البدعة الشرعية

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: البدعة الشرعية
المؤلف: أبو المنذر محمود بن محمد بن مصطفى بن عبد اللطيف المنياوي
عدد الأجزاء: 1
 
[مقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1).
روى النسائي بسند صحيح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: «يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول من يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» (2).
قال السندي في حاشيته على النسائي: "وأحسن الهدى هدى محمد هما بضم ففتح أو بفتح فسكون والأول بمعنى الإرشاد والثاني بمعنى الطريق".
ولما كان الأصل في صيغة التفضيل المشاركة في أصل الفعل، فقد يتوهم شخص مشاركة هدي غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الحسن إعمالاً لمقتضى صيغة التفضيل.
وللإجابة على ذلك نقول: أن صيغة التفضيل قد ترد في القرآن، وفي اللغة مراداً بها مطلق الاتصاف، لا لتفضيل شيء على شيء، فمن ذلك أنهم في أساليب اللغة العربية إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل، كقول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - لأبي سفيان:
أتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ ... فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ
__________
(1) هذه خطبة الحاجة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمها أصحابه وكان السلف يفتتحون بها خطبهم في دروسهم، وكتبهم وللشيخ الألباني - رحمه الله - فيها رسالة لطيفة، جمع فيها طرق حديثها، وألفاظها، وذكر فيها بعض الفوائد التي تتناسب مع موضوعها.
(2) أخرجه النسائي في كتاب صلاة العيدين (19)، باب كيف الخطبة (22)، (3/ 188) حديث رقم (1578)، وصححه الألباني، وسيأتي - بمشيئة الله - بيان عدم شذوذ زيادة: (وكل ضلالة في النار) في الباب الثالث.
(1/3)
 
 
وكقول العرب: الشقاء أحب إليك، أم السعادة؟
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} (1)، {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (2)، {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (3)، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} (4) ... (5)، ولما كانت صيغة المفاضلة لا تحمل على هذا الوجه الذي هو خلاف الأصل إلا لدليل خارج يقتضي ذلك كان لابد من إيجاد دليل هنا للدلالة على منع مشاركة غير هديه - صلى الله عليه وسلم - لهديه في الحسن، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (6)؛ فتحصل من ذلك منع مشاركة غير هديه - صلى الله عليه وسلم - لهديه في الحسن - إلا إذا دل الدليل على خلاف ذلك، وسيأتي - بمشيئة الله - عقد فصل لمناقشة الأصول التي يصح أن يستند إليها العمل ليكون سنة لا بدعة.
 
ذم البدع والمبتدعين:
أولا: من القرآن الكريم (7):
1 - قال الله تعالى: {وأنَّ هذا صِراطِي مُسْتقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تتَّبعُوا السبُل فتفرَّق بِكُمْ عنْ سَبُيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلَّكُمْ تتَّقُون} [فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع. وليس المراد سبل المعاصي، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقاً تُسْلك دائماً على مضاهاة التشريع (8). وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات؛ ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدّثنا حماد بن زيد عن
__________
(1) (الفرقان:24).
(2) (النمل: 59).
(3) (يوسف:39).
(4) (النساء: 122).
(5) انظر للكلام على صيغة المفاضلة: أضواء البيان (6/ 109، 294)، شرح الواسطية للشيخ العثيمين (ص /79).
(6) (النجم:3، 4).
(7) - هذه الأدلة، ووجوه الاستدلال بها منقولة من الاعتصام (1/ 38) ببعض التصرف البسيط.
(8) - وسوف يكون لنا وقفة مع معنى المضاهاة عند الشاطبي - بمشيئة الله -.
(1/4)
 
 
عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال: خط لنا رسول الله (يوماً خطاً طويلاً، وخط لنا سليمان خطاً طويلاً، وخط عن يمينه وعن يساره فقال: (هذا سبيلُ اللهِ) ثم خط لنا خطوطاً عن يمينه ويساره وقال: (هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) ثم تلا هذه الآية: {وأنَّ هذا صِراطِى مُسْتقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} - يعني الخطوط - {فتفرَّقَ بِكمْ عنْ سَبِيلِهِ} (1) ... عن مجاهد في قوله: {ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُل} قال: البدع والشبهات].
2 - قول الله تعالى: {وعلَى الله قصْدُ السَّبِيلِ ومِنْها جائِرٌ ولوْ شَاءَ لهَداكُمْ أجْمعِين} فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق؛ أي عادل عنه، وهي طرق البدع والضلالات، أعاذنا الله من سلوكها بفضله. وكفى بالجائر أن يحذر منه. فالمساق يدل على التحذير والنهي. عن التستري: {قصْدُ السَّبِيلِ} طريق السنة، {ومنها جائرٌ} يعني إلى النار، وذلك الملل والبدع، وعن مجاهد {قصْدُ السَّبِيلِ} أي المقتصد منها بين الغلو والتقصير، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر، وكلاهما من أوصاف البدع.
3 - {إنَّ الَّذِين فرَّقوا دِينهُمْ وَكانُوا شِيعاً لسْت مِنْهُمْ في شْيءٍ إنَّما أمْرُهُمْ إلىَ اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يفْعَلُون} قال ابن عطيّة: هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوءِ المعتقد، قال القاضي [إسماعيل]: ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية؛ لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعاً.
 
ثانياً: من السنة:
1 - روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنه - مرفوعاً: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (2).
__________
(1) - أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 348) حديث رقم (3241) من طريق إسماعيل بنحوه، وتابع إسماعيل: عبد الرحمن بن مهدي، ويزيد، عند أحمد (1/ 430)، وعفان عند الدارمي (1/ 78) حديث رقم (202)، ومعلي بن مهدي عند ابن حبان (1/ 180) حديث رقم (6)، والحديث حسن الأرناؤوط إسناده في هامش المسند.
(2) - أخرجه البخاري في كتاب (الصلح) (57)، باب (إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح باطل) (5)، (2/ 959) حديث رقم (2550)، ومسلم في كتاب (الأقضية) (30)، باب
(نقض الأحكام الباطلة) (8)، (3/ 1343) حديث رقم (1718).
(1/5)
 
 
2 - روى الشيخان عن ابن عباس مرفوعاً قال: (قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة فقال: (يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم - عليه السلام -، ألا وإنه سيجاء برجال من آمتي فيؤخذ بهم ذاتَ الشمال فأقول يا رب أصحابي، فيُقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيقال لي: (إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)) (1).
3 - وفي مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: (من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أُجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) (2).
4 - وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) (3).
ثالثاً: الآثار:
· ... قال أبو بكر الصديق - - رضي الله عنه - -: " لست تاركاً شيئاً كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به لأني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ".
· عن عبد الله بن عمر - - رضي الله عنه - ما - قال: " كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ".
· ... عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر
__________
(1) - أخرجه البخاري في كتاب (الأنبياء) (64)، باب (قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) (11)، (3/ 1222) حديث رقم ... (3171)، ومسلم في كتاب (الجنة) (51)، باب (فناء الدنيا) (14)، (4/ 2194) حديث رقم (2860).
(2) - أخرجه مسلم في كتاب (العلم) (47)، باب (من سن سنة حسنة أو سيئة) (6)، (4/ 2060/) حديث رقم (2674).
(3) - رواه الطبراني في "الأوسط" (4/ 581) حديث رقم (4202)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 307): (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة)، وحسن إسناده الألباني في صحيح الترغيب.
(1/6)
 
 
العتيق".
عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: " الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة".
· ... عن ابن عباس - رضي الله عنه -: " النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة، عبادة ".
· ... قال عمرو بن يحيى: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب ابن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد ... وذكر إنكاره على من يكبرون جماعة في المسجد وقوله لهم: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا نضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون وهذه ثيابه لم تبلَ وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة ... (1).
· ... عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما كان في مجلس فعطس رجل، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: وأنا أقول معك الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قل: الحمد لله، أو قال له قل الحمد لله رب العالمين.
· ... عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيه القرآن، حتى يأْخذه المؤمن والمنافق، والرجل، والمرأة، والصغير، والكبير، والعبد، والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأْت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة، وأُحذِّركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق.
عن حذيفة أنه أَخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً قال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لَتَفْشُونَّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة.
· ... قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد
__________
(1) - أخرجه الدارمي في سننه (1/ 79) أثر رقم (204)، وقال حسن أسد: إسناده جيد.
(1/7)
 
