الفروق للقرافي أنوار البروق في أنواء الفروق 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق
المؤلف: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ)
عدد الأجزاء: 4
 
تَضْمِينَ الْأُجَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَلَمْ يَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلْ طَرَدَ قَاعِدَةَ الْأَمَانَةِ فِي الْإِجَارَةِ، وَالْأَجِيرَ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ الَّذِي تَتُوقُ النَّفْسُ إلَى تَنَاوُلِهِ كَالْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمَطْبُوخَةِ فَإِنَّ الْأَجِيرَ يَضْمَنُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ التَّنَاوُلِ مِنْهَا وَطَرَدَ الشَّافِعِيُّ الْقَاعِدَةَ أَيْضًا هَهُنَا فَلَمْ يَضْمَنْ أَيْضًا وَكَأَيْدِي الْأَوْصِيَاءِ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَالْحُكَّامِ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْوَالِ الْغَائِبِينَ وَالْمَجَانِينِ فَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ فِيهِ مُؤْتَمَنَةٌ فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَسْبَابُ الضَّمَانِ فَهِيَ قَاعِدَةُ مَا يُضْمَنُ وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ قَاعِدَةُ مَا لَا يُضْمَنُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ النَّظَائِرِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْهَا سَبَبَانِ كَالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ مِنْ جِهَتَيْنِ غُلِّبَتْ الْمُبَاشَرَةُ عَلَى التَّسَبُّبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِإِنْسَانٍ لِيَقَعَ فِيهِ فَجَاءَهُ آخَرُ فَأَلْقَاهُ فِيهِ فَهَذَا مُبَاشِرٌ وَالْأَوَّلُ مُتَسَبِّبٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ تَقْدِيمًا لِلْمُبَاشَرَةِ عَلَى التَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّرِيعَةِ تَقْدِيمُ الرَّاجِحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُبَاشَرَةُ مَغْمُورَةً كَقَتْلِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا وَلَا تُغَلَّبُ الْمُبَاشَرَةُ لِقُوَّةِ التَّسَبُّبِ وَكَتَقْدِيمِ السُّمِّ لِإِنْسَانٍ فِي طَعَامِهِ فَيَأْكُلُهُ جَاهِلًا بِهِ فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لِقَتْلِ نَفْسِهِ.
وَوَاضِعُ السُّمِّ مُتَسَبِّبٌ، وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ وَكَشُهُودِ الزُّورِ، أَوْ الْجَهَلَةِ يَشْهَدُونَ بِمَا يُوجِبُ ضَيَاعَ الْمَالِ عَلَى إنْسَانٍ، ثُمَّ يَعْتَرِضُونَ بِالْكَذِبِ، أَوْ الْجَهَالَةِ فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ وَلَا يَضْمَنُ الْحَاكِمُ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ الْمُبَاشِرُ، وَالشَّاهِدَ مُتَسَبِّبٌ، غَيْرَ أَنَّ
الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ
قَدْ اقْتَضَتْ عَدَمَ تَضْمِينِ الْحُكَّامِ مَا اخْطَئُوا فِيهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ تَطَرَّقَ إلَيْهِمْ مَعَ كَثْرَةِ الْحُكُومَاتِ وَتَرَدُّدِ الْخُصُومَاتِ لَزَهِدَ الْأَخْيَارُ فِي الْوِلَايَاتِ وَاشْتَدَّ امْتِنَاعُهُمْ فَيَفْسُدُ حَالُ النَّاسِ بِعَدَمِ الْحُكَّامِ فَكَانَ الشَّاهِدُ بِالضَّمَانِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ لِلْحَاكِمِ فِي الْإِلْزَامِ وَالتَّنْفِيذِ وَكَمَا قِيلَ الْحَاكِمُ أَسِيرُ الشَّاهِدِ وَيَقَعُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَكِنَّ الْأَصْلَ هُوَ مَا قَدَّمْته فِي أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
هَذَا بِعَمْدِهِ وَهَذَا بِتَرْكِ تَعَلُّمِهِ.
(الْكَفَّارَةُ الثَّانِيَةُ) الْفِدْيَةُ وَهِيَ دَمُ تَخْيِيرٍ بَيْنَ مُقَدَّرٍ شَرْعًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] يَجِبُ بِفِعْلِ الْمُتَلَبِّسِ بِالْإِحْرَامِ مَا فِيهِ تَرَفُّهٌ، أَوْ إزَالَةُ أَذًى مِنْ الْمَمْنُوعَاتِ كَأَنْ يَلْبَسَ مَخِيطًا مَعْمُولًا عَلَى قَدْرِ الْبَدَنِ، أَوْ بَعْضِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، أَوْ يَسْتَعْمِلَ طِيبًا مُؤَنَّثًا، أَوْ يَدْهُنَ شَعْرَ رَأْسِهِ، أَوْ لِحْيَتَهُ، أَوْ سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّهْنِ طِيبٌ مَا لَمْ يَدْهُنْ بَاطِنَ كَفِّهِ وَقَدَمَيْهِ لِشُقُوقٍ وَنَحْوِهَا بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا فِدْيَةَ، أَوْ يُزِيلَ وَسَخًا عَنْ ظَاهِرِ بَدَنِهِ، أَوْ يُزِيلَ ظُفُرًا وَاحِدًا لِإِمَاطَةِ أَذًى عَنْهُ، أَوْ ظُفُرَيْنِ فَأَكْثَرَ لِلتَّرَفُّهِ لَا ظُفُرًا وَاحِدًا لِكَسْرٍ بِقَدْرِهِ، أَوْ يُزِيلَ شَعْرًا كَثِيرًا زَائِدًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مُطْلَقًا أَوْ شَعْرَةً وَاحِدَةً لِإِمَاطَةِ أَذًى عَنْهُ أَوْ يَقْتُلَ قَمْلًا كَثِيرًا زَائِدًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَلَا يُوجِبُهَا اللُّبْسُ إلَّا إذَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، أَوْ دَامَ عَلَيْهِ كَالْيَوْمِ كَمَا فِي ابْنِ شَاسٍ فَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ كَالْيَوْمِ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ مِنْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ فِي الْجُمْلَةِ وَيُوجِبُهَا مَا عَدَا اللُّبْسَ بِلَا تَفْصِيلٍ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا مُنْتَفَعًا بِهِ كَمَا فِي عبق وَقَاعِدَةُ الْفِدْيَةِ أَنَّ النِّسْيَانَ وَالْعُذْرَ فِي ارْتِكَابِ مُوجِبِهَا لَا يُسْقِطُهَا، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ الْإِثْمَ كَمَا فِي الْأَصْلِ وَالْمُخْتَصَرِ وَضَابِطُ قَاعِدَةِ مَا تَتَّحِدُ فِيهِ وَمَا تَتَعَدَّدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى اُرْتُكِبَتْ مُوجِبَاتُهَا لِمُسْتَنَدٍ مُحَقَّقٍ أَوْ اتَّحَدَتْ النِّيَّةُ، أَوْ الزَّمَانُ بِأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ السَّبَبُ بِأَنْ يُقَدِّمَ مَا نَفْعُهُ أَعَمُّ عَلَى مَا نَفْعُهُ أَخَصُّ عِنْدَنَا، أَوْ يَتَّحِدَ الْمَرَضُ، أَوْ غَيْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ وَيُزَادُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ اتَّحَدَ الْجِنْسُ قَالَ فِي الْمَنْسَكِ الْمُتَوَسِّطِ الْمُسَمَّى بِلُبَابِ الْمَنَاسِكِ.
وَمَا ذُكِرَ مِنْ اتِّحَادِ الْجَزَاءِ فِي تَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا اتَّحَدَ جِنْسُ الْجِنَايَةِ فَاللُّبْسُ جِنْسٌ وَالطِّيبُ جِنْسٌ وَالْحَلْقُ جِنْسٌ وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ جِنْسٌ اهـ أَيْ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ وَمَتَى اُرْتُكِبَتْ مُوجِبَاتُهَا جَهْلًا مَحْضًا، أَوْ تَعَدَّدَتْ النِّيَّةُ أَوْ الزَّمَانُ، أَوْ السَّبَبُ بِأَنْ يُقَدِّمَ مَا نَفْعُهُ أَخَصُّ عَلَى مَا نَفْعُهُ أَعَمُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ يَلْبَسَ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِعُذْرٍ وَالْآخَرُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ لِعُذْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِمْرَارِ أَوْ الِانْفِصَالِ بَيْنَهُمَا بِالْخُلْعِ وَالِاسْتِرْجَاعِ كَمَا فِي شَرْحِ الْقَارِيّ عَلَى الْمَنْسَكِ الْمُتَوَسِّطِ، أَوْ كَفَّرَ لِلْمُوجِبِ الْأَوَّلِ قَبْلَ فِعْلِ الثَّانِي كَأَنْ لَبِسَ، ثُمَّ كَفَّرَ وَدَامَ عَلَى لُبْسِهِ، أَوْ نَزَعَ، ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ لَبِسَ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَيُزَادُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ قَالَ فِي الْمَنْسَكِ الْمُتَوَسِّطِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَّحِدْ الْجَزَاءُ بَلْ يَتَعَدَّدُ لِكُلِّ جِنْسٍ مُوجَبُهُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ الَّذِي أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ - بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مُوجِبِهِ فَمَوَاضِعُ اتِّحَادِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَرْبَعَةٌ وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَمْسَةٌ:
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ ظَنُّ إبَاحَةِ أَسْبَابِهَا لِمُسْتَنَدٍ وَصُورَةٍ عِنْدَنَا قَالَ الْحَطَّابُ: ثَلَاثَةٌ؛ الْأُولَى قَالَ سَنَدٌ مَنْ يَطُوفُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فِي عُمْرَتِهِ، ثُمَّ يَسْعَى وَيُحِلُّ أَيْ فَيَنْعَقِدُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ إحْرَامِهِ فَيَفْعَلُ سَائِرَ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ
الثَّانِيَةُ مَنْ يَرْفُضُ إحْرَامَهُ فَيَعْتَقِدُ اسْتِبَاحَةَ مَوَانِعِهِ.
الثَّالِثَةُ مَنْ أَفْسَدَ إحْرَامَهُ بِالْوَطْءِ، ثُمَّ فَعَلَ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ مُتَأَوِّلًا بِأَنَّ الْإِحْرَامَ
(2/208)
 
