه في أحد من ولد آدم حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الرحمن بن سلمة نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد أخبرني أسلم بن عبد العزيز القاضي وسعيد بن عثمان العناني قالا نا يونس بن عبد الأعلى نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي يوسف بن عبد الله النمري أنا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا دحيم نا ابن وهب نا ابن لهيعة عن بكير بن الأشج أن رجلا قال للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عجبا لعائشة كانت تصلي في السفر أربعا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين فقال يا ابن أخي عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدتها فإن من الناس من لا يعاب كتب إلي النمري ثنا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال عمر بن الخطاب إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء قال سالم قالت عائشة أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت قال سالم فسنة رسول الله أحق أن تتبع
(6/145)
 
 
قال أبو محمد فنحن نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودية عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين رجلا واحدا قلد عالما كان قبله فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء فإن وجدوه ولن يجدوه والله أبدا لأنه لم يكن قط فيهم فلهم متعلق على سبيل المسامحة ولم يجدوه فليوقنوا أنهم قد
أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد وليعلموا أن عصابة من أهل العصر الرابع ابتدعوا في الإسلام هذه البدعة الشنعاء إلا من عصم الله تعالى منهم والبدع محرمة وشر الأمور محدثاتها وليعلموا أن طلاب
 
سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت والعاملين بها والمتفقهين في القرآن الذين لا يقلدون أحدا هم على منهاج الصحابة والتابعين والأعصار المحمودة وأنهم أهل الحق في كل عصر والأكثرون عند الله تعالى بلا شك وإن قل عددهم وبالله تعالى التوفيق وليعلم من قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة نعني التقليد إنما حدثت في الناس وابتدىء بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن قط في الأسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعدا على هذه البدعة ولا وجد فيهم رجل يقلد عالما بعينه فيتبع أقواله في الفتيا فيأخذ بها ولا يخالف شيئا منها ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم ثم لم تزل تزيد حتى عمت بعد المائتين من الهجرة عموما طبق الأرض إلا من عصم الله عز وجل وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه وألا يعدل بنا عنه وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح
(6/146)
 
 
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال نا محمد بن إسحاق بن السليم قال نا ابن الأعرابي عن أبي داود نا أبو بكر بن شيبة نا وكيع عن الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي قلابة قال قال أبو مسعود وهو البدري لأبي عبد الله وهو حذيفة أو قال أبو عبد الله وهو حذيفة لأبي مسعود البدري ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس مطية الرجل وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حديث عذاب القبر على أن المنافق أو المرتاب يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فهذا التقليد مذموم في التوحيد فكيف ما دونه وقال ابن مسعود لا تكن إمعة فسئل ما هو فقال الذي يقول أنا مع الناس حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا بشار بندار نا ابن أبي عدي أنبأنا شعبة عن
الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال لا يكونن أحدكم إمعة يقول إنما أنا مع الناس ليوطن أحدكم نفسه إن كفر الناس ألا يكفر وبه إلى بندار نا محمد بن جعفر نا شعبة قال سمعت أبا إسحاق يقول سمعت هبيرة وأبا الأحوص عن ابن مسعود قال إذا وقع الناس في الشر قل لا أسوة لي في الشر وبه إلى بندار قال ثنا سعيد بن عامر نا شعبة عن الحكم قال ليس
(6/147)
 
 
أحد من الناس إلا وأنت آخذ من قوله أو تارك إلا النبي صلى الله عليه وسلم وبه إلى بندار نا أبو داود نا شعبة عن منصور عن سعيد بن جبير أنه قال في الوهم يعيد قال فذكرت ذلك لإبراهيم فقال ما تصنع بحديث سعيد بن جبير مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا محمد بن سعيد عن القلعي عن الصواف عن بشر بن موسى عن الحميدي قال قال سفيان ما زال أمر الناس معتدلا حتى غير أبو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة وربيعة بالمدينة قال أبو محمد وصدق سفيان فإن هؤلاء أول من تكلم بالآراء ورد الأحاديث فسارع الناس في ذلك واستحلوه والناس سراع إلى قبول الباطل والحق مر ثقيل وقد أوردنا قبل هذا المكان بأوراق يسيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قال له عدي بن حاتم وكان قبل ذلك نصرانيا يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال له صلى الله عليه وسلم كلاما معناه إنهم كانوا يحرمون ما حرموا عليهم ويحلون ما أحلوا لهم وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه هي العبادة قال أبو محمد ولا جرم فقد حرم مقلدو مالك شحوم البقر والغنم إذا ذبحها يهودي وحرموا الجمل والأرنب إذا ذكاهما يهودي تقليدا لخطأ مالك في ذلك وردوا قول الله تعالى في ذلك بعينه {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ
آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} وأحل أصحاب أبي حنيفة ثمن الكلب الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6/148)
 
