العدة في أصول الفقه 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : العدة في أصول الفقه
المؤلف : القاضي أبو يعلى ، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى : 458هـ)
عدد الأجزاء : 5 أجزاء
وروي: (من فارق الجماعة (1) قِيدَ شِبْر، فقد خَلَع
__________
= وأخرجه عنه البزار بسنده في باب الإِجماع من كتاب كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي (1/88) .
وأخرجه ابن حزم بسنده إلى ابن مسعود موقوفاً في كتابه الإِحكام في أصول الأحكام (6/759) قال: (فذكر كلاماً -يعنى ابن مسعود- فيه: "فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن") .
وقد قال ابن حزم قبل إيراد السند: (وهذا لا نعلمه بسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه أصلاً، وأما الذى لا شك فيه فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه عن ابن مسعود) .
قال الزيلعى في نصب الراية (4/133) : (قلت: غريب مرفوعاً، ولم أجده إلا موقوفاً على ابن مسعود، وله طرق) ثم ذكر بعد ذلك تلك الطرق.
وقال الهيثمى في مجمع الزوائد (1/177-178) (رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله موثقون) .
وقال السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة ص (367) : (وهو موقوف حسن) .
وقال العلائي - فيما نقله عنه السيوطي في الأشباه والنظائر ص (99) وابن نجيم في الأشباه والنظائر أيضاً ص (93) : (لم أجده مرفوعاً في شىء من كتب الحديث أصلاً، ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- موقوفاً عليه) .
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5/3601) (إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن مسعود) .
والحديث روي مرفوعاً من حديث أنس -رضى الله عنه- نقل العجلوني في كتابه كشف الخفاء (2/263) رقم (2214) عن ابن عبد الهادى قوله: (روى مرفوعاً من حديث أنس بإسناد ساقط والأصح: وقفه على ابن مسعود) .
والخلاصة: أن الحديث لا يثبت رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو موقوف على ابن مسعود - رضي الله عنه - بسند صحيح.
(1) الجماعة: أهل الفقه والعلم والحديث، كما يقول الترمذي في سننه (4/467) . والمراد بهم: أهل الحل والعقد، فلا يجوز الخروج عما أجمعوا عليه في الإِمامة وغيرها. =
(4/1077)
 
 
رِبْقة (1) الإِسلام من عُنقِه) (2) .
__________
= ويقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي في تعليقه على كتاب الإحكام للآمدى (1/219) : (المراد بالجماعة: أهل الحق المتبعون للكتاب والسنة، قلوا أو كثروا) .
والمراد بالمفارقة هنا - كما يقول ابن أبي جمرة فيما نقله صاحب الفتح (13/7) : (السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير، ولو بأدني شىء) .
(1) الربقة -كما يقول ابن الأثير في كتابه النهاية (2/62) مادة (ربق) -: (في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها فاستعارها للإسلام، يعنى: ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام أى: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه ... ) .
(2) هذا الحديث رواه أبو ذر - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب السنة، باب قتل الخوارج (2/542) بمثل لفظ المؤلف، وسكت عنه.
ْوأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/180) ، كما أخرجه عن الحارث الأشعرى - رضي الله عنه - مرفوعاً (4/130، 202) من حديث طويل، وفيه (.. فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه إلا أن يرجع..) .
كما أخرجه مرفوعاً عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أراه أبا مالك الأشعرى (5/344) . ولفظ الشاهد قريب من اللفظ السابق.
وأخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الصوم (1/421-422) جزء من حديث عن الحارث الأشعري - رضي الله عنه - ولفظه كلفظ الإمام أحمد السابق ذكره، ثم عقب عليه بقوله: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبى على ذلك.
والحاصل: أن الحديث الذي رواه أبو ذر، وأخرجه عنه أبو داود وأحمد -كما سبق بيانه- في سنده "خالد بن وهبان" وهو مجهول، ولكن الحديث صحيح للشواهد الكثيرة، منها: عن الحارث الأشعري فيما أخرجه الإمام أحمد والحاكم كما سبق بيانه أيضاً.
انظر: تعليق الشيخ الألباني على مشكاة المصابيح (1/65) ، وفتح الباري (13/7) .
(4/1078)
 
 
(ومن فَارَقَ الجماعةَ ماتَ مِيتَةً جَاهلية) (1) .
__________
(1) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الفتن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سترون بعدي أموراً تنكرونها.. (9/59) ولفظه (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه؛ فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية) .
كما أخرجه في كتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (9/78) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الامارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين. (3/1475) .
وأخرجه عنه الدارمى في سننه في كتاب السير باب في لزوم الطاعة والجماعة (2/158) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/297) .
وأخرجه النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب تحريم الدم، باب التغليظ فيمن قاتل تحت راية عمية (7/112) ضمن حديث جاء فيه (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية..) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/296) ، (306) ، (488) .
ورواه عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (3/445) .
ورواه ابن عمر -رضى الله عنهما- مرفوعاً أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/133) .
والتشبيه في قوله - صلى الله عليه وسلم - (مات ميتة جاهلية) إما أن يكون مراداً أولا:
فإن كان غير مراد فيكون المعنى:
يموت موت أهل الجاهلية على ضلال، وليس له إمام مطاع، لأن الجاهليين لايعرفون ذلك، وعلى هذا يموت عاصياً لا كافراً.
وإن كان التشبيه مراداً، فيكون المعنى: =
(4/1079)
 
 
وروي: (عليكم بالسَّواد (1) الأعظم) (2) .
وروي: (ثلاث لا يغل (3) عليهن (4) قلب مؤمن (5) : إخلاص العمل لله والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين) (6) .
__________
أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن جاهلياً.
أو أن ذلك ورد مورد الزجر، وظاهره غير مراد.
انتهى ملخصاً من فتح الباري (13/7) .
(1) المراد بالسواد الأعظم - كما يقول ابن الأثير في كتابه النهاية (2/191) مادة "سود": (جملة الناس ومعظمهم الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك النهج المستقيم) .
(2) هذا جزء من حديث رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعاً ضمن حديث: (لا تجتمع أمتي على ضلالة....) وقد مضى تخريجه قريباً.
(3) كلمة "يغل" وردت بثلاث روايات:
الأولى: "يُغِلّ" بضم الياء، من الإغلال، الذي هو الخيانة في كل شيء.
الثانية: "يَغِلّ" بفتح الياء، من الغل، وهو الحقد.
الثالثة: "يَغِلُ" بفتح الياء والتخفيف من الوغول، وهو الدخول في الشيء.
والمعنى: أن هذه الخصال الثلاث، يستصلح بها قلب العبد المؤمن، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة.
انظر: النهاية في غريب الحديث (3/168) مادة "غلل".
في الأصل: (علهم) ، وهو خطأ.
(5) عند الامام أحمد من رواية جبير بن مطعم (قلب المؤمن) ، وعند الترمذي من رواية ابن مسعود (قلب مسلم) وهو كذلك عند أحمد من رواية زيد بن ثابت، وعند أحمد من رواية أنس (صدر مسلم) والمعنى لا يختلف.
(6) هذا جزء من حديث رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (5/34-35) .
(4/1080)
 
 
وروي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الشذوذ، وقال: (مَن شَذ (1) شَذَّ فِى النَّار) (2) .
وهذا كله يدل على أن اتباع المجمعين فيما أجمعوا عليه واجب (3) .
فإن قيل: هذه أخبار آحاد فلا يجوز الاحتجاج بها في مثل المسألة.
قيل: هذه مسألة شرعية، طريقها مثل مسائل الفروع، ليس للمخالف فيها طريق تمكنه أن يقول: إنه موجب القطع.
وجواب آخر، وهو: أنه تواتر في المعنى من وجهين:
__________
= ورواه جبير بن مطعم -رضى الله عنه- مرفرعاًَ، أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/80) ، ولفظه قريب من لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه الدارمى في سننه في المقدمة باب الاقتداء بالعلماء (1/56) بلفظ قريب من لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر (2/1015) رقم الحديث (3056) .
رواه: أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفرعاً، أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (3/225) .
ورواه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/183) .
(1) الشُّذُوذُ معناه: الانفراد والمفارقة، وشَذَّ: ندر عن الجمهور والمراد هنا: مفارقة جماعة المسلمين.
انظر: معجم مقاييس اللغة (3/80) ، والقاموس (1/354) مادة (شذّ) .
(2) هذا جزء من حديث رواه ابن عمر -رضى الله عنهما- مرفوعاً سبق تخريجه بلفظ: (لا تجتمعُ أمتي على ضلالة) .
(3) هذا إشارة إلى وجه الاستدلال من الأحاديث التي ذكرها المؤلف.
(4/1081)
 
 
أحدهما: أن الألفاظ الكثيرة إذا وردت من طرق مختلفة، ورواة شتَّى، لم يجز أن يكون جميعها كذباً، ولم يكن بد من أن يكون بعضها صحيحاً.
ألا ترى أن الجمع الكثير إذا أخبروا بإسلامهم، وجب أن يكون فيهم صادق (1) قطعاً.
ولهذا نقول: لا يجوز أن يقال: جميع ما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون كذباً موضوعاً.
ولهذا أثبتنا كثيراً من معجزات رسول الله، وأثبتنا وجوب العمل بخبر الواحد بما روي عن الصحابة -رضى الله عنهم- من العمل به في قضايا مختلفة.
والثاني: أن هذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، ولم ينقل عن أحد أنه رده، ولهذا نقول: إن قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (نحن معشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركنا صدقة) (2) ، لما اتفقوا على العمل به، دل على أنه صحيح عندهم.
__________
(1) في الأصل: (صادقاً) وهو خطأ؛ لأن حقه الرفع اسم "يكون".
(2) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. أخرجه عنها البخاري في صحيحه في كتاب الفرائض باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا نورث، ما تركنا صدقة) (8/185-187) .
وأخرجه عنها مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (لا نورث) .. الحديث (3/379-1383) .
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال (2/126- 128) .
وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة -رضى الله عنه- مرفوعاً، في كتاب السير باب ما جاء في تركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- (4/157-158) .
راجع أيضاً: تيسير الوصول إلى جامع الأصول (3/148-149) والمنتقى من أحاديث الأحكام ص (524) .
(4/1082)
 