 
(الْفَرْقُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَدَاخُلِ الْجَوَابِرِ فِي الْحَجِّ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَتَدَاخَلُ الْجَوَابِرُ فِيهِ فِي الْحَجِّ)
تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْجَوَابِرِ وَالزَّوَاجِرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَالْمَقْصُودُ هَهُنَا بَيَانُ قَاعِدَةِ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ خَاصَّةً، أَمَّا الصَّيْدُ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى الْإِثْمِ بَلْ يُضْمَنُ الصَّيْدُ عَمْدًا وَخَطَأً فَأَشْبَهَ إتْلَافَ أَمْوَالِ النَّاسِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَعَدُّدِ الضَّمَانِ فِيمَا يَتَعَدَّدُ الْإِتْلَافُ فِيهِ وَأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ هَهُنَا وَيَتَّحِدُ الْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالتَّأْوِيلِ وَعَذَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالتَّأْوِيلِ وَالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا كَالْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا، وَأَلْحَقَ الْجَاهِلَ بِالنَّاسِي.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ عُذْرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْجَهْلِ الَّذِي لَيْسَ عُذْرًا فِي الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ أَنْ يَضْمَنَ الْجَاهِلُ هَهُنَا فَإِنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ تَارِكَ التَّعَلُّمِ عَاصٍ إلَّا مَا يَشُقُّ مِنْ ذَلِكَ فَيُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ كَمَنْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا لَا يَعْلَمُ، أَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ جُلَّابًا وَنَحْوَهُ فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ الْجَهْلِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَعَذَرَهُ الشَّرْعُ بِهَذَا الْجَهْلِ دُونَ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا فَالْحَقُّ حِينَئِذٍ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْجَاهِلِ وَغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ أَجْرَى مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجَاهِلَ فِي الصَّلَاةِ مَجْرَى الْعَامِدِ لَا مَجْرَى النَّاسِي لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِصْيَانِ هَذَا بِعَمْدِهِ وَهَذَا بِتَرْكِ تَعَلُّمِهِ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ فَأَصَابَ صَيْدًا، أَوْ حَلَقَ، أَوْ تَطَيَّبَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ إنْ أَصَابَهُ وَاتَّحَدَ هَذَا الْوَطْءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
تَسْقُطُ حُرْمَتُهُ بِالْفَسَادِ، أَوْ جَاهِلًا بِوُجُوبِ إتْمَامِهِ اهـ بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ.
وَفِي الْأَصْلِ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ فَأَصَابَ صَيْدًا، أَوْ حَلَقَ، أَوْ تَطَيَّبَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ إنْ أَصَابَهُ وَاتَّحَدَ الْهَدْيُ وَلَوْ تَعَدَّدَ الْوَطْءُ لِأَنَّهُ لِلْإِفْسَادِ، وَإِفْسَادُ الْفَاسِدِ مُحَالٌ فَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا بِسُقُوطِ جَزَائِهِ، أَوْ جَاهِلًا بِمُوجِبِ إتْمَامِهِ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْجُرْأَةُ عَلَى مُحَرَّمٍ فَعُذْرُهُ بِالْجَهْلِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ عُذْرِهِ بِهِ لِأَنَّهُ جَهْلٌ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالتَّعَلُّمِ كَمَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَاحَظَ هَهُنَا مَعْنًى مَفْقُودًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ كَثْرَةُ مَشَاقِّ الْحَجِّ فَنَاسَبَ التَّخْفِيفُ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا إشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ النِّسْيَانَ فِي الْحَجِّ لَا يَمْنَعُ الْفِدْيَةَ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ إجْمَاعًا وَأَسْقَطَ مَالِكٌ - أَيْ الْجَابِرَ - بِالْجَهْلِ وَالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَثْبُتُ الْإِثْمُ مَعَهُمَا وَالْإِثْمُ أَنْسَبُ لِلُزُومِ الْجَابِرِ مِنْ عَدَمِ الْإِثْمِ قَالَهُ الْأَصْلُ وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهِمَا الْجَابِرُ رَأْسًا بَلْ إنَّمَا أُسْقِطَ تَعَدُّدُهُ بِتَعَدُّدِ مُوجِبِهِ نَظَرًا لِكَثْرَةِ مَشَاقِّ الْحَجِّ فَتَأَمَّلْ بِدِقَّةٍ وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ قَالَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ نَقْلًا عَنْ اللُّبَابِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا نَوَى رَفْضَ الْإِحْرَامِ فَجَعَلَ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُهُ الْحَلَالُ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ وَالتَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ وَالْجِمَاعِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ الْإِحْرَامِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ كَمَا كَانَ مُحْرِمًا وَيَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ مَا ارْتَكَبَ وَلَوْ كُلَّ الْمَحْظُورَاتِ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَاتِ إذَا لَمْ يَنْوِ الرَّفْضَ ثُمَّ نِيَّةُ الرَّفْضِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ بِهَذَا الْقَصْدِ لِجَهْلِهِ مَسْأَلَةَ عَدَمِ الْخُرُوجِ، وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِهَذَا الْقَصْدِ فَإِنَّهَا لَا تُعْتَبَرُ مِنْهُ اهـ.
قُلْت: وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا تَدَاخُلٌ لِجَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ لَا لِخُصُوصِ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ وَهُوَ فُسْحَةٌ فِي الدِّينِ فَاحْفَظْهُ.
2 -
(الْمَوْضِعُ الثَّانِي) عِنْدَنَا أَنْ يَتَعَدَّدَ مُوجَبُهَا بِفَوْرٍ وَاحِدٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَلْبَسَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَحْلِقَ وَيُقَلِّمَ، سَوَاءٌ كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا بِأَنْ يَلْبَسَ لِعُذْرٍ وَيَفْعَلَ الْبَاقِيَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَخْرُجَ لِلْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ مَا بَعْدَهُ، وَإِلَّا تَعَدَّدَتْ، وَفِي كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْفَوْرِ حَقِيقَتَهُ - أَيْ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَأَقَرَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ -، أَوْ مَجَازَهُ، وَأَنَّ الْيَوْمَ فَوْرٌ وَالتَّرَاخِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لَا أَقَلُّ - وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ التَّتَّائِيُّ - خِلَافٌ اعْتَمَدَ عبق الْأَوَّلَ وَسَلَّمَ الْبُنَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ أَنْ يَتَعَدَّدَ مُوجَبُهَا بِفَوْرٍ وَاحِدٍ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا مِنْ أَجْنَاسٍ، وَإِلَّا تَعَدَّدَتْ كَمَا عَلِمْت، الثَّانِي: أَنْ لَا يُكَفِّرَ لِلْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَكَفَّارَتَانِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ، الثَّالِثُ أَنْ يَتَّحِدَ السَّبَبُ فِي تَعَدُّدِ ذَلِكَ الْمُوجَبِ قَالَ فِي لُبَابِ الْمَنَاسِكِ مَعَ بَعْضٍ مِنْ شَرْحِ الْقَارِيّ وَهَذَا إذَا اتَّحَدَ سَبَبُ اللُّبْسِ فَإِنْ تَعَدَّدَ السَّبَبُ كَمَا إذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ فَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، نَحْوُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى قَمِيصٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ، أَوْ قَمِيصًا وَجَبَتْ، أَوْ يَحْتَاجَ إلَى قَلَنْسُوَةٍ فَلَبِسَهَا مَعَ الْعِمَامَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ مُتَّحِدٌ فَلَا نَظَرَ إلَى الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّدِ يَتَخَيَّرُ فِيهَا لِوُقُوعِ أَصْلِ الْجِنَايَةِ لِضَرُورَةِ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحِيطِ، وَكَذَا إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ لِضَرُورَةٍ بِهِمَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِأَنْ لَبِسَ عِمَامَةً وَخُفًّا بِعُذْرٍ فِيهِمَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ يَتَخَيَّرُ فِيهَا لِأَنَّ اللُّبْسَ
(2/209)
 