 
زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً.
وقال الإمام أبو حنيفة: عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة.
وقال الإمام أحمد: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله، والإقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة.
قال الفضيل بن عياض: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة.
· ... وقال أيضا: اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.
(1/8)
 
 
الباب الأول
تعريف البدعة:
أولا ً: تعريف البدعة لغة:
قال المطرزي: (الْبِدْعَةُ) اسْمٌ مِنْ ابْتَدَعَ الْأَمْرَ إذَا ابْتَدَأَهُ وَأَحْدَثَهُ كَالرِّفْعَةِ اسْمٌ مِنْ الِارْتِفَاعِ وَالْخِلْفَةِ مِنْ الِاخْتِلَافِ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى مَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ أَوْ نُقْصَانٌ مِنْهُ (وَفِي) حَدِيثِ نَاجِيَةَ مَاذَا أَصْنَعُ بِمَا أُبْدِعَ عَلَيَّ مِنْهَا الِاسْتِعْمَالُ أُبْدِعَ بِفُلَانٍ إذَا انْقَطَعَتْ رَاحِلَتُهُ عَنْ السَّيْرِ لِكَلَالٍ أَوْ عَرَجٍ وَلَوْ رُوِيَ بِمَا أَبْدَعَتْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ لَصَحَّ لِأَنَّ الْكِسَائِيَّ قَالَ أَبْدَعَتْ الرِّكَابُ إذَا كَلَّتْ وَعَطِبَتْ كَأَنَّهَا أَحْدَثَتْ أَمْرًا بَدِيعًا. (1)
قال ابن منظور: [بدع: بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعاً وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه. وبدَع ... والبَدِيعُ والبِدْعُ: الشيء الذي يكون أَوّلاً. وفي التنزيل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ}؛ أَي ما كنت أَوّلَ من أُرْسِلَ، قد أُرسل قبلي رُسُلٌ كثير.
والبِدْعةُ: الحَدَث وما ابْتُدِعَ من الدِّينِ بعد الإِكمال ... وأَبْدَعَ وابْتَدَعَ وتَبَدَّع: أتَى بِبدْعةٍ، قال اللهِ تعالى: {ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعوها}؛ وقال رؤبة:
إِنْ كُنْتَ للهِ التَّقِيَّ الأَطْوعا ... فليس وجْهَ الحَقِّ أَن تَبَدَّعا
وبَدَّعه: نَسَبه إِلى البِدْعةِ. واسْتَبْدَعَه: عدَّه بَديعاً. والبَدِيعُ: المُحْدَثُ العَجيب. والبَدِيعُ: المُبْدِعُ. وأَبدعْتُ الشيء: اخْتَرَعْته لا على مِثال ... ] (2)
وقال الراغب الأصفهاني: [الإبداع: إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء، ومنه قيل: ركية بديع أي: جديدة الحفر ... والبدعة في المذهب: إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدمة وأصولها المتقنة] (3).
وقال أبو البقاء الكفوي: [البدعة كل عمل عمل على غير مثال سبق فهو بدعة] (4).
قال الشاطبي: [وأصل مادة ((بدع)) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول
__________
(1) المغرب مادة: ب د ع.
(2) لسان العرب مادة: ب د ع.
(3) مفردات القرآن مادة بد ع.
(4) الكليات ص 226.
(1/9)
 
 
الله تعالى: {بَدِيعُ السَّموَاِت والأرْضِ} أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدم، وقوله تعالى: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِن الرُّسُل}، أي ما كنت أول من جاءَ بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه. ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة: فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة] (1).
 
ثانياً: تعريف البدعة اصطلاحاً:
أما في الاصطلاح , فقد تعددت تعريفات البدعة وتنوعت ; لاختلاف أنظار العلماء في مفهومها ومدلولها. فمنهم من وسع مدلولها , حتى أطلقها على كل مستحدث من الأشياء , ومنهم من ضيق ما تدل عليه , فتقلص بذلك ما يندرج تحتها من الأحكام. وسنوجز ذلك في قولين:
 
القول الأول:
اتجه فريق من العلماء إلى ذم البدعة , وقرروا أن البدعة كلها ضلالة , سواء في العادات أو العبادات. ومن القائلين بهذا الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو اختيار طائفة من أتباعهم كالشمني، والعيني، والطرطوشي، والشاطبي، وابن رجب، وابن تيمية، وهو اختيار طائفة من محققي الشافعية كالبيهقي، وابن حجر الهيتمي، وقال به طائفة من الصحابة والتابعين كما سبق نقل أقوالهم آنفاً في مبحث ذم البدع، والمبتدعين.
 
القول الثاني:
أطلق أصحاب هذا القول البدعة على كل حادث لم يوجد في الكتاب والسنة , سواء أكان في العبادات أم العادات , وسواء أكان مذموما أم محموداً، ويرى هؤلاء العلماء أن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة فإن وافقت السنة فهي حسنة محمودة وإن خالفت السنة فهي سيئة مذمومة.
وبناء على هذا الأساس قالوا إن البدعة تنقسم إلى الأقسام الخمسة فهي إما أن تكون
__________
(1) الاعتصام 1/ 36.
(1/10)
 
 
واجبة أو مندوبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة .. وقد نسب هذا القول للإمام الشافعي , ومن أتباعه العز بن عبد السلام , والنووي , وأبو شامة، وابن الأثير، والسيوطي. ومن المالكية: القرافي , والزرقاني. ومن الحنفية: ابن عابدين. ومن الحنابلة: ابن الجوزي. ومن الظاهرية: ابن حزم. وسوف يأتي - إن شاء الله - تحقيق نسبة هذه الأقوال لقائليها، وذكر تعريفاتهم للبدعة، ومناقشة ما استدلوا به تفصيلياً في مبحث خاص (1).
وسوف نتوقف - بمشيئة الله - في هذا المبحث مع القول الأول؛ لبيان أقوالهم ومسالكهم في تعريف البدعة، وسوف نعرض لأصولهم في هذا الصدد، فالله المستعان:
 
(أقوال العلماء في تعريف البدعة على القول الأول:
وبالنظر إلى ما ذكره المحقق الشاطبي في تعريف البدعة نجد أنه ذكر اتجاهين في تعريف البدعة، حيث قال ما ملخصه: [فالبدعة إذن عبارة عن ((طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه)) وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: ((البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية)) ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد. فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها ـ خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأْي أنه مخترع مما هو متعلق
__________
(1) ولعل ذلك يكون بمشيئة الله بالرد على رسالة الغماري التي جمع فيها أقوال هذا المذهب وانتصر له حتى أصبحت رسالته الجامعة لشتات أقوال وأدلة هذا القول عمدة في بابها يتشدق بها المبتدعون 0
(1/11)
 
 
بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأُصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأُصولها موجودة في الشرع ...
(فإن قيل): فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.
(فالجواب): أن له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص، فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأْتي بسطها بحول الله.
فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأْخوذة من جزئي واحد؛ فلبست ببدعة البتة.
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة، لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحاً، وهو باطل بالإجماع فليس إذاً ببدعة.
ويلزم أن يكون دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.
وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة.
فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة، بدعة أصلاً ...
وقوله في الحد ((تضاهي الشرعية)) يعني: أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة:
منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.
ومنها: التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً، وما أشبه ذلك.
ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته ...
وقوله: ((يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى)) هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.
(1/12)
 
 
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونَ} (1)، فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ ...
وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات. فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية ...
وأما الحد على الطريقة الأُخرى (2) فقد تبين معناه إلا قوله: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية. ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأْتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛ لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه. وإن تعلقت بالعادات فكذلك، لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها ... وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله] (3).
 