 
فإن قيل: نحمل قوله: (لا تجتمع أمتي على الخَطَأ) (1) يعنى: على كفر.
قيل: هذا محمول على الأمرين جميعاً (2) .
وعلى أن الخطأ إنما يعبر به عن المعاصى والآثام، دون الكفر.
فإن قيل: قوله: (لا تجتمعُ على ضلالة) معناه: لا يجمعهم الله على الضلال.
قيل: الخبر عام، لا يجمعهم الله ولا يجتمعون.
فإن [161/أ] قيل: قوله: (لا تجتمع أمتي) ، وإن كان لفظه لفظ الخبر، فالمراد به: النهي، وتقديره: لا تجتمعوا على ضلال؛ لأنه لو كان خبراً لوقع بخلاف مخبره؛ لأنا نجد في الأمة اجتماعها على الضلال.
قيل: قوله: (لا تجتمع على ضلالة) (3) خبر، وقوله: "يقع بخلاف مخبره" غلط؛ لأنا لم نجد اجتماع الأمة على ضلالة، وإنما يوجد بعضهم، والخبر اقتضى اجتماعهم.
فإن قيل: فهذه الأخبار يعارضها ما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن (لا تقوم الساعة إلا على أشرار (4) الناس) (5) ، وكيف يكون اجتماع الناس حجة؟
__________
(1) الرواية التي ذكرها المؤلف فيما سبق: (لا تجتمع أمتي على خطأ) وهى المناسبة لأن يذكر بعدها قول المعترض: (يعنى: على كفر) .
(2) لم يذكر إلا أمراً واحداً وهو: "الكفر" ولكن الجواب عن الاعتراض فيما بعد يوضح الأمرين.
(3) في الأصل: (ضلال) ، والحديث: (لا تجتمع على ضلالة) .
(4) هكذا في الأصل: (أشرار) ، وفي القاموس مادة "شر" (2/57) : وأشَر قليلة أو رديئة. وفي هامش الأصل، ومصادر التخرج الآتي ذكرها: (شرار) بدون الألف المهموزة.
(5) هذا الحديث رواه ابن مسعود -رضى الله عنه- مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن، باب قرب الساعة (4/2268) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/435) . =
(4/1083)
 
 
قيل: أراد به الغالب، فهم الشرار، وهذا سائغ إطلاقه.
وأيضاً: فإنه لا خلاف أن نصب الزكاة والمقادير الواجبة فيها ثابتة مقطوع بها، في خمس من [الإبل] شاة، وفي عشرين [ديناراً] نصف دينار، وفي خمس وعشرين من الإبل بنتُ مخاض (1) ، وفي ثلاثين من البقر تبيع" (2) ، وأربعين مسنة (3) ، و [في] ، أربعين (4) [شاةٌ] ، شاةٌ، وفي مائتين [من الدراهم] ، خمسةُ دراهم (5) .
وكذلك أركان الصلاة مقطوع بها، ومعلوم: أنه ما ثبت فيها خبر تواتر، وإنما نقل فيها أخبار آحاد: ابن عمر وأنس وغيرهما، عدد معروف، فلما اتفقوا عليها، وقطعوا على ثبوتها، علمنا أن ثبوتها قطعاً من حيث الإِجماع، لا من حيث أخبار
__________
= ورواه علباء السلمي - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (3/499) ولفظه (لا تقوم الساعة إلا على حثالة الناس) .
(1) المَخَاضُ: وجع الولادة، وهو الطَّلْق أيضاً، وبنت المخاض: ما استكملت سنة، ودخلت في الثانية، والكلام على تقدير محذوف، أي: بنت ناقة مخاض، ولا يشترط مخاض أمها.
انظر: تهذيب اللغة للأزهرى (7/121) والمطْلع على أبواب المقْنِع للبعلي ص (123) .
(2) التبيع من البقر: ماله سنة، وسمي بذلك لأنه يتبع أمه، والأنثى: تبيعة.
انظر: تهذيب اللغة (2/283) ، والمطلع على أبواب المقنع (125) .
(3) المسنة من البقر: مالها سنتان ودخلت في الثالثة، وهي الثنية؛ لأن البقرة تثني في السنة الثالثة.
انظر: تهذيب اللغة (12/299) ، والمطلع على أبواب المقنع ص (125) .
(4) في الأصل: (أربعون) .
(5) كان الأولى أن يرتب المؤلف هذه المقادير، فيأتي بمقدار الذهب والفضة، ثم يأتي بمقدار الزكاة في الأنعام.
(4/1084)
 
 
الآحاد، بل من ناحية أن الأمة تلقتها بالقبول، فصارت الأخبار فيها كالمتواترة.
واحتج بعضهم فيها بطريق عقلي، فقال: كان سائر الأمم إذا أتفقت على باطل، وأجمعت على تغيير وتبديل، بعث الله إليهم نبياً، فردهم إلى الحق والصواب، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء، ولا نبي بعده، فجعلت أمتُه معصومةٍ، لتكون عصمتُها عوضاً عن بعثة النبي.
واحتج المخالف:
بقوله: (وَنَزَّلنَا عَلَيْكَ (1) الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُل شَىْء (2)) ثبت أنا لا نفتقر معه إلى غيره.
وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ) (3) يبين أن لا حكم لغيره.
وقال تعالى: (فَإِن تَنَازعْتُم فِى شَىْءٍ فَرُدوُّه إلى اللهِ وَالرسُولِ) (4) .
وأشباه هذه الظواهر.
والجواب: عن قوله: (تِبْيَاناً لِّكُل شَىْءٍ) فهكذا نقول، فقد بين الله تعالى عن الإِجماع بقوله: (وَمنْ يُشَاقِقِ الرسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيل الْمُؤْمِنينَ) (5) .
وأما قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) وقوله: (فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) معناه: إلى كتاب الله، وكذا نقول، وفي الكتاب والسنة أن الإِجماع حجة.
__________
(1) في الأصل: (وأنزلنا إليك) وهو خطأ.
(2) آية (89) من سورة النحل.
(3) آية (10) من سورة الشورى.
(4) آية (59) من سورة النساء.
(5) آية (115) من سورة النساء.
(4/1085)
 
 
واحتج: بما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: (بم تحكم إذا عرض لك قضاء؟ فقال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله قال: بسنة رسول الله [161/ب] قال: فإن لم تجد في سنة رسولِ الله، قال: أجتهد رأيى، ولا آلو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه) (1) فذكر الأدلة، ولم يذكر فيها الإجماع.
والجواب: أنه لا حجة فيه؛ لأن الإجماع إنما يعتبر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز أن ينعقد الإجماع في حياته دونه، وقوله بانفراده عنه لا يفتقر إلى قول غيره، فلم يكن في عصره اعتبار بالإجماع.
واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خُطبة الوَداع: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعض) (2) .
__________
(1) تكملة الحديث: (لما يرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
وفي رواية لأحمد (5/236) : (الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
وفي رواية له (5/242) : (الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضى رسوله) ، وقد مضى تخريجه (2/566) .
(2) هذا جزء من حديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (2/205) .
وأخرجه عنه الترمذى في كتاب الفتن، باب: ما جاء لا ترجعوا بعدي كفاراً يَضربُ بعضُكم رقابَ بعض (6/486) ،
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/230) .
وأخرجه مسلم عن أبي بكرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، في كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (3/1305) .
وأخرجه أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً، في كتاب =
(4/1086)
 
 
وروي عنه أنه قال: (لتركبنَّ سَنَن (1) من كان قبلكم، حَذْوَ القذة (2) بالقُذَّة) (3) . وهذا يدل على أن ذلك جائز على الأمة.
__________
= السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصه (2/523-524) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل (7/115) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (2/1300) .
وأخرجه الدارمي في سننه عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعاً، في كتاب المناسك، باب حرمة المسلم (1/395) .
(1) السنة الطريقة:
انظر: النهاية، والقاموس مادة (سن) .
(2) القُذَّة: ريش السهم، والمعنى: لتسلكن طريقة من كان قبلكم في كل شيء، كالقذة تقدر على قدر أختها ثم تقطع. أفاده ابن الأثير في نهايته وزاد: (يضرب مثلاً للشيئين يستويان ولا يتفاوتان) :
انظر النهاية واللسان مادة (قذذ) .
(3) هذا الحديث لم أجده بهذا اللفظ إلا في النهاية واللسان مادة (قذذ) وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/125) عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - بلفظ: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خَلَوْا من قبلهم أهل الكتاب حذو القذة بالقذة) .
وقد أخرجه الطبراني، حكى ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد (7/261) وقال: (ورجاله مختلف فيهم) .
ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان، باب اتباع هذه الأمة سنن من قبلهم (1/37) ولفظه (لتتبعن سنن من قبلكم باعاً فباعاً، وذراعاً فذراعاً، وشبراً فشبراً، حتى لو دخلوا جُحر
ضَب لدخلتموه معهم، قال: قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟)
ثم قال الحاكم بعد ذلك:
(صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ) ووافقه الذهبى. =
(4/1087)
 
 
والجواب: أن هذا خطاب لبعض الأمة، وقوله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) خاص في حال الإِجماع، والخاص يجب أن يُقْضَى به على العام.
واحتج: بأن كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ بانفراده، فإذا اجتمع مع غيره كان بمنزلة المنفرد؛ لأنه مجتهد برأيه المعرض للخطأ.
والجواب أن عصمة الأمة في حال الاجتماع أثبتناه بالشرع دون العقل، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى: أنهم لا يختارون الخطأ في حالة الاجتماع، ولا يقع ذلك منهم، فإذا أخبر بذلك وجب المصير إليه والعمل به.
وجواب آخر، وهو: أن هذا باطل بأخبار التواتر، فإنها توجب العلم عند كثرة المجتهدين، وإن كان كل واحد منهم لو انفرد لم يوجب خبره العلم، وهكذا
__________
= وأخرجه البزار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال الهيثمى في مجمع الزوائد في الموضع السابق - بعد أن ذكره: (ورجاله ثقات) .
وذكر الهيثمي: أن الطبراني رواه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ: (أنتم أشبه الأم ببني إسرائيل، لتركبن طريقهم حَذوَ القُذة بالقذة، حتى لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله، حتى إن القوم لتمر عليهم المرأة، فيقوم إليها بعضهم، فيجامعها، ثم يرجع إلى أصحابه يضحك لهم ويضحكون له) ثم قالَ الهيثمي: (وفيه من لم أعرفه) .
قلت: ومعنى الحديث صحيح، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى (4/2054) ولفظه: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضَب لاتبعتوهم قلنا: يا رسول الله: أليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)
راجع في هذا الحديث أيضاً: كتاب السنة لأبي بكر عمرو بن أبي العاص الشيباني (1/36) وفيض القدير (5/261) وصحيح الجامع الصغير للألباني (5/13) .
(4/1088)
 
 
الجماعة تحمل الحجر العظيم، وإن كان الواحد لو انفرد به لم يطق حمله. وكذلك الطعام إذا كثر أشبع، والماء إذا كثر روى، وإن كان اليسير منهما لا يشبع ولا يروي.
واحتج: بأن الآية لا تحصر، ولا يمكن سماع أقاويلهم، وما لا سبيل إلى معرفته، فلا يجوز أن يجعله صاحب الشريعة دليلاً على شريعته.
والجواب: أن الإِجماع ينعقد عندنا باتفاق العلماء، وإذا اتفقوا جملة كانت العامة تابعة لهم.
ويمكن معرفة اتفاق أهل العلم؛ لأن من اشتغل بالعلم حتى صار من أهل الاجتهاد فيه، لم يخف أمره على أهل بلده وجيرانه، ولم يخف حضوره وغيبته، ويمكن الإِمام أن يبعث إلى البلاد، ويتعرف أقاويل الممتنع.
فإن قيل: يجوز أن يكون قد أسر في الغزو رجل من أهل العلم، وهو في مطمورة (1) المشركين.
قيل: لا يخفى ذلك، وإذا جرى ذلك لم ينعقد الاجماع إلا بالوقوف على مذهبه.
وأجاب بعضهم عن هذا: بأنا نسمع أقاويل الحاضرين [162/أ] ، والخبر عن الغائبين.
__________
(1) المطمورة: حفرة تحفر تحت الأرض. قال ابن دريد: بنى فلان مطمورة إذا بنى بيتاً في الأرض.
والمعنى: أن العالم يجوز أن يكون مأسوراً في مكان خفي، لا يمكن الوصول إليه ليؤخذ رأيه في القضية المطروحة.
انظر: المصباح المنير مادة (طمر) .
(4/1089)
 
