الأشباه والنظائر للسبكي

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الأشباه والنظائر
المؤلف: تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (المتوفى: 771هـ)
عدد الأجزاء: 2    
 
مقدمة
...
وضح فإنه لا ينفع: تكلم بحق لا نفاذ له وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع الشريف في حيفك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا لا يمنعك قضاء قضية بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك ما لم يبلغك في الكتاب أو السنة "اعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عند ذلك"، "فاعمد إلى أحبها عند الله وأشبهها بالحق فيما ترى"، واجعل لمن ادعى بينة أمدا ينتهي إليه؛ فإن أحضر بينة أخذ بحقه وإلا وجهت القضاء عليه؛ فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجرَّب في شهادة زور أو ضنين في ولاء أو قرابة. إن الله تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات، وإياك والفلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن بها الذخر؛ فإنه من يصلح نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك يشنه الله فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته.
والسلام عليك.
وقد قال السيوطي في أشباهه ونظائره: "إن فن الأشباه والنظائر فن عظيم به يطلع على حقائق الفقه ومداركه ومآخذه وأسراره ويتمهد في فهمه واستحضاره ويقتدر على الإلحاق والتخريج ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة والحوادث والوقائع التي لا تنقص على ممر الزمان ولهذا قال بعض أصحابنا: "الفقه معرفة النظائر".
وهذا ما نبه عليه الشيخ السبكي رحمه الله في مواضع عديدة من كتابه فدونك أيها القارئ بيان منهجه في أشباهه ونظائره.
ولقد شرع المؤلف في كتابه بخطبة للكتاب بيَّن فيها أهمية الفقه وأنواعه وأهمية القواعد الفقهية، وأثنى على كتاب القواعد لابن عبد السلام وكتاب الأشباه والنظائر لابن المرحل وأنه كان الدافع للمؤلف في تأليفه كتابه فأخذ في تحريره وإتمامه بإشارة والده له ولقد أضاف إليه الكثير قسم الناس تجاه كتابه إلى ثلاث فرق أثنى على الفرقة الثالثة وهي التي تقرأ وتستفيد وتعترف بالفضل فهذه الطريقة هي التي مدحها في كتابه بقوله:
(1/2)
 
 
"وهذه طريقة قلَّ سالكوها وبعد أن يوجد في حياة المصنف أهلوها، فعليهم سلام الله أحسن الناس وجوها ... ". ثم تكلم بعد ذلك عن تمهيد عاب فيه على من يقتصر على حفظ الفروع دون القواعد، وبين رأي إمام الحرمين في أهمية القواعد وبين الفرق بين القاعدة وبين المدرك، والضابط وأوضح رأي القاضي حسين في أهم القواعد التي ترجع إليها الفقه فبين هذا الأمر غاية البيان وأوضح كذلك رأي العز بن عبد السلام في إرجاع الفقه كله إلى قاعدة المصلحة المشهورة.
ثم شرع المؤلف رحمه الله إلى تقسيم كتابه إلى أبواب:
الباب الأول: في القواعد الخمسة المشهورة التي هي أساس لغيرها.
الباب الثاني: في القواعد العامة التي تأتي في درجة بعد القواعد الخمسة وقد تكلم الشيخ في هذا الباب عن سبع وعشرين قاعدة كلية.
الباب الثالث: القواعد الخاصة لكل باب من أبواب الفقه. تكلم الشيخ في هذا الباب عن خمس وثمانين ومائة قاعدة، وقسمها إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: في قواعد ربع العبادات.
القسم الثاني: في قواعد ربع البيع.
القسم الثالث: في قواعد ربع الإقرار.
القسم الرابع: في قواعد ربع المناكحات.
الباب الرابع: "في أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية".
وفي هذا الباب تحدث الشيخ عن السعادة والشقاوة وعن حقيقة العلم وعن الفرق بين الاسم والمسمى وعن حقيقة الكلام والفرق بين الملجأ والمضطر وشروط الإكراه الذي به ترتفع الأحكام وعن الخلاف في حقيقة العقد وتكلم في ذلك عن الحسن والقبح وكونهما شرعيين لا عقليين وبين الخلاف في ذلك وتحدث عن حقيقة الحياة وعن العلاقة بين الممكن والمؤثر وتكلم عن السبب والعلة وبين الفرق بيهما وبين الحكم فيما إذا دخل الشرط على السبب كما تكلم عن منع اجتماع علتين على معلول واحد ثم تكلم عن أحكام يضطر الفقيه إلى الحكم بتقدمها على أسبابها وغير ذلك من المسائل المهمات.
الباب الخامس: "في مسائل أصولية يتخرج عليها فروع فقهية تكلم الشيخ في
(1/3)
 
 
ذلك الباب عن معنى التكليف وعن أنواع الأحكام وعن المعنى المقصود بصحة العقود وعن مدلول اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وسائر الأسماء المشتقة وعن منع اشتقاق اسم الفاعل من شيء يكون الفعل قائما بغيره وتكلم عن العلاقة بين الفرض والواجب وعن حكم أخذ الأجرة على فرض العين وعن حكم ما لا يتم الواجب إلا به، وتكلم عن فرض الكفاية وعن معنى السنة والنافلة والتطوع والمستحب والمندوب والمرغّب فيه والمرشد إليه والحسن والأدب وتكلم عن أمور يتعلق التحريم فيها بمبهم وبين حقيقة الرخصة وغير ذلك من المسائل الأصولية المهمة ثم انتقل الشيخ إلى:
كتاب العموم والخصوص: تكلم فيه الشيخ عن صيغ العموم وتكلم كذلك عن قواعد مهمة لا يستغني عنها الفقيه ...
وكتاب الإجماع: تكلم فيه عن حكم الأجماع السكوتي وعما يتعلق بقول الصحابة رضي الله عنهم: "فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا" ... وكتاب القياس: تكلم فيه الشيخ عن قياس العكس ومسألة هل تثبت اللغة قياسًا وغير ذلك مما يتعلق بمسائل القياس.
وكتاب الاستدلال: تكلم فيه عن قول الصحابي وحكم حجته وغير ذلك.
وكتاب الترجيح: تكلم فيه عن الحكم فيما إذا تعادلت الأمارات وكذا لو تعارض العام والخاص، وقول: التخصيص أولى من المجاز، والفرق بين ما ثبت بالنص وما ثبت بالأخبار.
وكتاب الاجتهاد: تكلم في عن عدم قابلية خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب السادس: "كلمات نحوية يترتب عليها فروع فقهية، وقسم هذا الباب إلى قسمين: الأول في المفردات من الأسماء والحروف وبعض الأفعال، والثاني: في المركبات والتصرفات العربية. وذكر قسما ثالثا في إعراب الآيات التي يترتب على تخريجها أحكام شرعية وهذا القسم الذي أشار إليه في مقدمة هذا الباب ثم نعثر عليه فيما بين أيدينا من مخطوطات.
الباب السابع: وهو الباب الذي تكلم فيه الشيخ عن المآخذ المختلف فيها بين الأئمة التي ينبني عليها فروع فقهية.
تحدث الشيخ تاج الدين في ذلك الباب عن سبب اختلاف الفقهاء وبين الخلاف
(1/4)
 
 
بين الشافعي. وأبي حنيفة في المعنى المغلب في الزكاة وتكلم عن الخلاف في علة ربوية الأشياء المنصوصة إلى غير ذلك مما يطالع به الكتاب.
وفي نهاية هذا الباب تكلم عن تقاسيم أدخلها بعض الفقهاء في القواعد وليست منها.
الباب الثامن: في الألغاز.
ثم ختم كتابه بأدعية مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبهذا نكون قد ألقينا الضوء على منهج المؤلف في كتابه الأشباه والنظائر الذي قال عنه ابن نجيم: "لم أر كتابا يحكي كتاب الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي رحمه الله تعالى".
(1/5)
 
 
ترجمة الإمام ابن السبكي:
اسمه ونسبه 1:
عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام العلامة قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي ونسبته إلى سبك "من أعمال المنوفية بمصر".
مولده: ولد في القاهرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وقيل: سنة ثمانٍ في السلطنة الثالثة للناصر محمد بن قلاوون.
نشأته وطلبه للعلم:
من المعلوم ضرورة أن البيئة من العوامل المؤثرة في تكوين الشخصية وهي تتدخل في توزيع الاتجاهات والاستعدادات والميول وهي التي تميز كل امرئ عن الآخر فإن لعواملها تأثيرًا "سيكولوجيا" كبيرًا عن انطباعات كل إنسان عن الكون والحياة.
وفي خصومة هذه العوامل تنبت براعم الاتجاهات الخاصة التي تشكل ملامح
__________
1 انظر ترجمته في البداية والنهاية 14/ 316. الدرر الكامنة 2/ 425. قضاة دمشق ص106. النجوم الزاهرة 11/ 108. البيت السبكي ص14-45. حسن المحاضرة 1/ 182. البدر الطالع 1/ 410. شذرات الذهب 6/ 221. طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 3/ 104. هداية العارفين 1/ 639 بروكلمان 2/ 89. معجم المؤلفين 6/ 225.
(1/6)
 
 
البارزة لوجهة الشخصية، ولقد منح الله العلي الغفار الإمام الحبر البحر عبد الوهاب السبكي بيئة ذات طابع متميز فساعدته على تنمية مواهبه وإشراقه بنوعه فهي بيئة علمية التقت به من جميع جوانبه فوالد تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى أبو الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي وكفى بذلك شاهدًا. فلقد رأى الشيخ عبد الوهاب وفود العلماء وهي تنسل إلى مجلس أبيه وينهلون من علمه ويقيدون فوائده فليس غريبا أن يبدأ مبكرا في حفظ كتاب الله والعكوف على طلب العلم؛ فقد نشأ في أسرة عريقة ويعتبر تاج الدين من أجلِّ وأعظم رجال الأسرة السبكية الذين ذاع صيتهم في دولتي المماليك؛ لامتيازهم في العلم وفي مناصب التدريس والقضاء فلم يعش تاج الدين إلا نحو أربعة وأربعين عاما لكن حياته على قصرها كانت ملأى بالإنتاج العلمي الذي جعله من الأئمة باعتراف معاصريه ومن جاءوا بعده.
وتدل آثاره وموافقه في المحن التي عاناها وآراء من كتبوا عنه على أنه كان -إلى جانب ما امتاز به من علم غزير وذكاء حادٍّ ولسان طلق وبديهة حاضرة وحجة قوية وصبر على العمل المنتج وسعة صدر وثبات في الملمات وترفعٍ واعتداد بالنفس ورقة إحساس وعطف على الإنسان والحيوان من أولئكم ذوي الشخصيات الضخمة والنفوس القوية والأخلاق المتينة؛ أولئكم الذين يسمون بأنفسهم فوق منافعهم الخاصة ويأبون وإن تهيأت لهم كل أسباب الراحة في الحياة، وأن يصبروا على فساد بيئة أو طغيان قوة أو موت حق وقيام باطل، فلم يكن من أولئكم الأنذال أشباه الذين يرحبون بالفساد يستغلونه لمآربهم ويسخرونه لمنافعهم. بل آثر أن يكون من رجال الإصلاح وإن أوذي واضطهد، فعزل غير مرة واعتقل بقلعة دمشق، لكن العالم الإسلامي وقد نسي مضطهديه واضطهاده لم ينس له في حياته ولن ينسى له بعد مماته فضله وآثاره1؛ فقد كان تاج الدين في طلبه للعلم شغوفا لم يألُ جهدا في تحصيله فحضر وسمع بمصر من جماعة ثم قدم دمشق مع والده في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسمع بها من جماعة واشتغل بالعلم على والده وغير ودرس بمصر والشام وبمدارس كبار العلماء منها العزيزية والعادلية الكبرى والغزالية والعزراوية والشاميين والناصرية والأمينية وغير ذلك من المدارس.
__________
1 البيت السبكي 13-14.
(1/7)
 
