الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات في أصول الفقه
المؤلف: شمس الدين محمد بن عثمان بن علي المارديني الشافعي (المتوفى: 871هـ)
عدد الأجزاء: 1  
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
[رب يسر يَا كريم]
الْحَمد لله الَّذِي خلق الْعَالم من غير اقتباس، وَأرْسل سيد الْأَوَّلين والآخرين رَحْمَة لجَمِيع النَّاس، فأوضح الْكتاب وَالسّنة وأباح الِاجْتِهَاد وَالْقِيَاس؛ شَفَقَة لأمة لم تَجْتَمِع على مُخَالفَة الْحق بالانعكاس، صلى الله وَسلم عَلَيْهِ آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَعدد الأنفاس صَلَاة وَسلَامًا دائمين لَا ارتياب فيهمَا وَلَا إلتباس. وعَلى آله وَأَصْحَابه وأزواجه المطهرين من الأرجاس، وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا.
أما بعد:
فقد سَأَلَني بعض الإخوان - حفظه الله تَعَالَى - أَن اشرح لَهُ " الورقات " الَّتِي للْإِمَام الْعَالم الْعَلامَة إِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي: عبد الله بن الشَّيْخ [أبي] مُحَمَّد ضِيَاء الدّين شرحاً متوسطاً وَاضحا بالأمثال والأدلة من غير إِشْكَال
(1/65)
 
 
وألفاظ غَرِيبَة، وَلَا لُغَات عَن الأفهام بعيدَة، وَلَا إيرادات غامضة.
فَإِن هَذِه الْأَشْيَاء مِمَّا تشكل على الْمُبْتَدِي ويسبق عَمَّا بِهِ يَهْتَدِي، [وَإِنَّمَا قصدت بِهِ التَّذْكِرَة للمنتهي وإيضاحاً للمبتدي] وَإِن اضطررت إِلَى إِيرَاد آتِي بِهِ وَاضحا على مَا ستراه إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - فِي مَوْضِعه ظَاهرا. مَعَ أَن الخواطر كليلة والهموم كَثِيرَة، والاستعدادات قَليلَة.
فأجبته؛ حَيَاء لِكَثْرَة سؤله رَاغِبًا من الله الْإِجَابَة لدعائه. وَسَأَلت الله الْكَرِيم الْإِفَاضَة من بَحر إحسانه؛ إِذْ لَا ملْجأ فِي الْأُمُور إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا إتكال فِي الْأَنْعَام إِلَّا عَلَيْهِ.
وأسأل النَّاظر إِلَيْهِ أَن يعْذر فِيمَا عساه أَن يعثر عَلَيْهِ؛ لِأَن الآراء مُخْتَلفَة والأقلام لم تكن عَن كتاب مُرْتَفعَة.
وسميته ب:
" الأنجم الزاهرات على حل أَلْفَاظ الورقات "
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه، عَلَيْهِ توكلت وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
(1/66)
 
 
[الْحَمد لَهُ]
 
قَالَ رَحمَه الله - تَعَالَى: (الْحَمد لله رب الْعَالمين)
أَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: إِنَّمَا صدر كِتَابَة - بعد الْبَسْمَلَة - بِالْحَمْد؛ إقتداء بِالْكتاب وَالسّنة: -
فَإِنَّهُ تَعَالَى ذكر الْحَمد بعد الْبَسْمَلَة فِي الْفَاتِحَة وَغَيرهَا.
وَأما السّنة: فقد حث النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- على الْبَسْمَلَة وَالْحَمْد فِي الِابْتِدَاء فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (كل أَمر ذِي بَال) أَي: شَأْن مُهِمّ (لَا يبتدى فِيهِ بِبسْم الله فَهُوَ أَبتر) أَي قَلِيل الْبركَة، وَرَوَاهُ ابْن عَبَّاس.
وَفِي رِوَايَة لَهُ: " فَهُوَ أَجْذم "، وَفِي رِوَايَة: " بِالْحَمْد لله فَهُوَ أقطع " رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة.
(1/67)
 
 
وَالْمعْنَى وَاحِد.
وَلِهَذَا جرت سنة السّلف وَالْخلف بتصدير الْحَمد فِي أَوَائِل تصانيفهم
وَقد اخْتلفُوا فِي اللَّام الدَّاخِلَة على الْحَمد: -
فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا للاستغراق؛ لِأَن الْحَمد لَهُ - تَعَالَى - حَقِيقَة على جَمِيع أَفعاله.
وَيجوز أَن تكون للْعهد وَهُوَ: حَمده تَعَالَى نَفسه حِين خلق الْخلق.
أَو حمد الْمَلَائِكَة.
أَو الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم السَّلَام -
وعَلى الْقَوْلَيْنِ: الْحَمد هُوَ الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على الْمَحْمُود مُطلقًا سَوَاء كَانَ عَن نعْمَة أَو غَيرهَا.
(1/68)
 
 
فعلى هَذَا: هُوَ أَعم من الشُّكْر؛ إِذْ الشُّكْر لَا يكون إِلَّا مُقَابلا للنعمة - فَقَط -
وَالشُّكْر أَعم من وَجه آخر؛ لِأَنَّهُ ثَنَاء بِاللِّسَانِ وَالْقلب والجوارح.
وَالْحَمْد بِاللِّسَانِ - فَقَط -
فَكَانَ كل مِنْهُمَا عَاما من وَجه، وخاصاً من آخر: وَذَلِكَ بِحَسب المورد والمتعلق: -
فمورد الْحَمد وَاحِد وَهُوَ اللِّسَان، ومتعلقه مُتَعَدد؛ لكَونه عَن نعْمَة وَغَيرهَا.
ومورد الشُّكْر مُتَعَدد وَهُوَ اللِّسَان وَالْقلب والجوارح، ومتعلقة وَاحِد وَهُوَ النعم.
وَإِنَّمَا أضيف الْحَمد لله دون سَائِر أَسْمَائِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ اخْتصَّ بِهِ تَعَالَى دون
(1/69)
 
 
غَيره؛ لِأَن المخلوقين تشاركه فِي غَيره كالسميع والبصير وَغَيرهمَا، وَإِن كَانَت فِي غَيره تَعَالَى مجَازًا.
وَكَذَا لَو قلت: " الْكَرِيم " أَو " الرَّحِيم " فقد اثْبتْ لَهُ تَعَالَى صفة وَاحِدَة.
بِخِلَاف إِذا قلت: " يَا الله " فَهُوَ جَامع لجَمِيع أَسْمَائِهِ وَصِفَاته؛ لدلالته على الربوبية.
وَإِن سقط مِنْهُ حرف فَهُوَ: لله، وَإِن سقط حرفان لَهُ، وَإِن سقط ثَلَاثَة فَهُوَ هُوَ. وَهُوَ غَايَة الْمَقْصُود بِخِلَاف سَائِر الْأَسْمَاء.
وَأما " الرب " فيطلق وَيُرَاد بِهِ الْمَالِك؛ لِأَن رب الشَّيْء مَالِكه كرب الدَّار وَغَيرهَا.
وَيُطلق على المصلح - أَيْضا - فَيُقَال: " رب الْأَدِيم " أَي: أصلحه.
وَيُطلق على المربي.
وَفِي الْجُمْلَة لَا تطلق لَفْظَة " الرب " من غير إِضَافَة إِلَّا على الله - تَعَالَى -
(1/70)
 
 
دون غير
[وَأما مُضَافا فَيجوز إِطْلَاقهَا على غَيره] كَقَوْلِه تَعَالَى - حِكَايَة عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام -: {إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي} [سُورَة يُوسُف: 23]
وَكَذَلِكَ قَوْلهم: " رب النَّاقة وَالدَّار " وَغير ذَلِك.
و" الْعَالمين " جمع عَالم، وَهُوَ: مَا سوى الله - تَعَالَى - من سَائِر الْمَخْلُوقَات.
وَقيل: مَا فِيهِ حَيَاة
وَقيل: غير ذَلِك.
(1/71)
 
 
[الصَّلَاة على النَّبِي وَآله وَصَحبه]
 
قَالَ: (وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ) .
أَقُول: لما أثنى على الله - تَعَالَى - سَأَلَهُ الصَّلَاة على رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، لِأَن الصَّلَاة من الله: الرَّحْمَة.
وَمن الْمَلَائِكَة: الاسْتِغْفَار.
وَمن الْآدَمِيّين: التضرع وَالدُّعَاء.
وَإِنَّمَا أعقب الصَّلَاة بعد الْحَمد؛ لِكَثْرَة اقتران اسْمه عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ اسْمه تَعَالَى وَلِهَذَا جرت السّنة من السّلف وَالْخلف بِاتِّبَاع الصَّلَاة بعد الْحَمد فِي تصانيفهم - رَحِمهم الله تَعَالَى -
وَإِنَّمَا سمي مُحَمَّدًا؛ لِكَثْرَة خصاله الحميدة.
(1/72)
 
 
وَنَبِيًّا؛ لنبوته، وَهُوَ الِارْتفَاع على سَائِر الْخلق.
أَو الإنبائه وَهُوَ الْإِخْبَار للنَّاس عَن الله تَعَالَى.
وَأما " الْآل " فأصله أهل لتصغيره على أهيل؛ لِأَن التصغير يرد الْأَشْيَاء إِلَى أَصْلهَا؛ لِأَن الْهَاء قلبت همزَة؛ لقرب مخرجهما، ثمَّ قلبت الْهمزَة ألفا؛ لانفتاح مَا قبلهَا فَصَارَ " آل "
وَفِيه دَلِيل على جَوَاز إِضَافَة " الْآل " إِلَى مُضْمر.
وَبِه قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء وَأنْكرهُ الْكسَائي والنحاس.
(1/73)
 
 
والزبيدي وَقَالُوا: لَا يجوز إِضَافَته إِلَّا إِلَى مظهر فَلَا يُقَال إِلَّا " آل مُحَمَّد "
وَاخْتلفُوا فِي " الْآل " على ثَلَاثَة أَقْوَال: -
فَذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه إِلَى أَنهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي وَغَيره من الْمُحَقِّقين: هم جَمِيع الْأمة.
(1/74)
 
 
وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم ".
وَقيل: أهل بَيته وعترته.
و" الصَّحَابَة " جمع صَاحب وَهُوَ: كل مُسلم رأى النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَلَو سَاعَة
(1/75)
 
 
وَبِه قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء.
وَقيل: من طَالَتْ صحبته.
وَهُوَ الرَّاجِح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ وَالله أعلم
[تَقْدِيم الْكتاب]
 
قَالَ: (وَبعد. فَهَذِهِ وَرَقَات تشْتَمل على أصُول الْفِقْه) .
أَقُول: لما فرغ أَولا من الثَّنَاء على الله، وَالصَّلَاة على رَسُوله، وَآله وَصَحبه أَشَارَ إِلَى مَا هُوَ بصدده فَقَالَ: " وَبعد " أَي: أَقُول - بعد الْحَمد وَالصَّلَاة - مَا تشْتَمل عَلَيْهِ هَذِه الورقات.
(1/76)
 
 
وَهِي جمع قلَّة؛ لِأَنَّهَا جمع ورقة
وَإِنَّمَا حصر الْأُصُول فِي وَرَقَات قَليلَة؛ تسهيلاً للمبتدي بِهِ، وَتَذْكِرَة للمنتهي عَنهُ.
[بَيَان أَن أصُول الْفِقْه يتكون من جزأين]
 
قَالَ: (وَهُوَ لفظ مؤلف من جزأين مفردين، أَحدهمَا الْأُصُول، وَالْآخر: الْفِقْه) :
أَقُول: شرع يبين اسْم هَذَا الْعلم، فَقَالَ: " هُوَ لفظ مؤلف " أَي مركب.
وَقيل: الْمركب غير الْمُؤلف؛ لِأَن الْمُضَاف، مؤلف ك " عبد الله " و " غُلَام زيد " وَمَا أشبههما.
والمركب ك " بعلبك " و " خَمْسَة عشر " وَمَا أشبههما.
وَقَوله: " من جزأين مفردين " يُشِير إِلَى أَن التَّأْلِيف قد يكون من جزأين مفردين كاسم هَذَا الْعلم؛ لِأَن " الْأُصُول " مُفْرد، و " الْفِقْه " كَذَلِك.
فقد يكون من جملتين كَقَوْلِك: " إِن قَامَ زيد قُمْت " فَإِن مَعَ الْفِعْل وَالْفَاعِل جملَة و " قُمْت " جملَة أُخْرَى.
لَكِن معرفَة الْمُؤلف متوقفة على معرفَة أَجْزَائِهِ، ثمَّ على معرفَة فَائِدَة النِّسْبَة بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ فشرع فِي تعريفهما.
(1/77)
 
 
[تَعْرِيف الأَصْل]
 
قَالَ: (الأَصْل: مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره) .
أَقُول: إِنَّه رَحمَه الله يُشِير إِلَى أَن لكل طَالب علم أَن يتَصَوَّر ذَلِك الْعلم أَولا عِنْد اشْتِغَاله بِهِ فَحِينَئِذٍ يحْتَاج إِلَى معرفَة حَده؛ لِأَن الْحَد يُفِيد التَّصَوُّر.
فشرع يبين حد " الْأُصُول " و " الْفِقْه وَإِنَّمَا جمع الْأُصُول؛ ليعم الْكتاب وَالسّنة وَالْقِيَاس وَغَيرهَا. وَالْأَصْل فِي اللُّغَة: مَا يبْنى عَلَيْهِ غَيره.
وَهَذَا أحسن مَا قيل فِي حَده.
(1/78)
 
 
وَفِي اصْطِلَاح أهل هَذَا الْفَنّ هُوَ الدَّلِيل.
وَإِنَّمَا كَانَ الدَّلِيل أصلا؛ لانبناء الْأَحْكَام عَلَيْهِ، واستنباطها مِنْهُ.
لَكِن سكت الشَّيْخ - رَحمَه الله - عَن بَيَان فَائِدَة النِّسْبَة بَين الْمُضَاف والمضاف
(1/79)
 
 
إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لما شَرط معرفَة الجزأين: شَرط معرفَة النِّسْبَة بَينهمَا.
أَقُول: لما كَانَ الأَصْل اسْم معنى، وَالْمعْنَى يفْتَقر إِضَافَته إِلَى آخر ليُفِيد اختصاصاً أَو غَيره فأضافة إِلَى الْفِقْه.
[تَعْرِيف الْفَرْع]
 
