الضروري في أصول الفقه مختصر المستصفى

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى
المؤلف: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (المتوفى: 595هـ)
عدد الأجزاء:1  
 
القول في الجزء الأول من هذا الكتاب
صفحة فارغة في الأصل
10-وهذا الجزء الأول ينقسم إلى أربعة أقسام: وهي النظر في حد الحكم ,وفي أقسامه ,وفي أركانه, وفي مظهره.
القسم الأول
11 - أما حد الحكم عند أهل السنة (1) فهو عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين بطلب أو ترك فإذا لم يرد هذا الخطاب لم تتعلق بالأفعال صفة تحسين أو تقبيح، فيكون الحسن والقبح على هذا ليس وصفا ذاتيا للأفعال. وذهبت المعتزلة إلى أن الحسن والقبيح وصف ذاتي للأفعال، فبعض ذلك مدرك بضرورة العقل كالكذب وشكر المنعم، وبعضه بانضمام الشرع كالطهارة والصلاة لما فيهما مثلا من اللفظ المانع من الفحشاء ومن النظافة. وفائدة معرفة هذا الاختلاف في هذه الصناعة تتصور عند النظر في القياس المناسب والمخيل وجميع أنواعه، وعند النظر في تصويب المجتهدين وتخطئتهم. أما أهل السنة فحجتهم أن الحسن والقبيح يطلق في عرف المتكلمين على معان.
أولها وأشهرها ما يوافق غرض المستحسن أو يخالفه. حتى يستحسن سمرة اللون مثلا واحد ويستقبحها آخر. وهذا أمر إضافى لا كالسواد والبياض الموجودين للأشياء بذاتها.
والثاني ما حسنه الشرع أو قبحه.
والثالث من معاني الحسن ما كان للإنسان مباحا فعله. وكل هذه أوصاف إضافية لا ذاتية. ومعنى ذلك أن ليس للحسن والقبح وجود
_________
(1) يقول الغزالي في هذا الموضع من المستصفى: ((عندنا)) بدل ((عند أهل السنة)) كما وردت في مختصر ابن رشد هذا.
(1/41)
 
 
خارج العين.
12ـ وأما المعتزلة فاستدلوا على أن الحسن والقبح وصف ذاتي للأشياء باتفاق العقل على القول بهما من غير إضافة كحسن الصدق وقبح الكذب، وبالجملة من حيث هذه القضايا مشهورة ومتفق عليها. وظاهر أن الأمور المعقولة قد يلحقها أن تكون مشهورة، وأن ذلك غير منعكس.
13ـ والقول في هذه المسألة ليس من هذا العلم الذي نحن بسبيله. ويشبه ألا يكون في واحد من هذين القولين كفاية في الوقوف على هذه المسألة. وقد احتجت المعتزلة على أن مدرك الوجوب في بعض الأمور بالعقل كشكر المنعم وغير ذلك، فإن حصرها في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل عند دعائهم إلى النظر، لأنا ما لم نعلم وجوب النظر لم ننظر، وما لم ننظر لم نتحقق دعوى الشارع فيما دعا إليه، وما لم نتحقق دعواه فلا سبيل إلى الإيمان بما دعا إليه سواء كان المدعو إليه، في نفسه حقا أو لم يكن لا سبيل لنا على هذا الوجه إلى حصول العلم به.
14ـ وقد ألزم المتكلمون المعتزلة في كون مدرك وجوب النظر عقلا شكا ما، وهو أن وجوب النظر إن كان مدركا عقلا فلا يخلو أن يكون ذلك ضرورة أو اكتسابا، فإن كان (1) ضرورة لم يغفل أحد عن علم الله، وإن كان مكتسبا بنظر انعكس عليهم القول في مدرك وجوب النظر في دعوى الشرع، وذلك إلى غير نهاية.
15ـ والذي ينبغي عندي أن يقال في هذا الموضع فهو أن التصديق
_________
(1) في الأصل:. فإن كل.
(1/42)
 
 
بدعوى الشارع عند ظهور المعجزة وفق دعواه هو من جنس المعارف الضرورية، وأن التصديق يقع بمشاهدة ذلك اضطرارا أو بوجودها تواترا، وإنما يتصور وجوب النظر أو لا وجوبه في معرفته بنظر واستدلال. وتكلف ما سوى هذا من القول في هذا الموضع تشويش للعقائد أو عناء. ولو أن واحدا واحدا من المدعوين للشرع تكلف مثل هذه الشكوك عند النظر فيما دعا إليه الشرع لكان إيمان كثير من الناس مما لا يقع، ولو وقع لكان في النادر. وبالجملة فكأن يكون دعاء الله الناس إلى الإيمان بالشرع بمثل هذه الطرق في حق الأكثر من باب تكليف ما لا يطاق. وليس يلزم من كون المعرفة بذلك ضرورية ألا ينفك عن الإقرار بها أحد، فإنه كما أنه ليس من شرط المتفق عليه أن (1) يكون ضروريا كذلك ليس من شرط الضروري أن يكون متفقا عليه. وهذا كله ليس من هذا العلم (2) .
16ـ أما من ذهب من المعتزلة إلى أن الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة فإنما أرادوا بذلك ما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح. ومن قال منهم أنها على الوقف فأراهم رأوا ذلك فيما لا يدرك من الأفعال الحسن والقبح فيه إلا بانضمام الشرع إلى العقل، كما تقدم من آرائهم.
وأما من قال من الناس إنها قبل ورود الشرع على الحظر فقول لا معنى له، وهو بين السقوط بنفسه (3) .
_________
(1) في الأصل: لأن.
(2) وقريب من هذا ذهب إليه في الفصل والكشف والتهافت وفي غيره من شروحه الفلسفة الأخرى.
(3) ينسب المستصفى هذا الرأي الأخير إلى المعتزلة أيضا لا إلى الناس هكذا بغموض وإطلاق كما فعل ابن رشد.
(1/43)
 
 
القول في القسم الثاني من الجزء الأول
17ـ وهو يتضمن النظر في أقسام الأحكام وحدودها ومسائل تلحقها فنقول:
إن الحكم، وهوالذي تقدم رسمه، ينقسم إلى طلب وترك أو تخيير فيهما وهو المسمى مباحا. والطلب ينقسم إلى واجب وندب، والترك ينقسم إلى محظور ومكروه.
وحد الواجب أنه ما ورد خطاب الشرع بترجيح فعله مع توعد بالعقاب على تركه من حيث هو ترك له بإطلاق، وإنما زدنا في الحد قولنا: مع توعد بالعقاب على تركه، لأن الواجب على مذهب أهل السنة لا يتصور دون الضرر أو النفع، وزيادتنا فيه أيضا: من حيث هو ترك له بإطلاق، تحفظا من الواجب المخير.
والتوعد بالعقاب ربما ورد قطعا وربما ورد ظنا. وأصحاب أبي حنيفة يخصون الأول باسم الفرض والثاني باسم الواجب، ولا مشاحة في الأسماء إذا فهمت المعاني. وحد الندب أنه المرجح فعله من غير توعد بالعقاب على تركه. ومن حد الواجب نقف على حد المحظور لأنه مقابله، وكذلك من حد الندب نقف على حد المكروه. وحد المباح ما دل الشرع على التسوية بين فعله وتركه، وذلك إما أن يرد الخطاب بالتخيير فيهما، أو برفع الحرج عنهما أو يدل دليل العقل أنه على البراءة الأصلية بعدم الدليل الشرعي على تعلق حكم به، على ما سيأتي بعد.
فصل:
18- والواجب ينقسم إلى معين وإلى مخير بين أقسام محدودة، وذلك إما في الفعل وإما في الزمان. ويسمون الغير معين الفعل بين أقسام
(1/44)
 
 
محدودة الواجب المخير، والغير معين الزمان الواجب الموسع (1)
19- وقد أنكرت المعتزلة جواز مثل هذا الواجب عقلا ووقوعه شرعا، وقالوا إن كانت الخصال الثلاث في الكفارة مستوية في الصفة بالإضافة إلى صلاح العبد، فينبغي أن يوجب الجميع لتساويها في صلاح العبد، وهذا مبني على رأيهم في الصلاح والأصلح. وأيضا فلو سلمت لهم هذه القاعدة للزمهم نقيض ما وضعوا، وهو أنه إذا كان كل واحد منهما مساويا لصاحبه في وقوع الصلاح به فاستعمال جميعها عبث، وكذلك استعمال واحدة منها على التعيين، وهم لا يجوزون مثل هذا على الله، وكأنهم لم يتحفظوا بأصولهم في هذه المسألة، واحتجوا أيضا بأن علم الله متعلق بالذي يأتي العبد منها فهو متعين ضرورة في نفسه، ولا يتصور في هذا تخيير.
20- والكلام في هذه المسألة ليس من هذا العلم الذي نحن بسبيله، بل يكفي من ذلك ههنا أن نقول: إن وقوع مثل هذا شرعا موجود كخصال الكفارة، وانعقاد الإجماع على اتباع
أوقات أكثر الصلوات. والذي أنكرت المعتزلة يلزمهم مثل ذلك في المباح، وبالجملة يلحق هذا الاعتراض الممكن بما هو ممكن.
21-وقد دفع بعض الفقهاء تسمية مثل هذا واجبا، وقالوا إنما يتصف بالوجوب في الزمان آخر الوقت، إذ فيه يقع العقاب على ترك إيقاع الصلاة فيه. ومثل هذا الاعتراض يلحق الواجب المخير، إلا أن
_________
(1) إدخال أداة التعريف على ((غير)) خطأ نقف عليه في جميع مخطوطات مؤلفات ابن رشد على اختلاف تاريخ نسخها ونساخها مما يدل على أنها وردت كذلك في الأصول القديمة. ولعلها أن تكون من بين العلامات التي تفيد في نسبة هذا المختصر إلى فيلسوف قرطبة ومراكش.
(1/45)
 
