الإمام في بيان أدلة الأحكام

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الإمام في بيان أدلة الأحكام
المؤلف: أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء (المتوفى: 660هـ)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الْحَافِظ الْمُجْتَهد الشَّيْخ عز الدّين ابْن عبد السَّلَام رَحمَه الله هَذَا بَيَان لأدلة الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِالْمَلَائِكَةِ وَالْمُرْسلِينَ وَسَائِر الْعَالمين وَالْأَحْكَام ضَرْبَان
أَحدهمَا مَا كَانَ طلبا لِاكْتِسَابِ فعل أَو تَركه
وَالثَّانِي مَا لَا طلب فِيهِ كالإباحة وَنصب الْأَسْبَاب
(1/75)
 
 
والشرائط والموانع وَالصِّحَّة وَالْفساد وَضرب الْآجَال
(1/76)
 
 
وَتَقْدِير الْأَوْقَات وَالْحكم بِالْقضَاءِ وَالْأَدَاء والتوسعة والتضييق وَالتَّعْيِين والتخيير وَنَحْو ذَلِك من الْأَحْكَام الوضعية الخبرية
ثمَّ لَا يتَعَلَّق طلب وَلَا تَخْيِير إِلَّا بِفعل كسبي وَلَا يمدح الشَّرْع شَيْئا من أَفعَال وَلَا يذمه وَلَا يمدح فَاعله وَلَا يذمه وَلَا يوبخ عَلَيْهِ وَلَا يُنكره وَلَا يعد عَلَيْهِ بِثَوَاب وَلَا عِقَاب إِلَّا أَن يكون كسبيا
(1/77)
 
 
فَإِن علق شَيْء من ذَلِك بِفعل جبلي كَانَ مُتَعَلقا بآثاره كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن فِيك لخصلتين يحبهما الله الْحلم والأناة
وَقد تذكر الْأَوْصَاف الْخَمْسَة الجبلية فِي معرض الامتنان كَقَوْلِه تَعَالَى {فَأحْسن صوركُمْ} وَقَوله {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم} وَأما الحكم الوضعي فَيجوز أَن يعلق بِسَبَب كسبي كنصب الزِّنَا أَو السّرقَة سَببا للحد وَالْقطع وكنصب الْقَتْل سَببا للْقصَاص
(1/78)
 
 
وَيجوز أَن يعلق بِمَا لَيْسَ بكسبي كنصب الزَّوَال سَببا لإِيجَاب الظّهْر وَالصُّبْح سَببا لإِيجَاب الْفجْر ورؤية الْهلَال لإِيجَاب الصّيام وَجل الْأَحْكَام فِي هَذَا الْكتاب على بَيَان أَدِلَّة مَا فِيهِ طلب أَو تَخْيِير
ويستدل على الْأَحْكَام تَارَة بالصيغة وَتارَة بالأخبار وَتارَة بِمَا
(1/79)
 
 
رتب عَلَيْهَا فِي العاجل والآجل من خير أَو شَرّ أَو ضرّ
وَقد نوع الشَّارِع ذَلِك أنواعا كَثِيرَة ترغيبا لِعِبَادِهِ وترهيبا وتقريبا إِلَى أفهامهم فَتَارَة يرغب فِي الْفِعْل يمدحه أَو يمدح فَاعله أَو بِمَا رتبه على الْفِعْل من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَتارَة يحذر من الْفِعْل بِذِمَّة أَو ذمّ فَاعله أَو توعده على الْفِعْل بشر عَاجل أَو أجل وكل ذَلِك رَاجع إِلَى الْمَنَافِع والمضار
لَكِن ذكر أَنْوَاع الْمَنَافِع والمضار ليعلم عباده مَا هم صائرون إِلَيْهِ من أَنْوَاع بره وإنعامه أَو من أَنْوَاع تعذيبه وانتقامه فَإِنَّهُ لَو اقْتصر على ذَلِك النَّفْع والضر لما أنبأ عَمَّا ينبىء عَنهُ لفظ الْمحبَّة والبغض وَلَفظ الرِّضَا والسخط والتقريب والإبعاد والشقاوة والإسعاد فَإِن اللَّذَّة والألم تَتَفَاوَت بِهَذِهِ الْأَسْبَاب تَفَاوتا شَدِيدا ولهذه الْأَوْصَاف آثَار لَا يخفى تفاوتها على
(1/80)
 
 
أحد فَلذَلِك عول إِلَيْهَا ليقف عباده على درجاتهم ودركاتهم من عَالم خفياتهم فسبحان من رتب خير الدَّاريْنِ على مَعْرفَته وطاعته وَشر الدَّاريْنِ على معصيتة ومخالفته {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين}
ثمَّ أَدِلَّة الْأَحْكَام ضَرْبَان
أَحدهمَا لَفْظِي يدل بالصيغة تَارَة وبلفظ الْخَبَر أُخْرَى
(1/81)
 
 
وَالثَّانِي معنوي يدل دلَالَة لُزُوم إِمَّا بِوَاسِطَة وَإِمَّا بِغَيْر وَاسِطَة
فَكل فعل طلبه الشَّارِع أَو أخبر عَن طلبه أَو مدحه أَو مدح فَاعله لأَجله أَو نَصبه سَببا لخير عَاجل أَو أجل فَهُوَ مَأْمُور بِهِ وكل فعل طلب الشَّارِع تَركه أَو أخبر أَنه طلب تَركه أَو ذمه أَو ذمّ فَاعله لأَجله أَو نَصبه سَببا لشر عَاجل أَو أجل فَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ
وكل فعل خير الشَّارِع فِيهِ مَعَ اسْتِوَاء طَرفَيْهِ أَو أخبر عَن تِلْكَ التَّسْوِيَة فَهُوَ مُبَاح
(1/82)
 
 
ويتصرم عرض هَذَا الْكَلَام بِعشْرَة فُصُول
(1/83)
 
 
الْفَصْل الأول
فِي الدّلَالَة اللفظية
أما الصيغية فكقوله تَعَالَى {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا} فَخُذُوا أَمر وكلوا وَاشْرَبُوا إِبَاحَة وَلَا تسرفوا نهي {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابطُوا} {ارْكَعُوا واسجدوا واعبدوا} {وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا} {وَلَا تجسسوا وَلَا يغتب بَعْضكُم بَعْضًا} {كلوا مِمَّا رزقكم الله}
(1/85)
 
 
{كلوا مِمَّا فِي الأَرْض} {وَإِذا حللتم فاصطادوا}
وَمِثَال الْخَبَر عَن الْإِبَاحَة {أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه} {أحل لكم الطَّيِّبَات} {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات}
فَائِدَة
تمنن الرب بِمَا خلق فِي الْأَعْيَان من الْمَنَافِع يدل على الْإِبَاحَة دلَالَة عرفية إِذْ لَا يَصح التمنن بممنوع مِثَاله كَقَوْلِه تَعَالَى {وَتحمل أثقالكم} {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين} {يخرج من بطونها شراب مُخْتَلف ألوانه فِيهِ شِفَاء للنَّاس} {وبالنجم هم يَهْتَدُونَ}
(1/86)
 
 
الْفَصْل الثَّانِي
فِي تقريب أَنْوَاع أَدِلَّة الْأَمر
كل فعل كسبي عظمه الشَّرْع أَو مدحه أَو مدح فَاعله لأَجله أَو فَرح بِهِ أَو أحبه أَو أهب فَاعله أَو رَضِي بِهِ أَو رَضِي عَن فَاعله أَو وَصفه بالاستقامة أَو الْبركَة أَو الطّيب أَو أقسم بِهِ أَو بفاعله أَو نَصبه سَببا لمحبته أَو لثواب عَاجل أَو آجل أَو نَصبه سَببا لذكره أَو لشكره أَو لهداية أَو لإرضاء فَاعله أَو لمغفرة ذَنبه أَو لتكفيره أَو لقبوله أَو لنصرة فَاعله أَو بشارته أَو وصف فَاعله بالطيب أَو وَصفه بِكَوْنِهِ مَعْرُوفا أَو نقي الْحزن وَالْخَوْف عَن فَاعله أَو وعده بالأمن أَو نَصبه سَببا لولاية الله تَعَالَى أَو وصف فَاعله بالهداية أَو وَصفه بِصفة مدح كالحياة والنور والشفاء أَو دَعَا الله بِهِ الْأَنْبِيَاء فَهُوَ مَأْمُور بِهِ
فَنَذْكُر بعض أَمْثِلَة هَذِه الْأَنْوَاع وَهِي ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ مِثَالا
(1/87)
 
 
الْمِثَال الأول تَعْظِيم الْفِعْل وتوقيره {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} {هِيَ أَشد وطأ وأقوم قيلا} وَكَذَلِكَ الإتسام بِالْفِعْلِ وَضرب من تَعْظِيمه وتوقيره {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم}
الْمِثَال الثَّانِي مدح الْفِعْل {إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} {ذَلِكُم خير لكم} {ذَلِكُم أزكى لكم وأطهر} {وَمن أحسن دينا} {وَمن أحسن قولا} {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} {إِن ذَلِك لمن عزم الْأُمُور} {وَيُؤْت كل ذِي فضل فَضله}
الْمِثَال الثَّالِث مدح الْفَاعِل {أُولَئِكَ هم المفلحون} {وَأُولَئِكَ هم المهتدون}
(1/88)
 
 
{أُولَئِكَ هم الراشدون} {نعم العَبْد إِنَّه أواب} {أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة} {وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب}
الْمِثَال الرَّابِع الْفَرح بِالْفِعْلِ لله أفرح بتوبة أحدكُم من أحدكُم بضالته إِذا وجدهَا
الْمِثَال الْخَامِس حب الْفِعْل إِن الله يحب أَن تُؤْتى رخصه كَمَا يجب أَن تُؤْتى عَزَائِمه وَلَا أحد أحب إِلَيْهِ الْمَدْح من الله عز وَجل لَا أحد
(1/89)
 
 
أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأشج عبد الْقَيْس إِن فِيك لخصلتين يحبهما الله الْحلم والأناة
وَقَوله إِنَّك عَفْو تحب الْعَفو أَي يحب أَن يعْفُو بَعْضنَا عَن بعض
(1/90)
 
 
السَّادِس حب الْفَاعِل {إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} {يحب الْمُتَّقِينَ} يحب الصابرين {يحب الْمُحْسِنِينَ} {يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا}
السَّابِع الرِّضَا بِالْفِعْلِ {ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} {وَإِن تشكروا يرضه لكم} {وَرَضي لَهُ قولا} {وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم} {وَأَن أعمل صَالحا ترضاه}
الثَّامِن الرِّضَا عَن الْفَاعِل {رَضِي الله عَنْهُم} {يبشرهم رَبهم برحمة مِنْهُ ورضوان} {ورضوان من الله أكبر}
التَّاسِع رضَا الْفَاعِل عَن ربه {وَرَضوا عَنهُ} {لَعَلَّك ترْضى}
(1/91)
 
 
{عيشة راضية}
الْعَاشِر وصف الْفِعْل بالاستقامة {الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} {ذَلِك الدّين الْقيم} {لَكَانَ خيرا لَهُم وأقوم} {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} {دينا قيمًا} {ثمَّ استقاموا} {وَذَلِكَ دين الْقيمَة}
الْحَادِي عشر وصف الْفِعْل بِالْبركَةِ {تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة} التَّحِيَّات المباركات الطَّيِّبَات لله
(1/92)
 
 
الثَّانِي عشر وصف الْفِعْل بِكَوْنِهِ قربَة {ويتخذ مَا ينْفق قربات عِنْد الله وصلوات الرَّسُول أَلا إِنَّهَا قربَة لَهُم} {واسجد واقترب} وَمن تقرب إِلَى شبْرًا تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا
الثَّالِث عشر وصف الْفَاعِل بالتقريب {أُولَئِكَ المقربون} {عينا يشرب بهَا المقربون} {عِنْد مليك مقتدر} {لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم} أَنا جليس من ذَكرنِي
(1/93)
 