قَالَ: (وَالْفرع: مَا يبْنى على غَيره) .
أَقُول: لما ذكر أَولا الأَصْل: ذكره بعده الْفَرْع اسْتِطْرَادًا؛ لِأَنَّهُ مَا يُقَابل الأَصْل إِلَّا الْفَرْع.
وَلِهَذَا يُقَال للْمَذْهَب فرع الْأُصُول؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيّ عَلَيْهِ، ومرتب على قَوَاعِده.
[تَعْرِيف الْفِقْه]
 
قَالَ: (وَالْفِقْه: معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الَّتِي طريقها الِاجْتِهَاد) .
أَقُول: لما فرغ من تَعْرِيف الْأُصُول أَخذ فِي تَعْرِيف الْجُزْء الثَّانِي وَهُوَ: الْفِقْه؛ لِأَن الْفِقْه فِي اللُّغَة: الْفَهم
(1/80)
 
 
وَفِي الِاصْطِلَاح مَخْصُوص بِمَعْرِِفَة الْأَحْكَام ... . إِلَى آخِره.
وَإِنَّمَا قيد الْأَحْكَام بالشرعية؛ لتخرج الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة كَقَوْلِنَا: " الْحَرَكَة
(1/81)
 
 
والسكون لَا يَجْتَمِعَانِ فِي حَال وَاحِد وَلَا يرتفعان " لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد إِمَّا أَن يكون سَاكِنا أَو متحركاً.
وَكَذَا " الْبيَاض والسواد " و " النَّفْي الْإِثْبَات ".
وَكَذَا قَوْلنَا: " الْكل أعظم من الْجُزْء ".
فَإِن هَذِه الْأَشْيَاء تعرف بِالْعقلِ.
بِخِلَاف الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَهِيَ لَا تعرف إِلَّا بِالنَّقْلِ كالتبييت شَرط فِي صَوْم رَمَضَان، وَأَن لَا زَكَاة فِي حلي مُبَاح، وَلَا فِي الْإِبِل إِذا لم تكن سَائِمَة.
(1/82)
 
 
فَهَذِهِ الْأَشْيَاء لَا تعرف إِلَّا بِالشَّرْعِ، لَا بِالْعقلِ.
وَلِهَذَا لم يقل للعارف بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّة: فَقِيه.
وَقَوله: " الَّتِي طريقها الِاجْتِهَاد " أَرَادَ إِخْرَاج الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة القطعية الَّذِي يُشَارك فِي مَعْرفَتهَا الْعَام وَالْخَاص كَقَوْلِنَا: " الصَّلَوَات الْخمس وَاجِبَة " وَكَذَا: " الْحَج " و " إِن الزِّنَا محرم " وَكَذَا " السّرقَة ".
فَلَا تتَوَقَّف معرفَة هَذِه على الِاجْتِهَاد، وَلَا يُقَال للعارف بهَا فَقِيه.
وَإِنَّمَا الْفَقِيه هُوَ الْعَارِف بمسائل النّظر وَالِاجْتِهَاد الَّتِي لَيْسَ للعوام مِنْهَا سوى التَّقْلِيد.
(1/83)
 
 
فَإِن قيل: الْألف وَاللَّام الدَّاخِلَة على الْأَحْكَام لم يتَقَدَّم لَهَا ذكر لتَكون للْعهد وَلَا يجوز أَن تكون للاستغراق إِذْ مَا من أحد إِلَّا وَلَا بُد أَن يشذ عَنهُ شَيْء من الْأَحْكَام، فَحِينَئِذٍ يتَعَذَّر وجود فَقِيه وَاحِد.
وَلَا يجوز أَن يحمل على الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ لَو حمل عَلَيْهَا لقيل لكل من عرف حكما وَاحِدًا: فَقِيه. وَلَيْسَ كَذَلِك على تعريفهم.
وَالْجَوَاب: أَن الْأَحْكَام السَّبْعَة الْآتِي ذكرهَا وَإِن لم تذكر فَهِيَ معهودة عِنْد الْإِطْلَاق فَيصْرف إِطْلَاقهم الْأَحْكَام إِلَيْهَا وَالله أعلم.
(1/84)
 
 
[أَنْوَاع الْأَحْكَام]
 
قَالَ: (الْأَحْكَام سَبْعَة: " الْوَاجِب " و " الْمَنْدُوب " و " الْمُبَاح " و " الْمَحْظُور " و " الْمَكْرُوه " و " الصَّحِيح " و " الْبَاطِل ") .
أَقُول: إِنَّه أَخذ فِي عدد الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِأَفْعَال الْمُكَلّفين وَهِي سَبْعَة على مَا اخْتَار - هَا هُنَا؛ لِأَن خطابة تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين فِي الْمُعَامَلَات وَغَيرهَا.
فَإِن تعلق بهَا إِمَّا أَن يكون صَحِيحا أَو بَاطِلا؛ لِأَن الْمُعَامَلَات إِن كَانَت على الْوَجْه الشَّرْعِيّ تعلق الحكم بِصِحَّتِهَا وَإِلَّا ببطلانها.
وَإِن تعلق الْخطاب بغَيْرهَا من أَفعَال الْمُكَلّفين فَلَا يَخْلُو: أَن يَقْتَضِي الطّلب،
(1/85)
 
 
أَو التّرْك.
فَالْأول: إِن كَانَ لَازِما فَهُوَ الْوَاجِب كأمره تَعَالَى بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاة وَالْحج وَغير ذَلِك.
وَإِن لم يكن الطّلب لَازِما فَهُوَ الْمَنْدُوب كَسَائِر السّنَن.
وَالثَّانِي وَهُوَ التّرْك؛ لِأَن الْخطاب إِذا اقْتضى التّرْك فَإِن كَانَ جَازِمًا فَهُوَ الْحَظْر أَي: الْحَرَام كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا تقربُوا الزِّنَا} [سُورَة الْإِسْرَاء: 32] {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [سُورَة الْبَقَرَة: 188] {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} [سُورَة الْإِسْرَاء: 33] وَمَا أشبه ذَلِك.
فَهَذَا خطاب يَقْتَضِي التّرْك جزما.
وَإِن لم يقتض التّرْك جزما [فمكروه كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد) ، وَكَذَا الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ، وَالْكَلَام] على الْغَائِط وَالسَّلَام على الْآكِل، وَالْمُصَلي، وَالْقَاضِي حَاجته، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَإِن أذن فِي فعله من غير حث، أَو خير بَين فعله وَتَركه فَهُوَ مُبَاح كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [سُورَة الْمَائِدَة: 2] فَهُوَ [للتَّخْيِير] ؛ إِذْ لَا يجب الصَّيْد عِنْد الْإِحْلَال من الْإِحْرَام، وَلَا يسن فَحمل على الْإِبَاحَة.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} [سُورَة الْجُمُعَة: 10] وَمَا أشبههما.
(1/86)
 
 
وَمِنْهُم من جعل الْأَحْكَام خَمْسَة؛ لِأَن الصَّحِيح فِي حكم الْمُبَاح، وَالْبَاطِل فِي حكم الْمَحْظُور وَالله أعلم.
(1/87)
 
 
[تَعْرِيف الْوَاجِب]
 
قَالَ: (الْوَاجِب مَا يُثَاب على فعله ويعاقب على تَركه) .
أَقُول: لما فرغ من تَقْسِيم الْأَحْكَام شرع فِي تَعْرِيف الْأَفْعَال الْمُتَعَلّقَة بهَا فرسمه أَولا؛ لِأَنَّهُ أصل بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْأَحْكَام.
فَأصل الْوَاجِب فِي اللُّغَة: السُّقُوط؛ لِأَن السَّاقِط يلْزم مَكَانَهُ، فَسُمي اللازام الَّذِي لَا خلاص مِنْهُ وَاجِبا.
ويرسم الْوَاجِب فِي اصْطِلَاح أهل هَذَا الْفَنّ [ب] " مَا يُثَاب فَاعله،
(1/88)
 
 
ليخرج " الْحَرَام " و " الْمَكْرُوه " و " الْمُبَاح " فَإِن هَؤُلَاءِ لَا يُثَاب فاعلهم.
قَوْله: " ويعاقب تَاركه " ليخرج " الْمَنْدُوب "؛ فَإِنَّهُ يُثَاب على فعله، لَكِن لَا يُعَاقب على تَركه.
فانطبق الرَّسْم على الْوَاجِب كالصلوات الْخمس، وَصَوْم رَمَضَان وَالْحج [وَغَيرهَا لتحَقّق] الوصفين فِيهِ وهما: " الثَّوَاب على الْفِعْل " و " الْعقَاب على التّرْك " وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْمَنْدُوب]
 
قَالَ: (وَالْمَنْدُوب: مَا يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على تَركه) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْوَاجِب: شرع فِي رسم الْمَنْدُوب؛ ليميزه عَن أقسامه. فَقَالَ: " الْمَنْدُوب: مَا يُثَاب على فعله " كالسنن مثلا؛ فَإِنَّهُ يُثَاب على فعلهَا.
وَخرج بِهَذَا الْقَيْد " الْمَحْظُور " و " الْمَكْرُوه و " الْمُبَاح " فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على فعلهم.
(1/89)
 
 
و [ب] قَوْله: " وَلَا يُعَاقب على تَركه " خرج الْوَاجِب.
وانطبق الرَّسْم على الْمَنْدُوب لتحَقّق الوصفين وهما: " الثَّوَاب على الْفِعْل، و " عدم الْعقَاب على التّرْك ".
وَيُسمى الْمَنْدُوب أَيْضا " نَافِلَة " و " سنة " وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْمُبَاح]
 
قَالَ: (والمباح: مَا لَا يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على تَركه)
أَقُول: لما فرغ من رسم الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب شرع فِي رسم الْمُبَاح فَقَالَ: مَا لَا يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على تَركه " وَفِيه دَلِيل على أَن صل الْمُبَاح الاتساع وَمِنْه يُقَال: " بحبوحة الْجنَّة " وَهُوَ: مَا اتَّسع مِنْهَا.
وَقد وسع على الْمُكَلف فِيهِ؛ إِذْ لَا يُعَاقب على فعله وَتَركه، وَلَا يُثَاب عَلَيْهِمَا
(1/90)
 
 
فَخرج " الْوَاجِب " و " الْمَنْدُوب " بقوله " لَا يُثَاب على فعله "؛ لِأَنَّهُ يُثَاب على فعلهمَا.
وَكَذَا " الْحَرَام " و " الْمَكْرُوه " فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على فعلهمَا.
وَخرج بقوله: " وَلَا يُعَاقب على تَركه " الْوَاجِب؛ فَإِنَّهُ يُعَاقب على تَركه.
وانطبق الرَّسْم على الْمُبَاح؛ لتحَقّق الوصفين وهما: " عدم الثَّوَاب " و " [عدم] الْعقَاب فِيهِ " وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْمَحْظُور]
 
قَالَ: (والمحظور مَا يُثَاب على تَركه، ويعاقب على فعله) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْأَحْكَام الثَّلَاثَة: شرع فِي الرَّابِع وَهُوَ " الْحَرَام "؛ لِأَن أصل الْحَظْر: الْمَنْع، وَلِهَذَا يُقَال لكل مَا يمْنَع الْمَاشِيَة من الْخُرُوج: " حَظِيرَة "
وَالْحرَام مَمْنُوع مِنْهُ شرعا كَالزِّنَا، وَشرب الْخمر، وَمَا أشبههما.
(1/91)
 
 
وَقَوله: " مَا يُثَاب على تَركه " ليخرج " الْوَاجِب "؛ فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على تَركه، بل يُعَاقب كَمَا سبق
وَخرج " الْمُبَاح " أَيْضا، إِذْ لَا يُثَاب على تَركه.
وَكَذَا " الْمَنْدُوب "؛ فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على تَركه - أَيْضا -
وَقَوله: " ويعاقب على فعله " يخرج " الْوَاجِب "؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقب على فعله، بل يُثَاب على فعله.
وَكَذَا " الْمَنْدُوب "؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقب على فعله، بل يُثَاب على فعله.
وَكَذَا " الْمُبَاح "؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقب على فعله
وَكَذَا " الْمَكْرُوه "؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقب على فعله.
وَقد انطبق الرَّسْم على الْمَحْظُور؛ لتحَقّق الصفتين وهما: " وجود الثَّوَاب على تَركه " و " وجود الْعقَاب على فعله "
وَهَذَا إِذا تَركه؛ لامتثال الْأَمر والتقرب إِلَى الله - تَعَالَى - فَإِنَّهُ يُثَاب على تَركه.
أما إِذا تَركه لعدم وُصُوله إِلَيْهِ، أَو من غير نِيَّة لامتثال الْأَمر فَلَيْسَ لَهُ ثَوَاب على تَرِكَة. وَالله أعلم.
(1/92)
 
 
[تَعْرِيف الْمَكْرُوه]
 
قَالَ: (وَالْمَكْرُوه مَا يُثَاب على تَركه، وَلَا يُعَاقب على فعله) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْأَحْكَام الْأَرْبَعَة شرع فِي رسم الْخَامِس وَهُوَ: الْمَكْرُوه.
وَهُوَ مُشْتَقّ من الْكَرَاهَة؛ لِأَنَّهُ كلما نهى عَنهُ الشَّرْع تَنْزِيها فَهُوَ مَكْرُوه.
وَقد سبق لَهُ أَمْثِلَة فِي تَقْسِيم الْأَحْكَام.
ثمَّ رسمه ب " مَا يُثَاب على تَركه ".
وَكَذَا إِذا كَانَ التّرْك بِقصد التَّقَرُّب إِلَى الله - تَعَالَى - كَمَا سبق - أَيْضا - فِي رسم الْحَرَام.
وَقَوله: " مَا يُثَاب على تَركه " يخرج " الْوَاجِب "؛ فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على تَركه، بل يُعَاقب.
وَكَذَا يخرج " الْمَنْدُوب " و " الْمُبَاح "؛ فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على تَركهمَا.
وَأخرج الْحَرَام بقوله: " وَلَا يُعَاقب على فعله "؛ فَإِن الْحَرَام يُعَاقب على فعله
وانطبق الرَّسْم على الْمَكْرُوه لتحَقّق الصفتين وهما: " الثَّوَاب على ترك فعله " و " عدم الْعقَاب على فعله " وَالله أعلم.
(1/93)
 
