الفروق للقرافي أنوار البروق في أنواء الفروق 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق
المؤلف: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ)
عدد الأجزاء: 4
 
الْفَرْقُ الْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُسْكِرَاتِ وَقَاعِدَةِ الْمُرْقِدَاتِ وَقَاعِدَةِ الْمُفْسِدَاتِ) هَذِهِ الْقَوَاعِدُ الثَّلَاثُ قَوَاعِدُ تَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمُتَنَاوَلَ مِنْ هَذِهِ إمَّا أَنْ تَغِيبَ مَعَهُ الْحَوَاسُّ أَوْ لَا فَإِنْ غَابَتْ مَعَهُ الْحَوَاسُّ كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَاللَّمْسِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ فَهُوَ الْمُرْقِدُ وَإِنْ لَمْ تَغِبْ مَعَهُ الْحَوَاسُّ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْدُثَ مَعَهُ نَشْوَةٌ وَسُرُورٌ وَقُوَّةُ نَفْسٍ عِنْدَ غَالِبِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ أَوْ لَا فَإِنْ حَدَثَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُسْكِرُ وَإِلَّا فَهُوَ الْمُفْسِدُ فَالْمُسْكِرُ هُوَ الْمُغَيِّبُ لِلْعَقْلِ مَعَ نَشْوَةٍ وَسُرُورٍ كَالْخَمْرِ وَالْمِزْرِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الْقَمْحِ وَالْبِتْعِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسُّكْرُكَةِ وَهُوَ الْمَعْمُولُ مِنْ الذُّرَةِ وَالْمُفْسِدُ هُوَ الْمُشَوِّشُ لِلْعَقْلِ مَعَ عَدَمِ السُّرُورِ الْغَالِبِ كَالْبَنْجِ وَالسَّيْكَرَانِ وَيَدُلُّك عَلَى ضَابِطِ الْمُسْكِرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ
فَالْمُسْكِرُ يَزِيدُ فِي الشَّجَاعَةِ وَالْمَسَرَّةِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَالْمَيْلِ إلَى الْبَطْشِ وَالِانْتِقَامِ مِنْ الْأَعْدَاءِ وَالْمُنَافَسَةِ فِي الْعَطَاءِ وَأَخْلَاقِ الْكُرَمَاءِ وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْتِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَلِأَجْلِ اشْتِهَارِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُسْكِرَاتِ أَنْشَدَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
زَعَمَ الْمُدَامَةَ شَارِبُوهَا أَنَّهَا ... تَنْفِي الْهُمُومَ وَتَصْرِفُ الْغَمَّا
صَدَقُوا سَرَّتْ بِعُقُولِهِمْ فَتَوَهَّمُوا ... أَنَّ السُّرُورَ لَهُمْ بِهَا تَمَّا
سَلَبَتْهُمْ أَدْيَانَهُمْ وَعُقُولَهُمْ ... أَرَأَيْت عَادِمَ ذَيْنِ مُغْتَمَّا
فَلَمَّا شَاعَ أَنَّهَا تُوجِبُ السُّرُورَ وَالْأَفْرَاحَ أَجَابَهُمْ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ.
وَبِهَذَا الْفَرْقِ يَظْهَرُ لَك أَنَّ الْحَشِيشَةَ مُفْسِدَةٌ وَلَيْسَتْ مُسْكِرَةٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّا نَجِدُهَا تُثِيرُ الْخَلْطَ الْكَامِنَ فِي الْجَسَدِ كَيْفَمَا كَانَ فَصَاحِبُ الصَّفْرَاءِ تُحْدِثُ لَهُ حِدَّةً وَصَاحِبُ الْبَلْغَمِ تُحْدِثُ لَهُ سُبَاتًا وَصَمْتًا وَصَاحِبُ السَّوْدَاءِ تُحْدِثُ لَهُ بُكَاءً وَجَزَعًا وَصَاحِبُ الدَّمِ تُحْدِثُ لَهُ سُرُورًا بِقَدْرِ حَالِهِ فَتَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَدُّ بُكَاؤُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَدُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَجْوِبَةٍ عِدَّةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ سَمَّاهُ مُحَدِّدَ السِّنَانِ فِي نُحُورِ إخْوَانِ الدُّخَانِ وَفِي الْعَمَلِيَّاتِ الْفَاسِيَّةِ
وَحَرَّمُوا طَابَا لِلِاسْتِعْمَالِ ... وَلِلتِّجَارَةِ عَلَى الْمِنْوَالِ
وَاخْتَلَفُوا هَلْ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ أَنَّهَا تُحْدِثُ تَفْتِيرًا وَخَدَرًا فَتُشَارِكُ أَوَّلِيَّةَ الْخَمْرِ فِي نَشْوَتِهِ قَالَ الشَّيْخُ سَيِّدِي التَّاوَدِيُّ فِي أَجْوِبَتِهِ وَكَفَى حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ حُجَّةً وَدَلِيلًا يَعْنِي عَلَى تَحْرِيمِ دُخَانِ طَابَةَ اُنْظُرْهُ أَوْ أَنَّهَا تُسْكِرُ فِي ابْتِدَاءِ تَعَاطِيهَا إسْكَارًا سَرِيعًا بِغَيْبَةٍ تَامَّةٍ ثُمَّ لَا يَزَالُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَطُولَ الْأَمْرُ جِدًّا فَيَصِيرُ لَا يُحَسُّ بِهِ لَكِنَّهُ يَجِدُ نَشْوَةً وَطَرَبًا أَحْسَنَ عِنْدَهُ مِنْ السُّكْرِ وَعَلَى هَذَا فَهِيَ نَجِسَةٌ وَيَحْرُمُ مِنْهَا الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَيُحَدُّ شَارِبُهَا وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَا حَدَّ وَلَا نَجَاسَةَ نَعَمْ يَحْرُمُ الْقَلِيلُ كَالْكَثِيرِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي التَّأْثِيرِ إذْ الْغَالِبُ وُقُوعُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنْهَا وَحِفْظُ الْعُقُولِ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَوْ أَنَّهَا لَا تَفْتِيرَ بِهَا وَلَا إسْكَارَ إلَّا أَنَّهَا سَرَفٌ وَضَرَرٌ وَنَجَاسَةٌ لِكَوْنِهَا تُبَلُّ بِالْخَمْرِ وَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهَا وَالْكَثِيرُ وَأَفْتَى جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّةِ كُلِّ مَذْهَبٍ بِالْإِبَاحَةِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّهَا مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ الْمَوْلَى فِي كِتَابِهِ فَهِيَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ رَحْمَةً بِكُمْ فَهُوَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ أَيْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حِلِّهِ وَلَا حُرْمَتِهِ نَصًّا جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ مَا لَمْ يَرِدْ النَّهْيُ عَنْهُ. اهـ.
وَأَلَّفَ الشَّيْخُ عَلِيُّ الْأُجْهُورِيُّ تَأْلِيفًا سَمَّاهُ غَايَةَ الْبَيَانِ لِحِلِّ مَا لَا يُغِيبُ الْعَقْلَ مِنْ الدُّخَّانِ حَاصِلُهُ أَنَّ الْفُتُورَ الَّذِي يَحْصُلُ لِمُبْتَدِئِ شُرْبِهِ لَيْسَ مِنْ تَغْيِيبِ الْعَقْلِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ سَلِمَ أَنَّهُ مِمَّا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ فَلَيْسَ مِنْ الْمُسْكِرِ قَطْعًا لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ كَمَا تَقَرَّرَ وَطَابَةُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِمَنْ لَا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ كَاسْتِعْمَالِ الْأَفْيُونِ لِمَنْ لَا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَقَدْ يُغَيِّبُ عَقْلَ شَخْصٍ وَلَا يُغَيِّبُ عَقْلَ آخَرَ وَقَدْ يُغَيِّبُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ وَنَظْمُهُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ أَنْ تَقُولَ شُرْبُ الدُّخَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا يُغَيِّبُ الْعَقْل مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ مِنْهُ لِذَاتِهِ وَالصُّغْرَى مِنْ الْوِجْدَانِيَّاتِ أَوْ الْمُشَاهَدَاتِ وَدَلِيلُ الْكُبْرَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُفْسِدِ وَنَجَاسَتُهَا لِبَلِّهَا بِالْخَمْرِ إنْ تَحَقَّقَتْ فَحُرْمَتُهَا لِعَارِضٍ لَا لِذَاتِهَا وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ وَهَذَا عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ بِلَادِ النَّصَارَى وَنَحْوِهَا وَأَمَّا مَا يَأْتِي مِنْ بِلَادِ التَّكْرُورِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مِنْ مُحَقَّقِ السَّلَامَةِ مِنْ هَذَا عَلَى أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ جَازِمٌ بِطَهَارَةِ دُخَانِ النَّجِسِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَالشَّيْخُ خ فِي ضبح وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ تَرْجِيحًا وَلِذَا تَعَقَّبَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمُخْتَصَرِ قَوْلَهُ فِيهِ أَنَّ دُخَانَ النَّجِسِ نَجِسٌ بِكَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ ثُمَّ إنَّ الْحُكْمَ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى مَا بُلَّ مِنْ الْعُشْبِ وَنَحْوِهِ بِالْخَمْرِ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ فِي الْخَمْرِ إذَا جَفَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ بُلَّ تَحَلَّلَ مِنْهَا مَا يُسْكِرُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ إذَا بُلَّ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ مَا لَا يُسْكِرُ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ كَمَا فِي الْخَمْرِ إذَا تَحَجَّرَ وَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ بُلَّ لَمْ يُسْكِرْ
(1/217)
 