وقفات مع تعريف الشاطبي:
الوقفة الأولى:
قال الشيخ مصطفى بن محمد بن مصطفى: [وقد رجَّح الشاطبي رحمه الله تعالى هذا التعريف الذي يقول بدخول البدع في العادات والمعاملات (4)، حيث قال: ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادى من سابقة التعبد، لأن مالا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي. فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع، والنكاح، والشراء، والطلاق، والإجارات والجنايات كلها عادى، لأن أحكامها معقولة المعنى، ولابد فيها من التعبد إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها ... فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من هذا الوجه صح دخوله في العاديات كالعبادات وإلا فلا".
__________
(1) الذاريات: 56.
(2) أي على طريقة من يدخل العادات في معنى البدع.
(3) الاعتصام للشاطبي (1/ 36: 42].
(4) وقد وافق في ذلك الغامدي في كتابه حقيقة البدعة وأحكامها (1/ 256).
(1/13)
 
 
وقال أيضا: شبه والرد عليها: إذا كان الأصل في العقود والشروط والمعاملات العفو حتى يحرمها الله تعالى، فكيف تدخلها البدع؟
والجواب، أولاً: ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادى من شائبة التعبد لكونه مقيداً بأوامر الشرع إلزاماً أو تخييراً أو إباحة.
ثانياً: البدع لا تدخل في الأمور العادية إلا من الوجه العبادي فيها، فإذا ألحق المكلف حكماً شرعياً بعمل عادى وقصد به القربة وهو في حقيقته ليس كذلك فقد ابتدع.
قال ابن رجب رحمه الله: (فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود ... كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي أو بالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام ... ).
وكما يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: والأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية فكلاهما مشروع من قبل الشارع فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر.
وقال النووي في شرح مسلم لحديث (وفى بضع أحدكم صدقة)، " في هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقة ".
ويقول الغزالي في الإحياء (4/ 371): وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات.
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى (1/ 311): الأصل الثاني: أن نعبده بما شرع على ألسنة رسله، ولا نعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك.
وقال في الاستقامة (2/ 152): لذات الدنيا ونعيمها إنما هي متاع ووسيلة إلى لذات الآخرة وكذلك خلقت، فكل لذة أعانت على لذات الآخرة فهو مما أمر الله به ورسوله، ويثاب على ما يقصد به وجهه ... ).
ويمكن توضيح هذه المعاني بالأمثلة:
- وضع المكوس على الناس حتى تصبح أمراً محتوماً دائماً أو في أوقات محدودة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهى المشروع كالزكاة.
- نكاح المحلل الذي يحتال به لإجازة ما هو حرام شرعاً إذا اعتقد فاعلوه جواز ذلك، وحله في الشريعة، أما إذا لم يعتقدوا ذلك فيكون حراماً ومعصية لا بدعة.
(1/14)
 
 
- وفى العادات بمثل التقيد بلباس معين أو عادة معينة، بحيث يجعل ذلك لازماً أو مستحباً وهو في الأصل مباح، فذلك يعد بدعة كما نص شيخ الإسلام على ذلك، وقد نص رحمه الله تعالى على لبس الصوف ( ... اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقاً إلى الله بدعة) الفتاوى 11/ 28، 555.] اهـ (1).
(وفق الشاطبي بين الطريقتين وجعلهما كالقول الواحد حيث قال: [هل يدخل في الأُمور العادية أم يختص بالأُمور العبادية؟ أفعال المكلفين ـ بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربين: أحدهما: أن تكون من قبيل التعبدات. والثاني: أن تكون من قبيل العادات.
فأما الأول: فلا نظر فيه هاهنا. وأما الثاني: ـ وهو العادي ـ فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعبادات، فكما أنَّا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها، فكذلك العاديات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى، ولا بد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأُمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها، وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأُمور العادية من ذلك الوجه، صح دخوله في العاديات كالعبادات، وإلا فلا. وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ... فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنها تقع وتظهر وتنتشر أُمور مبتدعة على مضاهاة التشريع، لكن من جهة التعبد، لا من جهة كونها عادية، وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة، والمعصية التي هي ليست ببدعة. وإن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة، وحصل بذلك اتفاق القولين، وصار المذهبان مذهباً واحداً، وبالله التوفيق].اهـ (2)
 
الوقفة الثانية:
إن كلمة الدين في التعريف على كلا الطريقتين يختلف مدلولها من طريقة لأخرى ففي التعريف الأول الذي قصر معنى البدعة على العبادات، فيكون المراد بالدين كل ما جاء لمصالح العباد في آجلتهم فقط دون عاجلتهم، ويكون المراد به في التعريف الثاني كل ما جاء لمصالح العباد في آجلتهم وعاجلتهم.
__________
(1) تيسير العلام بتهذيب وشرح الاعتصام.
(2) الاعتصام (2/ 79: 98).
(1/15)
 
 
الوقفة الثالثة:
بالتأمل لتفسير الشاطبي في التعريف على كلا الطريقتين لقيدي: (طريقة، تضاعي الشريعة) مع قوله: [ويتبين ذلك بمثال وضع المكوس في معاملات الناس، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتاً ما، أو في حالة ما، لنيل حطام الدنيا، على هيئة غصب الغاصب، وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق، وما أشبه ذلك، أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائماً، أو في أوقات محدودة، على كيفيات مضروبة، بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة، ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك.
فأما الثاني: فظاهر أنه بدعة، إذ هو تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات المضروبة، بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة، واللوازم المحتومة أو ما أشبه ذلك، فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك، لأنه شرع مستدرك، وسَنٌّ في التكليف مهيع، فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران: نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم، ونظر من جهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع فيها نهيان: نَهْى عن المعصية، ونهى عن البدعة، وليس ذلك موجوداً في البدع في القسم الأول، وإنما يوجد به النهي من جهة كونه تشريعاً موضوعاً على الناس أمر وجوب أو ندب، إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية؛ بل نفس التشريع هو نفس الممنوع ... ] اهـ (1) تلحظ أن من معاني المضاهاة عنده أن يُجعل الأمر المحدث طريقة يسير عليها الناس، ملزمين بها كالدين. وهذا أمر زائد على الابتداع. فقد جعل الشاطبي الفرق بين المعصية والبدعة هو الإلزام بالمعصية كالدين الموضوع والأمر المحتوم، والمدقق في ذلك يجد أن الفرق بين الحالتين إنما هو بالإصرار على العمل، والإصرار على المعصية لا يحولها إلى بدعة، فبطل بذلك جعل الإلزام بدعة ما لم يقيد بقصد القربة.
قال الشيخ سليمان الماجد في "ضابط البدعة وما تدخله": (القاعدة الثالثة: مضاهاة المكلف للتعبدات المحضة.
ويجري حكم البدعة بمضاهاة التعبدات في صورتين:
__________
(1) المصدر السابق (2/ 80 - 81).
(1/16)
 
 
الصورة الأولى: تخصيص العبادة المحضة، أو تقييدها بمكان أو زمان أو حال أو صفة؛ سواء كان ذلك باعتقاد المشروعية على الوجه الخاص أو المقيد، أو أن يقع هذا التخصيص أو التقييد بمحض العادة، ومطلق المداومة.
والصورة الثانية: تخصيص العادات بمحدودات من مكان أو زمان أو حال أو صفة لا يُعقل لهذه المحدودات معنى على التفصيل؛ ولو لم يُرد بها القربة لله أو للبشر؛ كضرب المكوس والوظائف على الدوام، وتنكيس العلم أو الصمت حداداً، وزيارة نصب الجندي المجهول، والأعياد القومية).
والصورة الأولى تدخل في البدعة الإضافية، وأما الثانية فهي محل الخلاف وسيأتي الكلام عليها.
وقد ناقش الشيخ الغامدي اعتراضات د. عزت على عطية (1) على قيد المضاهاة عند الشاطبي ثم قال معمماً لمعنى المضاهاة: [ولا يشترط أن تكون المضاهاة خاصة بالإلزام أو التشريع الزائد فقط، بل وتكون مع ذلك بالتخصيص الزماني أو المكاني، والتخصيص بالهيئة والطريقة ونحو ذلك من أنواع التخصص الذي لا يكون إلا من قبل الشرع، وتكون بالاعتماد على شُبَهِ الأدلة الشرعية، وتكون المضاهاة كذلك بقصد القربة بالعمل المبتدع، وهذا أوسع أبواب المضاهاة، فإن المبتدع إنما يريد ببدعته القرب إلى الله والتعبد بهذا العمل المحدث، فهو يضاهي بقصده هذا وإرادته العمل المشروع] (2).
وقول الشيخ الغامدي: (ولا يشترط أن تكون المضاهاة خاصة بالإلزام أو التشريع الزائد فقط) موافقة منه للشاطبي في تفسير المضاهاة بذلك وإدخاله في معنى البدعة، ... وقوله: (وتكون المضاهاة كذلك بقصد القربة بالعمل المبتدع) صريح في أنه لا يشترط قصد القربة في المعاني الأُول التي ذكرها لمعنى المضاهاة، ومن المعلوم أنه لابد من قصد القربة للحكم على العمل بالبدعية.
وعليه فلابد من تعميم قيد المضاهاة عند الشاطبي على معنى القربة. كما هو معلوم بالاضطرار من معنى البدعة الشرعية أنه لابد من شائبة التعبد والتقرب فيها، ولكن هذا التعميم في الحقيقة يعود على هذا القيد بالبطلان، ويجعله قيداً زائداً يمكن الاستغناء عنه
__________
(1) في كتابة البدعة: تحديدها، موقف الإسلام منها. وكتابه رسالة دكتوراه تقدم بها لجامعة الأزهر، وسار فيها على القول بتحسين بعض البدع.
(2) الغامدي (1/ 260) 0
(1/17)
 