 
مسألة
إجماع أهل كل عصر حجة، ولا يجوز إجماعهم على الخطأ (1) .
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد وصف أخذ العلم فقال: "ينظر ما كان عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن، فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن التابعين".
وقد عَلَّق القول في رواية أبي داود فقال: "الاتباع: أن تتبع ما جاء عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وهو بعد في التابعين مخير" (2) .
وهذا محمول من كلامه على آحاد التابعين، لا على جماعتهم.
وقد بين هذا في رواية المروذي فقال: "إذا جاءك الشىء عن الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ به" (3) .
وبهذا قال جماعة الفقهاء (4) والمتكلمين (5) .
__________
(1) راجع في هذه المسألة: أصول الجصاص الورقة (218/ب) والتمهد (3/224) ، والمسودة ص (317) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/372) وشرح الكوكب المنير (2/214) .
(2) هذه الرواية موجودة في "مسائل الإمام أحمد" التي رواها أبو داود (276) .
(3) هذه الرواية نقلها أبو داود عن الإمام أحمد في "مسائله" ص (276) والرواية هكذا في نسخة الظاهرية، أما نسخة المدينة ففيها: (.... حدثنا أبو داود، قال سمعت أحمد سئل إذا جاء الشىء من التابعين لا يوجد فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يلزم الرجل أن يأخذ به؟ قال: لا، لا يكاد الشيء، إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ) وعلى هذه الرواية يكون تأويل المؤلف لكلام الإمام أحمد لا دليل عليه.
(4) انظر: أصول الجصاص الورقة (218/ب) ، وأصول السرخسى (1/313) .
(5) انظر: البرهان لإمام الحرمين ص (720) ، والتبصرة للشيرازي ص (359) والمعتمد لأبي الحسين البصري (1/483) .
(4/1090)
 
 
وقال أهل الظاهر: داود وأصحابه: الإجماع: إجماع الصحابة دون غيرهم (1) .
ويدل عليه أيضاً: قوله: (لا تجتمع متي على ضلالة) و (على الخطأ) .
وقوله (ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح) .
وقوله: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية، ومن فارق الجماعة قيدَ شبر خلع رِبْقة الإِسلام من عنقه) .
ونحو ذلك من الأخبار التى تقدم ذكرها، وهو عام في الصحابة. [وفي غيرهم] .
فإن قيل: الأمة عبارة عن الجماعة، وحقيقة ذلك الموجود حال (2) حصول هذا القول منه (3) دون عصر من يوجد.
قيل: هو حقيقة في الكل.
ولأن غير الصحابة أكثر عدداً من الصحابة، ومنهم من أهل [162/ب] الاجتهاد أكثر منهم، فإذا وجب الرجوع إلى قول الصحابة مع قلتهم، فالرجوع إلى قول الأكثر أولى.
واحتج المخالف:
__________
= انظر في ذلك: الإحكام لابن حزم ص (506) وما بعدها.
وقول الظاهرية هذا ذكر أبو الخطاب في كتاب التمهيد (3/256) أن الإمام أحمد أومأ إليه في رواية أبي داود: (الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وهو بعد في التابعين مخير) .
وقد حمل المؤلف هذه الرواية على آحاد التابعين، لا على جماعتهم كما سبق بيانه.
(2) في الأصل: (من حال) و"من" هذه زائدة.
(3) الضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(4/1091)
 
 
بقوله: (فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرسُولِ) (1) .
والجواب: أن معناه: فردوه إلى أدلة الله ورسوله، والإجماع من أدلته، فقد رددناه إليه.
واحتج بقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ) (2) وهذا خطاب مواجهة للصحابة، فلا يدخل فيهم غيرهم (3) .
وكذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً) (4) .
والجواب: أن هذا عام في الصحابة وغيرهم من الوجه الذي بينا.
وأن ذلك جار مجرى قوله: (أقِيمُوا الصَّلاَةَ) (5) ، و (حُجُّوا) (6) و (جَاهِدُوا) ، (7)
__________
(1) آية (59) من سورة النساء.
ووجه الاستدلال من الآية: أن القول بالإجماع ليس رداً إلى الله ورسوله.
(2) آية (110) من سورة آل عمران.
(3) انظر المعتمد لأبي الحسين البصري (1/484) .
(4) آية (143) من سورة البقرة.
ووجه الاستدلال من هذه الآية مثل وجه الاستدلال من الآية التي قبلها، ولو ذكر المؤلف الآيتين ثم جاء بوجه الاستدلال منهما بعد ذلك لكان أولى، وهو ما فعله أبو الحسين البصرى في المرجع السابق.
(5) آية (43) من سورة البقرة.
(6) هذا جزء من حديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (2/975) ولفظه:
(خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا ... ) الحديث.
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/508) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب المناسك، باب وجوب الحج (5/83) .
(7) آية (35) من سورة المائدة.
(4/1092)
 
 
وأنه على العموم.
واحتج: بأنا قد علمنا من ناحية العقول: أنه لا فَصْل بين هذه الأمة وبين من تقدمها في جواز الخطأ وتعمد الباطل في الأخبار: بالكذب فيها (1) ، وإنما انفصلت الصحابة ممن تقدمها من الأمم لورود الخبر بذلك، وبقي غيرهم على موجب الدليل في المنع من قولهم.
والجواب: أن قولك: لا فرق بين هذه الأمة وبين من تقدمها غلط؛ لأن من تقدمها إذا كذبت في الإِخبار عن نبيها وأخطأت فيما يتعلق بالدين، علم خطؤها وكذبها من جهة من يرد عليها من بعد نبيها من الأنبياء، وليس كذلك أمة نبينا؛ لأنها إذا ضَلّت وأخطأت لم يرد من بعد من يعرف من جهته ضلالتها، فحرس الله تعالى من أجل ذلك هذه الأمة من الضلالة والكذب والخطأ في الدين.
وجواب آخر، وهو: أن كل دليل ورد بعصمة جميع الصحابة، فهو دليل على أعصمة، غيرهم، وعام فيهم وفي غيرهم.
واحتج: بأن الصحابة لها مزية كل غيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى اتباعهم بقوله: (أصحَابِي كالنُّجُوم، بأيُّهم اقتديتم اهتَديْتُم) (2) .
__________
(1) في الأصل: (منها) .
(2) هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله (2/111) ثم قال (هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول) .
وأخرجه عنه ابن حزم في كتابه الإحكام ص (810) ثم قال بعد ذلك:
(أبو سفيان -أحد رواة الحديث- ضعيف، والحارث بن غصين -أحد رواة الحديث- هو أبو وهب الثقفى، وسلام بن سليمان -أحد رواة الحديث أيضاً- يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك، فهذه رواية ساقطة من طريق ضعف إسنادها) . =
(4/1093)
 
 
ولأنهم مقطوع على عدالتهم، وشاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل.
والجواب: أنهم وإن خُصُّوا بهذه المزية، فلم يكن قولهم حجة لهذه المعاني، وإنما كان لأجل أنهم من أهل الاجتهاد، وهذا موجود في غيرهم كوجوده فيهم.
__________
= ورواه أيضاً ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه عبد بن حميد في مسنده وابن عدي في الكامل من رواية حمزة بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: (بأيهم أخذتم) بدل قوله: (بأيهم اقتديتم) قال الحافظ العراقي بعد ذلك في كتابه تخرج أحاديث مختصر المنهاج ص (299) مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي:
(وإسناده ضعيف من أجل: حمزة، فقد اتهم بالكذب) .
ثم ذكر الحافظ العراقي بعد ذلك: (أن البيهقي رواه في المدخل من حديث ابن عمر وابن عباس بنحوه من وجه آخر مرسلاً، وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة، ولم يثبت في إسناد) .
قال ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله: (2/111) :
(قد روى أبو شهاب الحناط عن حمزة الجذري عن نافع عن ابن عمر)
وذكر الحديث، ثم عقب عليه بقوله: (وهذا إسناد لا يصح، ولا يرويه عن نافع من يحتج به) .
وأخرجه البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن ابن المسيب عن ابن عمر وقال: (منكر لا يصح) . ذكر ذلك العراقي في المرجع السابق.
ونقل ابن عبد البر في كتابه السابق ذكره عن البزار قوله: (وهذا الكلام لا يصح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - رواه عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد؛ لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ... ) .
وبالجملة فالحديث لا يصح بوجه من الوجوه.
ولمزيد من الفائدة ارجع إلى: كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ص (78) ، وهامش كتاب تخريج أحاديث مختصر المنهاج =
(4/1094)
 
 
مسألة
انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع واستقراره (1) .
فإذا أجمعت الصحابة على حكم من الأحكام، ثم رجع بعضهم أو جميعهم انحل الإجماع.
وإن أدرك بعض التابعين عصرهم -وهو من أهل الاجتهاد- اعتد بخلافه، إذا قلنا: إنه يعتد بخلافه معهم.
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله فقال: "الحجة على من زعم أنه إذا [163/أ] ، كان أمراً مجمعاً عليه، ثم افترقوا، ما نقف على ما أجمعوا عليه حتى يكون إجماعاً. إن أم الولد كان حكمها حكم الأمة بإجماع، ثم أعتقهن عمر، وخالفه علي بعد موته، ورأى (2) أن تُسْتَرَق (3) . فكان الإجماع في الأصل: أنها أَمة.
__________
= للحافظ العراقي لمحققه الأستاذ صبحى السامرائي (299) .
وعلى فرض صحة الحديث، فقد أوله المزني بقوله -فيما نقله عن ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم (2/110) -: ( ... إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليهم، فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به لا يجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه برأيهم، فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضاً، ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه، فتدبَّر) .
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (227) /أ) والتمهيد (3/346) والمسودة ص (320) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (2/366) وشرح الكوكب المنير (2/246) . والمختصر في أصول الفقه لابن اللحام ص (78) .
(2) في الأصل: (أبي) وهو خطأ، لدلالة السياق، ولما يأتي في مراجع تخرج الأثر.
(3) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه باب بيع أمهات الأولاد (7/291-292) بإسناده عن عبيدة السلماني قال: (سمعت علياً يقول: اجتمع رأيي ورأي =
(4/1095)
 