 
وحرم من اتبعه منهم المساقاة التي أحلها الله تعالى تقليدا لخطأ أبي حنيفة في ذلك وردوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره في ثمن الكلب أنه سحت وتحريمه إياه وهذا نص ما حرم الله
تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من فعل اليهود والنصارى وقد أنذر صلى الله عليه وسلم بذلك وقال لتركبن سنن من كان قبلكم فقيل له يا رسول الله اليهود والنصارى فقال صلى الله عليه وسلم كلاما معناه نعم حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا ابن دحيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا حجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة نا عطاء بن السائب عن أبي البختري أن سلمان قال لزيد بن صوحان وأبي قرة كيف أنتما عند زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق ودنيا مطغية تقطع الأعناق ثم قال أما زلة العالم فإن اهتدى فلا تحملوه دينكم وإن زل فلا تقطعوا منه أناتكم وأما جدال المنافق بالقرآن والقرآن حق فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما أضاء لكم فاتبعوه وما شبه عليكم فكلوه إلى الله عز وجل وذكر باقي الحديث قال أبو محمد فهذا سلمان ينهى أن يقلد العلماء ويأمر باتباع ظاهر القرآن الذي هو كمنار الطريق وينهى عن التأويلات والمتشابه منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين حدثنا يوسف بن عبد الله النمري أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن هو ابن الزيات نا محمد بن أحمد القاضي المالكي البصري نا موسى بن إسحاق نا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال نا معن بن عيسى القزاز قال سمعت مالك بن أنس يقول إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي فكل
(6/149)
 
 
ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه فهذا مالك ينهى عن تقليده وكذلك أبو حنيفة وكذلك الشافعي فلاح الحق لمن لم يغش نفسه ولم تسبق إليه الضلالة نعوذ بالله منها
فصل في سؤال الرواة عن أقوال العلماء قال أبو محمد فإن قال قائل فكيف يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته أو نزلت به نازلة فأعيته قيل له وبالله تعالى التوفيق يلزمه أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء في تلك المسألة النازلة ثم يعرض تلك الأقوال على كتاب الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره الله تعالى إذ يقول {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} وإذ يقول {وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} وقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ولم يقل تعالى فردوه إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليرد ما اختلف فيه من الدين إلى القرآن والسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليتق الله ولا يرد ذلك إلى رجل من المسلمين لم يؤمر بالرد عليه ومن أبى فسيرد ويعلم وقد قال الله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فلم يجعل البيان إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم فمن رد إلى سواه فقد عدم البيان وحصل على الضلالة ونعوذ بالله منها فالتقليد كله حرم في جميع الشرائع أولها عن آخرها من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام فإن قال قائل فما وجه قوله تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} قيل له وبالله تعالى التوفيق إنه تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة وما روي عن رسول الله صلى الله
(6/150)
 
 
عليه وسلم فيها ولم يأمرنا أن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله فليبلغ
الشاهد الغائب وبينه تعالى بقوله {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فالدين قد كمل فلا مدخل لأحد فيه بزيادة ولا نقص ولا تبديل وكل هذا كفر ممن أجازه وقد أمر تعالى المتفقهين أن ينفروا لطلب أحكام الدين ولم يأمرهم أن يقولوا من عند شيئا بل حرم تعالى ذلك بذمه قوما شرعوا لهم في الدين ما لم يأذن به الله وبقوله عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فإنما نحن دعاة إلى تفهم القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغون من ذلك إلى من تقدمناه في الطلب ما بلغه إلينا من تقدمنا ومعلمون إياه ومعاذ الله من التزيد في هذا أو من تبديله أو من النقص منه فإن قال قائل فكيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة ولم يخص الله تعالى بذلك عاميا من عالم ولا عالما من عامي وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده والعامي والعذراء المخدرة والراعي في شعف الجبال كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلم في كل ما خص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه لقوله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا
كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} ولقوله تعالى
(6/151)
 