 
تعدم الخصلتان فحينئذ يتصور وجوب الثالثة. والذي ينبغي أن يقال في مثل هذا أنه يشبه الوجوب من جهة، والندب من أخرى. أما شبهه للوجوب فلأنه يرتفع الفرض بالصلاة في أول الوقت، وأما شبهه بالندب فما ذكر في الاعتراض.
22-وهذه المنازعة لفظية، ولذلك سمي الواجب الموسع، وهو أيضا يفارق الندب من جهة أن تركه إنما يكون بشرط العزم على إتيانه مع الذكر، إذ كان اعتقاد الترك مطلقا حراما.
فصل:
23-وكذلك اختلفوا فيما لا يتم الواجب إلا به هل يسمى واجبا. ووجه القول فيه أن هذا ينقسم إلى ما ليس للعبد في فعله اختيار كالقدرة على المشي مثلا، فهذا لا يوصف بالوجوب بل هو من شرط تكليف الوجوب، أو إلى ما للعبد في فعله اختيار، وهذا فينبغي أن يتصف بالوجوب كالطهارة المشترطة في الصلاة. وكأن وجوب مثل هذا إنما هو من أجل غيره لا من أجل ذاته، فتنشأ ههنا قسمة أخرى للواجب وهو أن منه ما هو واجب من أجل غيره ومنه ما هو واجب بذاته. والواجب أيضا ينقسم إلى ما يتقدر بقدر محدود وإلى ما لا يتقدر بقدر محدود، كمسح الرأس والطمأنينة في الركوع، والواجب من هذا هو أقل ما ينطلق عليه الإسم ويبقى الباقي ندبا ,وهذا إنما يتصور فيما وقع من الأفعال متتابعا أو متشافعا ,وبالجملة ما لم تقع أجزاؤه معا.
24-فهذا هو القول في تحديد أنواع الأحكام وتقسيمها ,وقد بقي القول في مسائل كلية تلحقها.
(1/46)
 
 
فأول مسألة منها أنا نقول ,إذا مات المكلف في أثناء الوقت ولم يقض لم يمت عاصيا بإجماع السلف على ذلك. وقول من أثمه خطأ, فإنا نعلم قطعا أنهم كانوا لا يؤثمون من مات وقد مضى من الوقت مقدار ما تقع فيه الصلاة. فإن قيل فكيف يجوز الترك مع العزم وهو لا يعرف سلامة العافية، قلنا لا يجوز الترك مع العزم إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها، كما يجوز للمعزر أن يضرب إلى حد لا يغلب على ظنه الهلاك. ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز تأخير الحج إلى سنة لأن البقاء إليها لا يغلب على الظن. وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر أو شهرين فجائز. والشافعي رحمه الله يرى البقاء إلى سنة غالبا على ظن الشباب.
مسألة ثانية:
26-الأحكام تنقسم إلى واجب كما تقدم ,ومقابله في الطرف الأقصى المحظور ,وهو الحرام, وبينهما متوسطان ,وهما (1) الندب والمكروه. وبين أن المتقابلات التي بينها متوسط ليس يلزم (2) عن رفع أحدهما وجود الآخر، فلذلك أخطأ من زعم أن الوجوب إذا نسخ رجع إلى ما كان قبل من حظر. وإنما يكون ذلك لو لم يكن بين الواجب والحرام واسطة. وأبين من هذا أن يرجع إلى ما كان قبل من إباحة، إذ ليس يتضمنها جنس هذه المتقابلات الذي هو الطلب.
27-وهنا يتبين (3) سقوط قول من قال المباح مأمور به. وكذلك
_________
(1) في الأصل: وهو.
(2) في الأصل: يلز.
(3) في الأصل: نبين.
(1/47)
 
 
يتبين أنه ليس من التكليف، إذ التكليف طلب ما فيه كلفة. ومن سماه تكليفا وذهب في ذلك إلى أنه الذي كلفنا اعتقاد إباحته في الشرع، أو أنه الذي اعتقاد كونه من الشرع، فهو مستكره في التسمية. وبالجملة فهذا النظر لغوي وهو أليق بغير هذا الموضع، ومما تقدم أيضا من هذا القول يتبين أن المندوب مأمور به إذ هو طلب ما واقتضاء. فأما من زعم أن الأمر إنما يطلق على ما في تركه عقاب، فهي دعوى لغوية, وعلى مدعيها إثبات ذلك عرفا شرعيا أو وضعا لغويا.
76 /1 مسألة ثالثة: الحرام ضد الواجب
28 - وإذا كان حد المتضادين أنهما اللذان لا يجتمعان في شيء واحد بالعدل في وقت واحد من جهة واحدة، فلا يجوز في الشرع تعلق الحظر والإيجاب بشيء واحد من جهة واحدة في وقت واحد. فأما تعلقهما بشيئين أو في وقتين فذلك ما لا خلاف فيه، ولا يرجع النهي عن أحدهما على الثاني بالفساد، سواء كان ذلك في شيئين أو في زمانين. وكذلك يلزم إذا تعلق النهي والإيجاب بشيء واحد من جهتين مثل أن يرد الأمر بشيء مطلقا، ثم يرد النهي عن ذلك الشيء بعينه مقيدا بصفة أو لعلة مصرح بها. إلا أنهم اختلفوا في مثل هذا الجنس هل يعود النهي بالفساد على الأصل الموجب من جهة ما قيد؟ فزعم أبو حامد رحمه الله أن هذا ينقسم عندهم إلى ما يرجع إلى غير المنهي لسبب من خارج، وإلى ما يرجع إلى صفة في الشيء. فما يرجع إلى غير المنهي فلا يرجع على الأصل بالفساد، وأما الذي يرجع إلى صفة في المنهي عنه فذهب الشافعي إلى أنه يعود على الأصل بالفساد، وحيث أوقع الطلاق في الحيض صرف إلى الأضرار ألحقه بالقسم الأول. وأبو حنيفة لا يرى في الموضعين النهي يعود بفساد الأصل، سواء ورد المنهي عنه مقيدا
(1/48)
 
 
بصفة أو سبب من خارج، وزعم أن كون الحدث مبطلا للصلاة إنما ثبت بدليل الإجماع.
29- وأنا أرى أن النظر في هذه المسألة إنما هو من جهة صيغة لفظ النهي، فإن من يدل عنده لفظة إيجابه مطلقا قرينة تخرج النهي عن الحظر إلى الكراهة (1) وأكثر من ذلك وروده في شيء لأمر ما من خارج بعد إيجاب ذلك الشيء مطلقا , وسنتكلم في هذا فيما بعد. وأما إذا نظر فيها حيث المعنى ,فإن ورود النهي عن الشيء مقيدا بأمر ما ,سواء كان سببا أو صفة ,بعد إيجابه مطلقا فإنه يعود على الأصل بالفساد من جهة ما هو مقيد. والذي فهمت هنا من ورود النهي عن الشيء مقيدا بعد إيجابه مطلقا ,هو بعينه ينبغي أن تفهمه في ورود الإيجاب بشيء ما مقيدا بعد النهي عنه مطلقا.
30-والعجب من أبي حامد كيف جعل النظر في هذه المسألة في هذا الجزء من هذا الكتاب.
31-وأما من أجاز الصلاة في الوادي والحمام وأعطان الإبل فإنما ينبغي له أن يصرف النهي الوارد فيها عن التحريم إلى الكراهة، على مذهب من يرى أن ورود النهي عن الشيء مقيدا بأمر ما من خارج بعد إباحته ,أو الأمر به مطلقا ,قرينة يخرج بها لفظ النهي عن التحريم إلى الكراهة ,هذا إذا كان ممن يرى أن صيغة النهي تقتضي التحريم , وأما من لا يرى ذلك فالأمر عليه سهل. وأما من أبطل الصلاة في الأرض المغصوبة لكونها حركات وأكوانا منهيا (2) عنها ,فلجهله بحدود
_________
(1) نقص في العبارة نترك تأمله لاجتهاد القارىء.
(2) في الأصل: منهية
(1/49)
 
 
المتضادة ,لأن الإيجاب والنهي تعلق بها من جهتين مختلفتين. ولذلك ما وقع إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك أمر الظلمة بإعادة الصلوات عند التوبة. وتلك الحركات والأكوان هي من جهة مأمور بها ,ومن جهة منهي عنها. وكذلك السجود بين يدي الصنم على غير جهة القصد هو من جهة حرام ,ومن جهة متقرب به.
مسألة رابعة:
32-اختلف الناس في وجوب الشيء هل هو حظر لضده ,وحظره وجوب لضده, فنقول:
33-إنه إذا حد المتضادان بحسب حدهما , ولم يسامح في تسميتهما ,فوجوب الشيء حظر لضده ,لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما تقدم ,وسواء كان ذلك فعلا أو تركا. وهذه المسألة إنما تتصور في التضاد الشرعي. وأما التضاد المحسوس فهو مما لا يصلح التكليف إلا بتركه ,وهو من شروط الفعل.
34-وأما المحظور فإذا كان مما كان ليس له ضد ,أو مما له ضد إلا أن بينهما متوسطا ,فليس يلزم عن حظره إيجاب شيء ما. وأما إذا كان لا يخلو الشيء من أحدهما, ولم يكن بينهما متوسط ,فحظره إيجاب لضده ,هذا أيضا إذا كان التضاد شرعيا ,وأما إذا كان حسيا فهو من شرط التكليف.
35- فعلى هذا ينبغي أن يتناول السؤال والجواب في هذه المسألة. وهنا انقضى القول في القسم الثاني من هذا الجزء.
(1/50)
 