 
لِأَنَّهُ لِلْإِفْسَادِ، وَإِفْسَادُ الْفَاسِدِ مُحَالٌ فَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا بِسُقُوطِ إجْزَائِهِ، أَوْ جَاهِلًا بِمُوجَبِ إتْمَامِهِ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْجُرْأَةُ عَلَى مُحَرَّمٍ فَعُذْرُهُ بِالْجَهْلِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ عُذْرِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالتَّعَلُّمِ كَمَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَاحَظَ هَهُنَا مَعْنًى مَفْقُودًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ كَثْرَةُ مَشَاقِّ الْحَجِّ فَنَاسَبَ التَّخْفِيفُ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا إشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ النِّسْيَانَ فِي الْحَجِّ لَا يَمْنَعُ الْفِدْيَةَ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ إجْمَاعًا وَأَسْقَطَ مَالِكٌ بِالْجَهْلِ وَالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَثْبُتُ الْإِثْمُ مَعَهُمَا، وَالْإِثْمُ أَنْسَبُ لِلُّزُومِ الْجَابِرِ مِنْ عَدَمِ الْإِثْمِ.
وَضَابِطُ قَاعِدَةِ مَا تَتَّحِدُ الْفِدْيَةُ فِيهِ وَمَا تَتَعَدَّدُ أَنَّهُ مَتَى اتَّحَدَتْ النِّيَّةُ، أَوْ الْمَرَضُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ، أَوْ الزَّمَانُ بِأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ عَلَى الْفَوْرِ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ وَمَتَى وَقَعَ التَّعَدُّدُ فِي النِّيَّةِ، أَوْ السَّبَبِ، أَوْ الزَّمَانِ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْفُرُوعِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا لَبِسَ قَلَنْسُوَةً لِوَجَعٍ، ثُمَّ نَزَعَهَا وَعَادَ إلَيْهِ الْوَجَعُ فَلَبِسَهَا إنْ نَزَعَهَا مُعْرِضًا عَنْهَا فَعَلَيْهِ فِي اللُّبْسِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ فِدْيَتَانِ، وَإِنْ كَانَ نَزَعَهَا نَاوِيًا رَدَّهَا عِنْدَ مُرَاجَعَةِ الْمَرَضِ فَفِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَجْلِ اتِّحَادِ النِّيَّةِ وَالسَّبَبِ، وَلَوْ لَبِسَ الثِّيَابَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ نَاوِيًا لُبْسَهَا إلَى بُرْئِهِ مِنْ مَرَضِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ وَهُوَ يَنْوِي لُبْسَهَا مَرَّةً جَهْلًا، أَوْ نِسْيَانًا، أَوْ جُرْأَةً فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ النِّيَّةِ وَكَذَلِكَ الطِّيبُ مَعَ اتِّحَادِ النِّيَّةِ وَتَعَدُّدِهَا فَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَفِدْيَتَانِ لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ وَالنِّيَّةِ، وَإِنْ احْتَاجَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ لِأَصْنَافٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَبِسَ خُفَّيْنِ وَقَمِيصًا وَقَلَنْسُوَةً وَسَرَاوِيلَ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى خُفَّيْنِ فَلَبِسَهُمَا ثُمَّ احْتَاجَ إلَى قَمِيصٍ فَلَبِسَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ، وَإِنْ قَلَّمَ الْيَوْمَ ظُفُرَ يَدِهِ وَفِي غَدٍ ظُفُرَ يَدِهِ الْأُخْرَى فَفِدْيَتَانِ لِتَعَدُّدِ الزَّمَانِ، وَإِنْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ وَحَلَقَ وَقَلَّمَ ظُفُرَهُ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ فَفِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْمَحَالُّ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذِهِ أَجْنَاسٌ لَا تَتَدَاخَلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِ الضَّرُورَةِ كَمَا إذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ الْعِمَامَةِ فَلَبِسَهَا مَعَ الْقَمِيصِ مَثَلًا، أَوْ لَبِسَ قَمِيصًا لِلضَّرُورَةِ وَخُفَّيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ يَتَخَيَّرُ فِيهَا وَكَفَّارَةُ الِاخْتِيَارِ لَا يَتَخَيَّرُ فِيهَا أَيْ بَلْ يَتَحَتَّمُ الْكَفَّارَةُ عَنْهَا وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْحَلْقِ بِأَنْ حَلَقَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ لِعُذْرٍ وَبَعْضَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَوْ فِي مَجْلِسٍ يَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ وَهَذَا فِي الطِّيبِ اهـ.
وَاعْتَمَدُوا أَنَّ الْيَوْمَ - أَيْ مِقْدَارَهُ - فِي اللِّبَاسِ كَالْمَجْلِسِ فِي غَيْرِهِ قَالَ الْقَارِيّ عَلَى اللُّبَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ عَطْفًا عَلَى مَا يَتَّحِدُ فِيهِ الْجَزَاءُ مَعَ تَعَدُّدِ اللُّبْسِ وَجَمَعَ اللِّبَاسَ كُلَّهُ فِي مَجْلِسٍ، أَوْ يَوْمٍ مَا نَصُّهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْيَوْمَ فِي اتِّحَادِ الْجَزَاءِ فِي حُكْمِ اللُّبْسِ كَالْمَجْلِسِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الطِّيبِ وَالْحَلْقِ وَالْقَصِّ وَالْجِمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْفَارِسِيُّ وَالطَّرَابُلُسِيُّ أَنَّهُ إنْ لَبِسَ الثِّيَابَ كُلَّهَا مَعًا وَلَبِسَ خُفَّيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَبِسَ قَمِيصًا بَعْضَ يَوْمِهِ، ثُمَّ لَبِسَ فِي يَوْمِهِ سَرَاوِيلَ، ثُمَّ لَبِسَ خُفَّيْنِ وَقَلَنْسُوَةً فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَيَّدَ بِالْيَوْمِ لَا بِالْمَجْلِسِ، وَفِي الْكَرْمَانِيِّ وَلَوْ جَمَعَ اللِّبَاسَ كُلَّهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِوُقُوعِهِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَبَبٍ وَاحِدٍ فَصَارَ لِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ إذَا حَلَقَ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَقِيلَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ دِمَاءٍ وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُنْيَةِ الْمَنَاسِكِ بِتَعَدُّدِ الْجَزَاءِ فِي تَعَدُّدِ الْأَيَّامِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ لَبِسَ الْعِمَامَةَ يَوْمًا، ثُمَّ لَبِسَ الْقَمِيصَ يَوْمًا آخَرَ ثُمَّ الْخُفَّيْنِ يَوْمًا آخَرَ، ثُمَّ السَّرَاوِيلَ يَوْمًا آخَرَ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ لُبْسٍ دَمٌ، ثُمَّ قَالَ وَالْمُعْتَبَرُ مِقْدَارُ الْيَوْمِ لَا عَيْنُهُ وَبِهَذَا صَحَّ قَوْلُهُ وَحُكْمُ اللَّيْلِ كَالْيَوْمِ أَيْ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ اهـ.
(الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ) عِنْدَنَا أَنْ يَنْوِيَ التَّكْرَارَ، وَلَوْ بَعُدَ مَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ لِلْأَوَّلِ قَالَ عبق وَصُوَرُ نِيَّةِ التَّكْرَارِ ثَلَاثٌ:
الْأَوَّلُ أَنْ يَنْوِيَ فِعْلَ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ.
الثَّانِيَةُ أَنْ يَنْوِيَ فِعْلَ مُوجِبٍ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ وَيَفْعَلَ ذَلِكَ أَوْ مُتَعَدِّدًا مِنْهُ قَالَ الْحَطَّابُ بِأَنْ يَلْبَسَ لِعُذْرٍ وَيَنْوِيَ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْعُذْرُ تَجَرَّدَ فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ الْعُذْرُ عَادَ إلَى اللُّبْسِ، أَوْ يَتَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ وَيَنْوِيَ أَنَّهُ كُلَّمَا احْتَاجَ إلَى الدَّوَاءِ فَعَلَ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ مِنْ حِينِ لُبْسِهِ الْأَوَّلِ قَالَهُ سَنَدٌ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَمَّا مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا، ثُمَّ نَزَعَهُ لِيَلْبَسَ غَيْرَهُ، أَوْ نَزَعَهُ عِنْدَ النَّوْمِ لِيَلْبَسَهُ إذَا اسْتَيْقَظَ فَقَالَ هَذَا فِعْلٌ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ فِي الْعُرْفِ وَلَا يَضُرُّ تَفْرِقَتُهُ فِي الْحِسِّ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً وَاحِدَةً اهـ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَنْوِيَ مُتَعَدِّدًا مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ مُعَيَّنًا فَلَا تَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ بِفِعْلِ مَا نَوَاهُ، أَوْ بِفِعْلِ بَعْضِهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ نِيَّتُهُ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ عِنْدَ فِعْلِ مُوجِبٍ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ أَوْ عِنْدَ إرَادَةِ فِعْلِهِ، أَوْ قَبْلَهُمَا وَقَوْلُ تت عَقِبَ قَوْلِ خَلِيلٍ التَّكْرَارُ عِنْدَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ اهـ مِثْلُهُ نِيَّةُ التَّكْرَارِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ كَمَا يُفِيدُهُ الْحَطَّابُ وَالْمَوَّاقُ وَغَيْرُهُمَا فَإِنَّمَا احْتَرَزَا بِهِ عَنْ نِيَّةِ التَّكْرَارِ بَعْدَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ اهـ كَلَامُ عبق بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ.
وَمُرَادُهُ قَوْلُ الْحَطَّابِ فَرْعٌ مِمَّا تَتَّحِدُ فِيهِ الْفِدْيَةُ: إذَا كَانَتْ نِيَّةُ فِعْلِ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ قَالَهُ اللَّخْمِيُّ وَنَقَلَهُ خَلِيلٌ فِي الْمَنَاسِكِ اهـ، وَفِي الْمَوَّاقِ وَاللَّخْمِيِّ إنْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ وَحَلَقَ وَقَلَّمَ فَإِنْ كَانَتْ بِنِيَّةِ فِعْلِ جَمِيعِهَا فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ بَعُدَ
(2/210)
 
 
كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَحُجَّةُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ التَّرَفُّهُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَالْمُوجِبُ وَاحِدٌ.
وَمُوجَبُ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْفِدْيَةُ فَتَتَدَاخَلُ كَحُدُودِ شُرْبِ الْخَمْرِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ وَفِي الْجَلَّابِ إنْ احْتَاجَ إلَى قَمِيصٍ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ احْتَاجَ إلَى سَرَاوِيلَ فَلَبِسَهُ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِحُصُولِ السَّتْرِ مِنْ الْقَمِيصِ لِجَمِيعِ الْجَسَدِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى سَرَاوِيلَ، ثُمَّ إلَى قَمِيصٍ فَفِدْيَتَانِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْقَمِيصِ مِنْ السَّتْرِ مَا لَمْ يَسْتَفِدْهُ مِنْ السَّرَاوِيلِ فَهَذَا تَحْقِيقُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَتَدَاخَلُ فِي الْحَجِّ وَمَا لَا يَتَدَاخَلُ
 
(الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ)
وَهِيَ عِشْرُونَ قَاعِدَةً
(الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) تَفْضِيلُ الْمَعْلُومِ عَلَى غَيْرِهِ بِذَاتِهِ دُونَ سَبَبٍ يَعْرِضُ لَهُ يُوجِبُ التَّفْضِيلَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَهُ مُثُلٌ: أَحَدُهَا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ الْمُسْتَغْنِي فِي وُجُودِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ السَّبْعَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ وَهِيَ عِشْرُونَ قَاعِدَةً) .
قُلْت: الْفَضْلُ كَوْنُ مَعْلُومٍ مَا مُنْفَرِدًا بِصِفَةِ مَدْحٍ، أَوْ بِمَزِيَّةٍ فِي صِفَةِ مَدْحٍ، وَالتَّفْضِيلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَقْلِيٍّ وَوَضْعِيٍّ، وَمَعْنَى الْعَقْلِيِّ أَنَّ فَضْلَ الْمُتَّصِفِ بِالْفَضْلِ لِمَعْقُولِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْوَضْعِيِّ أَنَّ فَضْلَ الْمُتَّصِفِ بِهِ لَيْسَ لِمَعْقُولِهِ بَلْ لِمُوجِبٍ غَيْرِهِ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: تَفْضِيلُ الْمَعْلُومِ عَلَى غَيْرِهِ بِذَاتِهِ دُونَ سَبَبٍ يَعْرِضُ لَهُ يُوجِبُ التَّفْضِيلَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَهُ مُثُلٌ؛ أَحَدُهَا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ الْمُسْتَغْنِي فِي وُجُودِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ السَّبْعَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مَا بَيْنَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ فَذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَحَدَهَا، ثُمَّ حَدَثَتْ نِيَّةٌ فَفَعَلَ أَيْضًا كَانَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِدْيَةٌ إلَّا إنْ فَعَلَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ اهـ نَعَمْ قَدْ مَرَّ عَنْ الْحَطَّابِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ مِنْ حِينِ لُبْسِهِ الْأَوَّلِ قَالَهُ سَنَدٌ وَهُوَ يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمُدَوَّنَةِ اهـ وَسَيَأْتِي لَفْظُ الْمُدَوَّنَةِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا احْتَرَزَ بِهِ عَنْ نِيَّةِ التَّكْرَارِ بَعْدَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَعُلِمَ مَا فِي تَنْظِيرِ الْبُنَانِيِّ عَلَى قَوْلِهِ مِثْلُهُ نِيَّةُ التَّكْرَارِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا تَنْظُرْ لِمَنْ قَالَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ نِيَّةُ التَّكْرَارِ لِلْمُوجِبِ الْوَاحِدِ، أَوْ الْمُتَعَدِّدِ لِعُذْرٍ وَاحِدٍ، أَوْ مُتَعَدِّدٍ، أَوْ جَهْلًا، أَوْ نِسْيَانًا، أَوْ جُرْأَةً فَفِي عبق أَنَّ قَوْلَ تت أَمَّا لَوْ تَدَاوَى لِقُرْحَةٍ أُخْرَى لَتَعَدَّدَتْ اهـ. يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَنْوِ مُدَاوَاةَ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْأُولَى اهـ وَسَلَّمَهُ الْبُنَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا لَبِسَ قَلَنْسُوَةً لِوَجَعٍ، ثُمَّ نَزَعَهَا وَعَادَ إلَيْهِ الْوَجَعُ فَلَبِسَهَا إنْ نَزَعَهَا مُعْرِضًا عَنْهَا فَعَلَيْهِ فِي اللُّبْسِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ فِدْيَتَانِ، وَإِنْ كَانَ نَزَعَهَا نَاوِيًا رَدَّهَا عِنْدَ مُرَاجَعَةِ الْمَرَضِ فَفِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَجْلِ اتِّحَادِ النِّيَّةِ وَالسَّبَبِ وَلَوْ لَبِسَ الثِّيَابَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ نَاوِيًا لُبْسَهَا إلَى بُرْئِهِ مِنْ مَرَضِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ وَهُوَ يَنْوِي لُبْسَهَا مَرَّةً جَهْلًا، أَوْ نِسْيَانًا، أَوْ جُرْأَةً فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ النِّيَّةِ اهـ نَقَلَهُ الْأَصْلُ وَعِنْدَ الْأَحْنَافِ عَدَمُ الْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ عِنْدَ النَّزْعِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ تُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ:
أَحَدُهَا أَنْ لَا يُكَفِّرَ عَنْ الْأَوَّلِ.
الثَّانِي اتِّحَادُ جِنْسِ الْمُوجِبِ.
الثَّالِثُ اتِّحَادُ السَّبَبِ قَالَ الْقَارِيّ عَلَى اللُّبَابِ مَعَ الْمَتْنِ وَلَوْ كَانَ بِهِ حُمَّى غِبٍّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَوْ بِأَنْ تَأْتِيَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَجَعَلَ يَلْبَسُ الْمَخِيطَ يَوْمًا أَيْ لِلِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ وَيَنْزِعُهُ يَوْمًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فَمَا دَامَتْ الْحُمَّى تَأْخُذُهُ فَاللُّبْسُ مُتَّحِدٌ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ زَالَتْ هَذِهِ وَحَدَثَتْ أُخْرَى اخْتَلَفَ حُكْمُ اللِّبَاسِ فَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ، أَوْ لَا وَعِنْدَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إنْ لَمْ يُكَفِّرْ، وَإِنْ كَفَّرَ فَكَفَّارَةٌ أُخْرَى عَلَى مَا فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِ، أَوْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ أَيْ فِي حِصْنٍ وَنَحْوِهِ فَاحْتَاجَ إلَى اللُّبْسِ لِلْقِتَالِ أَيَّامًا أَيْ مَثَلًا يَلْبَسُهَا إذَا خَرَجَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْعَدُوِّ، أَوْ بِعَكْسِهِ وَيَنْزِعُهَا إذَا رَجَعَ أَيْ هُوَ أَوْ عَدُوُّهُ، أَوْ لَمْ يَنْزِعْ أَصْلًا أَيْ وَلَوْ رَجَعَ الْعَدُوُّ، أَوْ لَمْ يَرْجِعْ أَيْ لِلْعَدُوِّ وَلَكِنْ يَلْبَسُ فِي وَقْتٍ وَيَنْزِعُ فِي وَقْتٍ أَيْ وَالْعِلَّةُ قَائِمَةٌ بِأَنْ لَمْ يَذْهَبْ هَذَا الْعَدُوُّ فَإِنْ ذَهَبَ وَجَاءَ عَدُوٌّ غَيْرُهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، أَوْ كَانَ بِهِ أَيْ وَقَعَ بِالْمُحْرِمِ ضَرُورَةٌ أُخْرَى أَيْ غَيْرُ ضَرُورَةِ الْإِحْصَارِ لِأَجْلِهَا يَلْبَسُ فِي النَّهَارِ أَيْ لِلِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ وَيَنْزِعُ فِي اللَّيْلِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، أَوْ فَعَلَ بِالْعَكْسِ أَيْ بِأَنْ لَبِسَ فِي اللَّيْلِ وَنَزَعَ فِي النَّهَارِ لِبَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الضَّرُورَاتِ، أَوْ لَمْ يَنْزِعْ وَلَوْ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَالْعِلَّةُ لَازِمَةٌ لِأَنَّ لُزُومَهَا يَقُومُ مَقَامَ دَوَامِهَا فَمَا دَامَ الْعُذْرُ أَيْ مَوْجُودًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَاللُّبْسُ مُتَّحِدٌ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ الصُّوَرِ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ أَيْ لِلتَّدَاخُلِ يَتَخَيَّرُ فِيهَا أَيْ لِارْتِكَابِهِ مَعْذُورًا فَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَبِسَ أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ بِيَقِينٍ فَنَزَعَ، أَوْ لَمْ يَنْزِعْ وَحَدَثَ عُذْرٌ آخَرُ أَيْ فَلَبِسَ، أَوْ لَمْ يَحْدُثْ عُذْرٌ وَلَكِنْ دَامَ عَلَى اللُّبْسِ أَيْ بِلَا عُذْرٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فَإِذَا كَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ زَوَالِ الْعُذْرِ فَاسْتَمَرَّ أَيْ عَلَى لُبْسِهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَهُ وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى اتِّحَادِ الْجِهَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا إلَى صُورَةِ اللُّبْسِ، لَكِنْ هُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَقَاءُ
(2/211)
 
