الفروق للقرافي أنوار البروق في أنواء الفروق 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق
المؤلف: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ)
عدد الأجزاء: 4
 
[خِطْبَة الْكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ فَالِقِ الْإِصْبَاحِ وَفَارِقِ أَهْلِ الْغَيِّ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَسَائِقِ السَّحَابِ الثِّقَالِ بِهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَمُنَزِّلِ الْفُرْقَانِ عَلَى عَبْدِهِ يَوْمَ الْكِفَاحِ بِبِيضِ الصِّفَاحِ مُحَذِّرًا مِنْ دَارِ الْبَوَارِ وَحَاثًّا عَلَى دَارِ الْفَلَاحِ الْمُنَزَّهِ فِي عَظِيمِ عَلَائِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْأَرْوَاحِ وَمُشَاكَلَةِ الْأَشْبَاحِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً زَاكِيَةَ الْأَرْبَاحِ يَوْمَ الْقَدَّاحِ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَالْحُرُمَاتُ تُسْتَبَاحُ وَحِزْبُ الْكُفْرِ قَدْ عَمَّ الْفِجَاجَ وَالْبِطَاحَ فَلَمْ يَزَلْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْشِدُ إلَى الْحَقِّ بِالْحِجَاجِ الْوِضَاحِ وَسَمْهَرِيَّةِ الرِّمَاحِ حَتَّى أَعْلَنَ مُنَادِيهِ فِي نَادِيهِ وَبَاحَ، وَظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَطَارَ فِي الْآفَاقِ بِقَادِمَةٍ كَقَادِمَةِ الْجَنَاحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَمُحِبِّيهِ مَا أَزَالَ الظُّلَمَ الْحَنَادِسَ ضَوْءُ الصَّبَاحِ صَلَاةً نَحُوزُ بِهَا أَعْلَى رُتَبِ النَّجَاحِ وَنَخْلُصُ بِهَا مِنْ دَرَكَاتِ الْإِثْمِ وَالْجُنَاحِ.
(أَمَّا بَعْدُ) فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُعَظَّمَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ زَادَ اللَّهُ تَعَالَى مَنَارَهَا شَرَفًا وَعُلُوًّا اشْتَمَلَتْ عَلَى أُصُولٍ وَفُرُوعٍ، وَأُصُولُهَا قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا الْمُسَمَّى بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ فِي غَالِبِ أَمْرِهِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوَاعِدُ الْأَحْكَامِ النَّاشِئَةُ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ خَاصَّةً وَمَا يَعْرِضُ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّرْجِيحِ وَنَحْوَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَالصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ لِلْعُمُومِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ إلَّا كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَصِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ فِقْهِيَّةٌ جَلِيلَةٌ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ عَظِيمَةُ الْمَدَدِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ وَحِكَمِهِ، لِكُلِّ قَاعِدَةٍ مِنْ الْفُرُوعِ فِي الشَّرِيعَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْعَلَّامَةُ الْمُتَكَلِّمُ الْأُسْتَاذُ الْأَوْحَدُ أَبُو الْقَاسِمِ قَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الشَّاطِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - آمِينَ.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ الْمُنَزَّهِ عَنْ الْأَكْفَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَتَمَّانِ الْأَكْمَلَانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى مِنْ الْإِرْسَالِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ خَيْرِ صَحْبٍ وَخَيْرِ آلٍ.
(أَمَّا بَعْدُ) فَإِنِّي لَمَّا طَالَعْتُ كِتَابَ الْإِمَامِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ إدْرِيسَ الْقَرَافِيِّ الْمَالِكِيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) حَمْدًا لِمَنْ أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ وَلَدِ عَدْنَانَ فَارِقًا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ الْمُوجِبِ لِلرِّضْوَانِ وَالْبَاطِلِ الْمُوجِبِ لِلْخُسْرَانِ، وَلَمْ يَزَلْ يُرْشِدُ إلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ بِهِ وَبِمَا بَلَّغَهُ مِنْ وَاضِحِ الْبَرَاهِينِ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ الْبَاذِلِينَ نُفُوسَهُمْ فِي تَشْيِيدِ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَمَعَالِمِ الْإِيمَانِ.
أَمَّا بَعْدُ فَيَقُولُ تُرَابُ أَقْدَامِ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْقَادَةِ النُّجَبَاءِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَبْدُ الْحَقِيرُ الْمُعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ الْمُفْتَقِرُ إلَى عَفْوِ رَبِّهِ مُحَمَّدٌ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ الْمَكِّيُّ الْمَالِكِيُّ إنَّ كِتَابَ أَنْوَارِ الْبُرُوقِ فِي أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ لِلْعَلَّامَةِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ إدْرِيسَ الصِّنْهَاجِيِّ الْمَشْهُورِ بِالْقَرَافِيِّ بَيْنَ النَّاسِ لِمَا امْتَازَ بِوَضْعِهِ فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ الْقَوَاعِدِ لَا فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ الْفُرُوعِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْفُضَلَاءِ الْأَمَاجِدِ، لِمَا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ شَرَفِ السَّمَاءِ
(1/2)
 
 
مَا لَا يُحْصَى وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا شَيْءٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَإِنْ اتَّفَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هُنَالِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَبَقِيَ تَفْصِيلُهُ لَمْ يَتَحَصَّلْ، وَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ مُهِمَّةٌ فِي الْفِقْهِ عَظِيمَةُ النَّفْعِ وَبِقَدْرِ الْإِحَاطَةِ بِهَا يَعْظُمُ قَدْرُ الْفَقِيهِ، وَيَشْرُفُ وَيَظْهَرُ رَوْنَقُ الْفِقْهِ وَيُعْرَفُ وَتَتَّضِحُ مَنَاهِجُ الْفَتَاوَى وَتُكْشَفُ، فِيهَا تَنَافَسَ الْعُلَمَاءُ وَتَفَاضَلَ الْفُضَلَاءُ، وَبَرَزَ الْقَارِحُ عَلَى الْجَذَعِ وَحَازَ قَصَبَ السَّبْقِ مَنْ فِيهَا بَرَعَ، وَمَنْ جَعَلَ يُخْرِجُ الْفُرُوعَ بِالْمُنَاسَبَاتِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ تَنَاقَضَتْ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ وَاخْتَلَفَتْ وَتَزَلْزَلَتْ خَوَاطِرُهُ فِيهَا وَاضْطَرَبَتْ، وَضَاقَتْ نَفْسُهُ لِذَلِكَ وَقَنَطَتْ، وَاحْتَاجَ إلَى حِفْظِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى وَانْتَهَى الْعُمْرُ وَلَمْ تَقْضِ نَفْسُهُ مِنْ طَلَبِ مُنَاهَا وَمَنْ ضَبَطَ الْفِقْهَ بِقَوَاعِدِهِ اسْتَغْنَى عَنْ حِفْظِ أَكْثَرِ الْجُزْئِيَّاتِ لِانْدِرَاجِهَا فِي الْكُلِّيَّاتِ، وَاتَّحَدَ عِنْدَهُ مَا تَنَاقَضَ عِنْدَ غَيْرِهِ وَتَنَاسَبَ.
وَأَجَابَ الشَّاسِعَ الْبَعِيدَ وَتَقَارَبَ وَحَصَّلَ طِلْبَتَهُ فِي أَقْرَبِ الْأَزْمَانِ وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ لِمَا أَشْرَقَ فِيهِ مِنْ الْبَيَانِ فَبَيْنَ الْمَقَامَيْنِ شَأْوٌ بَعِيدٌ وَبَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ تَفَاوُتٌ شَدِيدٌ، وَقَدْ أَلْهَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ أَنْ وَضَعْتُ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الذَّخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ شَيْئًا كَثِيرًا مُفَرَّقًا فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ كُلُّ قَاعِدَةٍ فِي بَابِهَا وَحَيْثُ تُبْنَى عَلَيْهَا فُرُوعُهَا.
ثُمَّ أَوْجَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَفْسِي أَنَّ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ لَوْ اجْتَمَعَتْ فِي كِتَابٍ وَزِيدَ فِي تَلْخِيصِهَا وَبَيَانِهَا وَالْكَشْفِ عَنْ أَسْرَارِهَا وَحُكْمِهَا لَكَانَ ذَلِكَ أَظْهَرَ لِبَهْجَتِهَا وَرَوْنَقِهَا، وَتَكَيَّفَتْ نَفْسُ الْوَاقِفِ عَلَيْهَا بِهَا مُجْتَمِعَةً أَكْثَرَ مِمَّا إذَا رَآهَا مُفَرَّقَةً، وَرُبَّمَا لَمْ يَقِفْ إلَّا عَلَى الْيَسِيرِ مِنْهَا هُنَالِكَ لِعَدَمِ اسْتِيعَابِهِ لِجَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَأَيْنَمَا يَقِفُ عَلَى قَاعِدَةٍ ذَهَبَ عَنْ خَاطِرِهِ مَا قَبْلَهَا بِخِلَافِ اجْتِمَاعِهَا وَتَظَافُرِهَا، فَوَضَعْتُ هَذَا الْكِتَابَ لِلْقَوَاعِدِ خَاصَّةً وَزِدْتُ قَوَاعِدَ كَثِيرَةً لَيْسَتْ فِي الذَّخِيرَةِ وَزِدْتُ مَا وَقَعَ مِنْهَا فِي الذَّخِيرَةِ بَسْطًا وَإِيضَاحًا فَإِنِّي فِي الذَّخِيرَةِ رَغِبْتُ فِي كَثْرَةِ النَّقْلِ لِلْفُرُوعِ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِكُتُبِ الْفُرُوعِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ وَكَثْرَةِ الْبَسْطِ فِي الْمَبَاحِثِ وَالْقَوَاعِدِ فَيَخْرُجُ الْكِتَابُ إلَى حَدٍّ يَعْسَرُ عَلَى الطَّلَبَةِ تَحْصِيلُهُ أَمَّا هُنَا فَالْعُذْرُ زَائِلٌ وَالْمَانِعُ ذَاهِبٌ فَأَسْتَوْعِبُ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلْتُ مَبَادِئَ الْمَبَاحِثِ فِي الْقَوَاعِدِ بِذِكْرِ الْفُرُوقِ وَالسُّؤَالِ عَنْهَا بَيْنَ فَرَعَيْنَ أَوْ قَاعِدَتَيْنِ فَإِنْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ فَبَيَانُهُ بِذِكْرِ قَاعِدَةٍ أَوْ قَاعِدَتَيْنِ يَحْصُلُ بِهِمَا الْفَرْقُ.