 
شيوخه:
1- علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى تقي الدين أبو الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي وهو والد الشيخ تاج الدين فقد طلب العلم على يديه- قال عنه ولده كما ولي التدريس في المدرسة الشامية البرانية "فما حل مغربها ولا اقتعد بمشرقها أعلم منه"، وقد كان والده رحمه الله حريصًا على تثقيفه على يد كبار العلماء ممن يثق في علمهم ويطمئن إلى وسائلهم في الدرس والتلقين.
2- يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك بن يوسف الإمام العلامة الحافظ الكبير شيخ المحدثين عمدة الحفاظ أعجوبة الزمان جمال الدين أبو الحجاج الدمشقي المزي.
قرأ الشيخ تاج الدين السبكي عليه وأخذ من علمه الكثير واستفاد منه.
3- محمد بن أحمد بن عثمان بن قائماز الإمام العلامة الحافظ المقرئ مؤرخ الإسلام أبو عبد الله الفارقي الدمشقي المعروف بالذهبي؛ فإن السبكي محدث العصر وخاتم الحفاظ القائم بأعباء هذه الصناعة وحامل راية أهل لسنة والجماعة إمام أهل عصره حفظًا وإتقانًا وفرد الدهر الذي يذعن له أهل عصره وقد لازمه شيخنا وأخذ عنه الكثير وتخرج به وغير ذلك من المشايخ الذين أخذ عنهم الشيخ الإمام.
4- عبد العزيز بن محمد بن جماعة بن صخر الكناني الشافعي، ولد في تاسع عشر المحرم سنة سبع وستين وستمائة وتوفي بمكة سنة أربع وتسعين وسبعمائة ودفن بالحجون1 وغير ذلك ممن نال الشيخ رحمه الله شرف الأخذ عنهم.
ثناء العلماء عليه:
لقد أثنى عليه جمع من العلماء منهم الذهبي وذكره في المعجم المختص وأثنى عليه، وقال ابن كثير: جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يَجْرِ على قاضٍ قبله، وحصل له من المناصب ما لم يحصل لأحد قبله، قال عنه الحافظ شهاب الدين بن حجي: حصل فنونًا من العلم ومن الفقه والأصول وكان ماهرًا فيه والحديث والأدب
__________
1 البدر الطالع 1/ 359.
(1/8)
 
 
وبرع وشارك في العربية وكانت له يد في النظم والنثر جيد البديهة ذا بلاغة وطلاقة لسان وجراءة جنان وذكاء مفرط وذهن وقاد.
قال ابن قاضي شهبة: وانتهت إليه رئاسة القضاء والمناصب بالشام وحصلت له محنة بسبب القضاء، وأوذي فصبر وسجن وعقد له مجالس فأبان عن شجاعته وأفحم خصومه مع تواطئهم عليه ثم عاد إليه مرتبته وعفا وصفح عمن قام عليه وكان سيدا جوادا كريما مهيبا تخضع له أرباب المناصب من القضاة وغيرهم.
وقال عنه الحافظ شهاب الدين بن حجي: "حصل فنونا من العلم".
تصانيفه:
1- شرح مختصر ابن الحاجب في مجلدين سماه "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب".
2- شرح المنهاج للبيضاوي في الأصول.
3- الأشباه والنظائر وهو الذي ما نحن بصدده.
4- طبقات الفقهاء الكبرى والوسطى والصغرى.
5- "الترشيح" في اختيارات والده، وفيه فوائد غريبة.
6- التوشيح على التنبيه.
7- التصحيح في الأصول.
8- المنهاج في الأصول.
9- جمع الجوامع: في أصول الفقه وشرحه.
10- منع الموانع: وهو شرح جمع الجوامع السابق الذكر.
11- "جلب حلب" وهو جواب أسئلة سأله عنها الأذرعي.
12- أحاديث رفع اليدين.
13- أوضح المسالك في المناسك.
14- ترجيح تصحيح الخلاف.
15- تبيين الأحكام في تحليل الحائض.
16- جزء في الطاعون.
17- الدلالة عن عموم الرسالة.
(1/9)
 
 
جوابًا عن أسئلة أهل طرابلس.
18- رفع الحوبة في وضع التوبة.
19- السيف المشهور في شرح عقيدة أبي منصور الماتريدي.
20- فتاوى.
21- مصنف في الألغاز.
22- معيد النعم ومبيد النقم.
23- مناقب الشيخ أبي بكر بن قوام.
وفاته:
توفي الشيخ رحمه الله شهيدًا إثر مرضه بالطاعون في ذي الحجة ليلة الثلاثاء سنة إحدى وسبعين وسبعمائة عن أربع وأربعين سنة.
نسبة الكتاب:
من الأمور اليقينية التي وقعت لنا في تحقيق هذا الكتاب نسبته إلى مؤلفه، فقد أجمع المؤرخون على نسبته إليه ولقد وجد اسم الكتاب منسوبًا إلى ابن السبكي رحمه الله على كلا النسختين اللتين اعتمدنا عليهما في ضبط الكتاب وكذلك لقد اقتبس كثير من العلماء من الكتاب وأحالوا عليه وأشادوا به مثل السيوطي في مواضع عديدة من أشباهه ونظائره، وابن نجيم وأحمد بن الصاحب شرف الدين محمد بن أحمد المصري. له مؤلف اختصر فيه الأشباه والنظائر للشيخ رحمهما الله مسمى نواضر النظائر.
وصف المخطوط:
لقد اعتمدنا في ضبط نص ذكر الكتاب على نسختين:
النسخة الأولى: وهي المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم "1476" بخط واضح جيد تقع في 240 لوحة مسطرتها 31 سطرا وقع في نهايتها قوله: "قال مؤلفه رحمه الله نجز الفراغ من هذا الكتاب نفع الله به في السابع من شهر ربيع الأول سنة ثمانٍ وستين وسبع مائة على يد مؤلفه عبد الوهاب ابن السبكي غفر الله له وكان نجازه بدار الخطابة بالجامع الأموي بدمشق والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا".
(1/11)
 
 
وجعلنا هذه النسخة أصلا ورمزنا لها بالرمز "أ".
النسخة الثانية: وهي المحفوظة بمكتبة البلدية بالإسكندرية. بخط واضح تقع في 225 لوحة مسطرتها 27 سطرًا وقع عليها بعض التملكات للفقير إلى الله الغني عبد الرحمن ابن الشيخ محمد الحكم غفر الله له ولوالديه.
وقع في آخرها قوله: "قال مؤلفه رحمه الله: نجز الفراغ من هذا الكتاب نفع الله به في السابع من شهر ربيع الأول سنة ثمانٍ وستين وسبعمائة على يد مؤلفه عبد الوهاب ابن السبكي غفر الله له وكان نجازه بدار الخطابة بالجامع الأموي الكبير بدمشق والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله على كل حال".
وهذه النسخة بها سقط في مواضع عديدة من الكتاب وزيادات في غير موضعها نبهنا على ذلك في تعليقنا إلا في مواضع قليلة أغفلناها؛ لعدم أهميتها.
ورمزنا لهذه النسخة بالرمز "ب".
هذا وقد أجهدنا ضبط ذلك النص جهدا كبيرا، فإن كان فيه من خير فلله الحمد والمنة، وإن كان غير ذلك فنسأل الله أن يجنبنا الخطأ والزلل.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/12)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف:
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الحمد لله الذي جلَّ عن الأشباه والنظائر ودلَّ على طرق الهدى بالأقوال الصحيحة والوجوه والنظائر وحل لنا بالنظر في آثار سلفنا عند المشكلات وفي الذهبين الأولين من القرون لنا بصائر.
أحمده على نعم لو رام اللسان حصرها لوقع في حصر وَعَيٍّ.
وأستغفره لذنوب ما عداني عددها في الخائفين إلا وحشرني في زمرة الراجين رحمته التي وسعت كل شيء، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه ولا يستهديه شيطانه، وأشهد أن سيدنا محمد المصطفى خير نبي أرسله وأفضل مخلوق منحه الفضل مجمله ومفصله، وأنقذنا به من الهلكة والبأس، وجعلنا به من خير أمة أخرجت للناس صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما ترددت الأنفاس.
أما بعد:
فإن العلوم وإن كانت تتعاظم شرفا وتطلع في سماء من كوكبها شرفا وينفق العالم من خزائنها، وكلما زاد ازداد رشدا وعدم سرفا، فلا مرية في أن الفقه واسطة عقدها ورابطة حلها وعقدها وخالصة الرابح من نقدها به يعرف الحلال والحرام ويدين الخواص والعوام ويتبين مصابيح الهدى من ظلام الضلال وضلال الظلام. قطب الشريعة وأساسها وقلب الحقيقة الذي إذا صلح صلحت ورأسها وأهله سراة الأرض [الذين] 1 لولاهم لفسدت بسيادة جهالها وضلت أناسها.
__________
1 في ب الذي.
(1/3)
 
 
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا
أي: ولولاهم لاتخذ الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا وخبطوا خبط عشواء فما حرموا ولا حللوا بل حلوا عرى الإيمان حيث حلوا، وشكت الأرض منهم وقع أقدام قوم استزلهم الشيطان فزلوا. فلله الفقهاء نجوم السماء، تشير إليهم بالأكف الأصابع، وشم الأنوف يخضع لديهم كل شامخ الأنف رافع، ونظام الوجود ويضوع بهم مسكا ظهر الأرض فما يظن نعمان، إن مشت به زينب في نسوة حاسرة البراقع وحلقوا على نور الإسلام كسوار المعصم قائلين لأهله والحق سامع.
أخذنا بآفاق السماء [عليكم] 1 ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
أي: وزينة الأرض التي بموطئ أقدامهم تقبل الشفاه حلالها وبإحاطة أحكامهم وإحكامهم يذكر حرامها وحلالها وترشف من زلالها ماء حلالها، فلا مزنة ودقت ودقها، ولا أرض [أبقل أبقالها] 2:
ولقد ساروا في مسالك الفقه غورًا ونجدًا، وداروا عليه هائمين به وجدا وصاروا حامليه ومؤديه حتى إلى غير فقيه فعم نفعًا وأفاد وأجدى.
فسار به من لا يسير مشمرا ... وغني به من لا يغني مغردا
وتفرقت بهم في جملة الأنحاء وتشعبت الطرق وتعددت الأهواء وتباينت الأخلاق والقدر المشترك بينهم سواء فمنهم -وكلهم أحب حب الخير- من سار على منهاجه أحسن سير وجرى في موافقه على منواله غير متعرض إلى غير، ومنهم من جعل دأبه رد الخصوم وخصم المخالفين فلا يفوته الطائف منهم في الأرض يحور ولو أنه الطائر في السماء يحوم، وإقامة الحجج والبراهين [فمنها] 3 معالم للهدى، مصابيح تجلو الدجى والأخريات رجوم.
ومنهم من قال: الكيس، الكيس، وأحب أن بطرف علومه بطرق المسائل ويوقظ من الأذهان ما هو في سنة الغفلة وما ليس.
__________
1 سقط في ب.
2 وفي ب: "أثقل أثقالها".
3 وفي ب: "منهما".
(1/4)
 
 
وإذا تكون كريهة يدعى لها ... وإذا يحاس الحيس
فعمد إلى مسائل1 ركبها، ومطارحات2 اطلع في سماء الفقه كوكبها، ومولدات افتض أبكارها، وأجرى في عسكر الجدال موكبها وسيد هذه الطائفة من أصحابنا أبو بكر بن الحداد3 صاحب الفروع الغرائب وصاحب ذيل الفضل على أهل المشارق والمغارب، والضارب مع الأقدمين بسهم والناس تضرب في حديد بارد، وابن الحداد يضرب في ذهب ذائب، "الفاعل الفعل لم يفعل لشدته، والقائل القول لم يترك ولم يقل"، تقدم هذه الفرقة تقدم النص على القياس وسبق وهي تناديه.: ما في وقوفك ساعة من باس وتصدر ولو عورض لقال لسان الحال للحق: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
وعمد منحطون عن هذه الرتبة إلى مسائل ألغاز، وطرحوا حقائقها على الطلبة ليختبروا ما عندهم من العلم، فلكل ذهن عليها نجاز وامتحنوهم بها، فمن حج أبان صفا قلبه ليستلم ركنه بأنه ليس بحجر أسود بل صبح أبيض لا حجاب دونه ولا حجاز.
وقال آخرون: المهم المقدم وخير ما سلك [الطريق] 4 الأقوم.
والذي أقول -والله أعلم- إن من أهم ما عني به الفقيه وجعله المدرس دأبه الذي يعيده ويبديه وشوقه الذي يلقنه ويلقيه القيام بالقواعد وتبيين مسالك الأنظار ومدارك المعاقد.
__________
1 جمع مسألة، والمسألة لغةً: السؤال، الصحاح 5/ 1723، لسان العرب 3/ 1906، واصطلاحًا: مطلوب خبري يبرهن عليه في العلم "الجمل على المنهج 1/ 26، قليوبي على المنهاج 1/ 16".
2 قال أبو عبد الله بن القطان في أول المطارحات: التحاسد على العلم داعية التعلم ومطارحة الأقران في المسائل ذريعة إلى الدراية والتناظر فيها ينفح الخواطر والأفهام والخجل الذي يحل بالمرء من غلطه تبعثه على الاعتناء بشأن العلم ليعلم ويتصفح الكتب، فيتسبب بذلك إلى بسط المعاني ويحفظ الكتب المنثور 3/ 398.
3 هو أبو محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الكناني المصري المعروف بابن الحداد كان إماما مدققا في العلوم. شيخ الشافعية في زمانه، ولد يوم موت المزني في رمضان سنة أربع وستين وكان كثير العبادة يصوم يوما ويفطر يوما، قال ابن زولاق: إنه صنف كتاب الباهر في الفقه في مائة جزء وكتاب الفروع المولدات، قال الشيخ أبو إسحاق: مات سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
وفيات الأعيان 3/ 8336، تذكرة الحفاظ 3/ 899، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 130 وطبقات الشافعية لابن هداية الله ص71.
4 في ب: "السبيل".
(1/5)
 