 
الرَّابِع عشر وصف الْفِعْل بالطيب {وهدوا إِلَى الطّيب من القَوْل} {مثلا كلمة طيبَة} {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} طبت وطاب ممشاك التَّحِيَّات المباركات الطَّيِّبَات لله
الْخَامِس عشر وصف الْفَاعِل بالطيب {قل لَا يَسْتَوِي الْخَبيث وَالطّيب} {ليميز الله الْخَبيث من الطّيب} {تتوفاهم الْمَلَائِكَة طيبين} {سَلام عَلَيْكُم طبتم}
السَّادِس عشر الْقسم بالفاعل {وَالصَّافَّات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا} {فَالْمُقَسِّمَات أمرا} {والمرسلات عرفا} إِن جَعَلْنَاهُ لجَماعَة الرُّسُل أَو الْمَلَائِكَة {وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة}
(1/94)
 
 
أقسم بِنَفس الْمُؤمن لِكَثْرَة لومها إِيَّاه فِي ذَات الله تَعَالَى والإقسام بخيل الْمُجَاهدين فِي قَوْله {وَالْعَادِيات ضَبْحًا} تَنْبِيه على تَعْظِيم الْمُجَاهدين وتوقيرهم بطرِيق الأولى
السَّابِع عشر الْقسم بِالْفِعْلِ كَقَوْلِه {وَالْفَجْر وليال عشر وَالشَّفْع وَالْوتر}
(1/95)
 
 
إِن حمل على الصَّلَوَات فَإِنَّهُ يرجع إِلَى تَعْظِيم الْفِعْل فَإِنَّهُم لَا يقسمون إِلَّا بِمَا يحترمون ويعظمون
الثَّامِن عشر نصب الْفِعْل سَببا لمحبة الله تَعَالَى {فَاتبعُوني يحببكم الله} وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل حَتَّى أحبه {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَفِيه نظر
التَّاسِع عشر نصب الْفِعْل سَببا لثواب عَاجل {فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا} {وَآتَيْنَاهُ أجره فِي الدُّنْيَا} {وأثابهم فتحا قَرِيبا ومغانم كَثِيرَة يأخذونها} {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض} {وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم}
(1/96)
 
 
{للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة} {وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا} {إِن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة} {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} {سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا} كَمَا فِي الحَدِيث إِن الله إِذا أحب عبدا نَادَى جِبْرِيل أَنِّي أحب فلَانا فَأَحبهُ فَيُحِبهُ جِبْرِيل ثمَّ يُنَادي فِي السَّمَاء إِن الله قد أحب فلَانا فَأَحبُّوهُ فَيُحِبهُ أهل السَّمَاء ثمَّ يوضع لَهُ الْقبُول فِي الأَرْض {من عمل صَالحا من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فلنحيينه حَيَاة طيبَة} على أحد الْأَقْوَال {آتيناه حكما وعلما وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ}
(1/97)
 
 
{يمتعكم مَتَاعا حسنا إِلَى أجل مُسَمّى} {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم} {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين} {يغْفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى} إِن الله لَا يظلم الْمُؤمن من حَسَنَاته شَيْئا يعْطى بهَا فِي الدُّنْيَا ويثاب بهَا فِي الْآخِرَة
الْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لثواب آجل وَهُوَ أَكثر وعود الْقُرْآن {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} {وَإِن تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْت من لَدنه أجرا عَظِيما} {فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله} {جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة} {وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما}
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لذكر الله تَعَالَى {فاذكروني أذكركم}
(1/98)
 
 
{وَلذكر الله أكبر} أَي وَلذكر الله إيَّاكُمْ أكبر من ذكركُمْ إِيَّاه من ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي وَمن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُم وَأكْثر
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لشكر الله عز وَجل {وَمن تطوع خيرا فَإِن الله شَاكر عليم} {وَكَانَ الله شاكرا عليما} {إِن رَبنَا لغَفُور شكور}
الثَّالِث وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا للهداية {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا} {إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا} أَي هِدَايَة تفرقون بهَا بَين الْحق وَالْبَاطِل {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} {ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا}
(1/99)
 
 
{يهْدِيهم رَبهم بإيمَانهمْ} {فسيدخلهم فِي رَحْمَة مِنْهُ وَفضل ويهديهم إِلَيْهِ صراطا مُسْتَقِيمًا}
الرَّابِع وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لمغفرة الخطيئات وتكفير السَّيِّئَات {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} {وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم وَيكفر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ} {وَمن يتق الله يكفر عَنهُ سيئاته} {فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة ورزق كريم} من حج هَذَا الْبَيْت فَلم يرْفث وَلم يفسق خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا} دخل فِيهِ مَا تَركه كَبِيرَة من المأمورات وَالصَّلَاة إِلَى الصَّلَاة كَفَّارَة لما بَينهمَا مَا اجْتنبت الْكَبَائِر
(1/100)
 
 
الْخَامِس وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لإِصْلَاح الْعَمَل {اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا يصلح لكم أَعمالكُم وَيغْفر لكم ذنوبكم} {لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا} جعل الله الْعَمَل سَببا للتثبيت
السَّادِس وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لقبُول الْعَمَل {أُولَئِكَ الَّذين نتقبل عَنْهُم أحسن مَا عمِلُوا} {فتقبلها رَبهَا بِقبُول حسن} {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} {فَتقبل من أَحدهمَا}
السَّابِع وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لمعونة الْفَاعِل ونصرته {أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} {إِن الله مَعَ الصابرين} {ولينصرن الله من ينصره} {إِن تنصرُوا الله ينصركم}
الثَّامِن وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا للبشارة {وَبشر الْمُؤمنِينَ} {وَبشر الصابرين} {وَبشر الْمُحْسِنِينَ} {وَبشر الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} {يبشرهم رَبهم برحمة مِنْهُ ورضوان}
(1/101)
 
 
{لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} {بشراكم الْيَوْم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار}
التَّاسِع وَالْعشْرُونَ وصف الْفِعْل بِكَوْنِهِ مَعْرُوفا فِي الْأَصْنَاف {قَول مَعْرُوف ومغفرة خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى} {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ} {تأمرون بِالْمَعْرُوفِ} {وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} {ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ}
الثَّلَاثُونَ نفي الْحزن وَالْخَوْف عَن الْفَاعِل {فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} {أَلا تخافوا وَلَا تحزنوا} {فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما}
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ الْوَعْد بأمن الْآخِرَة {ادخلوها بِسَلام آمِنين} {يدعونَ فِيهَا بِكُل فَاكِهَة آمِنين} {وهم فِي الغرفات آمنون} {أم من يَأْتِي آمنا يَوْم الْقِيَامَة} {أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن} فِيهِ نظر
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ دُعَاء الْأَنْبِيَاء بِالْفِعْلِ {توفني مُسلما وألحقني بالصالحين}
(1/102)
 
 
{رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك وأرنا مناسكنا وَتب علينا}
الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ نصب الْفِعْل سَببا لولاية الله تَعَالَى {الله ولي الَّذين آمنُوا} {وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين} {وَهُوَ وليهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} وَقد يتَعَلَّق بعض هَذِه الْأَدِلَّة باجتناب الْحَرَام كَقَوْلِه {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} فَإِنَّهُ مدحهم باجتناب الْمحرم كَمَا مدحهم بِفعل الْوَاجِب وَلذَلِك مدحهم بقوله {وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش} وكل هَذِه الْأَدِلَّة عَائِدَة إِلَى الْمَدْح والوعد وَلَكِن لما اخْتلفت أَنْوَاع الوعود والمدائح عددت هَذِه الْأَنْوَاع لينْتَفع بهَا المتدرب فِي مضانها
(1/103)
 
 
{بالصالحين} {رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك وأرنا مناسكنا وَتب علينا}
الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ نصب الْفِعْل سَببا لولاية الله تَعَالَى {الله ولي الَّذين آمنُوا} {وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين} {وَهُوَ وليهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} وَقد يتَعَلَّق بعض هَذِه الْأَدِلَّة باجتناب الْحَرَام كَقَوْلِه {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} فَإِنَّهُ مدحهم باجتناب الْمحرم كَمَا مدحهم بِفعل الْوَاجِب وَلذَلِك مدحهم بقوله {وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش} وكل هَذِه الْأَدِلَّة عَائِدَة إِلَى الْمَدْح والوعد وَلَكِن لما اخْتلفت أَنْوَاع الوعود والمدائح عددت هَذِه الْأَنْوَاع لينْتَفع بهَا المتدرب فِي مضانها
(1/104)
 
 
الْفَصْل الثَّالِث
فِي تقريب أَنْوَاع الْأَدِلَّة
النَّهْي عَن كل فعل كسبي طلب الشَّارِع تَركه أَو عتب على فعله أَو ذمه أَو ذمّ فَاعله لأَجله أَو مقنه أَو مقته فَاعله لأَجله أَو نفى محبته إِيَّاه أَو محبَّة فَاعله أَو نفى الرِّضَا بِهِ أَو نفى الرِّضَا عَن فَاعله أَو شبه فَاعله بالبهائم أَو الشَّيَاطِين أَو نَصبه مَانِعا من الْهدى أَو من الْقبُول أَو وَصفه بِسوء أَو كَرَاهَة أَو استعاذ الْأَنْبِيَاء مِنْهُ أَو بغضوه أَو نصب سَببا لنفي الْفَلاح أَو لعذاب عَاجل أَو آجل أَو لذم أَو لوم أَو لضلالة أَو مَعْصِيّة أَو وصف بخبث أَو رِجْس أَو نجس أَو بِكَوْنِهِ إِثْمًا أَو فسقا أَو سَببا لإثم أَو زجر أَو لعن أَو غضب أَو زَوَال نعْمَة أَو حُلُول نقمة أَو حد من الْحُدُود أَو لارتهان النُّفُوس أَو لقسوة أَو خزي عَاجل أَو آجل أَو لتوبيخ عَاجل أَو آجل أَو لعداوة الله تَعَالَى أَو محاربته أَو لاستهزائه
(1/105)
 
 
وسخريته أَو جعله الرب سَببا لنسيانه أَو وصف نَفسه بِالصبرِ عَلَيْهِ أَو بالحلم أَو بالصفح عَنهُ أَو الْعَفو عَنهُ أَو الْمَغْفِرَة لفَاعِله أَو التَّوْبَة مِنْهُ فِي أَكثر الْمَوَاضِع أَو وصف فَاعله بخبث أَو احتقار أَو نسبه إِلَى عمل الشَّيْطَان أَو تزيينه أَو تولي الشَّيْطَان فَاعله أَو وَصفه بِصفة ذمّ كالظلمة وَالْمَرَض وتبرأ الْأَنْبِيَاء مِنْهُ أَو من فَاعله أَو شكوا إِلَى الله من فَاعله أَو جاهروا فَاعله بِالْبَرَاءَةِ والعداوة أَو نهي الْأَنْبِيَاء عَن الأسى والحزن على فَاعله أَو نصب سَببا لخيبة عاجلة أَو آجلة أَو رتب عَلَيْهِ حرمَان الْجنَّة وَمَا فِيهَا أَو وصف فَاعله بِأَنَّهُ عَدو الله أَو بِأَن الله عدوه أَو حمل فَاعله إِثْم غَيره أَو يُلَاعن فاعلوه فِي الْآخِرَة أَو تَبرأ بَعضهم من بعض أَو دَعَا بَعضهم على بعض أَو وصف فَاعله بالضلالة أَو سُئِلَ فَاعله عَن علته فِي غَالب الْأَمر بعرف الِاسْتِعْمَال أَو نهي الْأَنْبِيَاء عَن الدُّعَاء لفَاعِله أَو رتب عَلَيْهِ إبعاد أَو طرد أَو لفظ قتل أَو وصف الرب نَفسه بالغيرة مِنْهُ فَكل ذَلِك مَنْهِيّ عَنهُ وكل ذَلِك رَاجع إِلَى الذَّم والوعيد وَلكنه نوع ليَكُون ذكر أَنْوَاعه أبلغ فِي الزّجر فَنَذْكُر نبذة من أَمْثِلَة هَذِه الْأَنْوَاع وَهِي سَبْعَة
(1/106)
 