 
وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ.
وَثَانِيهِمَا الْعِلْمُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ الْجَهْلِ مَعَهُ وَتَجْوِيزِ الْجَهْلِ مَعَ الظَّنِّ وَذَلِكَ لِذَاتِ الْعِلْمِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ نَقِيصَةٌ لِذَاتِهِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ أَوْجَبَتْ نَقْصَهُ بِخِلَافِ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ، نَقْصُ الْجَاهِلِ لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْجَهْلُ وَفَضْلُ الْعَالِمِ لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْعِلْمُ.
وَثَالِثُهَا الْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَوْتِ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ) قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ التَّفْضِيلَ بِالذَّاتِ لَهُ مُثُلٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ لَا مِثَالَ لَهُ إلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا مُثُلٌ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا غَيْرُهُ.
قَالَ: (وَثَانِيهَا الْعِلْمُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَيْسَا بِذَاتِيَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَوْلُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، قَالَ: (وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ الْجَهْلِ مَعَهُ وَتَجْوِيزِ الْجَهْلِ مَعَ الظَّنِّ) قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا كَلَامٌ سَاقِطٌ عَدِيمُ التَّحْصِيلِ، كَيْفَ يَكُونُ الْعِلْمُ أَفْضَلَ مِنْ الظَّنِّ بِسَبَبِ الْقَطْعِ بِعَدَمِ الْجَهْلِ مَعَهُ وَتَجْوِيزِ الْجَهْلِ مَعَ الظَّنِّ؟ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَالذَّاتِيُّ لَا يُعَلَّلُ، وَكَيْفَ يَجُوزُ الْجَهْلُ مَعَ الظَّنِّ، وَالْجَهْلُ وَالظَّنُّ ضِدَّانِ فَكَيْفَ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يُحَصِّلْ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ أَلْبَتَّةَ.
قَالَ (وَذَلِكَ لِذَاتِ الْعِلْمِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ نَقِيصَةٌ لِذَاتِهِ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ أَوْجَبَتْ نَقْصَهُ) .
قُلْت: قَوْلُهُ لَا لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ يُشْعِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ قِيَامُ الصِّفَةِ بِالصِّفَةِ وَذَلِكَ مُحَالٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ. قَالَ (بِخِلَافِ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ؛ نَقْصُ الْجَاهِلُ لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْجَهْلُ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ لِصِفَةٍ قَامَتْ بِهِ وَهِيَ الْعِلْمُ) قُلْت: مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ. قَالَ: (وَثَالِثُهَا الْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَوْتِ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ) . قُلْت: مَا قَالَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْعُذْرِ حُكْمِيًّا، أَوْ زَوَالُهُ حَقِيقِيًّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ نَزْعُهُ لِئَلَّا يَكُونَ عَاصِيًا، وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلِبَقَاءِ الْعِلَّةِ فِي الْجُمْلَةِ اهـ بِتَغَيُّرٍ مَا.
(الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ) أَنْ يَتَّحِدَ السَّبَبُ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ صُورَتَهُ عِنْدَ الْأَحْنَافِ أَنْ يَلْبَسَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْجَسَدِ كِلَيْهِمَا بِعُذْرٍ، أَوْ كِلَيْهِمَا بِغَيْرِ عُذْرٍ وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنْ يُقَدِّمَ مَا نَفْعُهُ أَعَمُّ عَلَى مَا نَفْعُهُ أَخَصُّ كَأَنْ يَلْبَسَ أَوَّلًا الثَّوْبَ ثُمَّ السَّرَاوِيلَ، أَوْ يُقَدِّمَ الْقَلَنْسُوَةَ عَلَى الْعِمَامَةِ، أَوْ الْقَمِيصَ عَلَى الْجُبَّةِ إذَا كَانَ الْقَمِيصُ أَطْوَلَ مِنْ الْجُبَّةِ وَالسَّرَاوِيلِ أَمَّا إذَا طَالَتْ السَّرَاوِيلُ، أَوْ الْجُبَّةُ طُولًا لَهُ بَالٌ يَحْصُلُ بِهِ انْتِفَاعٌ، أَوْ دَفْعُ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَيَتَعَدَّدُ كَمَا إذَا عَكَسَ فَقَدَّمَ السَّرَاوِيلَ عَلَى الْقَمِيصِ فَفِي الْجَلَّابِ إنْ احْتَاجَ إلَى قَمِيصٍ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ احْتَاجَ إلَى سَرَاوِيلَ فَلَبِسَهَا فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِحُصُولِ السَّتْرِ مِنْ الْقَمِيصِ لِجَمِيعِ الْجَسَدِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى سَرَاوِيلَ، ثُمَّ إلَى قَمِيصٍ فَفِدْيَتَانِ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْقَمِيصِ مِنْ السَّتْرِ مَا لَمْ يَسْتَفِدْهُ مِنْ السَّرَاوِيلِ نَقَلَهُ الْأَصْلُ.
(فَرْعٌ) إذَا تَعَدَّدَ مُوجِبُ الْحَفْنَةِ بِأَنْ قَتَلَ قَمْلًا قَلِيلًا وَأَزَالَ شَعْرًا قَلِيلًا لَا لِإِمَاطَةِ أَذًى وَقَلَّمَ ظُفُرًا وَاحِدًا لَا لِإِمَاطَةِ أَذًى أَيْضًا وَأَلْقَى قُرَادًا كَثِيرًا، أَوْ قَلِيلًا عَنْ بَعِيرِهِ جَرَى فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا فَتَتَّحِدُ إنْ ظَنَّ الْإِبَاحَةَ لِمُسْتَنَدٍ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي فَوْرٍ إذَا لَمْ يَخْرُجُ لِلْأَوَّلِ قَتْلُ الثَّانِي، وَإِلَّا تَعَدَّدَتْ الْجَفْنَةُ كَمَا إذَا تَرَاخَى مَا بَيْنَهُمَا كَذَا فِي عبق وَحَاشِيَةِ شَيْخِنَا عَلَى تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ.
(الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ) عِنْدَ الْأَحْنَافِ خَاصَّةً أَنْ يَتَّحِدَ الْجِنْسُ كَمَا مَرَّ تَوْضِيحُهُ عَنْ اللُّبَابِ هَذَا وَقَوْلُ الْأَصْلِ وَضَابِطُ قَاعِدَةِ مَا تَتَّحِدُ الْفِدْيَةُ فِيهِ وَمَا تَتَعَدَّدُ أَنَّهُ مَتَى اتَّحَدَتْ النِّيَّةُ أَوْ الْمَرَضُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ، أَوْ الزَّمَانُ بِأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ عَلَى الْفَوْرِ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ وَمَتَى وَقَعَ التَّعَدُّدُ فِي النِّيَّةِ، أَوْ السَّبَبِ أَوْ الزَّمَانِ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ اهـ فِيهِ نَظَرٌ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ قُصُورًا لَا يَخْفَى مِنْ الضَّابِطِ الْمَارِّ.
ثَانِيهِمَا أَنَّ السَّبَبَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْمَرَضِ لَا عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّهُ مُطْلَقُ الِانْتِفَاعِ وَلَوْ لِغَيْرِ مَرَضٍ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ - كَمَا عَلِمْت - الْمَرَضُ، أَوْ غَيْرُهُ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا تَنْظُرْ لِمَنْ قَالَ: وَأَمَّا ضَابِطُ التَّدَاخُلِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهُوَ أَنَّهُ مَتَى اتَّحَدَ السَّبَبُ، أَوْ الْجِنْسُ وَلَوْ تَعَدَّدَ الزَّمَانُ اتَّحَدَتْ الْفِدْيَةُ وَقِيلَ: إنَّهُ مَتَى اتَّحَدَ السَّبَبُ فَقَطْ اتَّحَدَتْ وَمَتَى تَعَدَّدَ السَّبَبُ أَوْ الْجِنْسُ، أَوْ تَعَدَّدَ السَّبَبُ فَقَطْ تَعَدَّدَتْ قَالَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ عَلَى الْإِقْنَاعِ مَعَ الْمَتْنِ (وَإِنْ كَرَّرَ مَحْظُورًا مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ) قَتْلِ (صَيْدٍ، مِثْلُ أَنْ حَلَقَ) ثُمَّ أَعَادَ (أَوْ قَلَّمَ) ثُمَّ أَعَادَ (أَوْ لَبِسَ) مَخِيطًا، ثُمَّ أَعَادَ (أَوْ تَطَيَّبَ) ثُمَّ أَعَادَ (أَوْ وَطِئَ) ثُمَّ أَعَادَ (أَوْ فَعَلَ غَيْرَهَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ) كَأَنْ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ (ثُمَّ أَعَادَ) ذَلِكَ (ثَانِيًا وَلَوْ غَيْرَ الْمَوْطُوءِ) أَوَّلًا (أَوْ) كَانَ تَكْرِيرُهُ لِلْمَحْظُورِ (يَلْبَسُ مَخِيطًا فِي رَأْسِهِ) فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ فِي الشَّرْحِ بِأَنْ لَبِسَ قَمِيصًا وَسَرَاوِيلَ وَعِمَامَةً وَخُفَّيْنِ كَفَاهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُلْبَسُ فَأَشْبَهَ الطِّيبَ فِي رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ (أَوْ بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ) ذَكَرَهُ فِي الْإِنْصَافِ الْمَذْهَبُ وَأَنَّ عَلَيْهِ الْأَصْحَابَ وَبَنَاهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ لَا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَجْنَاسِ وَهُوَ ظَاهِرٌ إذْ الطِّيبُ وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ جِنْسَانِ كَمَا تَقَدَّمَ
(2/212)
 
 
وَسَبَبُ تَفْضِيلِهَا كَوْنُهَا يَتَأَتَّى مَعَهَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ كَالنُّبُوءَةِ وَالرِّسَالَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَعَذَّرَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعَ الْمَوْتِ.
وَتِلْكَ الْحَيَاةُ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ.
 
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ) التَّفْضِيلُ بِالصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ بِالْعِلْمِ.
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ عَلَى الْمُوجَبِ بِالذَّاتِ بِسَبَبِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ الْقَائِمِ بِهِ.
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ بِسَبَبِ الْقُدْرَةِ الْوُجُودِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ، فَهَذَا كُلُّهُ تَفْضِيلٌ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ لَا لِذَاتِهِ وَبِهِ خَالَفَ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فِي ذَلِكَ دَعْوَى بِغَيْرِ حُجَّةٍ.
قَالَ (وَسَبَبُ تَفْضِيلِهَا كَوْنُهَا يَتَأَتَّى مَعَهَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَصِفَاتُ الْكَمَالِ كَالنُّبُوءَةِ وَالرِّسَالَةِ وَغَيْرِهِمَا وَتَعَذَّرَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعَ الْمَوْتِ وَتِلْكَ لِلْحَيَاةِ لِذَاتِهَا لَا لِمَعْنًى أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ) . قُلْت: عَادَ إلَى تَعْلِيلِ الذَّاتِيِّ ثُمَّ كَرَّ إلَى عَدَمِ التَّعْلِيلِ وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ.
 