 
وكيف ائتلاف النظائر، واختلاف المآخذ. واحتماع الشوارد. وذلك أمر شديد، لا ينال بالهوينا والهدوء. ولا يدرك شأوه إلا من تصدى بأعماله قلب وقالب. لا يزال ذات نمو. ولا يحوم على حماه إلا من بين ذاته والسواد1 مانعة الجمع وبين أفكاره والسهاد مانعة الخلو. إن لمحت له بارقة اختطفها، وإن لاحت له نادرة بادر إلى ثمرتها واقتطفها، وإن قدمت عليه غريبة ردها إلى وطنها بعدما اقتطفها، يعمل أفكاره، ويدأب ليله ونهاره ويستسقي كل جعفر ولو نضب ماؤه وتنحت عنه أطياره، ويرعا، ولو وقف ذهنه الأنجم السيارة ولا يحجم ذهنه إذا ازدحمت المعضلات بل تقدم قائلا: "أنا ابن داره" يمر به المعضل فيقتحم في حله أهوالا ولا يقول: أهابك إجلالا، بل يستحل مريره وينشد من يعيبه.
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مُرًّا به الماء الزلالا
فإذا أحكمه وجعله تحت حكمه شد حيازم عزمه وأنفق من خزائن علمه. ولم يخش من ذي العرش إقلالا، هكذا هكذا وإلا فلالها ولقد ألف سلطان العلماء -أبو محمد- عز الدين بن عبد السلام2- قواعده. بل رصف فرائده ووضع قلائده وجمع فوائده ونوع موائده وقال فلم يترك مقالا لقائل وتسامى ولم يسمع أين الثريا من يد المتناول وتعالى كأنما هو للنيرين متطاول، وتصاعد درج السيادة حتى فاق الآفاق، وتباعد عن درجات معاصريه فساق أتباعه أمما وشاق ومضى وخلف ذكرا باقيا ما سطر الأوراق في الأوراق وأقبل كأنه تسعى بين يديه الأنوار، وترفل في أثوابه أزهارها ونوار، وجاء بيانه البديع بالمعاني البسيطة في اللفظ الوجيز الذي يحلو عليه التكرار وشاع اسمه كأنه علم في رأسه نار. وجاء هذا الكتاب على وفق مطلوبه، كاملا في أسلوبه شاملا
__________
1 في ب: "الوساد".
2 عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن الشيخ الإمام العلامة وحيد عصره سلطان العلا، عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي ثم المصري، ولد سنة سبع أو ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، وتفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر وقرأ الأصول على الآمدي وجمع بين فنون العلم.
قال ابن قاضي شهبة عن كتاب القواعد الكبرى وهو الكتاب الدال على علو مقداره وله تصانيف عديدة انظر ترجمته في:
فوات الوفيات 1/ 287، طبقات الشافعية لابن السبكي 5/ 80، البداية والنهاية 13/ 235، شذرات الذهب 5/ 301، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 109.
(1/6)
 
 
للفضل بعيده وقريبه شفاء لما في الصدور ووفاء لما للعلم في ذمة بني الدهور وصفا يروق به موارد السرور، واكتفى بما تعلق به الرجاء من عظائم الأمور، أولًا لا يحتاج إلى ثانٍ ومكملا ليس عنه ثانٍ، وموئلا للطلبة ليس عليه إلا مثنٍ –وقضى السجع بأن أقول: ثانٍ كأنما صعد صاحبه السماء وأخذ بدرها أو غاص البحار واستخرج درها، لا والله- بل بعثر القلوب وأفشى سرها، ثم جمع الإمام العلامة صدر الدين محمد بن عمر بن المرحل1 كتابًا في الأشباه والنظائر في الفروع طاول فيه الفراقد وحاول المعالي فسهر في طلبها، وخلف ألف راقد وتناول النجم قناداه لسان الإنصاف. ولما رأيت الناس دون محله تيقنت أن الدهر للناس ناقد ولقد جاوز قدر كل ذي قدر، وزاحم الرءوس في مجالس المعالي، ويد الحق تضع في الصدر الصدر وتضايق القوم حيث فسح له وأنشد:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ضاق بها وهي في مجالس العلم الصدر، ولكن صدر الدين وراق بها ربعها وإن بعد عهده فلا يتغير، وإن غير النأي المحبين وساق منه هديا لحفظه التقي فنسيانه ضلال مبين، وساق منه كتابا يتلقاه ذو المعرفة باليمين، فما هاج شوقي إلى ما أنا بصدده إلا كتابه لا حمامه، ولا بعث على هذه الكلمات سواه لما سمعت كلامه، فلقد بعثني [فأقام] 2 على ليلي من الفكر القيامة لأني مع استحسانه وجدته محتاجا إلى تحر في تحريره، وممر عليه من أوله إلى آخره لكونه مات وهو مجموع مفرق؛ لتبذيره من غير تدبيره، منسوب في نفسه إلى قصوره غير منسوب إلى مصنفه، وقد عارضته المنية إلى تقصيره.
فعمدت إلى هذا الكتاب فاجتلبت زبده وقذفت في بحر فوائد زبده وجمعت عليه من الأشباه نظائر كالأرواح جنودا مجندة وحررته في الدجى بشهادة النجوم ولاقيت عسره
__________
1 محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد بن عطية بن أحمد، يقال عبد الصمد بن أبي بكر بن عطية الشيخ الإمام العلامة ذو الفتوق صدر الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الإمام الخطيب زين الدين أبي حفص العثماني المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل. ولد بدمياط في شوال سنة خمس وستين وستمائة، وقال السبكي في طبقاته: كان الوالد يعظمه ويحبه ويثني عليه بالعلم وحسن العقيدة. توفي في ذي الحجة سنة ست عشرة وسبعمائة بالقاهرة.
طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 233، ابن السبكي 6/ 23 والبداية والنهاية 14/ 80، وفوات الوفيات 2/ 254 حسن المحاضرة 15/ 237.
2 في ب: "وأقام".
(1/7)
 
 
بهمة نبذت سهيلا بالعراء وهو مذموم، وجلوت من الأشباه عروس شباب لا شبيه لها مظنون ولا معلوم، إن قلت كما قال حسان:
لم يفتها شمس النهار بشيء
فلست أقول:
غير أن الشباب ليس يدوم
لأنها كلمات أعدها من الباقيات الصالحات والدائمات السابقات، تعوذ بالرقى من غير خبل وتعقد في قلائدها التميم، ثم لم أقدم على هذا الكتاب إلا بإذن سيدي الشيخ الإمام الوالد –قدس الله سره المصون- فإنه أذن لي [فيه] 1 وشرعت في ذلك في حياته، وكتبت منه قطعة شملها نظره الميمون فأعجب له رقا حرره بالكتابة عبد مأذون. نعم حررته وزدت عليه ما ينيف عن نصف مقداره ويضيف الزهر إلى أزهاره ويخيف من سلك غير طريقه فإنه [علي] 2 لاحب ولا يهتدي بمناره، ونقصت منه ما يورثه نقصا ويكاد به يقصر ويقصى، وخصصته بعموم فضائل لا تحصى، ما بين قواعد أهملها رأسا، وزوائد أغفلها -ومن ذا الذي لا ينسى- وفرائد تطلع في أفق المسائل قمرا وشمسا، بحيث جمع فأوعى قاصيا ودانيا ونطق فأسمع قريبا ونائيا.
ولو أن واشٍ باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
ولاح للمريد سلوك طريقه وراح الفقيه المستفيد يبدي ويعيد، ولا مزيد على تحقيقه، ونفق سوقه فلا يجد من يستطلع في ظلام الشبهات غير صبح فضله استغلظ فاستوى على سوقه، وكمل كتابا طبخ قلوب الحاسدين لما استوى، وسحابا لا تغير معه الأغراض الأهوية قائلة: لا نبرح نحن ولا أنت مكانا سوى: "وعبابا إذا عافى الله مريض القلب وكرع فيه منصفا ظهر ما قلناه، وبدي من بعد ما اندمل الهوى، وحكما يقضي القضايا اقتضيته وتقول: أنت الحكم التُّرْضى حكومته، والله أعطاه فضلا من عطيته فلتشكر عطيته نبهت له الذهن والناس نيام وأيقظت الفكر فأضاء مصباحه في الظلام وأعلمت فيها القلب فجلس يناجي الملك العلام. فلله من وارداته مقام عبد تجيب فيه الملائكة من عز الكلام. داعي الله لا من دعت ساق حر نزحه وترنما ومحفل فكر يسبك فيه ذهب القلوب على الحق ولا ضرب صواع يكفيه درهما، ومجلس علم يفوق مجلس الذكر ومتعلقا بجلوسه صلى الله عليه وسلم في مجلس المعلمين وقوله: "إنما بعثت معلما" 3 فكم سفه
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 أخرجه ابن ماجه 1/ 117 في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم "229".
قال البوصيري في زوائده: هذا إسناد فيه بكر وداود وعبد الرحمن وهم ضعفاء وقال رواه أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما من طريق عبد الرحمن الإفريقي به.
(1/8)
 
 
أحلام النيام ما في تلك اليقظة من رشد يهذب ويحرر.
وكم بت مستخبرا علمي، وأستمد فكري وقلمي فهذا ينشيء وهذا يخبر، وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر ولست مع ذلك أبرئ كتابي من كل نقص ومعرة. ولا أبيعه بشرط السلامة من كل عيب يكره، ولا أدعي أني استوعبت فيه ولا أن الأشباه جمع كثرة.
ولا آمن طائفة تطوف على محاسنه فتأخذها وتدعيها [وتدخل] 1 وتخرج وليت لها أذن واعية فتعيها وتسرق من حرزها نصابا لا شبهة لها فيه ولن يكفيها وتسبح في بحره فتشهب كبار الدرر وتسرح في روضه فتجني على مصنفه، وتجني كل زهر وتسرق ثمره وتقول لا قطع في ثمر ولا كثر.
نعم لكأني بفرق ثلاث: فرقة تفرق شمل محاسنه وتنكرها، وتجتلي عرائسه ثم تتشعب قبيلتين خيرهما التي لا تجعلها بمذام ولا تذكرها والأخرى تبيت منه في نعم وتصبح تكفرها.
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب
لعب بها شيطان الحسد وشد وثائقها الذي لا يوثق به بحبل من مسد، وتصرف فيها والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في الجسد، تصرف فيهم فنوى كل منهم السوء ولكل امرئ ما نوى، وتحكم فغوى بحكمه من غوى، وجرى بهم في ميدان الحسد حتى وقف الهوى، فلزموا إنكار الجميل لزوم جميل بثينة وغريم ألد تقاضي عزة دينه وجر جريرًا فسماه صائده الفؤاد وهو يعرف كذبه وميته، لا بل لزوم الأعراض للجواهر والغيم للنهار الماطر والليل للنجم الزاهر.
وآخر من فيه ثانية: يسمع كلامه ولا يفهمه ويصبح في بحره ولا يعلمه [ويصبح] 2 ظمآن وفي البحر فمه ومثل هذا لا يفتقد حضوره إذا غاب ولا ينتقد كلامه إذا جاب الصخر وخاب ولا يؤهل لأن يعاب إذا عاب.
__________
1 في "ب" فتدخل.
2 في ويسبح.
(1/9)
 