 
صَمْتُهُ وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالْمُسْكِرَاتُ فَلَا تَكَادُ تَجِدُ أَحَدًا مِمَّنْ يَشْرَبُهَا إلَّا وَهُوَ نَشْوَانُ مَسْرُورٌ بَعِيدٌ عَنْ صُدُورِ الْبُكَاءِ وَالصَّمْتِ وَثَانِيهمَا أَنَّا نَجِدُ شُرَّابَ الْخَمْرِ تَكْثُرُ عَرْبَدَتُهُمْ وَوُثُوبُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِالسِّلَاحِ وَيَهْجُمُونَ عَلَى الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهَا حَالَةَ الصَّحْوِ وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْتِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ:
وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ
وَلَا نَجِدُ أَكَلَةَ الْحَشِيشَةِ إذَا اجْتَمَعُوا يَجْرِي بَيْنَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ مِنْ الْعَوَائِدِ مَا يُسْمَعُ عَنْ شُرَّابِ الْخَمْرِ بَلْ هُمْ هَمَدَةٌ سُكُوتٌ مَسْبُوتِينَ لَوْ أَخَذْت قُمَاشَهُمْ أَوْ سَبَبْتَهُمْ لَمْ تَجِدْ فِيهِمْ قُوَّةَ الْبَطْشِ الَّتِي تَجِدُهَا فِي شَرَبَةِ الْخَمْرِ بَلْ هُمْ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبَهَائِمِ وَلِذَلِكَ إنَّ الْقَتْلَى يُوجَدُونَ كَثِيرًا مِنْ شُرَّابِ الْخَمْرِ وَلَا يُوجَدُونَ مَعَ أَكَلَةِ الْحَشِيشَةِ فَلِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ الْمُفْسِدَاتِ لَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَلَا أُوجِبُ فِيهَا الْحَدَّ وَلَا أُبْطِلُ بِهَا الصَّلَاةَ بَلْ التَّعْزِيرُ الزَّاجِرُ عَنْ مُلَابِسِهَا
(تَنْبِيهٌ) تَنْفَرِدُ الْمُسْكِرَاتُ عَنْ الْمُرْقِدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ الْحَدِّ وَالتَّنْجِيسِ وَتَحْرِيمِ الْيَسِيرِ وَالْمُرْقِدَاتُ وَالْمُفْسِدَاتُ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا نَجَاسَةَ فَمَنْ صَلَّى بِالْبَنْجِ مَعَهُ أَوْ الْأَفْيُونِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا وَيَجُوزُ تَنَاوُلُ الْيَسِيرِ مِنْهَا فَمَنْ تَنَاوَلَ حَبَّةً مِنْ الْأَفْيُونِ أَوْ الْبَنْجِ أَوْ السَّيْكَرَانِ جَازَ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْرًا يَصِلُ إلَى التَّأْثِيرِ فِي الْعَقْلِ أَوْ الْحَوَاسِّ أَمَّا دُونَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَحْكَامُ وَقَعَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْن الْمُسْكِرَاتِ وَالْآخَرِينَ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاضْبُطْهُ فَعَلَيْهِ تَتَخَرَّجُ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ
 
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفَ التَّكْلِيفِ) (دُونَ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مَعَ التَّكْلِيفِ) هَذَا الْمَوْضِعُ الْتَبَسَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَاخْتَلَطَتْ عَلَيْهِمْ الْقَاعِدَتَانِ فَوَرَدَتْ إشْكَالَاتٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
فِي كَوْنِ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مُخَاطَبُونَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوَاهِي فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ فَلَا يُخَاطَبُونَ بِهَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَبِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْفُرُوعِ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا هَاهُنَا بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ خَاصَّةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَإِنَّهُ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ وَصَرْفُ الْمَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَرَفٍ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ فِي النَّفَقَاتِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هُوَ التَّبْذِيرُ وَفَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ التَّبْذِيرَ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ فَإِذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ فِي حَقِّهِ وَلَوْ مُبَاحًا فَلَيْسَ بِسَرَفٍ قَالَ مُجَاهِدٌ لَوْ أَنْفَقَ الرَّجُلُ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ ذَهَبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ سَرَفًا وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ سَرَفًا وَحُرْمَتُهُ لِضَرَرِهِ إنْ تَحَقَّقَ فَهِيَ لِأَمْرٍ عَارِضٍ لَا لِذَاتِهِ وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ وَدَعْوَى أَنَّهُ مُضِرٌّ مُطْلَقًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا اهـ مَا قَالَهُ عج بِاخْتِصَارٍ كَثِيرٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُفَتِّرَ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حَرَامٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ اهـ كَلَامُ ابْنِ حَمْدُونٍ بِاخْتِصَارٍ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْعُشْبَةِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ مُطْلَقًا فَيَكُونُ نَجِسًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَحُرْمَةُ قَلِيلِهِ كَكَثِيرِهِ أَوْ مِنْ الْمُفَتِّرَاتِ مُطْلَقًا وَأَنَّهَا تُحْدِثُ اسْتِرْخَاءَ الْأَطْرَافِ وَتُخَدِّرُهَا وَصَيْرُورَتُهَا إلَى وَهَنٍ وَانْكِسَارٍ كَالْحَشِيشَةِ بِحَيْثُ تُشَارِكُ أَوَّلِيَّةَ الْخَمْرِ فِي نَشْوَتِهِ فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْقَدْرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ اتِّفَاقًا وَفِي حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي التَّأْثِيرِ إذْ الْغَالِبُ وُقُوعُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنْهَا وَحِفْظُ الْعُقُولِ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَوْ إبَاحَتِهِ نَظَرًا لِكَوْنِ الْعِلَّةِ تَدُورُ مَعَ الْمَعْلُولِ وُجُودًا وَعَدَمًا قَوْلَانِ أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَلَا مِنْ الْمُفَتِّرَاتِ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ فَهَلْ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ قَلِيلِهَا كَكَثِيرِهَا لِأَنَّهَا سَرَفٌ وَضَرَرٌ وَنَجَاسَةٌ لِكَوْنِهَا تُبَلُّ بِالْخَمْرِ أَوْ تُبَاحُ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا مِمَّا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ فَهِيَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لِلْحَدِيثِ الْمَارِّ فَالْأَقْوَالُ فِيهَا خَمْسَةٌ اخْتَارَ ابْنُ حَمْدُونٍ مِنْهَا الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مِنْ الْمُفَتِّرَاتِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ قَلِيلِهَا كَكَثِيرِهَا لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ حُكِيَ الْخِلَافُ فِي إبَاحَةِ قَلِيلِهَا وَاخْتَارَ تَحْرِيمَهُ كَكَثِيرِهَا مَعَ أَنَّ مُفَادَ قَوْلِهِ عَنْ ضَبْحٍ بَعْدَمَا ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُرْقِدَاتِ وَالْمُفَتِّرَاتِ بِمِثْلِ مَا قَدَّمْته عَنْ الْأَصْلِ مَا نَصُّهُ وَيَنْبَنِي عَلَى الْإِسْكَارِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ دُونَ الْأَخِيرَيْنِ الْحَدُّ وَالنَّجَاسَةُ وَتَحْرِيمُ الْقَلِيلِ اهـ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ مِنْ الْمُرْقِدَاتِ كَالْبَنْجِ وَالْمُفَتِّرَاتِ كَالْأَفْيُونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا مِثْلَهُ عَنْ الْأَصْلِ فَلَمْ يُحْكَ الْخِلَافُ فِي إبَاحَةِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّرْقِيدِ كَالْبَنْجِ وَلَا مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّفْتِيرِ كَالْأَفْيُونِ فَكَيْفَ يُحْكَى فِي إبَاحَةِ مَا هُوَ فَرْعٌ فِي التَّفْتِيرِ كَهَذِهِ الْعُشْبَةِ وَيُرَجَّحُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهَا كَكَثِيرِهَا
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَدْرِ الْمُفَتِّرِ مِنْهَا فَقَطْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَتِّرَ وَإِنْ اقْتَرَنَ فِي الذِّكْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالسُّكْرِ الْمُتَقَرِّرِ عِنْدَنَا تَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنْ يُعْطَى الْمُقَارِنُ الْمَجْهُولِ الْحُكْمِ حُكْمَ مُقَارِنِهِ الْمَعْلُومِ إلَّا أَنَّ إعْطَاءَ حُكْمِ الْمُسْكِرِ لِلْمُفَتِّرِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا تَحَقَّقَ فِيهِ التَّفْتِيرُ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُسْكِرِ قِيلَ لِنَجَاسَتِهِ وَكَوْنِهِ ذَرِيعَةً لِاسْتِعْمَالِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْهُ وَقِيلَ لِنَجَاسَتِهِ فَقَطْ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ قَلِيلُ مَا لَيْسَ
(1/218)
 