 
القول في القسم الثالث من الجزء الأول
36-هذا القسم يتضمن النظر في أركان الحكم ,وهي ثلاثة: الحاكم ,والمحكوم عليه ,والمحكوم فيه.
37-أما الحاكم فهو المخاطب بالإيجاب. ومن شروطه ,مع كونه متكلما ,نفوذ الحكم على الإطلاق. وإنما يصح ذلك بين المالك والمملوك والخالق والمخلوق ,وهو تعالى. وكل من لزمت طاعته فإنما لزمت بإيجاب الله تعالى كالسلطان والأب وما أشبههما. وهو القادر على العقاب والثواب إذ لا يتصور الإيجاب أو النهي من غير قادر عليهما. وتثبيت هذا في علم الكلام.
38_وأما المحكوم عليه فله شرطان هما (1) أن يفهم الخطاب الوارد بأمر أو نهي، إذ من ليس يفهم الخطاب لا يصح منه اقتضاء وجوب الطلب. فإن قيل فقد وجبت الزكوات والغرامات على الصبيان، قلنا المكلف هو. الولي بشرط الاستعداد لقبول العقل. وكذلك أخذهم بالصلاة قبل البلوغ، الأب هو المأمور بذلك، لا يفهم خطاب الشرع إلا من يعرف الشارع، ولا يعرف الشارع إلا من يعرف الله، وهذا الشرط مدركه العقل. ومن هنا يتبين سقوط تكليف الناسي والغافل والمجنون والسكران. فإن قيل فكيف يقع طلاق السكران عند من يجوزه؟ قلنا ذلك على جهة التغليظ، إذ كان هو الذي جنى على نفسه باختياره بعد شرط التكليف وهو العقل. وليس يتصور مثل هذا في المجنون، وتعلق من تعلق في جواز خطابه بقوله تبارك وتعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فإنه إن سلم ظهور ذلك في
_________
(1) في الأصل: منهما.
(1/51)
 
 
الآية فليس يصادم بالظواهر القطعيات. ولها تأويلات:
39 _أحدهما أنها خطاب مع المستثنى.
40 _والآخر أنه إنما وقع المنع من إفراط الشرب في أوقات الصلاة ,وذلك خطاب في وقت الصحة ,وقبل أن تحرم الخمر.
41-فأما الاعتراض الذي يلحقون هنا وهو كيف يكون الله آمرا في الأزل لعباده ومن شرط الآمر أن يكون المأمور موجودا ,وكذلك كونه آمرا للسكران في حال سكره وللمجنون والصبي ,على شرط أن يفيق ذلك ويصح ذلك ويبلغ هذا ,فالجواب عنه ليس مما يمكن في هذا الموضع ,ولا هو خاص بهذا النظر. والقول فيه مبني على قواعد تحتاج إلى تمهيد طويل وفحص كثير. وكما قلنا أنه ليس ينبغي أن نفحص عن كل شيء ولا عن أشياء كثيرة في موضع واحد ,بل ينبغي أن يفرد بالقول كل واحد منها في الموضع اللائق به ,والذي يحمل على هذا حب التكثير بما ليس يفيد شيئا.
42-وأما الشرط الثاني فهو البلوغ ,وهذا الشرط مدركه الشرع. فإن قيل فقبل أن يحتلم الصبي بزمان يسير أليس هو عاقلا؟ فإن انفصال النطفة عنه لا تزيده عقلا؟ قلنا: لما كان ذلك مما يخفي دركه في شخص ,ويختلف وقته, نصب الشرع لذلك علامة توجد على الأكثر دالة عليه.
43-وأما المحكوم فيه وهو الفعل فإنه ما جاز كونه مكتسبا للعبد باختياره مع اعتقاد اكتسابه طاعة وامتثالاً.
44-وينبغي أن يعلم أن الأمور المتكسبة للإنسان هي التي له أن يأتي منها أي الضدين شاء ,مثل أن القيام مكتسب له وله أن يقوم أو
(1/52)
 
 
يقعد. وإذا كان معنى الاكتساب هذا فلا معنى لاستثنائهم من هذا –كما زعموا-وجوب النظر المعرف ,إذ لا يمكن فيما زعموا قصد إيقاعه طاعة قبل المعرفة بوجوبه ,لأن وجوب النظر كما سلف من قولنا يحصل ضرورة لكون المنظور فيه معلوما بالضرورة ,وليس لإنسان اختيار في وقوع التصديق بوجوبه عند ظهور المعجزة. وكذلك أيضا لا معنى لاستثنائهم من ذلك إرادة الطاعة ,وقولهم إن الإرادة لو افتقرت إلى إرادة لافتقرت الإرادة إلى إرادة وتسلسل الأمر ,فإن الإرادة شوق ,وحدوث الشوق للإنسان كالضروري ,إذ كان فاعله التصديق بالرغبة والرهبة ,فشرط الفعل الشرعي أن يكون مكتسبا أولا ,ثم ثانيا أن يكون السبب في اكتساب اعتقاد وجوب الأمر لأشياء أخر مما يجوز له أن يفعل.
45-وأما الشيخ أبو الحسن فليس من شرط الفعل عنده أن يكون مكتسبا ,بل يرى أن ليس هنا فعل مكتسب للإنسان أصلا ,وأن ما يظهر كون الإنسان فاعلا للشيء فأمر مصاحب ولاحق لا أن الإنسان لذلك الفعل سبب لا قريب ولا بعيد، حتى تكون نسبة ذي القدمين مثلا إلى المشي هي بعينها نسبة العادم للقدمين. وهذه مخالفة للحس ورأي غريب جدا عن طباع الإنسان (1) . وقد بين أبو المعالي في (الرسالة النظامية) الوجه الذي به يصلح في الشرع أن يقال إن للإنسان اقتدارا واكتسابا. ومن لم يكن عنده للإنسان اقتدار على شيء ما، جاز عنده تكليف ما لا يطاق وبحق ما فعل ذلك لأنه ليس على رأيه ههنا شيء
_________
(1) بهذه الأفاظ تقريبا يرد مذهب الأشاعرة في كتاباته اللاحقة ومنن أشهرها الكشف والتهافت....
(1/53)
 
 
يطاق. والذي ينبغي أن نقول ههنا أن تكليف ما لا يطاق ممتنع عقلا وشرعا. أما شرعا فلقوله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) . وأما عقلا فلا متناع قيام المحال بالنفس. وأن من الشرط المأمور به أن يكون مفهوما ومتصورا مكانه عند الآمر والمأمور.
46_ وقد يلحق آخر هذا الجزء مسائل:
47_ فمنها هل المكره على وفق التكليف أو خلافه مختار حتى يثاب على الواحد ويعاقب على الآخر؟ ونحن نقول في ذلك: أما المكره على وفق التكليف فقد يشبه أن يظن به أنه مختار من جهة أن له أن يأتي بخلاف ما أكره عليه محتملا لما به أكره. وهذا التفاوت بحسب ما يلحق المكره من الأذى. لكن إن لم يأت ذلك معتقدا إتيانه طاعة وامتثالا لم يثب عليه، فإن اعتقد ذلك أثبت عليه. وإن كان سبب تحريكه إلى الفعل الإكراه، فإنه إذا أخذ في الفعل واعتقد وقوعه طاعة أثيب عليه. وعلى هذا الوجه جاء إكراه الكفار على الإيمان بالقتل في الشرع. وبالجملة فالتوعد بالعقاب هو إكراه ما على هذا الوجه. ومثل هذا يتصور في أن يكون الإنسان يصده عن الامتثال عناد أو غير ذلك من الأسباب المانعة. وبالجملة الأمّارة بالسوء كثيرا ما تصد الإنسان عن الواجب مع اعتقاد وجوبه. وأما المكره على مخالفة الشرع مثل الإكراه على قتل مسلم، أو ترك الصلاة، فالسؤال فيه في موضعين: ... أحدهما هل إذا فعل بمقتضى الإكراه أثم أم لا؟
والثاني: إن احتمل الإكراه ولم يفعل بمقتضاه هل يثاب أو يأثم، فإن لنفس المرء عليه حقا، والذي ينبغي أن يقال في ذلك هو أن الإكراه تتفاوت مراتبه لتفاوته ما به يقع الإكراه، ومدرك مراتب هذا التفاوت، والمقايسة بينه وبين مخالفة الأمر وترجيح أحدهما على الآخر، مدرك
(1/54)
 
 
شرعي، ولا سيما إذا كان ما به يقع الإكراه من نوع المكره عليه، مثل أن يكره بالقتل على القتل، وبالجملة فهذه المسألة اجتهاديه.
48_ ومنها: هل المقتضى بالتكليف الكف كما يقتضي الفعل. والجواب أن الترك صنفان: صنف يلحق الإنسان عند تركه التلبس بضد، فهذا لا يثاب عليه كالصيام. وصنف لا يلحق الإنسان عند تركه التلبس بضد، فهذا لا يثاب عليه. وإلحاق مسألة مسألة بهذين الصنفين نظر فروعي.
49_ ومنها: هل يتوجه الأمر بالشيء قبل حصول شرطه، كالأمر بالصلاة، فيعاقب على تركه من غير حصول شرطه، هذا إذا كان الشرط شرعيا كأمر المحدث بالصلاة في حين إحداثه، أو لا يتوجه الأمر بالشيء إلا حصول شرطه كالأمر بالصلاة في حين الطهارة؟
ونحن نقول:
إذا كان الشرط مكتسبا للإنسان باختياره فجائز أن يؤمر الإنسان بالشيء على تقدير حصول شرطه ويعاقب على تركه، وإن لم يأت بشرطه كتارك الصلاة يعاقب عليها وإن لم يتوضأ قط، وبذلك ورد الشرع، وقد دل دليل الإجماع على لحوق العقاب للمكذب بالرسل، قبل المعرفة بالله وإن كانت شرطا للإيمان بالرسل، وقد تمسك قوم في هذا بقوله عز وجل: (ما سلككم في سقر قالوا لم نكن من المصلين) ، وراموا أن يثبتوا أنه نص في الآية، وهي وإن لم تكن نصا فهي ظاهرة، لأنه محتمل أن يريد ها هنا بالمصلين المؤمنين كما قال عليه السلام: (نهيت عن قتل المصلين) . وما امتنع وقوع مثل هذا عنده عقلا صرف الظاهر إلى التأويل كالعادة في الظاهر المحتمل.
(1/55)
 