 
وحد الخمر: ضرب أبو بكر أربعين، ثم ضرب عمر ثمانين، وضرب علي في خلافة عثمان أربعين، فقال: ضرب أبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكل سنة (1) .
والحجة عليه في الإجماع في الضرب أربعين، ثم عمر خالفه، فزاد أربعين، ثم ضرب على أربعين".
وظاهر هذا: أنه اعتبر انقراض العصر؛ لأنه اعتد بخلاف على بعد عمر في أم الولد. وكذلك اعتد بخلاف عمر بعد أبي بكر في حد الخمر.
__________
= عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، قال: ثم رأيت بعدُ أن يُبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة أو قال: في الفتنة- قال فضحك علي) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب البيوع والأقضية، باب في بيع أمهات الأولاد (6/436-437) .
وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الخلاف في أمهات الأولاد (10/348) .
(1) هذا إشارة إلى الحديث الذى رواه حُضَيْن بن المنذر، أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحدود، باب حد الخمر (3/1331-1332) وفيه قصة الوليد بن عقبة لما شرب الخمر، وأراد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إقامة الحد عليه، فقال: لعلي - رضي الله عنه -: قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارَّها، (فكأنه وجد عليه) ، فقال: يا عبد الله ابن جعفر قم فاجلده، فجلده، وعليٌ يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبى صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي.
(4/1096)
 
 
وذهب المتكلمون من المعتزلة (1) والأشعرية (2) وأصحاب أبي حنيفة (3) -فيما حكاه أبو سفيان- إلى أن انقراض العصر غير معتبر في صحة الإجماع.
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال مثل قولنا (4) .
ومنهم من قال مثل قولهم (5) .
ومنهم من قال: إن كان الإجماع مطلقاً لم يعتبر انقراض العصر عليه، وإن كان بشرط، وهو: إن قالوا: هذا قولنا، ويجوز أن يكون الحق في غيره، فإذا وضح
__________
(1) انظر: "المعتمد" لأبي الحسين البصرى (2/502) ولو عبر المؤلف ببعض المعتزلة لكان أدق؛ لأنه نقل عن أبي على الجبائي القول باشتراطه في الإجماع السكوتي دون الإجماع بالقول والفعل أو بأحدهما، حكى ذلك الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص (84) ، وهو ما عبر به ابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير" (3/87) حيث عبر عن الجبائي: ببعض المعتزلة.
(2) وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني، نقله عنه إمام. الحرمين في كتابه: البرهان (1/693) ولو عبر المؤلف: ببعض الأشعرية لكان أصوب؛ لأن بعض الأشعرية كإمام الحرمين له تفصيل في المسألة ذكره في كتابه المذكور آنفاً (1/694) .
(3) نصّ أبو بكر الجصاص الحنفي في أصوله الورقة (227/أ) على أنه الصحيح عندهم.
وقال السرخسى الحنفي في أصوله (1/315) : (وأما عندنا فانقراض العصر ليس بشرط) .
(4) وهم القلة من الشافعية، ونسبه الآمدي في كتابه الإحكام (1/231) إلى الأستاذ أبي بكر بن فورك، ونسبه ابن السبكي في جمع الجوامع (2/182) إلى ابن فورك وإلى سليم الرازي.
(5) وهذا عليه أكثر الشافعية، وهو المعتمد عندهم. انظر: المستصفى (1/192)
والإحكام للآمدي (1/231) وجمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلي (2/181) .
(4/1097)
 
 
صرنا إليه، لم يكن إجماعاً (1) .
وفائدة الخلاف: من قال: لا يعتبر انقراض العصر عليه، يقول: لا يسوغ أن يرجع الكل عما أجمعوا عليه، وإن رجع واحد منهم ساغ رجوعه، لكنه محجوج بقول الباقين. وإذا حدث من التابعين من هو من أهل الاجتهاد فخالفهم لم يكن خلافه خلافاً.
ومن قال: يعتبر انقراض أهل العصر، يقول: يجوز أن يرجع الكل عن ذلك القول إلى غيره، ويرجع الواحد منهم عن القول معهم، فيكون خلافه خلافاً ويسوغ للتابعين مخالفتهم، فيكون خلافهم (2) خلافاً.
والدلالة على اعتبار انقراض العصر:
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطَاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكَونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (3) .
فوجه الدلالة: أنه جعلهم شهداء على غيرهم، ولم يجعلهم شهداء على أنفسهم.
ومن قال لا يعتبر انقراض العصر لا يجوز رجوعهم عما أجمعوا عليه، فيكون قولهم حجة على أنفسهم.
فإن قيل: ليس في الآية ما يمنع كونهم شهداء على أنفسهم، وإنما فيها إثبات كونهم شهداء على غيرهم.
قيل: لما غاير بينهم وبين غيرهم، فجعلهم شهداء على غيرهم، وجعل الرسول شهيداً عليهم، ثبت أن حكمهم مخالف لحكم غيرهم.
__________
(1) هذا إشارة إلى قول إمام الحرمين في هذه المسألة، حيث قسم الإجماع إلى مقطوع به وإلى حكم مطلق أسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم، ولم يشترط انقراض العصر في الأول واشترطه في الثاني على تفصيل ذكره في كتابه البرهان (1/694) .
(2) في الأصل: (خلافه) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
(3) آية (143) من سورة البقرة.
(4/1098)
 
 
فإن قيل: إذا كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء على أنفسهم.
قيل: من كان شهيداً وحجة على غيره، فليس بحجة على نفسه، كالشاهد هو شاهد على غيره [163/ب] ، ولا يكون شاهداً على نفسه، وإنما يكون مقراً، وقول النبى حجة على غيره، وليس حجة على نفسه.
فإن قيل: إذا كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء على أنفسهم؛ لأن الحجة لا تختص بقوم دون قوم ولا بعصر دون عصر.
قيل: قد بينا اختصاص الحجة بجهة دون جهة.
وعلى أن الموضع الذي نجعله حجة على غيره نجعله حجة في نفسه في الفتيا لغيره. فأما إذا رجع فليس بحجة على غيره ولا على نفسه.
وأيضاً: ما احتج به أحمد من إجماع الصحابة، وذلك أنه روي عن علي أنه قال: (كان رأيي مع أمير المؤمنين عمر: أن لا تباع أمهات الأولاد، وأرى (1) الآن أن يبعن، فقال له عبيدة السَّلْمَاني (2) : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) (3) .
فعلىُّ أظهر الخلاف بعد الإجماع، فأقر عليه. فلو كان انقراض العصر غير معتبر ما سَاغَ له الخلاف.
__________
(1) في الأصل (أرى أن) وحرف (أن) هنا لا معنى لها، ولذلك حذفناها.
(2) هو عبيدة بن عمرو أبو مسلم، وقيل: أبو عمرو، السَّلْمَاني المرادي. أسلم قبل وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - ولم يره. صحب علياً وابن مسعود -رضي الله عنهما- مات سنة (72 هـ) .
له ترجمة في: الاستيعاب (3/1023) وتاريخ بغداد (11/117) وتذكرة الحفاظ (1/50) واللباب في تهذيب الأنساب (2/127) .
(3) مضى تخريج هذا الأثر ص (1095) .
(4/1099)
 
 
فإن قيل: ما خالف الإجماع؛ لأنه كان قوله وقول عمر على ذلك وحدهما، فخالف عمر فقط.
وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: (والله ما هنَّ إلا بمنزلة بعيرِك وشاتِك) (1) .
وكان عبد الله بن الزبير: يبيح بيع أمهات الأولاد (2) .
فدل على أنهم لم يجمعوا.
قيل: قول عبيدة له: (رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) ، يدل على (3) أن الجماعة كانت مع عمر، ومعه علىٌّ، أن لا يبعن (4) .
__________
(1) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، باب بيع أمهات الأولاد (7/290) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار -أظنه- عن عطاء عن ابن عباس، ثم ذكره وفيه (هي) بدل (هن) و (أوشاتك) بحرف العطف (أو) بدل الواو.
(2) أخرج هذا عبد الرزاق في مصنفه في باب بيع أمهات الأولاد (7/292، 293) بسندين، أحدهما عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن نفر من أهل العراق ذكروا ذلك عن ابن الزبير.
وثانيهما عن عمر عن أيوب عن نافع أن رجلاً جاء لابن عمر وذكر له ذلك عن ابن الزبير.
كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب البيوع والأقضية، باب بيع أمهات
الأولاد (6/437، 439) بسندين أيضاً.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الرجل يطأ أمته بالملك فتلد له، وباب الخلاف في أمهات الأولاد (10/343، 348) .
(3) في الأصل: (عليه) .
والذي يبدو لي أنه ليس هناك إجماع لأمور:
أولاً: - أن علياً قال: (كان رأي مع رأي أمير المؤمنين عمر..) ومعلوم أن رأيهما لا يعد إجماعاً. =
(4/1100)
 
 
ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال قولاً: أعتبر انقراضه عليه؛ لأنه قد يرجع عنه، ويتركه، فإذا جاز هذا في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبأن يجوز في حق المجمعين أولى.
فإن قيل: الرسول لا يرجع عما كان عليه؛ لأنه لا يتبين له الخطأ، وإنما يرجع بأن يقول: كنت على صواب، ولكن قد نسخ عني ذلك، وأمرت بغيره، فلهذا جاز أن يرجع عما كان عليه، وليس كذلك المجمعون؛ لأنهم لا يرجعون عما كانوا عليه؛ لأنه قد يبين لهم الخطأ فيما كانوا عليه.
قيل: هذا تعليل بجواز الرجوع عما كان عليه بعد صحة الجمع بينهما فلا يضر الفرق (1) .
__________
= ثانياً: - وأن جابر بن عبد الله وابن عباس وابن الزبير قد خالفوا وقالوا بجواز بيع أمهات الأولاد.
ثالثاً: - وقول عبيدة السلماني: (فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) فالمراد بالجماعة: وقت اجتماع المسلمين في خلافة الثلاثة، لما في ذلك من الألفة والالتئام، ورأيه في ذلك الوقت خير من رأيه وقت الفتنة والفرقة، يؤيد هذا ما جاء في رواية عبد الرزاق (7/291-292) عن عبيدة السلماني قال: ( ... أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة -أو قال في الفتنة- فضحك عليّ) .
أو أن عبيدة السلماني أطلق الجماعة على الأكثر، مريداً جماعة، وليس قول كل جماعة إجماعاً.
انظر: التمهيد لأبي الخطاب (3/353) والمحصول للرازي (4/212) والإِحكام للآمدي (1/235) .
(1) الحقيقة أن الفرق هنا ضار، يقول أبو الخطاب: في كتابه التمهيد (3/354) (إن هذا غلط؛ لأنّ قوله عليه السلام حجة في حياته، لا تجوز مخالفتها، وإنما يجوز ورود النسخ عليه ما دام حياً، فأما إن مات، أين ورد النسخ؟! فأما أن يكون قوله ليس بحجة حتى يموت -كما تقولون في الإجماع- فلا) .
(4/1101)
 