 
وَأَرْبَعُونَ مِثَالا
الأول العتب على الْفَاعِل {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ} إِلَى قَوْله {وَالله أَحَق أَن تخشاه} {لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك} {عبس وَتَوَلَّى} إِلَى قَوْله {كلا}
الثَّانِي ذمّ الْفِعْل {لبئس مَا كَانُوا يصنعون} {سَاءَ مَا يحكمون} {لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا} {ونجيناه من الْقرْيَة الَّتِي كَانَت تعْمل الْخَبَائِث} {وَمثل كلمة خبيثة} {ولبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم} {بئْسَمَا خلفتموني من بعدِي}
الثَّالِث ذمّ الْفَاعِل {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم} {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الَّذين كفرُوا} {فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} {وَأُولَئِكَ هم المعتدون} {أَلا إِنَّهُم هم المفسدون} {أُولَئِكَ هم شَرّ الْبَريَّة} {وَمن يكن الشَّيْطَان لَهُ قرينا فسَاء قرينا} {يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين}
(1/107)
 
 
{إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فاسقين}
الرَّابِع مقت الْفِعْل {إِنَّه كَانَ فَاحِشَة ومقتا} {كبر مقتا عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا} {كبر مقتا عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
الْخَامِس مقت الْفَاعِل {ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أَنفسكُم}
السَّادِس نفي محبَّة الْفِعْل {وَالله لَا يحب الْفساد} {لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل}
السَّابِع نفي محبَّة الْفَاعِل {لَا يحب المفسدين} {لَا يحب الْكَافرين} {لَا يحب الخائنين} {لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} {لَا يحب من كَانَ خوانًا أَثِيمًا} {لَا يحب كل مختال فخور}
الثَّامِن نفي الرِّضَا بِالْفِعْلِ {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر}
(1/108)
 
 
التَّاسِع نفي الرِّضَا عَن الْفَاعِل فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين
الْعَاشِر تَشْبِيه الْفَاعِل بالبهائم أَو الشَّيَاطِين أَو الْكَفَرَة {فَمثله كَمثل الْكَلْب} {إِن هم إِلَّا كالأنعام} {كَمثل الْحمار يحمل أسفارا} {كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة} {إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين} {إِنَّكُم إِذا مثلهم} {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم}
الْحَادِي عشر نصب الْفِعْل سَببا لحرمان الْهدى {لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين} لما يرشدهم إِلَيْهِ ويقربهم مِنْهُ {لم يكن الله ليغفر لَهُم وَلَا ليهديهم طَرِيقا إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم} {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون} أَي عَن فهم آياتي أَو تدبر آياتي
الثَّانِي عشر نصب الْفِعْل سَببا لحرمان الْقبُول {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} {لن تقبل تَوْبَتهمْ} {وَمَا مَنعهم أَن تقبل مِنْهُم نفقاتهم إِلَّا أَنهم كفرُوا بِاللَّه}
(1/109)
 
 
{فَلَنْ يقبل من أحدهم ملْء الأَرْض ذَهَبا وَلَو افتدى بِهِ} {قل أَنْفقُوا طَوْعًا أَو كرها لن يتَقَبَّل مِنْكُم}
الثَّالِث عشر وصف الْفِعْل بالسوء وَالْكَرَاهَة {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} {وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات} {وَيكفر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ} وَفِي الحَدِيث وَيكرهُ لكم ثَلَاثًا قيل وَقَالَ وَكَثْرَة السُّؤَال وإضاعة المَال
الرَّابِع عشر إستعاذة الْأَنْبِيَاء من الْفِعْل {أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين} {أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم} أَي مَسْأَلَة {معَاذ الله أَن نَأْخُذ إِلَّا من وجدنَا متاعنا عِنْده} وَفِي الحَدِيث وَأَعُوذ بك أَن أزل أَو أضلّ أَو أظلم أَو أظلم أَو أَجْهَل أَو يجهل عَليّ استعاذوا من المخالفات كَمَا استعاذوا من البليات
(1/110)
 
 
الْخَامِس عشر إبغاص الْأَنْبِيَاء للْفِعْل وكراهتهم لَهُ {قَالَ إِنِّي لعملكم من القالين} {قَالَ أولو كُنَّا كارهين}
السَّادِس عشر نصب الْفِعْل سَببا لنفي الْفَلاح {إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ} {إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ} {إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون} {وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى} وَفِي الحَدِيث لن يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة
السَّابِع عشر نصب الْفِعْل سَببا لعذاب عَاجل {فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ} {فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ} {فَكَذبُوهُ فأهلكناهم} {فَأَصْبحُوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم} {لَهُم عَذَاب فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا}
(1/111)
 
 
{ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى} {يعذبهم الله عذَابا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} {وأتبعوا فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة} {فأذاقهم الله الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} {سينالهم غضب من رَبهم وذلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} {ضربت عَلَيْهِم الذلة أَيْن مَا ثقفوا} الْآيَة {وَلَكِن كذبُوا فأخذناهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} {لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي} {سنلقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب بِمَا أشركوا بِاللَّه} {فأثابكم غما بغم} {فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين} {فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} {فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما بعثنَا عَلَيْكُم عبادا لنا} {فَإِن لَهُ معيشة ضنكا} {فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم} {وعَلى الَّذين هادوا حرمنا كل ذِي ظفر وَمن الْبَقر وَالْغنم حرمنا عَلَيْهِم شحومهما} إِلَى قَوْله {ذَلِك جزيناهم ببغيهم} {مِمَّا خطيئاتهم أغرقوا}
الثَّامِن عشر نصب الْفِعْل سَببا لعذاب آجل وَهُوَ أَكثر وَعِيد الْقُرْآن
(1/112)
 
 
{إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا} {فَسَوف نصليه نَارا} {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم} إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم
التَّاسِع عشر نصب الْفِعْل سَببا لذم أَو لوم {فتقعد مذموما مخذولا} {فتقعد ملوما محسورا} فَتلقى فِي جَهَنَّم ملوما مَدْحُورًا {فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم وَهُوَ مليم} {فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} {اخْرُج مِنْهَا مذؤوما مَدْحُورًا}
الْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لمعصية أَو ضَلَالَة {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم} {كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} {إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان بِبَعْض مَا كسبوا} {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} {بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم} {فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم إِلَى يَوْم يلقونه بِمَا أخْلفُوا الله مَا وعدوه وَبِمَا كَانُوا يكذبُون}
(1/113)
 
 
{وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون} {فانسلخ مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين} {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} {لَا يزَال بنيانهم الَّذِي بنوا رِيبَة فِي قُلُوبهم} {ثمَّ انصرفوا صرف الله قُلُوبهم بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} {وَالله أركسهم بِمَا كسبوا} {وقيضنا لَهُم قرناء فزينوا لَهُم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم}
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ وصف الْفِعْل بالرجس أَو الْخبث {رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ} {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس} {الخبيثات للخبيثين} {ونجيناه من الْقرْيَة الَّتِي كَانَت تعْمل الْخَبَائِث} {وَمثل كلمة خبيثة}
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ وصف الْفَاعِل بِأَنَّهُ رِجْس أَو نجس {فأعرضوا عَنْهُم إِنَّهُم رِجْس} {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس}
(1/114)
 
 
الثَّالِث وَالْعشْرُونَ وصف الْفِعْل بِكَوْنِهِ فسقا {فَإِنَّهُ فسوق} {أَو فسقا أهل لغير الله بِهِ} فِيهِ نظر لِأَن الْفسق هَاهُنَا صفة للمهل بِهِ لَكِن يجوز أَن يقدر أَو ذَا فسق أهل لغير الله بِهِ فَحذف الْمُضَاف {وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان}
الرَّابِع وَالْعشْرُونَ وصف الْفِعْل بِكَوْنِهِ إِثْمًا أَو سَبَب إِثْمًا {وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه} {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} {تظاهرون عَلَيْهِم بالإثم والعدوان} {وَمن يكْسب خَطِيئَة أَو إِثْمًا} {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم} {فيهمَا إِثْم كَبِير}
الْخَامِس وَالْعشْرُونَ وصف الْفِعْل بِأَنَّهُ سَبَب رِجْس أَو لعن أَو غضب {قَالَ قد وَقع عَلَيْكُم من ربكُم رِجْس وَغَضب} {فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم} {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه} {كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس على الَّذين لَا يُؤمنُونَ}
(1/115)
 
 
السَّادِس وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لزوَال نعْمَة أَو حُلُول نقمة {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} {فأعرضوا فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم} {فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ} {فَأَصْبَحت كالصريم} {فَأَصْبحُوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم}
السَّابِع وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لحد {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا} الْآيَة {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} 10 {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} 11 {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} 12 {واللذان يأتيانها مِنْكُم فآذوهما}
(1/116)
 
 
الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ
(1/117)
 
 
الثَّامِن وَالْعشْرُونَ نصب الْفِعْل سَببا لارتهان النُّفُوس {كل نفس بِمَا كسبت رهينة} {كل امْرِئ بِمَا كسب رهين}
التَّاسِع وَالْعشْرُونَ الذَّم بالقسوة وَنصب الْفِعْل سَببا لقسوة أَو لخزي {فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية} 6 {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك} 7 {فطال عَلَيْهِم الأمد فقست قُلُوبهم} 8 {فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله} 9 {فأذاقهم الله الخزي} 10 {ذَلِك الخزي الْعَظِيم} 11 {وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت} الْآيَة 12
الثَّلَاثُونَ التوبيح على الْفِعْل عَاجلا أم آجلا {أتعبدون مَا تنحتون} 14 {أتأتون الذكران من الْعَالمين} {أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون} 16 {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} 17 {أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بهَا}
(1/118)
 
 
{ألم يأتكم رسل مِنْكُم} {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ نصب الْفِعْل سَببا لعداوة الله ومحاربته {فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ} 5 {فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله} 6
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ نَصبه سَببا لسخرية الله ونسيانه واستهزائه {الله يستهزئ} 9 {سخر الله مِنْهُم} 10 {نسوا الله فنسيهم} 11 {الْيَوْم ننساكم} 12 {وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى} 13
الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ وصف الرب تَعَالَى بالحلم وَالْعَفو وَالصَّبْر والصفح وَالْمَغْفِرَة وَالنعْمَة وَالتَّوْبَة لَا حلم وَلَا صفح وَلَا مغْفرَة وَلَا عَفْو وَلَا صَبر إِلَّا على مذنب أَو عَن مذنب وَلَا تَوْبَة فِي الْأَغْلَب إِلَّا عَن ذَنْب والذنب هُوَ الْمُخَالفَة لاقْتِضَاء الْأَمر أَو النَّهْي وَلَا يكون الصَّبْر
(1/119)
 