وَهُمَا الْمَقْصُودَتَانِ، وَذِكْرُ الْفَرْقِ وَسِيلَةٌ لِتَحْصِيلِهِمَا وَإِنْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَالْمَقْصُودُ تَحْقِيقُهُمَا، وَيَكُونُ تَحْقِيقُهُمَا بِالسُّؤَالِ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَوْلَى مِنْ تَحْقِيقِهِمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ ضَمَّ الْقَاعِدَةِ إلَى مَا يُشَاكِلُهَا فِي الظَّاهِرِ وَيُضَادُّهَا فِي الْبَاطِنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حَسَنَةَ الضِّدِّ وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ وَتَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا كِتَابٌ لِي سَمَّيْتُهُ كِتَابَ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْن الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ ذَكَرْتُ فِي هَذَا الْفَرْقِ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً جَامِعَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُسَمَّى بِأَنْوَارِ الْبُرُوقِ فِي أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ أَلْفَيْتُهُ قَدْ حَشَدَ فِيهِ وَحَشَرَ وَطَوَى وَنَشَرَ، وَسَلَكَ السُّهُولَ وَالنُّجُودَ وَوَرَدَ الْبُحُورَ وَالثَّمُودَ، خَلَا أَنَّهُ مَا اسْتَكْمَلَ التَّصْوِيبَ وَالتَّنْقِيبَ، وَلَا اسْتَعْمَلَ التَّهْذِيبَ وَالتَّرْتِيبَ فَانْتَسَبَ بِسَبَبِ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ إلَى الْإِخْلَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مَا لِلْأُصُولِ عَلَى الْفُرُوعِ مِنْ شَرَفِ الِارْتِقَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ التَّصْوِيبَ وَالتَّنْقِيبَ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ التَّهْذِيبَ وَالتَّرْتِيبَ فَوَفَّقَ اللَّهُ الْإِمَامَ الْعَلَّامَةَ أَبَا الْقَاسِمِ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الشَّاطِّ قَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ الْحَقِيقَ بِالِاغْتِبَاطِ لِتَنْقِيحِ مَا عَدَلَ بِهِ عَنْ صَوْبِ الصَّوَابِ وَتَصْحِيحِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ صَوَابٍ فِي حَاشِيَةِ إدْرَارِ الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ عَنَّ لِي وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَلَا مِنْ رِجَالِ هَذِهِ الْمَهَامِهِ وَالْمَسَالِكِ أَنْ أُلَخِّصَهُ مَعَ التَّهْذِيبِ وَالتَّرْتِيبِ وَالتَّوْضِيحِ مُرَاعِيًا مَا حَرَّرَهُ ذَلِكَ الْمِفْضَالُ مِنْ التَّصْحِيحِ وَالتَّنْقِيحِ لِقَوْلِ أَهْلِ التَّحَرِّي وَالِاحْتِيَاطِ: عَلَيْكَ بِفُرُوقِ الْقَرَافِيِّ، وَلَا تَقْبَلْ مِنْهَا إلَّا مَا قَبِلَهُ ابْنُ الشَّاطِّ كَمَا فِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ لِلْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ عَلَى شَرْحِهِ عَلَى الْمَجْمُوعِ مَعَ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ مِمَّا تَتِمُّ بِهِ الْإِفَادَةُ مِنْ جَوَابِ إشْكَالٍ تَرَكَ جَوَابَهُ أَوْ زِيَادَةِ رَجَاءٍ مِنْ مَفِيضِ الْإِحْسَانِ أَنْ يَجْعَلَهُ سَبَبًا لِلْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَسَمَّيْتُهَا بِتَهْذِيبِ الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السّنِيَّةِ فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ وَرَتَّبْتُهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَعَلَى فُرُوقٍ تَشْتَمِلُ عَلَى نَحْوِ خَمْسِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ قَاعِدَةً مُوَضَّحَةً بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْفُرُوعِ لِيَزْدَادَ انْشِرَاحُ الْقَلْبِ لِغَيْرِهَا فَتَتِمُّ الْفَائِدَةُ، وَتِلْكَ الْفُرُوقُ مِنْهَا مَا هُوَ وَاقِعٌ بَيْنَ فَرْعَيْنِ يَحْصُلُ بَيَانُهُ بِذِكْرِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَاعِدَةٍ أَوْ قَاعِدَتَيْنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاقِعٌ بَيْنَ قَاعِدَتَيْنِ مَقْصُودِ تَحْقِيقِهِمَا بِالسُّؤَالِ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا نَظَرًا لِكَوْنِ تَحْقِيقِهِمَا بِذَلِكَ أَوْلَى بِلَا إبَاءٍ مِنْ تَحْقِيقِهِمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ لَدَى النُّبَلَاءِ لِأَنَّ لِضِدِّهِ الثَّنَاءَ وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ.
(مُقَدِّمَةٌ) فِي فَائِدَتَيْنِ:
(الْأُولَى) اعْلَمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُعَظَّمَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى أُصُولٍ
(1/3)
 
 
لِأَسْرَارِ هَذِهِ الْفُرُوقِ وَهُوَ كِتَابٌ مُسْتَقِلٌّ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْإِعَادَةِ هُنَا فَمَنْ شَاءَ طَالَعَ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَهُوَ حَسَنٌ فِي بَابِهِ وَعَوَائِدُ الْفُضَلَاءِ وَضْعُ كُتُبِ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْفُرُوعِ، وَهَذَا فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ الْقَوَاعِدِ وَتَلْخِيصِهَا فَلَهُ مِنْ الشَّرَفِ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ شَرَفُ الْأُصُولِ عَلَى الْفُرُوعِ وَسَمَّيْتُهُ لِذَلِكَ أَنْوَارَ الْبُرُوقِ فِي أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ وَلَكَ أَنْ تُسَمِّيَهُ كِتَابَ الْأَنْوَارِ وَالْأَنْوَاءِ أَوْ كِتَابَ الْأَنْوَارِ وَالْقَوَاعِدِ السَّنِيَّةِ فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ كُلُّ ذَلِكَ لَكَ وَجَمَعْتُ فِيهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ خَمْسَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ قَاعِدَةً أَوْضَحْتُ كُلَّ قَاعِدَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْفُرُوعِ حَتَّى يَزْدَادَ انْشِرَاحُ الْقَلْبِ لِغَيْرِهَا.
(فَائِدَةٌ) سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِي الْفُضَلَاءَ يَقُولُ فَرَّقَتْ الْعَرَبُ بَيْنَ فَرَقَ بِالتَّخْفِيفِ وَفَرَّقَ بِالتَّشْدِيدِ الْأَوَّلُ فِي الْمَعَانِي وَالثَّانِي فِي الْأَجْسَامِ، وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ أَنَّ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ تَقْتَضِي كَثْرَةَ الْمَعْنَى أَوْ زِيَادَتَهُ أَوْ قُوَّتَهُ، وَالْمَعَانِي لَطِيفَةٌ وَالْأَجْسَامُ كَثِيفَةٌ فَنَاسَبَهَا التَّشْدِيدُ وَنَاسَبَ الْمَعَانِيَ التَّخْفِيفُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافُ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50] فَخَفَّفَ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ جِسْمٌ.