 
وكم من عائب قولا صحيحا ... [وآفته من الفهم السقيم] 1
ولا يؤهل لأن يعاب إذا عاب
وآخر من فيه ثالثة: تغترف من بحره وتعترف ببره ويقتطف من زهره ما هو أزهر من الأفق وزهره وتلزم الثناء عليه لزوم الخطب للمنابر والأقلام للمحابر والأفكار للخواطر والمؤمن للطاعة في الليل الكافر، وتعالج به جراحات الشكوك كأنه لها مراهم ويقطع بقواطعه ما أورث سوء الظن وأوهم وتقول: لو بيع فصل منه لاشتريته كما قيل بألف درهم.
وهذه طريقة قل سالكوها، وبعيد أن يوجد في حياة المصنف أهلوها فعليهم سلام الله أحسن الناس وجوهًا وأنضر همومًا.
وها أنا أبرز لك هذا المجموع وأحمل إليك هذا الموضوع، وأخرجه غير مقطوع الفضل ولا ممنوع والله أسأل أن يتقبله وأن يغفر خطأ مصنفه وأن يدخله الجنة بفضله فإنه لن يدخلها بعمله ولو كان له عمل فكيف ولا عمل له.
__________
1 من قوله وآفته من الفهم السقيم إلى قوله: قال الرافعي فجواز الاستعمال على قولي الأصل سقط في ب.
(1/10)
 
 
الكلام في القواعد الفقهية والمدارك الشرعية والمآخذ الأصولية
مدخل
...
الكلام في القواعد الفقهية والمدارك الشرعية والمآخذ الأصولية:
حق على طالب التحقيق ومن يتشوق إلى المقام الأعلى في التصور والتصديق أن يحكم قواعد الأحكام ليرجع إليها عند الغموض وينهض بعبء الاجتهاد أتم نهوض ثم يؤكدها بالاستكثار من حفظ الفروع؛ لترسخ في الذهن مثمرة عليه بفوائد غير مقطوع فضلها ولا ممنوع.
أما استخراج القوي وبذل المجهود في الاقتصار على حفظ الفروع من غير معرفة أصولها ونظم الجزئيات بدون فهم مأخذها، فلا يرضاه لنفسه ذو نفس أبية ولا حامله من أهل العلم بالكلية.
قال إمام الحرمين1 في كتاب المدارك: "الوجه لكل متخذ للإقلال بأعباء
__________
1 عبد الملك بن عبد اله بن يوسف عبد الله بن يوسف بن محمد العلامة إمام الحرمين ضياء الدين أبو المعالي بن الشيخ أبي محمد الجويني رئيس الشافعية بنيسابور مولده في المحرم سنة تسع عشر وأربعمائة وصنف المصنفات العديدة، قال أبو إسحاق الفيروزأبادي تمتعوا بهذا الإمام فإنه نزهة هذا الزمان توفي في ربيع الآخر سنة ثمانٍ وسبعين وأربعمائة. ابن السبكي 3/ 249، وفيات الأعيان 2/ 341، شذرات الذهب 3/ 358، والنجوم الزاهرة 5/ 121.
(1/10)
 
 
الشريعة معه أن يجعل الإحاطة بالأصول سوقه الألذ وينص مسائل الفقه عليها نص من يحاول بإيرادها تهذيب الأصول، ولا ينزف حمام ذهنه في وضع الوقائع مع العلم بأنها لا تنحصر على الذهول عن الأصول" انتهى.
وإن تعارض الأمران وقصر وقت طالب العلم عن الجميع بينهما -لضيق أو غيره من آفات الزمان- فالرأي لذي الذهن الصحيح الاقتصار على حفظ القواعد وفهم المآخذ.
إذا عرف ذلك فالقاعدة: الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة يفهم أحكامها منها1". ومنها ما لا يختص بباب كقولنا: "اليقين لا يرفع بالشك" ومنها ما يختص كقولنا: "كل كفارة سببها معصية فهي على الفور" والغالب فيما اختص بباب وقصد به نظم صور متشابهة أن تسمى ضابطا. وإن شئت قل: ما عم صورا، فإن كان المقصود من ذكره القدر المشترك الذي به اشتركت الصور في الحكم فهو مدرك، وإلا فإن كان القصد ضبط تلك الصور بنوع من أنواع الضبط من غير نظر في مأخذها فهو الضابط؛ وإلا فهو القاعدة.
فإن قلت: فخرج عن القاعدة نحو قول الغزالي "رحمه الله" في الوسيط: "قاعدة لو تحرم بالصلاة في وقت الكراهة ففي الانعقاد وجهان"، فقد أطلق القاعدة على فرع منصوص قلت: إنما أطلقها عليه لما تضمنته من المآخذ المقتضي للكراهة لأن فعل الشيء في الوقت المنهي عنه هل ينافي حصوله؟ فلما رجع الفرع إلى أصل هو قاعدة كلية حسن إطلاق لفظ القاعدة عليه. وذلك نظير قوله أيضا: قواعد ثلاث: الأولى، التطوعات التي لا سبب لها، لا حصر لركعاتها.
__________
1 وقيل حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته؛ ليتعرف به أحكام الجزئيات، وقيل: القاعدة حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته، وقيل: غير ذلك، انظر تقدمتنا على الاعتناء في الفرق والاستثناء.
(1/11)
 
 
وقال في الوجيز: "قاعدة: ينكشف حال الخنثى بثلاث طرق". وقال: وتبعه الرافعي وغيره فيما إذا وهبت المرأة الزوج صداقها.
قاعدة في ألفاظ التبرع. وقاعدة في أن الولي هل له العفو عن الصداق؟
وأمثلة هذا كثيرة فاعتبر مما تراه بما أريناك.
اعلم أن القاضي الحسين1 ذكر أن مبنى الفقه على أربع قواعد: اليقين لا يزال بالشك، والضرر يزال، والعادة محكمة والمشقة تجلب التيسير. وزعم من يدعي التحقيق أنه أهمل خامسة وهي أن الأمور بمقاصدها2. وقال: بني الإسلام على خمس والفقه على خمس.
والتحقيق عندي أنه إن أريد رجوع الفقه إلى الخمس تعسف وتكلف وقول جملي فالخامسة داخلة في الأولى. وفي الثانية أيضا. بل رجع شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد ولو ضايقه مضايق لقال: ارجع الكل إلى اعتبار المصالح فإن درء المفاسد من جملتها.
ويقول –على هذا- واحدة من هذه الجنس كافية، والأشبه أنها الثانية وإن أريد الرجوع بوضوح فإنها تربو على الخمسين بل على المائتين، أنا ذاكر إن شاء الله في هذا الكتاب ما يحضرني منها، منبه على مثال ما يغمض فهمه مستكثر من ذكر الجزئيات، مشير إلى ما حفظ من المستثنيات، مستعين بالله ومتوكل عليه وإياه أسأل النفع به والمن بنجازه وبخاتمة خير في عافية بلا محنة وبالاجتماع في دار كرامته بخير خليفته محمد صلى الله عليه وسلم من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
__________
1 الحسين بن محمد بن أحمد بن القاضي أبو علي المروذي صاحب التعليقة المشهورة في المذاهب، أخذ الفقه عن القفال، قال عبد الغافر: كان فقيه خراسان وكان عصره تأريخا بها وصنف في الفقه، والأصول والخلاف.
توفي في المحرم سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
ابن السبكي 3/ 155، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 244 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 164، وفيات الأعيان 1/ 400.
2 قاله القاضي أبو سعيد "الأشباه والنظائر للسيوطي".
(1/12)
 
 
القواعد الخمس
القاعدة الأولى: اليقين لا يرفع بالشك
...
القواعد الخمس:
وليقع الابتداء بالقواعد الخمس التي أشرنا إليها هنا ثم نعقبها بما نورده واحدة بعد واحدة.
القاعدة الأولى: اليقين لا يرفع بالشك
اليقين لا يرفع بالشك1 ولا يخفي أنه لا شك2 مع اليقين ولكن المراد استصحاب الأصل المتيقن لا يزيله شك طارئ عليه. فقل إن شئت: الأصل بقاء ما كان على ما كان، أو: الاستصحاب حجة. ومن ثم كان القول قول نافي الوطء غالبا3. ولم يكن على المانع4 في المناظرة دليل.
__________
1 والأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه، أخرج فيه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" رواه مسلم من حديث أبي هريرة وأصله في الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"، وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وابن عباس وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أو أربعا؟ فليطرح الشك ولبين ما استيقن"، وروى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر: واحدة صلى أو اثنتين؟ فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن: صلى اثنتين أم ثلاثا؟ فليبن على اثنتين، فإن لم يدر: أثلاثا صلى أم أربعا؟ فليبن على ثلاث وليسجد سجدتين قبل أن يسلم".
اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر.
2 والمراد بالشك لغةً: مطلق التردد. وفي اصطلاح الأصوليين تساوي الطرفين فإن رجح كان ظنا والمرجوح وهما وأما عند الفقهاء فزعم النووي أنه كاللغة في سائر الأبواب لا فرق بين المساوي والراجح وهذا إنما قالوه في الأحداث وقد فرقوا في مواضع كثيرة بينهما.
منها: في باب الإيلاء لو قيد بمستبعد الحصول في أربعة أشهر كنزول عيسى صلى الله عليه وسلم فحول وإن ظن حصوله قبلها فليس بحول قطعا وإن شك فوجهان أصحهما كذلك.
ومنها: ما سبق في الحياة المستقرة شك في المذبوح هل فيه حياة بعد الذبح حرم للشك في المبيح وإن غلب على ظنه بقاؤها حلت.
ومنها: في باب القضاء بالعلم لم يجعلوا للتساوي أثرا أو اعتبروا الظن المؤكد وكذلك في الصيد إذا توارد عليه اثنان في بعض صورة.
ومنها: في الأكل من مال الغير إذا غلب على ظنه الرضا جاز وإن شك فلا ومثله وجوب ركوب البحر في الحج إن غلبت السلامة وإن شك فلا ومثله في المرض والمخوف إذا غلب على ظنه كونه مخوفا نفد التصرف من الثلث وإن شككنا في كونه مخوفا لم ينفذ إلا بقول أهل الخبرة.
ومنها: قالوا في كتاب الطلاق أنه لا يقع بالشك فأرادوا به الطرف المرجوح ولهذا قال الرافعي في باب الاعتكاف: قولهم: لا يقع الطلاق بالشك مسلم ولكنه يقع بالظن الغالب المنثور 2/ 255.
3 الأشباه والنظائر للسيوطي ص57.
4 والممانعة امتناع السائل عن قبول ما أوجبه المعلل من غير دليل.
(1/13)
 
 
فإن عارض الأصل ظاهر1 فقيل: قولان دائما. وقيل غالبا. وقيل أصحهما اعتماد الأصل دائما. وقيل غالبا والتحقيق الأخذ بأقوى الظنين ومن ثم فصول.
فصل:
يرجح الأصل جزما إن عارضه احتمال مجرد، وذلك في مسائل منها:
احتمال حدث من تيقن الطهر بمجرد مضي الزمان2.
ومنها: من أحرم بالعمرة ثم بالحج وشكَّ، هل كان أحرم بالحج قبل طواف العمرة، فيكون صحيحا، أو بعده فيكون باطلا فإنه يحكم بصحته3. قال الماوردي4: لأن الأصل جواز الإحرام بالحج حتى يتيقن أنه كان بعده5. قال6: وهو كمن تزوج وأحرم ولم يدر هل أحرم قبل تزوجه أو بعده.
قال الشافعي رضي الله عنه: يصح تزوجه.
قلت ونقله ابن القطان7 في فروعه عن النص أيضا فيمن وكل رجلا في الزواج
__________
1 ويعبر الأصحاب تارة بالأصل والظاهر وتارة بالأصل والغالب وفهم بعضهم التغاير وأن المراد بالغالب ما يغلب على الظن من غير مشاهدة.
2 المنثور للزركشي 1/ 313، الأشباه والنظائر للسيوطي ص64.
3 الأشباه والنظائر ص52.
4 علي بن محمد بن حبيب القاضي أبو الحسن الماوردي البصري أحد أئمة أصحاب الوجوه قال الخطيب: كان ثقة من وجوه الفقهاء الشافعيين وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه وفي غير ذلك. قال ابن خيرون: كان رجلًا عظيمَ القدر متقدما عند السلطان. أحد الأئمة له التصانيف الحسان في كل فن من العلم توفي ربيع الأول سنة وخمسين وأربعمائة.
ابن السبكي 3/ 303، ابن قاضي شهبة 2/ 230، شذرات الذهب 3/ 285، مرآة الجنان 3/ 72.
5 الأشباه والنظائر للسيوطي ص52.
6 الأشباه والنظائر ص52، المنثور للزركشي 2/ 261.
7 أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن ابن القطان البغدادي آخر أصحاب ابن سريج وفاة. درس ببغداد وأخذ عنه العلماء، وقال الخطيب البغدادي: وهو من كبراء الشافعيين وله مصنفات في أصول الفقه وفروعه. مات في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. طبقات الفقهاء للشيرازي ص92، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 124، وابن هداية الله ص27، وشذرات الذهب 3/ 28، وفيات الأعيان 1/ 53.
(1/14)
 