 
إِلَّا على مَكْرُوه أَو عَن مَحْبُوب لَا أحد أَصْبِر على أَذَى يسمعهُ من الله عز وَجل
وَقد تطلق التَّوْبَة باعتبارات أخر وَلَكِن غلب عرف الشَّرْع على بعض مسميات التَّوْبَة
الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ نِسْبَة الْفِعْل أَو الْفَاعِل إِلَى الشَّيْطَان وتوليه وتزيينه {رِجْس من عمل الشَّيْطَان} {قَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان} {وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم} {وَالَّذين كفرُوا أولياؤهم الطاغوت} {فَهُوَ وليهم الْيَوْم} {أُولَئِكَ حزب الشَّيْطَان} {وَمن يتَّخذ الشَّيْطَان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مُبينًا}
(1/120)
 
 
الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ تَشْبِيه الْفِعْل بالمذمومات {فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم} {كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا}
السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ تَبرأ الْأَنْبِيَاء صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْفَاعِل وَإِظْهَار عدواته {إِنَّنِي برَاء مِمَّا تَعْبدُونَ} {إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا} تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا
السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ شكوى الْأَنْبِيَاء من الْفَاعِل {رب إِن قومِي كذبون} {أَن هَؤُلَاءِ قوم مجرمون} {إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ} {إِن قومِي اتَّخذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا} {إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلم يزدهم دعائي إِلَّا فِرَارًا}
الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ نهي الْأَنْبِيَاء عَن الأسى والحزن على الْفَاعِل {فَلَا تأس على الْقَوْم الْفَاسِقين} {فَلَا تأس على الْقَوْم الْكَافرين} {وَلَا تحزن عَلَيْهِم} {فَكيف آسى على قوم كَافِرين}
التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ عَدَاوَة الله للْفَاعِل وحرمان ثَوَابه {فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ}
(1/121)
 
 
{عدوي وَعَدُوكُمْ} {وَيَوْم يحْشر أَعدَاء الله} {إِن الله حرمهما على الْكَافرين} {إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة}
الْأَرْبَعُونَ تحقير الْفَاعِل وحجبه {أُفٍّ لكم وَلما تَعْبدُونَ من دون الله} {فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا} أَي قدرا {قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم} {وَلَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم} {فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض} {إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون}
الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ نصب الْفِعْل محبطا للْعَمَل الصَّالح {وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله} {ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} {فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} {لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى}
الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ نصب الْفِعْل سَببا لخيبة عاجلة أوآجلة {وَقد خَابَ من حمل ظلما} {وَقد خَابَ من افترى}
(1/122)
 
 
الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ نفي ولَايَة الْفَاعِل ونصرته {وَمَا لَهُم فِي الأَرْض من ولي وَلَا نصير} {وَمَا لَهُم من ناصرين} {من ينصرني من الله إِن طردتهم} {فَمن ينصرني من الله إِن عصيته}
الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ نهي الْأَنْبِيَاء عَن الدُّعَاء للْفَاعِل {وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا} {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم}
الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ السُّؤَال عَن عِلّة الْفِعْل يدل على التوبيخ بعرف الِاسْتِعْمَال فِي غَالب الْأَمر {لم تكفرون بآيَات الله} {لم تلبسُونَ} {لم تصدُّونَ} {مَا مَنعك أَن تسْجد}
السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ الْغيرَة الشَّرْعِيَّة لَا أحد أغير من الله من أجل ذَلِك حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن
(1/123)
 
 
السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ حمل الْفَاعِل إِثْم غَيره والتبرء والتلاعن والتعادي وَالدُّعَاء فِي الْآخِرَة {ليحملوا أوزارهم كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمن أوزار الَّذين يضلونهم بِغَيْر علم} {وليحملن أثقالهم وأثقالا مَعَ أثقالهم} {ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يكفر بَعْضكُم بِبَعْض ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا} {كلما دخلت أمة لعنت أُخْتهَا} {إِذْ تَبرأ الَّذين اتبعُوا من الَّذين اتبعُوا} {تبرأنا إِلَيْك} {الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو} {رَبنَا آتهم ضعفين من الْعَذَاب والعنهم} {رَبنَا هَؤُلَاءِ أضلونا فآتهم عذَابا ضعفا}
وأصناف الْوَعيد كَثِيرَة كسواد الْوُجُوه وزرقة الْعُيُون والعبوس والبسور والذل وتنكيس الرؤوس وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ دلَالَة على مَا تَرَكْنَاهُ
(1/124)
 
 
وكل مَا ذَكرْنَاهُ عَائِد إِلَى الذَّم أَو الْوَعيد وَلكنه نوع ترهيبا وتحذيرا وَإِذا تواردت هَذِه الدَّلَائِل على فعل دلّت على تأكده فِي بَابه وَكَذَلِكَ أَدِلَّة الْأَمر
(1/125)
 
 
الْفَصْل الرَّابِع
فِيمَا يصلح للدلالة على الْأَمريْنِ
وَهُوَ أَنْوَاع فندكر من ذَلِك مَا يسْتَدلّ بِهِ على غَيره
الأول كِتَابَة الْعَمَل وَحفظه {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين} {وكل شَيْء أحصيناه كتابا} {وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر} {إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} {سنكتب مَا يَقُول} {سنكتب مَا قَالُوا} {مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} {مَا لهَذَا الْكتاب لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها} {وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} {أَحْصَاهُ الله ونسوه}
(1/127)
 
 
{اقْرَأ كتابك} {فَأُولَئِك يقرؤون كِتَابهمْ}
فَمن هَذِه الْآيَات مَا يدل على كِتَابَة المنهيات وَمِنْهَا مَا يدل على كِتَابَة المنهيات والمأمورات
الثَّانِي وضع الموازين وَهُوَ دَال على الْأَمر وَالنَّهْي جَمِيعًا إِلَّا أَن الثّقل يدل على الطَّاعَة والخفة تدل على الْمعْصِيَة كَمَا أَن أَخذ الْكتب بالأيمان يدل على الطَّاعَة وَأَخذهَا بالشمائل يدل على الْمعْصِيَة {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا} {فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم فِي جَهَنَّم خَالدُونَ} {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية وَأما من خفت مَوَازِينه فأمه هاوية} {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَيَقُول هاؤم اقرؤوا كِتَابيه} {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فَيَقُول يَا لَيْتَني لم أوت كِتَابيه}
الثَّالِث الطَّاعَة وَالتَّقوى فالطاعة عَلامَة لامتثال كل أَمر وَاجْتنَاب كل نهي وَالتَّقوى خَاصَّة بِفعل الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات
(1/128)
 
 
الرَّابِع السَّبِيل والصراط وَالطَّرِيق يحْتَمل أَن تحمل على التَّقْوَى وَيحْتَمل أَن تحمل على الطَّاعَة لِأَنَّهَا مؤدية إِلَى الثَّوَاب ومخلصة من الْعقَاب
وَلما كَانَ الطَّرِيق الْحَقِيقِيّ مُؤديا إِلَى الْمَقَاصِد صَحَّ أَن يُسمى كل من أدّى إِلَى مَقْصُود سَبِيلا وصراطا وطريقا
فَلَمَّا كَانَت الطَّاعَة مؤدية إِلَى الثَّوَاب وَالْمَعْصِيَة مؤدية إِلَى الْعقَاب سميتا بذلك تجوزا {قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله} {وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} {لم يكن الله ليغفر لَهُم وَلَا ليهديهم طَرِيقا إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم} {ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين} {وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ}
وَأما الاسْتقَامَة فَيجوز أَن تحمل على الطَّاعَة وَيجوز أَن تحمل على
(1/129)
 
 
التَّقْوَى فَيجوز أَن يكون قَوْله {فاستقم كَمَا أمرت} بِمَعْنى فأطع كَمَا أمرت وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى فَاتق كَمَا أمرت وَكَذَلِكَ فِي قَوْله {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَقِيمُوا وَلنْ تُحْصُوا وَالْأولَى حمل الاسْتقَامَة فِي قَوْله تَعَالَى {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} على التَّقْوَى لتبقى لَفظه أفعل على بَابهَا لِأَن فعل الْوَاجِب وَترك الْحَرَام أقوم من فعل
(1/130)
 
 
الْمَنْدُوب وَترك الْمَكْرُوه وَلَو حملت على الطَّاعَة لكَانَتْ لَفْظَة أفعل مَحْمُولَة على غير بَابهَا وَهُوَ خلاف الظَّاهِر أَو لَكَانَ الْمُبَاح مَوْصُوفا بالاستقامة وَهُوَ على خلاف عرف الِاسْتِعْمَال
(1/131)
 
 
الْخَامِس ذكر اطلَاع الرب سُبْحَانَهُ على الْفِعْل قد يدل على التَّرْهِيب الدَّال على النَّهْي وَقد يدل على التَّرْغِيب الدَّال على الْأَمر وَقد يدل على الْأَمريْنِ {وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله} {وَمَا تَفعلُوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم} {وَلَا تحسبن الله غافلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ} {وَمَا رَبك بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} {إِن رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيط} {وَالله يعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون} {ويستخلفكم فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ} {ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من بعدهمْ لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ} {فلنقصن عَلَيْهِم بِعلم وَمَا كُنَّا غائبين} {إِن الَّذين يلحدون فِي آيَاتنَا لَا يخفون علينا} {وَمَا تكون فِي شَأْن وَمَا تتلو مِنْهُ من قُرْآن وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا إِذْ تفيضون فِيهِ}
السَّادِس النَّدَم وَالْحَسْرَة فِي الْآخِرَة
من نَدم فِي الْآخِرَة على كَونه فعل دلّ ندمه على النَّهْي عَن الْفِعْل وَمن نَدم على كَونه ترك دلّ على النَّهْي عَن التّرْك وَمن تحسر على كَونه فعل أَو تحسر على كَونه ترك فَكَذَلِك وَمن أطلق الْحَسْرَة جَازَ تعلقهَا
(1/132)
 
 
بالأمرين {كَذَلِك يُرِيهم الله أَعْمَالهم حسرات عَلَيْهِم} {يَا حسرتنا على مَا فرطنا فِيهَا} {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة} {يَا حسرة على الْعباد} {وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب} {وَيَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ} {قَالَ عَمَّا قَلِيل ليصبحن نادمين}
السَّابِع تعجب الرب سُبْحَانَهُ إِن تعلق بِحسن الْفِعْل دلّ على الْأَمر بِهِ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعجب رَبك من شَاب لَا صبوة لَهُ وَإِن تعلق بقبح الْفِعْل دلّ على النَّهْي عَنهُ {وَإِن تعجب فَعجب قَوْلهم}
(1/133)
 
 
{بل عجبت ويسخرون} {كَيفَ تكفرون بِاللَّه} {وَكَيف تأخذونه وَقد أفْضى بَعْضكُم إِلَى بعض} {وَكَيف تكفرون وَأَنْتُم تتلى عَلَيْكُم آيَات الله وَفِيكُمْ رَسُوله} {قَاتلهم الله أَنى يؤفكون} {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره} {فَمَا أصبرهم على النَّار} والسياق مرشد إِلَى حسن الْفِعْل المتعجب مِنْهُ وقبحه كَمَا يرشد سِيَاق الْوَعْظ إِلَى أَن تحقير الشَّيْء وذمه تزهيد فِيهِ وحث على تَركه وَأَن تفخيمه ومدحه ترغيب فِيهِ وحث على فعله فَقَوله {قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل} تزهيد فِي متاعها {وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى} ترغيب فِي السَّعْي لَهَا وَكَذَلِكَ قَوْله {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} وَقَوله {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع} {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور}
الثَّامِن تَعْظِيم الْفِعْل إِن كَانَ فِي سِيَاق مدح دلّ على الْأَمر كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} وَإِن كَانَ فِي سِيَاق ذمّ أَو زجر دلّ على النَّهْي كَقَوْلِه {إِنَّكُم لتقولون قولا عَظِيما} {وتحسبونه هينا وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم}
(1/134)
 
