العدة في أصول الفقه 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : العدة في أصول الفقه
المؤلف : القاضي أبو يعلى ، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى : 458هـ)
عدد الأجزاء : 5 أجزاء
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد فقد كان لاختيار هذا الموضوع أسبابه ودواعيه، يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- قيمة الكتاب العلمية، شكلا وموضوعًا، فهو غزير في مادته حسن في ترتيبه وتبويبه.
2- واعتماد المؤلف على مصادر أصيلة، في الأصول والفروع واللغة والنحو وغير ذلك، وبخاصة رسائل الإمام أحمد، وكتب أصحابه المتقدمين.
3- ومؤلف هذا الكتاب هو الإمام أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، شيخ الحنابلة في عصره، وناشر مذهبهم أصولا وفروعًا في وقته، فقد كان له الفضل الأكبر في جمع شتات أصول الحنابلة وتقعيدها، كما كان له الفضل في تفصيل وبيان مسائل الفقه الحنبلي، وكل من جاء بعده فهم عيال عليه في ذلك.
(1/7)
 
 
4- ثم إن إخراج هذا الكتاب ونشره، سيغير من الصورة في أذهان طلاب العلم عن أصول الفقه عند الحنابلة، ومدى استقلالها من عدمه، إذ لا يوجد كتاب متداول يمثل رأي الحنابلة بجلاء ووضوح، إذا ما استثنينا كتاب:"روضة الناظر" لابن قدامة، و"شرح الكوكب المنير" لأبي البقاء الفتوحي، اللذين طبعا طباعة سيئة، مليئة بالأخطاء والتحريفات بالإضافة إلى أن المؤلفين من متأخري الحنابلة، الذين لا يضارعون أبا يعلى، لا في الأصول ولا في الفروع.
5- وبالإضافة إلى ما سبق أريد أن أشارك بإخراج كتاب من روائع تراثنا الإسلامي الضخم، لعلي بذلك أكون قد قمت ببعض الواجب؛ خدمة للعلم، وابتغاء للأجر والمثوبة من الله تعالى.
ومن أول يوم سجلت فيه الموضوع شمرت عن ساعد الجد، وأول عمل قمت به هو جمع المصادر والمراجع المخطوطة، سواء كانت للمؤلف، أم كانت لغيره مما يتعلق بالبحث، ولو من بعيد.
فبدأت بزيارة مكتبات القاهرة العامة، فزرت دار الكتب المصرية فوجدت فيها إضافة إلى "العدة في أصول الفقه" كتاب "التعليق الكبير في المسائل الخلافية" للقاضي أبي يعلى، ووجدت أيضًا كتاب "الفصول" أو "أصول الجصاص" وقد أفدت من هذا الكتاب الأخير في التحقيق؛ لأنه من أهم المراجع التي استعان بها القاضي أبو يعلى في كتابه "العدة".
كما وجدت كتاب "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" للمرداوي الحنبلي، الذي عنى كثيرًا بتسجيل آراء واختيارات القاضي أبي يعلى.
ثم زرت معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية، فوجدت به للمؤلف زيادة على ما ذكر كتاب "الروايتين والوجهين" كما وجدت كتاب "الجدل" لأبي الوفاء بن عقيل تلميذ المؤلف، وجزءًا
(1/8)
 
 
من كتاب "الفصول" له، علاوة على كتاب "الإشراف على مذاهب الأشراف" للوزير يحيى بن هُبَيرة الشيباني الحنبلي.
وقد قمت بتصوير تلك المخطوطات على ميكرو فيلم، ثم كبرتها بعد ذلك، عدا كتاب"الفصول في أصول الفقه" للجصاص، فلم أصوره، بل رجعت إلى نفس المخطوطة عند الاحتياج إليها.
وبعد ذلك شددت الرحال إلى المملكة العربية السعودية، فزرت مكتبات مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف والرياض، أفتش عن نسخة ثانية للعدة، وعن تراث المؤلف بصفة عامة، فلم أظفر بشيء من ذلك.
ومن المعلوم أن المكتبة الظاهرية تحوي كثيرًا من تراث الحنابلة في التفسير والحديث والأصول والفقه وغيرها، لذلك فقد صورت منها على ميكروفيلم "62" مخطوطة مما ألفه علماء الحنابلة في شتى العلوم، سوى بعض كتب قليلة جدًّا لغيرهم، صورت ضمن المجاميع، ثم كبرت تلك المخطواطات فيما بعد، واخترت منها المخطوطات التي لها صلة بالبحث وهي:
أولا: مؤلفات القاضي أبي يعلى:
1- الأمالي في الحديث.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- شرح مختصر الخرقي.
4- الفوائد الصحاح العوالي والأفراد والحكايات.
5- كتاب الإيمان.
6- مختصر المعتمد.
ثانيًا: مؤلفات تلاميذه:
1- التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب الكلوذاني.
(1/9)
 
 
2- الواضح في أصول الفقه، لأبي الوفاء بن عَقيل البَغدادي.
ثالثًا: مؤلفات لغير مَنْ ذكر:
1- الأشربة: للإمام أحمد.
2- مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله.
3- مسائل الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، رواية المروزي.
4- التمام لما صح في الروايتين: لابن أبي يعلى.
5- شرح الطوفي على مختصر الروضة.
6- مختصر أصول ابن اللحام.
ومما يستغرب أنه لا يوجد -حسب علمي- في مكتبات بغداد العامة أي مؤلف مخطوط للقاضي أبي يعلى مع أنه بغدادي الولادة والمنشأ والوفاة، اللهم إلا كتاب "العمدة في أصول الفقه"، الذي لم يكتب عليه اسم مؤلفه، ولكن بعد تصويره والاطلاع عليه، ثبت أنه للقاضي أبي يعلى.
وبعد الحصول على المخطوطات والفراغ من تصويرها، استكملت شراء بعض المراجع المطبوعة، لأتمكن من اختصار الزمن والجهد، وبعد ذلك شرعت في العمل مستعينًا بالله -تعالى- مواصلا البحث والاطلاع آناء الليل وأطراف النهار، باذلا الغالي والرخيص، ويكفي أنني أفنيت فيه خمس سنين من عمري، حتى خرج على هذا الشكل والمضمون.
وبعد فهذا جهد المقل، فإن أكن قد وفقت فيه فذلك بفضل الله وكرمه، وإن كانت الأخرى -لا سمح الله- فعزائي أنني اجتهدت، ولكل مجتهد نصيب.
ولا أنسى أن أتقدم بالشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي أتاحت لي الفرصة، وسهلت لي السبيل بابتعاثي على حسابها لمواصلة
(1/10)
 
 
دراستي، ضارعًا إلى الله -تعالى- أن يوفق القائمين عليها لخدمة الإسلام والمسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور: أحمد بن على بن أحمد سير المباركي
القاهرة: الثلاثاء: 30/ رمضان سنة 1397هـ، الموافق 14/ سبتمبر سنة 1977م
(1/11)
 
 
التعريف بالمؤلف*:
اسمه، ونسبه:
هو العالم العلامة شيخ الحنابلة في عصره الإمام محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، القاضي، أبو يعلى، البغدادي، الحنبلي، المعروف في زمانه بابن الفراء، والفراء نسبة إلى خياطة الفراء وبيعها. واشتهر بعد ذلك بالقاضي أبي يعلى1.
هكذا ذكر اسمه واسم أبيه في جميع مراجع ترجمته التي تمكنت من الاطلاع عليها، عدا السمعاني في كتابه: "الأنساب"2، وابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية"3، فقد ذكرا أن اسم أبيه الحسن بالتكبير، وهذا خطأ، يدل على ذلك أمور:
__________
* هذه لمحة موجزة عن المؤلف، انتزعناها من القسم الدراسي "القسم الأول من رسالة الدكتوراه".
1 "تاريخ بغداد" "2/ 256" و"طبقات الحنابلة" "2/ 193"، و"اللباب" "2/ 413" و"سير أعلام النبلاء" "الورقة 168/ أ- القسم الثاني من الجزء الحادي عشر".
2 ص "419، 420".
3- "12/ 94" طبعة مكتبة المعارف.
(1/15)
 
 
الأول: أن العمدة في ترجمة القاضي أبي يعلى هما: الخطيب البغدادي وابن أبي يعلى، الأول في "تاريخه"، والثاني في "طبقاته" وقد ذكراه باسم "الحسين" مصغرًا، وهما ألصق به وأعرف الناس بشئونه، فالأول تلميذه، والثاني ابنه، وحسبك بالمنزلتين قربًا ومعرفة.
الثاني: أن صاحب "اللباب" قد صحح ما أخطأ فيه السمعاني في "أنسابه" فقد ذكره باسم الحسين مصغرًا1.
الثالث: أن ابن كثير عندما ترجم لوالد القاضي أبي يعلى في كتابه: "البداية والنهاية"2، ذكره باسم الحسين مصغرًا.
الرابع: أن اسمه في الموجود من مؤلفاته: محمد بن الحسين بالتصغير.
الخامس: أن هناك كثيرًا ممن ترجموا للقاضي، ذكروا أن اسم أبيه هو "الحسين" بالتصغير منهم ابن الجوزي في كتابه: "المنتظم"3، وفي كتابه: "مناقب الإمام أحمد"4، وابن الأثير في كتابه: "الكامل"5، والذهبي في كتابه: "العبر في خبر من غبر"6، وفي كتابه: "سير أعلام النبلاء"7، وفي كتابه: "دول الإسلام"8، والعليمي في
__________
1 "اللباب" "2/ 413".
2 "11/ 327".
3 "8/ 243".
4 ص: 520.
5 "10/ 18".
6 "3/ 243".
7 ورقة "168/ أ" القسم الثاني من الجزء الحادي عشر.
8 ص: 269.
(1/16)
 
 
كتابه: "المنهج الأحمد"1، وابن العماد في كتابه: "شذرات الذهب"2، والنابلسي في كتابه: "مختصر طبقات الحنابلة"3، والصفدي في كتابه: "الوافي بالوفَيَات"4، وبروكلمان في كتابه: "تاريخ الأدب العربي"5 والزركلي في كتابه: "الأعلام"6، وابن تغري بردي في كتابه: "النجوم الزاهرة"7.
وقد كانت أسرةُ أبي يعلى أسرةَ علم ومعرفة، فأبوه أبو عبد الله الحسين بن محمد الفقيه الحنفي، أحد العلماء الصالحين الموصوفين بالزهد والورع والتقى: أسند الحديث، ودرس الفقه على أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص، وكان من المكرمين عنده، حدث أن مرض أبو عبد الله مائة يوم، زاره الرازي فيها خمسين مرة، ولما بلَّ من مرضه، قال له الرازي معتذرًا: مرضت مائة يوم، فعدناك خمسين يومًا، وذاك قليل في حقك.
روى عن جماعة، وعنه ابنه أبو خازم محمد بن الحسين، عرض عليه منصب القضاء، فامتنع منه.
قال عنه الذهبي: "كان من أعيان الحنفية، ومن شهود الحضرة".
مات في سنة: 390هـ، ولابنه أبي يعلى عشر سنين إلا أيامًا8.
__________
1 "2/ 105".
2 "3/ 306".
3 ص: 377.
4 "3/ 7".
5 "1/ 502" في النص الألماني.
6 "6/ 331".
7 "4/ 201".
8 البداية والنهاية "11/ 327"، وسير أعلام النبلاء الورقة "168/ أ" القسم الثاني من الجزء الحادي عشر، وطبقات الحنابلة "2/ 194" والمنتظم "7/ 210".
(1/17)
 
 
وكان جده لأمه: عبيد الله بن عثمان بن يحيى أبا القاسم الدقاق، المعروف بابن "جليقا" بالجيم واللام والمثناة التحتية بعد قاف ممدودة، أو ابن "جنيقا" بإبدال اللام نونًا، نسبة إلى أحد أجداده.
ولد جده المذكور سنة "318هـ"، وكان ثقة مأمونًا مكثرًا. روى عن المحاملي، وعنه العتيقي والأزهري وابن بنته أبو يعلى.
قال عنه أبو الفوارس: "كان ثقة مأمونًا، حسن الخلق، ما رأينا مثله في معناه".
وقال ابن الجوزي: "كان صحيح السماع، ثبت الرواية". مات في شهر رجب سنة "390هـ"1.
وتقف المصادر التي اطلَعت عليها على ما ذكرت من أجداد القاضي أبي يعلى، غير ذاكرة أصله الذي ينتمي إليه، وإنما اكتفت بأنه بغدادي المولد والنشأة والوفاة.
__________
1 البداية والنهاية "11/ 326"، وتاريخ بغداد "10/ 377"، واللباب "1/ 299"، والمنتظم "7/ 210".
(1/18)
 