 
بقيود أخرى في التعريف، كقيد: في الدين، يقصد، المبالغة في التعبد.
(قال الشيخ الغامدي: [وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ... ينكر على من يتقرب إلى الله بترك جنس الملذات، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، ثم ذكر الحديث ... ) (1). فالإنكار إنما توجه إليهم بسبب قصد القربة بهذا الترك .... ومن هنا تتقرر هذه القاعدة التي نص عليها الشاطبي - رحمه الله - حيث قال: (ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعا، وليس بمشروع) (2).
فالفعل الذي يقترن به أصل التشريع بإلحاق حكم شرعي له، كالاستحباب أو الوجوب، يكون بدعة، فإن لم يقترن به هذا القصد فهو منهي عنه؛ لكونه معصية أو هو عفو (3). ...
ثم قال: وقصد القربة يراد به: إلحاق حكم شرعي بعمل محدث، كالندب والاستحباب والإيجاب أو الكراهة والتحريم، قال شيخ الإسلام: (فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله) (4)، ويراد به كذلك استحسان الفعل المحدث، وإن لم يلحق به حكماً شرعياً، وإن كان ذلك غير متصور؛ لأن من لوازم استحسانه إلحاق وصف شرعي به، وإلصاق حكم تشريعي بالبدعة.
وقصد القربة يتوجه إلى العمل الذي لا يتصور فيه غير إرادة القربة كالعبادات المحضة، وهي حق خالص لله سبحانه، فلابد من مطابقة فعل العبد لأمر الشرع (5).
وكل ما فهم من الشرع أنه لا خيرة للعبد فيه، سواء كان له معنى معقول أو غير معقول، فإنه مما يعلم أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده من غير زيادة ولا نقصان (6) ... ويتوجه قصد القربة كذلك إلى العمل الذي يحمل أوجهاً متعددة مثل الأمور الدنيوية، فينظر إلى الفعل باعتبار الوجه الغالب عليه، أو باعتبار وجه القربة إذا اتحدت
__________
(1) الاستقامة (1/ 339).
(2) الاعتصام (2/ 108).
(3) المصدر السابق (1/ 211).
(4) مجموع الفتاوى (3/ 193)، ولاحظ أن شيخ الإسلام هنا لم يتكلم عن البدعة.
(5) انظر الموافقات للشاطبي: 2/ 308.
(6) المصدر السابق: 2/ 308.
(1/18)
 
 
أوجه الفعل الواحد، ويتضح ذلك بالمثال:
فمن لبس ثوباً بلون معين ولم يرد بذلك القربة فلا يوصف هذا العمل بالبدعة؛ لأنه مباح، إلا إذا لحقته أمور منهي عنها، كالإسبال والاشتهار، فإنه يكون معصية.
أما إذا أراد بذلك الثوب المعين، واللون المعين القربة، أو ألحق به وصف استحسان أو ندب أو إيجاب، فإنه يكون حينذاك بدعة، كما تفعل طوائف الصوفية التي تشترط لوناً معيناً لمريدي طريقتها ... وهذا الشرط - الذي هو قصد القربة - هو ما عناه الشاطبي في تعريفه للبدعة بقوله: (طريقة في الدين تضاهي الشريعة ... ) (1) ثم شرح ذلك بقوله: ( ... يعني أنها تشابه الطرقة الشرعية، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة - إلى أن قال -: فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية ... ) (2) ومن هذه المضاهاة طلب القربة من الله - سبحانه - ... ثم قال: مع أن المضاهاة من ألزم صفات البدعة ... ومن آكد أوجه المضاهاة بين البدعة والسنة قصد القربة ... )] (3).
وقوله: (وقصد القربة يراد به: إلحاق حكم شرعي بعمل محدث، كالندب والاستحباب والإيجاب أو الكراهة والتحريم) غير صحيح، وغير مطرد، فقد ينسب البعض حكم شرعي لبعض المحدثات لترويجها، وهو يعلم أنه كاذب فلا يكون مبتدعاً، فما هي إلا معاصٍ تراكم بعضها على بعض، وأما البدعة الاصطلاحية فشيء آخر شرطها نية التقرب لا مجرد الإلحاق.
وقوله: (ويراد به كذلك استحسان الفعل المحدث، وإن لم يلحق به حكماً شرعياً، وإن كان ذلك غير متصور؛ لأن من لوازم استحسانه إلحاق وصف شرعي به، وإلصاق حكم تشريعي بالبدعة) وهو كسابقه، والتعبير بالاستحسان أوسع من موضوع الابتداع، فقد يكون الاستحسان مقدمة للبدعة، وقد يكون حجة شرعية على تفصيل ليس هذا محله.
والمستحسن قد يستحسن الفعل _ سواء أكان لدليل شرعي، أو لدليل عقلي، أو لأمر يقدح في نفسه ولا يستطيع أن يعبر عنه - ولا يكون هذا الأمر المستحسن من أمور البدع بل قد يكون من باب المصالح المرسلة، أو حتى من الأمور العادية ولا ينوي بها التقرب
__________
(1) الاعتصام 1/ 37.
(2) المصدر السابق 1/ 39.
(3) الغامدي: 1/ 291: 298.
(1/19)
 
 
، كمن يستحسن بعض أنواع الأطعمة أو الأشربة على بعض.، وبهذا ظهر ما في عبارة الشيخ الغامدي.
وقوله: (ويتوجه قصد القربة كذلك إلى العمل الذي يحمل أوجهاً متعددة مثل الأمور الدنيوية، فينظر إلى الفعل باعتبار الوجه الغالب عليه) غير منضبط، ولا مستقيم، فمثلا الطعام الوجه الغالب فيه هو حظ النفس، فعلى معنى كلامه أنه لا يدخله الابتداع الشرعي المذموم لعدم تحقق وجه القربة فيه؛ لأن الوجه الغالب فيه هو حظ النفس، وكذلك الشرب والنوم، مع أنه في الحقيقة قد يدخل كل هذه الأمور معنى البدعة بالنية، فمن أكل أو شرب بشماله ناوياً الإقتداء بالنبي، والتقرب بذلك لله، فهو مبتدع، وكذلك من لبس الحرير أو نام منبطحاً بنفس النية السابقة وهكذا.
وعليه فالراجح أن العادات المحضة لا تدخل في الإبتداع إلا من جهة شائبة التعبد والتقرب لله عز وجل بها.
وقد اعترض الشيخ سليمان الماجد في "ضابط البدعة وما تدخله" على ذلك فقال: (أما الاتجاه الأول وهو اعتبار القربة:
فإنه مع افتقاره إلى دليل صحته فهو غير مانع ولا جامع:
فهو غير مانع لأنه يُخضِعُ لأحكام البدعة أعمالاً لا يراد منها في أصل شرعها إلا القربة والأجر؛ كالجهاد فِي سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأمور مما لا تدخلها البدعة؛ فلم يقل أحد: إن هذه الأشياء من الأمور التوقيفية التي لا يُحدث فيها، ولا يُجدد في أعمالها إلا بدليل خاص.
وهو غير جامع لأنه يُخرج أعمالا تُعد من التعبدات المحضة، ويسمى المحدث فيها في الشريعة مبتدعاً، وهي مع ذلك ليست مما يُراد بها القربة؛ حيث يُخرج الطلاق فِي الحيض، ويُخرج الأعياد الزائدة على الأعياد الشرعية؛ فقد استقر عمل العلماء على تسمية الطلاق الذي وقع على غير الوجه المشروع بالبدعة، وتسمية العيد الجديد بالعيد المبتدع؛ فهو إذاً غير جامع).
وأما قوله: (فإنه مع افتقاره إلى دليل صحته) وحديث إنما الأعمال بالنيات ونحوه يدل عليه وهي أدلة كثيرة.
وأما اعتراضه عليه بأنه غير مانع وتمثيله بالجهاد والأمر بالمعروف فإن كان بقصد وسائل الجهاد والأمر فهي خارج موضوع البدعة وقد قرر الشاطبي ذلك وسيأتي، وإن كان يقصد ذاتهما وأنه لا ستصور دخول البدعة فيهما فهو متعقب بمن يجاهد أو يأمر وينهي حمية أو من أجل المغنم، أو رياء ونحو ذلك ناويا التقرب لله بهذه النية فهو مبتدع.
وأما اعتراضه بأنه لا يشمل الطلاق البدعي فالمقصود بالبدعية فيه أنه على خلاف سنة النبي لا البدعة الإصطلاحية، وأما الأعياد الجديدة فهي محل النزاع فللمخالف أن يقول أنها لا تسمى بدعة إلا إن قصد بها التعبد، وإلا فهي معصية.
 