 
{والفتنة أكبر من الْقَتْل} {كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم}
التَّاسِع التوبيخ وَالْإِنْكَار إِن تعلقا بِفعل دلا على النَّهْي عَنهُ وَإِن تعلقا بترك دلا على الْأَمر بالمتروك مِثَاله فيهمَا {أَتَدعُونَ بعلا وتذرون أحسن الْخَالِقِينَ} وَلَيْسَ قَوْله {أتأتون الذكران من الْعَالمين وتذرون مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم} من هَذَا الْقَبِيل هَذَا مِثَال التوبيخ العاجل وَأما الآجل فكقوله {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} {أولم تَكُونُوا أقسمتم من قبل مَا لكم من زَوَال}
الْعَاشِر شقاوة الْآخِرَة وسعادتها لَا يُوصف بشقاء الْآخِرَة إِلَّا عَاص وَأما سعادتها فقد يُوصف بهَا الطائع وَهُوَ الْغَالِب وَقد يُوصف بهَا من لم يطع كأطفال الْمُسلمين ومجانينهم وَمن اخترم بعد الْبلُوغ وَقبل
(1/135)
 
 
التَّمَكُّن من الْفِعْل
الْحَادِي عشر الموعظة والتذكرة يدلان على الْحَث على كل حسن والزجر عَن كل قَبِيح فيدلان على الْأَمر وَالنَّهْي مِثَال ذَلِك فِي النَّهْي قَوْله تَعَالَى {يعظكم الله أَن تعودوا لمثله أبدا} وَقَوله {إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} ومثاله فِي الْأَمر {إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة أَن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمَّ تَتَفَكَّرُوا} ومثاله فِيمَا يصلح لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي {قد جاءتكم موعظة من ربكُم} {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب} أَي اتعاظا لمن كَانَ لَهُ عقل {ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة} {قَالُوا سَوَاء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين}
الثَّانِي عشر فِي الْحِكْمَة دلَالَة على جَمِيع الْأَحْكَام فَإِنَّهَا تدل
(1/136)
 
 
على شَرْعِيَّة مَا فِيهِ جلب مصلحَة أَو دفع مفْسدَة أَو يتَضَمَّن للأمرين جَمِيعًا وَأَحْكَام الله تَعَالَى كلهَا كَذَلِك {واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب وَالْحكمَة} {ذَلِك مِمَّا أوحى إِلَيْك رَبك من الْحِكْمَة} إِشَارَة إِلَى مَا تقدم من المأمورات والمنهيات الَّتِي أَولهَا {لَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر}
(1/137)
 
 
وَآخِرهَا {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها}
الثَّالِث عشر تمني الْهَلَاك والتسوية بالجماد يصلح للتعلق بترك التَّقْوَى فتمني الْهَلَاك كَقَوْلِه تَعَالَى {يَا ليتها كَانَت القاضية} وَكَذَلِكَ طلب الْهَلَاك {يَا مَالك ليَقْضِ علينا رَبك} وتمني التَّسْوِيَة بالجماد كَقَوْلِه {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} {يَوْمئِذٍ يود الَّذين كفرُوا وعصوا الرَّسُول لَو تسوى بهم الأَرْض وَلَا يكتمون الله حَدِيثا}
الرَّابِع عشر التَّمَنِّي فِي الْآخِرَة وَإِن تعلق بِفعل دلّ على الْأَمر وَإِن تعلق بترك دلّ على النَّهْي {يَا لَيْتَني قدمت لحياتي} {يَا ويلنا} {لَيْتَني لم أَتَّخِذ فلَانا خَلِيلًا}
(1/138)
 
 
الْفَصْل الْخَامِس
فِي نفي التَّسْوِيَة
نفي التَّسْوِيَة بَين الْفِعْلَيْنِ أَو الفاعلين أَو الجزائين إِن رَجَعَ إِلَى تفاوتهما فِي الرُّتْبَة دلّ على تَفْضِيل أحد الْفِعْلَيْنِ على الآخر وَإِن رَجَعَ إِلَى الثَّوَاب وَالْعِقَاب دلّ على الْأَمر وَالنَّهْي وَإِن رَجَعَ إِلَى مدح أحد الْفِعْلَيْنِ وذم الآخر رَجَعَ إِلَى أَن أَحدهمَا مَأْمُور وَالْآخر مَنْهِيّ مِثَال نفي التَّسَاوِي فِي رُتْبَة الثَّوَاب قَوْله {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم} وَقَوله {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل} وَمِثَال نفي التَّسْوِيَة بَين الجزائين قَوْله {أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله لَا يستوون عِنْد الله} أَي فِي جزأيهما وَلذَلِك
(1/139)
 
 
أردفه بقوله {الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله} وَفِي الْكَلَام حذف تَقْدِيره أجعلتم أهل سِقَايَة الْحَاج وَأهل عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه إِذْ لَا تصلح المفاضلة بَين فعل وفاعل قَوْله {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون} أَي ثَوابًا وعقابا وَلذَلِك أردفه بقوله {أما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم جنَّات المأوى} {وَأما الَّذين فسقوا فمأواهم النَّار} وَقَوله {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} ظَاهره فِي جزائهما بِدَلِيل قَوْله {أَصْحَاب الْجنَّة هم الفائزون}
(1/140)
 
 
وَقد نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسَاوَاة بَين الْفِعْلَيْنِ والفاعلين والجزائين فِي آيَة وَاحِدَة فَقَالَ {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور وَلَا الظل وَلَا الحرور وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات}
(1/141)
 
 
فالأعمى الْكَافِر والبصير الْمُؤمن والظلمات الْكفْر والنور الْإِيمَان والظل الْجنَّة والحرور النَّار ثمَّ بَالغ فِي نفي تَسَاوِي الفاعلين بقوله {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات} فَإِن التَّفَاوُت بَين الْحَيّ وَالْمَيِّت أبلغ من التَّفَاوُت بَين الْأَعْمَى والبصير وَنفي التَّسْوِيَة بَين الفاعلين يرجع إِلَى نفي تَسَاوِي الْفِعْلَيْنِ أَو الجزائين
(1/142)
 
 
الْفَصْل السَّادِس
فِيمَا يتضمنه ضرب الْأَمْثَال من الْأَحْكَام
إِنَّمَا ضرب الله تَعَالَى الْأَمْثَال فِي كِتَابه تذكيرا وعظا وَلذَلِك قَالَ {وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل لَعَلَّهُم يتذكرون} فَمَا اشْتَمَل من الْأَمْثَال على تفَاوت فِي ثَوَاب أَو على إحباط عمل أَو على مدح أَو ذمّ أَو على تفخيم أَو تحقير أَو على ثَوَاب أَو عِقَاب فَإِنَّهُ يدل على الْأَحْكَام بِحَسب ذَلِك على مَا تقدم ذكره
فَأَما تَضْعِيف الْأجر فَلهُ مثالان
الْمِثَال الأول قَوْله تَعَالَى {مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل} وَفِيه حذف فَإِن الْأَمْثَال مَظَنَّة الْحَذف
(1/143)
 
 
والاختصار لِكَثْرَة التدوار تَقْدِيره كَمثل زارع حَبَّة أنبتت سبع سنابل شبه مضاعفة أجر الْمُنفق بمضاعفة غلَّة الزَّارِع ترغيبا فِي الْإِنْفَاق
الْمِثَال الثَّانِي قَوْله {وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كَمثل جنَّة بِرَبْوَةٍ} أَي كَمثل غارس جنَّة بِرَبْوَةٍ شبه تَضْعِيف الْأجر هَاهُنَا بِتَضْعِيف غلَّة الْجنَّة فَإِن الْفَارِس للنواة يحصل لَهُ من النَّخْلَة عشرَة أقناء مثلا ويشتمل كل قنو على ألف أَو أَلفَيْنِ ثمَّ يتضاعف ذَلِك مرَّتَيْنِ وَإِنَّمَا عظمت المضاعفة هُنَا بِمَا يزِيد على سبع الْمِائَة لِأَنَّهُ ضم إِلَيْهَا ابْتِغَاء المرضات والتثبيت
وَإِمَّا مَا يرجع إِلَى إحباط الْعَمَل فَلهُ أَمْثِلَة
الأول قَوْله تَعَالَى {لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى كَالَّذي ينْفق مَاله رئاء النَّاس} أَي كإبطال أجر الَّذِي ينْفق مَاله رِيَاء النَّاس وَلَا يُؤمن
(1/144)
 
 
بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَمثله كَمثل زارع صَفْوَان أَو غارس صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب فَأَصَابَهُ وابل فَتَركه صَلدًا شبه إبِْطَال الْكفْر والرياء للصدقة بإذهاب الوابل لتراب الصفوان
الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء فأصابها إعصار فِيهِ نَار فاحترقت} شبه إحباط الْأَعْمَال عِنْد فقد الْقِيَامَة بإحراق الْأَعْصَار لهَذِهِ الْجنَّة مَعَ هرم صَاحبهَا وَكَثْرَة عِيَاله وقله احتياله لهرمه وعجزه تنفيرا من الْكفْر والرياء وَإِبْطَال الصَّدقَات بالمن والأذى
الثَّالِث قَوْله تَعَالَى {مثل مَا يُنْفقُونَ فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمثل ريح فِيهَا صر أَصَابَت حرث قوم ظلمُوا أنفسهم فأهلكته} تَقْدِيره مثل إحباط
(1/145)
 
 
مَا يُنْفقُونَ كَمثل إهلاك ريح فِيهَا صر للحرث الْمَذْكُور وَفِيه زجر عَن الْكفْر المحبط
الرَّابِع قَوْله {كرماد اشتدت بِهِ الرّيح فِي يَوْم عاصف لَا يقدرُونَ مِمَّا كسبوا على شَيْء} شبه تعذر وصولهم إِلَى ثَوَاب شَيْء من أَعماله بتعذر جمع الرماد الَّذِي اشتدت بِهِ الرِّيَاح فِي يَوْم عاصف وَهَذَا أبلغ فِي الزّجر عَن الْكفْر لِأَنَّهُ جعله محبطا لجَمِيع أَعْمَالهم والمثل السَّابِق خَاص بنفقاتهم
(1/146)
 
 
الْخَامِس قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين كفرُوا أَعْمَالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده فوفاه حسابه} شبه حسبانهم أَنهم يَنْتَفِعُونَ بأعمالهم بحسبان الظمآن السراب مَاء وَشبه فقدهم الإنتفاع بهَا فِي الْقيمَة بفقد الظمآن المَاء لما أَتَى مَوضِع السراب وَهَذَا أبلغ من الَّذِي قبله لِأَن فِي هَذَا الْمثل فقدان الثَّوَاب والخيبة بعد الحسبان والرجاء وَلم يتَعَرَّض للرجاء فِي الْمثل السَّابِق
وَأما مَا يرجع إِلَى ذمّ الْفَاعِل فَلهُ أمثله
الأول قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثا} شبه نَاقض الْعَهْد فِي الْحمق بناقضة الْغَزل تنفيرا من نقض الْعَهْد
(1/147)
 
 
الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ} جعلهم من جملَة الدَّوَابّ مُبَالغَة فِي الذَّم تنفيرا عَن التعامي عَن الْحق وَترك النُّطْق بِهِ
الثَّالِث قَوْله تَعَالَى {وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء ونداء}
وَفِيه قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه شبه دعاءهم الْأَصْنَام بالناعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء ونداء وَفِيه زجر عَن دُعَاء الْأَصْنَام
وَالْقَوْل الثَّانِي فِيهِ حذف تَقْدِيره وَمثل دَاعِي الَّذين كفرُوا إِلَى الْإِيمَان كَمثل الناعق فَيكون تَشْبِيها لَهُم بالبهائم فِي عدم الْفَهم وَلَا يخفى مَا فِيهِ من الزّجر
وَأما مَا يرجع إِلَى مَا مدح الْفَاعِل وذمه فَلهُ أَمْثِلَة
الأول قَوْله تَعَالَى {مثل الْفَرِيقَيْنِ كالأعمى والأصم والبصير والسميع}
(1/148)
 