 
[تَعْرِيف الصَّحِيح]
 
قَالَ: (وَالصَّحِيح: مَا يعْتد بِهِ وَيتَعَلَّق بِهِ النّفُوذ) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْأَحْكَام الْخَمْسَة غير الْمُتَعَلّقَة بالمعاملات: شرع فِي رسم الحكم السَّادِس الْمُتَعَلّق بالمعاملات وَهُوَ: الصَّحِيح؛ لِأَن الْعُقُود إِذا أفادت الْمَقْصُود الشَّرْعِيّ سميت صَحِيحا كَالْبيع - مثلا - إِذا أَفَادَ الْملك، وَالنِّكَاح إِذا أَفَادَ حل الْوَطْء وَمَا أشبههما فَإِن الْعُقُود الشَّرْعِيَّة يعْتد بهَا، وَمَا يعْتد بِهِ يُوصف بِالصِّحَّةِ وَيكون نَافِذا.
فَلَو اكْتفى بِإِحْدَى اللَّفْظَيْنِ: كَانَ أولى؛ لِأَن الرسوم مَبْنِيَّة على الِاقْتِصَار من غير ترادف. وَالله أعلم.
(1/94)
 
 
تَعْرِيف الْبَاطِل
 
قَالَ: (وَالْبَاطِل: مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ النّفُوذ وَلَا يعْتد بِهِ) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الصَّحِيح الْمُتَعَلّق بالمعاملات شرع فِي رسم مَا يُقَابله فِيهَا وَهُوَ الْبَاطِل، وَيُقَال لَهُ الْفَاسِد - أَيْضا -؛ إِذْ لَا فرق بَينهمَا عندنَا.
وَفرق بَينهمَا أَبُو حنيفَة وَقَالَ: كل مَا لم يشرع بِأَصْلِهِ وَوَصفه فَبَاطِل كَبيع الملاقيح - وَهُوَ: مَا فِي بطُون
(1/95)
 
 
الْأُمَّهَات فَإِنَّهُ لم يشرع بِأَصْلِهِ، وَلَا وَصفه؛ لِأَن من أصل الْمَبِيع: أَن يكون مَوْجُودا عِنْد العقد، وَمن وَصفه: أَن يكون مَقْدُورًا على تَسْلِيمه، وهما منتفيان هُنَا.
وَمَا شرع بِأَصْلِهِ دون وَصفه كالربا فَإِنَّهُ مَشْرُوع فِي أَصله؛ لِأَن بيع الْجِنْس بِالْجِنْسِ مَشْرُوع، لَكِن الصّفة منتفية هُنَا؛ لوُجُود الزِّيَادَة فيسمى هَذَا عِنْده فَاسِدا.
وَكَذَا نِكَاح العَبْد الْحرَّة بِشَرْط أَن تكون رقبته صَدَاقهَا، فَإِن النِّكَاح مَشْرُوع دون الْوَصْف.
وَكَذَا مخالعة الصَّغِيرَة وَنَحْو ذَلِك.
وَمَا بَطل من أَصله يُسمى بَاطِلا.
وَفِي الْجُمْلَة: فَهَذِهِ الْعُقُود - كلهَا - سَوَاء قُلْنَا ببطلانها أَو فَسَادهَا فَلَا تفِيد الْمَقْصُود، وَلَا يعْتد بهَا.
وَلَو اقْتصر الشَّيْخ - رَحمَه الله تَعَالَى - على أحد اللَّفْظَيْنِ لَكَانَ أولى، كَمَا سبق فِي الصَّحِيح وَالله أعلم.
(1/96)
 
 
[الْفرق بَين الْفِقْه وَالْعلم]
 
قَالَ: (وَالْفِقْه أخص من الْعلم) .
أَقُول: لما فرغ من تَقْسِيم الْأَحْكَام وتعريفها شرع فِي الْفرق بَين " الْفِقْه " و " الْعلم ".
فَقَالَ: " الْفِقْه أخص من الْعلم " وَهُوَ كَذَلِك؛ لِأَن الْفِقْه هُوَ: معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة - فَقَط.
بِخِلَاف الْعلم فَإِنَّهُ يُطلق على الْفِقْه والنحو والْحَدِيث وَغَيرهَا فَكَانَ الْفِقْه نوعا مِنْهَا وَلِهَذَا يُقَال: " كل فقه علم "، وَلَا يُقَال " كل علم فقه " وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْعلم]
 
قَالَ: (وَالْعلم: معرفَة الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ) .
أَقُول: لما فرغ من تَعْرِيف الْفِقْه شرع فِي حد الْعلم.
وَبِه قَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء.
(1/97)
 
 
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْعلم لَا يحد؛ لِأَن الْأَشْيَاء - كلهَا - لَا تعرف إِلَّا بِالْعلمِ، وَالْحَد يكْشف عَن حَقِيقَة الْمَحْدُود:
فَلَو حد الْعلم فَلَا يَخْلُو أَن يحد بِهِ، أَو بِغَيْرِهِ.
فَإِن حد بِغَيْرِهِ: كَانَ محالاً؛ لِأَن الْعلم لَا ينْكَشف بِغَيْرِهِ
وَإِن حد بِهِ: فَهُوَ - أَيْضا - محَال؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف الشَّيْء بِنَفسِهِ.
وَظَاهر كَلَام الشَّيْخ يَقْتَضِي الْحَد هُنَا.
وَفِي كِتَابه الْمُسَمّى ب " الْبُرْهَان ": أَن الْعلم لَا يحد.
وَالْمرَاد بِالْعلمِ هُوَ الَّذِي يعرف الْأَشْيَاء على مَا هِيَ كَمَا أَن النَّار حارة، وَالْحجر جامد، وَالسَّمَاء مُرْتَفعَة، وَأَن الْإِنْسَان نَاطِق، وَمَا أشبه ذَلِك؛ لِأَن معرفَة هَذِه الْأَشْيَاء لَا تحْتَمل غير مَا فِي علم الْإِنْسَان، بل هِيَ فِي الْخَارِج على مَا هِيَ فِي الذِّهْن، وَلِهَذَا قيد الْعلم بِمَعْرِِفَة الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ وَالله أعلم
(1/98)
 
 
[تَعْرِيف الْجَهْل]
 
قَالَ: (وَالْجهل تصور الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ بِهِ) .
أَقُول: لما فرغ من حد الْعلم شرع فِي حد الْجَهْل؛ لِأَنَّهُ يُقَابل الْعلم.
وَالْجهل على قسمَيْنِ: -
بسيط وَهُوَ: عدم الْعلم بالشَّيْء الْغَائِب كالجهل بِمَا فِي الْبحار من الْحَيَوَانَات، وَمَا تَحت الْأَرْضين، وَمَا فِي غَد وَنَحْو ذَلِك، فالجهل فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَاحِد - وَلِهَذَا قيل لَهُ: " جهل بسيط ".
وَالْمرَاد هُنَا هُوَ الْجَهْل الْمركب وَهُوَ: تصور الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ بِهِ كاعتقاد المجسمة أَن الْبَارِي جلّ جَلَاله جسم.
والمعتزلة أَنه تَعَالَى لَا يرى فِي الْآخِرَة.
فَهَذَا جهل مركب من جزأين: -
أَحدهمَا: عدم الْعلم.
وَالثَّانِي: اعْتِقَاد غير مُطَابق. وَالله أعلم.
(1/99)
 
 
[تَعْرِيف الْعلم الضَّرُورِيّ]
 
قَالَ: (الْعلم الضَّرُورِيّ: مَا لم يَقع عَن نظر واستدلال.
كَالْعلمِ الْوَاقِع بِإِحْدَى الْحَواس الْخمس الَّتِي هِيَ: حاسة السّمع، وَالْبَصَر، والشم والذوق واللمس، أَو بالتواتر.
أَقُول: لما فرغ من حد الْعلم أَولا أردفه بِالْجَهْلِ اسْتِطْرَادًا؛ لِأَنَّهُ يُقَابله، ثمَّ شرع فِي تَقْسِيم الْعلم، وانه يَنْقَسِم إِلَى ضَرُورِيّ وَغَيره.
وَالْمرَاد بِالْعلمِ هُنَا: الْحَادِث، لَا الْعلم الْقَدِيم؛ فَإِن علمه تَعَالَى لَا يُقَال لَهُ: " ضَرُورِيّ " وَلَا " اكْتِسَاب ".
بِخِلَاف علم الْعباد؛ فَإِن الْأَشْيَاء إِذا علمت بِأحد الْحَواس من غير نظر واستدلال كَمَا لَو سمع نهيق حمَار: علم أَنه صَوته، وَكَذَا صَهِيل الْفرس.
وَكَذَا من رأى لوناً أَبيض أَو أسود، أَو مس جسما علم أَنه ناعم، أَو خشن، أَو شم رَائِحَة علم أَنَّهَا طيبَة أَو كريهة، أَو ذاق طَعَاما: علم أَنه حامض أَو مر.
فَإِن هَذِه الْأَشْيَاء يعلمهَا الْإِنْسَان بديهيا من غير نظر واستدلال، وَلَا يُمكن اندفاعها عَن علمه، بل بِمُجَرَّد حُصُول الصَّوْت فِي الْأذن أدْرك مَعْنَاهُ.
وَكَذَا فتح الحدقة فِيمَا يُمكن رُؤْيَته.
وَكَذَا ملاقاة بشرة الملموس، وَكَذَا نشق الْهوى للرائحة.
(1/100)
 
 
وَكَذَا اتِّصَال المذوق إِلَى اللِّسَان.
فَإِن هَذِه الْأَشْيَاء تعلم بالحواس الْخمس.
ثمَّ أعقبهم بالتواتر أَي: يُشِير إِلَى أَن من الْعلم الضَّرُورِيّ لَا يُدْرِكهُ بالحواس، بل بالتواتر كعلمنا بِبَلَد لم نره، بل علم يَقِينا بالتواتر، وكعلمنا. بِالْمَلَائِكَةِ والأنبياء، وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغير ذَلِك.
وَلنَا قسم سَابِع تدْرك بِهِ الْأَشْيَاء من غير نظر واستدلال كعلمنا أَن الْبيَاض والسواد لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحل وَاحِد، وَأَن الْجُزْء أقل من الْكل، وَأَن الشَّيْء الْوَاحِد لَا يكون مَعْدُوما مَوْجُودا فِي حَال وَاحِد.
فَإِن هَذِه الْأَشْيَاء - كلهَا - تعلم ضَرُورَة من غير نظر واستدلال وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْعلم المكتسب، وَالنَّظَر، وَالِاسْتِدْلَال وَالدَّلِيل]
 
قَالَ: (وَالْعلم المكتسب: مَا يَقع عَن نظر واستدلال.
وَالنَّظَر هُوَ: الْفِكر فِي حَال المنظور فِيهِ.
وَالِاسْتِدْلَال: طلب الدَّلِيل.
وَالدَّلِيل: هُوَ المرشد إِلَى الْمَطْلُوب) .
(1/101)
 
 
أَقُول: لما فرغ من تَعْرِيف الْعلم الضَّرُورِيّ شرع فِي [تَعْرِيف] الْعلم المكتسب، وَهُوَ: الَّذِي لَا تعلم الْأَشْيَاء الْمَطْلُوبَة [إِلَّا بِنَظَر] واستدلال.
وَلَو اقْتصر على أحد اللَّفْظَيْنِ كفى؛ لِأَن النّظر - فِي الْحَقِيقَة - هُوَ الطّلب، وَالِاسْتِدْلَال كَذَلِك.
لَكِن رُبمَا جمع بَينهمَا زِيَادَة إِيضَاح.
وَلِهَذَا فسر كل وَاحِد مِنْهُمَا بتفسير فِي الظَّاهِر، وَإِن كَانَت الْحَقِيقَة وَاحِدَة: فَقَالَ: -
النّظر هُوَ: الْفِكر فِي حَال المنظور فِيهِ.
وَالِاسْتِدْلَال: طلب الدَّلِيل، كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن النّظر أَعم من الِاسْتِدْلَال وَلِهَذَا عرفه بالفكر فِي حَال المنظور فِيهِ؛ لِأَن الْفِكر قد يكون من جِهَة مَا يصدق بِهِ وَيحكم عَلَيْهِ كَقَوْلِنَا: " الرِّبَا حرَام " و " الْمُتْعَة حرَام " و " الِاسْتِئْجَار على الوطي حرَام " فَهَذِهِ عُقُود علم تَحْرِيمهَا بالفكر وَالِاسْتِدْلَال وَحكم عَلَيْهَا.
وَقد يكون الْفِكر من جِهَة تصور مَا وَلَا يحكم عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لعدم الِاسْتِدْلَال، فَكَانَ الْفِكر أَعم، وَالِاسْتِدْلَال أخص؛ لوُجُوده فِي أحد الفكرين.
(1/102)
 
 
ثمَّ فسر الِاسْتِدْلَال بِطَلَب الدَّلِيل المرشد إِلَى الْمَطْلُوب، فَكَأَنَّهُ جعل الِاسْتِدْلَال طلب الدَّلِيل المرشد إِلَى الْمَقْصُود سَوَاء اتَّصل إِلَى الْمَقْصُود بطرِيق قَطْعِيّ أَو ظَنِّي عِنْد الْفُقَهَاء.
وَفرق المتكلمون بَين مَا يُوصل إِلَى الْمَقْصُود أَن يكون بطرِيق قَطْعِيّ أَو ظَنِّي، فَمَا أوصل بطرِيق قَطْعِيّ يُسمى دَلِيلا، وَإِلَّا يُسمى أَمارَة وَالله أعلم
[تَعْرِيف الظَّن]
 
قَالَ: (وَالظَّن: تَجْوِيز أَمريْن أَحدهمَا أظهر من الآخر) .
أَقُول: لما ذكر رسم الْأُصُول، ورسم الْفِقْه، ورسم الْعلم الَّذِي بِهِ يتَوَصَّل إِلَى معرفتهما: شرع فِي الْفرق بَين " الظَّن " و " الشَّك " اللَّذين بهما يتَوَصَّل أَيْضا إِلَى معرفَة الْأُصُول وَالْفِقْه فَقَالَ: -
الظَّن: تَجْوِيز أَمريْن أَحدهمَا أظهر من الآخر كَمَا لَو هبت الرِّيَاح وتغيمت
(1/103)
 