 
بِسَبَبِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ قَالُوا لَوْ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ لَوَجَبَتْ أَمَّا حَالَةُ الْكُفْرِ.
وَهُوَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا حِينَئِذٍ أَوْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِهَا بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ أَنْ نَقُولَ نَخْتَارُ أَنَّهَا وَجَبَتْ حَالَةَ الْكُفْرِ وَقَوْلُهُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ قُلْنَا مُسَلَّمٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ حُصُولِ التَّكْلِيفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَهَذَا الزَّمَانُ لِأَنَّهُ عِنْدَنَا ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ لَا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ لُزُومُ الصِّحَّةِ أَنْ لَوْ كَانَ هَذَا الزَّمَانُ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ حَتَّى نَقُولَ يَصِحُّ أَمَّا مَا لَا يُكَلَّفُ بِهِ كَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالصِّحَّةِ فَإِنَّ وَصْفَ الصِّحَّةِ تَابِعٌ لِلْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ فَحَيْثُ لَا إذْنَ لَا صِحَّةَ وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ دُونَ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ أَنْ يُزِيلَهُ وَيُبَدِّلَهُ بِالْإِيمَانِ وَيَفْعَلَ الصَّلَاةَ فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ لَا فِي زَمَنِ الْكُفْرِ وَصَارَ زَمَنُ الْكُفْرِ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ وَزَمَنُ الْإِسْلَامِ هُوَ زَمَنُ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَتَصَوَّرْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ الزَّمَانَ قَدْ يَكُونُ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ وَهَذَا الزَّمَانُ بِخِلَافِ زَمَنِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ زَمَنٌ هُوَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالصَّوْمِ وَإِيقَاعِهِ مَعًا وَكَذَلِكَ الْقَامَةُ لِلظُّهْرِ فَظَهَرَ بِهَذَا الْفَرْعِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَانْدَفَعَ بِسَبَبِ مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ السُّؤَالُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ وَظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) الْمُحْدِثُ مَأْمُورٌ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ وَمُخَاطَبٌ بِهَا فِي زَمَنِ الْحَدَثِ إجْمَاعًا وَالْكُفْرُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ أَمَّا زَمَنُ الْحَدَثِ فَلَا ثُمَّ إنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الصَّلَاةُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُحْدِثٌ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ فِي زَمَنِ الْحَدَثِ أَنْ يُزِيلَ الْحَدَثَ وَيُبَدِّلَهُ بِالطَّهَارَةِ فَإِذَا وُجِدَ زَمَنُ الطَّهَارَةِ فَتَوَقَّعَ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ فَزَمَنُ الطَّهَارَةِ هُوَ زَمَنُ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ دُونَ زَمَنِ الْحَدَثِ وَزَمَنُ الْحَدَثِ هُوَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ فَقَدْ تَصَوَّرْنَا أَيْضًا الزَّمَانَ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ دُونَ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَأَمَّا الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ لَهُمَا فَقَدْ تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ بِرَمَضَانَ وَغَيْرِهِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) الدَّهْرِيُّ مُكَلَّفٌ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَعَ أَنَّهُ جَاحِدٌ لِلصَّانِعِ وَمَعَ جَحْدِهِ لِلصَّانِعِ يَتَعَذَّرُ مِنْهُ تَصْدِيقُ الرُّسُلِ فَزَمَنُ جَحْدِهِ لِلصَّانِعِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ دُونَ إيقَاعِ التَّصْدِيقِ لِتَعَذُّرِهِ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ فِي زَمَنِ الْجَهْلِ بِالصَّانِعِ أَنْ يُزِيلَ هَذَا الْجَهْلَ وَيُبَدِّلَهُ بِعِنْدِهِ وَهُوَ الْعِرْفَانُ فَإِذَا حَصَلَ الْعِرْفَانُ بِالصَّانِعِ فَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ مُكَلَّفٌ بِإِيقَاعِ التَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِنَجِسٍ كَغَيْرِ الْخَمْرِ وَالْمُفَتِّرِ لَيْسَ بِنَجِسٍ اتِّفَاقًا فَكَيْفَ يُقَالُ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وَكَوْنُ اسْتِعْمَالِ قَلِيلِ الْمُفَتِّرِ ذَرِيعَةً لِاسْتِعْمَالِ الْقَدْرِ الْمُفَتِّرِ مِنْهُ لَا يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ كَوْنِ اسْتِعْمَالِ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ ذَرِيعَةً وَاسْتِعْمَالِ كَثِيرِهِ فِي اقْتِضَائِهِ التَّحْرِيمَ عَلَى أَنَّهُ فِي الْمُسْكِرِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ جُزْءَ عِلَّةٍ لَا عِلَّةً تَامَّةً وَأَيْضًا سَيَأْتِي عَنْ اللَّكْنَوِيِّ أَنَّ التَّفْتِيرَ هُنَا لَيْسَ هُوَ التَّفْتِيرُ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِعْمَالُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ ذَرِيعَةً فِيمَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَافْهَمْ
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْعُشْبَةِ مُفَتِّرَةً بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ لَيْسَ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا زُرِعَ مِنْهَا فِي نَحْوِ وَزَّانَ مِنْ أَعْمَالِ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى وَنَحْوِ الْبُخَارِيّ وَنَحْوِ الْبَاطِنَةِ أَمَّا مَا زُرِعَ مِنْهَا فِي الْأَنَاضُولِ وَنَحْوِ الْيَمَنِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّفْتِيرُ أَصْلًا كَمَا أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَنْ يَعْتَمِدُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى أَنَّ الْعِيَانَ شَاهِدُ صِدْقٍ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّا نَجِدُ الصَّغِيرَ الَّذِي فِي الْخَامِسَةِ إذَا اسْتَعْمَلَ الْكَثِيرَ مِمَّا زُرِعَ مِنْهَا فِي نَحْوِ الْيَمَنِ وَهُوَ لَمْ يَعْتَدْهُ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ أَدْنَى تَفْتِيرٍ فَأُلْحِقَ مَا فِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ لِلْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْعُشْبَةَ فِي ذَاتِهَا مُبَاحَةٌ وَيُعْرَضُ لَهَا حُكْمُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عَلَى الْأَظْهَرِ كَالْبُنِّ وَكَثْرَتُهَا لَهْوٌ اهـ بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ نَعَمْ قَالَ اللَّكْنَوِيُّ إنَّ هَاهُنَا اخْتِلَافَيْنِ الْأَوَّلُ فِي الْحُرْمَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَالثَّانِي فِي الْكَرَاهَةِ وَعَدَمِهَا وَالْحَقُّ فِي الِاخْتِلَافِ الْأَوَّلِ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِدَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي الِاخْتِلَافِ الثَّانِي الْحَقُّ فِي جَانِبِ الذَّاهِبِينَ إلَى الْكَرَاهَةِ لِوُجُودِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ النَّارِ وَالْأَشْرَارِ وَاسْتِعْمَالِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ أَرْبَابُ الشِّقَاقِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَلِإِيرَاثِهِ الرِّيح الْكَرِيهَة غَالِبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلِّيًّا اهـ.
الْمُرَادُ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ لِلَّقَانِيِّ آخِرَ رِسَالَتِهِ تَرْوِيحِ الْجَنَانِ فِي تَشْرِيحِ حُكْمِ شُرْبِ الدُّخَّانِ مَا نَصُّهُ حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ فِي حُرْمَةِ الدُّخَانِ وَكَرَاهَتِهِ وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ الْكَرَاهَةُ وَمَعَ وُجُودِ عِدَّةٍ مِنْ الْعَوَارِضِ لَا يَنْتَهِي إلَى دَرَجَةِ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْقَهْوَةِ كَمَا تَوَهَّمَ الْبَعْضُ لِأَنَّ شُبْهَةَ أَهْلِ الْعَذَابِ لَا تَخْلُو عَنْ كَرَاهَةٍ بِخِلَافِ الْقَهْوَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا هَذَا التَّشَبُّهُ وَأَيْضًا فِيهَا مَنَافِعُ بِلَا شَكٍّ بِخِلَافِ الدُّخَانِ اهـ اُنْظُرْهَا إنْ شِئْت فَمِنْ هُنَا مَا قَدَّمْته عَنْ الشَّيْخِ يُوسُفَ الصَّفْتِيِّ مِنْ أَنَّ شُرْبَ الدُّخَانِ مَكْرُوهٌ عَلَى الْأَظْهَرِ لَا يُقَالُ إنَّ كَلَامَ ابْنِ حَمْدُونٍ يُفِيدُ وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَثِيرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ مِنْهُ كَالْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمَغَارِبَةِ وَأَكْثَرِ الْمَشَارِقَةِ وَبَعْدَ الْإِجْمَاعِ كَيْفَ يَكُونُ الْحَقُّ أَوْ الْأَظْهَرُ الْقَوْل بِكَرَاهَةِ الدُّخَانِ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مِنْ الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ قُلْت قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُ الْحَيِّ اللَّكْنَوِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ الْإِجْمَاعُ الَّذِي هُوَ إحْدَى الْحُجَجُ الْأَرْبَعُ هُوَ إجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِيِّينَ وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ مُنْقَطِعٌ مِنْ رَأْسِ الْأَرْبَعِمِائَةِ وَقِيلَ مِنْ رَأْسِ الْخَمْسِمِائَةِ فَأَيْنَ وُجُودُ الْمُجْتَهِدِينَ حِينَ حُدُوثِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ أَمَّا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِهِ فَهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ حَتَّى يَجِبَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَصْحَابِ
(1/219)
 
 
فَالزَّمَنُ الثَّانِي فِي الْكَافِرِ وَالْمُحْدِثِ وَالدَّهْرِيِّ هُوَ زَمَنُ التَّكْلِيفِ وَإِيقَاعُ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَزَمَنُ الْكُفْرِ وَالْحَدَثِ وَجَحْدُ الصَّانِعِ هُوَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ دُونَ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالسِّرَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْك الْجَوَابُ عَنْ أَسْئِلَةِ الْخُصُومِ وَشُبُهَاتِهِمْ وَهُوَ فَرْقٌ لَطِيفٌ شَرِيفٌ.
 