 
مولده:
ولد القاضي أبو يعلى في شهر محرم لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين خلون منه، سنة ثمانين وثلاثمائة هجرية.
نقل ذلك الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"1، قال: "حدثني أبو القاسم الأزهري، قال: كان أبو الحسين بن المحاملي يقول: ... سألته -أي القاضي أبا يعلى- عن مولده، فقال: ولدت لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة ثمانين وثلاثمائة".
__________
1 "2/ 256".
(1/18)
 
 
وهذه الرواية هي التي عوَّل عليها المؤرخون في ذكر مولده، ولم أجد أحدًا خالف في ذلك فيما اطلعت عليه من المراجع1.
__________
1 راجع في هذا: "البداية والنهاية" "12/ 94"، طبعة مكتبة المعارف و"طبقات الحنابلة" "2/ 195" و"الكامل" "10/ 18" و"المنتظم" "8/ 243"، و"المنهج الأحمد" "2/ 105".
(1/19)
 
 
نشأته وطلبه العلم وأهم أعماله:
ولد القاضي أبو يعلى في بغداد كعبة العلم وقبلة العلماء وحاضرة العالم الإسلامي في ذلك العصر، بل حاضرة العالم كله، فقد كانت النهضة العلمية آنذاك مكتملة الأسباب متوفرة الدواعي، ولم تكن تلك النهضة خاصة بعلم دون آخر، بل كانت شاملة للنواحي العملية المتعددة، فكان في كل علم أساتذته وطلابه، كما كان في كل علم مكتبته ورواده.
في هذه البيئة العلمية نشأ أبو يعلى وترعرع.
بالإضافة إلى ذلك فقد توفر لأبي يعلى بيت علمي، يتعاون مع البيئة العلمية العامة، فقد كان أبوه على جانب كبير من العلم والفقه، لذلك حرص على تعليم ابنه وتنشئته تنشئة علمية صالحة، وكان يتولى بنفسه تعليم فتاهُ.
وكانت مدرسة الحديث آنذاك عامرة بشيوخها، فبدأ الطفل في التلقي والسماع، وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره، وكان أول سماعه من المحدث علي بن معروف1.
لم يمهل والد الغلام، حتى يرى ثمرة غرسه، فتمتد يد المنون إليه،
__________
1 "سير أعلام النبلاء" الورقة "167/ ب" الجزء الحادي عشر و"طبقات الحنابلة" "2/ 195".
(1/19)
 
 
فتخترمه، وذلك في سنة: 390هـ، ولغلامه من العمر عشر سنين إلا أيامًا1.
ويشاء الله -تعالى- أن يعيش الغلام هذه الفترة يتيمًا، ولعل ذلك سر من أسرار نبوغه وتفوقه، إذ إن كثيرًا من العباقرة والأفذاذ ينشئون غالبًا يتامى؛ ليتمرنوا على شظف العيش وقسوة الحياة؛ ليخرجوا بعد هذه المعاناة، وهم أشد ما يكونون صلابة عود ومضاء عزيمة.
ولكن أباه قبل أن يفارق الدنيا أوصى بتربية ابنه والقيام بشئونه إلى رجل يعرف بالحربي، كان يسكن بحي في بغداد يقال له: "دار القز"، فانتقل الصبي إلى مكان وصيه بعد أن كان يسكن "باب الطاق" -حي من أحياء بغداد أيضًا.
وفي "دار القز" هذا، كان فيه رجل صالح، يعرف: بابن مفرحة المقرئ، كان يقرئ القرآن في مسجد بهذا الحي، ويلقن طلابه بعض العبارات من "مختصر الخرقي" فقصده الصبي، وتلقى عنه ما كان يستطيع ذلك المقرئ أداءه، ولكن التلميذ طلب من معلمه الزيادة فأجابه بأسلوب المتواضع العارف قدر نفسه: "هذا القدر الذي أحسنته، فإن أردت زيادة، فعليك بالشيخ أبي عبد الله بن حامد، فإنه شيخ هذه الطائفة"2.
وينتهي هذا الطور من حياة هذا الغلام؛ لينتقل إلى الطور الثاني، وهو طور اتصاله بالشيخ أبي عبد الله الحسن بن حامد الحنبلي وتفقهه عليه.
كان الشيخ ابن حامد -رحمه الله تعالى- إمام الحنابلة في عصره في
__________
1 "سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ أ" الجزء الحادي عشر، و"طبقات الحنابلة" "2/ 194".
2 طبقات الحنابلة "2/ 194.
(1/20)
 
 
بغداد، وكان يدرس بها المذهب الحنبلي أصولا وفروعًا، فأَمَّه الغلام أبو يعلى، وصحبه، وتتلمذ عليه، حتى حاز رضا شيخه وإعجابه، وفاق زملاءه وأقرانه، ولذلك لما سئل عمن يقوم بالتدريس أثناء غيابه في الحج، أجاب بقوله: هذا الفتى، وأشار إلى القاضي أبي يعلى1.
ولم يكن أبو يعلى مقتصرًا على تعلم الفقه وأصوله، بل سمع الحديث وأكثر من ذلك، فسمع من أبي القاسم بن حبابة وعلي بن عمر الحربي وأبي القاسم موسى السراج وأبي الحسين السكري وغيرهم2.
كما تعلم علوم القرآن وقرأ بالقرءات العشر3.
وقد رحل في طلب العلم إلى مكة المكرمة ودمشق الفيحاء، وحلب الشهباء، وهناك سمع الحديث من بعض محدثيها4.
وفي سنة "403هـ" يلتحق الشيخ ابن حامد بالرفيق الأعلى، حيث وافته منيته، وهو راجع من الحج5.
ويتلقى التلميذ نبأ الفاجعة بصبر وثبات، ويمضي قدمًا في إكمال رسالة شيخه، فيتربع على كرسي التدريس والإفتاء على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى.
ومن هنا يبدأ الدور الثالث في حياة الرجل، طور النضوج، طور تحمل المسئولية بكل تبعاتها، فيعكف على التأليف والتصنيف في شتى
__________
1 طبقات الحنابلة "2/ 195".
2 "طبقات الحنابلة" "2/ 195"، و"سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ أ" الجزء الحادي عشر، و"المنتظم" "8/ 243".
3 طبقات الحنابلة "2/ 200"، و"سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ ب".
4 المرجعان السابقان.
5 "طبقات الحنابلة" "2/ 195".
(1/21)
 
 
العلوم الإسلامية، وبخاصة والرجل قد جمع كثيرًا من الكتب، والمسائل التي نقلها الأصحاب عن الإمام أحمد، الأمر الذي جعله على دراية كاملة بأصول وفروع مذهب إمامه.
وفي سنة: 414هـ نجده يسافر إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ثم يعود بعد ذلك إلى بغداد لمواصلة التدريس والتأليف والإفتاء1.
__________
1 المرجع السابق "2/ 196".
(1/22)
 
 
توليه التدريس:
أشرنا فيما تقدم أن الشيخ ابن حامد -رحمه الله- كان هو القائم بتدريس الفقه وأصوله على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وكان القاضي أبو يعلى يتولى التدريس أثناء غياب شيخه ابن حامد بأمر منه. ولكن لما انتقل ابن حامد إلى جوار ربه، كان لزامًا على القاضي أبي يعلى أن يشغل الفراغ الذي تركه شيخه، فيجلس على كرسي التدريس يتصدى للإفتاء.
وتمضي الليالي والأيام، وقافلة الخير تسير بأمر ربها، فليس هناك إلا بحث واطلاع وتدريس وإفادة، فيذيع صوت هذا الشاب، وتتناقل الأخبار عن فتى بغداد الحنبلي، فيدلف الناس إليه زرافات ووحدانًا، يسمعون منه، ويقرءون عليه، ويسألونه عما أشكل عليهم.
ويحكي لنا ابنه أبو الحسين ما كان عليه الازدحام على حلقة والده في جامع المنصور ببغداد، فيقول: "وقد حضر الناس مجلسه، وهو يملي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاة الجمعة بجامع المنصور على كرسي عبد الله ابن إمامنا أحمد -رضي الله عنه- وكان المبلغون عنه في حلقته والمستملون ثلاثة أحدهم: خالي أبو محمد جابر. والثاني: أبو
(1/22)
 
 
منصور الأنباري، والثالث: أبو علي البرداني.
وأخبرني جماعة من الفقهاء ممن حضر الإملاء أنهم سجدوا في حلقة الإملاء على ظهور الناس؛ لكثرة الزحام في صلاة الجمعة في حلقة الإملاء"1.
وكانت هذه المدرسة تعج بفطاحل العلماء الأجلاء، الذين حملوا الراية بعد شيخهم، ومِنْ ألمع هؤلاء أبو الوفاء ابن عقيل وأبو الخطاب الكلوذاني والخطيب البغدادي وغيرهم.
وبذلك يعتبر القاضي أبو يعلى هو الذي نشر مذهب الإمام أحمد في هذه الفترة، وأحيا ما انْدَرَسَ من معالمه، فقد تخرج على يديه الجم الغفير من الحنابلة، كما ألَّف في المذهب -أصولا وفروعًا- الكتب الكثيرة، التي تعتبر أهم المصادر التي حفظت لنا المذهب الحنبلي بعد المسائل التي دونت عن أحمد ووصلت إلينا، ولذلك لا نجد أحدًا بلغ مبلغه فيمن أتى بعده، بل كلهم عيال عليه.
__________
1 "المرجع السابق" "2/ 200".
(1/23)
 
 
تولِّيه القضاء:
لما برز القاضي أبو يعلى، وعرف الناس قدره ومكانته العلمية وزهده وورعه، قصده الشريف أبو علي بن أبي موسى؛ ليشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا فامتنع، وأبى ذلك إباءً شديدًا1.
ثم كرر الطلب، فأجاب بعد إلحاح، وشهد عند قاضي القضاة ابن ماكولا، فقبل شهادته، وذلك في يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة 440هـ2، وكان ابن ماكولا يجله ويحترمه.
__________
1 "المرجع السابق" "2/ 196، 197".
2 "المنتظم" "8/ 136".
(1/23)
 
 
ولما توفي رئيس القضاة ابن ماكولا في شهر شوال سنة: "447هـ"1، وشغر بذلك منصب القضاء، خوطب القاضي أبو يعلى لِيَلِي القضاء بدار الخلافة والحريم، فامتنع من ذلك، ثم قَبِلَ بعد أن كرر عليه السؤال، واشترط لقبوله شروطًا منها: أنه لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان، وفي كل شهر يقصد "نهر الْمُعَلَّى" يومًا، و"باب الأزج" يومًا، ويستخلف من ينوب عنه في "الحريم"، فأجيب إلى ذلك2.
وقد قلد القضاء في الدماء والفروج والأموال، وأضيف إليه بعد ذلك قضاء "حرَّان" و"حلوان" فاستناب فيهما.
ولم يكن باستطاعة واحد أن يقوم بالقضاء في كل هذه الجهات، لذلك نجد أبا يعلى قد رد القضاء في عدة أبواب إلى من يثق به، فجعل قضاء "باب الأزج" إلى الجيلي، ولما تبين عدم صلاحيته عزله، وجعل النظر في عقود الأنكحة والمداينات بالباب المذكور إلى تلميذه أبي علي يعقوب، كما جعل النظر في العقار في "باب الأزج" أيضًا إلى أبي عبد الله بن البقال.
واستناب بدار الخلافة و"نهر المعلى" أبا الحسن السيبي.
وظل القاضي أبو يعلى في هذا المنصب الخطير إلى أن انتقل إلى جوار ربه تعالى3.
__________
1 "شذرات الذهب" "3/ 275".
2 "طبقات الحنابلة" "2/ 198، 199".
3 "المرجع السابق" "2/ 199، 200".
(1/24)
 
 
زهده وورعه وثناء الناس عليه:
من الصفات المحمودة في العالم تحلِّيه بالتقوى والزهد والورع مع صبر وتجمل، ومعنى ذلك أن تعرض له الدنيا بمفاتنها وإغراءاتها فينصرف عنها
(1/24)
 