 
السَّمَاء فِي الشتَاء فَإِن الرَّاجِح من هذَيْن الِاحْتِمَالَيْنِ وُقُوع الْمَطَر، وَهُوَ الظَّن.
والطرف المرجوع الْمُقَابل للراجح يُسمى وهما وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الشَّك]
 
قَالَ: (وَالشَّكّ: تَجْوِيز أَمريْن لامزية لأَحَدهمَا على الآخر) .
أَقُول: لما فرغ من تَعْرِيف الظَّن الَّذِي هُوَ الطّرف الرَّاجِح أَخذ فِي بَيَان مَا يَسْتَوِي طرفاه من غير تَرْجِيح كَمَا لَو تَيَقّن الْوضُوء وَالْحَدَث، ثمَّ جهل السَّابِق مِنْهُمَا.
فَإِن غلب عَلَيْهِ تقدم أحد الْأَمريْنِ سمى الْغَالِب ظنا، وَالثَّانِي وهما.
وَإِن اسْتَوَى الطرفان من غير تَرْجِيح سمي شكا.
وَهَذَا فِي اصْطِلَاح أهل هَذَا الْفَنّ.
وَإِلَّا فَفِي اللُّغَة لَا فرق بَين الظَّن وَالشَّكّ، وَبِه قَالَ الْخَلِيل ابْن أَحْمد.
(1/104)
 
 
وَإِنَّمَا ميز الشَّيْخ - رَحمَه الله - بَينهمَا؛ إِشَارَة لأقسام تردد على الْعلم، وَلها مدْخل فِي الْمَذْهَب فَتَارَة يتَوَصَّل إِلَى معرفَة أصُول الْفِقْه بِالْعلمِ، وَتارَة بِالظَّنِّ، وَتارَة بِالشَّكِّ وَالله أعلم.
[تَعْرِيف أصُول الْفِقْه]
 
قَالَ: (وأصول الْفِقْه طرقه على سَبِيل الْإِجْمَال، وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا [وَمعنى قَوْلنَا: كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا تَرْتِيب الْأَدِلَّة فِي التَّرْتِيب والتقديم وَالتَّأْخِير وَمَا يتبع ذَلِك من أَحْكَام الْمُجْتَهدين] .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْأُصُول، وَبَيَان الْفِقْه وَبَيَان مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي هَذَا الْفَنّ (من الْعلم) و (الظَّن) و (الشَّك) و (النّظر) و (الدَّلِيل) شرع فِي بَيَان معنى قَوْله: " أصُول الْفِقْه " فَإِن التَّرْكِيب الإضافي لَا يُفِيد إِلَّا لنسبة تكون بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ.
وَقد سبق أَنه لَا بُد للمتكلم بهما من معرفَة كل وَاحِد مِنْهُمَا مُنْفَردا، ثمَّ تعلم النِّسْبَة بَينهمَا، ثمَّ يضيف أَحدهمَا إِلَى الآخر.
كَمَا إِذا تصورنا الْغُلَام - مثلا - ثمَّ زيدا، ثمَّ علمنَا أَنه ملكه، فَهَذِهِ نِسْبَة تفِيد إِضَافَة الْغُلَام إِلَى زيد فَكَذَا من عرف " الأَصْل " و " الْفِقْه " فَلَا يعلم معنى التَّرْكِيب حَتَّى يشْرَح لَهُ مَأْخَذ الشَّيْخ - رَحمَه الله - فِي شرح معنى التَّرْكِيب الَّذِي هُوَ علم لهَذَا الْفَنّ فَقَالَ:
(1/105)
 
 
أصُول الْفِقْه: " طرْقَة على سَبِيل الْإِجْمَال " أَي: دلائله مجملة. " وَإِنَّمَا قيد دلائله بالإجمال ليخرج الْفِقْه؛ لِأَن دلائله مفصله.
وَالْمرَاد بالدلائل: مَا يتَوَصَّل بهَا إِلَى إِثْبَات الْأَحْكَام كالإجماع، وَالْقِيَاس، وَالْأَخْبَار.
وَقَوله: " وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال " يُشِير إِلَى حَال الْمُجْتَهد إِلَى أَنه مَعَ معرفَة الْأَدِلَّة لَا بُد لَهُ من معرفَة كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال كحمل الْمُطلق على الْمُقَيد، وَتَقْدِيم الْخَاص على الْعَام، وَالنَّظَر فِي الْمسَائِل الغامضة وَغير ذَلِك مِمَّا يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا إِن شَاءَ الله - تَعَالَى -.
وغايته: أَن أصُول الْفِقْه يشْتَمل على الْإِجْمَال، وطرق الْفِقْه، وَكَيْفِيَّة اسْتِعْمَالهَا، وَحَال الْمُجْتَهد، وَالله أعلم.
(1/106)
 
 
[أَبْوَاب أصُول الْفِقْه]
 
قَالَ: (وَمن أَبْوَاب أصُول الْفِقْه: " أَقسَام الْكَلَام " و " الْأَمر " و " النَّهْي " و " الْعَام " و " الْخَاص "، " والمجمل " و " الْمُبين " و " الظَّاهِر " و " المؤل " و " الْأَفْعَال " و " النَّاسِخ والمنسوخ " و " الْإِجْمَاع " و " الْقيَاس " و " الْأَخْبَار "، و " الْحَظْر " و " الْإِبَاحَة " و " تَرْتِيب الْأَدِلَّة " و " صفة الْمُفْتِي والمستفتي " و " أَحْكَام الْمُجْتَهدين ") .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان أصُول الْفِقْه، وَبَيَان مَا يتَوَصَّل إِلَى معرفَة الْأُصُول من علم وَظن وَشك وَغير ذَلِك: شرع فِي عدد أبوابه إِجْمَالا، ثمَّ يفصله بَابا بَابا إِلَى آخر ورقاته على مَا ستراه إِن شَاءَ الله وَاضحا.
[بَيَان مَا يتركب مِنْهُ الْكَلَام]
 
[قَالَ: (فَأَما أَقسَام الْكَلَام فَأَقل مَا يتركب مِنْهُ الْكَلَام اسمان، أَو اسْم وَفعل، أَو اسْم وحرف، أَو حرف وَفعل) ] .
أَقُول: لما فرغ من عد الْأَبْوَاب أَخذ فِي تَفْصِيل مَعَانِيهَا على التَّرْتِيب فَبَدَأَ بأقسام الْكَلَام وَأَنه ينْعَقد من اسْمَيْنِ مثل: " زيد قَائِم " وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء.
(1/107)
 
 
وَمن اسْم وَفعل مثل: " زيد قَامَ ": أَو " يقوم " وَهَذَا كَذَلِك لَا خلاف بَينهم فِيهِ.
وَاخْتلفُوا فِي انْعِقَاده من حرف وَاسم مثل " يَا زيد ":
فَذهب الْجِرْجَانِيّ إِلَى انْعِقَاده.
وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه مَا انْعَقَد الْحَرْف مَعَ الِاسْم إِلَّا لما نَاب عَن الْفِعْل وَهُوَ: " أَدْعُو " أَو " أنادي ".
وَكَذَا اخْتلفُوا فِي انْعِقَاده من حرف وَفعل: -
فَذهب قوم إِلَى انْعِقَاده مثل: " لم يقم " و " مَا قَامَ ".
وَذهب الْجُمْهُور إِلَى عدم انْعِقَاده بهما، وَإِنَّمَا انْعَقَد لوُجُود الضَّمِير الَّذِي فِي الْفِعْل؛ لِأَن تَقْدِيره: " لم يقم هُوَ " و " مَا قَامَ هُوَ " وَالله أعلم.
(1/108)
 
 
[انقسام الْكَلَام بِاعْتِبَار مَدْلُوله]
 
قَالَ: (وَالْكَلَام يَنْقَسِم إِلَى أَمر، وَنهى، وَخبر، واستخبار) .
أَقُول: لما فرغ من تَقْسِيم الْكَلَام إِجْمَالا أَخذ فِي تَقْسِيم مَعَانِيه؛ لِأَن الْكَلَام لَا يَخْلُو:
أَن يُرَاد بِهِ الْفِعْل، أَو التّرْك أَو الْإِعْلَام.
فَالْأول: هُوَ الْأَمر.
وَالثَّانِي: النَّهْي.
وَالثَّالِث: هُوَ الْخَبَر مثل " قَامَ زيد " أَو " زيد قَامَ ".
وَكَذَا الاستخبار مثل " هَل قَامَ زيد؟ " أَو " هَل زيد قَائِم؟ " وَالله أعلم.
[انقسام الْكَلَام بِحَسب الِاسْتِعْمَال وتعريف الْحَقِيقَة]
 
قَالَ: (وَمن وَجه آخر إِلَى حَقِيقَة ومجاز، فالحقيقة: مَا بَقِي على مَوْضُوعه، وَقيل: مَا اسْتعْمل فِيمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ من المخاطبة) .
أَقُول: لما قسم الْكَلَام إِلَى أَمر أَو نهي: شرع فِي تقسيمه من وَجه آخر إِلَى حَقِيقَة ومجاز فَقَالَ.
[الْحَقِيقَة] : مَا بَقِي على مَوْضُوعه. أَي: على أصل وَضعه الأول.
(1/109)
 
 
فَإِن لفظ " الْأسد وضعوها للحيوان المفترس، وَكَذَا " الْبَحْر " للْمَاء الْكثير، فَإِذا نقل للرجل الشجاع، والكريم كَانَا مجارين.
وَأعلم أَن الشَّيْخ - رَحمَه الله - رسم الْحَقِيقَة برسمين: -
أَحدهمَا: مَا بَقِي على مَوْضُوعه - فَهَذَا رسم يُفِيد أَن كل لفظ نقل عَن مَوْضِعه اللّغَوِيّ إِلَى آخر فَهُوَ مجَاز سَوَاء كَانَ النَّاقِل الشَّرْع، أَو الْعرف، أَو الْوَاضِع الأول. وَهَذَا هُوَ المُرَاد بالرسم الأول.
وَأما الرَّسْم الثَّانِي فَقَالَ: مَا اسْتعْمل فِيمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ من المخاطبة فَهَذَا رسم يُفِيد أَن كل لفظ اسْتعْمل فِيمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ عِنْد التخاطب فَهُوَ حَقِيقَة كلفظة " الصَّلَاة " - مثلا -: -
فَإِن كَانَ الْخطاب باصطلاح اللُّغَة كَانَت حَقِيقَة؛ فَإِن لَفْظَة " الصَّلَاة " وضعت أَولا فِي اللُّغَة للدُّعَاء، فَإِذا نقلت واستعملت فِي الْعِبَادَة الْمَعْرُوفَة كَانَت مجَازًا. وَإِن كَانَ الْخطاب باصطلاح الشَّرْع كَانَت حَقِيقَة؛ لِأَن لَفْظَة الصَّلَاة وضعت أَولا فِي الشَّرْع لِلْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفَة، فَإِذا نقلت واستعملت فِي الدُّعَاء كَانَت مجَازًا. وَكَذَا لَفْظَة " دَابَّة " إِذا أطلقت، وَكَانَ الْخطاب باصطلاح اللُّغَة فَهِيَ حَقِيقَة فِي جَمِيع مادب، ومجاز فِي ذَوَات الْأَرْبَع.
وَإِذا كَانَ الْخطاب باصطلاح الْعرف كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ وَالله أعلم.
(1/110)
 
 
[تَعْرِيف الْمجَاز]
 
قَالَ: (وَالْمجَاز: مَا تجوز بِهِ عَن مَوْضُوعه) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْحَقِيقَة شرع فِي رسم الْمجَاز، لَكِن رسمه رسماً وَاحِدًا مَعَ أَن لَهُ رسمان مقابلان للرسمين الْمَذْكُورين فِي الْحَقِيقَة:
فعلى الرَّسْم الأول يُقَال: الْمجَاز هُوَ: مَا اسْتعْمل فِي غير مَوْضُوعه الأول. وعَلى الرَّسْم الثَّانِي يُقَال: هُوَ مَا اسْتعْمل فِي غير مَا اصْطلحَ عَلَيْهِ فِي المخاطبة.
وَإِنَّمَا اقْتصر على أحد الرسمين؛ اكْتِفَاء بِمَا قدم فِي رسم الْحَقِيقَة؛ لِأَن الْمجَاز مُقَابل الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا سمي الْمجَاز مجَازًا؛ لمجاوزته عَن مَوْضِعه الأول. وَالله أعلم.
(1/111)
 
 
[أَقسَام الْحَقِيقَة]
 
قَالَ: (فالحقيقة إِمَّا لغوية أَو شَرْعِيَّة، أَو عرفية) .
أَقُول لما فرغ من رسم الْحَقِيقَة وَالْمجَاز شرع فِي تقيسمهما.
فَبَدَأَ بِالْحَقِيقَةِ أَولا؛ لِأَنَّهَا أصل، وَقسمهَا إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام: حَقِيقَة لغوية كلفظة " الصَّلَاة للدُّعَاء
وَحَقِيقَة شَرْعِيَّة كلفظة " الصَّلَاة " على الْعِبَادَة الْمَعْرُوفَة.
وَحَقِيقَة عرفية كلفظة " الدَّابَّة " على ذَوَات القوائم الْأَرْبَع.
لَكِن أَجمعُوا على وجود الحقيقتين: (اللُّغَوِيَّة والعرفية) .
وَاخْتلفُوا فِي الشَّرْعِيَّة: _
فَذهب القَاضِي أَبُو بكر إِلَى منعهَا، وَقَالَ: هِيَ هِيَ حقائق لغوية فَسرهَا الشَّرْع
(1/112)
 
 
وجوزها الشَّيْخ وَجعلهَا قسما ثَالِثا.
وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهَا أَلْفَاظ مجازاة لغوية، فاشتهرت فِي معَان شَرْعِيَّة اشتهارا حَتَّى كَادَت أَن تكون حَقِيقَة وَالله أعلم.
[أَقسَام الْمجَاز]
 