 
{فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} والتقوى كله هو العمل في الدين بما أوجبه الله تعالى فيه ولم يكلفنا تعالى منه إلا ما نستطيع فقط ويسقط عنا ما لا نستطيع وهذا نص جلي على أنه لا يلزم أحدا من البحث على ما نزل به في الديانة إلا بقدر ما يستطيع فقط فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد ومقدار طاقته منه فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له هكذا أمر الله ورسوله فإن قال له نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا
البحث وإن قال له لا أو قال له هذا قولي أو قال له هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم أو انتهزه أو سكت عنه فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك وما يجب في دين الإسلام في تلك المسألة ولو علم أنه يفتيه بغير ذلك لتبرأ منه وهرب عنه وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أن يقول له نعم هكذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذبا على رسوله عليه السلام ومقولا له ما لم يقل وقد وجبت له النار يقينا بنص قوله صلى الله عليه وسلم من كذب علي فليلج النار وهذا الذي قلنا لا يعجز عنه واحد وإن بلغ الغاية في جهله لأنه لا يكون أحد من الناس مسلما حتى يعلم أن الله تعالى ربه وأن النبي عليه السلام وهو محمد بن عبد الله رسول الله بالدين القيم
(6/152)
 
 
فإن قال قائل فإن أفتاه الفقيه بفتيا منسوخة أو مخصوصة أو أخطأ فيها فنسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليست من قوله سهوا أو تعمد ذلك فما الذي يلزم العامي من ذلك وقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قلت لأبي رحمه الله الرجل تنزل به النازلة وليس يجد إلا قوما من أصحاب الحديث والرواية لا علم لهم بالفقه وقوما من أصحاب الرأي من يسأل فقال يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث خير من الرأي قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا ينقسم ستة
عشر قسما وهي من بلغه خبر منسوخ أو آية منسوخة ولم يعلم بنسخ ذلك فالعامي والعالم في ذلك سواء والواجب عليهما بلا شك العمل بذلك المنسوخ ولم يؤمرا قط بتركه إلا إذا بلغهما النسخ قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فأخبر تعالى
أنه لا تلزم النذارة إلا من بلغه الأمر فما دام النسخ لم يبلغه فلم يلزمه وإذا لم يلزمه فلم يؤمر به {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وليس في وسع أحد أن يعلم ما لم يعلم في حين جهله به ولا أن يعرف الشريعة قبل أن تبلغه وقد لزمه الأمر الأولى بيقين فلا يسقط عنه إلا ببلوغ الناسخ إليه بنص القرآن وهكذا كان الصحابة الذين بأرض الحبشة والصلاة قد فرضت بمكة إلى بيت المقدس وعرفوا ذلك فصلوا كذلك بلا شك ثم حولت القبلة إلى الكعبة بالمدينة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة ولا خلاف بين أحد أنهم لم يلزمهم التحول إلى الكعبة ولا سقط عنهم فرض الصلاة ولا كان لهم أن يصلوا إلى غير القبلة التي صح عندهم الأمر بها ما لم يبلغهم النسخ وقد سمى الله تعالى صلاة من مات قبل أن يبلغهم بالنسخ إيمانا فقال
(6/153)
 
 
تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم} وهكذا فعل أهل قباء صلوا نصف صلاتهم إلى بيت المقدس ولا شك أنهم لم يبتدئوها إلى بيت المقدس إلا والقبلة قد نسخت لكن لما لم يعلموا ذلك لم يلزمهم ما لم يعلموا ولا سقط عنهم ما كان لزمهم إلا بعد بلوغ النسخ إليهم وهكذا القول في كل ما صح نسخه ولم يصح عند بعض الناس وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليدا ففاسق وهذا في غاية البيان فيما قلنا والحمد لله رب العالمين وأما من بلغه الخبر المنسوخ أو الآية المنسوخة ولم يعرف أنهما منسوخان فأقدم على تركهما بغير علم الناسخ فهو عاص لله تعالى لأنه ترك
الفرض الواجب عليه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فهذا وجهان في النص المنسوخ الذي لم يبلغ المرء نسخه ثم وجهان آخران في عكس هذه المسألة وهما نص غير منسوخ من آية أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم ظنه عالم من العلماء منسوخا فترك العمل به وأفتى بذلك عاميا وأخبره أن الحديث أو الآية منسوخان فتركه العامي أو عملا به وهما يظنان ويقدران أنه منسوخ وهذا خلاف ما تقدم لأنهما ههنا تركا العمل بما أوجبه الله تعالى عليهما إلا أن من ترك ذلك مجتهدا يرى أن الذي فعل هو الحق ولم يتبين له غيره
بعد فهو مخطىء له أجر واحد ومن ترك ذلك مقلدا فهو عاص لله عز وجل آثم لا حظ له في الآخرة أصلا لأنه ترك الحق للباطل دون اجتهاد فهذه أربعة أوجه ثم وجهان آخران وهما من بلغه حديث صحيح فلم يصح عنده فعمل به أو تركه فأما الذي عمل بحديث صحيح وهو يعتقد فيه أنه غير صحيح فإنه مقدم على ما يرى أنه باطل فهو عاص لله تعالى بنيته في ذلك فإن تركه
(6/154)
 