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَقَطْ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلْإِيقَاعِ) وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ وَالْوُجُوبِ فَيَجْتَمِعُ الطَّرَفَانِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَيَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ بِذِكْرِ سَبْعِ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ كَالْقَامَةِ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ لِلظُّهْرِ هِيَ ظَرْفٌ لِلْمُكَلَّفِ بِهِ لِوُقُوعِهِ فِيهَا وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَبَبُ التَّكْلِيفِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ إنَّمَا هُوَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهَا فَقَطْ لَكَانَ مَنْ بَلَغَ بَعْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْ السَّبَبِ وَزَوَالُ الْمَانِعِ وَاجْتِمَاعُ الشَّرَائِطِ بَعْدَ زَوَالِ الْأَسْبَابِ لَا تُفِيدُ شَيْئًا بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ الْبُلُوغَ إذَا جَاءَ بَعْدَهَا لَا يُحَقِّقُ وُجُوبًا فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ أَنْ يُصَادِفَ الْبُلُوغُ وَنَحْوُهُ سَبَبًا بَعْدَهُ فَوَجَبَ الظُّهْرُ عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي الْقَامَةِ بِالْجُزْءِ الَّذِي صَادَفَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ فَظَهَرَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ مُسَاوٍ لِلزَّوَالِ فِي السَّبَبِيَّةِ وَأَنَّ مَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ أَنَّ السَّبَبَ لِلظُّهْرِ إنَّمَا هُوَ الزَّوَالُ فَقَطْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهَا كُلُّهَا ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ وَجَمِيعُ أَجْزَائِهَا ظُرُوفٌ وَأَسْبَابٌ لَهُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) أَيَّامُ الْأَضَاحِيّ الثَّلَاثَةُ أَوْ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظُرُوفٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ لِوُجُودِهِ فِيهَا وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبٌ لِلْأَمْرِ أَيْضًا بِالْأُضْحِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَجَدَّدَ إسْلَامُهُ مِنْ الْكُفَّارِ أَوْ بُلُوغُهُ مِنْ الصِّبْيَانِ يَتَجَدَّدُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْأُضْحِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَتَقَ مِنْ الْعَبِيدِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ وَحُصُولُ الشَّرْطِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ الْجُزْءُ الْكَائِنُ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَتَكُونُ كُلُّهَا ظُرُوفًا وَأَسْبَابًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا مُخْتَلِفُونَ فَانْتَفَى الْإِجْمَاعُ رَأْسًا اهـ بِلَفْظِهِ.
ثُمَّ قَالَ اللَّكْنَوِيُّ وَرَأَيْت فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ لِلْعَلَّامَةِ ابْنِ عَابْدِينَ مَا نَصُّهُ (مَسْأَلَةٌ) أَفْتَى أَئِمَّةٌ أَعْلَامٌ بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الدُّخَانِ الْمَشْهُورِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا تَقْلِيدُهُمْ وَإِفْتَاءُ النَّاسِ بِحُرْمَتِهِ أَمْ لَا فَلْنُبَيِّنْ ذَلِكَ بَعْدَمَا حَقَّقَهُ أَئِمَّةُ أُصُولِ الدِّينِ قَالَ شَارِحُ مِنْهَاجِ الْوُصُولِ إلَى عِلْمِ الْأُصُولِ لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عُمَر الْبَيْضَاوِيِّ وَيَجُوزُ الْإِفْتَاءُ لِلْمُجْتَهِدِينَ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا الْمُقَلِّدُ الْمُجْتَهِدُ وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ الْمُجْتَهِدِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي الْبَيْضَاوِيِّ الْجَوَازُ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَتْوَى إذْ لَيْسَ فِي زَمَانِهِ مُجْتَهِدٌ اهـ وَكَلَامُ الْإِمَامِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مُجْتَهِدٌ فَكَيْفَ زَمَانُنَا الْآنَ فَإِنَّ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ لَا تَكَادُ تُوجَدُ فَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِ التُّنْبَاكِ إنْ كَانَ فَتْوَاهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْنَا تَقْلِيدُهُمْ فَاجْتِهَادُهُمْ لَيْسَ بِثَابِتٍ فَإِنْ كَانَ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ فَإِمَّا عَنْ مُجْتَهِدٍ آخَرَ حَتَّى سَمِعُوا مَنْ فِيهِ مُشَافَهَةٌ فَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِثَابِتٍ وَإِمَّا مِنْ مُجْتَهِدٍ ثَبَتَ إفْتَاؤُهُ فِي الْكُتُبِ فَهُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ إذْ لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَمْ يَنْقُلُوا عَنْ دَفْتَرٍ فِي إفْتَائِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَتِهِ فَكَيْفَ سَاغَ لَهُمْ الْفَتْوَى وَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْنَا تَقْلِيدُهُمْ وَالْحَقُّ فِي إفْتَاءِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْأُصُولِ وَوَصَفَهُمَا بِأَنَّهُمَا نَافِعَانِ فِي الشَّرْعِ
الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَالْمَأْخَذُ الشَّرْعِيُّ آيَاتٌ
الْأُولَى قَوْله تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَاللَّامُ لِلنَّفْعِ فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمُنْتَفَعِ بِهِ مَأْذُونٌ بِهِ شَرْعًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ
الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] وَالزِّينَةُ تَدُلُّ عَلَى الِانْتِفَاعِ
الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] الْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَطَابَاتُ طَبْعًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي حِلَّ الْمَنَافِعِ بِأَسْرِهَا
وَالثَّانِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ التَّحْرِيمُ وَالْمَنْعُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَأَيْضًا ضَبَطَ أَهْلُ الْفِقْهِ حُرْمَةَ التَّنَاوُلِ إمَّا بِالْإِسْكَارِ كَالْبَنْجِ وَإِمَّا بِالْإِضْرَارِ بِالْبَدَنِ كَالتُّرَابِ وَالتِّرْيَاقِ أَوْ بِالِاسْتِقْذَارِ كَالْمُخَاطِ وَالْبُزَاقِ وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا كَانَ طَاهِرًا وَبِالْجُمْلَةِ إنْ ثَبَتَ فِي هَذَا الدُّخَانِ أَضْرَارٌ صُرِفَ عَنْ الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ الْإِفْتَاءُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَضْرَارُهُ فَالْأَصْلُ الْحِلُّ مَعَ أَنَّ الْإِفْتَاءَ بِحِلِّهِ فِيهِ دَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ مُبْتَلَوْنَ بِتَنَاوُلِهِ فَتَحْلِيلُهُ أَيْسَرُ مِنْ تَحْرِيمِهِ «وَمَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا» وَأَمَّا كَوْنُهُ بِدْعَةً فَلَا ضَرَرَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ فِي التَّنَاوُلِ لَا فِي الدِّينِ فَإِثْبَاتُ حُرْمَتِهِ أَمْرٌ عَسِيرٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لَهُ نَصِيرُ نَعَمْ لَوْ أَضَرَّ بِبَعْضِ الطَّبَائِعِ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَوْ نَفَعَ بِبَعْضٍ وَقَصَدَ التَّدَاوِيَ فَهُوَ مَرْغُوبٌ هَذَا مَا سَنَحَ فِي الْخَاطِرِ إظْهَارًا لِلصَّوَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَنُّتٍ وَلَا عِنَادٍ فِي الْجَوَابِ كَذَا أَجَابَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ حَيْدَرٍ الْكُرْدِيُّ الْجَزَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اهـ كَلَامُ ابْنِ عَابِدِينَ
(1/220)
 