 
50_ وقد احتج من منع التكليف بمثل هذا بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة مع استحالة وقوعهما فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله. وهؤلاء القوم اشتبه عليهم الشرط الشرعي بالشرط الوجودي. وليس الأمر كذلك فهذا المكلف إنما يتوجه إليه الأمر بالشيء قبل حصول شرطه على تقدير حصول شرطه، وهو مستطاع له ومكتسب بخلاف الشرط الوجودي.
51_ أما احتجاجهم بأن الكافر إذا أسلم انتفى وجوب الصلاة والزكاة عنه، فلا حجة فيه، لأن مصيرنا إلى سقوط وجوبها بالإسلام إنما هو بدليل الشرع وإنما أوجبنا القضاء على المرتد دون الكافر، لأن القضاء إنما يجب بأمر مجرد فليتبع فيه الدليل الشرعي، ولذلك قد يؤمر بالقضاء من لا يؤمر بالأداء، وقد يؤمر بالأداء من لا يؤمر بالقضاء.
52_ ومما يلحقون بهذا الباب مسألة رابعة وهي:
كما أنه لا يجوز إتيان الأمر بالجمع بين الضدين كذلك لا يجوز إتيان الأمر بالتخلي عنهما، إذا لم يكن بينهما وسط.
53_ ولكن ها هنا فيما زعموا مسائل جزئية توقع شكا في هذه المسألة الكلية وهي: من توسط أرضا مزدرعة مغصوبة فيحرم عليه المكت ويحرم عليه الخروج، إذ في كل واحد فساد زرع الغير، فهو عاص بأيهما فعل. وكذلك من سقط على صدر صبي محفوف بصبيان، وعلم إن مكث قتل من تحته وإن انتقل قتل من حواليه. ومثل هذه المسائل فهي اجتهادية، وليست مما يوقع شكا في أنه لا يجوز. ورود الأمر بالتخلي عن الضدين. ويشبه أن يقال فيها هو غير مكلف في هذا الحال، ويشبه أن يقال في المسألة الأولى يخرج لتقليل الضرر وفي
(1/56)
 
 
الثانية يمكث، فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من حي. ويحتمل أن يقال يتخير، ولاسيما إذا لم يترجح أحد الفعلين في قلة الضرر على الثاني.
وهنا انقضى القول في الفعل وهو القسم الثالث من الجزء الأول من هذا الكتاب.
(1/57)
 
 
القول في القسم الرابع:
54_ هذا القسم يتضمن القول في أن ها هنا أسبابا مظهرة للأحكام ولصفات تتصف بها الأحكام، كالصحة والفساد، وتتضمن شرح ما تدل عليه هذه الأسماء، وهو أربعة فصول:
93/1 الفصل الأول: في الأسباب المظهرة للأحكام
55_اعلم أن الشرع قد نصب للأحكام علامات تتضمن وقوعها كما تتضمن العلل الحسية معلولاتها، وبهذه الأسباب نتوصل إلى معرفة وقوع الأحكام، وإلا كان إثباتها محالا. والقول في تفصيل الأحوال التي بها تكون مقتضية للأحكام هو في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
الفصل الثاني: فيما يدل عليه اسم الصحة والبطلان في الأحكام
56_ إعلم أن هذا يطلق في العبادات على أوجه مختلفة، فالصحة تنطلق عند المتكلمين على ما وقع على وفق الشرع، وجب القضاء أو لم يجب؛ وعند الفقهاء عما أجزأ وأسقط القضاء، حتى أن الصلاة من ظن أنه متطهر صحيحة في اصطلاح المتكلمين، لأن القضاء لازم بأمر متجدد. وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها إذا فهم الغرض. وأما في العقود فينطلق الفساد على كل حكم لم يتضمن أحد ما به يتم الحكم، سواء كان ذلك شرطا أو سببا، والصحة مقابل هذا. اللهم إلا أن أصحاب أبي حنيفة فإنهم يخصون باسم الفاسد ما كان مشروعا في أصله ممنوعا في وصفه. لكن قد تقدم من قولنا أن كل ممنوع بوصفه ممنوع بأصله وعائد عليه بالفساد من جهة ما هو متصف. وبالجملة
(1/58)
 
 
فالأحكام إنما تتصف بالصحة إذا فعلت بالأمور والأحوال التي اشترط الشرع في فعلها، والفساد بخلاف ذلك.
95/1 الفصل الثالث: في وصف العبادة بالأداء والقضاء والإعادة
57_ اعلم أن الواجب إذا أدي في وقته سمي أداء، وإذا فعل مرة على نحو من الخلل ثم فعل ثانيا سمي قضاء. وقد يطلق اسم القضاء على معان غير هذه بعضها أقرب إلى هذا المعنى، وبعضها أبعد. فمنها ما يترك سهوا حتى يخرج وقته فهذا أيضا يسمى قضاء حقيقة، لكن يفارق الأول بحط الإثم عن فاعله. ومنها ألا يجب الأداء كالصيام في حق الحائض. وقد أشكل هذا على طائفة حتى ألزموا وجوب الصوم على الحائض بدليل وجوب القضاء، والإجماع يرد هذا فإنها لو ماتت قبل أن تطهر لم تأثم، ومنها حالة المريض والمسافر فإنهما من حيث لهما أن يصوما أشبه فرضهما الواجب الموسع. وقد كان ينبغي ألا يسمى هذا قضاء مجاز، لما في ذلك من فوات الوقت الأول المشهور.
58_ وفي المسافر والمريض مذهبان غير هذا: أحدهما مذهب أهل الظاهر أنهما لو صاما لم يصح صومهما لقوله عز وجل: (فعدة من أيام أخر) والثاني مذهب الكرخي أن الواجب أيام أخر، ولكن لو صاما رمضان صح، كمن قوم الزكاة على الحول. وكلا هذين القولين إنما يبنيان على من لا يرى أن في الآية حذفا، وأن التقدير: فافطر فعدة من أيام أخر، وإن ذلك محمول على الرخصة. وستبين هذه المسألة مما يقال في الجزء الثالث من هذا الكتاب. فأما ما يحتمل أن يسأل عنه من يرى
(1/59)
 
 
ذلك محمولا على الرخصة من جواز وقوع صيام المريض الذي يخاف على نفسه الهلاك والضرر العظيم، فتلك مسألة اجتهادية تحتمل الوجهين، وهي خارجة عن هذا الغرض.
59_ وقد أطلق القاضي رحمه الله اسم القضاء على ما يتركه الإنسان متعمدا مع غلبة ظنه وبالإخترام قبل أدائه الفعل إذا انكشف خلاف ما ظن، لأنه يقدر الوقت بحسب غلبة الظن. وهذا لا معنى له، لأنه ليس يكون ظنه بالاخترام سببا لخروج الوقت في نفسه.
الفصل الرابع: في العزيمة والرخصة
60_ اعلم أن العزم في الشرع عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى، والرخصة عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر أو عجز عنه، مع قيام السبب المحترم، كتحليل جرعة خمر للشرق، والميتة للمضطر. وقد تطلق الرخصة على معان غير هذه بعضها أقرب إلى هذا وبعضها أبعد.
61_ وهنا انتهى النظر في الجزء الأول من هذا المختصر، وتلوه كتاب أصول الأحكام.
(1/60)
 
 
القول في الجزء الثاني من هذا الكتاب
(1/61)
 
 
صفحة فارغة في الأصل
(1/62)
 
 
62ـ وهو يتضمن النظر في الأصول التي تستند إليها هذه الأحكام وعنها تستنبط.، وهي أربعة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، ودليل العقل على النفي الأصلي، وتسمية مثل هذا أصلا تجوز، إذ ليس يدل على الأحكام بل على نفيها. فأما قول الصحابة وشريعة من قبلنا فمختلف فيه. فلنبدأ من ذلك بالكتاب، وننظر أولا في حقيقتة، ثم فيما يحصره، ثم في ألفاظه، ثم في أحكامه.
الأصل الأول
63_ فأما حقيقتة ومعناه (فهو الكلام القائم بذات الله تعالى، وهو صفه قديمة من صفاته) (1) ، والقول في إثبات هذه الصفة وتخليصها من غيرها من الصفات هو من علم الكلام.
64_ فأما ما يحصره فهو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا. وإنما قيدناه بالمصاحف لأن الصحابة رضي الله عنهم بلغوا في الاحتياط في نقله بالكتب. واشترطنا في نقله التواتر لأنه المفيد لليقين. وليعلم أيضا أن ما هو خارج عنه مما لم ينقل نقل تواترا فليس منه، إذ يستحيل في عرف العادة أن يهمل بعضه أو ينقل نقل آحاد مع استفاضته في الجماعة التي لا يصح عليها الإغفال والإهمال وهم الذين يقع بنقلهم التواتر، ولهذا ما كانت الزيادات التي لم تنقل نقل تواتر ليست توجب عند الأكثر عملا، خلافا لأبي حنيفة، كالتتابع في الكفارة وما أشبهه. وليست هذه متنزلة منزلة أخبار الآحاد، لأن الخبر لا معارض له ولا دليل على كونه كذبا. وإذا لم تجعل
_________
(1) كذا بالحرف ورد في المستصفى. ولنقارن ما صادق عليه ههنا بما ذهب إليه في الكشف عن مناهج الأدلة مثلا في معرض حديثه عن صفة الكلام.
(1/63)
 