 
وهو عنده غير صحيح ولم تقم الحجة عليه بصحته فهو محسن مأجور ولا شيء عليه لأنه لم يبلغه بعد ما يلزمه اتباعه وأما من صح عنده الخبر فتركه فإنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون مقدما مستجيزا لخلاف ما صح عنده من الله عز وجل ولا إثم عليه في نفس عمله بما وافق الحق فهذا قسم وقسم ثان وهو أن يستحل خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك لقول الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} ثم وجهان آخران وهما عكس اللذين قبلهما وهما من بلغه حديث غير صحيح فظنه صحيحا فعمل به فهذا مأجور على نيته واجتهاده أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما خالف فيه الحق لأنه لم يقصد والأعمال بالنيات فلو تركه عمدا لكان متسهلا لخلاف ما صح عنده عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عاص لله تعالى بهذه النية فقط آثما فيها فإن لم يكن مستسهلا لذلك لكن اتفق له ترك العمل بذلك فلا إثم عليه لأنه لم يترك حقا وهذا حكم من أفتاه فقيه بفتيا غير صحيحة فإنها لا تلزمه ولا هو مأمور بها ولو كان عاصيا بترك العمل بها لكان مأمورا بها وهي باطل فكان يكون مأمورا بالباطل وهذا خطأ متيقن لكنه إن تركها مستسهلا لترك العمل
بالواجب عليه فهو عاص بهذه النية فقط لا بتركه للعمل بغير الواجب وبالله تعالى التوفيق ومن أفتى آخر بفتيا صحيحة إلا أنه لم يأته عليها بدليل فإنه إن عمل بها مقلدا فهو آثم في تقليده مأجور إن شاء الله تعالى بعمله بها إن أراد الله تعالى ثم وجهان وهما من بلغه نص مخصوص فعمل به على عمومه ولم يبلغه
(6/155)
 
 
الخصوص وترك العمل بعمومه فوافق الحق وهو لا يعلمه أو بلغه نص عام فتأول فيه الخصوص فأما الذي عمل بالعموم في الخصوص ولم يبلغه الخصوص وهو يظنه عموما فمأجور أجرين لأن فرضه أن يعمل بما بلغه حتى يبلغه خلافه إذ وجوب الطاعة لله تعالى فرض عليه فلو تأول أنه مخصوص دون دليل يقوم له على ذلك لكن مطارفة فعمل بالخصوص فوافق الحق فإن كان مستسهلا لمخالفة ظاهر ما يأتيه عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم بلا دليل فهو فاسق عاص بهذه النية فقط غير عاص فيما فعل لأنه لم يخطىء في ذلك فإن فعل ذلك باتفاق دون قصد إلى خلاف ما بلغه من الظواهر عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه البتة والقياس وقول من دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير نص ولا إجماع والرأي كل ذلك خطأ ولم يكن قط حقا البتة ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده رجلان هما عنده عدلان فوافق أن شهدا بباطل إما عمدا وإما غلطا فإنه حق مأمور بالحكم بشهادتهما لأنه قد ورد النص بقبول شهادة العدول عندنا ولم نكلف علم غيبهما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بظاهر الشهادة أو اليمين ولعل الباطن خلاف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالحق الذي لا يحل خلافه ففرض على الحاكم أن يحكم بشهادة العدول عنده وإن كانوا كاذبين أو مغفلين وهو في ذلك مأجور أجرين ولا إثم عليه فيما خفي عنه فإن لم يحكم بتلك الشهادة فهو عاص لله عز وجل فاسق بتلك النية وبعمله معا والإثم
عليه في تركه الحكم بها ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده عدلان بحق فلم يعرفهما فهو غير مأمور
 
بالحكم بشهادتهما ولا يحل له أن يحكم بها أصلا وهما عنده مجهولان ولا إثم عليه فيما خفي عنه من ذلك فلو حكم بها فهو آثم عاص
(6/156)
 