 
وأيضاً: فإن كل واحد من المجمعين إنما قال ما قاله عن دليل صحيح عنده من قياس أو اجتهاد واستدلال، وهو يُجوِّز على نفسه الخطأ فيما أفتى به، فإذا صح له الفساد لدليله، لزمه الرجوع عن قوله واعتقاد غيره، فإذا لزمه الرجوع عما كان عليه لفساد دليله عنده بطل الإِجماع.
فإن قيل: لا يسوغ رجوعه؛ لأنه كان مصيباً في القول، مخطئاً في الدليل.
قيل: إنّما كان على الصواب في قوله؛ لأجل دليله. ألا ترى أنه لو لم [164/أ] ، يكن من أهل الأدلة والاجتهاد لم يعتدّ بقوله، فإذا فسد عنده الدليل بطل قوله عن ذلك الدليل.
وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على تسويغ الخلاف وجواز القول بكل واحد من القولين، وانعقد الإجماع على ذلك، ثم إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى صارت المسألة إجماعاً، وزال ما أجمعوا عليه من تسويغ الخلاف، فلو كان الإِجماع قد انعقد بنفسه من غير اعتبار انقراض العصر، لما جاز رجوعهم عما أجمعوا عليه من تسويغ الخلاف.
وهذه طريقة مفيدة.
فإن قيل: إنما جاز الإجماع بعد الخلاف؛ لأن التابعين لو أجمعوا على أحد القولين صارت المسألة إجماعاً.
قيل: لا يصير إجماعاً عندنا.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيل الْمُؤْمِنِينَ) (1) ولم يشترط انقراض العصر.
وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَجْتمعُ أمَّتِي عَلَى ضَلاَلَة) و (لا تجتمعُ عَلَى خطأ) .
والجواب عن قوله: (وَيَتَّبِعْ غيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ) فهو: أنه إذا رجع واحد
__________
(1) آية (115) من سورة النساء.
(4/1102)
 
 
منهم صار سبيل بعض المؤمنين.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجتمعُ أمَّتِي عَلَى خَطَأ) فلا نسلم أن الإجماع يستقر حكمه ويلزم إلا بعد انقراض العصر، فلا يتناوله الاسم.
وليس الاعتبار بالإجماع اللّغوي، الذي طريقه الاجتماع، وإنما الاعتبار بالإجماع الشرعي، الذي هو: القطع والعزيمة. وهذا لا يكون إلا بعد انقراض العصر. وإذا لم يتناول الاسم، لم نسلم أنه متبع غير سبيل المؤمنين ولا مخالف الإجماع.
واحتج: بأن التابعين احتجوا بإجماع الصحابة في عصر الصحابة:
فروي [عن] الحسن البصري أنه احتج بإجماع الصحابة، وأنس بن مالك [حي] (1) ، فلو كان انقراض العصر شرطاً ما احتج بذلك قبل انقراضه.
والجواب: أنا لا نعرف هذا عن التابعين، وما ذكروه عن الحسن، فيجب أن ينقل لفظه، حتى ينظر كيف وقع ذلك منه.
وعلى أنه لو كان منقولاً لم يكن فيه حجة؛ لأن من الناس من قال: قول الصحابي وحده حجة. وهو الصحيح من الروايتين لنا، فإذا كان كذلك احتمل أن يكون الحسن احتج بقول الواحد منهم، لا بإجماعهم (2) .
واحتج: بأن قول النبي حجة بوجوده، ولا يقف على انقراضه، كذلك قول المجمعين.
__________
(1) الزيادة في الموضع من المسوَّدة ص (321) ، ولم أقف على مصدر ينقل هذا عن الحسن البصري.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (322) : (هذا جواب ضعيف، فإنَّا إذا اشترطنا انقراض العصر في المجمعين، فلأن نشترطه في الواحد أولى، فإن قوله بعد رجوعه عنه لا يكون حجة وفاقاً، وإذا كان الاحتجاج بهذا الواحد في حياته مع أن رجوعه يبطل اتباعه، فلأن يحتج بقول الجماعة في حياتهم أولى ... ) .
(4/1103)
 
 
والجواب: أنا قد جعلناه حجة لنا، وقد بينا أنه يعتبر في ذلك انقراضه، لأنه قد يرجع عنه، ويتركه.
على أن قوله لا يقف العمل به على انقراضه؛ لأنه بالنسخ لا يبين الخطأ فيما كان عليه، بل يرجع عما كان عليه مع كونه صواباً في ذلك الوقت، وليس كذلك رجوع المجمعين [164/ب] ؛ لأنه عن خطأ يبين لهم.
واحتج: بأنه يؤدي إلى أنه لا يوجد إجماع؛ لأن اتفاقهم لو لم يكن إجماعاً حتى ينقرضوا، لوجب إذا حدث قوم معهم من أهل الاجتهاد: أن يعتبر اتفاقهم معهم وانقراضهم، ولو وجب هذا لم يحصل الإجماع أبداً؛ لأن كل عصر مندرج في عصر بعده، ويحدث فيه أهل الاجتهاد من أهل العصر الثاني قبل انقراض العصر الذي قبله، ويدخلون معهم في الاجتهاد، ويجب اعتبار رضاهم بقول من قلتم وموافقتهم لهم فيه، وهذا يمنع وجود الإجماع أبداً.
والجواب: أن هذا مبني على أصل: أن (1) التابعى إذا أدرك عصر الصحابة هل يعتد بخلافه ووفاقه؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يعتّد، وإذا لم يعتدّ به لم يفض إلى ما قالوه من أنه: لا يحصل الإجماع.
والرواية الثانية: يعتد به، فعلى هذا لا يفضي إلى ما قالوه أيضاً؛ لأن الصحابة إذا كانت على قول، فحدث تابعي، وصار من أهل الاجتهاد، فهو وهم من أهل الاجتهاد في ذلك العصر، فإذا انقرضت الصحابة، وبقي ذلك التابعي، فحدث تابعي، وصار من أهل الاجتهاد، لم يسغ له الخلاف؛ لأنه ما عاصر الصحابة، وإنما عاصر من عاصرهم، وإنما يسوغ الخلاف لمن عاصرهم، فأما من عاصر من عاصرهم فلا، وإذا كان كذلك لم يفض إلى ما قالوه.
__________
(1) في الأصل: (وأن) والواو هنا لا معنى لها.
(4/1104)
 
 
واحتج: بأنه لو جاز أن يجمعوا على حكم لم يرجعوا عنه كان إجماعاً على خطأ، والأمة لا تجتمع على خطأ.
والجواب: أن الأمة لا تجتمع على خطأ، إذا انقرض عصرهم عليه، فأما قبل انقراضه، فإنهم يجمعون على الخطأ، ويتبين لهم الصواب فيصيرون إليه.
فإن قيل: الذي يعتبر: انقراض العصر في انعقاد الإِجماع، وليس ذلك قولاً ولا فعلاً.
قيل: هو وإن لم يكن قولاً ولا فعلاً، فإنه يستقر به حكم القول والفعل فجاز اعتباره.
مسألة
إذا اختلف الصحابة على قولين، ثم أجمع التابعون على أحد القولين لم يرتفع الخلاف، وجاز الرجوع إلى القول الآخر والأخذ به (1) .
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية يوسف بن موسى: "ما اختلف فيه علي وزيد ينظر أشبهه بالكتاب والسنة، يختار".
وكذلك نقل المروذي عنه: "إذا اختلف [الصحابة] (2) ينظر إلى أقرب القولين (3) إلى الكتاب والسنة".
وكذلك نقل أبو الحارث: " [ينظر] (4) إلى أقرب الأقوال (5) وأشبهها بالكتاب والسنة".
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/297) والمسوَّدة ص (326) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/376) وشرح الكوكب المنير (2/272) .
(2) الزيادة من المسوَّدة ص (325) .
(3) في الأصل: (القول) والتصويب من المسوَّدة ص (325) .
(4) الزيادة من المسودة ص (325) .
(5) في المسودة (الأمور) .
(4/1105)
 
 
وظاهر هذا: أنه رجع في ذلك إلى موافقة الدليل، ولم يرجع إلى إجماع التابعين على أحد القولين (1) . [165/أ] .
وبهذا قال أبو الحسن الأشعري.
وقال أصحاب أبي حنيفة (2) -فيما حكاه أبو سفيان- والمعتزلة (3) : يرتفع الخلاف و [لا] ، يجوز الرجوع إلى القول [الآخر] .
وإنما قال هذا إذا كان إجماع التابعين على أحد القولين بعد انقراض أهل أحد القولين.
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال مثل قولنا (4) .
ومنهم من قال مثل قولهم (5) .
دليلنا:
قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فُرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (6) .
وظاهر هذا: يقتضي أنه إذا تنازع [أهل] العصر الذي بعد التابعين المجمعين
__________
(1) الذي يظهر لي -والله أعلم-: أن كلام الإمام أحمد لا يدل على ما ظهر للمؤلف؛ لأن الإمام أحمد لم يذكر في هذه النصوص إجماع التابعين، بل نص على أن الصحابة إذا اختلفوا أخذ بقول من يعضد قوله الكتاب والسنة.
(2) صرح بهذا أبو بكر الجصاص في كتابه أصول الفقه الورقة (132/أ) .
(3) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/517) .
(4) قال الشيرازي في التبصرة ص (378) : (وهو قول عامة أصحابنا) يعنى: الشافعية.
(5) وإليه مال الإمام الشافعى، كما ذكر ذلك إمام الحرمين في كتابه البرهان (1/710) .
وبه قال ابن خيرون وأبو بكر القفال من الشافعية، حكى ذلك الشيرازي في المرجع السابق.
(6) آية (59) من سورة النساء.
(4/1106)
 
 
على أحد القولين في شىء أن يردوه إلى الله ورسوله، وعلى قولهم يلزمهم رده إلى ما أجمع عليه التابعون.
وإلى هذا المعنى أشار أحمد بقوله: "إذا اختلف الصحابة، رجع إلى الكتاب والسنة".
يدل عليه أيضاً: ما روى أبو بكر محمد بن الحسين الآجري (1) في كتاب الشريعة (2) بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابى مثل النجوم، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم) (3) .
وظاهر هذا يقتضي: الرد إلى كل واحد من الصحابة بكل حال، مع الإجماع على قول بعضهم، ومع الاختلاف.
فإن قيل: كيف يحتجون بهذا الحديث، وقد قال إسماعيل بن سعيد: "سألت أحمد - رضي الله عنه - عمن احتج بقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي بمنزلة النجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم) قال: لا يصح هذا الحديث".
قيل: قد احتج به أحمد -رحمه الله- واعتمد عليه في فضائل الصحابة.
فقال أبو بكر الخلاَّل في كتاب السنة: "أخبرني عبد الله بن حنبل بن
__________
(1) هو: محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر، الآجري، الفقيه، المحدث. روى عنه أبي مسلم الكجي وأبي شعيب الحراني وغيرهما. وعنه أبو نعيم الأصبهاني وأبو الحسن الحمامي وغيرهما. توفي بمكة المكرمة في شهر محرم سنة (360هـ) .
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/936) ، وشذرات الذهب (3/35) ، وطبقات الحفاظ ص (378) ، وطبقات الشافعية للسبكى (3/149) .
(2) طبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقى في مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة (1369هـ-1950م) عن نسخة خطية واحدة، بها خروم ونواقص.
(3) لم أجد هذا الحديث في كتاب الشريعة المطبوع، ولعله ضمن ما فقد من الكتاب وقد سبق تخرج الحديث.
(4/1107)
 