 
لِلْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ لِمَنْ اسْتَقْبَلَهُ فَمَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ زَالَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَيْضُ أَوْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ فَيَلْزَمُهُ لِلْيَوْمِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْيَوْمِ فَلَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلتَّكْلِيفِ بَلْ ظُرُوفًا لَهُ بِدَلِيلِ حُصُولِ التَّكْلِيفِ فِيهَا وَعَدَمُ التَّكْلِيفِ فِيهَا عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَوْ أَسْلَمَ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَجْزَاءِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَجْزَاءِ شَهْرِ الصَّوْمِ أَنَّ مُطْلَقَ الْجُزْءِ كَيْفَ كَانَ وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ زَمَنٍ يَسَعُ إيقَاعُ رَكْعَةٍ سَبَبُ التَّكْلِيفِ فَإِنْ نَقَصَ عَنْ زَمَنِ رَكْعَةِ فَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ وَعِنْدَ غَيْرِهِ يَجِبُ بِأَقَلَّ مِنْ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَيُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا أَجْزَاءُ شَهْرِ الصَّوْمِ فَلَا بُدَّ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا كَامِلًا فَهُوَ وِزَانُ زَمَنٍ يَسَعُ رَكْعَةً عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ فَنَذْكُرُ ثَلَاثًا أُخَرَ مِمَّا هُوَ ظَرْفٌ فَقَطْ.
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) قَضَاءُ رَمَضَانَ يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا إلَى شَعْبَانَ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ كَمَا تَجِبُ الظُّهْرُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مِنْ أَوَّلِ الْقَامَةِ إلَى آخِرِهَا غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُورَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ زَالَ عُذْرُهُ فِيهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِي وُجُوبِ هَذَا الصَّوْمِ أَجْزَاءُ رَمَضَانَ السَّابِقِ فَكُلُّ يَوْمٍ هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ الشُّهُورِ إذَا لَمْ يَصُمْ فِيهِ وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ هُوَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فَقَطْ بَلْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ سَبَبٌ لِجَعْلِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَظَرْفًا لَهُ فَيَصِيرُ سَبَبُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْإِيقَاعِ فِيهِ وَتَفْوِيتُهُ سَبَبًا لِلصَّوْمِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ الشُّهُورِ فَقَطْ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَقَلَّ مَنْ يَتَفَطَّنُ لَهُ بَلْ يَعْتَقِدُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ سَبَبَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ هُوَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فَقَطْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ سَبَبٌ لِسَبَبِيَّةِ ثَلَاثِينَ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ تَرْكًا إنْ وَقَعَتْ أَوْ بَعْضُهَا وَسَبَبٌ لِوُجُوبِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مُسَبَّبَاتٌ فَقَطْ لَا أَسْبَابٌ فَصَارَتْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ يَتَعَلَّقُ بِهَا سِتُّونَ يَوْمًا ثَلَاثُونَ يَوْمًا مُسَبَّبَاتُ صَوْمٍ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا أَسْبَابُ تُرُوكٍ هَذَا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَظَهَرَ أَنَّ شُهُورَ الْقَضَاءِ ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ لَا أَسْبَابٌ لَهُ (الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ)
جَمِيعُ الْعُمْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِمَنْعِ مَنْ يَعْتَادُ كَثْرَةَ شُرْبِ الدُّخَانِ كَأَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِوُجُودِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ فِي فَمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ تَتَأَذَّى مِنْهَا اهـ كَلَامُ اللَّكْنَوِيِّ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ شُرْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مُخْتَارِهِ فَيُدْخِلُ عَلَيْهِمْ شَغَبًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَحِيرَةً فِي دِينِهِمْ إذْ مِنْ شَرْطِ التَّغْيِيرِ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ قَالَ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ مَا نَصُّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَإِنَّمَا يُغَيِّرُ مَا اُجْتُمِعَ عَلَى إحْدَاثِهِ وَإِنْكَارِهِ اهـ وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي مِنْهَاجِهِ أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا إنْكَارَ فِيهِ وَلَيْسَ لِلْمُفْتِي وَلَا لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصَّ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَنَحْوُ هَذَا فِي جَامِعِ الذَّخِيرَةِ لِلْقَرَافِيِّ وَنَحْوِهِ فِي قَوَاعِدِ عِزِّ الدِّينِ قَالَ شَيْخُ الشُّيُوخِ ابْنِ لُبٍّ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي كَرَاهِيَةٍ لَا فِي تَحْرِيمٍ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ وَرُبَّمَا يُؤَوَّلُ الْإِنْكَارُ إلَى أَمْرٍ يَحْرُمُ اهـ وَقَدْ نَقَلَ الْبُرْزُلِيُّ فِي نَوَازِلِهِ كَلَامَ ابْنِ لُبٍّ مَعْزُوًّا لِبَعْضٍ الشُّيُوخِ وَرَشَّحَهُ أَفَادَهُ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا تَنْظُرْ لِمَنْ قَالَ بَلْ لَمَّا قَالَ كَمَا هُوَ دَأْبُ الرِّجَالِ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
أَفَادَ الْحَطَّابُ أَنَّ ظُهُورَ قَهْوَةِ الْبُنِّ كَانَ فِي الْقَرْنِ الْعَاشِرِ وَقَبْلَهُ بِيَسِيرٍ وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّ أَوَّلَ مَنْ شَرِبَهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِشُرْبِهَا لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى السَّهَرِ فِي الْعِبَادَةِ الشَّيْخُ الْوَلِيُّ الصَّالِحُ الْمُتَّفَقُ عَلَى وِلَايَتِهِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ الشَّاذِلِيُّ الْيَمَنِيّ لَا الْمَغْرِبِيُّ وَنَقَلَ الْأُجْهُورِيُّ عَنْ الْجُنَيْدِ أَنَّ الْبُنَّ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ غَرَسَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ تُسَمَّى شَجَرَةَ السُّلْوَانِ فَلَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ هَبَطَ بِهَا مَعَهُ مِنْ الْجَنَّةِ لِلسُّلْوَانِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَرَمَاهَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَهِيَ أَرْضُ زَيْلَعِ الْحَبَشَةِ وَقَالَ ابْنُ سِينَا نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ الْقَامُوسِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ أَنَّ الْبُنَّ الْمَعْلُومَ فِي بَلَدِ زَيْلَعِ الْحَبَشَةِ هُوَ الْبَنْدُ بِزِيَادَةِ الدَّالِ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا فَمِنْ مُتَغَالٍ فِيهَا يَرَى أَنَّ شُرْبَهَا قُرْبَةٌ وَمِنْ غَالٍ يَرَى أَنَّ شُرْبَهَا مُسْكِرٌ كَالْخَمْرِ وَالْحَقُّ أَنَّهَا فِي ذَاتِهَا لَا إسْكَارَ فِيهَا وَإِنَّمَا فِيهَا تَنْشِيطٌ لِلنَّفْسِ وَيَحْصُلُ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا ضَرَاوَةٌ تُؤَثِّرُ فِي الْبَدَنِ عِنْدَ تَرْكِهَا كَمَنْ اعْتَادَ اللَّحْمَ بِالزَّعْفَرَانِ وَالْمُفْرَدَاتِ فَيَتَأَثَّرُ عِنْدَ تَرْكِهِ وَيَحْصُلُ لَهُ انْشِرَاحٌ بِاسْتِعْمَالِهِ غَيْرَ أَنَّهَا تَعْرِضُ لَهَا الْحُرْمَةُ لِأُمُورٍ ذَكَرَهَا الْحَطَّابُ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ وَاللَّقَانِيِّ فِي شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ ابْنِ حَمْدُونٍ وَفِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وَزُبْدَةُ مَا فِي الْحَطَّابِ أَنَّهَا فِي ذَاتِهَا مُبَاحَةٌ وَيَعْرِضُ لَهَا حُكْمُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا اهـ وَفِي تَرْوِيحِ الْجَنَانِ لِلَّكْنَوِيِّ وَالْحَقُّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقَهْوَةِ هُوَ الْحِلُّ كَشُرْبِ الدُّخَانِ إلَّا أَنَّ حِلَّ اسْتِعْمَالِهَا خَالٍ عَنْ الْكَرَاهَةِ أَيْضًا بِخِلَافِ حِلِّ شُرْبِ الدُّخَانِ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ لِلَّقَانِيِّ مَا نَصُّهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْإِسْكَارُ وَلَا فَسَادُ الْعَقْلِ فِي الْقَهْوَةِ بِنَفْسِهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْفَوَائِدِ الْبَدَنِيَّةِ فَيُبَاحُ تَنَاوُلُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقَارَنًا بِالْمُحَرَّمَاتِ الْخَارِجِيَّةِ كَالْإِدَارَةِ عَلَى هَيْئَةِ الْفَسَقَةِ أَوْ تَنَاوُلِهَا فِي الْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ)
الأتاي عُشْبٌ يُزْرَعُ بِأَرْضِ الصِّينِ وَوَرَقُهُ وَنَبَاتُهُ كَالْقَصَبِ وَيُحْصَدُ
(1/221)
 
 
ظَرْفٌ لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ النَّذْرِ بَلْ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ غَيْرِهِ وَسَبَبُ لُزُومِ النَّذْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِالْتِزَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
(الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) شُهُورُ الْعِدَدِ ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالْعِدَّةِ لِوُجُودِهِ فِيهَا وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِالْعِدَّةِ بَلْ سَبَبُ لُزُومِ الْعِدَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَفَاةِ أَوْ الطَّلَاقِ وَهَذِهِ الشُّهُورُ تُشْبِهُ شُهُورَ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّبَبِيَّةِ وَتُفَارِقُهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ شُهُورَ الْعِدَّةِ التَّكْلِيفُ فِيهَا مُضَيَّقٌ وَالْوُجُوبُ فِي شُهُورِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُوَسَّعٌ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ وَإِذَا تَقَرَّرَتْ مَسَائِلُ الْقِسْمَيْنِ فَاذْكُرْ مَسْأَلَةً مُرَكَّبَةً مِنْ الْقِسْمَيْنِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فَأَقُولُ
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) زَكَاةُ الْفِطْرِ اُخْتُلِفَ فِيهَا مَتَى تَجِبُ قِيلَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ أَيَّامِ رَمَضَانَ وَقِيلَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَقِيلَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْهُ وَقِيلَ تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ أَيَّامِ رَمَضَانَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مِنْ الْغُرُوبِ إلَى الْغُرُوبِ مَعْنَاهُ إنَّهُ لَا يَأْثَمُ إلَّا بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْمَنْقُولُ عَنْ صَاحِبِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ وَقَدْ عَسُرَ الْفَرْقُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ يَقُولُ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الصَّوْمِ سَبَبٌ وَمَا بَعْدَهُ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ وَالْقَائِلُ الرَّابِعُ يَقُولُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْغُرُوبِ إلَى الْغُرُوبِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ وَسَبَبٌ لَهُ فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي التَّوْسِعَةِ لَكِنْ تَوْسِعَةُ الْأَوَّلِ كَتَوْسِعَةِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَتَوْسِعَةُ الثَّانِي كَتَوْسِعَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوْسِعَتَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ وَأَنَّ التَّوْسِعَةَ قَدْ تَسْتَمِرُّ فِيهَا السَّبَبِيَّةُ وَقَدْ لَا تَسْتَمِرُّ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَنْ بَلَغَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْ عَتَقَ أَوْ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَاَلَّذِي يَبْلُغُ فِي أَثْنَاءِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَلَا يُتَّجَهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَمَنْ بَلَغَ فِي شُهُورِ قَضَاءِ الصَّوْمِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ إلَّا مَنْ عَلِمَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَوَّلُ حَصَادِهِ لِلْمَلِكِ وَهُوَ أَعْلَاهُ الثَّانِي لِلْعُمَّالِ وَالْخُدَّامِ وَالثَّالِثُ لِسَائِرِ سُكَّانِ الْبَلْدَةِ وَيَجْلِبُهُ التُّجَّارُ لِسَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَهَذَا النَّوْعُ يَكُونُ ضَعِيفًا مِنْ حَيْثُ الْخَاصِّيَّةُ وَالتَّأْثِيرُ وَلَهُ مَنَافِعُ وَخَوَاصُّ أَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِيهَا رِسَالَةً وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَحَرَّمَهُ بَعْضُ قُضَاةِ الْعَصْرِ وَأَلَّفَ فِيهِ تَأْلِيفًا سَمَّاهُ رَقَمَ الْآي فِي تَحْرِيمِ الْأَتَاي وَسُئِلَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ فَأَجَابَ
أَرَى شُرْبَ الْأَتَايْ الْيَوْمَ جَرْحًا ... فَلَا تَبْقَى إذًا مَعَهُ الْعَدَالَهْ
فَلَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يُكْرَهْ وَلَكِنْ ... رَأَيْنَا كُلَّ ذِي سَفَهٍ عِدَالَهْ
وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَنْ سَلِمَ مِنْ عَوَارِضِ تَحْرِيمِهِ يَرْجِعُ فِي حَقِّهِ إلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي ابْنِ حَمْدُونٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
 