 
بهذه النية وبعمله فاسق بها والإثم عليه في نفس حكمه وإن كان بما وافق الحق وعمدة القول في هذا الباب كله أن الإثم ساقط عن المرء فيما لم يبلغه والإثم لازم له فيما بلغه فخالفه عمدا أو تقليدا وأنه لا يجب على المرء إلا ما جاء به النص أو الإجماع حقا لا ما أفتاه به المفتون مما لم يأت به نص ولا إجماع وأخبر بأنه نص أو إجماع وأنه مأجور على نيته ومثاب عليها فإن كانت خيرا فخير وإن كانت شرا فشر وإن المرء لا يأثم بعمل ما أمر به وإن لم يعلم أنه مأمور به ولا يأثم بترك ما لم يؤمر به وإن لم يعلم أنه ليس مأمورا به وإن ظن أنه مأمور به لأن النية غير العمل إلا أن يبلغه نص فيخالفه وإن كان مخصوصا أو منسوخا بعد أن يبلغه الناسخ أو المخصص ومن هذا الباب من لقي امرأة فراودها عن نفسها فأجابته فوطئها وهو يظنها أجنبية فإذا بها امرأته ولم يكن عرفها بعد ولا كان دخل بها أو لقي إنسانا فقتله وهو يظنه مسلما حرام الدم فإذا به قاتل أبيه عمدا أو كافر حربي أو انتزاع مالا من مسلم كرها فإذا به ماله نفسه فكل هذا إن كان مستسهلا للزنى أو لغصب المال وقتل النفس فهو آثم بتلك النية فاسق بها عاص لله عز وجل ولا إثم عليه في وطئه ولا أخذه ماله ولا قتله الحربي ولا قاتل أبيه لأنه لم يواقع في ذلك إلا مباحا له وقد يظن ظان أن المستسهل للإثم وإن لم يواقعه لا يكتب عليه إثم ذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة قال أبو محمد وهذا الحديث بين أن الذي لا يكتب عليه إثم فهي السيئة
(6/157)
 
 
التي لم يعملها وهذا ما لا شك فيه ولم يقل صلى الله عليه وسلم إن إثم الهم
بالسيئة لا يكتب عليه والهم بالشيء غير العمل به قال ضابىء بن الحارث البرجمي هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله ثم استدركنا هذا وتأملنا النصوص فوجدناها مسقطة حكم الهم جملة وأنه هو اللمم المغفور جملته
 
فإن قال قائل فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة قيل له قد صح ذلك وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى فمن هم بسيئة ثم تركها قاصدا بتركها إلى الله تعالى كتبت له حسنة بهذه النية الجميلة فإن تركها لا لذلك لكن ناسيا أو مغلوبا أو بدا له فقط فإنها غير مكتوبة عليه لأنه لم يعملها ولا أجر له في تركها لأنه لم يقصد بذلك الله تعالى ولا يكون من هم بالسيئة مصرا إلا من تقدم منه مثل ذلك الفعل قال الله تعالى {ولذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا لله فستغفروا لذنوبهم ومن يغفر لذنوب إلا لله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} فصح أن لا إضرار إلا على من قد عمل بالشيء الذي هو مصر عليه وهو عالم بأنه حرام عليه وأما من هم بقبيح ولم يفعله قط فهو هام به لا مصر عليه بالنصوص التي ذكرنا فإن قال قائل ما تقولون في حربي كافر لقي مسلما فدعاه المسلم إلى الإسلام فأسلم ثم علمه الشرائع وقال له هذه شرائع الإسلام أيلزمه العمل بما أخبره من ذلك أم لا قيل له وبالله تعالى التوفيق الكلام في هذا كالكلام فيما تقدم وهو أن ما كان مما أمره به موافقا للنص أو الإجماع فهو واجب عليه قبوله ومأجور فيه إن عمله أجران وعاص فيه إن لم
(6/158)
 
 
يفعله وما كان من ذلك بخلاف النص فهو غير واجب عليه ولا يأثم في ترك العمل به إلا إن استسهل خلاف ما ورد عليه من النص فهو آثم في هذه النية فقط فلو عمل بذلك أجر أجرا واحدا بقصده إلى الخير فقط ولم يؤجر على ذلك العمل ولا إثم فيه لأنه ليس حقا فيؤجر عليه ولم يقصد عمل الخطأ وهو يعلمه فيأثم عليه وهذا حكم العامي في كل ما
أفتاه فيه فقيه من الفقهاء وهذا حكم العالم فيما اعتقده وأفتى به باجتهاد لا يوقن فيه أنه مصيب للحق عند الله عز وجل فهي أربع مراتب هو إنسان عمل بالحق وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه باطل فله إثمان إثم النية وإثم العمل
وقال تعالى {ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} فالنية عمل النفس المجرد والعمل على الجوارح بتحريك النفس لها فهما عملان متغايران وثالث عمل بالحق وهو يظنه باطلا أو ترك الباطل وهو يظن أن ذلك الباطل الذي ترك حق فلا إثم عليه فيما عمل ولا فيما ترك لأنه لم يعمل محرما عليه ولا ترك واجبا عليه ولا يؤجر أيضا في شيء من ذلك لأنه لم يقصد بنيته في ذلك وجه الله تعالى فإن نوى في ذلك استسهال مخالفة الحق فهو آثم بهذه النية فقط لا بما فعل ولا بما ترك ورابع عمل بالباطل وهو يظنه حقا أو ترك الحق وهو يظنه باطلا فهذا مأجور في نيته للخير أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما فعل ولا فيما ترك ولا أجر أيضا لأنه لم يعمل صوابا فيؤجر ولا قصد الباطل وهو يعلمه باطلا فيأثم فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة واليقين فيها والحق عند الله بلا شك وما عدا هذا فحيرة ودعوى بلا دليل فإن سأل العامي فقيهين فصاعدا فاختلفوا عليه فقد قال قوم يأخذ بالأخف وقال قوم يأخذ بالأثقل وقال قوم لا يلزمه منها وقال قوم هو مخير يأخذ ما يشاء من ذلك
(6/159)
 