 
إسحاق بن حنبل قال: حدثني أبي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول في الغلو في ذكر أصحاب محمد لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً) (1) وقال: (إنما هم بمنزلة النجوم بمن اقتديتم منهم اهتديتم) ".
فقد احتج بهذا اللفظ، فدلّ على صحته عنده.
وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على تسويغ الخلاف في المسألة، والأخذ بكل واحد من القولين، فإذا أجمع التابعون على أحد القولين لم يجز رفع إجماع الصحابة بإجماعهم؛ لأن إجماع الصحابة أقوى من إجماعهم، كما لو أجمعت على قول واحد، ثم أجمع التابعون على خلافه، وهذه طريقة معتمدة.
فإن قيل: إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع، فإذا طرأ دليل قاطع على أحد القولين وجب اتباعه، وحرم الاجتهاد فيه. ولا يمتنع أن يقع الإجماع بشرط، ألا تَرَى أنه لا يمتنع أن يجمعوا على جواز الصلاة بالتيمم ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء بطلت صلاته [165/ب] ولا يكون ذلك مخالفاً لما أجمعوا عليه.
__________
(1) هذا الحديث رواه عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب المناقب (5/696) ولفظه: (الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه) ثم قال الترمذي بعد ذلك: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/87) و (5/54-55، 57) .
وقد حكم الشيخ الألباني على هذا الحديث بالضعف.
انظر: ضعيف الجامع الصغير (1/352) رقم الحديث (1259) .
(4/1108)
 
 
قيل: إن جاز أن يقال: إن إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع، جاز أن يقال: إن إجماعهم على قول واحد إذا انعقد عن قياس أنه مشروط بعدم دليل قاطع، فإذا طرأ دليل قاطع وجب اتباعه.
وجواب آخر، وهو: أن الإجماع لا يجوز أن يقع مشروطاً؛ لأن وجود الشرط فيه يفضي إلى أن تعرى الحادثة عن حكم الله تعالى. ولا يجوز أن يعرى العصر عن ذلك؛ لأن الله تعالى لم يُخْلِ وقتاً من حق، وكونه مشروطاً يفضي إلى هذا؛ لأن كل قائل من القولين يقول: الحق في قول، ما لم يجمع على خلافه، فلا يقطع على حق فيه.
ويفارق هذا التيمم؛ لأن الشرط في الحكم المجمع عليه، لا في أصل الإجماع، فلا يفضي إلى ما ذكرنا.
فإن قيل: هم وإن أجمعوا على تسويغ الخلاف والقول بكل واحد من القولين، فالتابعون أيضاً قد أجمعوا على القول بأحدهما دون الآخر.
قيل: لا نسلم أن هذا إجماع؛ لأن من شرط صحة الإجماع: أن لا يرفع إجماعاً قبله.
فإن قيل: فإذا كانت الصحابة على قولين، فكل واحد من أهل القولين يجوّز على نفسه الخطأ فيما ذهب إليه.
قيل: هذا هو العلة التى بها جوزوا القول بكل واحد من القولين، وهو تحقيق إِجماعهم على تجويز القول بكل واحد من القولين.
وطريقة أخرى، وهو: أن من قال قولاً ومات، فحكم قوله باقٍ، بدليل أن الصحابة إذا أجمعت على شىء، ثم انقرضوا، لم يصح أن يجمع التابعون على خلافه.
وكذلك إذا كانت الصحابة على قولين، فإذا انقرض أهل أحد القولين
(4/1109)
 
 
كلهم، وبقي أهل القول الآخر، لم يزل قول المنقرضين بانقراضهم. ويكون الخلاف باقياً، وإذا ثبت أن حكم قول الميت باقٍ ما زاد، فمن أسقط حكمه، كان كمن أسقط قولهم مع بقائهم، وهذا لا يجوز.
ولأن أعلى مراتب التابعين أن يلحقوا بعصر الصحابة، ويكونوا من أهل الاجتهاد قبل انقراضهم. وأدنى مراتبهم أن ينقرض الصحابة قبل أَن يلحقوا بهم، فكان قولهم إذا خالفوهم دون قولهم إذا عاصروهم وخالفوهم، ثم ثبت أن التابعين لو لحقوا بالصحابة والصحابة على قولين، وأجمعوا على أحد القولين لم يسقط القول الآخر بما أجمعوا عليه، وقد أجمع معهم أهل القول الثاني، فبأن لا يسقط القول الآخر بعد انقراض الصحابة أولى.
فإن قيل: إنما لم يسقط القول الثاني إذا أجمعوا مع أهل [القول] الآخر؛ لأنهم حينئد بعض أهل العصر، وليس كذلك إذا أجمعوا [166/أ] عليه بعد انقراض الصحابة؛ لأنهم حينئذ كل أهل الاجتهاد في العصر.
قيل: في زمان الصحابة بعض أهل العصر، وبعد انقراض العصر بعض الأمة؛ لأن حكم القول الذي خالفوه ثابت، لا يزول ولا يرتفع بما بينَّا. ولأن من قال: إجماع التابعين يزيل الخلاف السابق ويصير قولهم إجماعاً، يفضى قوله إلى أن الإجماع ينعقد بموت واحد.
وبيانه: إذا كانت الصحابة على قولين، فانقرضوا، وبقي واحد من الصحابة، وهو من أهل أحد القولين، ثم أجمع التابعون على قول من لم يبق منهم أحد، لم يكن إجماعاً؛ لبقاء واحد من أهل القول الذي خالفوه، وإذا هلك هذا الواحد صار ما أجمع عليه التابعون إجماعاً بانقراض هذا الواحد وهلاكه، وموت الإنسان ليس بقول ولا حجة، فكيف يكون الإجماع منعقداً بموت واحد.
(4/1110)
 
 
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ) (1) والتابعون هم المؤمنون.
وقول النبي: (أمتي لا تجتمعُ على الخطأ) .
والجواب: أن الآية مشتركة الدلالة؛ لأنها إن كانت حجةً على ما أجمع عليه التابعون، فهى حجة على ما أجمعت عليه الصحابة من تجويز القول بكل واحد منهما.
وكذلك الجواب عن الخبر.
واحتج: بأن هذا إجماع تعقب خلافاً، فوجب أن يزيل حكم الخلاف، كما لو اختلفوا الصحابة، ثم أجمعت على أحد القولين، وقد وجد مثل هذا؛ لأنهم اختلفوا في قتال ما نعي الزكاة، ثم اتفقوا عليه.
وقول الأنصار: منا أمير ومنكم أمير (2) .
وإجماعهم على ترك قسمة السواد بعد اختلافهم فيها (3) .
والجواب: أنه إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى، فلم يبق هناك خلاف باق [و] صارت المسألة إجماعاً، وليس كذلك إجماع التابعين على أحد القولين؛ لأن الخلاف لم يرتفع، فلم تصر المسألة إجماعاً.
واحتج: بأن إجماعهم يقطع الخلاف فيما بعد، فوجب أن يرتفع الخلاف
__________
(1) آية (115) من سورة النساء.
(2) قول الأنصار هذا روته عائشة -رضي الله عنها- في قصة وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - أخرجه عنها البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة (5/8) .
ورواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه الإمام أحمد فى مسنده (1/396) .
(3) انظر: نصب الراية (3/400-401) .
(4/1111)
 
 
المتقدم. ألا ترى أن سنة النبي -عليه السلام- لما منعت الخلاف، قطعت الخلاف، بدليل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لو غاب عن الصحابة، واختلفوا -وهو غائب- في الحكم على قولين، ثم قدم النبى - صلى الله عليه وسلم -فأخبروه (1) بما كانوا عليه، فأخبرهم بالحق في واحد منهما (2) ، زال الخلاف، كذلك إجماع التابعين.
والجواب: أنه يبطل بالإجماع من إحدى الطائفتين بعد موت الطائفة الأخرى، فإنه يقطع الخلاف في المستقبل، ولا يرفع الخلاف [166/ب] المتقدم.
وأما الفصل بين إجماع التابعين وسنة النبى فظاهر، وذلك أن الاجتهاد في زمن النبى - صلى الله عليه وسلم - مختلف فيه:
فمنهم من أجازه، وقال: لا يستقر.
ومنهم من قال: لا يسوغ، لأن النص مقدور عليه.
وإذا كان كذلك لم يثبت ما اختلفوا فيه في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا جاءت سنة لم يرفع ما كان باقياً، وإنما ثبت الحق، وإجماع التابعين ها هنا يتضمن إسقاط إجماع الصحابة.
واحتج: بأن إجماع التابعين حجة، وقول واحد من الطائفتين ليس بحجة.
والجواب: إنما يكون حجة مقطوعاً عليها، إذا لم يتقدمه اختلاف الصحابة فأما مع تقدم ذلك، فإنه يخرج عن كونه حجة.
__________
(1) في الأصل: (فأخبره) .
(2) في الأصل: (منها) .
(4/1112)
 
 
مسألة
إذا اختلفت الصحابة على قولين، لم يجز إحداث قول ثالث (1) .
نصَّ عليه في رواية عبد الله وأبي الحارث: "يلزم من قال: يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا، أن يخرج من أقاويلهم إذا أجمعوا".
وقال أيضاً في رواية الأثرم: "إذا اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختر (3) من أقاويلهم، ولا يخرج عن قولهم إلى من بعدهم"
وهو قول الجماعة. خلافاً لبعض الناس في قوله: "يجوز إحداث قول ثالث" (3) .
دليلنا:
أن إجماعهم على قولين إجماع على بطلان ما عداهما، كما أن الإجماع على واحد إجماع على بطلان ما عداه، ولا فرق بينهما.
واحتج المخالف:
بأن النظر، الاجتهاد سائغ فيها، فهى بمنزلة ما لم يتكلم فيها.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد في أصول الفقه: (3/310) ، والمسوّدة ص (326) وشرح الكوكب المنير (2/264) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/377) .
(2) هكذا في الأصل وقد مرت كثيراً في هذا الباب بلفظ: (يختار) .
(3) وهو منسوب لبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر. وقال أبو الخطاب: (إنه قياس قول أحمد في الجنب: يقرأ بعض آية، ولا يقراً آية، لأن الصحابة قال بعضهم: لا ولا حرفاً وقال بعضهم: يقرأ ما شاء فقال هو: يقرأ بعض آية) .
انظر: مسلم الثبوت مع شرحه (2/235) وتيسير التحرير (2/250) والإحكام للآمدي ص (516) ، والتمهيد (3/311) .
(4/1113)
 