 
انصراف الزاهد فيها، المكتفي منها بما يسد الرمق، ويقيم الأود، وليس الزاهد الورع الذي لم يمكن من الدنيا، ولو مكن منها لأتى بالعجائب.
وقد كان القاضي أبو يعلى من النوع الأول مع صلابة في الدين، وجرأة في الحق، يزينهما حلم وأناة، ولذلك لم يعرف عنه أنه قَبِلَ من حاكم صلة أو عطية، كما لم يعرف منه الوقوف على أبواب الحكام والسلاطين من أجل الدنيا، مع الفقر والحاجة، فقد كان -في بعض الأوقات- يقتات من الخبز اليابس، يبله في الماء ويأكله، حتى لحقه المرض من ذلك1.
ولما عرض عليه منصب القضاء امتنع منه، وبعد إلحاح قبله بشروط: أن لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان2.
فهذه الشروط الثلاثة تدل دلالة واضحة على ما للرجل من قدم صدق في عدم التهافت على مطامع الدنيا والافتتان بمظاهرها، ولو لم يكن كذلك لما فوت تلك الفرص الذهبية، التي تضفي على أقل الناس منصبًا هالة من العظمة والجلال، فكيف بعالم بغداد وقاضيها، ولكنه الطمع فيما عند الله تعالى، والزهد فيما عند الناس، ولقد صدق الجرجاني حيث قال:
ولم أقض العلم، إن كان كُلَّمَا ... بَدَا طمع، صيرته لي سلمًا
وما زلت منجازًا بعرضي جانبًا ... من الذل، اعتد الصيانة مغنمًا
إذا قيل: هذا منهل، قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظَّمَا3
__________
1 طبقات الحنابلة "2/ 223".
2 المرجع السابق "2/ 199".
3 "المنتظم" "7/ 221" في ترجمة الجرجاني، و"صفحات من صبر العلماء" لأبي غدة ص: 95.
(1/25)
 
 
مرض الخليفة القائم بأمر الله، فلما عوفي، ذهب أبو يعلى لتهنئته، فلما خرج من عند الخليفة، أتبع بجائزة سنية، وسئل قبولها، فأبى إباءً شديدًا، وامتنع منها1.
وبزهد القاضي أبي يعلى وورعه وفضله شهد العلماء، فهذا أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجزي الحافظ، يكتب للقاضي كتابًا يقول فيه:
كتابك سيدي لما أتاني ... سررت به، وجدد لي ابتهاجا
وذكرك بالجميل لنا جميل ... يقلدنا ولم نخرج مزاجا
جللت عن التصنع في وداد ... فلم نَرَ في توددك اعوجاجا
وقد كثر المداجي والمرائي ... فلا تحفل بمن راءى وداجا
حييت معمرًا وجزيت خيرا ... وعشت لدين ذي التقوى سراجا2
وقال فيه الخطيب البغدادي3: "كتبنا عنه، وكان ثقة"ونقل عن ابن الفراء المحاملي قوله: "ما تحاضرنا أحد من الحنابلة أعقل من أبي يعلى بن الفراء".
وقال ابن الجوزي4: " ... وجمع الإمامة والفقه والصدق وحسن الخلق والتعبد والتقشف والخضوع وحسن السمت والصمت عما لا يعني، واتباع السلف".
وقال الذهبي5: "وكان ذا عبادة وتهجد وملازمة للتصنيف مع الجلالة والمهابة، وكان متعففًا نزه النفس كبير القدر ثخين الورع".
وقال أيضًا فيما نقله عنه ابن العماد6: "وجميع الطائفة معترفون بفضله، ومغترفون من بحره".
__________
1 طبقات الحنابلة "2/ 223".
2 المرجع السابق "2/ 202".
3 تاريخ بغداد "2/ 256".
4 المنتظم "8/ 243، 244".
5 "سير أعلام النبلاء" الورقة "168/ ب" الجزء الحادي عشر.
6 "شذرات الذهب" "3/ 306، 307".
(1/26)
 
 
وفاته ورثاء الناس له:
بعد حياة حافلة بالعمل والنشاط والانجازت العلمية العظيمة، يسلم القاضي أبو يعلى الروح، وترجع النفس إلى بارئها، في ليلة الاثنين تاسع عشر من شهر رمضان الكريم من عام ثمان وخمسين وأربعمائة هجرية، بمدينة بغداد، وصلى عليه ابنه أبو القاسم يوم الاثنين في جامع المنصور1، ودفن بمقبرة باب حرب2.
وقد عطلت الأسواق، وتبع جنازته جماعة الفقهاء والقضاة والشهود، وخلق لا يحصون، على رأسهم القاضي أبو عبد الله الدامغاني، ونقيب الهاشميين، وأبو الفوارس، ومنصور بن يوسف، وأبو عبد الله بن جردة3.
وكان قد أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر، وأن يكفن في ثلاثة أثواب، وأن لا يدفن معه في القبر غير ما غزله لنفسه من الأكفان، ولا يخرق عليه ثوب، ولا يقعد لعزاء4.
ولا شك أن وفاته أحدثت ضجة عظيمة، وفراغًا كبيرًا لدى طلاب العلم والمعرفة، وبخاصة طلابه، وقد عبر تلميذه علي بن أخي نصر عمَّا يجيش في نفسه ونفوس زملائه من لوعة الحزن وألم الفراق، فاسمعه وهو يقول:
أسف دائم وحزن مقيم ... لمصاب به الهدى مهدوم
__________
1 "طبقات الحنابلة" "2/ 216"، والمراجع التي ذكرناها في ترجمته من قبل فلا داعي لسردها هنا.
2 "تاريخ بغداد" "2/ 256"، و"المنتظم" "8/ 244".
3 "المنتظم" "8/ 244".
4 المرجع السابق.
(1/27)
 
 
مات نجل الفراء أم رجت الأر ... ض أم البدر كاسف والنجومُ؟
لهف نفسي على إمام حوى الفضـ ... ـل وهو بالمشكلات عليمُ
خلق طاهر ووجه منير ... وطريق إلى الهدى مستقيم
كان للدين عدة ولأهل الد ... ين في النائبات خل حميم
من يكن للدرس بعدك أم من ... لجدال المخالفين يقوم؟
من لفهم الحديث والطرق يستو ... ضح منه صحيحه والسقيم
من لفصل القضاء إن أشكل الحكـ ... ـم وضجت بالنازلات الخصوم
درست بعده المدارس فالعلـ ... ـم طريد وحبله مصروم
هكذا يذهب الزمن ويفنى العلـ ... ـم فيه ويجهل المعلوم
إن قبرًا حواك يا أيها الطو ... د عجيب رحب الفناء عظيم
إن يكن شخصه محته يد الدهـ ... ر فذكراه في الدهور مقيم
فتُحيا بذكره كل وقت ... ومحياه في الترب رميم
آمري بالسلو مهلا ففي القلـ ... ـب غرام مبرح ما يريم
كلما رمت سلوة هيج الحز ... ن صنيع له وفعل كريم
غير أن القضاء جار على الخلـ ... ـق قضاء من ربهم محتوم
فعلى الشامتين خزي مقيم ... وعليه الصلاة والتسليم1
وقد رثاه أيضًا محمد بن المسبح بهذه الأبيات:
مات السدى والندى والمجد المكرم ... والعالم اليقظ المستبصر العلم
مات الإمام أبو يعلى الذي ندبت ... لفقده الكعبة الغراء والحرم
يا أيها العالم الحبر الذي كسفت ... شمس الهدى بعده بل عادها الظلم
لولاك ما كان للدنيا وساكنها ... معنىً ولا عرفت طرق الهدى الأمم
ولا روى عن سول الله مأثرة ... ولا قضى بصحيح غير فِيكَ فم
لم يبلغ الحنبلي الحبر مرتبة ... إلا على رأسها من جسمك القدم
__________
1 "طبقات الحنابلة" "2/ 217، 218".
(1/28)
 
 
أوضحت سبل الهدى من بعد ما درست ... عن الورى فقدتك العرب والعجم
مادت بنا الأرض وارتجت بساكنها ... لما قبرت وكاد الدين ينهدم1
__________
1 "المرجع السابق" "2/ 221، 222"، ويلاحظ أن في القصيدة مبالغة غير جائزة شرعًا.
(1/29)
 
 
أولاده:
وقد خلف القاضي أبو يعلى ثلاثة أبناء:
1- أبو القاسم عبيد الله، العالم الورع العفيف الصَّيِّن. ولد في يوم السبت السابع من شهر شعبان سنة: 443هـ، قرأ القرآن الكريم بالروايات الكثيرة على شيوخ عصره، وكان كثير التلاوة للقرآن مع معرفة بعلومه.
سمع الحديث من والده وجده لأمه جابر بن ياسين وأبي الحسين بن المهتدي وغيرهم.
وتفقه على والده وعلى تلميذ والده الشريف أبي جعفر.
رحل في طلب العلم إلى البصرة والكوفة وواصل وغيرها.
كان يحضر مجالس النظر ويشارك فيها، كما كان ذا معرفة بالجرح والتعديل وأسماء الرجال والكنى وغير ذلك.
ولما ظهرت البدع في بغداد سنة: 459هـ، هاجر إلى البلد الحرام، فتوفي في الطريق في أواخر شهر ذي القعدة من هذه السنة1.
2- محمد أبو الحسين القاضي الشهيد، فقيه أصولي. ولد ليلة النصف من شهر شعبان سنة: 451هـ.
__________
1 "المرجع السابق" "2/ 235، 236" و"ذيل طبقات الحنابلة" "1/ 12، 13".
(1/29)
 
 
قرأ على أبي بكر الخياط، وتفقه على الشريف أبي جعفر، وروى الحديث عن أبيه وعبد الصمد وأبي الحسن بن المهتدي وغيرهم.
وسمع منه خلق كثير منهم: ابن ناصر ومعمر بن الفاخر ويحيى بن بوش وابن عساكر وغيرهم.
له مؤلفات كثيرة منها: "المجموع في الفروع"، و" رءوس المسائل" و" المفردات في أصول الفقه" و"طبقات الحنابلة".
مات ببغداد مقتولا على يد لصوص، أرادوا سرقة بيته، في يوم السبت الحادي عشر من شهر محرم سنة: 526هـ، ودفن عند أبيه بمقبرة باب حرب1.
3- محمد أبو خازم، بالخاء والزاي المعجمتين. فقيه، زاهد. ولد في شهر صفر سنة: 457هـ، تفقه على القاضي يعقوب، ولازمه وسمع الحديث من أبي جعفر بن المسلمة وجابر بن ياسين، ومن والده أبي يعلى إجازة.
سمع منه جماعة منهم: ابنته نعمة، وأبو المعمر الأنصاري، ويحيى بن بوش.
له مؤلفات مفيدة منها: " التبصرة في الخلاف" وكتاب "رءوس المسائل"، و" شرح مختصر الخرقي".
توفي في بغداد في يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر صفر سنة: 527هـ2.
__________
1 "ذيل طبقات الحنابلة" "1/ 176- 178".
2 المرجع السابق: "1/ 184، 185".
(1/30)
 
 
التعريف بالكتاب
مدخل
...
التعريف بالكتاب*:
هناك بعض المعلومات الضرورية عن الكتاب، لا بد من معرفتها لمن أراد أن يطلع على الكتاب، وسوف أتكلم عنها بإيجاز فيما يلي:
__________
* هذه كلمة مختصرة جدًّا عن الكتاب، انتزعناها من القسم الدراسي "القسم الأول من أطروحة الدكتوراه".
(1/31)
 
 
اسم الكتاب:
هذا الكتاب اسمه: "العدة في أصول الفقه" كما ذكر في آخر الكتاب، وكما ذكر في المصادر التي سنذكرها عند الكلام على نسبة الكتاب إلى المؤلف، غير أنني رأيت اسم الكتاب في الورقة الأولى هكذا: "العمدة في أصول الفقه" وهذه التسمية خطأ؛ لما ذكرنا قبل؛ ولأن الكتابة تختلف عن كتابة المخطوطة؛ ولأن هناك كتابًا آخر للمؤلف بهذا الاسم، وجدت منه نسخة بالعراق، مخرومة من الأول والأخير.
(1/31)
 
 
نسبة الكتاب إلى المؤلف:
هناك إجماع بأن هذا الكتاب للقاضي أبي يعلى، فلم أجد أحدًا نسبه إلى غيره، واسمه مسطور على أول الكتاب وآخره.
(1/31)
 
 
وممن ذكره منسوبًا إلى المؤلف:
ابن أبي يعلى في "طبقاته" "2/ 205" في ترجمة المؤلف.
والطوفي في كتابه: "شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "16/ أ".
والذهبي في كتابه: "سير أعلام النبلاء" القسم الثاني من المجلد الحادي عشر، الورقة "168".
وآل تيمية في كتابهم: "المسودة" "ص: 58، 59، 177، 180، 186، 196، 241، 256، 258، 273".
والمجد بن تيمية في كتابه: "المحرر" "2/ 261".
والمرداوي في كتابه: "الإنصاف" "12/ 46".
والبعلي في كتابه: "القواعد والفوائد الأصولية" "ص: 258".
والعليمي في كتابه: "المنهج الأحمد" "2/ 112".
وابن بدران الحنبلي في كتابه "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" "ص: 241".
وبروكلمان في كتابه: "تاريخ الأدب العربي" "1/ 502" من النسخة الأصلية.
(1/32)
 