 
قال أبو محمد أما من قال هو مخير فقد أمره باتباع الهوى وذلك حرام وأخطأ بلا شك وجعل الدين مردودا إلى اختيار الناس يعمل بما شاء وأجاز فيه الاختلاف والله تعالى يقول {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} وقال تعالى {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} فالاختلاف ليس من أمر الله تعالى الذي أباحه وأمر به وقد علمنا أن حكم الله تعالى في الدين حكم واحد وأن سائر ذلك خطأ وباطل فقد خيره هذا القائل في أخذ الحق أو تركه وأباح له خلاف حكم الله تعالى وهذا الباطل المتيقن بلا شك فسقط هذا القول
بالبرهان الضروري
 
وأما من قال يأخذ بالأثقل فلا دليل على صحة قوله أيضا وكذلك قول من قال يأخذ بالأخف وكل قول بلا دليل فهي دعوى ساقطة فإن احتج بقول الله عز وجل {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر وبقوله تعالى {وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير} قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إنه إن أفتاه فقيهان فصاعدا بأمور مختلفة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو غير فاسق بتركه قبول شيء منها لأنه إنما يلزمه ما ألزمه النص في تلك المسألة وهو لم يدره بعده فهو غير آثم بتركه ما وجب مما لم يعلمه لكنه يتركهم ويسأل غيرهم ويطلب الحق مثال ذلك رجل سأل كيف أحج فقال له فقيه أفرد فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها وقال له آخرون اقرن فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم تكن له بعد الهجرة غيرها وقال له آخرون تمتع فهكذا فعل رسول الله
(6/160)
 
 
صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها ففرض عليه أن يتركهم ويستأنف سؤال غيرهم ثم يلزمه ما قلنا آنفا قبل هذا من موافقته للحق أو حرمانه إياه بعد اجتهاده ويكون العامي حينئذ بمنزلة عالم لم يبين له وجه الحكم في مسألة ما إما بتعارض أحاديث أو آي أو أحاديث وآي فحكمه التوقف والتزيد من الطلب والبحث حتى يلوح له الحق أو يموت وهو باحث عن الحق عالي الدرجة في
الآخرة في كلا الأمرين ولا يؤاخذه الله تعالى بتركه أمرا لم يلح له الحق فيه لما قدمنا قبل من أن الشريعة لا تلزم إلا من بلغته وصحت عنده والأصل إباحة كل شيء بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وبقوله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته
والأصل ألا يلزم أحدا شيء إلا بعد ورود النص وبيانه وبقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم} وبقوله عليه السلام لو قلتها لوجبت فاتركوني ما تركتكم وبقوله صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان خشيت أن يفرض عليكم فمن علم أن عليه الحج ولم يدر كيف يقيمه فلا يؤاخذ من تركه ما وجب عليه من عمل الحج إلا بما علم لا بما لا يعلم ولكن عليه التزيد في البحث حتى يدري كيف يعمل ثم حينئذ يلزمه الذي علم ولا يؤاخذ الله تعالى أحدا بشيء لم تقم عليه الحجة ولا صح عنده وجهه لأنه لم يبلغه ذلك الحكم قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} وأما من قال إن الفرض على العامي أن يقبل ما أفتاه به الفقيه ولم يفسر كما فسرنا فقد أخطأ
(6/161)
 