 
ثم لم يدر أكان أوقع عقد النكاح بعدما أحرم أو قبله. قال: نص الشافعي أنه صحيح وذكر ابن القاص1 في تلخيصه: أنه لا يزال اليقين بالشك في الطهارة إلا في مسألة واحدة. وهو أن يقول: توضأت وأحدثت ولا أدري أيهما قدمت.
فيقال له: قدم وهمك على الأمرين فإن كنت محدثا قبلهما فأنت الآن متطهر، وإن كنت متطهرا فأنت الآن محدث2.
قال الروياني3 في البحر: وهذا في الحقيقة بناء على اليقين أيضا لا على الشك، لأنه أخذ بيقين ما قبل الأمرين قال: وهو كما لو أقام رجل البينة بأن فلانا استوفى منه جميع حقه. ثم أقام المشهود عليه بينة بأن المشهود له أقر له بألف؛ فإنه لا يتثبت لجواز أن يكون ذلك قبل الاستيفاء، وفي المسألة وجه آخر أنه يعمل بما قبل الأمرين، فإن كان طاهرا فطاهر، أو محدثا فمحدث. ومنهم من أوجب الوضوء احتياطا.
قلت: والأوجُهُ مشهورة في المذاهب.
قال النووي4: والثالث هو الصحيح عند جماعات من محققي أصحابنا5.
__________
1 أحمد بن أبي أحمد الطبري أبو العباس ابن القاص أحد أئمة المذهب أخذ الفقه عن ابن سريج وتفقه عليه أهل طبرستان وقال الشيخ أبو إسحاق كان من أئمة أصحابنا صنف التصانيف الكثيرة توفي رحمه الله في طرسوس سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
ابن قاضي شهبة 1/ 106، الشيرازي ص91، وفيات الأعيان 1/ 51، طبقات الشافعية لابن السبكي 2/ 103، البداية والنهاية 11/ 219.
2 الأشباه والنظائر للسيوطي ص52.
3 عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد بن أحمد قاضي القضاة فخر الإسلام أبو المحاسن الروياني الطبري صاحب البحر وغيره، وكانت له الوجاهة والرئاسة والقبول التام عند الملوك فمن دونها، أخذ عن والده وجده، وُلد رحمه الله في ذي الحجة سنة خمس عشرة وأربعمائة واستشهد بجامع آمل عند ارتفاع النهار بعد فراغه من الإملاء يوم الجمعة حادي عشر المحرم وقيل اثنتين وقيل سنة إحدى وخمسمائة قتله الباطنية لعنهم الله تعالى.
4 يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام الحافظ الفقيه الزاهد أحد أعلام الإسلام محيي الدين أبو زكريا الحزامي النووي الدمشقي، وُلد في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة وصنف المصنفات النافعة، مات رحمه الله ببلدة نوى بعدما زار القدس والخليل في رجب سنة سبع وسبعين وستمائة ودُفن بها.
ابن قاضي شهبة 2/ 153، ابن السبكي 5/ 165، البداية والنهاية 13/ 287، النجوم الزاهرة 7/ 278، شذرات الذهب 5/ 354.
5 شرح المهذب 2/ 65، الاعتناء في الفرق والاستثناء "تحقيقنا"، حلية العلماء 1/ 156.
(1/15)
 
 
قال: وفي المسألة وجه رابع: أنه يعمل بغلبة الظن1.
قلت: وسيأتي عن ابن القاص ما استثناه من قاعدة اليقين لا يرفع بالشك وذاك استثناء من أصل القاعدة وهذا من خصوصها في الطهارات.
فصل
ويرجح الأصل على الأصح أن استند الاحتمال إلى سبب ضعيف وذلك في مسائل2؛ منها: ثياب مدمني الخمر3، والمقبرة المنبوشة4 وطين الشوارع5.
ومنها: دعوى المرأة الإصابة بعد الاتفاق على الخلوة.
ومنها: دعوى المديون لا في مقابلة مال الإعسار6.
ومنها: وجوب فطرة العبد الغائب المحتمل الموت.
ومنها: عدم زواج امرأة المفقود.
ومنها: تصديق الغاصب في قوله: لم يكن العبد المغصوب كاتبا.
ومنها: إذا تمعطت فأرة في بئر وطرحت، ولكن غلب على الظن أنه لا يخلو كل دلو عن شيء من النجاسة.
قال الرافعي: فجواز الاستعمال على قولي: الأصل والغالب.
ومنها: الجديد أن دم الحائل حيض؛ لأنه تردد بين كونه دم علة ودم جبلة. والأصل السلامة.
والقديم أنه دم فساد؛ لأن الظاهر أن الحامل لا تحيض.
ومنها: الأصح تصديق الغاصب إذا ادعى في المغصوب عيبا خلقيا كقوله: كان
__________
1 المصادر السابقة.
2 وهذه المسائل مذكورة في الأشباه والنظائر للسيوطي ص65، والمنثور للزركشي 2/ 326.
3 وكذلك آوانيهم وكذا في ظهر اختلاطه بالنجاسة وعدم احتراسه منها، مسلما كان أو كافرا كما في شرح المهذب عن الإمام.
4 والمعنى بها كما قال الإمام وغيره التي جرى النبش في أطرافها والغالب على الظن انتشار النجاسة فيها.
5 وفي جميع ذلك قولان أصحهما الحكم بالطهارة استصحابا للأصل.
6 فيه وجهان أصحهما القول قوله؛ لأن الأصل العدم، والثاني لا؛ لأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئا.
(1/16)
 
 
أكمه1، وفي وجه المالك نظرًا إلى غلبة السلامة. وفي ثالث: يفرق بين ما تذر من العيوب وغيره.
ومنها: لو قال هذا ولدي من جاريتي هذه. عند الإمكان لحقه وهل يثبت كون الجارية أو ولد –لأن الظاهر- أولا لاحتمال أن يكون استولدها بالزوجية. فيه قولان: رجح الرافعي الثاني. قال: ولهما خروج على تقابل الأصل والظاهر.
ومنها: لو قال الراهن للمرتهن لم تقبض العين المرهونة عن الرهن، بل أعرتكها، وقال المرتهن بل عن الرهن، فالأصح أن القول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم اللزوم وعدم الإذن في القبض.
وقيل: قول المرتهن؛ لأن الظاهر أنه قبضه عن الرهن.
قلت: وأيضا فالأصل عدم العارية.
ومنها: تنازع المتبايعان في التفرق، وجاءا متساويين، فقال أحدهما أنا لم أفارقه فلي خيار المجلس. فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم التفرق كذا أطلق الأصحاب.
قال الرافعي2: وهو بين إن قصرت المدة. وأما إذا طالت فدوام الاجتماع خلاف
__________
1 أو أعرج أو فاقد اليد، فوجهان أصحهما: القول قوله، ويمكن على الأصح المالك إقامة البينة، والثاني: تصديق المالك؛ لأن الغالب السلامة.
هذا بخلاف ما لو ادعى عيبًا حادثًا. فإن الأظهر تصديق المالك؛ لأن الأصل والغالب دوام السلامة، والثاني الغاصب؛ لأن الأصل براءة الذمة، فهذه الصورة تعارض فيها أصلان، واعتضد أحدهما بظاهر "وسيأتي في تعارض الأصلين"، ونظير ذلك: ما لو جنى على طرف، وزعم نقصه؛ فإنه ادعى عيبا خلقيا في عضو ظاهر صدق الجاني في الأظهر؛ لأن الأصل العدم، وبراءة الذمة، والمالك يمكنه إقامة البينة، وإن ادعى عيبا حادثا، أو أصليا في عضو باطن، فالأظهر: تصديق المجني عليه؛ لأن الأصل السلامة.
راجع الأشباه والنظائر ص66.
2 عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين بن الحسن الإمام العلامة إمام الدين أبو القاسم القزويني الرافعي صاحب الشرح المشهور وإليه يرجع عامة الفقهاء من أصحابنا في هذه الأعصار في غالب الأقاليم والأمصار، قال النووي: إنه كان من الصالحين المتمكنين وكانت له كرامات كثيرة ظاهرة.
قال ابن الصلاح: توفي في أواخر سنة ثلاث أو أوائل سنة أربع وعشرين وستمائة بقزوين وقال ابن خلكان توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وعمره نحو ست وستين.
طبقات الشافعية ابن السبكي 5/ 119، لابن قاضي شهبة 2/ 75، مرآة الجنان 4/ 56، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 264.
(1/17)
 
 
الظاهر. فلا يبعد تخريجه على تعارض الأصل والظاهر وتنازع ابن الرفعة1 والشيخ الإمام2 في كلام الرافعي هذا. فابن الرفعة أيَّده وقال: بل ينبغي القطع بقبول قول من يدعي اللزوم؛ لأنه الأصل في البيع. والشيخ الإمام أفسده. وقال: بل ما أطلقه الأصحاب هو الحق؛ طالت المدة أم قصرت وهو تخريج على الأصل والظاهر؛ لأنهما لما تعارضا تساقطا، وبقي معنا حق العاقد من الفسخ، وقد تحققنا تمكنه منه فيستصحبه ولا يرفعه بالشك، ونازع ابن الرفعة في قوله أيضا أن أصل البيع اللزوم، وقال: بل الأصل الجواز ولكن وضعه على اللزوم.
وأنا أقول: تمكن العاقد من الفسخ ناشئ من عدم التفرق الذي هو الأصل المستصحب وقد عارضه ظاهر التفرق، فلا بد من جريان الخلاف، وبتقدير تسليم أن أصل البيع اللزوم، فهو معارض بعدم التفرق.
ومنها: أدخل الكلب رأسه في الإناء وأخرجه ولم يعلم ولوغه ورأينا فمه رطبا فالأصح الطهارة للأصل، والثاني: النجاسة للظاهر.
ومنها: طرح العصير في الدن وأحكم رأسه. ثم حلف أنه لم يستحل خمرًا ولم يفتح رأسه إلى مدة، ولما فتح وجده صار خلا، فوجهان حكاهما الرافعي في فروع الطلاق.
أحدهما: إن كان ظاهر الحال صيرورته خمرا وقت الحلف حنث، وإلا فلا.
والثاني: لا يحكم بالحنث. لأن الأصل عدم الاستحالة وعدم الحنث.
__________
1 أبو يحيى الشيخ نجم الدين ابن الرفعة كان فريد دهره ووحيد عصره إماما في الفقه والخلاف والأصول واشتهر بالفقه إلى أن يضرب به المثل وله تصانيف مشهورة تفقه على أصحاب ابن العطار وبرع حتى طار اسمه في الآفاق وتفقه على السبكي والذهبي، مات سنة وخمس وثلاثين وسبعمائة.
ابن هداية الله ص229، شذرات الذهب 6/ 22، طبقات الشافعية لابن السبكي 5/ 177، البدر الطالع 1/ 115، الدرر الكامنة 1/ 303.
2 حبر الأمة وأستاذ الأئمة شيخ الإسلام تقي الدين أبو الحسين علي الأنصاري الخزرجي السبكي، كان رحمه الله ذا فراسة صادقة تصانيفه مشهورة وتوفي -رحمه الله- بدمشق.
ابن هداية الله ص23، الدرر الكامنة 3/ 134، حسن المحاضرة 1/ 177، وطبقات الشافعية الكبرى 6/ 146، البدر الطالع 1/ 467.
(1/18)
 