[الْفَرْقُ بَيْن قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفَ التَّكْلِيفِ]
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفَ التَّكْلِيفِ دُونَ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مَعَ التَّكْلِيفِ)
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ زَمَنَ الْكُفْرِ وَالْحَدَثِ وَجَحْدِ الصَّانِعِ هُوَ ظَرْفُ التَّكْلِيفِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فِي الْكَافِرِ وَبِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي الْمُحْدِثِ وَبِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الدَّهْرِيِّ وَلَيْسَ هُوَ بِظَرْفٍ لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ لِتَعَذُّرِهِ فِيهِ وَزَمَنُ إسْلَامِ الْكَافِرِ وَطَهَارَةُ الْمُحْدِثِ وَعِرْفَانُ الدَّهْرِيِّ بِالصَّانِعِ بَعْدُ هُوَ ظَرْفٌ لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مَعَ التَّكْلِيفِ وَيَتَّضِحُ هَذَا الْفَرْقُ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
لَا خِلَافَ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْإِيمَانِ وَبِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَفِي خِطَابِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ أَيْضًا أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ وَحُجَّةُ الْقَائِلِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ لَوَجَبَتْ أَمَّا حَالَةُ الْكُفْرِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا حِينَئِذٍ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِهَا بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَحُجَّةُ الْقَائِلِ بِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الْكُفْرِ عَدَمُ حُصُولِ التَّكْلِيفِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ وَهَذَا الزَّمَانُ عِنْدَنَا ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ لَا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ لُزُومُ الصِّحَّةِ أَنْ لَوْ كَانَ هَذَا الزَّمَانُ ظَرْفًا فَالْإِيقَاعُ الْمُكَلَّفُ بِهِ حَتَّى نَقُولَ يَصِحُّ أَمَّا مَا لَا يُكَلَّفُ بِإِيقَاعِهِ كَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالصِّحَّةِ وَوَصْفُ الصِّحَّةِ تَابِعٌ لِلْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ فَحَيْثُ لَا إذْنَ لَا صِحَّةَ وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ دُونَ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ أَنْ يُزِيلَهُ وَيُبَدِّلَهُ بِالْإِيمَانِ وَيَفْعَلَ الصَّلَاةَ فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ لَا فِي زَمَنِ الْكُفْرِ بِحَيْثُ يَصِيرُ زَمَنُ الْكُفْرِ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ وَزَمَنُ الْإِسْلَامِ هُوَ زَمَنُ إيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَالتَّكْلِيفُ مَعًا كَزَمَنِ رَمَضَانَ وَالْقَامَةِ لِلظُّهْرِ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
لَا خِلَافَ فِي كَوْنِ الْمُحْدِثِ مَأْمُورًا بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ وَمُخَاطَبًا بِهَا فِي زَمَنِ الْحَدَثِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَارُّ إلَّا أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الصَّلَاةُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُحْدِثٌ إجْمَاعًا بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ فِي زَمَنِ الْحَدَثِ أَنْ يُزِيلَ الْحَدَثَ وَيُبَدِّلَهُ بِالطَّهَارَةِ فَإِذَا وَجَدَ زَمَنَ الطَّهَارَةِ أَوْقَعَ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ فَزَمَنُ الطَّهَارَةِ هُوَ زَمَنُ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ
(1/222)
 
 
الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ تَلَخَّصَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ تَلْخِيصًا ظَاهِرًا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
 
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْجُزْئِيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْكُلِّيِّ) اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا لَزِمَ شَيْءٌ شَيْئًا فَقَدْ يَكُونُ لُزُومُهُ كُلِّيًّا عَامًّا وَقَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا خَاصًّا وَضَابِطُ اللُّزُومِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ أَنْ يَكُونَ الرَّبْطُ بَيْنَهُمَا وَاقِعًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ الْمُمْكِنَةِ كَلُزُومِ الزَّوْجِيَّةِ لِلْعِشْرَةِ فَمَا مِنْ حَالَةٍ تَعْرِضُ وَلَا زَمَانٍ وَلَا تَقْدِيرٍ يُقَدَّرُ مِنْ التَّقَادِيرِ الْمُمْكِنَةِ إلَّا وَالزَّوْجِيَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَازِمَةٌ لِلْعِشْرَةِ وَقَدْ يَكُونُ اللُّزُومُ كُلِّيًّا عَامًّا فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِنَا كُلَّمَا كَانَ زَيْدٌ يَكْتُبُ فَهُوَ يُحَرِّكُ يَدَهُ أَيْ مَا مِنْ حَالَةٍ تَعْرِضُ وَلَا زَمَانٍ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَزَيْدٌ يَكْتُبُ إلَّا وَهُوَ يُحَرِّكُ يَدَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَاللُّزُومُ بَيْنَ كِتَابَتِهِ وَحَرَكَةِ يَدِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالشَّخْصُ وَاحِدٌ فَهَذَا هُوَ اللُّزُومُ الْكُلِّيُّ وَاللُّزُومُ الْجُزْئِيُّ هُوَ لُزُومُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِسُؤَالٍ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ مَثَلًا إذَا حَصَلَتْ أَغْنَتْ عَنْ الْوُضُوءِ وَجَازَتْ بِهَا الصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ فَقَالَ هَذَا السَّائِلُ أَنْتُمْ جَعَلْتُمْ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى لَازِمَةً لِلطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا مِنْ انْتِفَاءِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى انْتِفَاءُ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى فَإِذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ تَنْتِفِي الطَّهَارَةُ الْكُبْرَى بَعْدَ انْتِفَاءِ الصُّغْرَى فَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَيَلْزَمُ الْفُقَهَاءُ بِقَوْلِهِمْ إنَّ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى لَازِمَةٌ لِلطَّهَارَةِ الْكُبْرَى أَمَّا مُخَالَفَةُ الْقَاعِدَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِأَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ إنْ أَبْقَوْا الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى بَعْدَ انْتِفَاءِ الصُّغْرَى.
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ إنْ أَوْجَبُوا الْغُسْلَ بِخُرُوجِ الرِّيحِ أَوْ الْغَائِطِ أَوْ الْمُلَامَسَةِ وَكِلْتَا الْقَاعِدَتَيْنِ لَا سَبِيلَ إلَى مُخَالَفَتِهِمَا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى لِلطَّهَارَةِ الْكُبْرَى هَذَا تَقْرِيرُ السُّؤَالِ وَهُوَ سُؤَالٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ يَحْتَاجُ الْجَوَابُ عَنْهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَمَنْ جَهِلَ هَذَا الْفَرْقَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الصَّلَاةِ دُونَ زَمَنِ الْحَدَثِ وَزَمَنُ الْحَدَثِ هُوَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
الدَّهْرِيُّ مُكَلَّفٌ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَّا أَنَّ زَمَنَ جَحْدِهِ لِلصَّانِعِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ دُونَ إيقَاعِ التَّصْدِيقِ لِتَعَذُّرِهِ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ فِي زَمَنِ الْجَهْلِ بِالصَّانِعِ أَنْ يُزِيلَ هَذَا الْجَهْلَ وَيُبَدِّلَهُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْعِرْفَانُ فَإِذَا حَصَلَ الْعِرْفَانُ بِالصَّانِعِ كَانَ زَمَانُ عِرْفَانِهِ بِالصَّانِعِ مُكَلَّفًا بِإِيقَاعِ التَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالسِّرَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْك الْجَوَابُ عَنْ أَسْئِلَةِ الْخُصُومِ وَشُبُهَاتِهِمْ وَهُوَ فَرْقٌ لَطِيفٌ شَرِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
[الْفَرْقُ بَيْن قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَقَطْ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلْإِيقَاعِ]
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَقَطْ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلْإِيقَاعِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ وَالْوُجُوبِ فَيَجْتَمِعُ الطَّرَفَانِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ)
وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامٍ مَا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ مَثَلًا ظَرْفٌ لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَهُوَ وُجُوبُ قَضَاءِ رَمَضَانَ وُجُوبًا مُوَسَّعًا دُونَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ زَالَ عُذْرُهُ فِيهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَرُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ سَبَبٌ لِجَعْلِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ وَظَرْفًا لَهُ بِحَيْثُ إنَّ مَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ زَالَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَيْضُ أَوْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ يَلْزَمُهُ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ فَيَصِيرُ سَبَبُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِ إيقَاعِ الصَّوْمِ فِيهِ وَتَفْوِيتُ الْإِيقَاعِ فِيهِ سَبَبًا لِلصَّوْمِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِمَّا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ فَقَطْ وَيُوَضِّحُ لَك هَذَا الْفَرْقَ سَبْعُ مَسَائِلَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا مِمَّا انْفَرَدَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ وَالسَّابِعَةُ مِمَّا تَحْتَمِلُهُمَا أَمَّا مَسَائِلُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ كَالْقَامَةِ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ لِلظُّهْرِ هِيَ ظَرْفٌ لِلْمُكَلَّفِ بِهِ لِوُقُوعِهِ فِيهَا وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا لَا الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهَا الَّذِي هُوَ الزَّوَالُ فَقَطْ كَمَا تَوَهَّمَ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ إذْ لَوْ كَانَ سَبَبُ التَّكْلِيفِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ هُوَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهَا فَقَطْ لَكَانَ مَنْ بَلَغَ بَعْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْ السَّبَبِ وَلَا يُفِيدُ شَيْئًا زَوَالُ الْمَانِعِ وَاجْتِمَاعُ الشَّرَائِطِ بَعْدَ زَوَالِ الْأَسْبَابِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْبُلُوغَ إذَا جَاءَ بَعْدَ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ لَا يُحَقِّقُ وُجُوبًا وَإِنَّمَا يُحَقِّقُهُ إذَا صَادَفَ سَبَبًا بَعْدَهُ كَمَنْ بَلَغَ فِي الْقَامَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الظُّهْرُ بِالْجُزْءِ الَّذِي صَادَفَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ فَظَهَرَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ مُسَاوٍ لِلزَّوَالِ فِي السَّبَبِيَّةِ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ وَجَمِيعُ أَجْزَائِهَا ظُرُوفٌ وَأَسْبَابٌ لَهُ (وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
أَيَّامُ الْأَضَاحِيّ الثَّلَاثَةِ أَوْ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظُرُوفٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ لِوُجُودِهِ فِيهَا وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَجَدَّدَ إسْلَامُهُ مِنْ الْكُفَّارِ أَوْ بُلُوغُهُ مِنْ الصِّبْيَانِ يَتَجَدَّدُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْأُضْحِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَتَقَ مِنْ الْعَبِيدِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ وَحُصُولُ الشَّرْطِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ الْجُزْءُ الْكَائِنُ بَعْدَ زَوَالِ
(1/223)
 