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ التَّفْضِيلُ بِالصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ بِالْعِلْمِ) .
قُلْت: أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي التَّفْضِيلِ بِالْعِلْمِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْجَهْلُ بِبَعْضِ الْعُلُومِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَقَدْ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ.
قَالَ: (وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ عَلَى الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ بِسَبَبِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ الْقَائِمِ بِهِ) .
قُلْت: مَا قَالَهُ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَصْحِيحِ الْإِيجَابِ الذَّاتِيِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ.
قَالَ: (وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ بِسَبَبِ الْقُدْرَةِ الْوُجُودِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ فَهَذَا كُلُّهُ تَفْضِيلٌ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ لَا لِذَاتِهِ وَبِهِ خَالَفَ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى) . قُلْت: أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي الْقُدْرَةِ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُفَصِّلَ الْقُدْرَةَ الْقَدِيمَةَ مِنْ الْحَادِثَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى تَكْرَارِ الطِّيبِ فَقَطْ بِأَنْ تَطَيَّبَ أَوَّلًا، ثُمَّ أَعَادَهُ بِدَوَاءٍ مُطَيَّبٍ فَهَذَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا لُبْسَ مَعَهُ وَلَا تَغْطِيَةَ رَأْسٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ غَطَّى رَأْسَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ بِدَوَاءٍ مُطَيَّبٍ فَإِنَّهُ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِ يَلْزَمُهُ فِدْيَتَانِ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ فِدْيَةٌ وَلِلطِّيبِ فِدْيَةٌ وَقَوْلُهُ (قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْ الْأَوَّلِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَعَادَ (فَ) عَلَيْهِ (كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ تَابَعَ الْفِعْلَ، أَوْ فَرَّقَهُ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فِدْيَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِي دَفْعَةٍ، أَوْ دَفْعَتَانِ (فَلَوْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ، أَوْ قَطَعَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي أَوْقَاتٍ قَبْلَ التَّكْفِيرِ لَزِمَهُ دَمٌ) أَوْ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَلَمْ تَلْزَمْهُ ثَانِيَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ (وَإِنْ كَفَّرَ عَنْ) الْفِعْلِ (الْأَوَّلِ لَزِمَهُ عَنْ الثَّانِي كَفَّارَةٌ) ثَانِيَةٌ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ عَيْنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ الْأُولَى أَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَفَ، ثُمَّ حَنِثَ وَكَفَّرَ، ثُمَّ حَلَفَ وَحَنِثَ اهـ بِحُرُوفِهِ.
قَالَ الْأَصْلُ: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مُوجِبَاتِ الْفِدْيَةِ أَجْنَاسٌ لَا تَتَدَاخَلُ كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ وَحُجَّةُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ التَّرَفُّهُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَالْمُوجِبُ بِالْكَسْرِ وَاحِدٌ وَمُوجَبُ الْجَمِيعِ بِالْفَتْحِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْفِدْيَةُ فَتَتَدَاخَلُ كَحُدُودِ شُرْبِ الْخَمْرِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ.
(الْكَفَّارَةُ الثَّالِثَةُ الْهَدْيُ) وَهُوَ دَمٌ مُرَتَّبٌ بَيْنَ مُقَدَّرٍ شَرْعًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] يَجِبُ لِفَسَادِ إحْرَامٍ أَوْ تَمَتُّعٍ، أَوْ قِرَانٍ، أَوْ نَقْصٍ فِي إحْرَامٍ كَتَرْكِ نَحْوِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهِ أَوْ فَوَاتِ حَجٍّ وَكَمَذْيٍ، أَوْ مُقَدِّمَاتِ جِمَاعٍ بِلَا إنْزَالٍ، أَوْ إنْزَالٍ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، أَوْ لِنَذْرِ عَيْنٍ لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ أَطْلَقَ، أَوْ يَكُونُ تَطَوُّعًا وَلَا يَتَّحِدُ الْهَدْيُ مَعَ تَعَدُّدِ سَبَبِهِ إلَّا فِي خَمْسِ مَسَائِلَ تَصَيَّدْتهَا مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا الْآنَ {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
تَكَرُّرُ الْوَطْءِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
تَرْكُ النُّزُولِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَمَبِيتِ لَيَالِي مِنًى وَرَمْيُ جَمِيعِ الْجَمَرَاتِ وَلَوْ عَمْدًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَيَدْخُلُ بِالْأَوْلَى تَرْكُ مَبِيتِ لَيَالِي مِنًى فَقَطْ وَتَرْكُ رَمْيِ جَمِيعِ الْجَمَرَاتِ فَقَطْ كَمَا لَا يَخْفَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
تَرْكُ ذِي النَّفْسِ طَوَافَ الْقُدُومِ مَعَ تَأْخِيرِ السَّعْيِ لِلْإِفَاضَةِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
تَرْكُ الْإِتْيَانِ بِالتَّلْبِيَةِ عَقِبَ الْإِحْرَامِ وَعَقِبَ السَّعْيِ مَعًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَرْكُ الْقَادِرِ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مَعًا وَبِالْجُمْلَةِ فَدِمَاءُ الْحَجِّ عِنْدَنَا ثَلَاثَةٌ مَجْمُوعَةٌ فِي قَوْلِي:
ثَلَاثَةٌ دِمَاءُ حَجٍّ حُصِرُوا ... أَحَدُهَا الْمُرَتَّبُ الْمُقَدَّرُ
وَذَا هُوَ الْهَدْيُ لِنَقْصٍ أَوْ فَسَادْ ... فَوَاتِ حَجٍّ أَوْ تَمَتُّعٍ يُرَادْ
قِرَانٍ أَوْ نَذْرٍ لِمِسْكِينٍ بَدَا ... أَوْ مُطْلَقًا أَوْ ذَا تَطَوُّعٍ غَدَا
وَالثَّانِ جَا مُخَيَّرًا مُقَدَّرَا ... وَذَا هُوَ الْفِدْيَةُ حَيْثُمَا تَرَى
وَالثَّالِثُ الْمُخَيَّرُ الْمُعَدَّلُ ... وَذَا جَزَاءُ الصَّيْدِ حَيْثُ يَحْصُلُ
وَجَعَلَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَطْءِ الْمُفْسِدِ وَالْحَصْرِ عَنْ إتْمَامِ الشَّكِّ دَمًا مُرَتَّبًا مُعَدَّلًا لَا مُقَدَّرًا فَأَوْجَبُوا ذَبْحَ الشَّاةِ عَلَى الْقَادِرِ الْمَحْصُورِ لِلتَّحَلُّلِ وَعَلَى الْعَاجِزِ الْعُدُولُ إلَى الْإِطْعَامِ فِي مَحَلِّ الْإِحْصَارِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الشَّاةِ بِتَقْوِيمِ عَدْلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ أَيْضًا الْعُدُولُ إلَى الصَّوْمِ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا حَيْثُ شَاءَ وَأَوْجَبُوا فِي الْوَطْءِ الْمُفْسِدِ ذَبْحَ بَدَنَةٍ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَبَقَرَةٌ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَسَبْعُ شِيَاهٍ مِنْ الْغَنَمِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا قَوَّمَ
(2/213)
 
 
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ؛ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ.
(وَثَانِيهَا) تَفْضِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَأَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَعَامَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا نِسَاءَهُمْ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَّوْهُ كَالْمَيْتَةِ، وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مِنْ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ، كُلُّ ذَلِكَ اهْتِضَامٌ لَهُمْ لِجَحْدِهِمْ الرَّسَائِلَ وَالرُّسُلَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَظَّمُوا الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَالُوا بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ فَحَصَلَ لَهُمْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالتَّمْيِيزِ بِحِلِّ طَعَامِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَجَعَلَ ذَكَاتَهُمْ كَذَكَاتِنَا وَنِسَاءَهُمْ كَنِسَائِنَا وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ لِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الطَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا تَخْفِيفَ الْعَذَابِ أَمَّا فِي تَرْكِ الْخُلُودِ فَلَا.
(وَثَالِثُهَا) تَفْضِيلُ الْوَلِيِّ عَلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ بِسَبَبِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ الْوَلِيُّ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ سُمِّيَ وَلِيًّا أَيْ تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضُلُ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ
(وَرَابِعُهَا) تَفْضِيلُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ مِنْ طَاعَةٍ.
(وَخَامِسُهَا) تَفْضِيلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَنُقْطَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ) .
قُلْت: مَا قَالَهُ فِيهَا، وَفِي الْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ صَحِيحٌ وَعَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْقَصْرِ فَإِنَّ فَضِيلَتَهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْمَذْهَبِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْبَدَنَةَ عَدْلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْرَجَ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا فَإِنْ عَجَزَ صَامَ بِعَدَدِ الْأَمْدَادِ أَيَّامًا فَدِمَاءُ الْحَجِّ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةٌ الْمُرَتَّبُ إمَّا مُقَدَّرٌ، أَوْ مُعَدَّلٌ، وَالْمُخَيَّرُ إمَّا مُقَدَّرٌ، أَوْ مُعَدَّلٌ وَاَلَّذِي يَتَدَاخَلُ مِنْهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْفِدْيَةُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَالْهَدْيُ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي قَوْلِي:
تَتَّحِدُ الْفِدْيَةُ مَعَ تَعَدُّدٍ ... لِسَبَبٍ بِأَرْبَعٍ لَمْ تَزِدْ
أَحَدُهَا أَنْ تَفْعَلَ الْأَسْبَابَ فِي ... وَقْتٍ وَنَحْوِهِ وَثَانِيهَا قِفِي
نِيَّةَ تَكْرَارٍ لِفِعْلٍ مَا إلَيْهِ ... أَدَّاهُ عُذْرُهُ الَّذِي يَطْرَا عَلَيْهِ
ثَالِثُهَا تَقْدِيمُ مَا نَفْعًا أَعَمَّ ... عَلَى أَخَصَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَعَمِّ
رَابِعُهَا ظَنُّ إبَاحَةِ السَّبَبْ ... لِمُقْتَضٍ مِنْ نَحْوِ رَفْضِ مَا ارْتَكَبْ
وَاتَّحَدَ الْهَدْيُ كَذَا بِخَمْسَةٍ ... فَأَوَّلٌ تَكْرَارُ وَطْءٍ فَاثْبِتْ
وَالثَّانِ تَرْكٌ لِنُزُولِ جَمْعِ ... وَالرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ رَأْسًا فَاوْعِ
وَثَالِثٌ تَأْخِيرُهُ لِلسَّعْيِ مَعَ ... تَرْكِ قُدُومٍ لَا لِعُذْرٍ قَدْ وَقَعْ
وَرَابِعٌ يَا صَاحِ تَرْكُ التَّلْبِيَهْ ... مِنْ بَعْدِ إحْرَامٍ وَسَعْيٍ فَادْرِيَهْ
وَالْخَامِسُ الرُّكُوبُ فِي الطَّوَافِ ... وَالسَّعْيُ لَا لِحَاجَةٍ تُوَافِي
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
 