 
وصف مخطوطة الكتاب:
توجد لهذا الكتاب -حسب علمي- نسخة فريدة في العالم، وهذه النسخة صمن مخطوطات دار الكتب المصرية بالقاهرة، وتقع تحت رقم: "76" أصول فقه، وقد صورت على "ميكروفيلم" في معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية تحت رقم: "67" أصول فقه.
والكتاب يقع في: "257" ورقة من القطع الكبير مقاس "21×30 سم"،
(1/32)
 
 
يقع في كل صفحة خمسة وعشرون سطرًا، وفي كل سطر ست عشرة كلمة تقريبًا.
وقد كتب على الصفحة الأولى ما نصه: "العمدة في أصول الفقه، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تأليف أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء" ويلاحظ أن الكتابة هذه بقلم غير القلم الذي نسخ به الكتاب.
وفي منتصف الصفحة: "سيف المناظرين، حجة العلماء، أَوْحَدُ الفضلاء، القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء الحنبلي -رضي الله عنه.
وبعده كتب اسم السلطان المؤيد أبو النصر شيخ، بخط كبير اتبع بعبارة: "وقف الملك المؤيد شيخ بمدرسة باب زويلة".
أما الصفحة الأخيرة فقد جاء فيها: "تم كتاب العدة في أصول الفقه، ولله الحمد والمنة والفضل على تمامه، ووافق الفراغ من نسخه في يوم السبت سابع عشر شهر رمضان المعظم سنة تسع وعشرين وسبعمائة للهجرة النبوية".
والناسخ مجهول، ولكن التصويبات التي عملها على الهامش، تدل على ما له من مستوىً علمي لا بأس به.
وخط الكتاب نسخ جيد غير مشكول، وقد صرح الناسخ أنه نقل هذه النسخة من نسخة الشيخ الإمام العالم نجم الدين بن حمدان التي نسخها بخط يده.
وهناك ملاحظات على كتابة النص وهوامشه، نوجز أهمها فيما يلي:
1- في كثير من الأحيان لا يعجم الناسخ الحروف، ولا يضع العلامة
(1/33)
 
 
الفارقة بين "الكاف" و"اللام" فيرسمها هكذا: "لـ".
2- وهناك كلمات، يرسمها بالياء، وهي بالهمزة مثل: "مسايل" و"قايل"، وقد رسمتها على المشهور من لغة العرب، واتبعت الرسم المعروف في الوقت الحاضر، من غير إشارة إلى ذلك في الهامش.
3- على أن هناك رسما، له دلالته النحوية، مثل حذف حرف العلة من آخر الفعل المضارع، إذا دخل عليه الجازم، ففي هذه الحالة أرسم الفعل بحذف حرف العلة، وأشير إلى ذلك في الهامش.
ومثل ذلك الأسماء المنكرة المنقوصة في حالتي الرفع والجر، فإنه يرسمها بإثبات الياء في الحالتين، ففي هذه الحالة أرسمها بإثبات الياء في الحالتين، ففي هذه الحالة أرسمها بحذف الياء لإنابة التنوين عنها، كما هو الراجح عند جمهرة النحاة، وعليه الرسم الآن، وأشير إلى ذلك في الهامش.
4- في هوامش المخطوطة تصويبات، أثبتها الناسخ، إما من نفسه، وإما نقلا عن نجم الذين ابن حمدان، ففي هذه الحالة: أثبت التصويب في صلت الكتاب، وأشير في الهامش على الخطأ، كما أشير إلى التصويب من الناسخ، أو مما نقله عن ابن حمدان.
(1/34)
 
 
منهج المؤلف في هذا الكتاب:
لكل مؤلف منهج، صرح به في كتابه، أو أدركه القارئ بطريق الاستقراء والتتبع، والسواد الأعظم من العلماء الأقدمين، لا يصرح بمنهجه ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى، لذلك سوف نتلمس منهجه من خلال كتابه، موجزين ذلك فيما يلي:
أولا: نهج المؤلف في كتابه نهج المقارنة بين الآراء الأصولية في
(1/34)
 
 
كتابه، ولم يقتصر على إيراد المذهب الحنبلي.
ثانيا: حرص المؤلف كل الحرص على بيان المذهب الحنبلي، وبسطه في كل مسألة تعرض لها.
ثالثا: الدقة في عزو الآراء إلى الإمام أحمد، هل ذلك بطريق النص أو بطريق الإشارة، أو بطريق الإيماء.
رابعا: كان يحاول إشراك القارئ في كيفية استخراج نسبة القول إلى الإمام أحمد، حيث كان يورد اللفظ المنقول عنه، ثم يبين من أين أخذ رأي الإمام أحمد، وكيف أخذه.
خامسا: كان المؤلف لا يأخذ الروايات عن الإمام أحمد عشوائية، بل كان يربط كل رواية بمن نقلها عنه من أصحابه فيقول مثلا: روى صالح، روى عبد الله ... ، حتى يعطي القارئ الثقة فيما ينقل.
سادسا: لم يقتصر المؤلف على نقل روايات واحدة في المسألة، بل كان ينقل كثيرا من الروايات، وإن اختلفت، ثم يشرع بعد ذلك في ترجيح الروايات على بعض، مع بيان أن الأخذ بهذه هو الأليق بمذهب الإمام أحمد، وهكذا ...
سابعا: كان من منهج المؤلف مناقشة الآراء، واختيار واحد منها مدعوما بالحجة والبرهان.
ثامنا: عند عرضه لمسألة من المسائل، فإنه يرتب عرضها على الشكل الآتي، ماهية المسألة، الرأي المختار، الآراء الأخرى، أدلة الرأي المختار، ذكر الاعتراضات الواردة على أدلة الرأي المختار والرد عليها، وأدلة الآراء الأخرى والرد عليها.
تاسعا: إذا كانت المسألة متشعبة، فصل القول فيها، وحرر محل
(1/35)
 
 
النزاع وبيَّنه، حتى يكون الكلام واضحًا في المسألة.
عاشرًا: إن لم يكن في الخلاف ثمرة، بل كان خلافًا لفظيًّا، بيَّن ذلك المؤلف ووضحه.
حادي عشر: كان استدلال المؤلف في المسائل التي تكلم عنها بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وآثار الصحابة، وما ورد عن العرب شعرًا ونثرًا، وما نقل عن أئمة اللغة من أقوال.
ثاني عشر: عني المؤلف بإيراد -بالإضافة لأقوال الحنابلة- أقوال الشافعية، والحنفية، والأشعرية والمعتزلة في معظم المباحث التي تكلم فيها، على عكس ما فعل مع المالكية، والظاهرية، فقد كان ورودهما قليلا.
ثالث عشر: يحرص المؤلف على عدم التكرار إلا في النادر، فإذا ما وجد أن الكلام يتماثل في موضعين، أحال الكلام في الأخير على الكلام في الأول، كما فعل في صيغة كل من الأمر، والنهي، والإخبار، وكما صنع في الفورية في النهي، والتكرار فيه، حيث أحال الكلام هنا إلى الكلام في الأمر.
رابع عشر: قد بيَّن المؤلف منشأ الخلاف في مسألة أو أكثر.
خامس عشر: ربما أعاد المؤلف الكلام في بعض المسائل إلى أصل من الأصول، ثم يأخذ يفصل القول بناءً على ذلك الأصل.
سادس عشر: وأولا وأخيرًا كان من منهج القاضي في هذا الكتاب وغيره المناقشة الهادئة، بعيدة عن كل ما يخل بآداب البحث والمناظرة.
(1/36)
 
 
مصادر المؤلف في هذا الكتاب
مدخل
...
مصادر المؤلف في هذا الكتاب:
تنوعت مصادر المؤلف في هذا الكتاب، فمنها ما صرح به، ومنها ما لم يصرح به، ولكن استطعنا -بعون الله وتوفيقه- أن نضع أيدينا عليها بطريق البحث والتتبع، ويمكن تصنيف تلك المصادر إلى المجموعات الآتية:
(1/37)
 
 
مصادر في العقيدة:
من المعلوم أن هناك أبحاثًا في علم الأصول لها علاقة بالعقيدة، أو ما يسمى بعلم الكلام، ولا يسع الأصولي عند الكلام عليها إلا الرجوع إلى مصادرها، وهو ما صنع المؤلف، ونحن هنا نشير إلى أهمها:
أولا: "كتاب الإيمان" للإمام أحمد، نقل المؤلف منه ما يدل على رأي الإمام أحمد في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسي المروي عنه الخبر، فأنكره، فهل يقبل ذلك الخبر أو يرد؟ وقد كان رأي الإمام أحمد هو قبول الحديث في مثل تلك الحال، انظر "ص: 963، 964".
ثانيًا: "كتاب الرد على أهل الإلحاد" "لأبي بكر ابن الأنباري" رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في بحث المحكم والمتشابه، عند
(1/37)
 
 
تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} ص689
ثالثا: "كتاب القدر" لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال، كان من مصادر المؤلف في مسألة صيغة الأمر هل هي للوجوب أو لا عند الاستدلال بأمر الله تعالى لإبراهيم بذبح ولده ص216.
مصادر في التفسير وعلومه:
من المسلمات لدى الأصوليين وغيرهم أن كتاب الله تعالى هو المصدر الأول للتشريع، وقد تعرض العلماء لهذا الكتاب بالشرح والإيضاح، وهو ما نسميه "علم التفسير"، لذلك رجع المؤلف إلى بعض كتب التفسير وعلومه، أشهرها خمسة:
أولا: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري مطبوع، لم يصرح المؤلف به في كتابه، وقد أفاد منه في فصل في قيام بعض الحروف عن بعض، ص208، بل نقل كلام ابن قتيبة بالنص، ولم يزد عليه.
ثانيا: "غريب القرآن" لابن قتيبة الدينوري، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة: نسخ الحكم قبل التمكين من الفعل، عند تفسير قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ص808.
ثالثا: كتاب التفسير لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، المعروف بغلام الخلال، أفاد منه المؤلف في عدة مواضع، منها:
أسماء الأشياء، هل حصلت عن توقيف أو عن مواضعة؟
(1/38)
 
 
ص192، عند الكلام على تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} .
إذا ورد الأمر متعربا عن القرائن اقتضى الوجوب ص230 عند الاستدلال بقوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} ، على أن الأمر يقتضي الوجوب، وبناء على ذلك فهل إبليس من الملائكة أو من الجن ... ؟
مسألة وقوع المجاز في القرآن ص697 عند الكلام على قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} هل فيه مجاز أو لا؟
مسألة: ليس في القرآن شيء بغير العربية ص707، فقد نقل المؤلف هذا الرأي عنه.
مسألة: تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد ص713 عند الكلام في تقسيم التفسير إلى: ما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، وإلى ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن.
مسألة تعليم التفسير ونقله وما في ذلك من الثواب ص 718، حيث نقل المؤلف حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن ... " من التفسير المذكور.
في مسألة "بيان الكبائر من المعاصي" عند تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ص946.
(1/39)
 
 
رابعًا: "كتاب التفسير" ليحيى بن سلام، أفاد المؤلف منه عند الكلام على أن تعليم التفسير ونقله فيه أجر وثواب "ص: 715"، حيث نقل المؤلف عنه حديث: "اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل".
خامسًا: "معاني القرآن وإعرابه" "لأبي إسحاق الزَّجَّاج" طبع منه جزآن، رجع المؤلف إليه في موضعين:
1- عند الكلام في مسألة: إذا أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بفعل عبادة، ليس فيه تخصيص، فهل تشاركه أمته في ذلك، عند الاستدلال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [ص: 325] .
2- عند الكلام في مسالة: استثناء الأكثر، عند الاستدلال بقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [ص: 667] .
(1/40)
 
 
مصادر في الحديث وعلومه:
وإذا كان كتاب الله تعالى هو المصدر الأول للتشريع، فإن الحديث هو المصدر الثاني فمن البَدَهِيَّات أن يرجع الأصولي إليه في مصادره وقد حفل الكتاب بكثير من هذه المصادر، أهمها:
أولا: جزء في الإجازة والمناولة والقراءة صنفه "محمد بن مخلد بن حفص العطار" أفاد المؤلف منه في موضعين:
1- عند كلامه على صيغ التَحَمُّل والأداء للحديث "ص: 979"، حيث نقل عنه رواية عن الإمام أحمد في جواز العرض على المحدث.
(1/40)
 