 
وَانْسَدَّ عَلَيْهِ الْبَابُ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ نَقُولَ اللُّزُومُ بَيْنَ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى جُزْئِيٌّ لَا كُلِّيٌّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُغْتَسِلَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ نَاقِضٌ فِي أَثْنَاءِ غُسْلِهِ لَزِمَ غُسْلَهُ ذَلِكَ الْوُضُوءُ فِي الِابْتِدَاءِ فَقَطْ دُونَ الدَّوَامِ فَاللُّزُومُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ طَرَءَانِ النَّاقِضِ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ حَالَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ وَحَالَةُ دَوَامِ الْغُسْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْوَالِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا لُزُومٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ إلَّا فِي الْحَالَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا اللُّزُومُ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِاللُّزُومِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِبَقَاءِ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى دُونَ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى بَلْ إنَّمَا قَالَ بِهِ فِي حَالَةِ الدَّوَامِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا لُزُومٌ فَانْتِفَاءُ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَقْدَحُ فِي انْتِفَاءِ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى لِأَنَّ انْتِفَاءَ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ لَا يَقْدَحُ إنَّمَا يَقْدَحُ انْتِفَاءُ مَا هُوَ لَازِمٌ وَالطَّهَارَةُ الصُّغْرَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَتْ لَازِمَةً فَلَا يَضُرُّ انْتِفَاؤُهَا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي اللُّزُومِ الْجُزْئِيِّ كُلُّ مُؤَثِّرٍ مَعَ أَثَرِهِ فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ يَجِبُ حُضُورُهُ حَالَةَ وُجُودِ أَثَرِهِ وَهُوَ زَمَنُ حُدُوثِهِ دُونَ مَا بَعْدَ زَمَنِ الْحُدُوثِ فَكُلُّ بِنَاءٍ يَلْزَمُهُ الْبِنَاءُ حَالَةَ الْبِنَاءِ دُونَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ يَمُوتُ الْبِنَاءُ وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَكَذَلِكَ النَّاسِجُ مَعَ نَسْجِهِ وَكُلُّ مُؤَثِّرٍ مَعَ أَثَرِهِ لُزُومُهُ جُزْئِيٌّ فِي حَالَةِ الْحُدُوثِ فَقَطْ فَلَا جَرَمَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمُؤَثِّرِ بَعْدَ ذَلِكَ عَدَمُ الْأَثَرِ لِأَنَّ الْعَدَمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَدَمٌ لِمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ وَعَدَمُ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ لَا يَقْدَحُ لَا عَقْلًا وَلَا عَادَةً وَلَا شَرْعًا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا اللُّزُومُ جُزْئِيٌّ فِي حَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَعَدَمُ اللُّزُومِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَقْدَحُ.
وَقَوْلُهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اللَّازِمِ عَدَمُ الْمَلْزُومِ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ حَيْثُ قُضِيَ بِاللُّزُومِ إمَّا عَامًّا وَإِمَّا خَاصًّا إمَّا فِي الصُّورَةِ الَّتِي لَمْ يَقْضِ فِيهَا بِاللُّزُومِ فَلَا وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا قَوْلُهُمْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الشَّرْطِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا شَرْطٌ أَمَّا لَوْ كَانَ شَرْطًا فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِهِ فِي صُورَةٍ مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا عَدَمُ الْمَشْرُوطِ كَمَا تَقُولُ فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ صُوَرِ الصَّلَاةِ وَهِيَ صُورَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى اسْتِعْمَالِهِ فَلَا جَرَمَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ عَدَمُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فَلَا جَرَمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْمَانِعِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَتَكُونُ كُلُّهَا ظُرُوفًا وَأَسْبَابًا لِلْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
شَهْرُ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمُ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ لِمَنْ اسْتَقْبَلَهُ فَمَنْ أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ أَوْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ أَوْ زَالَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَيْضُ فَيَلْزَمُهُ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي زَالَ فِيهِ الْمَانِعُ فَلَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلتَّكْلِيفِ بَلْ ظُرُوفًا لَهُ بِدَلِيلِ حُصُولِ التَّكْلِيفِ فِيهَا وَعَدَمُ التَّكْلِيفِ بِهَا عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَوْ أَسْلَمَ فَظَهَرَ بِهَذَا حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَجْزَاءِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَجْزَاءِ شَهْرِ الصَّوْمِ بِأَنَّ مُطْلَقَ الْجُزْءِ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ كَيْفَ كَانَ وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ زَمَنٍ يَسَعُ إيقَاعَ رَكْعَةِ سَبَبِ التَّكْلِيفِ فَإِنْ نَقَصَ عَنْ زَمَنِ رَكْعَةٍ فَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ وَعِنْدَ غَيْرِهِ يَجِبُ بِأَقَلَّ مِنْ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَيُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ شَهْرِ الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا كَامِلًا فَالْيَوْمُ الْكَامِلُ مِنْ شَهْرِ الصَّوْمِ وِزَانُ زَمَنٍ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ يَسَعُ رَكْعَةً عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَمَّا مَسَائِلُ مَا انْفَرَدَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
قَضَاءُ رَمَضَانَ وَإِنْ وَجَبَ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامٍ مَا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ كَمَا تَجِبُ الظُّهْرُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ أَوَّلِ الْقَامَةِ إلَى آخِرِهَا إلَّا أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ شُهُورٍ مَا عَدَا رَمَضَانَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ لَا سَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ زَالَ عُذْرُهُ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنْهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَسَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالْأَدَاءِ فِيهِ وَالْقَضَاءُ بَعْدَ فَوَاتِ الْقَامَةِ كَمَا عَرَفْت وَكَذَا كُلُّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَسَبَبٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالْأَدَاءِ فِيهِ وَالْقَضَاءُ بَعْدَ فَوَاتِهِ فِي يَوْمٍ مِمَّا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ إلَّا أَنَّ جُزْءَ الْيَوْمِ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ ظَرْفًا لِلتَّكْلِيفِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ بِدَلِيلِ حُصُولِ التَّكْلِيفِ فِيهِ وَعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهِ عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَوْ أَسْلَمَ وَأَيُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ مَثَلًا وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَمَّا يَسَعُ إيقَاعُ رَكْعَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ غَيْرِنَا وَإِنْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ سَبَبُ التَّكْلِيفِ بِلَا دَاءٍ فِيهِ وَالْقَضَاءُ بَعْدَ فَوَاتِهِ كَمَا عَلِمْت وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ يَوْمٍ كَامِلٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ وَظَرْفٌ لَهُ وَتَفْوِيتُهُ سَبَبٌ لِلصَّوْمِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ أَيَّامٍ مَا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ وِزَانُ زَمَنٍ يَسَعُ رَكْعَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا عَلَى الْخِلَافِ مِنْ أَزْمَانِ الْقَامَةِ مَثَلًا وَالسَّبَبُ فِي جَعْلِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَظَرْفًا لَهُ وَتَفْوِيتُهُ سَبَبًا لِلصَّوْمِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِمَّا عَدَا رَمَضَانَ مِنْ الشُّهُورِ وَهُوَ رُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ فَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ لَيْسَتْ سَبَبَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُعْتَقَدُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ بَلْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ سَبَبٌ لِسَبَبِيَّةِ ثَلَاثِينَ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ تَرْكًا إنْ وَقَعَتْ هِيَ أَوْ بَعْضُهَا وَسَبَبٌ لِوُجُوبِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مُسَبَّبَاتٌ فَقَطْ لَا أَسْبَابٌ فَصَارَتْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ يَتَعَلَّقُ بِهَا سِتُّونَ يَوْمًا ثَلَاثُونَ يَوْمًا مُسَبَّبَاتُ صَوْمٍ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا أَسْبَابُ تُرُوكٍ فَافْهَمْ هَذَا التَّحْقِيقَ وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
جَمِيعُ الْعُمْرِ ظَرْفٌ لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ
(1/224)
 
 
لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ لِعَدَمِ الشَّرْطِيَّةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فَالشَّرْطُ وَاللَّازِمُ فِي هَذَا الْبَابِ سَوَاءٌ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ.
 