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ]
(الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ)
الْفَضْلُ كَوْنُ مَعْلُومٍ مَا مُنْفَرِدًا بِصِفَةِ مَدْحٍ، أَوْ بِمَزِيَّةٍ فِي صِفَةِ مَدْحٍ وَالتَّفْضِيلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ
الْأَوَّلُ عَقْلِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لِمَعْقُولِ الْمُتَّصِفِ بِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي وَضْعِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لَا لِمَعْقُولِ الْمُتَّصِفِ بِهِ بَلْ لِمُوجِبِ غَيْرِهِ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ إنْ كَانَ بِحَسَبِ الذَّاتِ، أَوْ بِحَسَبِ الصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَهُوَ عَقْلِيٌّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ بِالطَّاعَةِ أَوْ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ، أَوْ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ، أَوْ الصُّدُورِ، أَوْ لِمَدْلُولٍ أَوْ الدَّلَالَةِ، أَوْ التَّعَلُّقِ أَوْ الْمُتَعَلَّقِ، أَوْ بِكَثْرَةِ التَّعَلُّقِ أَوْ بِالْمُجَاوَرَةِ، أَوْ بِالْحُلُولِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ، أَوْ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ، أَوْ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى أَوْ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ، أَوْ بِالتَّأْثِيرِ، أَوْ بِجُودَةِ النِّيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ أَوْ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ فَهُوَ وَضْعِيٌّ فَقَاعِدَةُ التَّفْضِيلِ تَرْجِعُ إلَى عِشْرِينَ قَاعِدَةً بَلْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: لَا أَعْرِفُ الْآنَ دَلِيلَ صِحَّةِ حَصْرِ وُجُوهِ التَّفْضِيلِ فِي عِشْرِينَ قَاعِدَةً اهـ.
أَيْ بَلْ إنَّهَا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الْأَصْلُ وَأَسْبَابُ التَّفْضِيلِ كَثِيرَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهَا خَشْيَةَ الْإِسْهَابِ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي عَلَى الْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الْبِقَاعِ فَقَالَ الثَّوَابُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ سَبَبُ التَّفْضِيلِ وَالْعَمَلُ هَهُنَا مُتَعَذَّرٌ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَرَّمٌ فِيهِ عِقَابٌ شَدِيدٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَفْضَلُ الْمَثُوبَاتِ فَكَيْفَ مَعَ عَدَمِ الثَّوَابِ يَصِحُّ هَذَا الْإِجْمَاعُ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ كَثِيرًا وَمَا بَلَغَنِي أَيْضًا عَنْ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَسْبَابُ التَّفْضِيلِ أَرْبَعَةٌ وَكُلُّهَا كَمَلَتْ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ وَأَخَذَ يَرُدُّ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَأَرَدْت بِبَيَانِ تَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ وَالْوُصُولِ فِيهَا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَنْ أُبْطِلَ مَا ادَّعَيَاهُ مِنْ الْحَصْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَسْبَابَهُ أَعَمُّ مِنْ الثَّوَابِ بَلْ وَمِنْ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي زَعَمَ الْمَأْمُونُ الْحَصْرَ فِيهَا، وَإِلَّا لَمَا كَانَ جِلْدُ الْمُصْحَفِ بَلْ وَلَا الْمُصْحَفُ نَفْسُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ فِيهِ وَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ اهـ بِتَصَرُّفٍ
(2/214)
 
 
مِنْ بَحْرٍ وَمَا الْجِهَادُ وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَنُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ» وَفِي حَدِيثٍ «لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ بِسَبَبِ طَاعَةِ الْعُلَمَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى» بِضَبْطِ شَرَائِعِهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْجِهَادُ وَهِدَايَةُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَتَوْصِيلُ مَعَالِمِ الْأَدْيَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَوْلَا سَعْيُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَانْقَطَعَ أَمْرُ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ.
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ) التَّفْضِيلُ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ الْوَاقِعِ فِي الْعَمَلِ الْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ:
(أَحَدُهَا) الْإِيمَانُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ وَالْخُلُوصُ مِنْ النِّيرَانِ وَغَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ.
(وَثَانِيهَا) صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً.
(وَثَالِثُهَا) الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا بِأَلْفِ مَرَّةٍ مِنْ الْمَثُوبَاتِ.
(وَرَابِعُهَا) صَلَاةُ الْقَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْإِتْمَامِ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ عَمَلًا
 
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ وَلَهُ مُثُلٌ:
(الْأَوَّلُ) الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ لِوُجُوهٍ مِنْهَا شَرَفُ مَوْصُوفِهِ عَلَى كُلِّ مَوْصُوفٍ.
(وَثَانِيهَا) إرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ وَجَمِيعُ الصِّفَاتِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَفْضَلُ لِوُجُوهٍ مِنْهُ شَرَفُ الْمَوْصُوفِ.
(وَثَالِثُهَا) صِفَاتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَشَجَاعَتِهِ وَكَرَمِهِ وَجَمِيعِ مَا هُوَ صِفَةٌ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَوْصُوفِ وَلَهُ مُثُلٌ: الْأَوَّلُ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ)
قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ شَرَفِ الصِّفَةِ بِشَرَفِ مَوْصُوفِهَا صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ شَرَفَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ وُجُوهٍ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ إلَّا شَرَفَ الْمَوْصُوفِ، وَمِنْهَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - قِدَمُهَا وَبَقَاؤُهَا وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا صِفَاتُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِمُصَاحَبَتِهَا النُّبُوَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَزِيَادَةٍ.
(الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) تَفْضِيلُ الْمَعْلُومِ عَلَى غَيْرِهِ بِذَاتِهِ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا مِثَالٌ وَاحِدٌ وَهُوَ ذَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتُهُ الْمَعَانِي السَّبْعَةُ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ، إذْ لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي: إنَّهَا غَيْرُ الذَّاتِ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا عَيْنُ الذَّاتِ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا هِيَ هُوَ لَأَدَّى إلَى اتِّحَادِ الصِّفَاتِ وَالْمَوْصُوفِ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ وَلَوْ قُلْنَا: غَيْرُهُ لَكَانَتْ إمَّا مُحْدَثَةً فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا قَدِيمَةً فَيَلْزَمُ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ الْمُتَغَايِرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ هُنَا مَا قَابَلَ الْعَيْنَ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْمُنْفَكُّ فَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً وَلَا عَيْنًا بَلْ شَيْءٌ مُلَازِمٌ بِخِلَافِ الْوُجُودِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَيْنُ الذَّاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَجْهٌ وَاعْتِبَارٌ، وَإِنَّهُ غَيْرُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَالٌّ وَهُوَ مَا لَهُ ثُبُوتٌ فِي نَفْسِهِ.
وَفِي مَحَلِّهِ نَعَمْ قَالَ السُّكْتَانِيُّ قَوْلُنَا: اللَّهُ مَوْجُودٌ حُكْمٌ مَعْنَوِيٌّ يُعْتَقَدُ وَيُبَرْهَنُ عَلَيْهِ لَا مُجَرَّدُ إخْبَارٍ لَفْظِيٍّ فَالْحَقُّ أَنَّ الصِّفَةَ يَكْفِي فِيهَا مُغَايَرَةُ الْمَفْهُومِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً فِي الْخَارِجِ كَيْفَ وَقَدْ عَدُّوا السُّلُوبَ يَعْنِي الْقِدَمَ وَالْبَقَاءَ وَمُخَالَفَتَهُ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ وَقِيَامَهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ وَالْوَحْدَانِيَّةَ صِفَاتٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَصِفَاتُ الْبَارِي الَّتِي عَدَّهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَأَوْجَبُوا مَعْرِفَتَهَا تَفْصِيلًا إمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ وَهِيَ الْمَعَانِي السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهَذِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً عَنْهَا بَلْ مُلَازِمَةً لَهَا.
وَإِمَّا أَنْ لَا تَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَدَمِيَّةً عِبَارَةً عَنْ سَلْبِهَا نَقْصًا عَنْ الذَّاتِ وَهِيَ صِفَاتُ السُّلُوبِ الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَجْهًا وَاعْتِبَارًا لَا حَالًّا لِأَنَّ الْحَقَّ نَفْيُهُ وَهِيَ الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ أَعْنِي الْوُجُودَ وَالصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةَ وَهِيَ الْكَوْنُ عَالِمًا وَمُرِيدًا وَقَادِرًا وَمُتَكَلِّمًا وَحَيًّا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا وَالِاعْتِبَارُ قَدْ اخْتَارَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ لَهُ مِنْ اسْمِهِ نَصِيبًا فَلَا ثُبُوتَ لَهُ إلَّا فِي ذِهْنِ الْمُعْتَبِرِ وَإِنَّهُ أَمْرٌ وَاحِدٌ فَقَطْ إنْ اُنْتُزِعَ مِنْ خَارِجٍ مَوْجُودٍ مُشَاهَدٍ كَالْكَوْنُ أَبْيَضُ كَانَ صَادِقًا لِتَأْيِيدِ الْخَارِجِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ اعْتِبَارٍ كَاعْتِبَارِ الْكَرِيمِ بَخِيلًا كَانَ كَاذِبًا لِمُعَارَضَةِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ لَهُ لَا أَمْرَانِ بَحْتٌ لَا ثُبُوتَ لَهُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَمَا لَهُ ثُبُوتٌ فِي نَفْسِهِ دُونَ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْحَالِّ وَبَيْنَ وَجْهِهِ فَانْظُرْهُ فَالْوُجُودُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً فِي الْخَارِجِ عَلَى الذَّاتِ كَصِفَاتِ السُّلُوبِ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا صِفَاتٌ يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الذَّاتِ حُكْمًا مَعْنَوِيًّا يُعْتَقَدُ وَيُبَرْهَنُ عَلَيْهِ كَصِفَاتِ السُّلُوبِ يَكْفِي فِي كَوْنِهَا غَيْرَ الذَّاتِ مُغَايَرَةُ مَفْهُومِهَا لِمَفْهُومِ الذَّاتِ بِالْأَوْلَى مِنْ صِفَاتِ السُّلُوبِ فَافْهَمْ.
 
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ) التَّفْضِيلُ بِالصِّفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِالْمُفَضَّلِ وَلَهُ مُثُلٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْعَالِمِ بِعِلْمٍ نَافِعٍ عَلَى الْجَاهِلِ بِهِ أَمَّا الَّذِي لَا يَنْفَعُ فَقَدْ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ فَيَكُونُ الْجَاهِلُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْعَالِمِ بِهِ.
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْقَادِرِ بِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ الْوُجُودِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ تَعَالَى عَلَى الْعَاجِزِ الَّذِي قُدْرَتُهُ حَادِثَةٌ.
وَثَالِثُهَا قِيلَ تَفْضِيلُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ بِسَبَبِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ الْقَائِمِ بِهِ عَلَى الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْحِيحِ الْإِيجَابِ الذَّاتِيِّ لَكِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ اهـ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مُرِيدٌ قَادِرٌ، ثُمَّ
(2/215)
 