 
هذه الزيادات من القرآن احتملت أن تكون مذهبا لصاحب، واحتملت الخبر وما يتردد بين هذين الاحتمالين فلا يجوز العمل به. ولهذا قطع القاضي رحمه الله بتخطئه الشافعي رحمه الله في جعله باسم الله الرحمان الرحيم آية من كل سورة، مع كونها من النمل، إذ لو كان ذلك كذلك لنقل إلينا تصريحا كونها من القرآن، ولم يقع في ذلك خلاف. وللشافعي أن يتمسك بأن جعلها في أول سورة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزولها في أول كل سورة قرائن توهم أنها من القرآن، فلو لم تكن منه لصرح بذلك. وليس كذلك التعوذ والقنوت وما أشبه ذلك مما لم يصرح بكونه من القرآن. وبالجملة فهي مسألة اجتهادية ولذلك لم يكفر القاضي بها ومع ذلك فهي قليلة الغناء في الاستنباط عنها (1) .
والشافعي إنما أوجب قراءة بسم الله الرحمان الرحيم في الصلاة للأخبار الواردة بذلك (2) .
65-وأما النظر في ألفاظه فمنها حقيقة ومجاز، ووجود ذلك فيه بين من حيث هو بلغة العرب ولسانها. وبالجملة فما أظن لسانا ولا لغة
_________
(1) عرض لهذه المسألة في (بداية المجتهد) وأشار إلى قول الشافعي وإلى رد القاضي ورأي أبي حامد بما لا يخرج كثيرا عما ذهب إليه ههنا. ثم اختتم بتعليق انتقد فيه مذاهب القوم مع ميل واضح إلى مذهب الشافعي حيث قال: (وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم فإنه كيف يجوز في الآية الواحدة بعينها أن يقال فيها إنها من القرآن في موضع وإنها ليست من القرآن في موضع آخر بل يقال إن باسم الله الرحمان الرحيم قد ثبت أنها من القرآن حيثما ذكرت وأنها آية من سورة النمل. وهل هي آية من سورة أم القرآن ومن كل سورة يستفتح بها مختلف فيه والمسألة محتملة وذلك أنها في سائر السور فاتحة وهي جزء من سورة النمل فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم) .
(2) انظر (بداية المجتهد) ص 89_90/ ج 1 دار الفكر_ د. ت.
(1/64)
 
 
تعرى من ذلك، وإن كانت الألسنة تتفاوت في ذلك. وأما نفي بعضهم أن يكون في ألفاظه شيء ليس في لغة العرب وجوزه بعضهم فالوقوف على ذلك قليل الغناء فيما نحن بسبيله. وبالجملة إن كان في لسان العرب شيء من غير ألفاظها فقد عربته العرب تعريبا وغيرته تغييرا استوجب به اللفظ كونه من لغتها ومنسوبا إليها.
وفي ألفاظه محكم ومتشابه كما قال عز وجل، وقد اختلف الناس في المتشابه، والأولى أن يظن أن الألفاظ المتشابهة هي التي يمكن حملها على معنى أكثر من واحد، أو التي يوهم حملها على الظاهر تعارضا فيها، أو الألفاظ التي لم تتقدم للعرب مواضعة ولا اصطلاح على معانيها كالحروف التي في أوائل السور، أو جميع هذه.
(1/65)
 
 
القول في الأصل الثاني وهو السنة
66_ وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة لدلالة المعجزة على صدقه، وهو حجة بنفسه على من سمعه مشافهة.
فأما نحن فلم يبلغنا قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا على لسان المخبرين، إما بطريق التواتر، وإما بطريق الآحاد. ولذلك ينقسم القول في الأخبار إلى هذين القسمين، ويعمهما بيان مراتب ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الأخبار عنه - صلى الله عليه وسلم -، وهي مراتب:
67_فأولها أن يقول الصحابي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو حدثني، أو أخبرني أو شافهني، فهذا لا يتطرق إليه احتمال.
68_المرتبة الثانية: أن يقول: قال رسول الله كذا أو حدث بكذا. فهذا ظاهره النقل، إذا صدر عن الصحابي وليس نصا صريحا، إذ ممكن أن يكون حدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لكن رأي أكثرهم العمل بمثل هذا جائز للقرائن الدالة على ذلك، لاسيما إذا صدر ذلك عن من كثرت صحبته.
69_ المرتبة الثالثة: أن يقول الصحابي أمر رسول الله بكذا، ونهى عن كذا، أو فرض كذا، وأوجب كذا. فهذا يتطرق إليه احتمالان: أحدهما في سماعه كما في قوله تعالى، والثاني في فهمه عن الخطاب الأمر أو الوجوب، إذ صيغة الأمر مختلف فيها. ولذلك رأى داوود ومن تبعه من أهل الظاهر ألا حجة في قوله ما لم ينقل لفظه - صلى الله عليه وسلم -. وقد احتج عليهم أن هذا نظر من حيث فهم الألفاظ. وإنما وقع الخلاف فيها بيننا من حيث أنا لسنا بفصحاء ولا بحجة على الكلام العربي. وأما الصحابي من حيث أنه عربي فكيف يتوهم عليه الغلط في
(1/66)
 
 
صيغة الأمر، مع أن به تقوم الحجة عند الاختلاف فيها.
70_ وإنا نرى أن تصحيح الألفاظ في لسان ما عند من لم يكن من أهل ذلك اللسان إنما يحصل بأحد أمرين: إما باستقراء كلامهم، أو النقل عنهم إذا استفاض ذلك فيهم. وعلى هذا لا يصح الاحتجاج بقول الواحد حتى يستفيض قوله. وأما هل يشترط في اللغة التواتر أو تكفي في الآحاد؟ فذلك مختلف فيه. ويشبه أن يكفي في كثير منها نقل الآحاد، وإلا لم يكن سبيل إلى الوقوف على أكثر دلالات الألفاظ لو اشترط في نقل كل واحدة منها التواتر.
71_ المرتبة الرابعة: أن يقول أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا. فهذا يتطرق إليه، مع ما سبق من الاحتمالات، احتمال آخر وهو أن الأمر بذلك عساه أن يكون غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأئمة والأمراء، وفي معنى هذا قولهم: من السنة كذا، والسنة جارية بكذا.
72_ المرتبة الخامسة: أن يقول الصحابي كانوا يفعلون كذا، فأضاف الفعل إلى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا أيضا يحتمل أن يكون بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الأظهر، فأقره. ويحتمل أن يكون لم يبلغه.
73_ فقد ظهر من هذا ما هو إخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما ليس بإخبار.
74_ والآن فقد بقي تبيين طريق انتهاء الأخبار إلينا، وذلك إما أن يكون نقل تواتر أو آحاد. ولنقل فيهما وفي مرتبة التصديق الحاصل عنهما، ولنبدأ من ذلك بالتواتر، فنقول:
75_ إن التواتر هو خبر مستفيض يحصل عنه اليقين في أمور ما وعند أحوال ما من غير أن ندري من أين حصل ولا كيف حصل ولا متى حصل. وإنما قلنا: في أمور ما، لأنه ليس يحصل فيما ليس شأنه
(1/67)
 
 
أن يحس مما هو معقول، أو مما شأن مناسبه أن يحس، إلا أنه غير ممكن الوجود، كعنز أيل وغير ذلك مما ليس له وجود خارج النفس، ولا فيما شأنه أن يحس بعد مما هو ممكن الوجود، بل إنما يحصل اليقين به فيما هو محصل الوجود في الزمان الحاضر، أو كان محصل الوجود في الزمان الماضي مما لم نحسه بعد، لأن ما أحسسناه أو كان لنا سبيل (1) إلى إدراكه بقياس يقيني، كحدث العالم، وغير ذلك، فلا غناء للتواتر فيه، لأنه إما أن يتواتر عندنا بحسب ما أحسسنا أو وقفنا عليه بالقياس، فذلك في حقنا فضل، وأما إن تواتر خلافه، فلا يقع لنا به تصديق.
وقولنا: وعند أحوال ما، تحفظ فيما تواتر ولم يقع اليقين به، ولذلك رام قوم لما شعروا بهذا أن يشترطوا في التواتر عددا يلزم عنه بالذات وأولا اليقين، حتى يكون هو السبب في الوقوع عنه، ومقتضيا له على جهة ما تقتضي الأسباب مسبباتها. فلما لم يتحصل لهم حدوده بأنه الذي يحصل عنه اليقين على أنه محصل الوجود في نفسه، وإن كان مجهولا عندنا. والمشاهدة بخلاف ذلك، فإنه يظهر أن العدد الذي يحصل عنه اليقين يزيد وينقص في نازلة نازلة ولو كان ههنا عدد ما بالطبع يحصل عنه اليقين بالذات وأولا لكنا سنحسه ونقف عليه. وبالجملة فإن كثرة المخبرين أحد القرائن التي تفيد التصديق، ولذلك يلزم أن يزيد وينقص بحسب ما تنضاف إليه من القرائن الأخر (2) .
76_ وإذا كان هذا هكذا، فلسنا نقدر أن نقول إن فاعل ذلك
_________
(1) في الأصل: سبيلا.
(2) وقريب من هذا ذهب إليه في (مختصر المنطق) بل تكاد أن تكون العبارات أحيانا واحدة. انظر (جوامع الجدل والخطابة والشعر) تحقيق شارل بوترورت 1977:
Albany State University of New York Press. 194_189
(1/68)
 