وَقَالَ تَعَالَى {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] وَجَاءَ عَلَى الْقَاعِدَةِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وقَوْله تَعَالَى {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وَ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] وَلَا نَكَادُ نَسْمَعُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَّا قَوْلَهُمْ مَا الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَا يَقُولُونَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ، وَمُقْتَضِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ اُفْرُقْ لِي بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَا يَقُولُ فَرِّقْ لِي وَلَا بِأَيِّ شَيْءٍ تُفَرِّقُ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا يَقُولُونَهُ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَقَدْ آنَ الشُّرُوعُ فِي الْكِتَابِ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى عَلَى خُلُوصِ النِّيَّةِ وَحُصُولِ الْبُغْيَةِ وَأَسْأَلُهُ بِعَظِيمِ جَلَالِهِ وَكَمَالِ عَلَائِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ نَافِعًا لِي وَلِعِبَادِهِ، وَأَنْ يُيَسِّرَ ذَلِكَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
 
(الْفَرْقُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ) ابْتَدَأْتُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ لِأَنِّي أَقَمْتُ أَطْلُبُهُ نَحْوَ ثَمَانِ سِنِينَ فَلَمْ أَظْفَرْ بِهِ، وَأَسْأَلُ الْفُضَلَاءَ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَتَحْقِيقِ مَاهِيَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَبَرٌ فَيَقُولُونَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ وَالذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ بِخِلَافِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
بِوَاجِبَيْنِ، وَاحْتَجَبَ لَا مَعَ بُرُوقِهِ مِنْهَا بِحَاجِبَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فِي مَرْتَبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالثَّانِي فِي دَرَجَةِ الْحَاجِيَّاتِ، وَضَعْتُ كِتَابِي هَذَا لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوَابِ مُصَحِّحًا، وَلِمَا عَدَلَ بِهِ عَنْ صَوْبِهِ مُنَقِّحًا، وَأَضْرَبْتُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ مُؤْثِرًا لِلضَّرُورِيِّ عَلَى الْحَاجِيِّ وَمُرَجِّحًا، وَلَمَّا شَرُفَتْ أَنْوَارُ هَذَا الْمَجْمُوعِ وَأَشْرَقَتْ، فَلَاحَتْ كَالشَّمْسِ الْمُضْحِيَةِ فِي الْوُضُوحِ، وَوَقَفَتْ أَمَامَهَا لَوَامِعُ الْخُلَّبِ مِنْ تِلْكَ الْبُرُوقِ، لِمَا ضَمِنَهُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ صَوْبِ الصَّوَابِ وَالْمُرُوقِ مَوْقِفَ الْمَفْضُوحِ سَمَّيْتُهُ بِكِتَابِ إدْرَارِ الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ لِيُوَافِقَ اللَّفْظُ الْمَعْنَى، وَيُطَابِقَ الِاسْمُ الْمُسَمَّى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَرْجُو أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ أَلِيمِ الْعِتَابِ يَوْمَ الْحِسَابِ آمِنًا وَلِجَسِيمِ الثَّوَابِ عِنْدَ الْمَآبِ ضَامِنًا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
 
. قَالَ شِهَابُ الدِّينِ
(الْفَرْقُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا الْمُسَمَّى بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ غَالِبُ أَمْرِهِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوَاعِدُ الْأَحْكَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ خَاصَّةً، وَمَا يَعْرِضُ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّرْجِيحِ وَنَحْوِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَالصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ لِلْعُمُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ إلَّا كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَخَبَرًا لِوَاحِدٍ وَصِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا فِي الْأَصْلِ. قُلْت وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ الطُّرُقَ الَّتِي مِنْهَا تُلُقِّيَتْ الْأَحْكَامُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً لَفْظًا وَفِعْلًا وَإِقْرَارًا إلَّا أَنَّ غَالِبَ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ إنَّمَا نَشَأَتْ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تُتَلَقَّى مِنْهَا الْأَحْكَامُ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ ثَلَاثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا الْأَوَّلُ لَفْظٌ عَامٌّ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ، أَوْ خَاصٌّ يُحْمَلُ عَلَى خُصُوصِهِ، وَالثَّانِي لَفْظٌ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَالثَّالِثُ لَفْظٌ خَاصٌّ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ وَفِي هَذَا يَدْخُلُ التَّنْبِيهُ بِالْمُسَاوِي عَلَى الْمُسَاوِي وَبِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى وَبِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَقَدْ فُهِمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ إمَّا أَنْ تَأْتِيَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَوْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ فَتَسْتَدْعِي الْفِعْلَ وَفِي حَمْلِ هَذَا الِاسْتِدْعَاءِ عَلَى الْوُجُوبِ إنْ فُهِمَ مِنْهُ الْجَزْمُ وَتَعَلُّقُ الْعِقَابِ بِالتَّرْكِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ إنْ فُهِمَ مِنْهُ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْلِ وَانْتِفَاءُ الْعِقَابِ مَعَ التَّرْكِ أَوْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِمَّا أَنْ تَأْتِيَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ أَوْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ فَتَسْتَدْعِي التَّرْكَ وَفِي حَمْلِ هَذَا الِاسْتِدْعَاءِ عَلَى التَّحْرِيمِ إنْ فُهِمَ مِنْهُ الْجَزْمُ وَتَعَلُّقُ الْعِقَابِ بِالْفِعْلِ أَوْ عَلَى الْكَرَاهَةِ إنْ فُهِمَ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ الْعِقَابِ بِفِعْلِهِ أَوْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا خِلَافٌ كَذَلِكَ.
وَالْأَعْيَانُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُكْمُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَقَطْ، وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالنَّصِّ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا إمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي بِالسَّوَاءِ وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالْمُجْمَلِ وَلَا خِلَافَ
(1/4)
 
 
الرِّوَايَةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ فَأَقُولُ لَهُمْ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِيهَا فَرْعُ تَصَوُّرِهَا وَتَمْيِيزِهَا عَنْ الرِّوَايَةِ فَلَوْ عَرَفْتَ بِأَحْكَامِهَا وَآثَارِهَا الَّتِي لَا تُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا لَزِمَ الدَّوْرُ وَإِذَا وَقَعَتْ لَنَا حَادِثَةٌ غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ مِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهَا شَهَادَةٌ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهَا ذَلِكَ فَلَعَلَّهَا مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ فَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ لِتَمْيِيزِهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَيْنَا الْخِلَافَ فِي إثْبَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ هَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِشَاهِدٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي تَصَانِيفِهِمْ مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ أَوْ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ.
وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِعَدَدِ مَا صَلَّى قَالُوا ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، وَأَجْرَوْا الْخِلَافَ فِيهِمَا لَمْ تُتَصَوَّرْ حَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَتَمَيُّزُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنْ الْأُخْرَى لَا يُعْلَمُ اجْتِمَاعُ الشَّائِبَتَيْنِ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ، وَلَا يُعْلَمُ أَيُّ الشَّائِبَتَيْنِ أَقْوَى حَتَّى يُرَجَّحَ مَذْهَبُ الْقَائِلِ بِتَرْجِيحِهَا، وَلَعَلَّ أَحَدَ الْقَائِلِينَ لَيْسَ مُصِيبًا وَلَيْسَ فِي الْفُرُوعِ إلَّا إحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ أَوْ أَحَدَ الشَّبَهَيْنِ وَالْآخَرُ مَنْفِيٌّ أَوْ الشَّبَهَانِ مَعًا مَنْفِيَّانِ، وَالْقَوْلُ بِتَرَدُّدِ هَذِهِ الْفُرُوعِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ صَوَابًا بَلْ يَكُونُ الْفَرْعُ مُخْرَجًا عَلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى غَيْرِ هَاتَيْنِ، وَهَذَا جَمِيعُهُ إنَّمَا يَتَلَخَّصُ إذَا عَلِمْتَ حَقِيقَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ فَحِينَئِذٍ يُتَصَوَّرُ هُنَا اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ الْفَرْعِ الْعَدْلُ الْوَاحِدُ وَيُعْتَقَدُ أَنَّهُ مُخَرَّجٌ عَلَى الشَّبَهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ إمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِحَقِيقَتِهِمَا فَلَا يَتَأَتَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْفُرُوعُ مُظْلِمَةً مُلْتَبِسَةً عَلَيْنَا، وَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ كَثِيرَ الْقَلَقِ وَالتَّشَوُّفِ إلَى مَعْرِفَتِهِ ذَلِكَ حَتَّى طَالَعْتُ شَرْحَ الْبُرْهَانِ لِلْمَازِرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَجَدْتُهُ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَحَقَّقَهَا وَمَيَّزَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَيْثُ هُمَا، وَاتَّجَهَ تَخْرِيجُ تِلْكَ الْفُرُوعِ اتِّجَاهًا حَسَنًا.
وَظَهَرَ أَيُّ الشَّبَهَيْنِ أَقْوَى، وَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ، وَأَمْكَنَنَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا إذَا وَجَدْنَا خِلَافًا مَحْكِيًّا وَلَمْ يُذْكَرْ سَبَبُ الْخِلَافِ فِيهِ أَنْ نُخَرِّجَهُ عَلَى وُجُودِ الشَّبَهَيْنِ فِيهِ إنْ وَجَدْنَاهُمَا وَنَشْتَرِطَ مَا نَشْتَرِطُهُ وَنُسْقِطَ مَا نُسْقِطُهُ، وَنَحْنُ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّهَادَةُ وَالرِّوَايَةُ خَبَرَانِ غَيْرَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ إنْ كَانَ أَمْرًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ فَهُوَ الرِّوَايَةُ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَالشُّفْعَةُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِهَذَا عِنْدَ هَذَا دِينَارٌ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الشَّهَادَةُ الْمَحْضَةُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَحْضَةُ ثُمَّ تَجْتَمِعُ الشَّوَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ حَاكِيًا عَنْ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيِّ الشَّهَادَةُ وَالرِّوَايَةُ خَبَرَانِ غَيْرَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ إنْ كَانَ أَمْرًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ فَهُوَ الرِّوَايَةُ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَالشُّفْعَةُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ الْحَاكِمِ: لِهَذَا عِنْدَ هَذَا دِينَارٌ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا هُوَ الشَّهَادَةُ الْمَحْضَةُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَحْضَةُ ثُمَّ تَجْتَمِعُ الشَّوَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ قُلْتُ لَمْ يَقْتَصِرْ الْإِمَامُ فِي مُفْتَتَحِ كَلَامِهِ الَّذِي نَقَلَ مِنْهُ الشِّهَابُ مَا نَقَلَ عَلَى الْفَرْقِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ مَعَ الْخُصُوصِ قَيْدًا آخَرَ، وَهُوَ إمْكَانُ التَّرَافُعِ إلَى الْحُكَّامِ وَالتَّخَاصُمِ وَطَلَبِ فَصْلِ الْقَضَاءِ ثُمَّ اقْتَصَرَ فِي مُخْتَتَمِ كَلَامِهِ عَلَى الْخُصُوصِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُكْمًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْمَعَانِي أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ وَيُسَمَّى بِالْإِضَافَةِ إلَى الْبَعْضِ الْأَكْثَرِ ظَاهِرًا وَإِلَى الْبَعْضِ الْأَقَلِّ مُحْتَمَلًا، وَيُحْمَلُ عَلَى الْبَعْضِ الْأَكْثَرِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْبَعْضِ الْأَقَلِّ إلَّا بِدَلِيلٍ فَيَعْرِضُ حِينَئِذٍ خِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي أَقَاوِيلِ الشَّارِعِ مِنْ قِبَلِ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ مِنْ قِبَلِ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ الْعَيْنِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَ، وَمِنْ قِبَلِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمَقْرُونَةِ بِجِنْسِ ذَلِكَ الْعَيْنِ هَلْ أُرِيدَ بِهَا الْكُلُّ أَوْ الْبَعْضُ، وَمِنْ قِبَلِ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي فِي أَلْفَاظِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَصِنْفٌ رَابِعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ إيجَابِ الْحُكْمِ لِشَيْءٍ مَا نَفَى ذَلِكَ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَمَنْ نَفَى الْحُكْمَ لِشَيْءٍ مَا إيجَابُهُ لِمَا عَدَا ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ.
وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ مِثْلَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» فَإِنَّ قَوْمًا فَهِمُوا مِنْهُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ، أَوْ نَشَأَتْ مِمَّا يَعْرِضُ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ النَّسْخِ أَيْ جَوَازِهِ، وَكَوْنِهِ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ كَحُكْمِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] بِحُكْمِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] لِتَأَخُّرِهَا نُزُولًا وَإِنْ تَقَدَّمَتْ تِلَاوَةً، وَثَانِيهَا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ كَحَدِيثِ «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» .
وَثَالِثُهَا السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ كَحُكْمِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الثَّابِتِ بِالسُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] ، وَرَابِعُهَا الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ وَلَوْ آحَادًا عَلَى الصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ إمَّا لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ مَتْنُ الْقُرْآنِ لَا دَلَالَتُهُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نَسْخِهِ بِالْآحَادِ وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً كَآيَةِ الِاسْتِقْبَالِ نَعَمْ الْحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَجَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِحَدِيثِ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ جَمِيعًا نَحْوَ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٍ كَانَ مِمَّا يُتْلَى فَنُسِخَتْ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ وَمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ دُونَ حُكْمِهِ نَحْوَ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا
(1/5)
 
 
وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ حِينَئِذٍ وَبَقِيَّةِ الشُّرُوطِ أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ تُتَوَقَّعُ فِيهِ عَدَاوَةٌ بَاطِنِيَّةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ فَتَبْعَثُ الْعَدُوَّ عَلَى إلْزَامِ عَدُوِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ.
فَاحْتَاطَ الشَّارِعُ لِذَلِكَ وَاشْتَرَطَ مَعَهُ آخَرَ إبْعَادًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، فَإِذَا اتَّفَقَا فِي الْمَقَالِ قَرُبَ الصِّدْقُ جِدًّا بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَيُنَاسِبُ أَيْضًا اشْتِرَاطَ الذُّكُورِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ سُلْطَانٌ وَغَلَبَةٌ وَقَهْرٌ وَاسْتِيلَاءٌ تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ وَتَمْنَعُهُ الْحَمِيَّةُ وَهُوَ مِنْ النِّسَاءِ أَشَدُّ نِكَايَةً لِنُقْصَانِهِنَّ فَإِنَّ اسْتِيلَاءَ النَّاقِصِ أَشَدُّ فِي ضَرَرِ الِاسْتِيلَاءِ فَخُفِّفَ ذَلِكَ عَنْ النُّفُوسِ بِدَفْعِ الْأُنُوثَةِ الثَّانِي أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا فِي مَوَارِدِ الشَّهَادَاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَالْعُمُومِ وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِتَقْسِيمِ حَاصِرٍ، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَصْلُ قَضَاءٍ وَإِبْرَامُ حُكْمٍ وَإِمْضَاءٌ أَوْ لَا فَإِنْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ الشَّهَادَةُ.
وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ تَرَتُّبُ دَلِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ لَا فَإِنْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ الرِّوَايَةُ وَإِلَّا فَهُوَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى بَيَانِ تَفَاصِيلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ مَا يَجُوزُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَاعْتِبَارَاتِهِمْ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ اعْتِبَارِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمُخْبِرَ بِأَنَّ لِزَيْدٍ قِبَلَ عَمْرٍو دِينَارًا غَيْرُ قَاصِدٍ بِذَلِكَ الْخَبَرَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَصْلُ قَضَاءٍ لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ شَاهِدًا عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ بَلْ يُسَمَّى مُخْبِرًا، وَكَذَلِكَ الْمُخْبِرُ عَنْ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي لَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا تَعْرِيفُ دَلِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يُسَمَّى عِنْدَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ رَاوِيًا، وَإِنْ سُمِّيَ كَمَا فِي الْأَقَاصِيصِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهِ مِنْ صِفَاتِ الرُّوَاةِ مَا يَشْتَرِطُونَ فِي رُوَاةِ تَعْرِيفِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ مَا مَعْنَاهُ (إنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا كَانَ مُقْتَضَاهَا إلْزَامًا لِمُعَيَّنٍ، وَهُوَ رُبَّمَا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ عَدَاوَةٌ بَاطِنِيَّةٌ لَا يَطَّلِعُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا، وَالْعَدَاوَةُ رُبَّمَا بَعَثَتْ عَلَى إلْزَامِ الْعَدُوِّ وَعَدُوِّهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ، احْتَاطَ الشَّارِعُ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ إبْعَادًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ) قُلْتُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُهُ مَا قُلْتُهُ مِنْ لُزُومِ اعْتِبَارِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَصْدُ بِالْإِخْبَارِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا فَصْلُ قَضَاءٍ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْعَدُوِّ فِي عَدُوِّهِ مِنْ إلْزَامِهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَيُنَاسِبُ أَيْضًا اشْتِرَاطَ الذُّكُورِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ سُلْطَانَ قَهْرٍ تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ، وَهُوَ مِنْ النِّسَاءِ أَشَدُّ نِكَايَةً فَخُفِّفَ ذَلِكَ عَلَى النُّفُوسِ بِدَفْعِ الْأُنُوثَةِ) قُلْت هَذَا مُنَاسِبٌ كَمَا قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِشَهَادَةِ الْأُنْثَى فِي الْأَمْوَالِ وَفِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ فِيهَا اطِّلَاعُ الرِّجَالِ، لَكِنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ بِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ، وَالْقَوَاعِدُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا مُحَالُ الضَّرُورَاتِ، ثُمَّ إنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الْإِطْلَاقِيِّ، وَجَعَلَهَا مِثْلَهُ بِشَرْطِ الِاسْتِظْهَارِ بِأُخْرَى فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الِاتِّفَاقِيِّ؛ لِأَنَّ إذْعَانَ النُّفُوسِ لِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الْإِطْلَاقِيَّةِ أَشَدُّ مِنْ إذْعَانِهَا لِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الِاتِّفَاقِيَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (الثَّانِي أَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا فِي مَوَارِدِ الشَّهَادَاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ كَانَ مِمَّا يُتْلَى فَرَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحْصَنِينَ» وَمَا نُسِخَ حُكْمُهُ دُونَ تِلَاوَتِهِ كَآيَةِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] الْآيَةَ نُسِخَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى النَّسْخِ إلَى بَدَلٍ كَمَا فِي آيَتَيْ الْأَنْفَالِ وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] فَإِنَّ وُجُوبَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِمَا تَيَسَّرَ عَلَى مُنَاجَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيُطَهِّرَهُ حَتَّى يَكُونَ أَهْلًا لِمُنَاجَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنُسِخَ بِلَا بَدَلٍ لِاسْتِلْزَامِهِ قِلَّةَ الْأَسْئِلَةِ فَإِنَّ فِي السُّكُوتِ رَحْمَةً كَمَا وَرَدَ «اُتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إنَّ اللَّهَ سَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ وَقَدْ شَدَّدَ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي السُّؤَالِ عَنْ الْبَقَرَةِ فَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ بِضِيقِ صِفَاتِهَا حَتَّى غَلَتْ» .
وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَمْ يَقَعْ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْبَدَلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْجَوَازُ الْمُطْلَقُ الصَّادِقُ بِالْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَمِمَّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ التَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الَّتِي تُخِلُّ بِالْفَهْمِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْظُومَةِ مَعَ إضَافَةِ النَّسْخِ إلَيْهَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ مُرَجِّحًا التَّجَوُّزَ عَلَى الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ الْأَصَحِّ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا تَجَوُّزٌ ثُمَّ إضْمَارٌ، وَبَعْدَهُمَا نَقْلٌ تَلَاهُ اشْتِرَاكٌ فَهُوَ يَخْلُفُهُ، وَأَرْجَحُ الْكُلِّ تَخْصِيصٌ وَآخِرُهَا نَسْخٌ فَمَا بَعْدَهُ قِسْمٌ يَخْلُفُهُ وَلَوْ جَرَى عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ اسْتِوَاءِ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ لَقَالَ تَجُوزُ مِثْلُ إضْمَارٍ وَبَعْدَهُمَا إلَخْ، وَيَتَحَصَّلُ فِي تَعَارُضِهَا عَشْرُ صُوَرٍ هِيَ تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالتَّجَوُّزِ، تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالْإِضْمَارِ، تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالنَّقْلِ، تَعَارُضُ التَّخْصِيصِ وَالِاشْتِرَاكِ فَيُقَدَّمُ التَّخْصِيصُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى تَعَارُضُ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ تَعَارُضُ الْإِضْمَارِ وَالِاشْتِرَاكِ تَعَارُضُ النَّقْلِ وَالِاشْتِرَاكِ، فَيُقَدَّمُ كُلٌّ مِنْ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ وَالنَّقْلِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ، تَعَارُضُ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ تَعَارُضُ التَّجَوُّزِ وَالنَّقْلِ تَعَارُضُ الْإِضْمَارِ وَالنَّقْلِ، وَالْأَصَحُّ اسْتِوَاءُ التَّجَوُّزِ وَالْإِضْمَارِ وَتَقْدِيمُهُمَا عَلَى النَّقْلِ
(1/6)
 
 
لِئَلَّا يَعُمَّ ضَرَرُهُنَّ بِالنِّسْيَانِ وَالْغَلَطِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ تَتَأَسَّى فِيهَا النُّفُوسُ وَيَتَسَلَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَيَخِفُّ الْأَلَمُ وَتَقَعُ الْمُشَارَكَةُ غَالِبًا فِي الرِّوَايَةِ لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ وَالْحَاجَةِ، فَيُرْوَى مَعَ الْمَرْأَةِ غَيْرُهَا فَيَبْعُدُ احْتِمَالُ الْغَلَطِ وَيَطُولُ الزَّمَانُ فِي الْكَشْفِ عَنْ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَظْهَرُ مَعَ طُولِ السِّنِينَ خَلَلٌ إنْ كَانَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ تَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ زَمَانِهَا، وَتُنْسَى بِذَهَابِ أَوَانِهَا فَلَا يَطَّلِعُ عَلَى غَلَطِهَا وَنِسْيَانِهَا وَلَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِي عَدَاوَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِالْغَيْرِ فَيَكْفِي الْوَاحِدُ.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ تَأْبَى قَهْرَهَا بِالْعَبِيدِ الْأَدْنَى، وَيَخِفُّ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِالْأَحْرَارِ وَسَرَاةِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ يُوجِبُ الضَّغَائِنَ وَالْأَحْقَادَ بِسَبَبِ مَا فَاتَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْكَسْبِ وَالْمَنَافِعِ فَرُبَّمَا بَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَإِذَايَتِهِ، وَذَلِكَ لِلْخَلَائِقِ يُبْعِدُ الْقَصْدَ إلَيْهِ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ فَهَذَا تَحْقِيقُ الْبَابَيْنِ.
وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الِاشْتِرَاطِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ وَحِينَئِذٍ نَقُولُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
لِئَلَّا يَعُمَّ ضَرَرُهُنَّ بِالنِّسْيَانِ وَالْغَلَطِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ تَتَأَسَّى فِيهَا النُّفُوسُ وَيَتَسَلَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَيَخِفُّ الْأَلَمُ، وَتَقَعُ الْمُشَارَكَةُ غَالِبًا فِي الرِّوَايَةِ لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ وَالْحَاجَةِ فَيَرْوِي مَعَ الْمَرْأَةِ غَيْرُهَا فَيَبْعُدُ احْتِمَالُ الْغَلَطِ وَيَطُولُ الزَّمَانُ فِي الْكَشْفِ عَنْ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَظْهَرُ مَعَ طُولِ السَّبْرِ خَلَلٌ إنْ كَانَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ تَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ زَمَانِهَا، وَتُنْسَى بِذَهَابِ أَوَانِهَا فَلَا يُطَّلَعُ عَلَى غَلَطِهَا وَنِسْيَانِهَا) قُلْتُ كَلَامُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ضَعِيفٌ، أَمَّا قَوْلُهُ فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا لِئَلَّا يَعُمَّ ضَرَرُهُنَّ بِالنِّسْيَانِ وَالْغَلَطِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهِنَّ وَدِينِهِنَّ ثَابِتٌ لَهُنَّ فِي حَالِ الرِّوَايَةِ، كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَالِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُفِيدُ قَوْلُهُ لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّ عُمُومَ التَّكْلِيفِ شَامِلٌ وَلَازِمٌ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، كَمَا أَنَّهُ شَامِلٌ وَلَازِمٌ فِي تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ وَأَدَائِهَا هَذَا إنْ أَرَادَ عُمُومَ التَّكْلِيفِ بِالرِّوَايَةِ نَفْسِهَا، وَإِنْ أَرَادَ عُمُومَ مُقْتَضَاهَا دُونَ مُقْتَضَى الشَّهَادَةِ فَذَلِكَ مُتَّجَهٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا يُفِيدُهُ.
قَوْلُهُ أَيْضًا: فَيَرْوِي مَعَ الْمَرْأَةِ غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ كَمَا يَرْوِي مَعَهَا غَيْرُهَا كَذَلِكَ يَشْهَدُ مَعَهَا غَيْرُهَا، بَلْ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي الرِّوَايَةِ أَنْ يَرْوِيَ مَعَهَا غَيْرُهَا، وَلَازِمٌ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهَا غَيْرُهَا، وَلَا يُفِيدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ لِطُولِ الزَّمَانِ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ طُولِ الزَّمَانِ فِي الْعَمَلِ بِالرِّوَايَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا أَعْلَمُهُ قَوْلًا لِأَحَدٍ، بَلْ الرِّوَايَةُ كَالشَّهَادَةِ فِي الْعَمَلِ بِمُوجَبِهَا عِنْدَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ، هَذَا إنْ أَرَادَ اشْتِرَاطَ طُولِ الزَّمَانِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الرِّوَايَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ فِيمَا بَعْدُ فِي حَقِّ الْمُطَّلِعِ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَلَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِي عَدَاوَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِالْغَيْرِ فَيَكْفِي الْوَاحِدُ) قُلْتُ: هَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، قَالَ شِهَابُ الدِّينِ وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ تَأْبَى قَهْرَهَا بِالْعَبِيدِ الْأَدْنَى، وَيُخَفَّفُ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِالْأَحْرَارِ وَسَرَاةِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ يُوجِبُ الضَّغَائِنَ وَالْأَحْقَادَ بِسَبَبِ مَا فَاتَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْكَسْبِ وَالْمَنَافِعِ فَرُبَّمَا بَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَإِذَايَتِهِ، وَذَلِكَ لِلْخَلَائِقِ يُبْعِدُ الْقَصْدَ إلَيْهِ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ قُلْت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ، وَأَمْثِلَتُهَا تُطْلَبُ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمُشْتَرَكِ مَعَ تَعَدُّدِ الْمَعْنَى وَالْوَضْعِ فِي كُلٍّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مَا وُضِعَ لِمَعْنَيَيْهِ مَثَلًا عَلَى السَّوَاءِ بِأَنْ وُضِعَ لِهَذَا كَمَا وُضِعَ لِذَاكَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ النَّقْلِ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، وَفِي جَوَازِ حَمْلِهِ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيُسَمَّى مُشْتَرَكًا مُطْلَقًا وَعَدَمِ جَوَازِهِ فَلَا يُسَمَّى مُشْتَرَكًا إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَيَيْنِ مَثَلًا.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا فَيُسَمَّى مُجْمَلًا خِلَافٌ، وَالْمَنْقُولُ مَا لَمْ يُوضَعْ لِمَعْنَيَيْهِ مَثَلًا عَلَى السَّوَاءِ بَلْ وُضِعَ أَوَّلًا لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْآخَرِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا مَعَ هَجْرِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّجَوُّزِ التَّجَوُّزُ الِاصْطِلَاحِيُّ الَّذِي هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ إلَخْ فَلَا يَشْمَلُ الْإِضْمَارَ، وَجَعْلُ التَّخْصِيصِ مُقَابِلًا لِلتَّجَوُّزِ لَا نَوْعًا مِنْهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنْ أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي لَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ أَنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا فِيهِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لِتَعَارُضِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ عَوَارِضِ اللَّفْظِ دُونَ النَّسْخِ فَإِنَّهُ مِنْ عَوَارِضِ الْحُكْمِ، وَأَيْضًا قَالَ الْعَطَّارُ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَلَهُمْ خَمْسَةٌ أُخْرَى تُخِلُّ بِالْفَهْمِ وَهِيَ النَّسْخُ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَتَغَيُّرُ الْإِعْرَابِ وَالتَّصْرِيفُ وَالْمُعَارِضُ الْعَقْلِيُّ وَاقْتَصَرَ الشَّارِحُ كَالْمُصَنِّفِ عَلَى الْخَمْسَةِ الْأُولَى لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَلِقُوَّةِ الظَّنِّ مَعَ انْتِفَائِهَا.
اهـ وَمِمَّا يَعْرِضُ لَهَا أَيْضًا مِنْ كَوْنِ الْمَعَانِي الْمُتَدَاوَلَةِ الْمُتَأَدِّيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ اللَّفْظِيَّةِ إجْمَالًا، إمَّا أَمْرٌ بِشَيْءٍ فَيَكُونُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِمَّا نَهْيٌ عَنْ شَيْءٍ فَيَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلْكَرَاهَةِ عَلَى مَا مَرَّ أَيْضًا، وَإِمَّا تَخْيِيرٌ فِيهِ وَهُوَ الْمُبَاحُ فَأَصْنَافُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَلَقَّاةُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ اللَّفْظِيَّةِ خَمْسَةٌ، وَمِنْ كَوْنِ أَسْبَابِ الِاخْتِلَافِ فِي تَأْدِيَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَصْنَافِ اللَّفْظِيَّةِ سِتَّةٌ أَحَدُهَا تَرَدُّدُ الْأَلْفَاظِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ، أَيْ كَوْنُ اللَّفْظِ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ أَوْ خَاصًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ، أَوْ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ أَوْ خَاصًّا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، أَوْ يَكُونُ لَهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ، وَالثَّانِي الِاشْتِرَاكُ الْحَاصِلُ إمَّا فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ كَالْقُرْءِ يُطْلَقُ عَلَى الْأَطْهَارِ وَالْحَيْضِ، وَالْأَمْرُ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ
(1/7)
 
 
الْخَبَرُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ رِوَايَةٌ مَحْضَةٌ كَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَشَهَادَةٌ مَحْضَةٌ كَإِخْبَارِ الشُّهُودِ عَنْ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَمُرَكَّبٌ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَلَهُ صُوَرٌ أَحَدُهَا الْإِخْبَارُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ عَامٌّ عَلَى جَمِيعِ الْمِصْرِ أَوْ أَهْلِ الْآفَاقِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ أَمْ لَا فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ رِوَايَةٌ لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ بِمُعَيَّنٍ وَعُمُومِ الْحُكْمِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْعَامِّ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَبِهَذَا الْقَرْنِ مِنْ النَّاسِ دُونَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ صَارَ فِيهِ خُصُوصٌ وَعَدَمُ عُمُومٍ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ.