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ) أُشْكِلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَانْبَنَى عَلَى عَدَمِ تَحْرِيرِ هَذَا الْفَرْقِ الْإِشْكَالُ فِي مَوَاضِعَ وَمَسَائِلَ حَتَّى خَرَقَ بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ فِيهَا فَعَمَدَ إلَى النَّظَرِ الْأَوَّلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ قَالَ يُمْكِنُ فِيهِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَعَذُّرِ ذَلِكَ فِيهِ كَمَا حَكَاهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ فَأَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ وَقَالَ كَيْفَ يُحْكَى الْإِجْمَاعُ فِي تَعَذُّرِ هَذَا وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ فِي عِدَّةِ صُوَرٍ فَإِنَّ غَايَةَ هَذَا النَّاظِرِ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَانِعٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَأَنْ يَكُونَ هَذَا النَّظَرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ قَصْدَ التَّقَرُّبِ بِدَلِيلِ مَا وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَنْوِيَ التَّقَرُّبَ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ فَإِنَّهُ يَنْوِي التَّقَرُّبَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخَمْسِ مَعَ شَكِّهِ فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَّ هَلْ تَطَهَّرَ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَتَطَهَّرُ وَيَنْوِي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ التَّقَرُّبَ وَمَنْ شَكَّ هَلْ صَامَ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَصُومُ وَيَنْوِي التَّقَرُّبَ بِذَلِكَ الصِّيَامِ وَمَنْ شَكَّ هَلْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ وَيَنْوِي التَّقَرُّبَ بِهَا وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِذَا وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالْمَشْكُوكِ فِيهِ جَازَ شَكُّهُ فِي النَّظَرِ الْأَوَّلِ وَتَكُونُ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فِي تَعَذُّرِهِ خَطَأً بَلْ يُمْكِنُ قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِهِ قِيلَ لَهُ فَإِنَّ الشَّكَّ فِي صُورَةِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ فِي الْمُوجِبِ وَالشَّكُّ هَاهُنَا فِي الْوَاجِبِ فَافْتَرَقَا فَقَالَ بَلْ كَمَا لَا يُمْنَعُ الشَّكُّ فِي الْوَاجِبِ وَهُوَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ فِي الْآخَرِ لِأَنَّ غَايَةَ الشَّكِّ فِي الْمُوجِبِ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الشَّكِّ فِي الْوَاجِبِ وَهَذَا لَا يُمْنَعُ فَذَاكَ لَا يُمْنَعُ وَالْجَوَابُ الْحَقُّ فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ وَشَرَعَ لَهَا أَسْبَابًا وَجَعَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَرَعَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّكَّ فَشَرَعَهُ فِي عِدَّةٍ مِنْ الصُّوَرِ حَيْثُ شَاءَ فَإِذَا شَكَّ فِي الشَّاةِ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ وَإِذَا شَكَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ حَرُمَتَا مَعًا وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ وَإِذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ النَّذْرِ بَلْ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ غَيْرِهِ وَسَبَبُ لُزُومِ النَّذْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِالْتِزَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
شُهُورُ الْعِدَدِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَشُهُورِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّبَبِيَّةِ فَهِيَ ظُرُوفٌ لِلتَّكْلِيفِ بِالْعِدَّةِ لِوُجُودِهِ فِيهَا وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِالْعِدَّةِ بَلْ سَبَبُ لُزُومِ الْعِدَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَفَاةِ أَوْ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ شُهُورَ الْعِدَدِ تُفَارِقُ شُهُورَ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّكْلِيفَ فِيهَا مُضَيَّقٌ وَالْوُجُوبُ فِي شُهُورِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُوَسَّعٌ وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ الَّتِي تَحْتَمِلُهُمَا فَهِيَ أَنَّ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ أَيَّامِ رَمَضَانَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْفِطْرِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا أَوْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ آخِرَ أَيَّامِ رَمَضَانَ أَوْ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ أَوْ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ أَقْوَالٌ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَإِنَّمَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْقَائِلِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَابِلِهِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إلَّا بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الْفِطْرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَقُولُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْغُرُوبِ إلَى الْغُرُوبِ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ وَسَبَبٌ لَهُ وَالْقَائِلُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَابِلِهِ يَقُولُ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الصَّوْمِ سَبَبٌ وَمَا بَعْدَهُ ظَرْفٌ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَجْزَائِهِ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ فَهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي التَّوْسِعَةِ إلَّا أَنَّ التَّوْسِعَةَ فِي الْأَوَّلِ كَتَوْسِعَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ تَسْتَمِرُّ فِيهَا السَّبَبِيَّةُ وَفِي الثَّانِي كَتَوْسِعَةِ قَضَاءِ رَمَضَانَ لَا تَسْتَمِرُّ فِيهَا السَّبَبِيَّةُ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَنْ بَلَغَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْ عَتَقَ أَوْ أَسْلَمَ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَاَلَّذِي يَبْلُغُ فِي أَثْنَاءِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَلَا يُتَّجَهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ مُقَابِلِهِ كَمَنْ بَلَغَ فِي شُهُورِ قَضَاءِ الصَّوْمِ فَافْهَمْ هَذِهِ الْفُرُوقَ تَنْفَعْك وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
 
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْجُزْئِيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْكُلِّيِّ]
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْجُزْئِيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اللُّزُومِ الْكُلِّيِّ) .
وَذَلِكَ أَنَّ ضَابِطَ اللُّزُومِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ أَنْ يَكُونَ الرَّبْطُ بَيْنَهُمَا وَاقِعًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ الْمُمْكِنَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ بِاللُّزُومِ الْبَيِّنِ أَمَّا بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِ الْمَلْزُومِ تَصَوُّرُ اللَّازِمِ كَلُزُومِ الزَّوْجِيَّةِ لِلْعِشْرَةِ وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِ الْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ مَعًا الْجَزْمُ بِاللُّزُومِ سَوَاءٌ كَفَى تَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ فِي تَصَوُّرِ اللَّازِمِ أَوْ لَمْ يَكْفِ تَصَوُّرُهُ فِي تَصَوُّرِهِ بَلْ لَا بُدَّ فِي الْجَزْمِ بِاللُّزُومِ مِنْ تَصَوُّرِهِمَا مَعًا كَلُزُومِ قَبُولِ الْعِلْمِ وَصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ لِلْإِنْسَانِ ثُمَّ إنَّ اللُّزُومَ الْكُلِّيَّ الْعَامَّ يَكُونُ لِلْمَاهِيَّةِ كَمَا ذُكِرَ وَقَدْ يَكُونُ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ كَلُزُومِ حَرَكَةِ الْيَدِ لِزَيْدٍ فِي حَالَةِ كِتَابَتِهِ فَكُلَّمَا كَانَ زَيْدٌ يَكْتُبُ فَهُوَ يُحَرِّكُ يَدَهُ أَيْ مَا مِنْ حَالَةٍ تَعْرِضُ وَلَا زَمَانٍ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَزَيْدٌ يَكْتُبُ إلَّا وَهُوَ يُحَرِّكُ يَدَهُ فَاللُّزُومُ بَيْنَ كِتَابَتِهِ وَحَرَكَةِ يَدِهِ فِي جَمِيعِ
(1/225)
 
 
صَلَوَاتٍ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَمْسِ هُوَ الشَّكُّ وَإِذَا شَكَّ هَلْ تَطَهَّرَ أَمْ لَا وَجَبَ الْوُضُوءُ وَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشَّكُّ.
وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَالْمُتَقَرِّبُ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الصُّوَرِ جَازِمٌ بِوُجُودِ الْمُوجِبِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَبَبُ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الشَّكُّ وَالْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاعُ أَوْ النَّصُّ فَالْجَمِيعُ مَعْلُومٌ وَفِي صُورَةِ النَّظَرِ لَا شَيْءَ مِنْهَا بِمَعْلُومٍ بَلْ الْجَمِيعُ مَجْهُولٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَالشَّكُّ فِي السَّبَبِ غَيْرُ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ فَالْأَوَّلُ يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَلَا يَتَقَرَّرُ مَعَهُ حُكْمٌ وَالثَّانِي لَا يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَتَتَقَرَّرُ مَعَهُ الْأَحْكَامُ كَمَا رَأَيْت فِي هَذِهِ النَّظَائِرِ فَانْدَفَعَ سُؤَالُ هَذَا السَّائِلِ وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ وَنَقَلَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَمَا أَوْرَدَهُ مِنْ النُّقُوضِ عَلَيْهِمْ لَا يَرِدُ وَلَا نَدَّعِي أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَصَبَ الشَّكَّ سَبَبًا فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ بَلْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِحَسَبِ مَا يَدُل