 
ونحن نسأل قائل هذا القول فنقول له إن كنت شافعيا فماذا تقول في عامي سأل مالكيا أو حنفيا عن رجل أعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها فأفتاه بأنها ليست له بزوجة وأن نكاحه فاسد أتجيز له أن يعتر بغير طلاق فيزوجها من غيره فيبيح له فرجا حرمه الله عليه أو تراه عاصيا إن قام معها وإن كان مالكيا قلنا له ما تقول في عامي سأل شافعيا أو حنبليا عن نكاح امرأة أمه أرضعته رضعتين فأفتاه بنكاحها أتبيح له ذلك وتقول إنه لازم الأخذ بقوله أو سأل حنفيا عن المساقاة أتجوز فحرمها عليه أيكون الأخذ بتحريم المساقاة واجبا عليه فإن قال نعم قيل له من أوجب عليه تحريم ذلك إذ يقول إنه واجب عليه أن يأخذ بقول الفقيه الذي يفتيه أنت أم الله عز وجل فإن قال الله عز وجل كذب على الله تعالى وأقر مع ذلك أن الله تعالى أوجب عليه خلاف مذهبه وإن قال أنا أوجبت ذلك ترك مذهبه وزادنا أنه يحرم ويحلل وهذا خروج
عن الإسلام
 
وكذلك يسأل الحنفي عن عامي استفتى مالكيا عن كلام الإمام في الصلاة بما فيه إصلاحها فأفتاه بجواز ذلك أيلزمه الأخذ بقوله فيصير له الكلام في الصلاة مباحا ثم يلزمه كل ما ذكرنا آنفا وهكذا نسأل كل معتقد لمسألة يستعظم مخالفة من خالفه فيها من عامي سأل فقيها فأفتاه بما يستعظمه هذا الذي نسأله نحن أفرض الله تعالى عليه قبول ذلك المعنى أم لا فإن قال لا ترك قوله الفاسد إن العامي قد فرض الله تعالى عليه قبول ما أفتاه الفقيه المسؤول وإن لج وقال نعم
(6/162)
 
 
صار حاكما بتحريم شيء وتحليله في وقت واحد وجعل حكم الله تعالى مردودا إلى حكم ذلك المفتي وجعل حكم ذلك المفتي مبطلا لحكم الله تعالى ولحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل دين الله تعالى موكولا إلى آراء الرجال ومتبدلا بتبدل الفتاوى فمرة ساقطا ومرة لازما وفي هذا مفارقة الإسلام ومكابرة العقل وإبطال الحقائق وبالله تعالى التوفيق والناس فيما يعتقدونه ولا يخلون من أحد أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يكون المرء طلب الصواب فأداه اجتهاده إلى الصواب حقا فاعتقده على بصيرة وإما أن يكون طلب الصواب فحرم إدراكه لبعض العوارض التي سبقت له في علم الله تعالى وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الصواب وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الخطأ فأما الوجهان الأولان فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من اجتهد فأصاب فله أجران وأن من اجتهد فأخطأ فله أجر وقوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم عموم لكل مجتهد لأن كل من اعتقد في مسألة ما حكما ما فهو حاكم فيها لما يعتقد هذا هو اسمه نصا لا تأويلا لأن الطلب غير الإصابة وقد يطلب من لا يصيب على ما قدمنا ويصيب من لا يطلب فإذا طلب أجر فإذا أصاب فقد فعل فعلا ثانيا يؤجر عليه أجرا ثانيا أيضا فإن أشكل عليه بعد طلبه فلم يأت محرما عليه ولا اعتمد معصية فلا إثم عليه ولم يفعل ما أمر به من الإصابة فلا أجر له فيما لم يفعل وله بالطلب أجر
واحد ولكن الطلب يختلف فمنه طلب أمر به وطلب لم يؤمر به فالطلب الذي أمر به هو الطلب في القرآن والسنن ودليلهما فمن طلب في هذه المعادن الثلاثة فقد طلب كما أمر فله أجر الطلب لأنه مؤد لما أمر به منه على ما ذكرنا
 
والطلب الذي لم يؤمر به هو الطلب في القياس وفي دليل الخطاب
(6/163)
 
 
وفي الاستحسان وفي قول من دون النبي صلى الله عليه وسلم فلم يطلب كما أمر فلا أجر له على طلب ذلك لكن لما كانت نيته بذلك القصد إلى الله عز وجل وطلب الحق وابتغاءه كان غير قاصد إلى الخطأ وهو يدري أنه خطأ فله من ذلك نية من هم بخير وهم بحسنة وهي الطلب الذي لم يفعله وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من هم بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة والحسنة بلا شك أجر فالأجر هنا يتفاضل فمن هم بالطلب ثم طلب كما أمر فله عشر حسنات لأنه هم بحسنة فعملها ومن هم بالطلب كما أمر فله حسنة واحدة لأنه لم يعملها كما أمر حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا أبو كريب ثنا أبو خالد الأحمر عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت وبه إلى مسلم حدثنا شيبان بن فروخ ثنا عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري عن الجعد أبي عثمان ثنا أبو رجاء العطاري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة
(6/164)
 