 
فِيهِ ذمّ لمن تعامى عَن الْحق وَلم يصغ إِلَيْهِ ومدح لمن اسْتمع للحق وعرفه فيتضمن الْحَث وَالْمَنْع
الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا لَا يقدر على شَيْء} الْآيَة 3 شبه تعذر الْإِيمَان وَالصَّلَاح على الْكَافِر بتعذر النَّفَقَة على العَبْد الْعَاجِز وَشبه تيَسّر الْإِيمَان على الْمُؤمن وَقدرته على الطَّاعَة بالغني الْبَاذِل لما فِي يَدَيْهِ سرا وجهرا وَقيل إِن الله عز وَجل ضرب العَبْد الْعَاجِز مثلا للصنم وَضرب الْغَنِيّ الْبَاذِل الْكَائِن على صِرَاط مُسْتَقِيم لنَفسِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تزهيدا فِي عبَادَة الْأَصْنَام وترغيبا فِي عِبَادَته
(1/149)
 
 
الثَّالِث قَوْله تَعَالَى {ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل} شبه الْمُشرك فِي سوء حَاله بِالْعَبدِ الْمُشْتَرك بَين المتشاكسين وَشبه الْمُؤمن فِي حسن حَاله بِالرجلِ السَّالِم ترغيبا فِي عِبَادَته وزجرا عَن عبَادَة غَيره
وَأما مَا يرجع إِلَى الْوَعيد فَلهُ مثالان
الأول قَوْله تَعَالَى {وَمن يُشْرك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خر من السَّمَاء فتخطفه الطير أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق} شبه الْكَافِر فِي هَلَاكه الَّذِي لَا يتدارك بِهَلَاك الخار من السَّمَاء على الْوَجْه الْمَذْكُور تنفيرا من الشّرك
الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {كَمثل الَّذِي استوقد نَارا فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حوله ذهب الله بنورهم} وَفِيه قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه نزل فِي الْمُنَافِقين شبه أسماعهم بِمَا أظهروه من الْإِيمَان
(1/150)
 
 
بانتفاع المستوقد بالنَّار وَشبه انْتِهَاء أَمرهم إِلَى عَذَاب الْآخِرَة وشدائدها بانطفاء النَّار وَبَقَاء مستوقدها فِي الظُّلُمَات
فَكَذَلِك حُصُول الْمُنَافِقين فِي الْخَوْف بعد الْأَمْن وَفِي الشدائد بعد الرخَاء إِذْ يعبر بالظلمات عَن الشدائد قَالَ الله تَعَالَى {قل من ينجيكم من ظلمات الْبر وَالْبَحْر} وَفِي ذَلِك زجر عَن النِّفَاق
وَالثَّانِي نزل فِي منافقي الْيَهُود وَكَانُوا يستفتحون على الْكفَّار برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويؤمنون بِهِ فَلَمَّا بعث كفرُوا بِهِ فَشبه إِيمَانهم بِهِ واستفتاحهم باستيقاد النَّار وَشبه كفرهم بانطفاء النَّار والحصول فِي الظُّلُمَات مدحا للْإيمَان وذما للكفران
وَأما مَا يرجع إِلَى الْعَذَاب العاجل
فَقَوله {وَضرب الله مثلا قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة يَأْتِيهَا رزقها رغدا من كل مَكَان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف بِمَا كَانُوا يصنعون}
(1/151)
 
 
وَذَلِكَ تهديد بِالْعَذَابِ العاجل يتَضَمَّن الزّجر عَن الْكفْر بأنعم الله وَعَن تَكْذِيب رسله
وَأما مَا يرجع إِلَى تسفيه الْفَاعِل وذمه بسخافة الْعقل فَلهُ مثالان
الأول قَوْله تَعَالَى {ضرب مثل فَاسْتَمعُوا لَهُ إِن الَّذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ} الْآيَة وَهَذَا الْمثل يتَضَمَّن تسفيه عقل من عبد صنم الَّذِي لَا يقدر على جلب نفع وَلَا يدْفع عَن نَفسه ضرا
الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {مثل الَّذين اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء كَمثل العنكبوت اتَّخذت بَيْتا} شبه الِاعْتِمَاد على شَفَاعَة الْأَصْنَام وتقريبها إِلَى الله زلفى باعتماد العنكبوت على بَيتهَا أَن يدْفع عَنْهَا وَهُوَ أوهن
(1/152)
 
 
الْبيُوت فَكَذَلِك الْأَصْنَام أوهن مُعْتَمد عَلَيْهِ وَلَقَد سفه من اعْتمد فِي عظائم الْأُمُور على أوهن الْأَشْيَاء وأبعدها فِي الْغناء عَنهُ
وَأما مَا يرجع إِلَى التزهيد بتحقير المزهد فِيهِ
فكقوله {وَاضْرِبْ لَهُم مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من السَّمَاء} وَقَوله {إِنَّمَا مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من السَّمَاء} شبه سرعَة زَوَالهَا مَعَ الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا والاغترار بهَا بِسُرْعَة فَسَاد زرع ظن أَهله أَنهم قادرون عَلَيْهِ فطرقته جَائِحَة جعلته هشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاح
كل ذَلِك تزهيد فِي الإعتماد على الْحَيَاة السريعة الزَّوَال وترغيب فِي ترك السَّعْي لَهَا فَإِن التحقير للشَّيْء فِي سِيَاق الْوَعْظ والنصح يتَضَمَّن التزهيد فِيهِ بعرف الِاسْتِعْمَال
(1/153)
 
 
وَأما مَا يرجع إِلَى مدح الْفِعْل وذمه
فَهُوَ كتشبيه الْمعرفَة بِالنورِ والحياة وتشبيه الْجَهْل بالظلمة وَالْمَوْت وكتشبيه الْحق النافع بِالْمَاءِ النافع وبالحلي والأمتعة النافعة وتشبيه الْبَاطِل بالزبد الذَّاهِب جفَاء مدحا لأَحَدهمَا وذما للْآخر {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس} أَي كَافِرًا فهديناه {كمن مثله فِي الظُّلُمَات} أَي ظلمات الْجَهْل وَكَذَلِكَ ضرب نور الْمشكاة مثلا لنوره فِي قلب الْمُؤمن فالمشكاة كصدر الْمُؤمن والزجاجة كقلبه والمصباح كالمعرفة وَالزَّيْت كفطنة الْمُؤمن الَّتِي تكَاد تدْرك الصَّوَاب من غير تَوْقِيف وَلَا كتاب
وَكَذَلِكَ مثل الْقُرْآن الَّذِي هُوَ بِمَعْنى الْقِرَاءَة بِمَا أنزلهُ من السَّمَاء فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبدا رابيا ثمَّ انْدفع الزّبد وَبَقِي المَاء النافع
(1/154)
 
 
شبه الْقُرْآن بِالْمَاءِ النافع لِأَنَّهُ حَيَّاهُ للقلوب كَمَا أَن المَاء حَيَاة للنبات وَشبه الْقُلُوب بالأودية إِذا أَخذ كل قلب من ذَلِك بِقدر مَا كتب لَهُ كَمَا أَخذ كل وَاد من المَاء بِقدر مَا كتب لَهُ ثمَّ شبه ارْتِفَاع كلمة الْكفْر على كلمة الْإِيمَان وَالْقُرْآن بارتفاع الزّبد على المَاء ثمَّ شبه زهوق الْبَاطِل وَذَهَاب الْكفْر بذهاب الزّبد جفَاء وَشبه بَقَاء الْمعرفَة وَالْقُرْآن بِبَقَاء المَاء النافع مدحا للمعرفة وَالْقُرْآن وذما للْجَهْل والكفران وَكَذَلِكَ شبه ذهَاب الْكفْر وزواله بذهاب زبد الْجَوَاهِر إِذا أحميت فِي النَّار ابْتِغَاء حلية أَو مَتَاع من الْأَمْتِعَة
وَشبه بَقَاء الْقُرْآن بِبَقَاء الْحلِيّ والأمتعة النافعة والتشبيه بالزبد يتَضَمَّن ذمّ الْمُشبه بِهِ فَإِنَّهُم يشبهون الْحسن بالْحسنِ والقبيح بالقبيح
(1/155)
 
 
والمحمود بالمحمود والمذموم بالمذموم والنافع بالنافع والضار بالضار {وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس وَالله بِكُل شَيْء عليم} وَقد يعبر بالْكفْر عَن الْهَلَاك لِأَنَّهُ سَبَب الْهَلَاك ويعبر عَن الْإِيمَان بِالْحَيَاةِ لِأَنَّهُ سَبَب الْحَيَاة الأبدية قَالَ تَعَالَى {ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة} أَي ليؤمن من آمن عَن يَقِين وبصيرة وَيكفر من كفر عَن يَقِين وَمَعْرِفَة
وَقد شبه الله سُبْحَانَهُ بالأنعام والحمر وَالْكلاب احتقارا للمشبه وذما لَهُ وَلذَلِك قَالَ {سَاءَ مثلا} وَقَالَ {بئس مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بآيَات الله} وَلما شبههم بالحمر كَانَ فِي تشبيهه مَا يَقْتَضِي أَنهم أَسْوَأ حَالا من الْحمر لِأَن الْحمر فرت من سَبَب هلاكها وَهُوَ الْأسد وَهَؤُلَاء فروا من التَّذْكِرَة وَهِي سَبَب نجاتهم كفرار الْحمر من سَبَب هلاكها
وَهَذَا مثل قَوْله عز وَجل {أَو كصيب} مَعْنَاهُ أَو كأصحاب الصيب
(1/156)
 
 
شبه الْقُرْآن بالصيب والصيب إِذا نزل كَانَ رَحْمَة للزارع وبلية على الْمُسَافِر فَكَذَلِك الْقُرْآن كَانَ نُزُوله رَحْمَة للْمُؤْمِنين وبلاء على الْكَافرين {وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين وَلَا يزِيد الظَّالِمين إِلَّا خسارا} فَجعل ثقل الْقُرْآن عَلَيْهِم ومشقته عِنْدهم كثقل الصيب ومشقته على الْمُسَافِر لَكِن الْقُرْآن ثقل عَلَيْهِم مَعَ كَونه سَببا لنجاتهم والصيب ثقل على أَصْحَابه لكَونه سَببا لهلاكهم وتضررهم كَمَا فرت الْحمر من القسورة وَهُوَ سَبَب هلاكها وفر الْمُشْركُونَ من التَّذْكِرَة وَهِي سَبَب نجاتهم
(1/157)
 
 
الْفَصْل السَّابِع
فِي فَوَائِد مُتَفَرِّقَة
الأولى
السِّيَاق مرشد إِلَى تبين المجملات وترجيح المحتملات وَتَقْرِير الواضحات وكل ذَلِك بعرف الِاسْتِعْمَال
فَكل صفة وَقعت فِي سِيَاق الْمَدْح كَانَت مدحا وكل صفة وَقعت فِي سِيَاق الذَّم كَانَت ذما فَمَا كَانَ مدحا بِالْوَضْعِ فَوَقع فِي سِيَاق الذَّم صَار ذما واستهزاء وتهكما بعرف الِاسْتِعْمَال مِثَاله
{ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} أَي الذَّلِيل المهان لوُقُوع ذَلِك فِي
(1/159)
 