قَالَ: (وَالْمجَاز إِمَّا أَن يكون بِزِيَادَة كَقَوْلِه تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء}
أَو نُقْصَان كَقَوْلِه تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة أَو اسْتِعَارَة كَقَوْلِه: {جداراً يُرِيد أَن ينْقض} ، أَو بِالنَّقْلِ كالغائط فِيمَا يخرج من الْإِنْسَان) .
أَقُول: لما فرغ من تَقْسِيم الْحَقِيقَة شرع فِي تَقْسِيم الْمجَاز على سَبِيل الْإِيضَاح. وَلِهَذَا مثل لكل قسم مِثَالا فَقَالَ: -
الْمجَاز إِمَّا أَن يكون بِزِيَادَة أَي: فِي لفظ الْحَقِيقَة كَقَوْلِه تَعَالَى: (لَيْسَ كمثله
(1/113)
 
 
شَيْء} [سُورَة الشورى: 11) فالكاف زَائِدَة للتَّأْكِيد؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ اللَّفْظ على حَقِيقَته لزم نَفْيه تَعَالَى عَن ذَلِك، وَإِثْبَات غَيره تَعَالَى وَهَذَا بَاطِل؛ لِأَن المُرَاد من الْآيَة إِثْبَات وحدانيته، وَنفي مَا يضاده؛ إِذْ لَو لَهُ مثل لشاركه فِي الْآلهَة، تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا.
وَالْمجَاز بِالنُّقْصَانِ. مثل قَوْله تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} [سُورَة يُوسُف: 82] فَإِن قرينَة الْحَال تدل على أَن السُّؤَال لَا يكون إِلَّا لمن يعقل وَأَن الْقرْيَة لَا تعقل، فَكَانَ السُّؤَال لَهَا مجَازًا، وَفِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ لأَهْلهَا كَمَا مثله الشَّيْخ - رَحمَه الله -
وَأما الْمجَاز بالاستعارة مثل قَوْله تَعَالَى: {جداراً يُرِيد أَن ينْقض} [سُورَة الْكَهْف: 77] فَلَا شكّ أَن الْإِرَادَة فِي الْحَقِيقَة لمن لَهُ حَيَاة، والجدار جماد، والجماد لَا إِرَادَة لَهُ لَكِن لما أشرف على الانهدام استعير لَهُ الْإِرَادَة.
وَمن هَذَا الْقسم قَول الْقَائِل: " أحيتني رُؤْيَة زيد " فَإِن الْإِحْيَاء فِي الْحَقِيقَة لله - تَعَالَى - لَكِن لما وجد الرَّائِي غَايَة السرُور والابتهاج بِرُؤْيَة زيد بِحَيْثُ ضاهت حَيَاة الَّتِي بهَا وجود الْإِنْسَان استعير للرؤية الْحَيَاة.
وَأما الْمجَاز بِالنَّقْلِ كالغائط فِيمَا يخرج من الْإِنْسَان، فَإِن لَفْظَة " الْغَائِط " إِنَّمَا وضعت فِي اللُّغَة أَولا لمَكَان منخفض من الأَرْض يقْصد عِنْد الْحَاجة؛
(1/114)
 
 
ليستتر بِهِ فَنقل اسْم الْمَكَان، وَجعل كِنَايَة عَن الْخَارِج، واشتهر بِحَيْثُ لَا يتَبَادَر عِنْد الْإِطْلَاق فِي الإفهام إِلَّا هُوَ، دون الْمَكَان وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْأَمر، وَبَيَان صِيغَة إفعل على مَاذَا تدل؟]
 
قَالَ: (وَالْأَمر: استدعاء الْفِعْل بالْقَوْل مِمَّن هُوَ دونه على سَبِيل الْوُجُوب.
وصيغته: " إفعل " عِنْد الْإِطْلَاق والتجرد عِنْد الْقَرِينَة يحمل عَلَيْهِ إِلَّا مَا دلّ دَلِيل على أَن المُرَاد النّدب أَو الْإِبَاحَة [فَيحمل عَلَيْهِ] .
أَقُول: لما فرغ من تَقْسِيم الْبَاب الأول وَهُوَ الْكَلَام، شرع فِي الثَّانِي وَهُوَ: الْأَمر.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي رسم الْأَمر: -
فَذهب جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين إِلَى عدم جَوَاز رسمه؛ لِأَن الْأَمر مَعْلُوم بديهياً لكل عَاقل، فَلَا يفْتَقر للتعريف، لِأَن كل مُكَلّف يفرق بَين " قَامَ " و " قُم ".
وَذهب جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين إِلَى جَوَاز رسمه وَمِنْهُم الشَّيْخ - رَحمَه الله تَعَالَى - فَقَالَ هُوَ: استدعاء الْفِعْل بالْقَوْل مِمَّن هُوَ دونه.
(1/115)
 
 
فَقَوله: " استدعاء الْفِعْل " ليخرج النَّهْي؛ لِأَنَّهُ استدعاء التّرْك على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله - تَعَالَى -
وَقَوله: " بالْقَوْل " لتخرج الْإِشَارَة؛ فَإِنَّهَا لَيست بقول.
وَقَوله: " مِمَّن هُوَ دونه " ليخرج من هُوَ مثله أَو أَعلَى مِنْهُ؛ فَإِن الْأَمر لمثله لَا يُسمى أمرا، بل يُسمى التماساً.
وَكَذَا إِذا كَانَ للأعلى فَلَا يُسَمِّي أمرا، بل يُسمى دُعَاء وتضرعاً. وَقَوله: " على سَبِيل الْوُجُوب " ليخرج الْأَمر على سَبِيل النّدب وَالْإِبَاحَة؛ لِأَن الْأَمر إِذا ورد بِلَفْظ " إفعل " حمل على الْوُجُوب عِنْد الْإِطْلَاق والتجرد عَن قرينه تخرجه عَن الْوُجُوب كَقَوْلِه تَعَالَى " {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع} [سُورَة الْجُمُعَة: 9] وَقَوله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة} [سُورَة الْإِسْرَاء: 78] وَمَا أشبه ذَلِك فَهَذَا يحمل على الْوُجُوب؛ لعدم قرينَة تخرجه عَنهُ.
بِخِلَاف قَوْله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [سُورَة الْبَقَرَة: 282] فقد دلّ دَلِيل
(1/116)
 
 
على عدم وُجُوبه؛ لبيعه عَلَيْهِ السَّلَام من غير إِشْهَاد، فَحملت الصِّيغَة على النّدب.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [سُورَة الْمَائِدَة: 2 {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا} [سُورَة الْجُمُعَة: 10] فالإجماع مُنْعَقد على عدم جوب الِاصْطِيَاد عِنْد الْإِحْلَال، وعَلى عدم الانتشار عِنْد قَضَاء الصَّلَاة وَالله أعلم.
[هَل الْأَمر يَقْتَضِي التّكْرَار؟]
 
قَالَ: (وَلَا يَقْتَضِي التّكْرَار على الصَّحِيح إِلَّا إِذا دلّ عَلَيْهِ دَلِيل) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْأَمر، وتقسيمه إِلَى وجوب وَندب وَإِبَاحَة شرع فِي بَيَان مَا يتَعَلَّق بِهِ الْأَمر هَل يجب تكراره؟ أم يخرج الْمَأْمُور بِهِ مِنْهُ بِمرَّة وَاحِدَة؟
فَذهب الشَّيْخ إِلَى عدم التّكْرَار كَالْحَجِّ - مثلا - إِلَّا إِذا دلّ دَلِيل على تكراره
(1/117)
 
 
كَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يبْعَث سعاته كل سنة.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى تكراره، مِنْهُم أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني.
(1/118)
 
 
وَفِيه قَول ثَالِث وَهُوَ: التَّوَقُّف؛ لِأَن الْأَمر مُشْتَرك بَين أَن يكون للتكرار أَولا حَتَّى يُبينهُ الشَّارِع أَو الْإِجْمَاع.
ولهذه الْأَقْوَال قَالَ: لَا يَقْتَضِي التّكْرَار على الْأَصَح.
وَهَذَا الْخلاف فِي الْمُطلق.
وَأما الْمُقَيد بِوَقْت كَقَوْلِه تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [سُورَة الْإِسْرَاء: 78] ، وَكَذَا الصَّوْم لرؤية هِلَال رَمَضَان فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التّكْرَار وَالله أعلم.
(1/119)
 
 
[هَل الْأَمر يَقْتَضِي الْفَوْر أَو لَا.]
 
قَالَ: (وَلَا يَقْتَضِي الْفَوْر، لِأَن الْفَرْض مِنْهُ إِيجَاد الْفِعْل من غير اخْتِصَاص بِالزَّمَانِ الأول، دون الزَّمَان الثَّانِي) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْأَمر الْمُطلق [وَبَين] أَنه لَا يَقْتَضِي التّكْرَار على الْأَصَح: شرع فِي بَيَان أَنه لَا يَقْتَضِي الْفَوْر - أَيْضا -؛ لِأَن مُقْتَضى الْأَمر إِيجَاد الْفِعْل وَلَو مرّة وَاحِدَة من غير اخْتِصَاص بِالزَّمَانِ الأول، دون الثَّانِي، بل فِي أَي زمَان وجد فِيهِ أَجْزَأَ.
(1/120)
 
 
وَذهب أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ إِلَى الْفَوْرِيَّة.
وَبِه قَالَت الْحَنَفِيَّة، وَذكروا وُجُوهًا كَثِيرَة تدل على الْفَوْرِيَّة لَا يَلِيق إيرادها فِي هَذَا الْمُخْتَصر.
وَأجِيب عَن جَمِيعهَا وَالْحَمْد لله.
وَهَذَا فِي الْأَمر الْمُطلق.
فَأَما الْأَمر الْمُقَيد بِوَقْت أَو سَبَب فَلَا يَقْتَضِي الْفَوْر، بل يجوز التَّأْخِير كَالصَّلَاةِ إِذا أخرت إِلَى آخر الْوَقْت، وَقَضَاء الصَّوْم إِذا فَاتَ وَالله أعلم.
(1/121)
 
 
[مَا لَا يتم الْأَمر إِلَّا بِهِ]
 
قَالَ: (وَالْأَمر بإيجاد الْفِعْل أَمر بِهِ، وَبِمَا لَا يتم، الْفِعْل إِلَّا بِهِ كالأمر بِالصَّلَاةِ أَمر بِالطَّهَارَةِ المؤدية إِلَيْهَا) .
أَقُول: لما فرغ من تَقْسِيم الْأَمر وَمَا يَقْتَضِيهِ من عدم التّكْرَار والفور شرع فِي بَيَان: مَا لَا يتم الْأَمر إِلَّا بِهِ فَهُوَ أَيْضا أَمر كَالصَّلَاةِ - مثلا - فَإنَّا أمرنَا بهَا وَلَا شكّ أَنَّهَا لَا تصح من غير طَهَارَة.
وَهَذَا من قَول الْفُقَهَاء مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب فَهُوَ وَاجِب كالأمر بِالصَّلَاةِ أَمر بِالطَّهَارَةِ؛ إِذْ لَا تصح إِلَّا بهَا.
وَكَذَا كل وَاجِب تتَوَقَّف صِحَّته على غَيره.
(1/122)
 
 
وَلِهَذَا نَظِير فِي الحسيات كأمر السَّيِّد عَبده بِرَفْع سقف، أَو صعُود إِلَى سطح فَلَا بُد للْعَبد من أَن يُهَيِّئ شَيْئا من جِدَار، أَو مرقاة وَغَيرهمَا ليتوصل إِلَى امْتِثَال الْأَمر فَكَأَنَّهُ لما أمره بالصعود والارتفاع أمره بِمَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَيْهَا.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا مَعْلُوم فِي الحسيات كَانَ مثله فِي الشرعيات وَالله أعلم.
[حكم من فعل الْمَأْمُور بِهِ]
 
قَالَ: (وَإِذا فعل خرج الْمَأْمُور عَن الْعهْدَة) .
أَقُول: إِن الشَّيْخ - رَحمَه الله - يُشِير إِلَى أَن الْمُكَلف إِذا أَتَى بِمَا أَمر بِهِ خرج عَن الْعهْدَة وَهِي: سُقُوطه عَنهُ.
لَكِن فِي الْمَسْأَلَة خلاف بَين الْأُصُولِيِّينَ وَبَين الْفُقَهَاء: -
فَذهب الأصوليون إِلَى أَن غَايَة الْعِبَادَة: امْتِثَال الْأَمر.
وَقَالَ الْفُقَهَاء: غايتها سُقُوطهَا.
وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي من ظن الطَّهَارَة وَصلى، ثمَّ بَان مُحدثا صحت
(1/123)
 
 
صلَاته عِنْد الْأُصُولِيِّينَ؛ لامتثال الْأَمر.
خلافًا للفقهاء؛ لِأَن غايتها: سُقُوطهَا، وَلم تسْقط عَنهُ.
وَكَذَا لَو ظن الْقبْلَة فَظهر خلَافهَا وَالله أعلم
[من لَا يدْخل فِي الْأَمر]
 
قَالَ: (وَمَا لَا يدْخل فِي الْأَمر: النَّائِم، والساهي، وَالصَّبِيّ، وَالْمَجْنُون) .
أَقُول: لما بَين أَن الْأَمر للمكلف: شرع فِي بَيَان مَا خرج عَن الْخطاب كالنائم
(1/124)
 
 
والساهي؛ لِأَن شَرط الْخطاب: الْفَهم وَهُوَ مَفْقُود فيهمَا.
فَإِن قيل: فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام شرع سُجُود السَّهْو للساهي.
وَأوجب على النَّائِم مَا أتْلفه حَال النّوم.
فَهَذَا دَلِيل على أَنَّهُمَا داخلان فِي الْخطاب.
(1/125)
 
 
قُلْنَا: لم يَكُونَا داخلين؛ لارْتِفَاع الْقَلَم عَنْهُمَا؛ فَإِذا زَالَ مَا بهما أمرا بتدارك مَا فاتهما عِنْد الْغَفْلَة.
وَأما الصَّبِي وَالْمَجْنُون لم يدخلا؛ لظَاهِر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة) فعد النَّائِم، وَالصَّبِيّ، وَالْمَجْنُون وَالله أعلم.
(1/126)
 