 
ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة قال أبو محمد وأما القسم الثالث وهو المقلد المصيب
فهو في تقليده عاص لله عز وجل لأنه فعل أمرا قد نهاه الله عنه وحرمه عليه فهو آثم بذلك ويبعد عنه أجر المعتقد للحق لأنه لم يصبه من الوجه الذي أمره الله تعالى به وكل من عمل عملا بخلاف أمر الله تعالى فهو باطل ولا شك أن المجتهد المخطىء أعظم أجرا من المقلد المصيب وأفضل لأن المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته والمجتهد المخطىء مأجور باجتهاده غير آثم لخطئه فأجر متيقن وأجر مضمون أفضل من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك
فإن قال قائل فردوا شهادة كل مسلم لم يعرف الإسلام من طريق الاستبدال لأنه مقلد والمقلد عاص قيل له ليس من اتبع من أمره الله تعالى باتباعه مقلدا بل هو مطيع فاعل ما أمر به محسن وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فهذا عاص لله تعالى ثم لو علمنا أن هذا المسلم إنما اعتقد من الإسلام تقليدا لأبيه وجاره ولمن نشأ معه ولو أنه نشأ من غير المسلمين لم يكن مسلما لما جاز قبول شهادته وهذا لا يبعد من الكفر بل إن عقد نيته على هذا فهو كافر بلا شك وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم إذ وصف فتنة الناس في قبورهم فقال صلى الله عليه وسلم وأما المنافق أو المرتاب لا ندري أسمى أي ذلك قال فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وهذا نص ما قلنا والمسلمون بحمد الله في أغلب أمورهم مبعدون عن هذا بل تجد منهم الأكثر من عقد قلبه على أنه لو كفر أبوه وأهل مصره ما كفر هو ولو أحرق بالنار فهذا ليس مقلدا والحمد لله رب العالمين
(6/165)
 
 
وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة فعند فهو فاسق مردود الشهادة ولو لم يفهمها فهو معذور ولا يضر ذلك شهادته قال الله تعالى {يجادلونك في لحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى لموت وهم ينظرون} فذم عز وجل من عند بعد أن تبين له الحق وعذر النبي صلى الله عليه وسلم عمر إذ لم يفهم آية الكلالة فهذا فرق ما بين الأمرين وبالله تعالى التوفيق وأما القسم الرابع وهو المقلد المخطىء فله إثم معصية التقليد وإثم المعصية باعتقاده الخطأ فعليه إثمان وقد يخرج على القسم الثالث الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليصلي الصلاة وما له منها إلا نصفها ثلثها ربعها فيكون ذلك على قدر ما وافق فيه الحق من أحكام صلاته وقد بينا فيما خلا كيفية اجتهاد طالب الفقه وما يلزمه من معرفة الرواة والثقات والمجرحين والمسند المرسل وبناء النصوص بعضها على بعض من الآي والأحاديث والاستثناء والإضافة وزيادات
العدول والناسخ والمنسوخ والمحكم والعام والخاص والمجمل والمفسر والإجماع والاختلاف وكيفية الرد إلى القرآن والسنة وفهم البراهين والشغب على
 
حسب ما تنتهي إليه طاقته وبينا في هذا الباب وجه اجتهاد العامي وأما من أباح للعامي أن يقلد فقد أخطأ بالبراهين التي قدمنا من نهي الله تعالى عن التقليد جملة ومع خطئه فقد تناقض لأن القائل بما ذكرنا قد أوجب على العامي البحث عن أفقه أهل بلده وهذا النوع من أنواع الاجتهاد فقد فارق التقليد وتركه ولم يقل أحد أن العامي يقلد كل من خرج إلى يده فقد صح معنى ترك التقليد من العامي وغيره بإجماع لما ذكرنا آنفا
(6/166)
 
 
وإن أجاز لفظه مجيزون ناقضون في إجازتهم إياه وكل من أقر بلفظ وأنكر معناه فقد أقر بفساد مذهبه وأيضا فإنه إن بحث عن أفقه أهل بلده لم يكد يجد اتفاقا على ذلك بل في الأغلب يدله قوم على رجل ويدله آخرون على آخر وأيضا فقد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه ومن لا يعلم عنده ومن غيره أعلم منه وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مس