 
التصديق بالنتيجة يحصل على المقدمات، أو على جهة ما نقول إن المعقولات الأول تحصل عن الحس. ومن ظن أن الحال في التواتر كالحال في المقدمات التجريبية، وهي التي يحصل اليقين بكلتيها عند التعمد لإحساس جزيئاتها، فمخطئ قطعا. بل التصديق الحاصل عن التواتر من الفعل النفس، وكأن نسبته إليها نسبة ... (1) وبالجملة [فلم يقع خلاف في التواتر يوقع اليقين إلا ممن لا يؤبه به، وهم السفسطائيون. وجاحد ذلك يحتاج إلى عقوبة، لأنه كاذب بلسانه على ما في نفسه. وإنما الخلاف في جهة وقوع اليقين عنه، فقوم رأوه بالذات، وقوم رأوه بالعرض، وقوم رأوه مكتسبا] (2) مثل ما رآه أبو حامد ههنا ومن نحا نحوه من أن اليقين به إنما يحصل بعد مقدمتين: إحداهما أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع. والثاني أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن هذه الواقعة. لكن أبو حامد يسلم أن هاتين المقدمتين لم تشكلا (3) قط في الذهن بالفعل، ولا احتاج الإنسان إلى إحضارهما عند وقوع التصديق بالتواتر.
77 –وإذا وضع هذا، فيما لا شك، هو المشاهد من أمر التواتر، فمن البين أنه ليس لهاتين المقدمتين في إيقاع اليقين غناء ,لأن ما ليس موجودا في النفس بالفعل فليس يكون سببا لوجود ما هو فيها بالقوة حتى تخرجه إلى الفعل. ولولا كون حصول المقدمة الكبرى في الشكل الأول في النفس بالفعل ما كانت سببا لحصول النتيجة عنها التي كانت منطوية فيها بالقوة.
_________
(1) بياض في الأصل في قدر كلمة أو كلمتين.
(2) ما بين معقوفين ورد في (البحر المحيط في أصول الفقه) للزركشي 4/239. أنظر حاشية ص 21 هامش رقم (1) من المطبوع. (عبد العزيز الساوري) .
(3) في الأصل: لم تشكل.
(1/69)
 
 
فأي فائدة لاشتراط ما وجوده مثل هذا الوجود في إيقاع التصديق. ولهذا اشتراطنا في حد التواتر من غير أن ندري كيف حصل ولا من أين حصل. وبالجملة فالأخبار والشهادات على الأخبار لا تفيد إلا ظنا، وذلك يتفاوت بحسب تفاوت القرائن، حتى يحصل في بعضها اليقين. ولذلك اختلف الناس في مراتب التصديقات الواقعة عن الأخبار بحسب ما يقترن بها، كمن يجعل خبر الواحد بين يدي الجماعة، إذا أمسكوا عن تكذيبه مع أنهم عدد يمتنع في عرف العادة تواطؤهم على تسويغ الكذب، يتنزل منزلة التواتر إذا كان ما أخبر عنه مدركا لهم بالحس. وكذلك ههنا قرائن تضعف الظن الواقع بالأخبار حتى يكاد في بعض المواضيع يقطع بكذبها؛ كمن أخبر بقتل ملك البلدة في السوق ثم مر أهل السوق ولم يتحدثوا بذلك. ومن هذا الجنس رد أبي حنيفة رحمه الله أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى من الأحكام، لأنه يرى أن ينقل نقلا مستفيضا. وكذلك رد مالك لكثير من الأحاديث إذا لم يصحبها العمل.
78 – فهذا ما ينبغي أن يقال في مرتبة التصديق الحاصل عن الأخبار، وفي أي موضع غناؤها، وفي أيها لا.
79- فأما خبر الآحاد بحسب ما حد في هذه الصناعة فهو مما لم ينته أن يفيد اليقين في موضع ما بخبر الواحد بحسب ما يقترن بذلك من قرائن (1) قلنا هذا وإن كان غير ممتنع فهو مما يقل وجوده ولعل ذلك يقع في حق شخص ما ونازلة ما. ولتفاوت هذا الظن الواقع في النفس عند اقتران القرائن بأخبار الآحاد رأى بعضهم أن خبر الواحد قد يفيد اليقين.
80 –ويلحق بخبر الواحد بعد التكلم في حده التكلم في جواز
_________
(1) نقص في العبارة نترك تأمله لاجتهاد القارئ
(1/70)
 
 
العمل به شرعا، والتكلم في شروط الناقلين له، والجرح والتعديل، وكيفية نقل الراوي عن مرويه.
الفصل الأول: في جواز العمل بخبر الواحد شرعا
81 - أما العمل بأخبار الآحاد فهو جائز عقلا وواقع شرعا.
أما جواز وقوعه شرعا، فإنه غير ممتنع أن ينصب الله تعالى غلبة الظن علامة للحكم، كنصبه سائر الأشياء علامات. وعلى هذا يتصور القضاء بالشهود، والحكم بالفتوى، واستقبال الكعبة إذا لم تعاين. وقد رأى بعضهم أن نصب غلبة الظن علامة للحكم في الشرع واجب عقلا، ولولا ذلك لسقطت أكثر الأحكام عن من لم يشافه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول أبي حامد إن هذا ليس بقوي لأن لقائل أن يقول تسقط الأحكام في حق من لم يبلغه تواترها كما تسقط في حق من لم يسمع بالشرع ولا تواتر عنده، فليس عندي بمرضي. لأن انظواء الشرع نادر وقليل جدا حتى لا يكاد يقع هذا مع تطاول الزمان، بل باضطرار وقع نقله إلى جميع المعمورة تواترا. وإنما يشبه أن يقع مثل هذا في أول الإسلام، وليس كذلك العمل بأخبار الآحاد، لأنه ليس من ضرورة كل خبر أن ينقل تواترا، فلو اشترط في العمل به التواتر لأدى ذلك إلى تعطيل أكثر الأحكام عن أكثر المكلفين. وبالجملة لو لم يجب القضاء بالشهود والأيمان والحكم بالاجتهاد لما كان سبيل إلى رد المظالم والأخذ بالحقوق. وقد يستدل أيضا على وقوعه شرعا بإجماع الصحابة على العمل به، وتوقفهم في بعض الأخبار إنما كان اجتهادا منهم في طرقها. وإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة إلى البلاد، وتكليف الناس تصديقهم، مما يقطع (به) على وقوعه شرعا.
(1/71)
 
 
82- فأما قول الله عزوجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم) (التوبة: من الآية122) فرأى بعضهم أنها قاطعة في العمل بأخبار الآحاد إذ طائفة تقع على النفر اليسير الذين لا يحصل اليقين بقولهم وأبو حامد يرى أنها ليست بقاطعة إلا في وجوب الإنذار قال: وليس يلزم من وجوبه عليهم وجوب العمل به كما يجب على الشاهد الواحد إذ الشهادة لا يعمل بها وقال وبمثل هذا الاعتراض يضعف التمسك بقوله عز وجل {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} وبقوله) : - صلى الله عليه وسلم - نضر الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها) الحديث، وهذا القول منه لا معنى له لأنه ما فائدة وجوب الإنذار إذا لم يجب العمل بنقلهم وليس يشبه هذا الشاهد فإنه إنما وجب عليه أداء الشهادة رجاء أن يأتي من عنده مثل شهادته فيقع العمل بها. اللهم إلا أن يقول القائل عسى إن وجد الإنذار إنما لزم الآحاد ليتكثروا حتى يقع العلم الضروري بقولهم لكن هذا ينكسر مما تقدم من أن ذلك كان يؤدي إلى تعطيل أكثر الأحكام وإنما يشبه أن يظن أن الآية ليست بقاطعة ولا نصا في العمل بأخبار الآحاد من جهة أن الطائفة اسم يقع على النفر اليسير والعدد الكثير الذي يمكن أن يقع على اليقين بقولهم بدليل قوله (لا تزال طائفة من أمتي) الحديث. لكن الآية أظهر في أنه ليس المراد بالطائفة ههنا من يحصل العلم بنقلهم.
الفصل الثاني: في شروط الراوي وصفته
83- وإذ قد تبت العمل بخبر الواحد فلا بد من ذكر الشروط التي يقبل بها ويجب العمل به إذ ليس كل خبر يجب العمل به. فأولها أن خبر الواحد يعمل به وإن لم يعمل بشهادته لأن اشتراط العدد إذا
(1/72)
 
 
ثبت العمل به مما يجب على مدعي ذلك إثباته شرعا ولا يصح في مثل هذا حمله على الشهادة قياسا. واستظهار الصحابة رضي الله عنهم بالعدد في واقعتين أو ثلاث فذلك اجتهاد منهم لأحوال خاصة بتلك النوازل وبالجملة فاشتراط العدد ليس بشرط عندنا.
84-وأول الشروط أنا لا نقبل خبر الصبي, لأنه لا يخاف الله, فلا نأمن عليه الكذب. وأما إذا كان طفلا عند السماع, ثم نقل الحديث بعد بلوغه, فهو مقبول بدليل إجماع الصحابة على العمل بالأحاديث من غير فرق بين من سمع في الصغر أو بعد البلوغ. وقول من قال تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تقع بينهم, فإنما حمله على ذلك الاستدلال بالقرائن لكثرتهم, ولذلك اشترط في شهادتهم قبل أن يتفرقوا.
85-ومن الشروط أن يكون ضابطا, فإن من كان مغفلا يقع منه في الأكثر الغلط. وأما كونه مسلما فلا خلاف في اشتراطه ذلك, لأن الكافر لا تقبل روايته لأنه متهم في الدين. وإن كانت تقبل شهادة بعضهم على بعضهم عند أبي حنيفة, فلا مخالف في رد روايته, وبالجملة فالاعتماد في ردها على الإجماع.
86-وأما اشتراط العدالة فغير مختلف فيه, لكن ما يدل عليه اسمها مختلف فيه فذهب قوم وهم الأكثرون أن العدالة حالة في النفس يلزم عنها اجتناب ما نهي عنه في الشرع نهي تحريم أو نهي كراهة وإتيان ما أمر به في الشرع أمر وجوب أو أمر ندب من غير أن يخل بذلك.
87 وبالجملة فيشترط فيه تجنب كل ما يقدح في دينه مما لا يمتنع عليه الكذب مع إتيانه وهذا يختلف بحسب نظر المجتهدين ولكن لا
(1/73)
 