أقوال أخرى في تعريف البدعة (1):
قال ابن تيمية: (البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك وسواء كان هذا مفعولا على عهد النبي أو لم يكن فما فعل بعده بأمره من قتال المرتدين والخوارج المارقين وفارس وفارس والروم والترك وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك هو من سنته ... ) (2)
قال ابن حجر الهيتمي: (البدعة هي ما لم يقم دليل شرعي على أنه واجب أو مستحب سواء فعل في عهده - صلى الله عليه وسلم - أو لم يفعل كإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ... ) (3)
قال العيني: (قوله محدثاتها جمع محدثة والمراد به ما أحدث وليس له أصل في الشرع وسمي في عرف الشرع بدعة وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة) (4).
قال ابن الجوزي: (البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتُدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان) (5)
قال ابن رجب الحنبلي: (والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة ...
__________
(1) وقد لخصتها من كتاب الشيخ الغامدي.
(2) مجموع الفتاوى (4/ 107 - 108).
(3) الفتاوى الحديثية 281.
(4) عمدة القارئ 25/ 37.
(5) تلبيس إبليس 16.
(1/20)
 
 
فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو بريء منه وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية) (1).
 
قول الشيخ العثيمين: (ما أحدث في الدين على خلاف ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، من عقيدةٍ أو عمل) (2).
قول الشيخ الألباني: (إن البدعة المنصوص على ضلالتها من الشارع هي:
أ - كل ما عارض السنة من الأقوال أو الأفعال أو العقائد ولو كانت عن اجتهاد.
ب - كل أمر يتقرب إلى الله به، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج - كل أمر لا يمكن أن يشرع إلا بنص أو توقيف، ولا نص عليه، فهو بدعة إلا ما كان عن صحابي.
د - ما ألصق بالعبادة من عادات الكفار.
هـ - ما نص على استحبابه بعض العلماء سيما المتأخرين منهم ولا دليل عليه.
و- كل عبادة لم تأت كيفيتها إلا في حديث ضعيف أو موضوع.
ز - الغلو في العبادة.
ح - كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود مثل المكان أو الزمان أو صفة أو عدد) (3).
 
قول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي: (والبدعة شرعاً هي التي أحدثت بعد الرسول على سبيل التقرب إلى الله ولم يكن قد فعلها الرسول، ولا أمر بها ولا أقرها ولا فعلتها الصحابة) (4).
قول الشيخ حافظ الحكمي: (ومعنى البدعة: شرع ما لم يأذن الله به، ولم يكن عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه) (5)
قول الشيخ أبي بكر الجزائري: (وهي في عرف الشرع: كل ما لم يشرعه الله
__________
(1) جامع العلوم والحكم 266.
(2) شرح لمعة الاعتقاد 23.
(3) أحكام الجنائز (ص/242).
(4) تحذير المسلمين من الابتداع في الدين 10.
(5) معارج القبول 2/ 502.
(1/21)
 
 
تعالى في كتابه أو على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من مُعْتَقد أو قول أو فعل، وبعبارة أسهل: البدعة هي: كل ما لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أصحابه ديناً يعبد الله به أو يتقرب به إليه من اعتقاد أو قول أو عمل، مهما أُضفي عليه من قداسة، وأُُُُُحيط به من شارات الدين وسمات القربة والطاعة) (1).
وكل هذه التعاريف متقاربة، والتعريف الذي أرتضيه ليكون جامعاً مانعاً هو: (كل ما أُحدث بقصد التعبد لله - عز وجل -، ولم يقم عليه دليل أصلاً، أو وصفاً) ليشمل دخول البدعة الإضافية صراحة، وسوف نتعرض - بمشيئة الله - في خلال الفصول التالية لشرح هذا التعريف.
__________
(1) الإنصاف فيما قيل في المولد 16.
(1/23)
 
 
الباب الثاني
شرح التعريف
الفصل الأول:
الكلام على صيغة العموم (كل)، وأنها على عمومها وشمولها لجميع البدع (1)، وفيه مباحث:
المبحث الأول: بيان عموم ذم البدع (2):
قال الشاطبي تحت عنوان: (الباب الثالث في أن ذم البدع والمُحدثَات عامُّ لا يخص محدثه دون غيرها): (فاعلموا -رحمكم الله- أن ما تقَدَّم من الأدلَّة حجة في عموم الذم من أوجه:
أحدها: أنها جاءت مطلقة عامَّة على كثرتها، لم يقع فيها استثناء البتة، ولم يأت فيها شيء مما يقتضي أن منها ما هو هدىً، ولا جاء فيها: كل بدعة ضلالة، إلا كذا وكذا، ولا شيء من هذه المعاني، فلو كان هنالك محَدثة يقتضى النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات، لذُكِرَ ذلك في آية أو حديث، لكنه لا يوجد، فدلَّ على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلَّف عن مقتضاها فردٌ من الأفراد.
والثاني: أنه قد ثبت في الأصول العلميَّة أن كل قاعدة كلَّية أو دليل شرعي كلَّي، إذا تكرَّرت في مواضع كثيرة، وأتى بها شواهد على معان أصوليَّة أو فروعيَّة، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكرُّرها وإعادة تقرُّرها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم ...
والثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمَّها كذلك وتقبيحها والهروب عنها وعمَّن اتَّسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقُّف ولا مثنوية، فهو - بحسب الاستقراء - إجماع ثابت، فدلَّ على أن كلَّ بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل.
__________
(1) وقد زعم محسنو البدع أنها من قبيل العام الذي أريد به الخصوص، واستندوا للتخصيص على بعض الشبه سوف نعرض لها - بمشيئة الله - في الرد على الغماري، وأضرابه.
(2) وانظر أيضاً ما كتبه الغامدي لتقرير هذا الأصل في كتابه حقيقة البدعة: 1/ 282: 290.
(1/24)
 
 
والرابع: أن متعقَّل البدعة يقتضى ذلك بنفسه؛ لأنه من باب مضادَّة الشارع واطِّراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة، فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقَّة الشارع ... ) (1).
وقال ابن رجب الحنبلي: [قوله (: (كل بدعة ضلالة) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله (: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ) فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية] (2)
وقال أيضاً: عند قوله - صلى الله عليه وسلم - المتفق عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد): [هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام كما أن حديث الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها وهو ميزان للأعمال في ظاهرها.
فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء] (3).
وقال الحافظ ابن حجر عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) قال: [هذا قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال، حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب] (4)
وقال الشوكاني: [وهذا الحديث من قواعد الدين؛ لأنه يندرج تحته من الأحكام ما لا يأتي عليه الحصر وما أصرحه وأدله على إبطال ما فعله الفقهاء من تقسيم
__________
(1) الاعتصام (1/ 141 – 142).
(2) جامع العلوم والحكم: ص/266.
(3) المصدر السابق: ص/ 59.
(4) الفتح: 13/ 254.
(1/25)
 
 
البدع إلى أقسام وتخصيص الرد ببعضها بلا مخصص من عقل ولا نقل فعليك إذا سمعت من يقول هذه بدعة حسنة بالقيام في مقام المنع مسنداً له بهذه الكلية وما يشابهها من نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل بدعة ضلالة) طالباً لدليل تخصيص تلك البدعة التي وقع النزاع في شأنها بعد الاتفاق على أنها بدعة فإن جاءك به قبلته وإن كاع (1) كنت قد ألقمته حجراً واسترحت من المجادلة] (2).
 