 
[الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرِيعَة]
 
قَالَ: (وَالْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرَائِع، وَبِمَا لَا تصح إِلَّا بِهِ وَهُوَ: الْإِسْلَام؛ لقَوْله تَعَالَى: - حِكَايَة عَن الْكفَّار - {قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين} . .)
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْمجمع على خُرُوجهمْ شرع فِيمَا اخْتلف الأصوليون فيهم، وهم الْكفَّار: -
فَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى عدم خطابهم بِفُرُوع الشَّرَائِع.
وَاحْتج بِأَنَّهُ لَو كَانُوا مخاطبين بهَا فَلَا يَخْلُو أَن يكون قبل الْإِسْلَام، أَو بعده.
فَإِن قُلْتُمْ: قبله فَهُوَ محَال؛ لعدم صِحَة الْعِبَادَات من الْكَافِر.
" وَإِن قُلْتُمْ بعده فَكَذَلِك؛ لإِجْمَاع الْعلمَاء أَن لَا يُؤمر الْكَافِر بعد الْإِسْلَام بِمَا فَاتَهُ فِي حَالَة الْكفْر، وَلَا يُؤَاخذ بارتكاب مَا فعله من الْمُحرمَات.
(1/127)
 
 
وَذهب آخَرُونَ [إِلَى] أَنهم مخاطبون بالمنهيات، دون الْعِبَادَات.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْكَافِر يتَصَوَّر مِنْهُ [الِانْتِهَاء] عَن المنهيات فِي حَالَة الْكفْر.
بِخِلَاف الْعِبَادَات فَعلم أَنهم لم يَكُونُوا مخاطبين بهَا.
وَذهب الشَّافِعِي إِلَى انهم مخاطبون بالأوامر والنواهي.
وَاحْتج بَان الْخطاب مُتَعَلق بِكُل بَالغ عَاقل، وهما موجودان فِي الْكَافِر فهم
(1/128)
 
 
مخاطبون بهَا، لَكِن لَا تصح إِلَّا بِالْإِسْلَامِ كَالصَّلَاةِ؛ فَإِن الْمُؤمن مُخَاطب بهَا لَكِن كَمَا سبق لَا بُد من الطَّهَارَة، فَالْأَمْر بهَا أَمر بِالطَّهَارَةِ - كَمَا سبق -.
وَكَذَا الْكَافِر أمره بِالْعبَادَة أَمر بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ من لوازمها؛ إِذْ لَا تصح إِلَّا بِهِ.
وَقد جَاءَ مَا يُؤَيّد هَذَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - حِكَايَة عَن جَوَاب سُؤَالهمْ -: {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين} .
فَهَذَا دَلِيل على تَضْعِيف الْعَذَاب بترك المأمورات، وَهِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وارتكاب المنهيات وَهِي: الْخَوْض مَعَ الخائضين فِيمَا نهوا عَنهُ، وَإِنَّمَا يكون عذَابا زَائِدا على عَذَاب الْكفْر.
وعَلى الأول إِنَّمَا يَكُونُوا معذبين على الْكفْر - فَقَط - وَالله أعلم.
(1/129)
 
 
[هَل الْآمِر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه؟]
 
قَالَ: (وَالْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان من يتَعَلَّق بِهِ الْخطاب، وَمن لَا يتَعَلَّق بِهِ: شرع فِي حَقِيقَته فَقَالَ: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه كَمَا: إِذا قدر على كلمة حق لتخليص مظلوم فَهُوَ مَأْمُور بهما، وَإِذا كَانَ مَأْمُورا بهما فَهُوَ مَنْهِيّ عَن ضدهما، وَهُوَ: التّرْك لكلمة الْحق وتخليص الْمَظْلُوم.
وَمثله فِي الحسيات كَمَا لَو أَمر بِالْقيامِ فَهُوَ مَنْهِيّ عَن أضداده، وَهُوَ الْقعُود والإتكاء. وَالله أعلم.
(1/130)
 
 
[النَّهْي أَمر بضده، وتعريف النَّهْي]
 
قَالَ: (وَالنَّهْي أَمر بضده وَهُوَ: استدعاء التّرْك بالْقَوْل مِمَّن هُوَ دونه على سَبِيل الْوُجُوب) .
أَقُول: لما فرغ من رسمي الْبَابَيْنِ وهما: " الْكَلَام " و " الْأَمر ". شرع فِي الْبَاب الثَّالِث وَهُوَ: النَّهْي فرسمه بِأَنَّهُ استدعاء التّرْك. إِلَى آخِره؛ لِأَنَّهُ يُقَابل الْأَمر؛ لِأَنَّهُ لما رسم الْأَمر بِأَنَّهُ استدعاء الْفِعْل رسم النَّهْي بِأَنَّهُ استدعاء التّرْك؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا استدعاء لِلْأَمْرِ بِالْفِعْلِ، أَو لتَركه.
وَقَوله: " بالْقَوْل " لتخرج الْإِشَارَة؛ لِأَنَّهَا لم تكن بالْقَوْل وَقَوله " على سَبِيل الْوُجُوب " ليخرج التضرع فَإِنَّهُ لَيْسَ أمرا على سَبِيل الْوُجُوب، وَذَلِكَ كَمَا أَن العَبْد إِذا سَأَلَ سَيّده: أَن لَا يكلفه غير طاقته، وَأَن لَا يفتنه عِنْد مَوته، وَمَا أشبه ذَلِك. فَلَا يُقَال لهَذَا نهي، وَلَا على سَبِيل الْوُجُوب.
(1/131)
 
 
[النَّهْي يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ]
 
قَالَ: (وَيدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ) .
أَقُول: إِن الشَّيْخ - رَحمَه الله - يُشِير إِلَى أَن النَّهْي عَن الشَّيْء يَقْتَضِي فَسَاده؛ لِأَن الشَّارِع ناه عَن الْمَفَاسِد، آمُر بالمصالح كالنهي عَن الصَّلَاة مَعَ النَّجَاسَة أَو لغير الْقبْلَة، وَالْبيع بِمَا فِي أَرْحَام الْإِنَاث وحبل الحبلة وَهُوَ ولد الْوَلَد.
فالنهي عَن هَذِه الْأَشْيَاء يدل على فَسَادهَا وَالله أعلم.
(1/132)
 
 
[مَعَاني صِيغَة " إفعل "، وَصِيغَة " لَا تفعل "]
 
قَالَ: (وَترد صِيغَة الْأَمر، وَالْمرَاد بهَا الْإِبَاحَة، أَو التهديد، أَو التَّسْوِيَة، أَو التكوين) .
أَقُول: يُشِير إِلَى صِيغ أَمر تَأتي، وَلم تكن للْوُجُوب: -
أَحدهَا: للْإِبَاحَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [سُورَة الْمَائِدَة: 2]
وَالثَّانيَِة: للتهديد كَقَوْلِه تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [سُورَة فصلت: 40]
(1/133)
 
 
وَالثَّالِثَة: للتسوية كَقَوْلِه تَعَالَى: {اصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} [سُورَة الطّور: 16]
وَالرَّابِعَة للتكوين كَقَوْلِه تَعَالَى: {كونُوا قردة} [سُورَة الْبَقَرَة: 65] و {يَا نَار كوني بردا} [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 69] انْتهى كَلَام الشَّيْخ - رَحمَه الله -، وَلم يذكر
(1/134)
 
 
للنَّهْي صيغا.
أَقُول: تَأتي صِيغَة لثمان معَان:
للتَّحْرِيم نَحْو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [سُورَة آل عمرَان: 130]
وَالْكَرَاهَة كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا تفعلي هَذَا " أَي: لما نهاها عَن المشمس.
(1/135)
 
 
وللتحقير كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك} [سُورَة الْحجر: 88]
ولبيان الْعَافِيَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الله غافلا} [سُورَة إِبْرَاهِيم: 42]
وللدعاء كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تُؤَاخِذنَا} [سُورَة الْبَقَرَة: 286]
ولليأس كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تعتذروا} [سُورَة التَّحْرِيم: 7]
وللإرشاد كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء} [سُورَة الْمَائِدَة: 101] . وللتسلية كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تحزن عَلَيْهِم} [سُورَة النَّحْل: 137] وَالله أعلم.
(1/136)
 
 
[تَعْرِيف الْعَام]
 
قَالَ: (وَأما الْعَام: فَهُوَ: مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، من قَوْلك: " عممت زيدا وعمراً بالعطايا، و " عممت جَمِيع النَّاس بالعطايا ") .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْبَاب الثَّالِث: شرع فِي الرَّابِع وَهُوَ: الْعَام، وَإِنَّمَا سمي عَاما؛ لِكَثْرَة الْأَفْرَاد الَّذِي يدل عَلَيْهَا، وَلِهَذَا يُقَال: " عَم الْجَرَاد الْبِلَاد " أَي: كثر فِيهَا.
وَقَوله: " مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا " لتخرج أَسمَاء الْعدَد كالخمسة وَالْعشرَة - مثلا - فَلَا تسمي عَاما؛ لانحصارهما وَإِن دلا على أَفْرَاد لَكِن منحصرة؛ فَإِن الْخَمْسَة لَا تتَنَاوَل شَيْئا زَائِدا عَلَيْهَا، وَكَذَا الْعشْرَة وَنَحْوهمَا من الْأَعْدَاد فَبَانَت أَنَّهَا لَيست من أَلْفَاظ الْعُمُوم.
بِخِلَاف قَوْلك " عممت زيدا وعمراً بالعطايا " و " جَمِيع النَّاس " إِذْ لَا حصر للنَّاس وَالله أعلم.
(1/137)
 
 
[صِيغ الْعُمُوم]
 
قَالَ: (وَأَلْفَاظه: الِاسْم الْوَاحِد الْمُعَرّف بِالْألف وَاللَّام، وَالْجمع الْمُعَرّف بهما، والأسماء المبهمة ك " من " فِيمَن يعقل، و " مَا " فِيمَا لَا يعقل، و " أَي " فِي الْجَمِيع، و " أَيْن " فِي الْمَكَان و " مَتى " فِي الزَّمَان " و " مَا " فِي الِاسْتِفْهَام وَالْجَزَاء وَغَيره، و " لَا " فِي النكرات كَقَوْلِك: " لَا رجل فِي الدَّار ") .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْعَام: شرع فِي صِيغَة، فَذكر من صيغه ثَلَاثَة أَلْفَاظ: -
أَحدهَا: الِاسْم الْوَاحِد الْمُعَرّف.
وَالثَّانِي " الْجمع الْمُعَرّف.
وَالثَّالِث الْأَسْمَاء المبهمة.
ثمَّ قسم الْأَسْمَاء المبهمة إِلَى سَبْعَة أَقسَام.
وسأوضحها وَاحِدًا [وَاحِدًا] إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - من غير تَطْوِيل، تسهيلاً من غير ذكر الْخلاف فِيهَا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان.
أما الِاسْم الْوَاحِد كَقَوْلِك: " الرجل أفضل من الْمَرْأَة " و " الدِّينَار خير من
(1/138)
 
 
الدِّرْهَم " فهما من أَلْفَاظ الْعُمُوم، لِأَن المُرَاد بهَا جنس الرِّجَال، وَالدَّنَانِير، لَا بعض أفرادهما.
وَأما الْجمع الْمُعَرّف كَقَوْلِك: " الرِّجَال " و " وَالْفُقَهَاء " وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [سُورَة التَّوْبَة: 5] وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله} [سُورَة الْمَائِدَة: 33] ف " الْمُشْركُونَ " و " الَّذين " من الْعُمُوم؛ لصِحَّة اسْتثِْنَاء الْجمع الْمُنكر مِنْهُ كَقَوْلِك: " اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا مُشْركي أهل الْكتاب "
(1/139)
 
 
" وَجَاءَنِي الرِّجَال إِلَّا رجَالًا "؛ وَالْفُقَهَاء إِلَّا فُقَهَاء " فَعلم أَن الْمُعَرّف أَعم من الْجمع الْمُنكر.
وَأما الْأَسْمَاء المبهمة فَمِنْهَا: -
" من " وتختص بِمن يعقل كَقَوْلِك: " من دخل دَاري فَلهُ دِرْهَم " فعمت كل عَاقل دخل سَوَاء كَانَ حرا أَو عبدا، ذكرا أَو أُنْثَى؛ لإِطْلَاق اللَّفْظ عَلَيْهِم.
وَمِنْهَا: " مَا " و " أَي " فهما يعمان من يعقل، وَمن لَا يعقل تَقول: " لَا
(1/140)
 
 
أملك مَا فِي يَد زيد شَيْئا " فَيكون عَاما فِيمَن يعقل، وَمن لَا يعقل كالعبيد وَالْإِمَاء والمباع والأثمان.
وَكَذَا إِذا قلت " أَي عبد جَاءَنِي من عَبِيدِي فَهُوَ حر " عَم الْجَمِيع، فَأَيهمْ جَاءَ عتق و " أَي الْأَشْيَاء أردْت أَعطيتك " كَانَ عَاما فِي جَمِيع مَا يملك.
وَمِنْهَا: " أَيْن " فَهِيَ تفِيد الْعُمُوم تَقول: " أَيْن كنت كنت مَعَك " فَعم كل مَكَان كَانَ فِيهِ وَلَا يتَعَيَّن مَكَان دون مَكَان.
وَمِنْهَا: " مَتى " فَهِيَ تفِيد الْعُمُوم فِي الزَّمَان كَمَا إِذا قلت: " مَتى جئتني أكرمتك " فَلَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْإِتْيَان فِي وَقت من الْأَوْقَات، بل عَم، حَتَّى فِي أَي وَقت جَاءَ تعين الْإِكْرَام.
وَمِنْهَا: " مَا " فَهِيَ تفِيد الْعُمُوم فِي الِاسْتِفْهَام، وَالْخَبَر، وَالْجَزَاء، وَالنَّفْي تَقول: - " مَا تصنع؟ " فَيَقُول الْمُخَاطب " أصنع شَيْئا " ف " مَا " الأولى عَام فِي
(1/141)
 