 
خلاف في أنه لا تشترط فيه العصمة كما لا يكفي في ذلك اجتناب الكبائر وذهب قوم إلى أن عدالة عبارة عن إظهار الإسلام مع أنه لا يعلم فاسقا دون بحث عن سيرته وسريرته
88 أما أصحاب المذهب الأول فاحتجوا بأن قالو كما أن المجهول الكفر لا يجوز نقله كذلك المجهول الفسق ولأولئك أن يقولوا (1) إن المجهول الكفر ليس تعرف منه حالة يغلب بها على الظن حسن الثقة به وليس كذلك المعروف من إظهار الإسلام، وقد احتجوا أيضا لذلك برد الصحابة أخبار المجاهيل كرد عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس ورد علي قول الأشجعي وما ظهر من طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العدالة والثقة فيمن كان ينفده إلى البلاد.
89 وأما ما احتج به أهل الفرقة الثانية فقبوله - صلى الله عليه وسلم - شهادة الأعرابي في رؤية الهلال مع أنه لم يعرف منه إلا الإسلام ولأولئك ألا يسلموا أنه كان مجهولا عند الله واحتجوا أيضا بأن الصحابة قبلوا قول من لم يعرفوهم بالفسق وعرفوهم بالإسلام.
90 وبالجملة فقد احتج كل فريق منهم بحجج، وهي وإن كانت ظاهرة بحسب دعواه فهي مع هذا محتملة للتأويل والمسألة اجتهادية لا قطعية. وبالجملة فالمقصود فيما يظهر من العدالة إنما هو غلبة الظن بالصدق وذلك يختلف بحسب اختلا ف قرائن الأحوال. فينبغي إذن فيما لم ينصب الشرع فيه علامة محدودة بطريق قطعي لغلبة الظن بالصدق ألا نحد فيها حدا بل يوكل ذلك إلى نظر المجتهدين، فإنه رب مجتهد تجتمع عنده قرائن يغلب بها على ظنه صدق إنسان ما ليس تجتمع
_________
(1) في لأصل: أن يقولون
(1/74)
 
 
لإنسان آخر.
91 وأما الفاسق المتأول وهو الذي لا يعرف فسق نفسه فقد اختلفوا فيه. فمن رأى أن الفسق إنما يمنع القبول للتهمة فلا يتصرف عنده رده إلا أن يكونوا فسقه في إجازة الكذب. ومن رأى أن الفسق بنفسه هادم للقبول لموضع التهمة أجاز شهادة بعضهم على بعض والأول مذهب الشافعي والثاني مذهب القاضي. ويشبه أن يكون مذهب الشافعي أقيس ويشهد له قبول الصحابة رضي الله عنهم أخبار الخوارج.
92 والفاسق المتأول ربما علم فسقه بدليل قطعي وربما علم فسقه بدليل ظني. وينبغي أن يكون قبول رواية من علم فسقه بدليل ظني أولى ولذلك يقول الشافعي أفسق الحنفي الشارب للنبيذ ولا أرد شهادته.
93 فهذه هي الأشياء التي تشترط في الراوي وأما الأشياء التي يقع بها الترجيح فتكاد لاتتناهى..
الفصل الثالث: في الجرح والتعديل
94 فيه أربعة فصول:
95 الفصل الأول: اشترط قوم العدد في المزكي قياساعلى الشهادة وبعض لم يشترطه قياسا على قبول رواية العدل وهو الأظهر.
96 الفصل الثاني: في ذكر سبب الجرح والتعديل. قال الشافعي يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل. إذ قد يرى واحد جرحة ما لا يراه الآخر. وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد. ورأى
(1/75)
 
 
قوم نقيض هذا لتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر. وقال القاضي لا يجب ذكر السبب فيهما تعويلا على المزكي. وقال قوم لابد من ذكر السبب فيهما جميعا وهو الأحوط عندي إذ العدالة والتجريح (1) مختلف فيهما كما تقدم. وأما إذا تعارض الجرح والتعديل فالجرح هو المقدم لأنه اطلاع على زيادة لم يطلع عليها المعدل إلا أن يكون يعنى تشخيص ما أثبته الجارح فحينئذ يتعارض الجرح والتعديل.
97 الفصل الثالث: في نفس التزكية والتعديل. وذلك يتصور وقوعه على أربعة أنحاء: إما بالقبول أو بالرواية عنه أو بالعمل بخبره أو بالحكم بشهادته. وأعلاها صريح القول بتعريف وجه عدالته ودون ذلك أن يروي عنه خبرا. وهذا إنما يصح علي رأي من يكفي عنده في التعديل نفس التزكية هذا إذا فهم من حالة التجريح عن الثقات عنده وأما العمل بالخبر فليس بتعديل إذ قد يمكن أن يعمل بدليل آخر إلا إن علمنا أنه عمل بذلك الخبر من طريق ذلك الناقل. وهذا أيضا على رأي من لا يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل. وأما الحكم بشهادته فذلك أقوى من تزكيته. وأما تركه الحكم بشهادته أو خبره فليس جرحا, إذ قد يتوقف في شهادة العبد أو روايته سبب آخر فهو كالجرح المطلق.
98 الفصل الرابع: في تعديل الصحابة رضي الله عنهم.
والذي عليه جماهير الأمة والمعتمد عليهم أن عدالتهم مقطوع بها بتعديل الله جل وعز لهم وتعديل رسوله في غير ما آية من كتاب الله
_________
(1) في الأصل: الرجيح
(1/76)
 
 
جل وعز ما حديث عنه - صلى الله عليه وسلم -.
99 وقد ذهبت طوائف من الخوارج والمعتزلة والقدرية وبالجملة أهل البدع والزيغ إلى رد شهادتهم وروايتهم بعد ما شجر بينهم الشتات وظهرت الحروب بينهم والخصومات, وذلك عند أهل السنة محمول على أن كل مجتهد إما غير مأثوم وإما مصيب بحسب الرأيين. وذهب قوم من أهل السنة أن قتلة عثمان مخطئون قطعا, لكن جهلوا خطأهم, وكانوا متأولين. والفاسق المتأول لا ترد شهادته على رأي الأكثر.
100-وقد بقي علينا من القول في الخبر الواحد القول في كيفية نقل الراوي عن مرويه, وذلك يتصور وقوعه على خمس مراتب:
101-المرتبة الأولى: قراءة الشيخ عليه ليحدث عنه, وبذلك يصح قوله على الحقيقة حدثنا وأخبرنا وسمعته, وهي أعلى المراتب.
102-المرتبة الثانية: أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت. فهذا خالف فيه بعض أهل الظاهر, لكن عند الأكثر سكوته وإقراره إياه يتنزل منزلة قوله. هذا إذا كان بحيث لا يخال سكوته لغفلة أو إكراه أو ما أشبه ذلك. إلا أنهم اختلفوا هل يقول حدثنا مطلقا, أو سمعت فلانا. والصحيح أنه لا يجوز, لأن ذلك كذب محض, إلا أن يعلم بقرينة حال منه أو تصريح أنه يريد بذلك القراءة على الشيخ.
103-المرتبة الثالثة: الإجازة, وهو أن يقول أجيز لك أن تروي عني الكتاب الفلاني, أو ما صح عندك من تعيين مسموعاتي. ولا يجوز في مثل هذا إطلاق القول بحدثنا أو أخبارنا إلا تجوزا.
104-المرتبة الرابعة: المناولة, وصورتها أن يقول الشيخ خذ هذا الكتاب وحدث به عني. ومجرد المناولة دون اللفظ لا معنى له,
(1/77)
 
 
فهي زيادة تكلف, وهي في الحقيقة إجازة. وهي وإن لم تفد معرفة عين الطريق الموصل, فهي تفيد معرفة صحة الخبر.
105-المرتبة الخامسة: الاعتماد على الخط بأن يجد بخطه مكتوبا إني رويت عن فلان كذا وكذا. فهذا لا يجوز أن يروى عنه لأن الخط يشتبه. وأما إذا قال الشيخ: هذا خطي , قبل قوله , ولكن لا يروي عنه ما لم يأذن له بالقول أو بقرينة حال وأما إذا قال عدل: هذه نسخة صحيحة من كتاب البخاري فرأى فيها حدثنا , فليس له أن يروي عنه. ولكن هل يلزمه العمل به , أما إذا كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد ولا خلاف , وإن كان مجتهدا فقال قوم لا يجوز العمل به , لأن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يحملون الصحف إلى البلاد , وكان الناس يعتمدون عليها بشهادة حامل الصحف. ولكن على الجملة فلا ينبغي أن يروي إلا ما سمع بعد المعرفة , فإن الذي رواهم لم يشك في شيء مما أخذوه عنه , فإن شك في شيء تركت روايته.
106- وقد يتفرع عن هذا مسائل منها: إذا كان في مسموعاته حديث يغلب على ظنه أنه سمعه هل يجوز له أن يرويه؟ أما إذا شك فلا خلاف في أنه لا يجوز له , وأما إذا غلب على ظنه أنه سمعه فقد قال قوم يجوز أخذه عنه , لأن الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن , وهو بعيد , لأن غلبة الظن إنما تتصور في كون الشيخ صادقا. وكذلك غلبة الظن في الشهادة إنما تتصور في حق الحاكم , وأما الشاهد فينبغي أن يشهد على القطع فيما القطع فيه ممكن , وكذلك الراوي.
107- ومنها إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي فإنه لا يعمل به , ولكن لا يصير الراوي مجرحا , لأنهما عدلان
(1/78)
 