المبحث الثاني: البدعة التركية:
توطئة:
أولاً: هل الترك فعل؟
قال الأشقر: [يرى كثير من الأصوليين أن الكفّ فعل من الأفعال، وهو عندهم فعل نفسي (3).
ونُسِب إلى قوم منهم أبو هاشم الجبائي أن الكف انتفاء محضّ (4)، فليس بفعل (5).
والأول أولى، كما هم معلوم بالوجدان.
وأيضاً نجد في الكتاب والسنة إشارات إلى أن الكف فعل ... ] (6).
قال الشاطبي: [فإذاً قوله في الحد: ((طريقة مخترعة تضاهي الشرعية)) يشمل البدعة التركية، كما يشمل غيرها؛ لأن الطريقة الشرعية أيضاً تنقسم إلى ترك وغيره. وسواءٌ علينا قلنا: إن الترك فعل أم قلنا: إنه نفي الفعل - الطريقتين
 
المذكورتين في أصول الفقه] (7).
__________
(1) كاعَ، وهو الجَبان. يقال: كَعَّ الرجُلُ عن الشيء يَكِعُّ كَعَّاً فهو كاعٌّ، إذا جَبُن وأحْجَم. (النهاية)
وقال ابن المظَفَّر: رجل كَعٌّ كاعٌّ، وهو الذي لا يَمْضِي في عَزْمٍ ولا حَزْمٍ، وهو الناكِصُ على عَقِبَيْه. (لسان العرب)
(2) نيل الأوطار: 2/ 69.
(3) جمع الجوامع وشرحه للمحلى (1/ 214)، الموافقات (1/ 12)، (4/ 58)، شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 13، 14)، أصول السرخسي (1/ 80)، المقصود أنه ليس كترك النائم، بل هو فعل مقصود، وهو من أفعال القلوب؛ لأنه انصراف القلب عن الفعل، وانظر أفعال الرسول للأشقر (2/ 45).
(4) الأقرب أنه يقصد أن هذا الترك غير مقصود، وهذا ليس موضوعا للقدرة، ولا يدل على جواز، ولا تحريم، وانظر المرجع السابق نفس الموضع.
(5) شرح جمع الجوامع للمحلى (1/ 215).
(6) أفعال الرسول (1/ 46 - 47).
(7) الاعتصام: 1/ 45.
(1/26)
 
 
وذكر الشيخ الدردير أن من موجبات الردة إلقاء مصحف بقذر، ومثل ذلك تركه به، أي عدم رفعه إن وجده؛ لأن الدوام كالابتداء.
قال الشنقيطي عند قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً}: [اعلم أن السبكي قال إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة «الفرقان» مسألة أصولية، وهي أن الكف عن الفعل فعل. والمراد بالكف الترك، قال في طبقاته: لقد وقفت على ثلاثة أدلّة تدلّ على أن الكفّ فعل لم أرَ أحدًا عثر عليها.
أحدها: قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً}، فإن الأخذ التناول والمهجور المتروك، فصار المعنى تناولوه متروكًا، أي: فعلوا تركه، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب «نشر البنود، شرح مراقي السعود»، في الكلام على قوله: فكفّنا بالنهي مطلوب النبيّ. قال مقيّده - عفا اللَّه عنه وغفر له -: استنباط السبكي من هذه الآية أن الكفّ فعل وتفسيره لها بما يدلّ على ذلك، لم يظهر لي كل الظهور، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلّت عليه، وهو كون الكفّ فعلاً دلّت عليه آيتان كريمتان من سورة «المائدة»، دلالة واضحة لا لبس فيها، ولا نزاع. فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية «الفرقان» هذه، فإنه قد بيّنته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة «المائدة». أمّا الأولى منهما، فهي قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سمّاه اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة صنعًا في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، أي: وهو تركهم النهي المذكور، والصنع أخصّ من مطلق الفعل، فصراحة دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح؛ كما ترى.
وأمّا الآية الثانية، فهي قوله تعالى: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، فقد سمّى جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلاً، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذمّ في قوله: {
(1/27)
 
 
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، أي: وهو تركهم التناهي، عن كل منكر فعلوه، وصراحة دلالة هذه الآية أيضًا على ما ذكر واضحة، كما ترى.
وقد دلَّت أحاديث نبويّة على ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فقد سمّى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلامًا، ومما يدلّ من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه صلى الله عليه وسلم لمسجده بالمدينة:
لئن قعدنا والنبيّ يعمل ... لذاك منّا العمل المضلل
فسمّى قعودهم عن العمل، وتركهم له عملاً مضللاً .... والصحيح أن الكفّ فعل، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة واللغة؛ كما تقدّم إيضاحه] (1).
 
ثانياً: ذكر أقسام وأسباب الترك، والقاعدة التي يسير عليها الباب:
أقسام الترك:
قال الأشقر تحت عنوان: أقسام الترك، ما ملخصه: [الأول: الترك لداعي الجبلة البشرية. وهذا لا يدل في حقنا على تحريم ولا كراهة. ومثاله ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل لحم الضب، وقال: (إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه).
الثاني: الترك الذي قام دليل اختصاصه به - صلى الله عليه وسلم -، وهو تركه لما حرم عليه خاصة كتركه أكل الصدقة. وقد قال أبو شامة في الأفعال إنه يقتدي بالخصائص النبوية الواجبة، على سبيل الاستحباب.
فقياس قوله هنا أنه ينبغي أن يستفاد لحقنا كراهة ما خُصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريمه، فيكون أكل الصدقة مثلاً مكروهاً لنا.
الثالث: الترك بياناً أو امتثالاً لمجمل معلوم الحكم، عام لنا وله، فيستفاد حكم الترك من الدليل المبين والممتثل. ومثاله: تركه - صلى الله عليه وسلم - الإحلال من العمرة مع صحابته، وقال: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر)، ومن الترك الامتثالي تركه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على المنافقين لما نزل قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً}.
__________
(1) أضواء البيان (6/ 317: 320).
(1/28)
 
 
الرابع: الترك المجرد، وهو الذي ليس من الأقسام السابقة، وهو نوعان:
الأول: ما علم حكمه في حقه بقوله - صلى الله عليه وسلم -، أو باستنباط. والثاني: ما لم يعلم حكمه.
فأما ما علمنا حكمه في حقه بدليل، فينبغي أن يكون حكمنا فيه كحكمه. أخذاً من قاعدة المساواة في الأحكام.
وأما ما لم نعلم حكمه في حقه - صلى الله عليه وسلم -، فما ظهر فيه أنه تركه تعبداً وتقرباً نحمله على الكراهة في حقه، ثم يكون الحكم في حقنا كذلك أخذا من قاعدة المساواة، كتركه ردّ السلام على غير طهارة حتى تيمم (1).
وما لم يظهر فيه ذلك، نحمله على أنه من ترك المباح، كتركه السير في ناحية من الطريق، أو الجلوس في جهة من المسجد.
فعلى ما تقدم ذكره لا فرق بين الفعل والترك في التأسي فيهما، وقد صرح الشوكاني بذلك فقال: " تركه للشيء كفعله له في التأسي به فيه " (2).
وقال ابن السمعاني: " إذا ترك - صلى الله عليه وسلم - شيئاً وجب علينا متابعته فيه " (3)، ومقصوده بالمتابعة المساواة في حكم الترك، كما تقرر عندنا أن ذلك مراده بهذه العبارة في بحث الأفعال. وليس مقصوده أنه يجب علينا أن نترك ما ترك في جميع الأحوال. فظاهر كلامهم التسوية بين الفعل والترك في مراتب التأسي] (4).
أسباب الترك:
قال الأشقر: [إن ما تركه - صلى الله عليه وسلم - مما كان مظنة أن يفعله كثيراً ما كان يتركه لسبب قائم لولاه لفعله. وترجع تلك الأسباب إلى أنواع منها:
__________
(1) رواه البخاري.
(2) إرشاد الفحول ص/42.
(3) البحر المحيط للزركشي (6/ 70).
(4) أفعال الرسول للأشقر (2/ 53: 55).
(1/29)
 