 
والجواب: أن الاجتهاد يجوز في طلب الحق من القولين دون ما عداهما، لأن بطلان ما عداهما ثابت بالإجماع، ولا يسوغ الاجتهاد في المجمع عليه، وهذا بمنزلة ما لو ثبت بطلان ما عداهما بالنص، فيسوغ الاجتهاد في القولين دون
غيرهما.
واحتج: بأن الصحابة إذا أثبتوا حكماً من طريقين، جاز إثباته من طريق ثالث، كذلك ها هنا.
والجواب: أن الطريق مخالف للحكم، ألا ترى أنهم إذا أجمعوا على شىء من نص القرآن، جاز إثباته من طريق السنة والإجماع، وإذا أجمعوا على حكم واحد، من يجز إحداث قول ثانٍ؛ لأن في الخروج عن القولين مخالفة للإِجماع وليس في إثبات ما أجمعوا عليه من غير طريقهم مخالفة الإجماع؛ لأن إثبات الحكم من طريق لا يتضمن نفي غيره، والإجماع على حكم يتضمن نفي غيره ولهذا إذا أجمعوا على قول واحد، لم يجز إحداث قول ثانٍ.
واحتج: [167/أ] بأن التابعين قد خالفوا في هذا، وأحدثوا قولاً ثالثاً فيما كانت الصحابة فيه على قولين، فأقروا التابعين على ذلك، ولم ينكروه (1) .
من ذلك: أن الصحابة اختلفوا في امرأة وأبوين، وزوج وأبوين، على قولين: ابن عباس -وحده- يقول: للأم الثلث [من] ، أصل المال.
والباقون قالوا: للأم ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج والزوجة (2) .
ففرق ابن سيرين بينهما، وقال بقول ابن عباس في امرأة وأبوين، وبقول الباقين في زوج وأبوين، فلم ينكر عليه منكر.
__________
(1) في الأصل: (ولم ينكره) .
(2) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب الفرائض، باب ميراث الأم (6/227-228) بعدة طرق فارجع إليه إن شئت.
(4/1114)
 
 
وكذلك اختلفت الصحابة في قوله: "أنتِ على حَرَام"، على ستة مذاهب فأحدث مسروق (1) قولاً سابعاً (2) ، فقال: "لا يتعلق به حكم"، وقال: "ما أبالي أحَرِّمُها (3) ، أو قصعة (4) من ثريد" (5) ، فأقروه على هذا، ولم ينكروا عليه.
__________
(1) هو: مسروق بن الأجدع، أبو عائشة، الهمداني، الكوفي. الإمام، الفقيه، العابد.
روى عن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم. وعنه الشعبى وأبو إسحاق وإبراهيم وغيرهم.
توفي سنة (63هـ) وله من العمر (63) سنة.
له ترجمة في: تاريخ بغداد (11/119) وتذكرة الحفاظ (1/49) ، وتهذيب التهذيب (7/84) وشذرات الذهب (1/78) وطبقات الحفاظ للسيوطى ص (14) وغاية النهاية في طبقات القراء (1/498) .
(2) المذاهب في هذه المسألة باختصار:
أولاً: قوله هذا: بمثابة يمين يكفرها بإحدى كفارات اليمين، أو بأغلظ الكفارات، قولان.
ثانياً: طلاق إن نوى به الطلاق، وإلا فيمين.
ثالثاً: طلقة واحدة، وهى أملك لنفسها.
رابعاً: طلقة واحدة، ويملك الزوج الرجعة.
خامساً: ثلاث طلقات.
سادساً: ظهار.
سابعاً: لا شيء فيه.
انظر: المصنف لعبد الرزاق كتاب الطلاق، باب الحرام (6/399) -405) ، وسنن البيهقي في كتاب الخلع والطلاق، باب: من قال لامرأته أنت عليَّ حرام (7/350-352) ، والتلخيص الحبير (3/215) ، والمغني لابن قدامة (7/154-156) طبعة المنار الثالثة.
(3) في مرجعي التخرج الآتيين: (أحرَّمْتُها) .
(4) في الأصل: (نصفه) وهو خطأ، وفي مصنف عبد الرزاق (جَفْنة) والمعنى واحد.
(5) قول مسروق هذا أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه (6/402) ، والبيهقي في سننه (7/352) .
(4/1115)
 
 
والجواب: أنه ليس معنا أن التابعين عرفوا هذا، فأقروه. عليه، ورضوا به، فلا يثبت إجماعاً بالشك، وإذا لم يكن إجماعاً منهم، لم يؤثر إقرار بعضهم.
على أن مسروقاً عاصر الصحابة، وكان من أهل الاجتهاد قبل انقراضهم، فكان كأحدهم، فالذي يخالف فيه يحتمل أن يكون قبل استقرار ما اختلفوا فيه، فلا يكون هذا إحداثَ قول آخر.
مسألة (1)
وإن قالت طائفة من الصحابة في مسألتين قولين متفقين مخالفين لقول الطائفة الأخرى، فهل يجوز لأحد أن يقول في إحدى المسألتين بقول طائفة وفي الأخرى بقول الطائفة الأخرى؟
ينظر فيه:
فإن لم يصرحوا بالتسوية بين (2) المسألتين جاز (3) .
وإن صرحوا بالتسوية بينهما لم يجز على قول أكثرهم.
وعلى قول بعضهم يجوز (4) ؛ لأن التسوية بينهما في حكمين مختلفين، فلم يحصل في واحد منهما إجماع.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (234/أ) والتمهيد (3/314) والمسوَّدة ص (327) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/379) وشرح الكوكب المنير (2/267) .
(2) ((بين) مكررة في الأصل.
(3) ذكر في المسودة ص (327) أن المؤلف ذكر في كتابه الكفاية في أصول الفقه: أن في هذه الحالة وجهين.
(4) لأبي الخطاب تفصيل في هذه المسألة ذكره في كتابه التمهيد (3/315) خلاصته: أن الصحابة إذا قالت في مسألتين بقولين، ولم يفرقوا بين المسألتين نظرت: فإن صرحوا بالتسوية لم يجز لأحد أن يفصل بينهما. =
(4/1116)
 
 
مسألة
إذا خالف الواحد أو الاثنان الجماعة لم يكن إجماعاً (1) .
ويمنع (2) خلافُ الواحد المعتد به انعقادَ الاجماع في أصح الروايتين.
أومأ إليه -رحمه الله- في رواية المروذي: "إذا اختلفت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة".
__________
= وإن لم يصرحوا بالتسوية، لكنهم لم يفرقوا بينهما، نظرت:
فإن كان طريق الحكم فيهما مختلفاً، مثل أن تقول طائفة: إن النية شرط في الوضوء والصوم ليس بشرط في الاعتكاف. ويقول الباقون: العكس، فإنه يجوز التفرقة.
وهو مذهب أحمد.
وإن كان طريق الحكم فيهما متففاً، مثل قولهم في زوج وأبوين، وإمرأة وأبوين، ومثل إيجاب النية في الوضوء والتيمم وإسقاطها منهما، فهل تجوز التفرتة؟ خلاف بين العلماء:
فقيل: لا يجوز، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الأثرم وأبي الحارث.
وقيل: يجوز.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (327) : (أن القول بعدم جواز التفرقة بين المسألتين فيما إذا كان هناك نوع شبه بين المسألتين، أما إذا لم يكن بينهما نوع من الشبه فتجوز التفرقة بينهما) .
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (224/ب) وكتاب التمهيد (3/260) والمسوَّدة ص (329) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/358) ، وشرح الكوكب المنير (2/229) .
(2) في الأصل: (ويمتنع) .
(4/1117)
 
 
وهو قول الجماعة.
وفيه رواية أخرى: لا يعتد بخلاف الواحد، ولا يمنع انعقاد الإجماع.
أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم: في المريض يُطَلِّق، وذكر قول زيد (1) ، فقال: "زيد وحده، هذا عن أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، وابن عباس، وزيد، وابن عمر" (2) .
وقال في رواية الميموني: "في فسخ الحج أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي يروون ما يروون، أين يقع بلال بن الحارث منهم" (3) .
وظاهر هذا: أنه لم يعتد [167/ب] بخلاف زيد في مقابلة الجماعة ولا مخالفة بلال في مقابلة الجماعة (4) .
__________
(1) الذي يظهر لي أن كلمة (زيد) هذه والتي بعدها في قوله: (فقال زيد) محرفة عن كلمة الزبير، فإنه من المروي عنهم عدم توريث من طلقها زوجها في مرضه، أما زيد فالمروي عنه هو القول بتوريثها، حيث ذكره الإمام أحمد مع الأربعة الذين استدل بقولهم، والإمام أحمد يقول بالتوريث.
(2) راجع في هذه المسألة: المحلي لابن حزم (11/553-574) فإنه ذكر في المسألة أقوالاً كثيرة، وساث الآثار المروية عن الصحابة في ذلك.
وانظر: المغنى (6/329) .
(3) سبق الكلام عن هذه الرواية (3/1020-1021) .
(4) ساق المؤلف هنا روايتين:
الأولى: رواية ابن القاسم ... ، وهذه الرواية لا دلالة فيها على ما استظهره المؤلف من أن الإمام أحمد يقول بانعقاد الإجماع وإن خالف واحد، بل غاية ما فيه أنه أخد بقول الأكثر من الصحابة، كيف لا والمسألة لا إجماع فيها.
الثانية: رواية الميموني وهي -أيضاً- لا دلالة فيها على ما قصده المؤلف، بل تدل على أن الخبر يرجح بكثرة رواته، وهذا ما صرح به المؤلف في بحث ترجيحات الألفاظ (3/1019) .
(4/1118)
 
 
وحكي ذلك عن ابن جرير الطبري (1) صاحب التاريخ (2) .
وحكاه أبو سفيان عن أبى بكر الرازي (3) .
قال أبو عبد الله الجرجاني: إن سوغت الجماعة الاجتهاد في ذلك للواحد، خلافه معتداً به، مثل خلاف ابن عباس في العول (4) ، وإن أنكرت
__________
(1) هو: محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبربي، المفسر، الفقيه، المؤرخ -أحد الأعلام- ولد سنة (224هـ) ، ومات سنة (310هـ) . له كتاب "التفسير" وكتاب "تاريخ الرسل والملوك".
له ترجمة في: تاريخ بغداد (2/162) وتذكرة الحفاظ (2/710) وشذرات الذهب (2/106) وطبقات الحفاظ للسيوطي ص (370) وطبقات المفسرين للداودى (2/260) ، وقد ألف الدكتور أحمد الحوفي كتاباً عنه، طَبَعَه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر سنة (1390هـ-1970م) .
(2) هذا الكتاب يعرف اليوم: بتاريخ الطبري، وقد طبع ثلاث مرات، طبعتان بعناية بعض المستشرقين، وطبعة في دار المعارف بمصر بتحقيق الأستاد محمد أبو الفضل إبراهيم،. انظر مقدمة تاريخ الطبري للمحقق المذكور (1/28) .
وقوله هذا حكاه عنه كثير من الأصوليين.
انظر في ذلك: التبصرة ص (361) والتمهيد (3/261) وشرح اللمع (2/704)
والمعتمد (2/486) .
(3) انظر: كتاب "أصول الفقه" لأبي بكر الرازي المشهور بالجصاص الورقة (225/ب) .
(4) خلاف ابن عباس في العول أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب العول في الفرائص (6/253) بسنده إلى عتبة بن مسعود قال: (دخلت أنا وزفر بن أوس ابن الحدثان على ابن عباس بعد ما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص ما في مال نصفاً ونصفا وثلثاً، إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟! فقال له زفر: يا ابن عباس من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: وبم؟ قال: =
(4/1119)
 