 
2- عند كلامه عن الترجيح بين المتعارضين اللذَين لم يمكن الجمع بينهما، وهو الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد، ولا إلى المتن، بل إلى شيء غيرهما، ضمن المرجع السادس "ص: 1054".
ثانيًا: جزء فيه السنة "لحرب بن إسماعيل الحنظلي" نقل منه المؤلف رواية عن الإمام أحمد تسوِّي بين "أخبرنا" و"حدثنا" إذا كان سماعًا من الشيخ "ص: 977".
ثالثًا: الرد على من انتحل غير مذهب أصحاب الحديث "لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر" غلام الخلال، رجع إليه المؤلف عندما تكلم على صيغ التحمُّل والأداء للحديث "ص:980، 985".
رابعًا: سنن الدارقطني "لعلي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي المعروف بالدارقطني" -مطبوع- نقل المؤلف عنه حديثًا ذكره بسنده؛ ليدلل به على عدم جواز نسخ القرآن بالسنة، وأن ذلك لم يوجد"ص: 792".
خامسًا: كتاب العلل "لأحمد بن محمد الطائي" المعروف بالأثرم، أفاد المؤلف من هذا الكتاب في مواضع:
1- في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسى المروي عنه الخبر، وأنكره، فهل يقبل الخبر في مثل هذه الحالة أو يرد؟ عندما نقل عن الإمام أحمد ما يدل على قبول ذلك الحديث "ص: 960".
2- في مسألة: إذا أراد الراوي تجزئة الحديث، بأن ينقل
(1/41)
 
 
بعضه، ويترك بعضه ص 1016 عندما نقل عن الإمام أحمد ما يدل على جواز ذلك.
سادسا: كتاب العلل "لأحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر الخلال" أفاد منه المؤلف في موضعين:
عند نقل المؤلف لكلام الإمام أحمد في ترجيح بعض المراسيل على بعض، "ص920" حيث نقل عنه المؤلف مما رواه عن أبي الحارث عن الإمام أحمد أنه قال: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا يُرى أصح من مرسلاته.
في مسألة: إذا أراد الراوي تقطيع الحديث، بأن ينقل بعضه، ويترك بعضه، ص1018 فقد نقل المؤلف عنه قوله: أبو عبد الله لا يرى بأسا باختصار الحديث.
مصادر في الفقه وأصوله:
أما المصادر في الفقه وأصوله، فقد كان لها نصيب الأسد في الكتاب، وهي على قسمين، قسم لم يصرح المؤلف بالرجوع إليه، وقسم صرح بالرجوع إليه:
أما القسم الأول: فقد تمكنت من الاطلاع على مصدرين، كان لهما أكبر الأثر في منهج المؤلف ومادته.
أولا: الفصول أو أصول الجصاص "لأحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص" مخطوط، فقد نقل عنه بالنص في ص100، عند الكلام على البيان وأقسامه، كما أفاد منه في مواضع أخرى، أشرنا إليها في حينها.
(1/42)
 
 
ثانيا: المعتمد في أصول الفقه، "لأبي الحسين البصري"، مطبوع فقد أفاد منها المؤلف في نقل آراء المعتزلة، وأدلتهم، كما أفاد منه في بعض الجوانب المنهجية.
أما القسم الثاني: فقد رجع المؤلف إلى مصادر أهمها:
أولا: جزء فيه مسائل في أصول الفقه "لأبي الحسن الجزري" رجع إليه المؤلف في مسألة تخصيص العموم بالقياس ص563 عندما نقل من هذا الجزء كلام الإمام أحمد: "حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرده إلا مثله".
ثانيا: جزء من شرح مختصر الخرقي "لأبي إسحاق ابن شاقلا"، في مسألة تخصيص العلوم بالقياس ص563 عندما نقل عن أبي إسحاق ما يدل على أن الحنابلة في تلك المسألة على قسمين، قسم يجوز، وقسم يمنع.
ثالثا: كتاب أصول الفقه "لأبي الفضل التميمي"، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة هل في القرآن مجاز أو لا؟ ص697، حيث نقل المؤلف قوله: "والقرآن ليس فيه مجاز عند أصحابنا".
رابعا: كتاب التقريب في أصول الفقه "لأبي بكر الباقلاني" أفاد منه المؤلف في مسألة: هل يصح استثناء الأكثر أو لا؟ ص666 حيث نقل المؤلف أنه نصر عدم صحة ذلك في كتابه المذكور.
خامسا: كتاب التنبيه "لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر، غلام الخلال"، رجع المؤلف إلى هذا الكتاب في مسألة: إذا ورد العام، فهل يجب العمل به في الحال قبل البحث عن المخصص،
(1/43)
 
 
أو لا؟ "ص526"، حيث ذكر أن أبا بكر عبد العزيز رأى في كتابه التنبيه أنه يجب العمل بالعموم عند وروده، حتى يأتي المخصص.
سادسًا: كتاب "الشافي" " ... " نقل المؤلف منه "ص749" رواية عن الإمام أحمد، تدل على أن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بواجب.
سابعًا: "مسائل الحرزي" أفاد المؤلف من هذا الكتاب في عزو مسألة نسخ الأخف بالأثقل ... إلى الظاهرية "ص785".
ثامنًا: "مسائل أبي سفيان الحنفي" رجع المؤلف إلى هذا المصدر في مسألة إذا ورد العموم هل يجب العمل به فور وروده قبل البحث عن دليل يخصصه أولًا؟ "ص528".
تاسعًا: "مسائل في أصول الفقه" "لأبي الحسن التميمي"، كان هذا الكتاب من مصادر المؤلف في مسألة: هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدًا بشريعة من قبله أو لا؟ "ص756".
عاشرًا: مسألة مفردة "لأبي الحسن التميمي" نقل المؤلف من هذه المسألة: أن الإمام أحمد يقول: إن أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تدل على الإيجاب، "ص737"، كما رجع المؤلف إلى هذه المسألة "ص474".
(1/44)
 
 
مصادر لغوية ونحوية:
لما كانت اللغة هي أحد المناهل التي ينهل منها الأصولي كان لزامًا على المؤلف أن يرجع إلى مصادرها ويفيد منها، وقد فعل المؤلف ذلك حيث رجع إلى مصادر لغوية، أهمها:
أولا: "الجامع في النحو" لابن قتيبة الدينوري، أفاد المؤلف من هذا الكتاب في موضعين:
(1/44)
 
 
1- عدم صحة استثناء الأكثر "ص667، 668".
2- عدم صحة الاستثناء من غير الجنس "ص676".
ثانيًا: "جوابات مسائل" لابن قتيبة الدينوري -مطبوع- وقد رجع المؤلف إليه في موضعين:
1- تعريف الفقه لغة "ص68".
2- عدم صحة استثناء الأكثر "ص667".
ثالثًا: كتاب "الاستثناء والشروط" لابن عرفة النحوي، أفاد المؤلف من هذا المصدر في مسألة: عدم صحة استثناء الأكثر "ص671، 672".
رابعًا: كتاب "غريب المصنف" لأبي عبيد القاسم بن سلام، كان من مراجع المؤلف في مسألة مفهوم المخالفة، هل هو حجة أو لا؟ "ص464".
(1/45)
 
 
مصادر متنوعة:
وهناك مصادر غير مختصة بعلم من العلوم. نورد أهمها فيما يلي:
أولا: "أخبار أحمد" لأبي حفص ابن شاهين، رجع إليه المؤلف في نقل رواية عن الإمام أحمد، يقول فيها: "إن العقل في الرأس: "ص89".
ثانيًا: "الرسالة" للإمام أحمد، نقل المؤلف من هذه الرسالة ما يدل على أن الإمام أحمد يقول: إن خبر الواحد لا يوجب العلم الضروري. "ص898".
ثالثًا: "شرح السنة" لأبي محمد البربهاري، رجع المؤلف إليه في موضعين:
(1/45)
 
 
تقويم الكتاب:
الحقيقة أنه يصعب على الباحث أن يُقَوِّم أعمال الآخرين، وبخاصة إذا كان صاحب العمل من الفحول في ذلك. وبعد تردد أَقْدَمْت على ذلك حرصًا على الإنصاف، وبيانًا لما توصلت إليه، وسوف أتكلم بإيجاز، بادئًا بالحديث عما للكتاب من محاسن ألخصها فيما يلي:
أولا: إن الكتاب -في نظري- يعد أول كتاب وصل إلينا، جمع شتات أصول الحنابلة ونظمها في أبواب ومسائل وفصول.
ثانيًا: والكتاب يعد أيضًا مصدرًا أصيلا في أصول الحنابلة، لما لِمُؤَلِّفه من الدراية الكافية بالمذهب الحنبلي، أصولا وفروعًا.
ثالثًا: ويمتاز الكتاب بأن مصادره أصيلة، وبخاصة ما ينقله المؤلف عن الإمام أحمد من الروايات، وما ينقله عن أصحابه من الآراء.
رابعًا: ولم يقتصر المؤلف على إيراد رواية واحدة عن الإمام أحمد، بل كان يسوق كثيرًا من الروايات، وبخاصة إذا كانت مختلفة.
خامسًا: ولم يترك تلك الروايات على ما هي، بل أخد يرجح بعضها على بعض، ويبين أن الأخذ بهذه الرواية -مثلا- هو الأليق بمذهب أحمد، وهكذا ... ولعمر الحق إنها لمهمة صعبة قام بها المؤلف خير قيام.
(1/48)
 
 
سادسًا: ومما يُسجَّل للمؤلف هنا دقة فهمه لما نقل عن الإمام أحمد، واستخراجه للحكم من تلك الروايات، ودرجة الأخذ، هل كان بطريق النص، أو بطريق الإيماء أو الإشارة أو الاحتمال؟ وهذه المهمة لا تقل عن سابقتها.
سابعًا: والكتاب أصول فقه مقارن، عُني مؤلفه بنقل المذاهب الأخرى في كل مسألة تعرض لها، مع إيراد أدلتهم، ومناقشتها والرد عليها إذا خالفت ما اختاره المؤلف.
ثامنًا: كانت شخصية المؤلف ظاهرة من أول الكتاب إلى آخره، فقد كان يناقش الأدلة، ويرجج بين الروايات المنقولة عن الإمام أحمد، ويخرج باختيار له في كل مسألة، وهذه ميزة لا تستكثر على عالم فذٍّ كالقاضي أبي يعلى.
تاسعًا: كان المؤلف موفقًا في الاستدلال على إثبات حكم أو نفيه بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وما روي عن الصحابة والتابعين من الآثار، حتى صار ذلك سمة بارزة في الكتاب، على أنه لم يَخْلُ من المماحكات العقلية، ولكنها كانت بقدر.
عاشرًا: كان المؤلف يربط المسائل بالمدلول اللُّغوي للنص الذي يستدل به، سواء كان النص المستدل به من الكتاب، أو السنة أو الآثار عن بعض الصحابة، أو أبيات شعرية، أو قطع نثرية، أو أقوال أئمة اللغة، وهذه مَيزَة أخرى تستحق الثناء.
حادي عشر: إذا كانت المسألة التي تعرض ذات شعب، حرر المؤلف محل النزاع وبيَّنَه، حتى يكون الكلام على جزئية معينة، لا لبس فيها، ولا غموض.
(1/49)
 
 
ثاني عشر: إذا كان الخلاف في المسألة لفظيًّا، لا ثمرة منه، بين ذلك.
ثالث عشر: إذا تماثلت في مسألتين، فإنه لا يكرر الأدلة في المسألة الثانية، بل يحيل إليها، فمثلا لما جاء على باب: النهي، أحال الكلام في مسألة الفورية، ومسألة التكرار في النهي إلى الكلام في مسألة الفورية والتكرار في الأمر.
رابع عشر: كان المؤلف موفقًا إلى حد كبير في ترتيب الأبواب.
خامس عشر: أحسن المؤلف صنعًا؛ إذ جعل بابًا في أول الكتاب، عرف فيه كثيرًا من المصطلحات التي يحتاج الأصولي إلى معرفتها.
(1/50)
 
 
المآخذ التي أخذتها على المؤلف:
هناك بعض الملاحظات على المؤلف، يمكن إجمالها في الآتي:
أولا: أفاد المؤلف من بعض الكتب، بل نقل منها بالنص، ولم يُشِرْ إليها، وكان الأولى أن يشير إليها، وأشهر هذه الكتب ثلاثة:
1- أفاد المؤلف من كتاب "الفصول في أصول الفقه" أو "أصول الجصاص" -مخطوط- تأليف أبي بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصاص، المتوفى سنة: 370هـ، في كتابه "العدة"، بل نقل عنه بالنص عند كلامه على البيان من "ص: 100- 130".
2- وأفاد المؤلف أيضًا من كتاب: تأويل مشكل القرآن -مطبوع- لابن قتيبة المتوفى سنة: 276هـ، وذلك عندما تكلم المؤلف عن نيابة بعض الحروف عن بعض "ص: 208"، بل نقل منه بالنص ولم يشر إليه.
3- كما أفاد من كتاب: المعتمد في أصول الفقه -مطبوع- لأبي الحسين البصري المعتزلي المتوفى سنة: 436هـ، وذلك في المنهج العام، وفي بعض الأدلة، وفي نقل آراء المعتزلة وأدلتهم.
ثانيًا: استدل المؤلف بالأحاديث الموضوعة كحديث: "تبارك الذي قسم العقل بين عباده واستأثر، إن الرجلين تستوي أعمالهما وبرهما وصلاتهما وصومهما، ويفترقان في العقل، حتى يكون بينهما كالذرة في جنب أحد ... " "ص: 95".
(1/51)
 