 
فصل:
ويرجح الظاهر جزما في مواضع إن استند إلى سبب منصوب شرعا كالشهادة المعارضة للأصل أو معروف عادة: كأرض على شط نهر. الظاهر أنها تغرق وتنهار في الماء فلا يجوز استئجارها. وجواز الرافعي تخريجه على تقابل الأصل والظاهر.
قلت: وفيه نظر؛ لأن الظاهر هنا معتضد بعادة مستقرة فهو ينزل منزلة القطع أو منزلة السبب المنصوب شرعا، فلهذا جزم باعتماده، وإنما يقع الخلاف في ظاهر مجرد يقابل الأصل.
والموضع الثالث مما يرجح فيه الظاهر جزما أن يضعف اعتماد الأصل لمعارض فيبقى الظاهر سالما عن المعارض.
مثاله قال: أنت طالق ثم ادعى سبق لسان، فإنه لا يصدق ظاهرا إلا بقرينة؛ لأن الظاهر من حال البالغ العاقل أنه لا يتكلم إلا عن قصد فإن قيل القصد خلاف الأصل فكيف عمل بالظاهر؟
قلنا: أصل عدم القصد تعارض بأنه متهم في هذه الدعوى ما في الإبضاع من الاحتياط، ثم إن سبق اللسان خلاف الأصل، فلما تقاوم الأصلان تساقطا وبقي الظاهر فعمل عمله وهب أن القصد خلاف الأصل فانتفاؤه انتفى لقصد الوقوع ولا يلزم من انتفاء قصد الوقوع انتفاء الوقوع؛ لأن اللفظ يعمل عمله وإن لم يقصد وإذا لم يقصد العدم ففرق بين قصد الوقوع وقصد العدم.
فصل:
ويرجح الظاهر على الصحيح إن كان سببا قويا منضبطا. وذلك في مسائل. منها: حيوان يبول في ماء كثير، ثم يوجد متغيرًا فالمذهب النجاسة لغلبة الظن بأن التغير من البول1.
__________
1 قال الزركشي: هذا وإن احتمل تغيره بطول مكث أو سبب آخر نص عليه، فأستند التغير إليه مع أن الأصل طهارته، لكنه بعد التغير احتمل أن يكون بالمكث وأن يكون بذلك البول، وإحالته على البول المتيقن أولى من إحالته على طول المكث فإنه مظنون فقدم الظاهر على الأصل وتابعه الجمهور.
وقيل إن كان عهده عن قرب غير متغير فنجس، وإلا فظاهر ولو ذهب عقب البول فلم يجده متغيرًا، ثم عاد في زمن آخر فوجده متغيرا قال الأصحاب: لا يحكم بنجاسته وقال الدارمي: يحكم.
راجع المنثور 1/ 318.
(1/19)
 
 
ومنها: قاتل حر يدعي رق المقتول فيقول قريبه: كان حرًّا فالأصح تصديق القريب؛ لأنه الظاهر في الغالب.
ومنها: شاهد يعدل في واقعة ثم يشهد في أخرى بعد زمان طويل فقد صححوا طلب تعديله ثانيا؛ لأن طول الزمان يغير الأحوال، وفيه عندي نظر.
ومنها: اختلفا بعد البيع في الرؤية صحح النووي أن القول قول مدعيها؛ لادعائه الصحة وهي الظاهر؛ إذ الظاهر أن المشتري لا يقدم على شراء غائب وهو ما عزاه الرافعي إلى فتاوى الغزالي وبه أفتى القاضي الحسين وقال الرافعي: إنه لا ينفك عن خلاف.
قلت: حكى ابن أبي الدم الخلاف في كتاب أدب القضاء1. ولم يزد النووي على أنها مسألة الاختلاف في الصحة والفساد. وسنتكلم على الفروع في قواعد البيع.
ومنها: إذا جومعت فقضت شهوتها ثم اغتسلت ثم خرج منها مني الرجل فالأصل يجب عليها الغسل؛ لأن الظاهر خروج منيها معه.
وقيل لا يجب؛ لأن الأصل عدم خروجه.
تنبيه: خرج بقولنا: قويا -في قولنا: يرجح الظاهر على الصحيح إن كان سببا قويا منضبطا- لو أمشط المحرم لحيته فوقعت شعرات. شك. هل كانت منسلة فانفصلت؟ أو
__________
1 قال في أدب القضاء 2/ 323: قد عرف من مذهب إمامنا رضي الله عنه أن الصحيح من قوليه بطلان بيع الأعيان الغائبة، كيف كان، استقصيت الأوصاف أو لم تستقصِ، فلو اشترى شيئا ثم قال: اشتريته ولم أره، وقال البائع: بل رأيته، هل القول قول البائع أو المشتري؟ فيه خلاف.
من أصحابنا من اختار أن القول قول المشتري؛ لأن الأصل عدم الرؤية، وعدم صحة العقد، ومنهم من اختار أن القول قول البائع؛ لأن إقدام كل مكلف على عقد اعتراف منه بصحته.
وأصل هذا كله أنه متى اختلف المتبايعان في شرط مفسد للعقد فادعاه أحدهما، وأنكره الآخر، فيه وجهان:
قال صاحب التقريب: القول قول مدعي الشرط الفاسد.
وقال غيره: بل القول قول الآخر.
وممن اختار الفساد في مسألة الشرط المفسد الجرجاني، البغوي، الشيخ ابن أبي عصرون.
(1/20)
 
 
انتفت بالمشط فالأصح لا تجب الفدية؛ لأن النتف لم يتحقق فيها1 وبقولنا: "منضبطا" دعوى البر التقي على الفجر الشقي درهما واحدا فإن الفاجر يصدق في إنكاره؛ لأن ظهور كذبه ليس بمنضبط فلا يلتفت إليه.
فصل:
"ومن ثم يقولون: الشيء قد يثبت على خلاف الظاهر" ويستشكله مستشكلون، وليس بمشكل، وسره ما أبديناه من عدم الانضباط، فلا ثقة به، فلذلك يدرأ في مسائل:
منها: تسمع دعوى الدنيء استئجار الأمير المعتبر لكنس داره خلافا للإصطخري.
ومنها: لو أتت بولد لدون أربع سنين من قبيل الطلاق بلحظة لحقه. وإن كان وقوع الزنا أغلب على الظن من تأخر الحمل هذه المدة قال شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام: ولا يلزم حد الزنا، فإن الحدود تسقط بالشبهة2، ومنها: أنه يلحق لستة أشهر ولحظتي الوطء والوضع مع ندرة ذلك وغلبة الزنا. وغلبة تأخر الوضع إلى تسعة أشهر.
ومنها: لو أقر بمال عظيم قبل تفسيره باقل متمول3. وفي وجه: يزيد للفظ عظيم شيء.
ومنها: لو ادعى الزوج بعد مضي مدة العفة الإصابة، فالقول قوله مع ظهور صدقها بالأصل والغلبة.
ومنها: [قال] 4: إن رأيت الهلال فأنت طالق، فرآه غيرها طلقت.
__________
1 والأصل: براءة الذمة والثاني يجب؛ لأن المشط سبب ظاهر إليه كإضافة الإجهاض إلى الضرب، الأشباه ص72.
2 لقوله صلى الله عليه وسلم "ادرؤوا الحدود بالشبهات" أخرجه ابن عدي وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة: "ادفعوا الحدود ما استطعتم"، وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي وغيرها من حديث عائشة: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطتعم فإن وجدتم للمسلم مخرجا، فخلوا سبيله؛ فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
وأخرجه البيهقي عن عمر، وعقبة بن عامر، ومعاذ بن جبل موقوفا وأخرج من حديث علي مرفوعًا: "ادرؤوا الحدود فقط".
3 الأشباه والنظائر ص6.
4 في "ب": لو قال.
(1/21)
 
 
ومنها: لو قال: إذا مضى عصر أو حقب فأنت طالق تطلق بمضي لحظة. واستبعده الغزالي.
ومنها: إذا تعاشر الزوجان المدة المديدة، ثم ادعت عدم النفقة والكسوة فالقول قولها.
ومنها: على وجه اختاره المحاملي وغيره لو حلف لا يكلمه إلى أيام حنث بلحظة.
قال: لأنه يقال: أيام العدل وأيام الفتنة.
قلت: ولهذا ظهور ما لو قال أيام فلان العادل أو الجائر على تلوم في أما إذا أتى بلفظ أيام منكرة -كما هو صورة المسألة- فلا وجه له.
ومنها: إذا كان معه شخص بالغ، يتصرف فيه تصرف الملاك في عبيدهم، وادعى أنه ملكه وقال ذلك الشخص: بل أنا حر، فالقول قول المدعى عليه، سواء أكان المدعي استخدمه قبل الإنكار وتسلط عليه أم لا، وسواء جرى عليه البيع مرة أو مرارًا وتداولته الأيدي أم لا، صرح به الأصحاب في باب الدعاوى1، وفرضه فيما إذا قال أنا حر الأصل، وأطلق الإمام تصوير المسألة فيما إذا قال: أنا حر.
قلت: وقد يقال فيمن تداولته الأيدي: ما الفرق بين أن نطلق قوله: أنا حر. أو يقول: أنا حر الأصل؟
وفي كلام الإمام فوائد. فنقول: قال الإمام في النهاية في باب الدعوى على مذهب أبي حنيفة قبيل باب القافة فالقول قول ذلك الشخص. لم يختلف أصحابنا في ذلك؛ لأن [ظاهر] 2 الدار الحرية وهي الأصل. فمدعيها مستمسك بالأصل والظاهر.
فإن قيل: أليس تصرف الملاك مع استمرار ظاهر اليد دلالة على الملك وقد اجتمعتا في هذه المسألة؟
قلنا: إنما تدل اليد والتصرف على تعيين الملك مع كون الشيء مملوكا، فيظهر
__________
1 انظر أدب القضاء للماوردي 4/ فقرة 5274، وأدب القضاء لابن أبي الدم 1/ 625.
2 وفي ب: "الأصل".
(1/22)
 
 
من اختصاص الإنسان باليد والتصرف وعدم النكير عليه تعيينه من بين الناس، وليس مع من يدعى الملك فيه الأصل يعتضد به، فأما أصل الملك فالأصل عدم الملك. فلا يثبت بظاهر التصرف. وعند ذلك قال الأصحاب: إذا اجتمع الأصل والظاهر فالتعويل على الأصل فلئن قيل: الحر تصرف كذلك.
قلنا: قد ينقاد الخادم للمخدوم بما ينقاد بمثله العبيد.
انتهى كلام الإمام.
وقد تضمن أن اليد والتصرف لا يدلان على الملك إلا عند ثبوت الملك في تلك العين، فيكونان دالين على تعين صاحب اليد المتصرف وقضية هذا أن لا يشهد أن في يده إنسانا صغيرا، يتصرف فيه تصرف الملاك بالملك؛ لأن الأصل الحرية.
وفيه وجهان: أطلق أبو علي الطبري حكايتهما1. وقال غيره إنه سمعه يقول: هو عبدي، أو سمع الناس يقولون: إنه عبده شهد له بالملك، وإلا فلا وهذا ما صححه النووي في باب اللقيط2.
وقد يقال على مساق كلام الإمام: يجري تصرف ذلك المتصرف على الصحة؛ إذ لا معارض له، فإن بلغ الصبي وأكذبه، أعرضنا عن تصديقه، واعتمدنا قول الصبي غير أن المصحح فيمن ادعى رق صغير في يده أنه يحكم له بالرق وهو ما رجحه الجمهور منهم صاحب التنبيه سواء كان مميزا أم لا. وقالوا: ثم إذا بلغ الصبي قال: أنا حر، لم يقبل أيضا على الأصح3. وقد تلخص من هذا أن ما اقتضاه كلام الإمام من أن المتصرف في صور تصرف الملاك لا يشهد له بالملك وإن ادعى هو رقه؛ لأن الأصل الحرية وليس المرجح في المذهب.
وأقول: إن مأخذه حسن، وقضيته أنه إذا ثبت أنه رق على الجملة شهد له بالملك، وإلا فلا، لمخالفة الأصل، ويؤيد هذا أنه لو بلغ الصبي وأقر بالرق، لغير صاحب اليد لم يقبل جزما4 بخلاف ما إذا ادعى الحرية فإن فيه خلافا، فكان وجه
__________
1 روضة الطالبين 5/ 444، وأدب القضاء 1/ 625.
2 روضة الطالبين 5/ 444.
3 إلا أن يقيم بينة بالحرية ولكن له تحليف السيد، قاله البغوي والثاني يقبل، روضة الطالبين 5/ 444، أدب القضاء 1/ 656.
4 روضة الطالبين 5/ 444.
(1/23)
 