 
الِاسْتِفْهَام، وَالثَّانيَِة عَام فِي الْأَخْبَار.
وَفِي الْجَزَاء: " مَا تصنع أصنع ".
وَفِي النَّفْي: " مَا جَاءَك من أحد " فَهِيَ عَام فِي النَّفْي.
وَمِنْهَا -: " لَا " فَإِنَّهَا تفِيد الْعُمُوم فِي النكرات كَمَا مثل الشَّيْخ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " لَا رجل فِي الدَّار "، و " لَا أحد فِي الْمَسْجِد " فَأفَاد أَنه لم يكن فِيهَا أحد من جنس الرِّجَال وَالله أعلم
[الْعُمُوم من صِفَات الْأَلْفَاظ، وَالْفِعْل لَا عُمُوم لَهُ]
 
قَالَ: (والعموم من صِفَات النُّطْق، فَلَا يجوز دَعْوَى الْعُمُوم فِي الْأَفْعَال، وَمَا يجْرِي مجْراهَا) .
أَقُول: يُشِير إِلَى أَن الْعُمُوم لَا يكون إِلَّا فِي الملفوظ، فَلَا يُؤْخَذ من الْأَفْعَال كَمَا يُقَال: إِنَّه عَلَيْهِ [السَّلَام] " جمع فِي السّفر بَين صَلَاتَيْنِ " فَلَا يُؤْخَذ من
(1/142)
 
 
فعله الْعُمُوم؛ لِأَن السّفر قد يكون طَويلا وَقد يكون قَصِيرا، فَعلم أَن الْفِعْل لَا يُفِيد الْعُمُوم بل لابد من النُّطْق.
(1/143)
 
 
وَكَذَا مَا يجْرِي مجْرى الْأَفْعَال كالقضايا، فَإِنَّهَا لَا تدل على الْعُمُوم، بل لَا بُد من تَقْيِيده كَمَا ورد أَنه عَلَيْهِ السَّلَام " قضى بِالشُّفْعَة للْجَار " فَلَا يحمل على الْعُمُوم، إِنَّمَا هِيَ للشَّرِيك - فَقَط -
وَكَذَا " قضى بِشَاهِد وَيَمِين " فَلَا يحمل على الْعُمُوم؛ لِأَنَّهُ فِي بعض الْأَشْيَاء، دون بعض وَالله أعلم.
(1/144)
 
 
[المُرَاد بالخاص، والتخصيص]
 
قَالَ: (وَالْخَاص يُقَابل الْعَام، والتخصيص تَمْيِيز بعض الْجُمْلَة) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْبَاب الرَّابِع وَهُوَ: الْعَام أَخذ فِيمَا يُقَابله، وَهُوَ: الْخَاص.
وَلِهَذَا لم يرسمه، بل اختصر على رسم الْعَام؛ لِأَنَّهُ يُقَابله.
فَإِذا قيل فِي رسم الْعَام هُوَ: مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا: قيل فِي رسم الْخَاص: هُوَ: مَالا يعم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا. أَو مَالا يَقْتَضِي استغراق الْجِنْس، فَإِن الْعَام يَقْتَضِيهِ.
(1/145)
 
 
وَقَوله: " والتخصيص: تَمْيِيز بعض الْجُمْلَة " يُشِير إِلَى حَقِيقَة التَّخْصِيص وَهُوَ: إِخْرَاج شَيْء قد دخل فِي الْجُمْلَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [سُورَة التَّوْبَة: 5] فَهَذَا عَام، فَخرج مِنْهُ المعاهدون؛ إِذْ لَا يجوز قَتلهمْ.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} [سُورَة الْبَقَرَة: 185] فَهُوَ عَام ثمَّ خرج مِنْهُ الْمَرِيض وَالْمُسَافر؛ إِذْ لَا يجب عَلَيْهِمَا الصَّوْم بِرُؤْيَتِهِ
وَكَذَا إِخْرَاج بعض الْبيُوع عَن بعض؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام " نهى عَن بيع
(1/146)
 
 
الرطب " فَكَانَ عَاما؛ لأجل عله الرِّبَا، ثمَّ رخص فِي الْعَرَايَا وَهِي بيع الرطب فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ على وَجه الأَرْض.
فَهَذَا إِخْرَاج شَيْء معِين فِي جملَة عَامَّة. وَالله أعلم.
(1/147)
 
 
[أَقسَام الْمُخَصّص، وأنواع الْمُتَّصِل]
 
قَالَ: (وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى مُتَّصِل ومنفصل: فالمتصل: الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط، وَالتَّقْيِيد بِالصّفةِ) .
أَقُول: لما فرغ من تَعْرِيف الْخَاص: أَخذ فِي تقسيمه إِلَى مُنْفَصِل، ومتصل، ثمَّ بَدَأَ بالمتصل وقسمه إِلَى ثَلَاث - إِجْمَالا -: -
الأول: الِاسْتِثْنَاء كَقَوْلِك: " اكرم الْفُقَهَاء إِلَّا زيدا " ف " زيد " خص بِالِاسْتِثْنَاءِ من عُمُوم الْإِكْرَام.
الثَّانِي: الشَّرْط كَقَوْلِك: " اكرم الْفُقَهَاء إِذا جاءوك " فَخص إكرامهم بِالشّرطِ وَهُوَ الْمَجِيء.
الثَّالِث: التَّقْيِيد بِالصّفةِ كَقَوْلِك: " أكْرم الْفُقَهَاء الحافظين لكتاب الله - تَعَالَى، فَخص إكرامهم بِصفة وَهِي: الْحِفْظ لكتاب الله - تَعَالَى - وَالله أعلم.
(1/148)
 
 
[الْمُخَصّص الْمُتَّصِل الأول: الِاسْتِثْنَاء تَعْرِيف الِاسْتِثْنَاء، وَبَيَان بعض شُرُوطه]
 
قَالَ: (وَالِاسْتِثْنَاء: إِخْرَاج مَا لولاه لدخل فِي الْعَام، وَإِنَّمَا يَصح بِشَرْط أَن يبْقى من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ شَيْء، وَمن شَرطه: أَن يكون مُتَّصِلا بالْكلَام) .
أَقُول: لما ذكر أَقسَام الْمُخَصّص الْمُتَّصِل إِجْمَالا: شرع فِي بَيَانهَا فرسم الِاسْتِثْنَاء [ب] : إِخْرَاج مَا لولاه لدخل فِي الْعَام كَقَوْلِك: " لَهُ عَليّ خَمْسَة إِلَّا ثَلَاثَة " فلولا الِاسْتِثْنَاء لَوَجَبَتْ الْخَمْسَة.
(1/149)
 
 
ثمَّ ذكر لصِحَّة الِاسْتِثْنَاء شرطين: -
أَحدهمَا: انه لَا يكون مُسْتَغْرقا للمستثنى مِنْهُ كَمَا لَو قَالَ: لَهُ عَليّ خَمْسَة إِلَّا خَمْسَة " فَهُوَ محَال؛ لِأَنَّهُ نفي مَا أثبت أَولا.
لَكِن اخْتلفُوا فِي نفس الِاسْتِثْنَاء: هَل يشْتَرط أَن يكون أقل من نصف الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَو أَكثر؟
فَذهب الْجُمْهُور إِلَى انه لَا فرق بل لَو قَالَ: " لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا وَاحِدًا " صَحَّ وَلَزِمَه تِسْعَة.
وَكَذَا لَو قَالَ: " إِلَّا تِسْعَة ": لزمَه وَاحِد.
وَذَهَبت الْحَنَابِلَة إِلَى أَنه لَا بُد من الزِّيَادَة على النّصْف كَقَوْلِك " لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا سِتَّة ".
(1/150)
 
 
وَذهب القَاضِي أَبُو بكر إِلَى النَّقْص كَقَوْلِك: " إِلَّا أَرْبَعَة ".
وَالشّرط الثَّانِي: أَن يكون الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا بالمستثنى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْء من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ.
وَنقل جَوَاز الِانْفِصَال مِنْهُ عَن ابْن عَبَّاس حَتَّى لَو قَالَ: " لَهُ عَليّ عشرَة " ثمَّ
(1/151)
 
 
قَالَ بعد سَاعَة أَو أَكثر: " إِلَّا كَذَا ": صَحَّ.
وَالْجُمْهُور على خِلَافه
بل غلطوا النَّاقِل عَن ابْن عَبَّاس؛ ذَلِك لقُوَّة علمه باللغة وَغَيرهَا؛ لِأَنَّهُ يلْزم عدم انْعِقَاد يَمِين، واستقرار إِقْرَار
(1/152)
 
 
لجَوَاز الِاسْتِثْنَاء فِيمَا بعد وَالله أعلم
(1/153)
 
 
[جَوَاز تَقْدِيم الْمُسْتَثْنى على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَجَوَاز الِاسْتِثْنَاء من الْجِنْس وَغَيره]
 
قَالَ: (وَيجوز تَقْدِيم الِاسْتِثْنَاء على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَيجوز الِاسْتِثْنَاء من الْجِنْس وَغَيره) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الِاسْتِثْنَاء وشروطه: شرع فِيمَا يجوز فِيهِ من تَقْدِيم
(1/154)
 
 
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ كَقَوْلِك: " مَا قَامَ إِلَّا زيدا أحد ".
وَمِنْه قَول الْكُمَيْت: -
 
(وَمَالِي إِلَّا آل أَحْمد شيعَة ... )
: ... . .
وَكَذَا فِيمَا يجوز الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس الِاسْتِثْنَاء مِنْهُ كَقَوْلِك: " لَهُ عَليّ
(1/155)
 
 
مَائه دِرْهَم إِلَّا ثَوَابه ".
وَمنعه آخَرُونَ وَقَالُوا: لَا يستحسن أَن يُقَال: رَأَيْت النَّاس إِلَّا حمارا؛ إِذْ الْحمار لم يكن من النَّاس.
وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ بقوله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس} [سُورَة الْحجر: 30] وَلم يكن من الْمَلَائِكَة بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} [سُورَة الْكَهْف: 50] وَالله أعلم.
(1/156)
 
 
[الْمُخَصّص الْمُتَّصِل الثَّانِي: الشَّرْط]
 
قَالَ: (وَالشّرط يجوز أَن يتَقَدَّم على الْمَشْرُوط) .
أَقُول: لما فرغ من الِاسْتِثْنَاء الَّذِي هُوَ أحد أَقسَام الْخَاص الْمُتَّصِل شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ: الشَّرْط، فَذكر جَوَاز تَقْدِيمه على الْمَشْرُوط فَهُوَ كَمَا قَالَ:
لَكِن فِي الشَّرْط اللَّفْظِيّ كَمَا لَو قَالَ: " أَنْت طَالِق إِذا دخلت الدَّار " أَو " إِذا دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق "؛ إِذْ لَا فرق بَينهمَا.
وَكَذَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: " أَنْت حر إِن دخلت الدَّار " أَو " إِن دخلت الدَّار فَأَنت حر فَهَذَا يجوز تَقْدِيم الشَّرْط وتأخيره.
بِخِلَاف الشَّرْط الوجودي؛ إِذْ لَا يجوز تَأْخِيره كالطهارة للصَّلَاة وَدخُول الْوَقْت. وَالله أعلم.
(1/157)
 
 
[الْمُخَصّص الْمُتَّصِل الثَّالِث: الصّفة]
 
قَالَ: (والمقيد بِالصّفةِ يحمل عَلَيْهِ الْمُطلق كالرقبة قيدت بِالْإِيمَان فِي بعض الْمَوَاضِع، وأطلقت فِي الْبَعْض، فَيحمل الْمُطلق على الْمُقَيد) .
أَقُول: لما فرغ من الشَّرْط الَّذِي هُوَ الْقسم الثَّانِي من أَقسَام الْخَاص الْمُتَّصِل: شرع فِي الثَّالِث وَهُوَ الْخَاص الْمُقَيد بِالصّفةِ؛ لِأَن اللَّفْظ إِذا ورد مُطلقًا من غير تَقْيِيد، ثمَّ ورد مُقَيّدا حمل الْمُطلق على الْمُقَيد سَوَاء كَانَا فِي حكم وَاحِد كتحرير الرَّقَبَة فِي الْقَتْل فقيدت فِي بعض الْمَوَاضِع دون بعض فَحمل الْمُطلق على الْمُقَيد.
وَإِمَّا إِذا [كَانَ] اللَّفْظ الْمُطلق والمقيد فِي حكمين كَالْقَتْلِ وَالظِّهَار فَإِن الرَّقَبَة وَردت فِي الظِّهَار مُطلقَة، وَفِي الْقَتْل مُقَيّدَة بِالْإِيمَان.
فَذهب الشَّافِعِي إِلَى وجوب الْحمل؛ احْتِيَاطًا لِلْخُرُوجِ عَن الْعهْدَة يَقِينا.
(1/158)
 
 
وَذهب أَبُو حنيفَة وَآخَرُونَ إِلَى عدم الْحمل؛ لِأَن كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ مُغَاير للْآخر، فَلَا يجب حمل أَحدهمَا على الآخر وَالله أعلم.
[تَخْصِيص الْكتاب بِالْكتاب، وَالْكتاب بِالسنةِ]
 
قَالَ: (يجوز تَخْصِيص الْكتاب بِالْكتاب، وَالْكتاب بِالسنةِ) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْخَاص الْمُتَّصِل وتقسيمه، شرع فِي بَيَان الْخَاص الْمُنْفَصِل؛ لِأَن الْعَام الْمُخَصّص قد يكون بِدَلِيل قَطْعِيّ كالكتاب وَالسّنة المتواترة وَالْإِجْمَاع، أَو بِدَلِيل ظَنِّي كالقياس، وَالسّنة الَّتِي لَيست متواترة.
(1/159)
 
 
ثمَّ ذكر جَوَاز تَخْصِيص الْكتاب بِالْكتاب، وبالسنة.
وَزَاد غَيره الْإِجْمَاع فَإِنَّهُ يخصص الْكتاب؛ لِأَنَّهُ قَطْعِيّ يلْحق بهما.
(1/160)
 
 
فتخصيص الْكتاب بِالْكتاب كَقَوْلِه تَعَالَى {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} [سُورَة الْبَقَرَة: 228] فَهَذَا عَام خصصه قَوْله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال أجهلن أَن يَضعن حَملهنَّ} [سُورَة الطَّلَاق: 4]
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} [سُورَة النِّسَاء: 3] خصصه قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} [سُورَة النِّسَاء: 23] .
وَتَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ كَقَوْلِه تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [سُورَة النِّسَاء: 11] خصصه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " الْقَاتِل لَا يَرث ".
(1/161)
 