 
وكحديث: "إني خلقت العقل أصنافًا شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي من ذلك حبة واحدة، وبعضهم الحبتين" "ص: 96".
وكحديث: "خطابي للواحد خطاب للجماعة، وحكمي على الواحد حكم على الجماعة" "ص: 331".
وكحديث: "كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضًا" "ص: 793، 794".
ثالثًا: نقله عن بعض رواة اتهموا بالوضع والكذب، كأبي الحسن التميمي وأحمد بن محمد بن مخزوم، وقد أشرت إلى ذلك في موضعه "ص: 84، 94، 95، 96".
رابعًا: استدلاله بالمرسل الضعيف كحديث: "ذهب حقك" "ص: 141- 1035".
خامسًا: حصل من المؤلف تناقض في حكمه على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} حيث قال: إنها مبينة، وذلك عند كلامه عن البيان "ص: 106"، ولما جاء إلى الكلام عن المجمل "ص: 145" قال: إنها مجملة.
كما ذكر آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} "ص: 513، 518"، وصرح في هذين الموضعين أنها عامة، وهذا ينافي كونها مجملة، كما ذكر آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} "ص: 518" وصرح بأنها عامة، وهذا ينافي كونها مجملة أيضًا.
سادسًا: يتسم أسلوب المؤلف بالسهولة، وعدم التكلف، ولكن وجد مع هذا عبارات ركيكة، وتركيبات غير مترابطة، وقد أشرنا إلى ذلك في حينه.
أما لغة الكتاب: ففصيحة بشكل عام، يعتورها في بعض الأحيان
(1/52)
 
 
هنات لغوية، لا تتمشى وفصيح اللغة العربية، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة:
1- مجيء "أم" بعد "هل" في مثل قوله: أسماء الأشياء هل حصلت عن توقيف أم مواضعة؟ "ص: 190"، و"أم" لا تأتي بعد هل في مثل هذه الصورة على الراجح عند العلماء.
2- دخول "أل" على "بعض" كما في "ص: 141، 191" وذلك مجافٍ لفصيح اللغة العربية.
3- عدم ذكر الفاء في جواب "أما" كما في "ص: 165، 166"، وإن كان قد ورد بعض الشواهد العربية حذفت فيها الفاء في جواب "أما"، ولكن حكم على تلك الشواهد بالشذوذ.
4- عدم إظهار الحركة على الحرف الأخير، والالتجاء إلى التسكين لآخر الكلمة كما في "ص: 700" في قوله: "بأن هناك مضمر محذوف" وقد صَوَّبْنَاها هكذا: "بأن هناك مضمرًا محذوفًا" وكما في "ص: 938" في نقله للحديث: "كل الناس أكْفَاء إلا حائك أو حجام" وقد صوبناه هكذا: "كل الناس أكفاء إلا حائكًا أو حجامًا" ولعل ذلك من صنع الناسخ.
5- دخول "أل" على "غير" كما في "ص: 341"، وذلك لم يرد في لغة العرب، وإنما هو تعبير أحدثه الفلاسفة والمتكلمون.
سابعًا: من المعلوم أن الكتاب أصول فقه مقارن، عني مؤلفه بنقل الآراء الأصولية، إلا أن هناك آراءً عزاها المؤلف، ولم يكن ذلك العزو محررًا، والحقيقة أنها كثيرة، لذلك سأقتصر على الإشارة إلى بعضها بذكر الصفحة، فيما يلي: صفحة: "151، 257، 278، 282، 352، 538، 539، 570، 575، 638". وقد حررت العزو في كل مسألة بإعادتها إلى مصادر أصحابها الأصيلة، ولم أَرَ حاجة في إعادة الكلام هنا.
(1/53)
 
 
ثامنًا: يقدم في بعض الأحيان التعريف في الاصطلاح على التعريف في اللغة، كما في تعريف الواجب "ص: 159، 160" وتعريف الفرض "ص: 160، 161" وتعريف المندوب "ص: 162" وهذا خلاف المألوف.
تاسعًا: هذا فيما يتعلق بالمنهج العام، ولكن هناك تعقبات تتعلق بمادة الكتاب نفسه، نذكر أهمها فيما يلي:
1- استدلال المؤلف بكلام الإمام أحمد "ص: 147، 148" على أن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} مجمل وهو استدلال خطأ، لأمور ثلاثة ذكرتها في الموضع المشار إليه.
2 - من معاني "اللام" التمليك، وقد مثل لها المصنف "ص: 204" بقوله: "دار لزيد" وهذا المثال إنما هو للتملك، أما مثال التمليك فهو: "وهبت المال لزيد".
3- مثل المؤلف "ص: 256" في مسألة ورود الأمر بعد الحظر، بقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} وقد تعقبه الْمَجْدُ في: "المسودة" "ص: 17" بأن هذه الآية ليست مما نحن فيه، ولم يعلل، قلت: لأن الأمر بالانتشار لم يأت بعد حظره. والله أعلم.
4- ساق المؤلف "ص: 256" في مسألة ورود الأمر بعد الحظر، كلامًا للإمام أحمد؛ ليبين أن رأي الإمام في هذه المسألة هو الإباحة، وقد تعقبه المجد في "المسودة" "ص: 17" بأن كلام الإمام أحمد لا يدل على ذلك.
5- قال المؤلف "ص: 260": قيل لا نسلم أن وجوب قتل المشركين استفيد بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، بل استفدناه بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وغيرها من الآيات التي لم يتقدمها حظر".
وقد تعقبه المجد في "المسودة" "ص: 19" بقوله: وهذا ضعيف،
(1/54)
 
 
بل الأمر بعد الحظر يرفع الحظر، ويكون كما كان قبل الحظر، والأمر في هذه الآية كذلك.
6- حكى المؤلف "ص: 266" الإجماع على أن النهي يقتضي التكرار، وحكاية الإجماع هذه غير صحيحة، وقد بينت ذلك في الموضع المشار إليه.
7- عقد المؤلف فصلا "ص: 331" في الدلالة على أن الحكم إذا توجه إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره، وفي أثناء ذلك ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خص واحدًا بحكم بيَّن وجه التخصيص، ثم مثَّل لذلك بأمثلة منها: تخصيص الزبير بلبس الحرير، وقد لاحظت عليه في هذا أربع ملاحظات:
الأولى: أنه عبر بـ "تخصيص" وهو مشعر بأن ذلك الحكم خاص بالزبير -رضي الله عنه- لا يتعداه إلى غيره، وليس الأمر كذلك، بل هو ترخيص له ولكل من أصيب بمرضه.
الثانية: أن الترخيص الوارد في الحديث لاثنين هما: الزبير، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- وليس للزبير وحده، كما ذهب إليه المؤلف.
الثالثة: أن الواجب أن يذكر المؤلف علة الترخيص وهي الحكة، حتى يدخل في الحكم من توفرت فيه العلة.
الرابعة: أن الحديث لا يدل على ما ذهب إليه المؤلف؛ لأنه ترخيص، وليس بتخصيص.
8- أورد المؤلف "ص: 339- 341" كلامًا للإمام أحمد؛ ليبين أنه يرى دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر الذي يأمر به أمته، بينا كلام الإمام أحمد لا يدل على ذلك، كما أفاده أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "36/ ب".
(1/55)
 
 
9- ساق المؤلف "ص: 411" كلامًا عن الإمام أحمد؛ ليدلل على أن الإمام أحمد يرى أن المكلف إذا زاد على ما يتناوله الاسم كالركوع مثلا أن ذلك واجب، وهو استدلال خطأ، كما قيل في "المسودة": إنه مأخذ غير صحيح، وقال ابن عقيل: إنه مأخذ فاسد، وقال أبو الخطاب: "إنه غلط"، وقد فصلت القول في ذلك في الموضع المشار إليه.
10- في "ص: 482" خلط المؤلف في كلامه بين مسألتين، الأولى: هل مفهوم الموافقة حجة؟ والثانية: الذين يقولون بمفهوم الموافقة اختلفوا في الدلالة هل هي لفظية أو قياسية؟
11- استدل المؤلف "ص: 560" بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} على جواز تخصيص العموم بالقياس، وقد تُعُقِّب في ذلك بما بينته في موضعه.
12- نقل المؤلف "ص: 952" عن الإمام أحمد أنه لا يروي الحديث عن أصحاب الرأي، ثم بين المؤلف مراد الإمام أحمد بقوله: وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين، كالقدرية ونحوهم، وليس الأمر كذلك، كما بين في الموضع المشار إليه.
13- حكم المؤلف في "ص: 954" بأن التدليس مكروه، ولا يمنع من قبول الخبر، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، وقد بسطت الكلام على ذلك في موضعه.
14- لم يحرر المؤلف محل النزاع "ص: 959" في مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرًا، ثم نسي المروي عنه الخبر فأنكره ... وقد حررته في موضعه.
15- وهم المؤلف "ص: 1033" حيث ذكر اسم الصحابي: قيس بن طلق، والصواب:طلق بن علي؛ لأنه هو الصحابي الراوي لحديث عدم النقض من مس الذكر، كما سبق أن ذكره المؤلف "ص: 832" موافقًا لما قلناه، وقد جرى التنبيه على ذلك في موضعه. وبالله التوفيق.
(1/56)
 
 
منهج التحقيق:
تعددت مناهج التحقيق بتعدد أغراض المحققين، لذلك رأيت من الأفضل أن أبين المنهج الذي اتخذته؛ ليكون القارئ على بينة من ذلك، وهذا المنهج يتلخص فيما يلي:
أولا: إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه، ووصف المخطوطة، وبيان مكان وجودها.
ثانيًا: المحاولة -قدر الإمكان- أن يخرج نص الكتاب على أقرب صورة وضعه عليها المؤلف، وذلك بالمحافظة على شكل النص وموضوعه، إلا في الأمور الآتية:
1- رسم الكتاب، فقد رسمته بالرسم في العصر الحاضر، غير مشير إلى ذلك في الهامش.
2- إعجام ما أهمله المؤلف من الكلمات، ولا أشير إلى ذلك إلا إذا اختلف المعنى بذلك الإعجام.
3- إصلاح الخطأ، وذلك عند التيقن من أن ما في النص خطأ فأثبت ما اعتقدته صحيحًا، بين قوسين معقوفين هكذا: [] ، أما إذا كان الخطأ مشكوكًا فيه، فأشير إلى ذلك في الهامش من غير مساس بالنص.
(1/57)
 
 
4- زيادة بعض الحروف، أو الكلمات، أو الجمل، إذا اقتضى المقام تلك الزيادة، وأضعها بين قوسين معقوفين هكذا: [] مع الإشارة إلى مصدر تلك الزيادة إن وجد، سواء كان ما صوبه الناسخ في الهامش بنفسه أو نقله عن ابن حمدان، أو وجدته في مراجع أخرى.
ثالثًا: تمحيص الآراء وتحرير العزو للآراء التي يذكرها المؤلف، وذلك بإرجاعها إلى مصادرها الأصلية.
رابعًا: مناقشة المؤلف في أدلته ووجه الاستدلال منها، مع مناقشته في ردوده على أدلة المخالفين، متى استلزم الأمر ذلك.
خامسًا: بيان موضع الآيات من السور، مع الإشارة إلى تفسير الآية إن اقتضى المقام ذلك.
وإذا ورد لفظ الآية مخالفًا لما في المصحف العثماني، فلا يخلو الأمر إما أن يكون ذلك قراءة أو لا، فإن كان قراءة أثبتها في النص، وأشير في الهامش إلى أنها قراءة، مع بيان من قرأ بها، ومن قرأ بما في المصحف العثماني مع ملاحظة أن الوارد في الكتاب قراءات سبعية متواترة -وإما أن يكون غير قراءة، بل خطأ فأثبت الصواب مع الإشارة إلى ما ورد من الخطأ في الهامش.
سادسًا: تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب والكلام بالتفصيل على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبيان أقوال علماء الجرح والتعديل في رواة تلك الأحاديث، مع إبداء ملاحظاتي على ذلك.
سابعًا: تخريج الآثار الواردة في الكتاب.
ثامنًا: عزو الروايات التي ينقلها المؤلف عن الإمام أحمد إلى مصادرها إن وجدت
(1/58)
 