 
عدم القبول فيما ادعى الرق لغير ذي اليد أنه وافق على الرق وإنما خالف في جهته فلم يصغ إلى مخالفته لمعارضته أمرا قد تكرر قبل بلوغه، بخلاف ما إذا ادعى الحرية فإنه يعتضد بأصل الحرية، وهذا المأخذ الذي أشار إليه الإمام لا يجري في الأملاك، فلا يقال: لا يشهد للمتصرف ذي اليد بالملك حتى يثبت أن الدار ملك على الجملة، مخافة أن تكون وقفا؛ لأن الأصل في العقار الملك، والوقف طارئ، ولا كذلك الرق مع الحرية؛ فإن الحرية هي الأصل، ونظير هذا: صغيرة في يد رجل يدعي نكاحها فالأصح أن لا يحكم له بالنكاح مع أنه لو ادعى الملك حكم له1.
وفرق الأصحاب في باب اللقيط بأن اليد على الجملة دالة على الملك ويجوز أن يولد وهو مملوك بخلاف النكاح، فإنه طارئ، فيحتاج إلى البينة2.
وهذا كقوله في مساق كلام الإمام والدي. صرح به الأصحاب في باب الشهادات على الملك -بالتصرف والاستفاضة- العقار، والعبد، والثوب، وغيرها، وهذا يقدح في مأخذ الإمام.
والإمام ممن رجح جواز الشهادة بالملك لذي اليد المتطاولة وله التصرف تصرف الملاك، ثم ما ذكرناه من أن الأصل الحرية إنما نعني به الغالب، وحكى الرافعي عن حكاية صاحب التتمة قولا بامتناع معاملة من لا تعرف حريته قال: لأن الأصل بقاء الحجر.
وهذا قد يقال: إنه ينازع قولهم: إن الأصل الحرية وقد يقال: أنه لا يتنازع؛ لأن المدعى بقاء الحجر. لا إيقاع الحرية.
فإنه قلت: الحجر يستدعي انتفاء الحرية الملازمة لثبوت الرق.
قلت: لم قلت: إنما نعني حجر الرق، وقد نعني مطلق الحجر المستصحب من زمن الصغر، ولذلك عبرا بلفظ البقاء. غير أنه قبل البلوغ مستندا لا سيما في الأحرار إلى الصبي، وبعد البلوغ يستصحب في مجهول الحال، وجائز أن يسمى حجر الصبي بما لكونه مستصحبا، كما قيل بمثله فيمن بلغ سفيها، وأن يقال: لا ضرورة ما إلى
__________
1 وقال ابن الحداد: نعم كالرق، والأصح ما حكاه المصنف، روضة الطالبين 5/ 444.
2 المصدر السابق.
(1/24)
 
 
معرفة عينه، بل هو حجر على الجملة، ثم هذا الوجه إنما هو في منع معاملته، لا في الحكم برقه وقد يقال: هو حر بشهادة الأصل ولكن لا يعامل؛ لأن الإقدام على المعاملة يستدعي قدرا زائدا على الأصل، واعلم أن ما ذكرناه من كلام الإمام يؤخذ منه أنه لو تعارضت بينتا الرق والحرية تقدم بينة الحرية.
بيانه: أن بينة الرق -كما ذكره الإمام- لا يجوز لها أن تبنى على ظاهر اليد والتصرف فيما قامت مقبولة وإلا وقد استندت إلى غير ذلك. فتكون مستندة إلى ناقل متقدم.
والمسألة عسيرة النقل في المذهب -أعني تعارض بينة الرق وحرية الأصل والذي جزم به الرافعي في المسائل المنثورة آخر باب الدعوى أن بينة المدعي الرق أولى؛ لأن معها زيادة علم. وهو إثبات الرق.
وقد وقعت المسألة عندي في المحاكمات، توقفت عن الحكم بذلك فيها لإشكالها ثم وجدت بخط والدي رحمه الله حكاية وجهين في المسألة عن الماوردي، وأنه ذكرهما عند الكلام على خيار العبيد في كتاب النكاح أحدهما: التعارض والتساقط. الثاني: أن شهادة العبودية أولى؛ لأنها تخالف الظاهر من حكم الدار فكانت أزيد علما ممن شهد الحرية، التي هي الغالب على الدار أن أهلها أحرار. وموضع الوجهين كما أبصرت، في تعارض الرق والحرية الأصل.
وذكر القاضي أبو سعد المسألة في "الأشراف" ولم يحك القول بتقديم بينة الرق إلا عن الشيخ أبي حامد، وحكى تقديم الحرية عن جميع الأصحاب، وقد سبقه إلى ذلك القاضي أبو عاصم، فحكى في الطبقات تقديم الرق عن الشيخ أبي حامد حكاية المستغرب له فليكن المعتمد إن شاء الله تقديم بينة الحرية أما تعارض الرق والتعق فمسألة مشهورة ذكرها الرافعي وغيره في باب الدعاوى1، وجزم فيها الماوردي في هذا المكان بتقديم بينة الحرية فإنه قال إن علم شهود الحرية العبودية فشهادتهم أولى؛ لأنهم أزيد علما ممن علم العبودية ولم يعلم ما تجدد بعدها من الحرية، ومنها قال إمام الحرمين في كتاب الطلاق بعدما ذكر أن الحربي إذا أكره على الإسلام فنطق بالشهادتين
__________
1 روضة الطالبين 12/ 17.
(1/25)
 
 
تحت السيف يحكم كونه مسلما فإن هذا إكراه بحق فلم يغير الحكم. اتفقت الطرق على هذا مع ما فيه من الغموض من طريق المعنى؛ فإن كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عن الضمير منزلة الإقرار، والظاهر من المحمول عليهما أنه كاذب في إخباره. انتهى.
وقد حكاه عن الرافعي إلا أنه أسقط قوله: في إخباره. وليس بجيد؛ لأن الكذب عدم المطابقة لما في نفس الأمر1. وقائل الشهادتين مطابقتين، فلا يقال: إنه كاذب؛ نعم هو كاذب في إخباره أن ضميره مشتمل على الاعتقاد، فقد تبين أن قول الإمام: في إخباره قيد لا بد منه حذفه الرافعي ظنا منه أنه لا حاجة إليه فورد ما لا قبل له به.
واعترضه ابن الرفعة بأن هذه نزعة أسامة بن زيد قد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عنها2 وكيف لا يكون ونحن نؤاخذ المقر للعبادة بما يغلب على الظن كذبه [فيما] 3 إذا احتمل الصدق على بعد، وحق الله أولى بذلك، نعم هو إذا كان في نفس الأمر بخلاف ذلك لا يحصل له الفوز في [الدار] الآخرة. انتهى.
قلت: الإمام لا يخفى عليه نزعة أسامة. ولم يرد التشكيك على قبول إسلامه بل ذكر أن قبول إسلامه شرعا غامض من حيث المعنى، ولذلك قال: من حيث المعنى ولم
__________
1 الخيالي على العقائد النسفية 27.
2 من حديث أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهتيه فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟ " قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح" قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا"، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة قال: قال رجل: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُوَ فِتْنَةٌ وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ؟ فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا يكون فتنة وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة".
أخرجه البخاري 7/ 590 كتاب المغازي باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ... حديث 4269، ومسلم 1/ 96، كتاب الإيمان باب تحريم قتل الكافر بعدما قال: لا إله إلا الله حديث "158-256" واللفظ له.
3 في ب: "فيه".
(1/26)
 
 
يقل من حيث الحكم، والحاصل أن هذا عنده مما حكم فيه بخلاف الظاهر، وأنه أمر بعدي غير معقول المعنى.
فطريقة جوابه أن يبين أن هذا جارٍ على وفق الأقيسة الواضحة المعاني، لا أن يقال له: هذه نزعة أسامة، فإنه لا ينكر ذلك، بل نقول: ومن ثم لم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة قودا ولا دية. إنما ذلك –والله أعلم- حيث كان [أقدم] 1 عن اجتهاده ساعده المعنى، ولكن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكم الله أن من قالها فقد عصم دمه وماله، وقال: "هل شققت عن قلبه" 2 إشارة إلى نكتة الجواب.
والمعنى –والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن هذا الظاهر مضمحل بالنسبة إلى أن القلب لا يطلع على ما فيه إلا خالقه، ولعل هذا أسلم حقيقة وإن كانت تحت السيف ولا يمكن دفع هذا الاحتمال.
وفي الحديث الصحيح3: "عجب ربنا من قوم يدخلون الجنة في السلاسل"، وفي لفظ: "يقادون إلى الجنة في السلاسل" 4.
قيل: أراد بالجنة الإسلام وبالقوم الأسرى يكرهون على الإسلام5، فجعل
__________
1 في ب: "إقدام".
2 قال النووي في شرح مسلم 2/ 107: فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر؟ والله يتولى السرائر. وانظر الأبي على مسلم 1/ 209.
3 أخرجه البخاري 6/ 168 الجهاد باب الأسارى في السلاسل حديث "3010".
4 أخرجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أبو داود 3/ 56 كتاب الجهاد باب في الأسير يوثق حديث "2677".
5 فتح الباري 6/ 168-169، فيض القدير 4/ 302-303.
قال الغزالي: المراد بالسلاسل الأسباب؛ فإنه تعالى أمر بالعمل فقال: اعملوا وإلا أنتم معاقبون مذمومون على العصيان، وذلك سبب لحصول اعتقاد فينا والاعتقاد سبب لهيجان الخوف وهيجانه سبب لترك الشهوات والتجافي عن دار الغرور، وذلك سبب الوصول إلى جوار الرحمن في الجنان وهو مسبب الأسباب ومرتبها فمن سبق له في الأزل السعادة يسر له هذه الأسباب حتى يقوده الله بسلامها إلى الجنة ومن قدر له الشقاء أصمه عن سماع كلامه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء فإذا لم يسمع لم يعلم وإذا لم يعلم لم يخف وإذا لم يخف لم يترك الركون للدنيا والانهماك في اللذات وإذا لم يتركها صار في حزب الشيطان.
فيض القدير 4/ 303.
(1/27)
 
 
الشهادتين مناطا بدار الحكم عليهما فحيث وجدا حكم بمضمونهما بالنسبة إلى الظاهر وأمر الباطن إلى الله تعالى.
ومن هنا يوجد جواب عن الإمام فنقول: استغماضه من حيث المعنى قبول إسلام المكره؛ لكونه حكما بخلاف الظاهر، يوضحه أن الإقدام على قتله من تلفظه بالشهادتين واحتمال أنه صادق فيما أخبر به عن ضميره ارتكاب ما لعله يكون ظلما له، والكف عن القتل أولى من الإقدام عليه.
ويوضح هذا أن الشارع لا مقصد له في إزهاق الأرواح وإنما المقصد الهداية والإرشاد فإن تعذرت بكل سبيل، تعين زهوق الروح طريقا لزوال مفسدة [الكفر] 1 من الوجود، ومع التلفظ بكلمة الحق لم تتعذر الهداية بكل طريق، بل حصل عز الإسلام بانقياد المتلفظ بها ظاهرا، ويرجى مع ذلك أن تكون الهداية حصلت وبتقدير أن تكون حصلت فقد يحصل في المستقبل فمادة الفساد الناشئ عن كلمة الكفر قد زالت بانقياد ظاهر ولم يبق إلا الباطن وهو مشكوك أو مرجو مآلا، إن لم يكن مرجوا حالا، فقد لاح من حيث المعنى وجه قبول الإسلام –والله الحمد- وأنه على وفق الأقيسة ومنهاج لمحاسن الشريعة، لا يدفعه منقول ولا معقول.
فإن قلت -على تقدير ما قاله الإمام من كونه غير معقول المعنى: فما فائدة بحث الإمام عن ذلك.
قلت: خطر لي أنه يحال تخريج إسلام الذمي مكرها عليه ويتوصل منه إلى ترجيح أنه لا يصح؛ وذلك لأنه يقول إذا قلنا بالصحة في الحربي فهي غير معقولة المعنى، فلا يقاس عليها الذمي؛ لأن القياس إنما يكون حيث يعقل معنى.
ويدل لهذا أنه ذكر مسألة الذمي عقبها، فقال: ولو أكره ذمي على الإسلام فأسلم فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنَّا هل نحكم بإسلامه، والمصير إلى الحكم بإسلامه بعيد مع إن إكراهه عليه غير شائع، فلئن استمر ما ذكرناه في إكراه الحربي من جهة أنه إكراهٌ بحق فلا ثبات لهذا المسلك والمكره ذمي والإكراه ممنوع. انتهى.
وتقريره أن يقال: صحة إسلام الحربي بالإكراه إما غير معقولة المعنى. فلا يلحق
__________
1 في ب: "الفكر".
(1/28)
 