 
الجماعة على الواحد لم يعتد بخلافه، مثل قول ابن عباس في المُتْعة (1)
__________
= لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضاً، قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم، والله ما أدري أيكم قدم الله، ولا أيكم أخر، قال: وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص. ثم قال ابن عباس: وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقال له زفر: وأيهم قدم وأيهم أخر؟ فقال: كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة، فتلك التى قدم الله، وتلك فريضة الزوج، له النصف، فإن زال فإلى الربع، لا ينقص منه، والمرأة لها الربع، فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا تنقص منه، والأخوات لهن الثلثان، والواحدة لها النصف، فإن دخل عليهن البنات كان لهن ما بقى، فهؤلاء الذين أخر الله، فلو عطى من قدم الله فريضته كاملة، ثم قسم ما يبقى بين من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة.
فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هبته والله. قال ابن إسحاق: فقال لي الزهري: وايم الله لولا أنه تقدمه إمام هدى كان أمره على الورع ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم) .
وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الفرائض، باب أول من أعال الفرائض عمر (4/360) بأخصر مما أورده البيهقي، ثم قال: (صحيح على شرط مسلم) وأقره الذهبي. وتعقبهما الألباني في كتابه إرواء الغليل (6/145-146) بأن الحديث ليس من قسم الصحيح، بل هو من قسم الحسن، من أجل الخلاف في ابن إسحاق أحد رواة الأثر.
(1) أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الحيل باب الحيلة في النكاح (9/31) عن محمد بن على: "أن علياً - رضي الله عنه - قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمُتعة النساء بأساً، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية) .
وعنه أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/142) ولفظه: (أنه -يعني محمد ابن على- سمع أباه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال لابن عباس وبلغه أنه رخص في متعة النساء، فقال له علي بن أيى طالب - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم =
(4/1120)
 
 
والصَّرْف (1) .
__________
= الحمر الأهلية) .
وهذا القول عن ابن عباس - رضي الله عنه - رواه الطبراني في الأوسط عن سالم بن عبد الله قال الحافظ في التلخيص (3/154) : (إسناده قوي) .
كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة وحرمتها (4/292-293) بسنده إلى محمد بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب.
وبسنده أيضاً إلى ابن عمر. قال فيه الألباني في إرواء الغليل (6/138) : (إسناده صحيح على شرط الشيخين) .
قال الألباني في كتابه المذكور: (وجملة القول: أن ابن عباس - رضي الله عنه - روي عنه في المتعة ثلاثة أقوال:
الأول: الإباحة مطلقاً
الثاني: الإباحة عند الضرورة.
والآخر: التحريم مطلقاً، وهذا مما لم يثبت عنه صراحة، بخلاف القولين الأولين، فهما ثابتان عنه) .
(1) القول بجواز ربا الصرف المروي عن ابن عباس - رضي الله عنه -، رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نسأ، ولفظه: (أن أبا صالح الزيات سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد: سألته، فقلت: سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو وجدته في كتاب الله؟ قال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، ولكننى أخبرني أسامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا رِبَا إلا في النسيئة".
وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع، باب بيع الطعام مثلاً بمثل (3/1217) .
وأخرجه عن النسائي في سننه في كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالذهب والذهب بالفضة (7/247-248) . =
(4/1121)
 
 
والدلالة على أَنه يمنع انعقاد الإجماع:
قوله تعالى: (فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ والرَّسُولِ) (1) والتنازع موجود، فوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة.
وقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) وقد وجد الاختلاف، فوجب الرجوع إلى كتاب الله تعالى.
وأيضاً: فإن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - خالف الصحابة -رحمهم الله- في قتال مانعي الزكاة (3) .
وخالف ابن مسعود وابن عباس في مسائل في الفرائض سائر الصحابة، فلم ينكروا عليهما، ولم يقولوا: إن الواحد محجوج بالإجماع، وإنه يلزمه اتباعهم.
ولأن العقل يجوّز الخطأ على هذه الأمة، كما يجوّز الخطأ على سائر الأم، وإنما نفينا عنهم الخطأ بالشرع، وقد وجد الشرع بذلك في حال الاجتماع دون الاختلاف فإذا وجد الاختلاف بقي الحكم على مقتضى العقل.
__________
= وأخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب التجارات، باب من قال: لا ربا إلا في النسيئة (2/758) .
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب الصرف، باب الربا (4/64) .
وأخرجه عنه البيهقى في سننه في كتاب البيوع، باب من قال: الربا لى النسيئة (5/280) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/200، 9، 20) .
(1) آية (59) من سورة النساء.
(2) آية (10) من سورة الشورى.
(3) سبق تخرج هذا (1/108) ضمن حديث: (أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله....) .
(4/1122)
 
 
واحتج المخالف:
بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] قال: (عليكم بالسواد الأعظم) .
وقوله عليه السلام: (عليكم بالجماعة) .
والجواب: أن المراد به أهل الاجتهاد من أهل العصر، فهو السواد الأعظم وهو الجماعة.
واحتج: بأن ابن عباس لما خالف الجماعة في بيع الدرهم بالدرهمين نقداً وإباحة المُتعة، أنكر عليه ابن الزبير المُتعة (1) ، وأنكر غيره عليه بيع الدرهم بالدرهمين (2) ، فلو كان خلافه للجماعة سائغاً، لما أنكروا عليه ما ذهب إليه.
والجواب: أنهم ما أنكروا عليه ما ذهب إليه، من حيث إنهم على خلاف
قوله باجتهادهم، وإنما أنكروا عليه، لأنه خالف الخبر المنقول عن النبى - صلى الله عليه وسلم - في بيع الدرهم بالدرهمين، وهو قوله عليه السلام: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما) (2) . وكذلك قوله في المتعة: (إن النبي حرمها إلى يوم القيامة) (3) .
واحتج: بأن خبر الجماعة أولى من خبر الواحد والاثنين، كذلك قول الجماعة أولى من قول الواحد والاثنين.
والجواب: أن خبر الجماعة لو كان موجباً [168/أ] للعلم كان ما خالفه
__________
(1) انظر: المراجع السابقة التى ذكرناها في تخرج ما أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة متعة النساء.
(2) انظر أيضاً: المراجع السابقة التي ذكرناها في تخرج ما أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة الصرف متفاضلاً.
(3) انظر: المراجع السابقة التي ذكرناها في تخرج ما أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة متعة النساء.
(4/1123)
 
 
كذباً أو خطأ أو منسوخاً (1) ، فلا يجوز العمل به، وإن كان خبر الجماعة لا يوجب العلم، وإنما يغلب على الظن، فإنه أولى، لأن خبر الجماعة أقوى في الظن من خبر الواحد.
يدل على ذلك: أن الشىء من الجماعة أحوط منه من الواحد (2) والاثنين، ولهذا قال الله تعالى: (أن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا اْلأخْرَى) (3) .
فأما اجتهاد الأكثر فلا يوجب العلم وقوة الظن، فلا تأثير له في الاجتهاد؛ لأنه لا يجوز للعالم أن يقلد عالماً، وإن كان أقوى اجتهاداً منه في نفسه، وإنما يجب قبول اجتهاد غيره، والعمل به مع القطع بصحته، فبان الفرق بينهما.
واحتج: بأنه لما جاز أن يكون في أهل العصر من لم يبلغه ما أجمعت عليه الجماعة، أو بلغه فلم يظهر الخلاف وأسرَّه، صح انعقاده مع ذلك، كذلك انعقاده مع خلاف الواحد.
والجواب: أن الإجماع إنما يصح إذا انتشر ما أجمعت عليه الجماعة انتشاراً ظاهراً يقف عليه الكافة، فإذا ظهر انتشاره ولم يظهر خلاف من أحد، علمنا أن الكافة قد أطبقت عليه بنفي ما يمنع انعقاد الإجماع، وإذا خالف واحد واثنان فقد تيقنّا حصول ما يمنع أنعقاد الإجماع.
__________
(1) في الأصل: (منسوخ) ، وحقه النصب كما أُثبت.
(2) في الأصل: (للواحد) .
(3) آية (282) من سورة البقرة.
(4/1124)
 
 
مسألة
يجوز انعقاد الإجماع من طريق الاجهاد (1) خلافاً لابن جرير (2) ونفاة القياس (3) .
دليلنا:
طريقان: أحدهما وجوده.
والثاني: جواز وجوده.
فأما وجوده فهو أن الناس أجمعوا على إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من طريق الاجتهاد.
فمنهم من قال: (رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، وهي عماد الدين، ومن رضيه رسول الله لديننا وجب أن نرضاه لدنيانا) (4) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد: (3/288) والمسوّدة ص (330) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/385) ، وشرح الكوكب المنير (2/261) .
(2) ذكر هذا في كثير من كتب الأصول منها: التبصرة للشيرازى ص (372) ، والبرهان (1/721) والإحكام للآمدي (1/239) .
(3) المراد بهم الظاهرية، والسبب واضح؛ لأنهم لا يقولون بالقياس، فكذلك ما استند إليه، وقد نسبه الشيرازي في التبصرة ص (372) إلى داود.
ونسبه الآمدي في الإحكام (1/239) أيضاً: إلى الشيعة.
(4) هذا الأثر منسوب إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن بطة بسنده إلى الحسن وفيه: ( ... ولكن إن نبيكم نبى الرحمة - صلى الله عليه وسلم - لم يمت فجأة، ولم يقتل قتلاً، مرض أياماً وليالي يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة، فيقول: مروا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بالناس، وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرنا في أمرنا أن الصلاة عضد الإسلام وقوام =
(4/1125)
 
 
ومنهم من احتج بقوله: (إن تولوا أبا بكر تجدوه قوياً في دين الله ضعيفاً في بدنه) (1) .
ومنهم من رضيه، فعقد له.
__________
= الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، فولينا الأمر أبا بكر ... ) . انظر: المعتمد في أصول الدين للقاضى أبي يعلى ص (224) .
وأخرجه ابن سعد في طبقاته (3/183) .
(1) هذا الحديث رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أخرجه عنه البزار، ولفظه (قال: قالوا: يا رسول الله ألا تستخلف علينا؟ قال: "إني إن استخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب" قالوا: ألا نستخلف أبا بكر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه ضعيفاً في بدنه، قوياً في أمر الله" قالوا: ألا نستخلف عمر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه قوياً في بدنه قوياً في أمر الله" قالوا: ألا نستخلف علياً؟ قال: "إن تستخلفوه -ولن تفعلوا- يسلك بكم الطريق المستقيم، وتجدوه هادياً مهدياً" قال الهيثمى في مجمع الزوائد (5/176) : (وفيه أبو اليقظان عثمان بن عمير وهو ضعيف) .
لكن الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/859) ر