 
تاسعًا: عزو الأبيات الشعرية إلى قائلها، وإرجاعها إلى دواوين أصحابها إن وجدت أو إلى المراجع الأصيلة لشعر الشاعر.
عاشرًا: عزو الأمثال مع بيان القائل للمثل والمناسبة التي قيل فيها.
حادي عشر: شرح المفردات اللغوية الغريبة.
ثاني عشر: شرح المصطلحات الأصولية الغريبة.
ثالث عشر: ربط موضوعات الكتاب بعضها ببعض؛ حتى يتمكن القارئ من التصور الكامل للموضوع الذي يريد بحثه.
رابع عشر: يعتبر هذا الكتاب من أهم كتب الحنابلة في أصول الفقه، إن لم يكن أهمها؛ لذلك حرصت على ربطه بكتب الحنابلة في الأصول وبخاصة تِلْمِيذَي المؤلف: أبي الوفاء بن عَقيل البَغدادي1، وأبي الخطاب الكلوذاني2، فقد اعتمدا على شيخهما كثيرًا، وناقشاه في بعض اختياراته، وقصدي من ذلك إتاحة الفرصة للقارئ ليناقش ويقارن، حتى يستطيع تحديد المذهب الحنبلي في القضية التي يبحثها.
خامس عشر: التنبيه على التعبير الذي يرد غير متمش مع فصيح اللغة العربية، كما نبهت على الأخطاء النحْوية.
سادس عشر: التعريف بالأعلام، وذلك بإيراد ترجمة قصيرة تتضمن اسم العَلَم، وولادته، ومذهبه، وبعض كتبه، ووفاته.
سابع عشر: التعريف بالكتب الوارد ذكرها في الكتاب، مع بيان
__________
1 له كتاب "الواضح في أصول الفقه" يقع في ثلاثة مجلدات، وقد صورته على "ميكروفيلم" من المكتبة الظاهرية، ثم كبرته على ورق بعد ذلك.
2 له كتاب "التمهيد في أصول الفقه" يقع في مجلدين، وقد صورته على "ميكروفيلم" من المكتبة الظاهرية، ثم كبرته على ورق بعد ذلك.
(1/59)
 
 
المطبوع والمخطوط، ما أمكن ذلك.
ثامن عشر: التعريف بالمدن والبلدان والمواضع الغريبة الوارد ذكرها.
تاسع عشر: التعريف بالطوائف والفرق والمذاهب.
عشرون: وضع الفهارس الفنية العامة، وتشتمل على ما يلي:
1- فهرس الآيات القرآنية.
2- فهرس الأحاديث.
3- فهرس الآثار.
4- فهرس القوافي وأنصاف الأبيات.
5- فهرس الأمثال.
6- فهرس الأعلام.
7- فهرس الطوائف، والفرق، والمذاهب.
8- فهرس القبائل والجماعات.
9- فهرس الأماكن والبلدان.
10- فهرس الكتب.
11- فهرس الموضوعات.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
(1/60)
 
 
افتتاحية الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
[الحمد لله المتقرب إليه به، حمد الراضي من عباده بشكره، وإياه أسأله التوفيق بمنه، وأن يصلي على محمد خيرته من خلقه، وعلى أهله وأصحابه من بعده، وبه أستعين على ما قصدته من رحمته] 1.
............................2
[والفقه في اللغة: العلم، يقال: فلان يفقه الخير والشر، ويفقه كلام فلان أي: يفهمه ويعلمه] 3 [وسمي العالم عالمًا] [2/ أ] بما يتعاطاه من العلوم.
__________
1 هذا الاستفتاح أخذناه من كتاب: "الروايتين والوجهين" للمؤلف، ورقة "1/ ب".
2 هنا وقع طمس بسبب أن الورقة الأولى لحقها بعض التلف، فألصقت برأسها قطعة من الورق لتقويتها، والطمس يقدر بخمسة أسطر تقريبًا، وهي -في اعتقادي- عبارة عن الافتتاحية، وأول الكلام في تعريف الفقه لغة؛ يدل على ذلك استدلاله بقول ابن قتيبة بعد ذلك. و"أصول الفقه" كلمتان، لكل منهما معنى عند الافتراق، ولهما معنى عند الاجتماع، فالأصول جمع أصل، والأصل في اللغة: ما ينبني عليه غيره.
3 ما بين القوسين نقله الطوفي في كتابه "شرح مختصر الروضة" الورقة "22/ب" منقولا عن كتاب العدة للمؤلف.
(1/67)
 
 
وذكر ابن قتيبة1 في جوابات مسائل سئل عنها فقال: "الفقه في اللغة: الفهم، يقال: فلان لا يفقه قولي. وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 2 أي لا تفهمونه، ثم يقال للعلم، الفقه؛ لأنه عن الفهم يكون، والعالم فقيه؛ لأنه يعلم بفهمه"3، فهذا موضوعه في اللغة4.
وأما موضوعه عند الفقهاء والمتكلمين فهو: العلم بأحكام أفعال المكلفين
__________
1 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد من أئمة الحديث واللغة والأدب، قال فيه الخطيب: "كان رأسًا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس، ثقة دينًا فاضلًا"، عده شيخ الإسلام ابن تيمية من أهل السنة، ونسبه البيهقي إلى الكرامية. رماه الحاكم بالكذب مدعيًا الإجماع على ذلك، وقد رد الذهبي كلام الحاكم وعابه. ولد ببغداد وقيل: بالكوفة سنة: 213هـ. وتوفي على الأصح سنة: 276هـ.
انظر ترجمته في: بغية الوعاة "2/ 63"، والبداية والنهاية "11/ 48"، وتذكرة الحفاظ "2/ 631"، ودائرة المعارف الإسلامية "1/ 260"، وشذرات الذهب "2/ 169"، وطبقات المفسرين للداودي "1/ 245"، والفهرست لابن النديم "77"، ولسان الميزان "3/ 357"، والمنتظم "5/ 102"، وميزان الاعتدال "2/ 503"، والنجوم الزاهرة "3/ 75"، ووفيات الأعيان "2/ 246".
2 "44" سورة الإسراء.
3 هذا النص موجود في كتاب: "المسائل والأجوبة في الحديث واللغة" لابن قتيبة "ص: 12"، وبقية الكلام هو: "لأنه إنما يعلم بفهمه، على مذهب العرب في تسمية الشيء بما كان له سببًا".
4 كون الفقه لغة: الفهم أورده أبو الخطاب في كتابه "التمهيد"، الورقة "2/ أ" كما أورده ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الأول الورقة "2/ 1" وقد ذكر التعريف الذي قال به شيخه أبو يعلى بصيغة التمريض. وهناك آراء أخرى ساقها الطوفي في شرحه على مختصر الروضة الجزء الأول الورقة "21، 22/ أ" كما ساقها أبو البقاء الفتوحي في كتابه: "شرح الكوكب المنير: "ص: 11" فارجع إليهما إن شئت.
(1/68)
 
 
الشرعية دون العقلية1. نحو التحريم والتحليل والإيجاب والإباحة والندب وصحة العقد وفساده ووجوب غرم وضمان قيمة متلف وجناية.
وإطلاق اسم الفقه لا يجري على العلم بالنجوم والطب والفلسفة، وإنما يجري على العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية2.
__________
1 هذا التعريف ذكره أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "2/ أ" بنصه غير معزوٍّ لأحد. وذكر ابن عقيل في كتابه: "الواضح" الجزء الأول الورقة "2/ أ" تعريفين:
الأول: الفقه عبارة عن فهم الأحكام الشرعية بطريق النظر.
الثاني: وقال قوم: هو العلم بالأحكام الشرعية بطريق النظر والاستنباط. وقد ذكر الطوفي كثيرًا من التعريفات، وناقشها مناقشة علمية، وذلك في شرحه على مختصر الروضة، الجزء الأول، الورقات "23، 24، 25" "ولمزيد من الفائدة راجع كتاب: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي "1/ 8"، وشرح الكوكب المنير" ص: 11" و"المعتمد" لأبي الحسين البصري "1/ 8، 9"، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي "ص: 17".
2 إن أراد المؤلف أن ذلك الإطلاق قيِّد بالعرف فمسلّم. وإن أراد أن ذلك لغة، فغير مسلم، فقد قال القرافي في كتابه "شرح تنقيح الفصول" "ص: 16": "الفقه هو: الفهم، والعلم، والشعر، والطب لغة، وإنما اختصت بعض هذه الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف كذلك نقله المازري في شرح البرهان".
كما قد قال ابن فارس في كتابه "معجم مقاييس اللغة" "4/ 442" ما نصه: "الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح، يدل على إدراك الشيء والعلم به، تقول: فقهت الحديث أفقهه، وكل علم بشيء فهو فقه، يقولون: لا يفقه ولا ينقه، ثم اختص بذلك علم الشريعة، فقيل لكل عالم بالحلال والحرام: فقيه".
(1/69)
 
 
وأما أصول الفقه فهو: عبارة عما تبنى عليه مسائل الفقه، وتعلم أحكامها به؛ لأن أصل الشيء ما تعلق به وعرف منه، إما باستخراج أو تنبيه1. فسميت هذه الأصول بهذا الاسم؛ لأن بها يتوصل إلى العلم بغيرها، فتكون أصلا له، فلا يجوز أن يقال: إن [الكلام في] أصول الفقه هو: الكلام في أدلة الفقه؛ لأن من ذكر الدلالة على إثبات صيغة العموم لا يقال: إنه ذكر دليلًا في الفقه، وإنما أدلة الفقه: عبارة عن استعمال ألفاظ العموم وطرق الاجتهاد. والكلام في أصول الفقه ما يدل على إثبات مقتضى هذه الأشياء وموجبها وصحتها وفسادها، ولا يجوز أن تعلم هذه الأصول قبل النظر في الفروع؛ لأن من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها، لا يمكنه الوقوف على ما يبتغي بهذه الأصول من الاستدلال والتصرف في وجوه القياس والمواضع التي يقصد بالكلام إليها، ولهذا يوجد أكثر من ينفرد بعلم الكلام دون الفروع مقصرًا في هذا الباب، وإن كان يعرف طرق هذه الأصول وأدلتها2.
__________
1 نقل الطوفي كلام القاضي هذا وتعقبه بقوله: "قلت: ما ذكره في أصول الفقه صحيح. أما قوله: أصل الشيء ما تعلق به، فليس بجيد، إذ قد يتعلق الشيء بما ليس أصلا له، كتعلق الحبل بالوتد في المحسوسات، وتعلق السبب بالمسبب والعلة بالمعلول في المعقولات". انظر شرح مختصر الروضة، الجزء الأول، الورقة "21/ أ".
وعرَّف أبو الحسين البصري "الأصل" بقوله: "فأما قولنا: أصول، فإنه يفيد في اللغة، ما يبتنى عليه غيره ويتفرع عليه" "المعتمد" "1/ 9".
وعرَّفه الآمدي بقوله: "فأما أصول الفقه، فاعلم أن أصل كل شيء هو ما يستند تحقق ذلك الشيء إليه" "الإحكام" "1/ 8".
أما "الأصل" في اصطلاح الأصوليين فله أربعة معانٍ: الدليل، والرجحان، والقاعدة المستمرة، والمقيس عليه. انظر "شرح تنقيح الفصول" "ص: 15"، و"شرح الكوكب المنير" "ص: 10" و"كشاف اصطلاح الفنون" "1/ 85".
2 هذا رأي المؤلف، إلا أن بعض العلماء، كابن عقيل -مثلا- يرى أن معرفة الأصول أولى بالتقديم من معرفة الفروع؛ لأن الفروع تنبني عليها. راجع "الْمُسَوَّدَة" لآل تيمية "ص: 571" و"شرح الكوكب المنير"ص: 14".
(1/70)
 