 
و " نَحن لَا الْأَنْبِيَاء لَا نورث ".
وَتَخْصِيص الْكتاب بِالْإِجْمَاع كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} [سُورَة النُّور: 6] عَام فِي الْحر وَالْعَبْد، خصصه الْإِجْمَاع: أَن العَبْد لَا يضْرب ثَمَانِينَ، بل أَرْبَعِينَ وَالله أعلم.
(1/162)
 
 
[تَخْصِيص السّنة بِالْكتاب، وَتَخْصِيص السّنة بِالسنةِ، وَتَخْصِيص الْكتاب وَالسّنة بِالْقِيَاسِ]
 
قَالَ: (وَالسّنة بِالْكتاب، وَالسّنة بِالسنةِ، والنطق بِالْقِيَاسِ، ونعني بالنطق قَوْله تَعَالَى، وَقَول رَسُوله - عَلَيْهِ السَّلَام -) .
أَقُول: يُشِير الشَّيْخ - رَحمَه الله - إِلَى أَنه كَمَا جَازَ تَخْصِيص الْكتاب بِالْكتاب، وَالسّنة جَازَ تَخْصِيص السّنة بِالْكتاب كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا يقبل الله صَلَاة من أحدث حَتَّى يتَوَضَّأ) خصها قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر} [سُورَة الْمَائِدَة: 6] إِلَى قَوْله: {فَتَيَمَّمُوا} .
وَتَخْصِيص السّنة بِالسنةِ كنهيه عَلَيْهِ السَّلَام أَولا عَن بيع الرطب ثمَّ رخص فِي بيع الْعَرَايَا فَخص عَلَيْهِ السَّلَام مَسْأَلَة الْعَرَايَا من عُمُوم نَهْيه أَولا.
وَتَخْصِيص النُّطْق بِالْقِيَاسِ، ثمَّ فسر النُّطْق بِالْكتاب وَالسّنة فَهَذِهِ مَسْأَلَة قد
(1/163)
 
 
اخْتلف فِيهَا وَهِي: هَل يجوز تَخْصِيص الْكتاب وَالسّنة بِالْقِيَاسِ أم لَا؟ .
فَذهب أَبُو حنيفَة وَعِيسَى بن أبان والكرخي إِلَى عدم.
(1/164)
 
 
الْجَوَاز؛ لِأَن دليلهما قَطْعِيّ، وَالْقِيَاس ظَنِّي فَلَا يخصصهما إِلَّا إِذا خصا بقطعي مثلهمَا.
وَذهب جُمْهُور الشَّافِعِيَّة إِلَى جَوَاز تخصيصهما بِالْقِيَاسِ؛ لِأَن الْقيَاس
(1/165)
 
 
والعموم دليلان فَوَجَبَ حمل الْأَعَمّ على الْأَخَص.
وَأَيْضًا: اختصاصهما بِالْقِيَاسِ فِيهِ عمل بالدليلين، وَهُوَ أولى من إِلْغَاء أَحدهمَا وَهُوَ الْقيَاس، وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْمُجْمل وَالْبَيَان]
 
قَالَ: (والمجمل: مَا يفْتَقر إِلَى الْبَيَان، وَالْبَيَان: إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال إِلَى حيّز التجلي) .
أَقُول: [لما فرغ من بَيَان بَاب الْخَاص شرع فِي الْبَاب السَّادِس وَهُوَ] الْمُجْمل، ثمَّ عرفه تعريفا حسنا؛ لِأَن الْمُجْمل فِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء: كل لفظ لَا
(1/166)
 
 
يعلم المُرَاد مِنْهُ عِنْد إِطْلَاقه بل يتَوَقَّف على الْبَيَان كَقَوْلِه تَعَالَى: {ثَلَاثَة قُرُوء} [سُورَة الْبَقَرَة: 228] ؛ لِأَن الْقُرْء لفظ مُجمل يحْتَمل " الطُّهْر " و " الْحيض ".
فبينته الشَّافِعِيَّة بِالطُّهْرِ.
(1/167)
 
 
وبينته الْحَنَفِيَّة بِالْحيضِ.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {أَن تذبحوا بقرة} [سُورَة الْبَقَرَة: 67] فَهَذَا اللَّفْظ مُجمل لجنس الْبَقر، وَالْمرَاد من الْجِنْس بقرة مُعينَة تفْتَقر إِلَى لفظ آخر يُخرجهَا من حيّز الْإِشْكَال إِلَى الْجَلِيّ فبينها تَعَالَى.
وَاخْتلفُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {وامسحوا برؤوسكم} [سُورَة الْمَائِدَة: 6]
فَذَهَبت الْمَالِكِيَّة إِلَى أَنه لَيْسَ بمجمل؛ لِأَن الْبَاء للإلصاق، فَوَجَبَ الْمسْح.
(1/168)
 
 
بِالرَّأْسِ، وَالرَّأْس اسْم لجميعه، فَوَجَبَ مسح الْجَمِيع.
وَذهب الْجُمْهُور إِلَى إجماله؛ لاحْتِمَال أَن تكون الْبَاء للتَّبْعِيض فبينه عَلَيْهِ السَّلَام بمسح بعض رَأسه. وَالله أعلم.
(1/169)
 
 
[المُرَاد بالمبين]
 
قَالَ: (والمبين هُوَ النَّص لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا، وَقيل: مَا تَأْوِيله تَنْزِيله، وَهُوَ مُشْتَقّ من المنصة الَّتِي تجلى عَلَيْهَا الْعَرُوس [وَهُوَ الْكُرْسِيّ]
أَقُول: لما فرغ من الْمُجْمل: شرع فِي بَيَان الْمُبين وَهُوَ الْبَاب السَّابِع فرسمه بِأَنَّهُ النَّص الَّذِي لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا.
وَهُوَ: الَّذِي لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ احْتِمَال آخر.
وَذَلِكَ النَّص الْمُبين: إِمَّا من كتاب، أَو سنة: -
كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّهَا بقرة صفراء فَاقِع لَوْنهَا} [سُورَة الْبَقَرَة: 69] فَهَذَا لفظ لَا يحْتَمل غَيره.
وَكَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر) فَإِنَّهُ مُبين لقَوْله تَعَالَى:
(1/170)
 
 
{وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [سُورَة الْأَنْعَام: 141]
وَكَذَا أَفعاله - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي الصَّلَوَات، وَالْحج مبينَة لقَوْله [تَعَالَى] : و {أقِيمُوا الصَّلَاة} [سُورَة الْبَقَرَة: 43] وَلقَوْله: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} [سُورَة آل عمرَان: 97] فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام بَينهمَا تبيينا لَا يحْتَمل الزِّيَادَة وَلَا النُّقْصَان.
وَلِهَذَا رسم الْمُبين - بِفَتْح الْيَاء - بِالنَّصِّ الَّذِي لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا.
وَأَشَارَ إِلَى أَن بعض الْعلمَاء رسم النَّص بِمَا تَأْوِيله تنزيلة وَهُوَ قريب مِمَّا ذكره الشَّيْخ وَالله أعلم.
وَقَوله: " وَهُوَ مُشْتَقّ من المنصة الَّتِي تجلى عَلَيْهَا الْعَرُوس " يُشِير إِلَى أَن النَّص فِي إيضاحه يشبه الْعَرُوس الْجَالِسَةُ على مُرْتَفع لَا تخفى على أحد، وَلَا يحْتَمل أَن تكون غَيرهَا هِيَ، فَكَذَلِك النَّص فِي ظُهُوره الَّذِي لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا. لَكِن فِي قَوْله نظر؛ إِذْ جعل النَّص مشتقا من المنصة، وَلَا شكّ أَن المنصة مفعلة؛ لِأَنَّهَا اسْم آله وَهُوَ: مصدر فاشتقاقها مِنْهُ، لَا بِالْعَكْسِ. وَالله أعلم
(1/171)
 
 
[تَعْرِيف الظَّاهِر]
 
قَالَ: (وَالظَّاهِر: مَا يحْتَمل أَمريْن أَحدهمَا أظهر من الآخر، ويؤل الظَّاهِر بِالدَّلِيلِ وَيُسمى ظَاهرا، والعموم قد تقدم شَرحه) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْمُبين: شرع فِي بَيَان الظَّاهِر وَهُوَ الْبَاب الثَّامِن.
يُشِير فِي هَذَا الْبَاب إِلَى أَن النَّص إِذا ورد يحْتَمل أموراً فالراجح مِنْهَا يُسمى ظَاهرا.
ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَن الظَّاهِر قد لَا يحمل على ظَاهره بل إِذا أول صَار ظَاهرا كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالسَّمَاء بنيناها بأيد} [سُورَة الذاريات: 47] فَالظَّاهِر: أَنَّهَا بنيت بأيد مُتعَدِّدَة؛ ن لِأَنَّهَا جمع يَد، وَهُوَ محَال فِي حَقه تَعَالَى فأولت بِالْقُوَّةِ فَصَارَ النَّص ظَاهرا بالتأويل.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} [سُورَة الْأَنْعَام: 121] فَهَذَا ظَاهر فِي تَحْرِيم مَتْرُوك الْبَسْمَلَة فَأول بِذكر الشَّرِيك، وَهُوَ: إِذا ذبح لغير الله
(1/172)
 
 
فَظهر النَّص بالتأويل
وَقَوله: " والعموم قد تقدم [شَرحه] ، يُشِير إِلَى أَن دَلَائِل الْعُمُوم من بَاب الظَّاهِر، وَقد تقدم الْكَلَام على الْعُمُوم، فَلَا حَاجَة لإعادته وَالله أعلم.
[أَفعَال الرَّسُول - عَلَيْهِ السَّلَام - مُخْتَصَّة بِهِ إِن دلّ على ذَلِك دَلِيل]
 
قَالَ: (وَالْأَفْعَال: فعل صَاحب الشَّرْع، فَلَا يَخْلُو أَن تكون على [وَجه] الْقرْبَة، أَو الطَّاعَة، فَإِن دلّ دَلِيل على اخْتِصَاصه بِهِ حمل عَلَيْهِ) .
(1/173)
 
 
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الظَّاهِر، شرع فِي بَيَان أَفعاله - عَلَيْهِ السَّلَام - وَهُوَ الْبَاب التَّاسِع.
وَأَرَادَ بِهَذَا الْبَاب بَيَان أَحْكَام أَفعاله وانقسامها إِلَى أَنَّهَا تَارَة تكون خَاصَّة بِهِ كالوصال فِي الصّيام، ونكاحه من غير ولي وَغير ذَلِك وَاخْتلفُوا فِي الْأَفْعَال الَّتِي لم تخْتَص بِهِ، بل هِيَ تشريع لأمته على ثَلَاثَة أَقْوَال: _
مِنْهُم من جعله على الْوُجُوب.
وَمِنْهُم من جعله على النّدب.
وَمِنْهُم جعله على الْإِبَاحَة على مَا يَأْتِي إيضاحه - إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(1/174)
 
 
[إِذا لم يدل دَلِيل على أَن فعله عَلَيْهِ السَّلَام خَاص بِهِ فعلى مَاذَا يحمل؟]
 
قَالَ: (وَإِن لم يدل: لم يخْتَص بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} فَيحمل على الْوُجُوب عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَمِنْهُم من قَالَ: يحمل على النّدب، وَمِنْهُم من قَالَ: يتَوَقَّف فِيهِ، وَإِن كَانَ على غير الْقرْبَة وَالطَّاعَة فَيحمل على الْإِبَاحَة) .
أَقُول: هَذَا شُرُوع فِي تَقْسِيم أَفعاله عَلَيْهِ السَّلَام: -
فَذهب قوم إِلَى أَن أَفعاله عَلَيْهِ السَّلَام تحمل على الْوُجُوب، مِنْهُم: أَبُو سعيد الاصطخري، وَأَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج، وَأَبُو عَليّ بن خيران.
(1/175)
 
 
واحتجزوا بقوله تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني} [سُورَة آل عمرَان: 31] فَدلَّ على أَن محبته تَعَالَى مستلزمة لمتابعة رَسُوله - عَلَيْهِ السَّلَام -
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} [سُورَة الْحَشْر: 7] وَفعله عَلَيْهِ السَّلَام من جملَة مَا أَتَى بِهِ فَدلَّ - أَيْضا - على أَن الْأَخْذ بأفعاله وَاجِب.
وَمَا ذكر الشَّيْخ - رَحمَه الله - من قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم} [سُورَة الْأَحْزَاب: 21] دَالَّة على الْوُجُوب فِيهِ نظر على مَا يَأْتِي.
وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه يحمل على النّدب؛ لِأَن قَوْله تَعَالَى: (لقد كَانَ
(1/176)
 
 
لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} لِأَن الأسوة الْحَسَنَة فِي أَفعاله قد يكون وَاجِبا، وَقد يكون ندبا.
وَالْأَصْل: عدم الْوُجُوب، فَحمل على النّدب حَتَّى يدل دَلِيل على الْوُجُوب.
وَذهب أَبُو بكر الصَّيْرَفِي وَأَبُو حَامِد الْغَزالِيّ، وَالْإِمَام الرَّازِيّ إِلَى
(1/177)
 
 
التَّوَقُّف؛ لِأَن أَفعاله تدل على الْوُجُوب تَارَة، وعَلى النّدب تَارَة، وعَلى الْإِبَاحَة تَارَة فَتعين التَّوَقُّف ليدل دَلِيل على أحدهم.
وَغَايَة مَا فِي هَذَا الْبَاب: أَن أَفعاله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَخْلُو: أَن تخْتَص بِهِ أَو لَا: -
فَإِن اخْتصّت بِهِ كالوصال: فَلَا بحث فِيهِ.
وَإِن لم تخْتَص بِهِ فَلَا يَخْلُو: -
أَن تكون على وَجه الطَّاعَة أَو لَا: -
فَإِن كَانَت على وَجه الطَّاعَة: نظر: -
(1/178)
 
 
إِن دلّ دَلِيل على وُجُوبه: حمل عَلَيْهِ، كغسله من التقاء الختانين، وَزِيَادَة الرُّكُ