 
بها الذمي. وإما معقولة المعنى، وهي أنه إكراه بحق، فلا يلحق الذمي أيضا؛ لأنه لم يكره بحق، وإنما أكره على حق.
نعم؛ إن جعل المعنى أنه أكره على حق صلح إسلام الذمي وهو وجه ضعيف ومنها: لو قال: لزيد علي أكثر مما لفلان، قبل تفسيره بأقل متمول وإن كثر مال فلان؛ لاحتمال أنه أراد بالأكثرية الحل أو نحوه.
فصل:
استثنى ابن القاص من قولهم: اليقين لا يرفع بالشك إحدى عشرة مسألة1:
الأولى: إذا شك المقيم هل تم يوم وليلة لم يجز له المسح.
الثانية: إذا شك المسافر هل مسح وهو مقيم أو بعد السفر لم يمسح إلا مسح مقيم.
الثالثة: مسافر أحرم خلف رجل لا يدري أمسافر هو أم مقيم لم يقصر.
الرابعة: ظبي بال في ماء فوُجد متغيرا فهو نجس.
الخامسة: المستحاضة عليها الصلاة والاغتسال في كل يوم شكت هل هو يوم انقطاع الدم.
السادسة: إذا علم نجاسة ما أصابت ثوبه أو بدنه إلا موضعها وجب غسله كله.
السابعة: شك المسافر. هل نوى الإقامة لم يترخص.
الثامنة: المستحاضة والسلس توضآ ثم شكَّا هل انقطع ثم صليا لم يجزهما.
العاشرة: طلب الماء في سفره فلم يجده فتيمم ثم أبصر شيئا يحتمل كونه ماء بطل تيممه.
الحادية عشرة: رمى إلى صيد فجرحه ثم غاب فوجده ميتا وشك هل أصابته رمية أخرى من حجر أو غيره لم يجز أكله2.
__________
1 الأشباه والنظائر للسيوطي 80.
2 هذا وقد نازع القفال وغيره في هذه الاستثناءات بأنه لم يترك اليقين فيها بالشك، إنما عمل فيها بالأصل الذي لم يتحقق شرط العدول عنه؛ لأن الأصل في الأولى والثانية غسل الرجلين وشرط المسح بقاء المدة وشككنا فيه فعمل بأصل الغسل وفي الثالثة والسابعة والثامنة القصر وخصه بشرط فإذا لم يتحقق =
(1/29)
 
 
وزاد الإمام على ابن القاص: إذا شك في خروج وقت الجمعة قبل الشروع فيها وفي وجه أو فيها.
وجمع النووي هذه الصور في تحقيق المذهب. وزاد ثالثة عشرة ورابعة عشرة وهما: إذا شك في نقص وضوء أو صلاة بعد الفراغ، كمن شك هل مسح رأسه وهل صلى الظهر ثلاثا أو أربعا، فإنه لا أثر لهذا الشك1.
والظاهر الأرجح مضي الوضوء والصلاة على الصحة.
واعترض القفال وغيره على ابن القاص، وقالوا: لم يعمل بالشك في شيء من ذلك بل بأصول أُخر، الظن المستفاد منها أقوى، عاد الشاك إليها عند شكه. قلت: وأقرب من هذه المسائل عندي –ولم أر من ذكره- إذا جاء من قدام الإمام واقتدى به وشك. أهو متقدم عليه؟ فالصحيح في شرح المهذب وفي التحقيق أنه يصح. فهذا أصل ترك من غير معارض وهذا مشكل جديد لا جرم قال ابن الرفعة: الوجه ما نقل عن القاضي؛ لأنه لا يصح عملا بالأصل السالم عن المعارض2.
وهو قول حكاه النووي في تحقيق المذهب عن الجديد. ويقرب منه مسائل منها الصحيح انقضاء عدة المعتدة بالأقراء بالطعن في الحيضة الثالثة إن طلقها في الطهر والطعن في الرابعة إن طلقها في الحيض. وقيل حتى يمضي يوم وليلة بعد رؤية الدم
__________
= رجع إلى الأصل، وهو الإتمام وفي الخامسة الأصل وجوب الصلاة، فإذا شكت في الانقطاع فصلت بلا غسل لم تتيقن البراءة منها وفي السادسة الأصل أنه ممنوع من الصلاة إلا بطهارة عن هذه النجاسة فلما لم يغسل الجميع فهو شاك في زوال منعه من الصلاة وفي العاشرة إنما بطل التيمم؛ لأنه توجه الطلب عليه وفي الحادية عشرة في حل الصيد قولان، فإن قلنا: لا يحل فليس ترك يقين بشك؛ لأن الأصل التحريم وقد شككنا في الإباحة، وقد نقل النووي ذلك في شرح المهذب وقال: وما قاله القفال فيه نظر. وقال في شرح المهذب والصواب في أكثرها مع أبي العباس وهو ظاهر عن تأمله، شرح المهذب 1/ 262-266،
الأشباه والنظائر للسيوطي 80-81.
1 شرح المهذب 1/ 226، الأشباه والنظائر 81.
2 وفي نظير هذه المسألة لو صلى وشك هل تقدم على الإمام بالتكبير أو لا، لا تصح صلاته، وفرق بأن الصحة في التقديم أكثر وقوعا فإنها تصح في صورتين التأخير والمساواة، وتبطل في المتقدم خاصة والصحة في التكبير أقل وقوعا، فإنها تبطل بالمقارنة والتقدم وتصح صورة واحدة، وهي التأخر قاله السيوطي.
(1/30)
 
 
ليعلم أنه حيض وقيل إن رأت الدم لعادتها انقضت برؤيته، وإن رأته على خلافها اعتبر يوم وليلة.
وهذا متجه، فإن الحكم بكونه قرء فيمن رأته على خلاف العادة طرح اليقين بمجرد الشك لكن يسهل هذا اتفاق الأصحاب على أنا إذا حكمنا بانقضائها بالرؤية فانقطع الدم لدون يوم وليلة ولم يعد حتى مضى خمسة عشر يوما أنا نتبين أن العدة لم تنقض.
ومنها: إذا شك القاضي في عدالة وصي قرره قاضٍ قبله [وأنفذ تصرفه] 1 فهل يقر المال في يده؛ لأن الظاهر الأمانة، أو ينتزعه حتى تثبت عدالته؟
اختلف في ذلك الإصطخري2 وأبو إسحاق3، فقال الإصطخري: يقره، وقال أبو إسحاق: ينتزعه.
وهذا هو الذي يظهر ترجيحه. وعلى هذا فقد طرح أصل العدالة وظاهرها بمجرد الشك. ومنها: من [كان] 4 له كفان عاملتان أو غير عاملتين فبأيهما مس انتقض وضوءه ومع الشك في أنها أصلية أو زائدة لا تنقض. ولهذا لو كانت إحداهما عاملة فقط انتقض بها وحدها على الصحيح5.
فإن قلت: أيصح أن ينضم إلى هذه المسأئل النوم فإنه يرفع يقين الطهر وليس في
__________
1 سقط من أوالمثبت من ب.
2 الحسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد الإصطخري شيخ الشافعية ببغداد ومن أكابر أصحاب الوجوه في المذهب صنف كتابا حسنا في أدب القضاء. توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
طبقات السبكي 2/ 193، وفيات الأعيان 1/ 375، وطبقات ابن قاضي شبهة 1/ 109.
3 أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي شيخ الإسلام ومدار العلماء الأعلام في زمانه أول أهل الزمان وأكثر الأئمة اشتغالا بالعلم، ولد بفيروزآباد قربة من قرى شيراز في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ونشأ بها وصنف المصنفات القيمة وتوفي بها يوم الأربعاء الحادي والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وأربعمائة. وفيات الأعيان 1/ 9، والبداية والنهاية 12/ 124، النجوم الزاهرة 5/ 117، ابن السبكي 4/ 215، ابن هداية الله ص170
4 سقط من ب.
5 الأشباه والنظائر ص82.
(1/31)
 
 
نفسه حدثا: قلت: لا؛ لأنه وإن لم يكن في نفسه حدثا، ولكنه مظنة الحدث، والشارع أقام المظنة، مقام المظنون فليس من هذا الباب.
ومنها: من صلى في مقبرة شك أنها منبوشة فإنه لا يصح على الوجه وعلى هذا تراك أصل عدم النبش بمجرد الشك، لكن الصحيح الصحة.
ومنها: ادعى الغاصب تلف المغصوب صدق بيمينه على الصحيح عند الرافعي1 والنووي2 والشيخ الإمام رحمهم الله3 تعالى قالوا: وإلا؛ لتخلد الحبس عليه إذا كان صادقا وعجز عن البينة.
والثاني: يصدق المالك؛ لأن الأصل البقاء4 قالوا وقل من يقول هذا الوجه قلت: فعلى ما صححه المشايخ –رفع اليقين بمجرد الشك خشية الوقوع في مفسدة تخلد الحبس على غير مستحقه. وهذا عندي مشكل ودعواهم تخلد الحبس ممنوعة بأخذ القيمة للحيلولة. ثم لا حبس.
فصل:
مما يتشبث بأذيال تعارض الأصل والظاهر قاعدة يخلطها الأصحاب بها؛ لتقارب مسائلهما. وهي: "إذا تعارض أصلان جرى غالبا قولان"5.
قال الإمام في النهاية قبيل باب عتق العبيد: لا يخرجون من الثلث ولا ينبغي أن يعتقد الإنسان أن المعنى بتقابل الأصلين تعارضهما على وزن واحد في الترجيح، فإن هذا كلام متناقض إذا كنا نفتي –لا محالة- بأحد القولين إلى أن قال: نعم، من حكم تقابل الأصلين أنه يدقق النظر في محاولة ترجيح جانب على جانب6.
__________
1 الشرح الكبير 11/ 286.
2 روضة الطالبين 5/ 28.
3 فعلى الصحيح إذا حلف الغاصب؛ هل للمالك تغريمه المثل أو القيمة؟ وجهان: أصحهما: نعم. المصدر السابق.
4 المصدر السابق.
5 الأشباه والنظائر ص75، المنثور 1/ 330.
6 قال صاحب الذخائر في باب زكاة الفطر: وعلى المجتهد ترجيح أحدهما بوجه من وجوه النظر فلا يظن أن تقابل الأصلين يمنع المجتهد من إخراج الحكم؛ إذ لو كان كذلك لخلت الواقعة عن حكم الله تعالى وهو لا يجوز.
(1/32)
 
 
ذكره في مسألة ما إذا ادعى الغارم نقيضه تنقض القيمة بسببها وأنكر الطالب.
حيث قال: فإن قال الغارم: كان عبدا سليما ولكن غاب قبل أن أعتق نصيبي منه ففي تصديقه قولان.
ولو لم يسلم الغارم السلامة الخلقية، بل قال: خلق أكمه أو بفرد عين، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الغارم يصدق إلى أن قال: وإذا لم يسلم الغارم السلامة، فهذا يخرج عن قبيل تقابل الأصلين، وإن تكلف متكلف وقال: الأصل في الناس السلامة كان مستبعدا. انتهى.
وما ذكره من تعارض الأصل يجري في تعارض الأصل والظاهر.
والحاصل أن التعارض -يكون- بحيث يدقق النظر، لا كأصل بعيد من أصل قريب، ولا مع ظاهر قوي، ثم لا ينبغي أن يكونا على حد سواء وإلا لفقد الترجيح بل يكون التعارض بحيث يتخيل الناظر في ابتداء نظرة تساويهما ثم دقق نظره وحقق فكره رجح.
وإذا حقق هذا. ظهر الجواب عن كل موضع لا يجري الخلاف فيه.
ولنعد ما يحضرنا من تقابل الأصلين. وذلك في مسائل:
منها: إذا شك في وقت خروج الجمعة، فالأصح يتم جمعه أخذا بالأصل القريب وهو بقاء الوقف، دون البعيد، وهو الظهر.
وبهذا يظهر الجواب من عدها مم يرفع فيه الشك1.
ومنها: إذا أصدقها تعليم بعض القرآن، ووجدناها تحسنه فقال: أنا علمتها وأنكرت، فقولان؛ لأن الأصل بقاء الصداق وبراءة ذمته2.
ومنها: إذا شككنا فيما أصاب من دم البراغيث، أقليل هو أم كثير؟ فللإمام احتمالان؛ لأن الأصل اجتناب النجاسة والأصل في هذه النجاسة العفو3.
واحتمالا الإمام هذان يشبهان احتماليه فيما إذا وقعت نجاسة في الماء وشك أكثير هو أم قليل، هل ينجس؟
__________
1 المنثور 1/ 330.
2 والأصح تصديقها.
3 وقد رجح في أصل الروضة أن له حكم القليل.
(1/33)
 
 
والذي جزم به صاحب الحاوي وآخرون أنه ينحبس، ولتحقق النجاسة والأصل عدم الكثرة. ورجح النووي أنه طاهر1؛ لأن الأصل الطهارة، وقد شككنا في نجاسة منجسه.
قال: ولا يلزم من النجاسة ا