 
وإذا كان القصد من [2/ ب] 1 وما هو متعلق بها [الذي] 2 يقول: إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ثلاثة أضرب: أصل، ومفهوم أصل واستصحاب حال.
وقد قيل: إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ضربين أحدهما: ما طريقه الأقوال والآخر الاستخراج.
فأما الأقوال: فهي مثل النص والعموم والظاهر ومفهوم الخطاب وفحواه والإجماع.
وأما الاستخراج فهو القياس.
والأول أصح؛ لأنه أعم، وذلك أنه يدخل فيه دليل الخطاب واستصحاب الحال، وتلك أصول عندنا.
ولم أذكر قول الواحد من الصحابة إذا لمن يخالفه غيره؛ لأن الرواية عن الإمام أحمد3 -رحمه الله- مختلفة، ونحن نذكره مفردًا إن شاء الله تعالى.
__________
1 هنا طمس يقارب نصف سطر لم أستطع قراءته.
2 هذه الكلمة لم أستطع قراءتها في الأصل إلا بعد العثور عليها ضمن النص الذي نقله الطوفي في شرحه لمختصر الروضة الجزء الأول الورقة "16/ أ" حيث قال: "ومنهم من مشايخ أصحابنا القاضي أبو يعلى -رحمه الله- قال في "العدة": الذي يقول: إن أصول الفقه وأدلة الشرع ... " إلى قوله: "واستصحاب حال".
3 هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، ألفت الكتب الكثيرة في حياته وجهاده وعلمه وخلقه قديمًا وحديثًا، فمن القدماء ابن الجوزي، ومن المحدثين أبو زهرة وعبد الحليم الجندي وعبد العزيز سيد الأهل والمتمشرق باتون وغيرهم. توفي ببغداد سنة: 241هـ، وله من العمر سبع وسبعون سنة.
(1/71)
 
 
فأما الأصل فثلاثة أضرب: الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب فضربان: مجمل ومفصل، ويأتي شرحهما في باب الحدود1.
وأما السنة فعلى ضربين:
ضرب يؤخذ من النبي -صلى الله عليه وسلم- مشاهدة وسماعًا. فهذا يجب على كل أحد قبوله واعتقاده على ما جاء به من وجوب وندب وإباحة وحظر، ومن لم يقبله كفر؛ لأنه كذبه في خبره.
وضرب يؤخذ خبرًا عنه، والكلام فيه في موضعين:
أحدهما في إسناده، والآخر في متنه، فأما الإسناد فضربان:
أحدهما متواتر والآخر آحاد.
والمتن على ضربين: قول وفعل وإقرار على قول وفعل، ويأتي شرح ذلك في باب الأخبار2.
وأما الإجماع: فيأتي الكلام في تفصيله في باب الإجماع3.
وأما مفهوم الأصل فذلك على ثلاثة أضرب: مفهوم الخطاب ودليله ومعناه، ويأتي شرح ذلك في باب الحدود4.
وأما استصحاب الحال فذلك على ضربين:
أحدهما: استصحاب براءة الذمة من الواجب حتى يدل دليل شرعي
__________
1 "ص: 100".
2 "ص: 839".
3 "الورقة: 158" وما بعدها.
4 "ص: 152".
(1/72)
 
 
عليه، وهذا صحيح بإجماع أهل العلم، وذلك مثل أن يسأل حنبلي عن الوتر فيقول: ليس بواجب1؛ لأن الأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل الشرعي على وجوبه.
والثاني: استصحاب حكم الإجماع، فهو أن تجمع الأمة على حكم ثم تتغير صفة المجمع عليه، ويختلف المجمعون فيه، هل يجب استصحاب حال الإجماع بعد الاختلاف حتى ينقل عنه الدليل أم لا؟ على خلاف بينهم، يأتي الكلام فيه2 إن شاء الله تعالى3.
__________
1 الوتر غير واجب عند الحنابلة. راجع "المغني" لابن قدامة "2/ 132" و"منتهى الإرادات" لابن النجار الحنبلي "1/ 98" و"التنقيح المشبع" للمرداوي "ص: 54"، كما أنه غير واجب عند الشافعية، انظر "حاشية قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلى" "1/ 212"، وكذلك الشأن عند المالكية، راجع "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" "1/ 313" وما بعدها، و"الشرح الصغير" لأبي البركات الدردير "1/ 411".
أما الحنفية فالوتر عندهم واجب، راجع في ذلك "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي "1/ 168- 170"و"شرح فتح القدير" لابن الهمام "1/ 423- 434".
2 الورقة: 190.
3 فات المؤلف أن يذكر تعريف الأصولي، وتعريف الفقيه، وحكم تعلم أصول الفقه، وتكميلا للفائدة نذكر ذلك فيما يلي:
فالأصولي -كما يقول أبو البقاء الفتوحي- في كتابه "شرح الكوكب المنير" "ص: 14": "هو من عرف القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية. أما الفقيه فهو: من عرف جملة غالبة من الأحكام الشرعية الفرعية بالفعل أو بالقوة" هكذا عرفه الفتوحي في كتابه السابق ذكره.
أما حكم تعلمها، فعلى قولين:
الأول: أنه فرض كفاية.
والثاني: أنه فرض عين على من أراد الاجتهاد. ارجع إلى "المسودة" "ص: 571" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 14".
(1/73)
 
 
باب ذكر حدود
مدخل
...
باب ذكر حدود 1:
تحديد2 أصول الفقه من ألفاظها.
__________
1 راجع في هذا الباب "الواضح في أصول الفقه" الجزء الأول الورقة "10/ ب" و"التمهيد" الورقة "6/ أ" و"شرح مختصر الروضة" الجزء الأول الورقة "32/ ب" و"روضة الناظر" "ص: 5"، و"المسودة" "ص: 570" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 25".
2 هذه الكلمة غير واضحة في الأصل، إلا أنها دائرة بين كلمة "تحد"، وكلمة "تحديد" ولعل الصواب ما أثبتناه.
(1/74)
 
 
فصل: [في تعريف الحد] :
معنى الحد هو: الجامع لجنس ما فرقه التفصيل، المانع من دخول ما ليس من جملته فيه1. ولذلك سمي البواب حدادًا؛ لأنه يمنع من ليس من أهل الدار من الدخول إليها.
__________
1 الأصوليون في تعريف "الحد" على فريقين:
الفريق الأول: لم يعرفه؛ لأنه يستلزم الدور.
الفريق الثاني: عرفه؛ وهؤلاء اختلفوا على أقوال كثيرة، لا داعي لذكرها، ومن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى المراجع التي ذكرناها قريبًا.
(1/74)
 
 
وسموا الحديد بهذا الاسم؛ لأنه يمنع من وصول السلاح إلى المتحصن به.
وسميت حدود الدار والأرض؛ لأنها تمنع أن يدخل في البيع ما ليس [3/ أ] من البيع، وكذا يخرج منه ما ليس هو من المبيع، وسميت العقوبة حدًّا؛ لما فيها من المنع من مواقعة الفواحش.
ومنه إحداد المرأة في عدتها؛ [لأنها تمتنع به] 1 من الطِّيب والزنية.
والزيادة في الحد نقصان في المحدود؛ لأن الحد [متى جمع ذواتًا كانت] 2 متفرقة حال التفصيل، فمتى ضم إليه [قدر] 3 زائد على المذكور خرج بعض الذوات من جملة الكلام، فيكون الحد للبعض4، بعد أن كان للجميع.
وقال أبو بكر الباقلاني5: الزيادة فيه على ضربين:
__________
1 غير واضحة في الأصل، والقراءة اجتهادية.
2 هذه الكلمات غير واضحة في الأصل بسبب الرطوبة، وما أثبتناه هو الأقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى؛ لأن السياق يدل على ذلك؛ ولأن بعض الحروف الظاهرة تدل على ذلك أيضًا.
3 القراءة لهذه الكلمة على وجه التقريب؛ لعدم وضوحها في الأصل.
4 لا يجوز لغة دخول: "أل" على بعض؛ حيث لم يرد ذلك في لغة العرب، خلافًا لابن درستويه. انظر: القاموس "2/ 324" مادة: "بعض".
5 هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم المعروف بالباقلاني أو ابن الباقلاني، أصولي متكلم، مالكي المذهب، بصري الولادة، بغدادي السكنى والوفاة. توفي لسبع بقين من شهر ذي القعدة سنة: 403هـ.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" "5/ 379" و"ترتيب المدارك" "4/ 585" و"الديباج المذهب" "ص: 267" و"شذرات الذهب" "3/ 168" و"وفيات الأعيان" "3/ 400".
(1/75)
 
 
منها ما هو نقصان منه، ومنها ما هو ليس بنقصان.
فأما التي هي نقصان نحو قولك: حد الواجب أنه في فعله ثواب، وفي تركه عقاب، فهذا يوجب خروج كل ما ليس بصيام عن كونه واجبًا، فعادت بالنقصان.
وأما ليس بنقصان نحو قولك: حد الواجب: أنه فرض في فعله ثواب، وفي تركه عقاب، فكل فرض واجب.
وأما النقصان من الحد فإنه أبدًا زيادة فيه، نحو قولك: حد الواجب ما كان في فعله ثواب، ولا يقرن به في تركه عقاب، فيدخل النفل في جملة الواجب؛ لأنه مما عليه ثواب.
(1/76)
 
 
فصل: [في تعريف العلم] :
وحدُّ العلم: معرفة المعلوم على ما هو به1.
__________
1 هذا التعريف ذكره إمام الحرمين في كتابه: "البرهان" الجزء الأول الورقة "10/ ب"، ونسبه للقاضي أبي بكر الباقلاني، كما نسبه الغزالي إلى الباقلاني في كتابه: "المنخول" "ص: 38".
وقد ساق ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الأول الورقة "2/ ب، 3/ ب" كثيرًا من الحدود وناقشها، واختار التعريف القائل: "العلم هو وجدان النفس الناطقة للأمور بحقائقها".
ولمزيد من الاطلاع راجع "التمهيد" لأبي الخطاب، الورقة "6/ ب، 7/ ب" فإنه اختار تعريفًا قريبًا من تعريف شيخه أبي يعلى، وانتصر له.
وراجع أيضا: "شرح مختصر الروضة" الجزء الأول، الورقة "32/ ب، 33/ ب" و"المسودة" "ص: 575" و"شرح الكوكب المنير" "ص: 17- 19".
(1/76)
 
 
وقيل: تبين المعلوم على ما هو به1.
وقيل: إثبات المعلوم على ما هو به.
وقيل: إدراك المعلوم على ما هو به2؛ لأن جميعه محيط بجميع جملة المحدود، فلا يدخل ما ليس منه، ولا يخرج ما هو منه.
والحد الأول أصح3؛ لأن من حده: "بالتبين"4، يبطل بعلم الله تعالى؛ لأنه لا يوصف بأنه مبين؛ لأن ذلك يستعمل في العلم الذي يحصل عقيب الشك ولا يجوز ذلك عليه، ومع هذا فهو عالم.
ومن يحده "بالإثبات" لا يصح؛ لأن الإثبات هو الإيجاد5، ولهذا يقال: أثبت السهم في القرطاس.
ومن حده "بالإدراك"، لا يصح؛ لأنه يستعمل في أشياء مختلفة على طريق الحقيقة بالإدراكات الخمسة: الرؤية والسمع والشم والذوق والبلوغ، فثبت أنه يستعمل في غير العلم.
ولو قيل: "معرفة المعلوم"، ولم يقل "على ما هو به" كفى، ويكون ذلك تأكيدًا؛ لأن العلم لا يصح أن يتعلق بالمعلوم ويكون معرفة إلا على ما هو به، ولو تعلق به على ما ليس به لكان جهلا، وخرج عن كونه
__________
1 هذا التعريف نسبه أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "6/ ب" إلى بعض الأشعرية.
2 هذا التعريف نسبه أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة "6/ ب" إلى بعض الأشعرية.
3 هكذا اختار القاضي هذا التعريف هنا، مع أنه اختار تعريفًا آخر، هو بمعنى حد المعتزلة، ذكر ذلك عبد الحليم بن عبد السلام في "المسودة" "ص: 575".
4 في الأصل: "التبيين"، والصواب ما أثبتناه,
5 يعني: أن "الإثبات" لفظ مشترك فهو مجمل في التعريف؛ ولذلك فالتعريف باطل. انظر "التمهيد" الورقة "7/ أ".
(1/77)
 
 
علمًا، فلهذا صح أن نقتصر على قوله: "معرفة المعلوم".
وإنما عدلنا عن القول بأنه: معرفة الشيء، إلى القول بأنه معرفة المعلوم؛ لأن: القول معلوم، أعم من: القول شيء؛ لأن الشيء لا يكون إلا موجودًا، والمعلوم يكون معدومًا وموجودًا، وقد ثبت أن المعدوم ليس بشيء
فإذا قيل: حده أنه: معرفة الشيء، خرج العلم بالمعدوم الذي ليس بشيء عن أن يكون علمًا وانتقض الحد؛ لأنه علم بما ليس بشيء، فوجبت الرغبة لما ذكرنا عن ذكر "الشيء" إلى ذكر "المعلوم".
والدلالة على أن حده ما ذكرنا أن كل من عرف العلم فقد علم أنه معرفة، وأنه هو الذي لأجله كان العالم عالِمًا، وكل من عرف المعرفة التي صار العالم عالِمًا بها