 
سِيَاق الذَّم وَكَذَلِكَ قَول قوم شُعَيْب {إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} أَي السَّفِيه الْجَاهِل لوُقُوعه فِي سِيَاق الْإِنْكَار عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ {إِنَّا أَطعْنَا سادتنا وكبراءنا} لوُقُوعه فِي سِيَاق ذمهم بإضلال الأتباع
وَأما مَا يصلح للأمرين فَيدل على المُرَاد بِهِ السِّيَاق كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} أَرَادَ بِهِ عَظِيما فِي حسنه وشرفه لوُقُوع ذَلِك فِي سِيَاق الْمَدْح وَقَوله {إِنَّكُم لتقولون قولا عَظِيما} أَرَادَ بِهِ عَظِيما فِي قبحه لوُقُوع ذَلِك فِي سِيَاق الذَّم
وَكَذَلِكَ صِفَات الرب المحتملة للمعاني المتعددة تحمل فِي كل سِيَاق على مَا يَلِيق بِهِ كَقَوْلِه {إِن ذَلِك فِي كتاب إِن ذَلِك على الله يسير} تمدح بسهولة فِي قدرته وَكَذَلِكَ قَوْله {ذَلِك حشر علينا يسير}
وَأما قَوْله {فَسَوف نصليه نَارا وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا} وَقَوله {يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا} فَإِن المُرَاد فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ احتقار المعذب وعنته وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَن من هان عَلَيْك
(1/160)
 
 
سهل عَلَيْك عَذَابه وعنته وَمن عز عَلَيْك صَعب عَلَيْك مصابه ومشقته وَإِنَّمَا حمل على الاستهانة لِأَنَّهُ لَا يصلح من الرب التمدح بِالْقُدْرَةِ على تَعْذِيب امْرَأَة أَو رجل إِذْ التمدح من الرب بِأَدْنَى الصِّفَات قَبِيح فِي عرف الِاسْتِعْمَال وَلذَلِك يقبح أَن يُقَال سِيبَوَيْهٍ يعرف أَن الْفَاعِل مَرْفُوع وَالْمَفْعُول مَنْصُوب وَالشَّافِعِيّ يعرف مَسْأَلَة إِزَالَة النَّجَاسَة وجالينوس
(1/161)
 
 
يعرف أَن الصَّفْرَاء حادة يابسة وَكَذَلِكَ الْعَزِيز فِي أَوْصَاف الرب سُبْحَانَهُ يُطلق بِمَعْنى الْغَالِب القاهر وَيُطلق بِمَعْنى الْمُمْتَنع من الْعَيْب والضيم وَيُطلق بِمَعْنى الَّذِي لَا نَظِير لَهُ وَيحمل كل سِيَاق على مَا يَلِيق بِهِ
الْفَائِدَة الثَّانِيَة
إِخْبَار الشَّارِع عَن مَا يعلم بِالْعَادَةِ أَو بِالْعقلِ أَو بالحس لَيْسَ الْغَرَض مِنْهُ الْإِعْلَام بذلك الْمخبر عَنهُ بل بِهِ فَوَائِد تنثني عَلَيْهِ
الأولى أَن يذكر ردا على دَعْوَى مُدع وتكذيبا لافتراء مفتر كَقَوْلِه {مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه} وَقَوله {فَمَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بكاهن وَلَا مَجْنُون} وَقَوله {مَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بمجنون} {وَمَا صَاحبكُم بمجنون}
الثَّانِيَة أَن يذكر وعظا كَقَوْلِه {تِلْكَ أمة قد خلت} {قد خلت من قبلكُمْ سنَن} {كل نفس ذائقة الْمَوْت} {ثمَّ إِنَّكُم بعد ذَلِك لميتون}
(1/162)
 
 
{إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} {قل إِن الْمَوْت الَّذِي تفرون مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم} كَذَلِك مَا تَوَاتر من قصَص المكذبين المهلكين فَإِنَّهُ ذكر للاعتبار والأتعاظ وَكَذَلِكَ قَالَ بعد ذكر إهلاكهم {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب} أَي اتعاظا لمن كَانَ لَهُ عقل وَكَذَلِكَ قَوْله {يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} أَي فاتعظوا وَكَذَلِكَ قَوْله {كل من عَلَيْهَا فان}
الثَّالِثَة أَن يذكر للدلالة على صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا كنت لديهم إِذْ يلقون أقلامهم أَيهمْ يكفل مَرْيَم}
(1/163)
 
 
الْآيَة {وَمَا كنت لديهم إِذْ أَجمعُوا أَمرهم} ذكر أخْفى مَا فِي الْقَضِيَّة لِأَنَّهُ أبلغ فِي الدّلَالَة {وَمَا كنت بِجَانِب الغربي إِذْ قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر} {وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا} {وَمَا كنت ثاويا فِي أهل مَدين} {وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب وَلَا تخطه بيمينك}
وَكَذَلِكَ الْقَصَص الْمُوَافقَة لما فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل ذكرت للاستدلال على صِحَة النُّبُوَّة وَلذَلِك قَالَ {لقد كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب} أَي عبور من حيّز الْجَهْل إِلَى حيّز الْعلم لِأَن الْعبْرَة فعله من العبور فَجَاز أَن تسْتَعْمل فِي العبور من حيّز الْجَهْل إِلَى حيّز الْعلم كَمَا اسْتعْملت فِي العبور من الاغترار إِلَى حيّز الأتعاظ
الرَّابِعَة أَن يذكر عتبا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ} إِلَى قَوْله {وَالله أَحَق أَن تخشاه} وَقَوله {عبس وَتَوَلَّى} إِلَى قَوْله {فَأَنت لَهُ تصدى}
الْخَامِسَة أَن يذكر توبيخا ولوما كَقَوْلِه {إِذْ تصعدون وَلَا تلوون على أحد وَالرَّسُول يدعوكم فِي أخراكم} {مِنْكُم من يُرِيد الدُّنْيَا ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة}
(1/164)
 
 
{وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت من قبل أَن تلقوهُ} {يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين}
السَّادِسَة أَن يذكر تمننا كَقَوْلِه {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ} قَوْله {إِذْ أَنْتُم قَلِيل مستضعفون فِي الأَرْض تخافون أَن يتخطفكم النَّاس} الْآيَة {وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ} {إِذْ أَنْتُم بالعدوة الدُّنْيَا وهم بالعدوة القصوى والركب أَسْفَل مِنْكُم} {لقد نصركم الله فِي مَوَاطِن كَثِيرَة وَيَوْم حنين} الْآيَتَانِ
السَّابِعَة أَن يذكر للاستدلال على الْإِعَادَة بالإنشاء كَقَوْلِه {ألم يَك نُطْفَة من مني يمنى} {ألم نخلقكم من مَاء مهين} {ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا أَحيَاء وأمواتا} {لم يكن شَيْئا مَذْكُورا} {وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا} {ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة مخلقة وَغير مخلقة لنبين لكم}
(1/165)
 
 
أَي اقتدارنا على بعثكم {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج}
الثَّامِنَة أَن يذكر تمدحا كتمدح الرب سُبْحَانَهُ بأوصافه الَّتِي دلّ عَلَيْهَا الْعقل من الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة وَقد يذكر الْعلم وَالْقُدْرَة ترغيبا وترهيبا
التَّاسِعَة أَن يذكر مدحا وذما كَقَوْلِه تَعَالَى {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم} {فَأحْسن صوركُمْ} وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا تمعنا كَقَوْلِه {خلق الْإِنْسَان من عجل} {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا} {وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا}
(1/166)
 
 
الْعَاشِرَة أَن يذكر تَنْبِيها على سَعَة الْقُدْرَة كَقَوْلِه {وَمَا يَسْتَوِي البحران هَذَا عذب فرات سَائِغ شرابه وَهَذَا ملح أجاج}
وَأما إخْبَاره عَن أكل اللَّحْم الطري مِنْهُمَا واستخراج الْحِلْية من الْملح فَذَاك من بَاب التمنن
وَكَذَلِكَ من بَاب التمنن قَوْله {يَسْأَلُونَك} {يستفتونك} فَإِنَّهُ تمنن عَلَيْهِم بِأَن أجَاب سُؤَالهمْ وَلم يهملهم وَلم يعرض عَنْهُم وَلَا سِيمَا إِن أجابهم على الْفَوْر
وَيحْتَمل أَن تكون فَائِدَته نفي ثمَّ احْتِمَال خُرُوج مَحل السُّؤَال عَن الْإِرَادَة
الْحَادِيَة عشرَة أَن يذكر فارقا كَقَوْلِه {وَمَا أَفَاء الله على رَسُوله مِنْهُم فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب} ذكر فرقا بَين الْفَيْء وَالْغنيمَة
(1/167)
 
 
الثَّانِيَة عشرَة أَن يذكر إغراء بالعداوة والقتال وحثا عَلَيْهِمَا كَقَوْلِه {نكثوا أَيْمَانهم وهموا بِإِخْرَاج الرَّسُول وهم بدؤوكم أول مرّة} {يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم}
الْفَائِدَة الثَّالِثَة من فَوَائِد الْفَصْل
كلمة التَّوْحِيد تدل على التَّكْلِيف بِالْوَاجِبِ وَالْحرَام إِذْ مَعْنَاهُ لَا
(1/168)
 
 
معبود بِحَق إِلَّا الله وَالْعِبَادَة هِيَ الطَّاعَة مَعَ غَايَة الذل والخضوع فقد نَص بالإستثناء على أَنه مُسْتَحقّ لَهَا وَأما نَفيهَا عَن مَا عداهُ فَيجوز أَن يكون حكما بِتَحْرِيم ذَلِك فِي حق غَيره وَهُوَ الظَّاهِر وَيجوز أَن يكون إِخْبَارًا عَن النَّفْي الْأَصْلِيّ وَيكون تَحْرِيم عبَادَة غير مأخوذا من قَوْله {أَمر أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه}
(1/169)
 
 
أَو من الْإِجْمَاع وَكَذَلِكَ كل نفي فِي هَذَا الْمَعْنى كَقَوْلِه {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا} {فَلَا إِثْم عَلَيْهِ}
الْفَائِدَة الرَّابِعَة من فَوَائِد الْفَصْل
قد يَقع فِي سِيَاق التوبيخ والذم والتهديد مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ ذمّ وَلَا توبيخ وَلَا وَعِيد بل يذكر تقبيحا لما يتَعَلَّق بِهِ الذَّم والتوبيخ والوعيد كَقَوْلِه {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ وتنسون أَنفسكُم} ذكر الْأَمر بِالْبرِّ تقبيحا لنسيان الْأَنْفس {أفتؤمنون بِبَعْض الْكتاب وتكفرون بِبَعْض} ذكر الْإِيمَان بِبَعْض الْكتاب تقبيحا للكفر بِبَعْضِه {فَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ دَعَانَا ثمَّ إِذا خولناه نعْمَة منا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم} ذكر الدُّعَاء تقبيحا لقَوْله {إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم} {وَإِذا مسكم الضّر فِي الْبَحْر ضل من تدعون إِلَّا إِيَّاه فَلَمَّا نجاكم إِلَى الْبر أعرضتم} ذكر الْإِعْرَاض عَن الألهة تقبيحا للإعراض عَن الله
(1/170)
 