وَحَصَلَ الشَّبَهَانِ فَجَرَى الْخِلَافُ وَأَمْكَنَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَاتَّجَهَ الْفِقْهُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ فَإِنْ عَضَّدَ أَحَدَ الشَّبَهَيْنِ حَدِيثٌ أَوْ قِيَاسٌ تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ
وَثَانِيهَا الْقَائِفُ فِي إثْبَاتِ الْأَنْسَابِ بِالْخَلْقِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ أَمْ لَا قَوْلَانِ لِحُصُولِ الشَّبَهَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ زَيْدًا ابْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ ابْنَ خَالِدٍ وَهُوَ حُكْمٌ جَرَى عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِفَ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابًا عَامًّا لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ أَشْبَهَ الرِّوَايَةَ فَيَكْفِي الْوَاحِدُ غَيْرَ أَنَّ شَبَهَ الشَّهَادَةِ هُنَا أَقْوَى لِلْقَضَاءِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَتَوَقُّعِ الْعَدَاوَةِ وَالتُّهْمَةِ فِي الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، وَكَوْنُهُ مُنْتَصِبًا انْتِصَابًا عَامًّا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ مُنْتَصِبٌ لِكُلِّ مَنْ تَتَعَيَّنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
كَلَامُهُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ مُسْتَقِلٌّ بِالتَّعْلِيلِ كَمَا فِي الْمَرْأَةِ بَلْ أَوْلَى، وَالثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مُسْتَقِلًّا أَيْضًا لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ احْتِمَالَ الْعَدَاوَةِ لَمْ يَثْبُتْ عِلَّةً فِي عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي الْحُرِّ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَرْقًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي الْحُرِّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ الْعَدَاوَةِ وَفِي الْعَبْدِ تَحَقَّقَ سَبَبُ الْعَدَاوَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (الْخَبَرُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ إلَى قَوْلِهِ وَلَهُ صُوَرٌ أَحَدُهَا: الْإِخْبَارُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالَ مَا مَعْنَاهُ إنَّهُ رِوَايَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ، وَشَهَادَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهَذَا الْعَامِ وَبِهَذَا الْقَرْنِ) قُلْتُ أَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ رِوَايَةٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الرِّوَايَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِالْوَاحِدِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رِوَايَةٌ حَقِيقَةً فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَرَّرْ ذَلِكَ فِي إطْلَاقِ أَحَدٍ فِيمَا عَلِمْتُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ شَهَادَةٌ فَإِنْ أَرَادَ أَيْضًا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ شَهَادَةٌ حَقِيقَةً فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَفَصْلُ قَضَاءٍ قُلْت وَاَلَّذِي يَقْوَى فِي النَّظَرِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْهِلَالِ حُكْمُهَا حُكْمُ الرِّوَايَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ، وَلَيْسَتْ رِوَايَةً حَقِيقَةً وَلَا شَهَادَةً أَيْضًا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ وُجُودِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ الْمُوجِبِ لِلْعَدَاوَةِ مَا يَتَطَرَّقُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ الدُّنْيَوِيِّ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَثَانِيهَا الْقَائِفُ فِيهِ قَوْلَانِ) قُلْتُ ذَكَرَ فِيهِ شِبْهَ الشَّهَادَةِ وَلَا خَفَاءَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ فِي أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ، وَذَكَرَ شِبْهَ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، وَذَكَرَ السُّؤَالَ الَّذِي أَوْرَدَهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالنَّهْيُ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ.
وَأَمَّا فِي اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْفَاسِقِ فَقَطْ أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى الشَّاهِدِ مَعًا فَتَكُونُ التَّوْبَةُ رَافِعَةً لِلْفِسْقِ وَمُجِيزَةً لِشَهَادَةِ الْقَاذِفِ، وَالثَّالِثُ اخْتِلَافُ الْإِعْرَابِ، وَالرَّابِعُ تَرَدُّدُ اللَّفْظِ بَيْنَ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الَّتِي هِيَ إمَّا الْحَذْفُ وَإِمَّا الزِّيَادَةُ وَإِمَّا التَّأْخِيرُ وَإِمَّا التَّقْدِيمُ وَإِمَّا تَرَدُّدُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الِاسْتِعَارَةِ، وَالْخَامِسُ إطْلَاقُ اللَّفْظِ تَارَةً وَتَقْيِيدُهُ تَارَةً مِثْلُ إطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ تَارَةً وَتَقْيِيدُهَا بِالْإِيمَانِ تَارَةً، وَالسَّادِسُ التَّعَارُضُ فِي الشَّيْئَيْنِ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَلَقَّى مِنْهَا الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ وَمِنْ كَوْنِ هَذِهِ الصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ لِلْعُمُومِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ أَيْ عَنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي طَرِيقُهَا اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ خَاصَّةً إلَّا كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا لِلْجُمْهُورِ.
وَيَشْهَدُ لِثُبُوتِهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَقَائِعَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْأَنَاسِيِّ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالنُّصُوصُ وَالْأَفْعَالُ وَالْإِقْرَارَاتُ مُتَنَاهِيَةٌ وَمُحَالٌ أَنْ يُقَابَلَ مَا لَا يَتَنَاهَى بِمَا يَتَنَاهَى فَسَقَطَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: الْقِيَاسُ فِي الشَّرْعِ بَاطِلٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ فَلَا حُكْمَ لَهُ، وَكَوْنُ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ إلْحَاقُ الْحُكْمِ الْوَاجِبِ لِشَيْءٍ مَا بِالشَّرْعِ بِالشَّيْءِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِشَبَهِهِ بِالشَّيْءِ الَّذِي أَوْجَبَ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ الْحُكْمَ، أَوْ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا فَهُوَ نَوْعَانِ قِيَاسُ شَبَهٍ وَقِيَاسُ عِلَّةٍ، وَكَوْنُهُ وَإِنْ شَارَكَ اللَّفْظَ الْخَاصَّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ فِي إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ يُفَارِقُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِلْحَاقَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّبَهِ الَّذِي بَيْنَهُمَا لَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَفِي الْخَاصِّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَكَوْنُ تَعَارُضِهَا فِي أَنْفُسِهَا وَتَعَارُضِهَا مَعَ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ أَعْنِي مُعَارَضَةَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ أَوْ الْإِقْرَارِ لِلْقِيَاسِ تَكُونُ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ فِي تَأْدِيَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الْأَرْبَعِ.
وَكَوْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إلَّا إذَا اُشْتُهِرَ بِعَمَلٍ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ اشْتِهَارَ الْعَمَلِ فِيمَا نُقِلَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ وَبِخَاصَّةٍ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِ
(1/8)
 
 
عَلَيْهِ شَهَادَةٌ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَهَذَا الشَّبَهُ ضَعِيفٌ فَإِنْ قُلْت: الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ أَنَّ الْقَائِفَ يَخْتَصُّ بِقَبِيلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهُمْ بَنُو مُدْلِجٍ فَيُنَصِّبُ الْحَاكِمُ مِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ فَدُخُولُ نَصْبِ الْحَاكِمِ لِذَلِكَ وَاجْتِهَادِهِ وَتَوَسُّطِ نَظَرِهِ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْعَدَاوَةِ وَيُخَفِّفُ الضَّغِينَةَ فِي قَلْبِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ فَإِنَّ مَنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ أَدَّاهَا وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَيَأْتِي مَنْ يُزَكِّيهِ وَيُنَفِّذُ الْحُكْمَ وَلَا يَتَوَسَّطُ نَظَرُ الْحَاكِمِ فَتَقْوَى دَاعِيَةُ الْعَدَاوَةِ وَتَنْفِرُ النُّفُوسُ مِنْ سَلْطَنَةِ الْمُخْبِرِ عَلَيْهَا بِالْإِلْزَامِ قُلْت هُوَ فَرْقٌ حَسَنٌ وَهُوَ الْمُسْتَنَدُ لِمُعْتَقِدِي تَرْجِيحَ شِبْهِ الرِّوَايَةِ غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ قَدْ رَجَّحَ فِي النَّفْسِ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمُشْتَرَكِ دُونَهُ لِقُوَّتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِفَ قَدْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ نَصْبِ الْإِمَامِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ كَمَا «قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ» وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا أَنَّهُ نَصَّبَهُ لِذَلِكَ، وَلَوْ وُجِدَ مِنْ النَّاسِ أَوْ مِنْ الْقَبَائِلِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ مَنْ يُودِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي أَوْدَعَهَا فِي بَنِي مُدْلِجٍ قُبِلَ قَوْلُهُ أَيْضًا فَعَلِمْنَا أَنَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ وَالْكَشْفِ تَقْوَى شَائِبَةُ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ وَهَذَا التَّرْجِيحُ إنَّمَا تَمَكَّنَّا مِنْهُ عِنْدَ مَعْرِفَتِنَا بِحَقِيقَةِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ مِنْ حَيْثُ هُمَا وَلَوْ لَمْ يَحْصُل كَلَامُ الْمَازِرِيِّ صَعُبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ، وَانْسَدَّ الْبَابُ وَانْحَسَمَ الْفِقْهُ وَرَجَعْنَا إلَى التَّقْلِيدِ الصِّرْفِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَثَالِثُهَا الْمُتَرْجِمُ لِلْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ.