 
النوع الأول: ترك الفعل المستحب خشية أن يفرض على الأمة ... ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك قيام رمضان جماعة، بعد أن قام به ليلتين أو ثلاثاً. ثم قال لهم: " إنه لم يخْفَ على َّ مكانكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم " (1).
ولذلك لما زالت هذه الخشية بوفاته - صلى الله عليه وسلم - وانقطاع الوحي (2)،أعاد الصحابة – رضي الله عنهم – فعلها في المسجد في زمن عمر بن الخطاب– رضي الله عنه-.
النوع الثاني: ترك العمل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب. وترك المباح لئلا يظنوا أنه مستحب أو واجب.
وهذا نوع مشابه للنوع الأول وليس منه.
ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، استحباباً، وقد ترك ذلك يوم فتح مكة، فصلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد، فقال عمر:"يا رسول الله فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله"، فقال:"عمداً فعلته يا عمر " (3) ...
ويسن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في هذا النوع من الترك ممن يقتدى به إذا ظن توهم بعض الحاضرين شيئا من ذلك ...
النوع الثالث: الترك لأجل المشقة التي تلحق الأمة في الاقتداء بالفعل، ولو استحباباً: ومنه ترك الرمل في الأشواط الأربعة الأخيرة من الطواف ... ومن هذا النوع عند بعض الفقهاء، ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرم للحج من بيته بالمدينة، حتى أحرم من الميقات. فلا يدل على أن الإحرام من الميقات أفضل، فهو أقل عملاً ... والراجح أنه إنما ترك الإحرام من المنزل خشية المشقة (4) ...
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (الجمعة) (17)، باب (من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد) (27)، (1/ 313) حديث رقم (882)، ومسلم في كتاب (صلاة المسافرين) (6)، باب (الترغيب في قيام الليل) (25)، (1/ 524) حديث رقم (761) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(2) أي وحي التشريع، لا مطلق الوحي؛ لحديث عيسى – عليه السلام -: (فبينما هم كذلك إذ أوحى الله إليه ياعيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ... ) الحديث.
(3) أخرجه مسلم في كتاب (الطهارة) (2)، باب (جواز الصلوات كلها بوضوء واحد) (25)، (1/ 232) حديث رقم (277) من حديث بريدة – رضي الله عنه -.
(4) فائدة: بيان أن تقصد المشقة ممنوع في الشرع: قال أبو عبد العزيز سعود الزمانان: [الذي يظهر لي أن تقصد المشقة ممنوع لما يأتي:
أولاً: لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي عبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: " قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث قال: " هلك المتنطعون " وقال: " لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم " مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجب أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائماً ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: " مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه ... " ثم قال – رحمه الله – في مجموع الفتاوى (10/ 622 - 623 (: " فأما كونه مشقاً فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقّاً ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة ... فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوباً مقرباً إلى الله، لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا، وانقطاع القلب عن علاقة الجسد، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم ".
ثانياً: النيات في العبادات معتبرة في الشرع، فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع، قال الإمام الشاطبي – رحمه الله – في الموافقات 2/ 222: " إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض " وقال أيضا الموافقات 2/ 229: " ونهيه عن التشديد – أي النبي عليه الصلاة والسلام – شهير في الشريعة، بحيث صار أصلاً قطعياً، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح، هذا واضح وبالله التوفيق "
ثالثاً: باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والإعنات، لقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، وقوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وقوله – صلى الله عليه وسلم -: " بعثت بالحنيفية السمحة "، " وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً "
رابعاً: لو قصد الشارع التكاليف بالمشقة لما حصل الترخيص، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به، ومعلوم من الدين بالضرورة، وهي لرفع الحرج والمشقة الواقعة على المكلفين، كرخص القصر، والفطر والجمع بين الصلاتين.
خامساً: ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين الله، لقوله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقوله – صلى الله عليه وسلم -: " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا "
سادساً: نقل الإمام الشاطبي في الموافقات 2/ 212 الإجماع على عدم وجود التكليف بالمشاق غير المعتادة في الشريعة.
سابعاً: لو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير، ممّا يفضي إلى ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها، وهذا النوع لم تأت به الشريعة الإسلامية، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا يحصِّل مللاً، ونبّه النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك فقال: " القصد القصد تبلغوا " لذلك نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن التنطع وقال: " هلك المتنطعون "
أما استدلالهم بحديث: " بني سلمة دياركم تكتب آثاركم " فالجواب عليه من وجهين:
الوجه الأول: قال الإمام الشاطبي في الموافقات 2/ 225: " إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات، فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات ".
الوجه الثاني: الحديث لا دليل فيه على قصد نفس المشقة، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ما يفسره فإنه – صلى الله عليه وسلم –: " كره أن تُعرّى المدينة قِبَل ذلك، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها ".
قلت: فلا حجة لمن تعلق ببعض النصوص واستدل بها على تقصد المشقة في العبادات، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – فمن زاغ عن هذا المنهج يخشى عليه في دينه، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، والفتنة كما قال العلماء هي الشرك، نسأل الله أن يحيينا على سنة نبيه وأن يميتنا عليها إنه ولي ذلك والقادر عليه].
(1/30)
 
 
النوع الرابع: ترك المطلوب خشية من حصول مفسدة أعظم من بقائه، وهذا من السياسة الشرعية المقررة، ومثاله ما قاله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: " يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة
فجعلت لها بابين باب يدخل منه الناس وباب يخرجون " (1) ... ومثال آخر: تركه - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين مع عظم فسادهم، وقولهم كلمة الكفر، وإرجافهم، خشية أن يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه، إذ هم في الظاهر مؤمنون، فيكون صادّاً للناس عن الدخول في الإسلام.
النوع الخامس: الترك على سبيل العقوبة، كترك الصلاة على المَدِين ...
النوع السادس: الترك لمانع شرعي: ومثاله قصة نومه - صلى الله عليه وسلم - ومن معه عن صلاة الفجر، فما استيقظوا إلا بعد طلوع الشمس (2) ... ] (3).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (العلم) (2)، باب (من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه) (48)، (1/ 59) حديث رقم (126)، ومسلم في كتاب (الحج) (15)، باب (نقض الكعبة وبنائها) (69)، (2/ 968) حديث رقم (1333).
(2) ومع ذلك لم يبادر إلى الصلاة، بل اقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادري وصلوا، فيحتمل أن الترك كان لكون الشمس في أول طلوعها، وذلك مانع من الصلاة، ويحتمل أن يكون لأن الوادي كان به شيطان.
(3) أفعال الرسول (2/ 58: 61).
(1/32)
 
 
القاعدة التي يدور عليها الباب وكلام العلماء في تقريرها:
والقاعدة التي يدور عليها الباب أن ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وجود المقتضي له، وانتفاء الموانع، ففعله تديناً بدعة، وتركه سنة.
والنقل لهذا الترك يكون إما بالتنصيص عليه كأن يقول الصحابي: لم يكن يؤذن ولا يقيم في العيد، ولم يكن يصلي على الراحلة المكتوبة، ونحو ذلك، وإما أن يكون بعدم النقل مطلقاً فيستدل على ذلك بعدم الفعل.
(قال عفانة: [من المعلوم عند الأصوليين أن السنة النبوية هي: ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير.
وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - جزء من السنة النبوية باعتبارها مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أقسام:
منها الأفعال الجبلية التي صدرت عن الرسول عليه الصلاة والسلام بمقتضى خلقته وجبلته وطبيعته كلباسه وقعوده ونومه فهذه وأمثالها لا يجب على الأمة إتباعها.
ومن الأفعال ما كان خاصاً به - صلى الله عليه وسلم - كزواجه أكثر من أربعٍ من النساء فهذه لا تشاركه فيها الأمة بالاتفاق.
ومن الأفعال التي صدرت عنه ما كان بياناً لمجمل كبيانه للصلاة والصيام والزكاة فهذا بالاتفاق بين أهل العلم يكون البيان تابعاً للمُبَين في الحكم من وجوب أو ندب أو إباحة.
والأفعال التي صدرت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلمت صفة الفعل فجمهور العلماء على الإقتداء به على تلك الصفة فإن كان الفعل واجباً فالإقتداء به واجب وإن كان مندوباً فالإقتداء به مندوب وإن كان مباحاً فالإقتداء به مباحٌ.
وأما الأفعال التي صدرت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجهلت صفة حكمها أواجبة هي أو مندوبة أو مباحة فهي محل خلاف عند الأصوليين (1).
وهناك أفعال تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها وهذه على نوعين:
__________
(1) أصول السرخسي 2/ 86، كشف الأسرار 3/ 200، حاشية التفتازاني على شرح العضد 2/ 22، فواتح الرحموت 2/ 180، شرح الكوكب المنير 2/ 178.
(1/33)
 