 
مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا شَرَفُ الْمَوْصُوفِ
 
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الصُّدُورِ كَشَرَفِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِكَوْنِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِهِ وَنِظَامِهِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبِهَذَا نُجِيبُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ إنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِجَمِيعِ أَلْفَاظِ الْخَلَائِقِ وَالْمَرِيدُ لِتَرْتِيبِ وَصْفِهَا، فَمَنْ قَالَ زَيْدٌ قَائِمٌ فِي الدَّارِ فَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَصْوَاتِهِ هَذِهِ وَالْمَرِيدُ لِتَرْتِيبِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَتَقْدِيمِ " قَائِمٌ " عَلَى الْمَجْرُورِ وَكَوْنِ الْمَجْرُورِ بِفِي دُونَ غَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِ جَمِيعِ كَلَامِ النَّاسِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِإِرَادَتِهِ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَلْفَاظُ عِنْدَكُمْ مَخْلُوقَةٌ مِثْلُ أَلْفَاظِ الْخَالِقِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ فَلِمَ لَا تَقُولُونَ لِلْجَمِيعِ كَلَامُ اللَّهِ، وَمَا الْمَزِيَّةُ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ.؟ ،
فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى وَفْقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ وَالْمُتَوَلِّي لِرَصْفِ كَلَامِ الْخَلَائِقِ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى إرَادَتِهِمْ تَبَعًا لِإِرَادَتِهِ تَعَالَى فَتَفَرُّدُهُ فِي هَذَا الْوَصْفِ بِالْإِرَادَةِ هُوَ الْفَرْقُ وَامْتَازَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِوُجُوهٍ أُخَرَ مِنْ الْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الصُّدُورِ كَشَرَفِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِكَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِرَصْفِهِ وَنِظَامِهِ فِي نَفْسِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى آخِرِ الْقَاعِدَةِ) .
قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَزِيَّةَ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ انْفِرَادُ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَضْعِهِ دُونَ إرَادَةِ جِبْرِيلَ دَعْوَى لَا أَرَاهَا تَقُومُ عَلَيْهَا حُجَّةٌ وَلَعَلَّ جِبْرِيلَ أَرَادَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، بَلْ الْمَزِيَّةُ الَّتِي امْتَازَ بِهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ عَلَى كَلَامِ النَّاسِ كَوْنُهُ دَالًّا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَارَةً عَنْهُ، وَامْتِيَازُهُ عَنْ لَفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ بِالْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقَاعِدَةِ السَّابِعَةِ وَالثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ كُلُّهُ صَحِيحٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَاتِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِصِفَاتٍ وُجُودِيَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى الذَّاتِ قَائِمَةٍ بِهَا يَصِحُّ أَنْ تُرَى وَفَسَّقُوا مَنْ نَفَاهَا قَالُوا وَلُزُومُ تَعَدُّدِ الْقُدَمَاءِ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَتْ مُنْفَكَّةً وَأَلْزَمُوا أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ لِأَنَّهَا الصِّفَاتُ وَأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ إلَخْ لِأَنَّ الْكُلَّ الذَّاتُ الْوَاحِدَةُ وَحَيْثُ جَازَ عَالِمٌ بِلَا عِلْمٍ لَزِمَ عِلْمٌ بِلَا عَالِمٍ إذْ لَا فَرْقَ فِي التَّلَازُمِ عَلَى أَنَّهُ نَظِيرُ " أَسْوَدُ بِلَا سَوَادٍ " وَهُوَ بَدِيهِيُّ الْفَسَادِ وَكُلُّهَا تَقْبَلُ الدَّفْعَ فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِتَغَايُرِ الْمَفَاهِيمِ الْإِضَافِيَّةِ، وَإِنْ قَالَ أليوسي إذَا أَرَادُوهَا لِلِاعْتِبَارَاتِ لَزِمَ نَفْيُهَا إذْ لَا ثُبُوتَ لِلِاعْتِبَارِ إلَّا فِي الذِّهْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ هَلْ وُجُوبُهَا وَقِدَمُهَا ذَاتِيٌّ؛ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ الذَّاتُ الْمُتَّصِفَةُ بِالصِّفَاتِ أَوْ مُمْكِنَةٌ فِي ذَاتِهَا - عَلَى مَا لِلْفَخْرِ وَمَنْ تَبِعَهُ - وَاجِبَةٌ لِمَا لَيْسَ عَيْنَهَا وَلَا غَيْرَهَا، وَإِنْ لَمْ نَفْهَمْ لَهُ الْآنَ مَحْصُولًا فَإِنَّ الصِّفَةَ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الْمَوْصُوفِ مُسْتَحِيلَةٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا الْمَوْصُوفِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يُنَافِي مَوْصُوفًا مَا لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ وَمِمَّا رُدَّ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مَثَلًا مُمْكِنًا لَكَانَ الْجَهْلُ مُمْكِنًا لِأَنَّهُ مُقَابِلُهُ وَلَا يَخْفَاك أَنَّ الْإِمْكَانَ الذَّاتِيَّ لَا يَضُرُّهُ إنَّمَا يَضُرُّهُ لَوْ كَانَ إمْكَانُهُ لِلَّهِ وَهُوَ يَقُولُ بِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْعِلْمِ لَهُ فَتَدَبَّرْ وَقَالَ قَبْلُ وَعَلَى كَلَامِ غَيْرِ الْفَخْرِ لَا نُثْبِتُ إلَّا الْقِدَمَ الذَّاتِيَّ لِلْوَاجِبِ وَحْدَهُ أَيْ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْمُؤَثِّرِ وَعَلَى كَلَامِ الْفَخْرِ نُثْبِتُ الْقِدَمَ الْعَرَضِيَّ أَيْضًا لِلْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ وَلَا يَكُونُ الْإِمْكَانُ إلَّا ذَاتِيًّا نَعَمْ يَجُوزُ الْبَقَاءُ فِي الْمُمْكِنَاتِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَرْجِعُ لِعَدَمِ وُقُوفِ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَادِرِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ حَدٍّ بِخِلَافِ الْقِدَمِ لِلْمُمْكِنَاتِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِوُجُودِ الْمُمْكِنِ أَزَلًا وَهُوَ مُحَالٌ بِالطَّبْعِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ قَالَ الشَّعْرَانِيُّ وَاَلَّذِي يَتَلَخَّصُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ عَرَبِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَحِمَهُ أَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ الصِّفَاتِ عَيْنٌ لَا غَيْرُ كَشْفًا وَيَقِينًا وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ اهـ وَأَقُولُ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ:
اعْتِصَامُ الْوَرَى بِمَغْفِرَتِكْ ... عَجَزَ الْوَاصِفُونَ عَنْ صِفَتِكْ
تُبْ عَلَيْنَا فَإِنَّنَا بَشَرٌ ... مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكْ
اهـ كَلَامُ الْأَمِيرِ بِتَصَرُّفٍ وَحَذْفٍ.
 
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ) التَّفْضِيلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مُثُلٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الطَّاعَةِ بِتَعْظِيمِهِمْ الرُّسُلَ وَالرَّسَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَقَالُوا بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَبِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَدَمَ الْخُلُودِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ تَخْفِيفَ الْعَذَابِ، وَجَحْدِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الرَّسَائِلَ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَضَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَعَامَهُمْ وَأَبَاحَ تَزْوِيجَنَا نِسَاءَهُمْ وَجَعَلَ ذَكَاتَهُمْ كَذَكَاتِنَا وَنِسَاءَهُمْ كَنِسَائِنَا وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْبَهَائِمِ تَعْظِيمًا وَتَمْيِيزًا بِخِلَافِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَّوْهُ كَالْمَيْتَةِ وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهِ بِالذَّكَاةِ كَتَصَرُّفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مِنْ السِّبَاعِ وَالْكَوَاسِرِ فِي الْأَنْعَامِ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ وَجَعَلَ نِسَاءَهُمْ كَإِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ مُحَرَّمَاتِ الْوَطْءِ اهْتِضَامًا لَهُمْ.
وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الْوَلِيِّ بِسَبَبِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَوَلَّى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ
(2/216)
 
 
تَعَالَى كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَيُقَالُ إنَّهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ كِتَابًا صُحُفًا وَكُتُبًا أُنْزِلَتْ عَلَى آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ -.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ وَلَهُ مُثُلٌ:
أَحَدُهَا تَفْضِيلُ الْأَذْكَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى.
وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاَللَّهِ عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِمَا.
وَثَالِثُهَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ أَفْضَلُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحَثِّ عَلَى أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ، وَالزَّجْرِ عَنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الدَّلَالَةِ لَا بِشَرَفِ الْمَدْلُولِ كَشَرَفِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْصَافِ الدَّالَّةِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْجَبَ شَرَفَهَا عَلَى جَمِيعِ الْحُرُوفِ لِهَذِهِ الدَّلَالَةِ.
وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِتَعْظِيمِهَا فَلَا تُمْسَكُ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَيُكَفَّرُ مَنْ أَصَابَهَا بِالْقَاذُورَاتِ وَلَهُ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى بِلَادِ الْكَافِرِينَ خَشْيَةَ أَنْ تَنَالَهَا أَيْدِيهِمْ
(الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ التَّعَلُّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْحَيَاةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ بَلْ لَهَا مَوْصُوفٌ فَقَطْ وَالْعِلْمُ لَهُ مَوْصُوفٌ وَمُتَعَلَّقٌ فَلَهُ مَزِيَّةُ شَرَفٍ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُمْكِنَاتِ، وَالْقُدْرَةُ بِالْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالسَّمْعُ بِالْأَصْوَاتِ، وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَالْبَصَرُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَلَيْسَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى السَّبْعَةِ صِفَةٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ إلَّا الْحَيَاةَ
 
(الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ) التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمُتَعَلَّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَكَتَفْضِيلِ عِلْمِ الْفِقْهِ عَلَى الطِّبِّ لِتَعَلُّقِهِ بِرَسَائِلِ اللَّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ التَّفْضِيلُ بِشَرَفِ الْمُتَعَلِّقِ كَتَفْضِيلِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ)
قُلْت: مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ - مِنْ أَنَّ كُلَّ مَدْلُولٍ مُتَعَلِّقٌ - لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْمَدْلُولَ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقِ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَعْهُودِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مَدْلُولٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِوَجْهٍ مَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَعِبَادَتُهُ تَجْرِي عَلَى التَّوَالِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا عِصْيَانٌ فَسُمِّيَ وَلِيًّا وَقِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَلَّاهُ بِلُطْفِهِ فَلَمْ يَكِلْهُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ لَحْظَةً عَلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَصَرِينَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَفَاضُلُ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَعْظَمَ.
وَرَابِعُهَا تَفْضِيلُ الشَّهِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى بِبَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ وَأَعْظِمْ بِذَلِكَ مِنْ طَاعَةٍ.
وَخَامِسُهَا تَفْضِيلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ بِسَبَبِ طَاعَةِ الْعُلَمَاءِ ل