قَالَ مَالِكٌ: يَكْفِي الْوَاحِدُ وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ حُصُولُ الشَّبَهَيْنِ أَمَّا شَبَهُ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّهُ نُصِبَ نَصْبًا عَامًّا لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَخْتَصُّ نَصْبُهُ بِمُعَيَّنٍ.
وَأَمَّا شَبَهُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ لَا يَتَعَدَّى إخْبَارُهُ ذَلِكَ الْخَطَّ الْمُعَيَّنَ أَوْ الْكَلَامَ الْمُعَيَّنَ وَيَأْتِي السُّؤَالُ بِالْفَارِقِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْبَحْثِ بِعَيْنِهِ فِي الْقَائِفِ، وَرَابِعُهَا الْمُقَوِّمُ لِلسِّلَعِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالسَّرِقَاتِ وَالْغُصُوبِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ فِي التَّقْوِيمِ إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيَمِ حَدٌّ كَالسَّرِقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَرُوِيَ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ حُصُولُ ثَلَاثَةِ أَشْبَاهٍ: شَبَهُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَشَبَهُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُقَوِّمَ مُتَصَدٍّ لِمَا لَا يَتَنَاهَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُتَرْجِمِ وَالْقَائِفِ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَثَالِثُهَا الْمُتَرْجِمُ) قُلْتُ لَمْ يُحَرَّرْ الْكَلَامُ فِي هَذَا الضَّرْبِ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ تَابِعَةٌ لِمَا هِيَ تَرْجَمَةٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الرِّوَايَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ، فَكَذَلِكَ وَهَذَا وَاضِحٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ شِبْهِ الرِّوَايَةِ لِنَصْبِهِ نَصْبًا عَامًّا فَضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ شِبْهِ الشَّهَادَةِ بِكَوْنِهِ يُخْبِرُ عَنْ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُرُودِ السُّؤَالِ وَالْبَحْثِ فِيهِ كَمَا فِي الْقَائِفِ صَحِيحٌ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَرَابِعُهَا الْمُقَوِّمُ) ذَكَرَ فِيهِ شِبْهَ الرِّوَايَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ وَشِبْهَ الْحُكْمِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ لِتَرَتُّبِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بِإِلْزَامِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ رِوَايَةً أَوْ شَهَادَةً فَشُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ سَارِقًا ثَبَتَتْ سَرِقَتُهُ لِمَا قَوَّمَهُ عَدْلَانِ عَارِفَانِ بِرُبْعِ دِينَارٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَرْضِ مُرْتَفِعٌ، وَالْحَدَّ لَازِمٌ مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْمُقَوِّمِ كَالرَّاوِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مَالِكٍ وَبَيَانِ صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَأَمَّا طَرِيقَا الْفِعْلِ وَالْإِقْرَارَاتِ فَلَا يَنْشَأُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ الْفِعْلِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي تُتَلَقَّى مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَمِنْ حَيْثُ الْخِلَافُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ هَلْ الْوُجُوبُ أَوْ النَّدْبُ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ إنْ أَتَى بَيَانًا لِمُجْمَلٍ وَاجِبٍ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ لِمُجْمَلٍ مَنْدُوبٍ دَلَّ عَلَى النَّدْبِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ دَلَّ عَلَى النَّدْبِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ دَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
وَالْبَحْثُ عَنْ الْإِقْرَارَاتِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ مُعَارَضَةَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ لَهُ كَمُعَارَضَتِهِ لِلْقِيَاسِ، وَمُعَارَضَةُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ تَكُونُ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ فِي تَأْدِيَةِ الْأَحْكَامِ مِنْ الطُّرُقِ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ لِتَلَقِّيهَا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُسْتَنِدًا لِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا لَاقْتَضَى إثْبَاتَ شَرْعٍ زَائِدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ اهـ مُلَخَّصًا مِنْ بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ وَعَبْدِ السَّلَامِ وَالْأَمِيرِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ وَرِسَالَةِ الصَّبَّانِ الْبَيَانِيَّةِ وَالْأُنْبَابِيُّ عَلَيْهَا.
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) : قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ فِقْهِيَّةٌ جَلِيلَةٌ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ عَظِيمَةُ الْمَدَدِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ وَحِكَمِهِ، لِكُلِّ قَاعِدَةٍ مِنْ الْفُرُوعِ مَا لَا يُحْصَى وَلَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا أَتَّفَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هُنَالِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَقَدْ وَضَعَ الْمُحَقِّقُونَ لِتَفْصِيلِهِ كُتُبَ الْقَوَاعِدِ مُهْتَمِّينَ بِتَحْصِيلِهِ اهْتِمَامَهُمْ بِتَحْصِيلِ الْأُصُولِ بَلْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ مُهِمَّةٌ عَظِيمَةُ النَّفْعِ فِي الْفِقْهِ بِقَدْرِ الْإِحَاطَةِ بِهَا يَعْظُمُ قَدْرُ الْفَقِيهِ، وَيَظْهَرُ رَوْنَقُ الْفِقْهِ بِلَا تَمْوِيهٍ وَتَتَّضِحُ مَنَاهِجُ الْفَتَاوَى وَتَنْكَشِفُ، وَيَحُوزُ قَصَبَ السَّبَقِ مَنْ بِالْبَرَاعَةِ فِيهَا يَتَّصِفُ نَعَمْ فِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيّ عَلَى شَرْحِ عبق عَلَى خَلِيلٍ أَنَّ صَاحِبَ الدِّيبَاجِ عِنْدَ تَرْجَمَةِ ابْنِ بَشِيرِ بْنِ الطَّاهِرِ إبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْد الصَّمَدِ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
(1/9)
 
 
الشَّاهِدَ كَذَلِكَ وَشَبَهُ الْحَاكِمِ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ، وَالْحَاكِمُ يُنَفِّذُهُ وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ شَبَهِ الرِّوَايَةِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قُوَّةُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ هَذَا الْإِخْبَارُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ إبَاحَةِ عُضْوِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَوْنِهِ رِوَايَةً أَوْ شَهَادَةً شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ، وَخَامِسُهَا الْقَاسِمُ قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ وَالْأَحْسَنُ اثْنَانِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ شَبَهُ الْحُكْمِ أَوْ الرِّوَايَةِ أَوْ الشَّهَادَةِ وَالْأَظْهَرُ شَبَهُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ اسْتَنَابَهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا وَسَادِسُهَا إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِعَدَدِ مَا صَلَّى هَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْوَاحِدِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَشَبَهُ الْحَاكِمِ هُنَا مُنْتَفٍ فَإِنَّ قَضَايَا الْحَاكِمِ لَا تَدْخُلُ فِي الْعِبَادَاتِ بَلْ شَبَهُ الرِّوَايَةِ أَوْ الشَّهَادَةِ.
أَمَّا الرِّوَايَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُ عَنْ إلْزَامِ حُكْمٍ لِمَخْلُوقٍ عَلَيْهِ بَلْ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى فَأَشْبَهَ إخْبَارَهُ عَنْ السُّنَنِ وَالشَّرَائِعِ، وَأَمَّا شَبَهُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَسَابِعُهَا أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَ فِي الْمُخْبِرِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ، وَكَذَلِكَ الْخَارِصُ وَقَالَ مَالِكٌ يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاسِمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَيُقَلَّدُ الْمُؤَذِّنُ الْوَاحِدُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْمَلَّاحُ وَمَنْ صِنَاعَتُهُ فِي الصَّحْرَاءِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْقِبْلَةِ إذَا كَانَ عَدْلًا يَغْلِبُ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ شَبَهُ الرِّوَايَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
أَوْ كَالشَّاهِدِ فِي هَذَا الْفَرْضِ قَائِمٌ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَخَامِسُهَا الْقَاسِمُ) وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ شِبْهُ الْحُكْمِ أَوْ الرِّوَايَةِ قُلْت: لَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِصَحِيحٍ بَلْ مَنْشَأُ الْخِلَافِ شِبْهُ الْحُكْمِ أَوْ التَّقْوِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ الْقَسْمَ مِنْ نَوْعِ الْحُكْمِ اكْتَفَى بِالْوَاحِدِ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التَّقْوِيمِ وَبَنَى عَلَى الْأَصَحِّ اشْتَرَطَ الْعَدَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَسَادِسُهَا مُخْبِرُ الْمُصَلِّي بِعَدَدِ مَا صَلَّى) قُلْت ذَكَرَ أَنَّ شِبْهَ الْحُكْمِ فِيهِ مُنْتَفٍ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَذَكَرَ شِبْهَ الرِّوَايَةِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَذَكَرَ شِبْهَ الشَّهَادَةِ وَقَالَ إنَّهُ الْأَظْهَرُ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِصَحِيحٍ بَلْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَوْعِ الرِّوَايَةِ وَلَا مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ وَشَبَهُهُ بِالرِّوَايَةِ ظَاهِرٌ غَيْرَ أَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا كُلِّفَ بِهِ إلَّا بِيَقِينٍ فَلَا يَكْفِي الْوَاحِدُ إلَّا مَعَ قَرَائِنَ تُوجِبُ الْقَطْعَ، وَكَذَلِكَ فِي الِاثْنَيْنِ وَمَا فَوْقَهُمَا، وَنَقُولُ طَلَبُ الْيَقِينِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مِمَّا يَشُقُّ وَيُحْرِجُ، وَالْحَرَجُ مَرْفُوعٌ شَرْعًا وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَسَابِعُهَا الْمُخْبِرُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ، وَالْخَارِصُ وَذَكَرَ إطْلَاقَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِمَا الْوَاحِدُ، قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاسِمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ) قُلْتُ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْقَاسِمِ، وَأَمَّا الْمُخْبِرِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَالْخَارِصُ فَالْأَوْلَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَارِصَ فِي مَعْنَى الْقَاسِمِ، وَالْمُخْبِرَ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ فِي مَعْنَى مُخْبِرِ الْمُصَلِّي.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (أَوْ يُقَلِّدُ الْمُؤَذِّنَ الْوَاحِدَ وَالْمَلَّاحَ وَمَنْ صِنَاعَتُهُ فِي الصَّحْرَاءِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْقِبْلَةِ يَغْلِبُ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ شِبْهُ الرِّوَايَةِ) قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَغْلِبُ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ شِبْهُ الرِّوَايَةِ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُخْبِرِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَالْخَارِصِ وَبَيْنَ الْمُؤَذِّنِ وَالْمُخْبِرِ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَأَمَّا الْأَخِيرَانِ فَشَبَهُ الرِّوَايَةِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ كَمَا قَالَ شِهَابُ الدِّينِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
يَسْتَنْبِطُ أَحْكَامَ الْفُرُوعِ مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَى هَذَا مَشَى فِي كِتَابَةِ التَّنْبِيهِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ نَبَّهَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُخَلِّصَةٍ، وَالْفُرُوعُ لَا يَطَّرِدُ تَخْرِيجُهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ اهـ بِلَفْظِهِ فَتَنَبَّهْ.
(الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ) الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ فَرَقَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْمَعَانِي وَفَرَّقَ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْأَجْسَامِ نَظَرًا لِكَوْنِ كَثْرَةِ الْحُرُوفِ عِنْدَهُمْ تَقْتَضِي كَثْرَةَ الْمَعْنَى أَوْ زِيَادَتَهُ أَوْ قُوَّتَهُ غَالِبًا، وَالْمَعَانِي لَطِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا التَّخْفِيفُ، وَالْأَجْسَامُ كَثِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا التَّشْدِيدُ فَمِنْ الْغَالِبِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وقَوْله تَعَالَى {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وقَوْله تَعَالَى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] وَلَا تَكَادُ تَسْمَعُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَّا قَوْلَهُمْ مَا الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَا يَقُولُونَ مَا الْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ قَوْله تَعَالَى {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] وقَوْله تَعَالَى {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50] فَخَفَّفَ فِي الْأَجْسَامِ وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ: فَرِّقْ لِي بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَا يَقُولُونَ أَفْرِقْ لِي بَيْنَهُمَا، وَيَقُولُونَ بِأَيِّ شَيْءٍ نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ، وَلَا يَقُولُونَ بِأَيِّ شَيْءٍ نَفْرُقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّخْفِيفِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
 
[الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ]
(الْفَرْقُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ) بِبَيَانِ مَعْنَاهُمَا أَمَّا لُغَةً فَالشَّهَادَةُ مَصْدَرُ شَهِدَ وَلِشَهِدَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا حَضَرَ يُقَالُ شَهِدَ بَدْرًا وَشَهِدْنَا صَلَاةَ الْعِيدِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فِي الْمِصْرِ فَلْيَصُمْهُ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَا يَلْزَمُ الْمُسَافِرَ، فَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ الْمُقِيمُ الْحَاضِرُ وَثَانِيهَا أَخْبَرَ، يُقَالُ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَيْ أَخْبَرَ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَثَالِثُهَا عَلِمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] أَيْ عَلِيمٌ وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي كَوْنِ شَهِدَ فِي قَوْله تَعَالَى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] بِمَعْنَى عَلِمَ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَوْ بِمَعْنَى أَخْبَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عِبَادَهُ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ، وَالرِّوَايَةُ مَصْدَرُ رَوَى
(1/10)
 
 
أَمَّا الْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ فَلِشَبَهِهِ بِالْمُفْتِي وَالْمُفْتِي لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ؛ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ كَالرَّاوِي لِلسُّنَّةِ، وَلِأَنَّهُ وَارِثٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْفِي وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ وَارِثُهُ فَالْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ أَوْ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ مُبَلِّغٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا فَرْقًا وَهُوَ أَنَّ الْمُفْتِيَ لَا يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بَلْ عَنْ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حُكْمُ الَّذِي يَعُمُّ الْخَلَائِقَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ أَوْ الصَّلَاةِ مُخْبِرٌ عَنْ وُقُوعِ سَبَبٍ جُزْئِيٍّ فِي شَخْصٍ جُزْئِيٍّ.
وَهَذَا شَبَهٌ شَدِيدٌ بِالشَّهَادَةِ أَمْكَنَ مُلَاحَظَتُهُ، وَكَذَلِكَ الْخَارِصُ إنْ جُعِلَ حَاكِمًا يُتَّجَهُ لَا رَاوِيًا، وَالْحَاكِمُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِيهِ وَفِي السَّاعِي أَنَّ تَصَرُّفَهُمَا تَصَرُّفُ الْحَاكِمِ، وَالْقَاسِمُ أَيْضًا كَذَلِكَ إنْ اسْتَنَابَهُ الْحَاكِمُ فَشَائِبَةُ الْحَاكِمِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ انْتَدَبَهُ الشَّرِيكَانِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْكِيمِ وَالْمُؤَذِّنُ مُخْبِرٌ عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَهُوَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا أَسْبَابُهَا فَأَشْبَهَ الْمُخْبِرَ عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَارَقَ الْمُفْتِيَ.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا اثْنَانِ، وَيَغْلِبُ شَائِبَةُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا إخْبَارٌ عَنْ سَبَبٍ جُزْئِيٍّ فِي وَقْتٍ جُزْئِيٍّ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَرَهُ مُشْتَرَطًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
(أَمَّا الْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ فَلِشَبَهِهِ بِالْمُفْتِي إلَى قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ وَارِثُهُ) قُلْت مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ شَبَهِ الْمُخْبِرِ عَنْ النَّجَاسَةِ بِالْمُفْتِي، وَقَدْ عَطَفَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ذِكْرِ الْفَرْقِ فَقَالَ غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا فَرْقًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُفْتِيَ لَا يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بَلْ عَنْ الْحُكْمِ، وَالْمُخْبِرُ عَنْ النَّجَاسَةِ أَوْ الصَّلَاةِ مُخْبِرٌ عَنْ وُقُوعِ سَبَبٍ جُزْئِيٍّ فِي شَخْصٍ جُزْئِيٍّ، وَهَذَا شَبَهٌ شَدِيدٌ بِالشَّهَادَةِ أَمْكَنَ مُلَاحَظَتُهُ قُلْت إضْرَابُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ قَيْدِ فَصْلِ الْقَضَاءِ فِي الشَّهَادَةِ أَوْقَعَهُ فِي اعْتِقَادِ قُوَّةِ الشَّبَهِ هُنَا بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُخْبِرِ الْمُصَلِّي أَنَّ الْأَظْهَرَ شَبَهُ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (وَكَذَلِكَ الْخَارِصُ إنْ جُعِلَ حَاكِمًا يَتَّجِهُ لَا رَاوِيًا، وَالْحَاكِمُ يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِيهِ وَفِي السَّاعِي أَنَّ تَصَرُّفَهُمَا تَصَرُّفُ الْحَاكِمِ وَالْقَاسِمِ أَيْضًا كَذَلِكَ إنْ اسْتَنَابَهُ الْحَاكِمُ فَشَائِبَةُ الْحَاكِمِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ انْتَدَبَهُ الشَّرِيكَانِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْكِيمِ) قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْقَسْمَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْحُكْمِ وَمِنْ نَوْعِ التَّقْوِيمِ، وَالْخَرْصُ فِي مَعْنَاهُ وَأَمَّا السَّاعِي فَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَاكِمِ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَالْمُؤَذِّنُ مُخْبِرٌ عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ وَهُوَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا أَسْبَابُهَا فَأَشْبَهَ الْمُخْبِرَ عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَارَقَ الْمُفْتِيَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا اثْنَانِ، وَيَغْلِبُ شَائِبَةُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا إخْبَارٌ عَنْ سَبَبٍ جُزْئِيٍّ فِي وَقْتٍ جُزْئِيٍّ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَرَهُ مُشْتَرَطًا) قُلْت إضْرَابُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ قَيْدِ فَصْلِ الْقَضَاءِ حَمَلَهُ عَلَى تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الصَّلَاةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَبَيْنَ الْخَبَرِ عَنْ وُقُوعِ سَبَبِ الْبَيْعِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَلَا خَفَاءَ بِالْفَرْقِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ قَصْدِ الْعَدُوِّ إلْزَامَ عَدُوِّهِ مَا لَا يَلْزَمُهُ وَالتَّشَفِّي مِنْهُ بِذَلِكَ مَا يَتَطَرَّقُ إلَى الثَّانِي، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَوَّلَ فِي مَعْنَى الرِّوَايَةِ، وَالثَّانِيَ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ.
قَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِمَعْنَى حَمَلَ وَتَحَمَّلَ فَرَاوِي الْحَدِيثِ حَمَلَهُ وَتَحَمَّلَهُ عَنْ شَيْخِهِ، فَلِذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ إنَّ إطْلَاقَ الرَّاوِيَةِ عَلَى الْمَزَادَةِ الَّتِي يُحْمَلُ فِيهَا الْمَاءُ عَلَى الْجَمَلِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِعَلَاقَةِ الْمُ