 
الأول: أفعال تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعدم توفر الدواعي لفعلها كجمع المصحف وتضمين الصناع ونحوها قال الشاطبي: [أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها. وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها. فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعاً بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل] (1).
والثاني: أفعال تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع توفر الدواعي لفعلها ومع ذلك لم يفعلها فدل على أن المشروع فيها هو الترك لا الفعل كترك الأذان للعيدين وتركه صلاة ليلة النصف من شعبان وتركه التلفظ بالنية وتركه أن يقول للمأمومين قبل بدء الصلاة استحضروا النية وغير ذلك.
قال الشوكاني: [تركه - صلى الله عليه وسلم - للشيء كفعله له في التأسي به فيه] (2).
وقال ابن السمعاني: [إذا ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً وجب علينا متابعته فيه ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ُقدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله أمسك الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه وأذن لهم في أكله وهكذا تركه - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الليل جماعة خشية أن تكتب على الأمة] (3).
وقال الشاطبي ما ملخصه: [إن سكوت الشارع عن الحكم الخاص أو تركه أمراً وموجبه المقتضي له قائم وسببه في زمان الوحي موجود ولم يحدد فيه الشارع أمراً زائداً على ما كان من الدين فهذا القسم باعتبار خصوصه هو البدعة المذمومة شرعاً لأنه لما كان الموجب لشريعة الحكم موجود ثم لم يشرع كان صريحاً في أن
__________
(1) الموافقات 2/ 409.
(2) إرشاد الفحول ص 42.
(3) قواطع الأدلة (1/ 311).
(1/34)
 
 
الزائد على ما ثبت هنالك بدعة مخالفة لقصد الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حدّ هنالك بلا زيادة ولا نقصان منه] (1).
قال الشيخ الألباني: [ومن المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادة مزعومة لم يشرعها لنا رسول الله بقوله ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله فهي مخالفة لسنته، لأن السنة على قسمين: سنة فعلية وسنة تركية، فما تركه - صلى الله عليه وسلم - من تلك العبادات فمن السنة تركها، ألا ترى مثلاً أن الأذان للعيدين ودفن الميت مع كونه ذكراً وتعظيماً لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله عز وجل، وما ذلك إلا لكونه سنة تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد فهم هذا المعنى أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فكثر عنه التحذير من البدع تحذيراً عاماً كما هو مذكور في موضعه حتى قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها) وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق)] (2).
وقال العلامة القسطلاني: [وتركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة فليس لنا أن نسوي بين فعله وتركه فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله] (3).
وقال ابن النجار الحنبلي: [التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلك كما فعل لأجل أنه فعل وأما التأسي في الترك فهو أن تترك ما ترك لأجل أنه ترك] (4).
وقال العلامة ابن القيم: [فصل نقل الصحابة ما تركه - صلى الله عليه وسلم - وأما نقلهم لتركه - صلى الله عليه وسلم - فهو نوعان وكلاهما سنة. أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقوله في شهداء أحد: ولم يغسلهم ولم يصل عليهم. وقوله في صلاة العيد: لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء. وقوله في جمعه بين الصلاتين: ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما. ونظائره.
والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد
__________
(1) الاعتصام 1/ 361.
(2) حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 100 - 101.
(3) الإبداع ص 36.
(4) شرح الكوكب المنير 2/ 196.
(1/35)
 
 
منهم على نقله فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ولا حدث به في مجمع أبداً علم أنه لم
يكن وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة أو تركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائماً بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من الركوع الثانية، وقوله: اللهم اهدنا فيمن هديت. يجهر بها ويقول المأمومون كلهم: آمين. ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير ولا رجل ولا امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخل به يوماً واحداً وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة ولرمي الجمار ولطواف الزيارة ولصلاة الاستسقاء والكسوف.
ومن هاهنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة فإن تركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق.
فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟
فهذا سؤال بعيد جداً عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟
واستحب لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه. ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر الله واسم رسوله جماعة وفرادى وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقال: من أين لكم أن
إحياءهما لم ينقل؟ وانفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى بدعة من أين لكم أن هذا لم ينقل؟] (1).
وقال الشاطبي: [والثاني أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص لأنه لما كان هذا المعنى
__________
(1) إعلام الموقعين 2/ 389 - 391.
(1/36)
 
 
الموجب لشرع الحكم العملي موجوداً ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحاً في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه] (1).
وقال الشاطبي أيضاً: [وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلاً إنها فعل ما سكت الشارع عن فعله أو ترك ما أذن في فعله، أو تقول: فعل ما سكت الشارع عن الأذن فيه أو ترك ما أذن في فعله أو أمر خارج عن ذلك. فالأول كسجود الشكر عند مالك حيث لم يكن ثم دليل على فعله والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفه في غير عرفات والثاني كالصيام مع ترك الكلام ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة والثالث كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة. وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي فلا يصح بحال فكونه بدعة قبيحة بيّن.
وأما الضربان الأولان وهما في الحقيقة فعل أو ترك لما سكت الشارع عن فعله أو تركه فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع أو أنهما مما يخالف المشروع؟ وهما لم يتواردا مع المشروع على محل واحد بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال أما القصد فمسلم بالفرض وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلاً نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركاً لشيء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة ولا يفهم للشارع قصداً معيناً دون ضده وخلافه فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالاً للمصالح المرسلة وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالاً للمصالح أيضاً وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالاً للمصالح المرسلة أيضاً.
فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى فما وجه ذم هذه ومدح هذه؟ ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص.
وتقرير الجواب ما ذكره مالك وأن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا - إذا وجد المعنى المقتضي للفعل أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان. وهو غاية في هذا المعنى قال ابن رشد: الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين - يعني سجود الشكر - لا فرضاً ولا نفلاً إذ لم يأمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا فعله ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه قال: واستدلاله على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل، صحيح إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ، قال: وهذا أصل من الأصول ... وهو أصل صحيح إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها ودل على أن وجود المعنى المقتضى مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجوداً قبل، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل (2).
ومن أوضح الأمثلة التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا القسم وهو ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضى له الأذان للعيدين فينبغي تركه وإن كان فيه مصلحة ظاهرة وهي دعوة الناس للصلاة وإعلامهم بها فهو غير مشروع ما دام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركه رغم دخوله تحت بعض العمومات كما وضحه شيخ الإسلام بقوله: [الأذان في العيدين فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة فلو لم يكن كونه بدعه دليلاً على كراهته وإلا لقيل هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله فيدخل في العمومات كقوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} أو يقاس على الأذان في الجمعة فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكبر البدع بل يقال: ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له مع وجود ما يعتقد مقتضياً وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة.
فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة فليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة
__________
(1) الموافقات 2/ 410.
(2) الموافقات 2/ 411 - 414.
(1/37)
 
 
وأعداد الركعات أو الحج فإن رجلاً لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال: هذا زيادة عمل صالح لم يكن له ذلك ... وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له: كل بدعة ضلالة ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها أو أن نعلم ما فيها من المفسدة.
فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضى له وزوال المانع لو كان خيراً، فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس.
ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدعة بتفريط من الناس تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة واعتذار من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة وكانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينفضون حتى يسمعوا أو أكثرهم فيقال له: سبب هذا تفريطك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم وأنت تقصد إقامة رياستك وإن قصدت صلاح دينهم فلست تعلمهم ما ينفعهم فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنة نبيه وقد استقام الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله عز وجل إلا عن عملك لا عن عملهم. وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة) (1).
إن الجهل بهذا الأصل المهم أوقع كثيراً من الناس في البدع فانظر إلى البدع التي يفعلها الناس اليوم ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركها مع أن الدواعي لفعلها كانت موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فانظر إلى تلفظ كثير من المصلين بالنية فتسمع الواحد منهم يقول بصوت مرتفع: نويت أن أصلي أربع ركعات فرض صلاة الظهر مقتدياً ... الخ ولم يؤثر مثل ذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا علمه لأحد من أصحابه كما في حديث المسيء صلاته حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قمت إلى الصلاة فكبر .. الخ رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح. ولم يقل قل نويت أن أصلي كذا وكذا فلو
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 279 - 281.
(1/38)
 
 
كان ذلك مشروعاً لعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو معلوم عند الأصوليين.
وكذلك قراءة القرآن الكريم على القبور رحمة بالميت تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قيام المقتضي للفعل وهو الشفقة على الميت وعدم المانع منه فتركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة.
وكيف يعقل أن يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً نافعاً يعود على أمته بالرحمة؟ وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم. فهل يعقل أن يكون هذا باباً من أبواب الرحمة ويتركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته ولا يقرأ على ميت مرة واحدة؟
وكذلك الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - تركه ولم يفعله وكذا تركه الصحابة الأجلاء مع توفر الدواعي لفعله فإن يوم ميلاد