 
تَعَالَى عِنْد النجَاة {وَإِن فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} ذكر الْعلم تقبيحا للكتمان مَعَ الْمعرفَة وَكَذَلِكَ قَوْله {لم تكفرون بآيَات الله وَأَنْتُم تَشْهَدُون} {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم} ذكر الاستيقان تقبيحا للجحود مَعَ الْيَقِين
وَكَذَلِكَ {أتأتون الذكران من الْعَالمين وتذرون مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم} ذكر ترك الْإِتْيَان للأزواج تقبيحا لإتيان الذكران إِن كَانَ التّرْك مُبَاحا فِي ملتهم
وَكَذَلِكَ قَوْله {إِن الَّذين آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ آمنُوا ثمَّ كفرُوا} ذكر الْإِيمَان مُبَاحا فِي ملتهم
وَكَذَلِكَ قَوْله {إِن الَّذين آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ آمنُوا ثمَّ كفرُوا} ذكر الْإِيمَان تقبيحا للكفر الْوَاقِع بعده
الْفَائِدَة الْخَامِسَة
قد يَقع فِي سِيَاق الْمَدْح وَالثَّوَاب مَا لَا يتعلقان بِهِ بل يذكر تعريفا للممدوح المثاب كَقَوْلِه {أَنه من عمل مِنْكُم سوءا بِجَهَالَة ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم} وَقَوله {وَالَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات ثمَّ تَابُوا من بعْدهَا وآمنوا إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم}
(1/171)
 
 
وَقَوله {ثمَّ إِن رَبك للَّذين عمِلُوا السوء بِجَهَالَة ثمَّ تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا}
الْفَائِدَة السَّادِسَة
قد يَقع فِي سِيَاق التوبيخ والذم مُبَاح لَا يتَعَلَّق بِهِ ذمّ وَلَا توبيخ من جِهَة كَونه مُبَاحا لَكِن من جِهَة كَونه شاغلا عَن الْوَاجِب كَقَوْلِه {أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بهَا} {إِن هَؤُلَاءِ يحبونَ العاجلة} {وتحبون المَال حبا جما}
الْفَائِدَة السَّابِعَة
تمنن الرب تَعَالَى بنعمه إِن كَانَت تِلْكَ النعم من أَفعاله الَّتِي لَا
(1/172)
 
 
اكْتِسَاب لنا فِيهَا كَانَ التمنن بهَا ترغيبا لنا فِي شكرها بعرف الِاسْتِعْمَال
وَإِن كَانَت بِمَا خلق فِي الْأَعْيَان من الْمَنَافِع كَانَ ذَلِك أذنا فِي الِانْتِفَاع وترغيبا فِي الشُّكْر {لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم} {وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة وعلمك مَا لم تكن تعلم} {قد أنزل الله إِلَيْكُم ذكرا رَسُولا} {أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوآتكم وريشا} {نسقيكم مِمَّا فِي بطونه} {يخرج من بطونها شراب مُخْتَلف ألوانه فِيهِ شِفَاء للنَّاس} {وَمَا ذَرأ لكم فِي الأَرْض مُخْتَلفا ألوانه} {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} {وسخر لكم مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ} {وكنتم على شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا} {وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون}
الْفَائِدَة الثَّامِنَة
ولَايَة الله عز وَجل للْعَبد عبارَة عَن ثنائه عَلَيْهِ وإحسانه إِلَيْهِ فتدل
(1/173)
 
 
على الطَّاعَة الدَّالَّة على الْأَمر {وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين} {وَهُوَ وليهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} وَولَايَة العَبْد لله قِيَامه بِطَاعَتِهِ وَكَذَلِكَ ولَايَته لرَسُوله وَأما ولَايَة الْمُؤمنِينَ فبالنصرة والمؤالفة {وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا} {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} من آذَى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة
الْفَائِدَة التَّاسِعَة
قد يتَعَلَّق بالمدح وَالثَّوَاب من جِهَة اللَّفْظ مَا لَا يدْخل تَحت الْكسْب من فعل غير الممدوح فَيكون الْمَدْح وَالثَّوَاب معلقين بِسَبَبِهِ أَو بِشَيْء من لوازمه كَقَوْلِه تَعَالَى {أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ} وَقَوله {وأخرجوا من دِيَارهمْ وأوذوا فِي سبيلي وقاتلوا وَقتلُوا} {لَا يصيبهم ظمأ وَلَا نصب وَلَا مَخْمَصَة} كل ذَلِك لَيْسَ من أفعالهم لكِنهمْ تسببوا إِلَى أَن
(1/174)
 
 
أوذوا وأخرجوا من دِيَارهمْ وَقتلُوا بِمَا أظهروه من إِيمَانهم فأثيبوا عَلَيْهِ ومدحوا بِهِ لأَنهم تسببوا إِلَيْهِ فالثواب والمدح واقعان على السَّبَب دون الْمُسَبّب إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ مدحوا بالظمأ وَالنّصب والمخمصة ورتب عَلَيْهِ الْأجر لتسببهم إِلَيْهِ بحصولهم فِي مظانه
وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من أحد يكلم فِي سَبِيل الله وَالله أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وجرحه يثعب دَمًا اللَّوْن لون الدَّم وَالرِّيح ريح الْمسك هُوَ مُرَتّب على الْكَلم من جِهَة
(1/175)
 
 
اللَّفْظ وعَلى التَّسَبُّب إِلَيْهِ من جِهَة الْمَعْنى
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عزى مصابا فَلهُ مثل أجره تَقْدِيره مثل أجر صبره فَإِن الْمُصِيبَة لَيست من فعله حَتَّى يُؤجر عَلَيْهَا وَقد قَالَ تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} {إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَلَا أجر وَلَا جَزَاء إِلَّا على عمل مكتسب فِي نَفسه أَو مكتسب السَّبَب
(1/176)
 
 
الْفَائِدَة الْعَاشِرَة
قد يَقع فِي سِيَاق التَّعْلِيل مَا لَا يَصح أَخذه فِي التَّعْلِيل بل يذكر تقريرا للتَّعْلِيل كَقَوْلِه تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا} {ذَلِك بِأَنَّهُم كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} الْآيَة {ذَلِك بِأَن الله نزل الْكتاب بِالْحَقِّ} {أَن تضل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى}
الْفَائِدَة الْحَادِيَة عشرَة
قد تتَعَلَّق خَصَائِص الْأَمر وَالنَّهْي بأوصاف الجبلية لَا يَصح اكتسابها فَتكون تِلْكَ الخصائص مُتَعَلقَة بآثارها الدَّاخِلَة تَحت الْكسْب تعبيرا باسم السَّبَب عَن الْمُسَبّب وبالمثمر عَن ثَمَرَته وَذَلِكَ كالرأفة وَالرَّحْمَة والحلم والأناة والجود والسخاء واللين وَالْحيَاء والجبن وَالْبخل
(1/177)
 
 
والحرص وَالشح وضيق العطن والفظاظة والغلظة وَغير ذَلِك من الْأَوْصَاف الجبلية المحمودة والمذمومة
فَأمره بِالرَّحْمَةِ ومدحه للراحم أَمر بآثار الرَّحْمَة من الْإِحْسَان إِلَى المرحوم فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء مَعْنَاهُ عاملوهم مُعَاملَة الراحم وَقَوله الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن وَكَذَلِكَ الْمَدْح بالحلم والأناة فِي قَوْله تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم لحليم} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأشج عبد الْقَيْس إِن فِيك لخصلتين يحبهما الله الْحلم والأناة
(1/178)
 
 
وَكَذَلِكَ مدح الْحيَاء فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحيَاء خير كُله هُوَ مدح لآثاره من الْكَفّ عَن القبائح وَلذَلِك قَالَ الْحيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَير وَقَالَ اسْتَحْيوا من الله حق الْحيَاء وَكَذَلِكَ مدح الْكَرم والسخاء مدح لآثارهما من الْبَذْل وَالعطَاء وَلذَلِك يجْرِي حكم الذَّم بِكُل وصف جبلي وَالنَّهْي عَنهُ
فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ وَالشح إِنَّمَا نهى عَن آثاره
(1/179)
 
 
من الْإِمْسَاك عَن بذل مَا يجب بذله وَكَذَلِكَ الذَّم بالجبن مُتَعَلق بآثاره ترك الْإِقْدَام على مَا يَنْبَغِي الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الغلظة والفظاظة والجفاء وَغير ذَلِك وَكَذَلِكَ النَّهْي عَن الْهوى إِنَّمَا هُوَ نهي عَن آثاره لِأَن الْهوى ميل طبعي فالنهي عَنهُ نهي عَن مُوَافَقَته ومتابعته وَقد صرح بذلك فِي قَوْله {وَلَا تتبع الْهوى} بِخِلَاف قَوْله {وَنهى النَّفس عَن الْهوى} فَإِن مَعْنَاهُ وَنهى النَّفس عَن آثَار الْهوى
فَإِن الْهوى هُوَ الْميل إِلَى المشتهيات طبعا فَلَا يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف وَلَا ذمّ وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب
وَكَذَلِكَ قَوْله {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} لم ينْه عَن الرأفة فِي نَفسهَا لِأَنَّهَا جبلية لَا يتَعَلَّق بهَا تَكْلِيف وَإِنَّمَا النَّهْي عَن آثارها كَتَرْكِ الْجلد أَو تنقيصه أَو تخفيفه
(1/180)
 
 
وَكَذَلِكَ النَّهْي عَن الْحَسَد الهاجم الَّذِي لَا يُمكن دَفعه فَإِن النَّهْي عَنهُ نهي عَن آثاره من الْإِضْرَار بالمحسود
وَكَذَلِكَ النَّهْي عَن الظَّن الهاجم الَّذِي يتَعَذَّر دَفعه عِنْد قيام أَسبَابه فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ وَالظَّن فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث
(1/181)
 
 
إِنَّمَا نهى عَن آثَار الظَّن وَهُوَ أَن يُعَامل بآثاره المذمومة شرعا وَإِن عمل بأثر لذَلِك الظَّن غير مَذْمُوم فِي الشَّرْع فَلَا بَأْس فَإِن الجرم سوء الظَّن أَي من آثَار سوء الظَّن
وَالنَّهْي عَن العجلة نهي عَن آثارها وَقد قَالَ تَعَالَى {خلق الْإِنْسَان من عجل} {وَكَانَ الْإِنْسَان عجولا}
وَكَذَلِكَ الْجزع فِي قَوْله ... إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا إِنَّمَا هُوَ ذمّ لآثار الْجزع
وَكَذَلِكَ حب العاجلة وَحب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين لَا يتَعَلَّق الذَّم فيهمَا بِمُجَرَّد الْحبّ والميل بل بآثار الْمحبَّة الملهية عَن السَّعْي للآخرة
(1/182)
 
 
الْفَائِدَة الثَّانِيَة عشرَة
قد يتَعَلَّق النَّهْي بِشَيْء وَالْمرَاد بِهِ مَا يلازمه فَيكون مُضَافا إِلَيْهِ لفظا وَإِلَى مَا يلازمه معنى كَقَوْلِه تَعَالَى {فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} مَعْنَاهُ لَا تكفرُوا عِنْد الْمَوْت وَقَوله {وذروا البيع} مَعْنَاهُ لَا تشتغلوا عَن الْجُمُعَة وَلَا تتركوا السَّعْي إِلَيْهَا وَلَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض مَعْنَاهُ لَا يضر بَعْضكُم بِبَعْض
(1/183)
 
 
الْفَائِدَة الثَّالِثَة عشرَة
كل فعل كسبي أَضَافَهُ الله تَعَالَى إِلَى نَفسه كَانَت إِضَافَته إِلَيْهِ مدحا لَهُ كَقَوْلِه {شَهَادَة الله} و {عهد الله} و {صِرَاط الله} و {دين الله} و {صبغة الله}
وكل فعل كسبي برأَ الله أَنْبيَاء مِنْهُ فَهُوَ مَذْمُوم {مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا} {مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك} {مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عبادا لي من دون الله} وَكَذَلِكَ قَوْله {وَلَا يَأْمُركُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة والنبيين أَرْبَابًا}
(1/184)
 
 
وكل فعل أخبر الله تَعَالَى عَن كتبه أَو وَزنه فالتكليف مُتَعَلق بِهِ {سنكتب مَا يَقُول} {وَرُسُلنَا لديهم يَكْت