 
تعارض قولهما. وأما إذا أنكر إنكار متوقف فيعمل بالخبر , لأن الراوي جازم في أنه سمعه , والشيخ ليس هو قاطعا بتكذيبه وهما عدلان. وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطله , واحتج بأن الشيخ ليس يجب عليه العمل
إذا رواه له العدل وهو لا يذكره , وهذا لا يتصور في الراوي , لأنه قاطع , وأما غيرهما فحالته بين حالتيهما. ويشبه أن يكون أغلب على ظنه صدق الراوي للنسيان الغالب على الإنسان , مع أن الشيخ ليس بقاطع بكذبه. وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وجماهير المتكلمين , وهو يشبه عندهم شك الشيخ في زيادة في الحديث أو إعراب فيه.
108- ومنها إذا انفرد ثقة بزيادة في الحديث عن جماعة ثقات حفاظ فقيل: تقبل الزيادة , لأنه لو انفرد دونهم بحديث قبل. وكذلك الزيادة. وأنت تعلم أن الأمر ليس كذلك , لأن انفراده دونهم بزيادة , في حديث رووه , مع أنهم حفاظ قرينة تضعف الظن الواقع بالزيادة , وليس كذلك إذا انفرد بحديث دونهم , فلذلك رأى بعضهم ألا تقبل الزيادة , ورأى بعضهم أن تقبل , لكن ليس لهذه العلة التي تقدمت بل لأن أولئك ليسوا بقاطعين على نفي الزيادة , ويمكن أن يكونوا (1) دخلوا في المجلس وقد مضى من الحديث شيء , ويمكن أن يكونوا حاضرين ويفوت أسماعهم لشاغل أو عارض وبالجملة فهي مسألة اجتهادية , ويتفاوت الظن فيها بحسب نازلة نازلة وحديث حديث.
109- ومنها نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ , فقوم أجازوه للعالم العارف بمواقع الخطاب , وقال قوم لا يجوز له إلا بإبدال القوم بما يرادفه ويساويه في المعنى , كما نبدل القعود مثلا بالجلوس مما لا يشك في
_________
(1) في الأصل: أن يكون.
(1/79)
 
 
ترادفهما لا فيما يحتاج في ذلك إلى استدلال. وقد احتج الفريق الأول بالإجماع على جواز شرح المعاني التي في الشرع للعجم بلسانهم , قالوا فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها أن يجوز بالعربية أولى وأحرى , ولم يفصلوا بين ما كان إبدال اللفظ بغيره بينا بنفسه وبين ما يحتاج في ذلك إلى استدلال. قالوا وكذلك كان سفراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغون أوامره إلى غير العرب.
110- وأنا أرى أن فهم ما تدل عليه الألفاظ إذا كان في محل الاجتهاد فلا يجوز للمجتهد العمل به حتى ينقل إليه لفظ الشارع , وإلا عاد المجتهد من حيث هو مجتهد مقلدا , اللهم إلا أن يقول ذلك المعنى صحابي فهذا يرجع القول فيه إلى ما تقدم من الخلاف المذكور في ذلك. وأما المجتهد المقلد فيجوز له عندي إبدال اللفظ بلفظ غيره عند من يقلده لأن ذلك اجتهاد ما , وعلى هذا حال شرح العربية وتبديلها بالعجمية. وأما تجويز نقل بعض الخبر فهو [عندي جائز , إذا كان مفيدا ومكتفيا بنفسه وغير محتاج في فهمه إلى ما قبله , أو كان ليس يوجب صدق (1) ما حذف منه , تردد المفهوم عنه بين معنيين أو أكثر من ذلك , وسواء [جوزنا] الأمر في هذا عند من أجاز نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ أو لم يجزه] (2) .
111- ومنها النقل المرسل والمسند. وهذا قد اختلفوا فيه , فذهب مالك وأبو حنيفة والجماهير إلى أن المرسل مقبول ومعمول به , وذهب الشافعي والقاضي إلى أنه غير مقبول وصورته أن يقول: قال رسول الله ... - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) قرأها الأستاذ جمال الدين العلوي رحمه الله: "حذف" , والصواب ما أثبتناه من كتاب " البحر المحيط ". (عبد العزيز الساوري)
(2) ما بين معقوفين ورد في " البحر المحيط في أصول الفقه " للزركشي 4/364. أنظر حاشية ص 21 هامش (1) من المطبوع. (عبد العزيز الساوري) .
(1/80)
 
 
من لم يعاصره , أو قال أبو هريرة من لم يعاصره. أما الفريق الأول فاحتجوا بأن رواية العدل تعديل، لا سيما فيما يصرح به، كقوله عن الثقة عندهم، فروجعوا بان رواية العدل ليست بتعديل إلا أن يعلم من قرينة حاله أنه لا يجرح إلا عن عدل أو يصرح بعدالته ثم إذا علم من قرينة حاله أنه لا يجرح إلا عن عدل او صرح بعدالته فليس بتعديل ما لم يذكر ما العدالة عنده. وهذا عندي غير لازم على مذهب الشافعي والقاضي على ما تقدم لكن عساهم لا يسلمون التعديل المطلق إلا فيمن عرفت عينه , إذ من لم تعرف عينه ممكن أن لو سمي عرفناه بفسق. وقد احتج الفريق الأول أيضا في قبول المراسيل بإجماع الصحابة والتابعين على جواز العمل بالمراسيل لكن نوزعوا في نفس الإجماع , إذ لم يتصل ذلك عن جميعهم , وسكوت من سكت منهم ليس يتنزل منزلة من قال , لا سيما في ما كان في محل الاجتهاد كما سيأتي من بعد. وأيضا فإن من المنكرين للمرسل من قبل مرسل الصحابي لأنه في الأكثر لا يحدث إلا عن صحابي , وكلهم عدل , وكذلك مراسيل التابعين إذ في الأكثر إنما يروون عن صحابي. لكن المختار عند من لا يقبل المراسيل أن لا يقبل مرسل الصحابي أو التابعي حتى يعلم بصريح لفظه أو قرينة حال أنه لا يروي إلا عن صحابي. وأما ما يمكن أن يحتج به على من منع قبول المراسيل من العنعنة وإجرائها مجرى المسند مع إمكان أن يكون بين الراوي والمروي غيره , فلهم أن يجيبوا عن ذلك بأن العنعنة إنما أجريت مجرى المسند حيث تقترن قرائن تدل على أنه سمع منه , أو يصرح بذلك , ومتى لم يصرح بذلك ولا دلت على ذلك قرائن فهو متردد بين المرسل والمسند.
112- وأما قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى كحديث مس الذكر وما أشبهه فقد تقدم القول في وجه الاسترابة به , لأن ما
(1/81)
 
 
تعم به البلوى ينتشر ويستفيض بحسب عرف العادة. وقد رد هذه القرينة من أجاز العمل بأخبار الآحاد فيما تعم به البلوى بأن الاستفاضة إنما تلزم في ما تعبد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإشاعته في الجميع , وأما ما تعبد به باتصاله إلى الآحاد ورد الخلق إلى أخبارهم فلا يلزم ذلك فيه. ويحتجون لتجويز ردهم إلى أخبار الآحاد في بعض النوازل مع إمكان استفاضة ذلك بتجويز ردهم إلى القياس فيما يمكن أن ينص عليه كمسألة الربا وأشباهها. قالوا وليس عموم البلوى علة الإشاعة والاستفاضة , بل علة ذلك جهة التكليف.
113- وأنا أرى أن تبليغه - صلى الله عليه وسلم - فرضا من فروض الله مما هو واجب على الأعيان واحدا , وسكوته عن تبليغه لمن يراوحه ويغاديه من أصحابه صلى الله عليهم وسلم اتكالا منه - صلى الله عليه وسلم - على أنه إن وصلهم ذلك الخبر عملوا به , وإن لم يصلهم فهو ساقط في حقهم غير معلوم من قرائن أحواله - صلى الله عليه وسلم - مع حرصه على التعليم والتبيين. وسواء جاز وقوع مثل هذا عقلا أو لم يجز هو مما يكاد يقطع بامتناع وقوعه شرعا عند تصفح أحواله - صلى الله عليه وسلم - في البيان والتبيين. وإنما الحق أن بعض الأخبار ليس يمكن فيها أن تصل إلينا إلا بطرق الآحاد , وإن عمت بها البلوى فيما سلف واستفاضت , وبعضها يمكن ان تصل بهذا وهذا، وبعضها ممتنع أن تصل بغير التواتر , وذلك يختلف في نازلة نازلة وقضية قضية , وذلك بحسب الزمان والمكان وغير ذلك من العوائق. ولذلك ربما انقدح للمجتهد في بعض الأخبار القول برده لعموم البلوى , وربما لم ينقدح له رده , ولا سيما في فروض الكفايات. وينبغي أن يقال في كل موضع بحسب ما يحتمل الأمر المقول فيه , فإن رد الإنسان طرق الآحاد فيما تعم به البلوى في كل موضع غير صواب , إذ يتفاوت ذلك بحسب القرائن وكذلك العمل بها على الإطلاق. وليس لهذا التقسيم طبيعة التقابل حتى
(1/82)
 
 
يجعل طرفي نقيض ويتكلم عليها كل واحد من الفريقين على أن الصدق منحصر في أحدهما. وأنت تعلم أن كثيرا ما يفعلون هذا في كثير من هذه المسائل.
114- وهنا انتهى النظر في الأصل الثاني وهو السنة , وينبغي أن تعلم أن هذين الأصلين يلحقهما النسخ , ولنقل في ذلك.
(1/83)
 
 
القول في الناسخ والمنسوخ
115- وقد اختلف في حد النسخ فحده المتكلمون بأنه الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان الحكم ثابتا مع تراخي الخطاب الدال على ارتفاعه. وإنما اشترطوا فيه هذه الفصول لأنهم يجوزون على الله تعالى رفع الحكم في وقت ما بعد الأمر به على التأبيد مثلا , وبالجملة فيجوز عندهم النسخ قبل التمكن من الفعل. وحده آخرون بأنه الخطاب الكاشف عن مدة انقضاء العبادة , اعتقادا منهم أن النسخ إنما يرد مبينا فيما لم يقصد به من أول الأمر عموم جميع الزمان ولا استغراقه. وحده أيضا آخرون بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتا. وهذا الحد وإن كان فيه تثبيج , لأنهم جعلوا المرفوع مثل الحكم ولم يجعلوه الحكم نفسه , فإنما اضطرهم إلى ذلك أنهم لا يجوزون على الله تعالى النهي عن الشيء الواحد بعينه بعد الأمر به.
116-وبالجملة فالنظر فيما يجوز من هذا على الله تعالى وما لا يجوز لا يخص الفقيه بما هو فقيه. والذي يكفي الفقيه من هذا أن يسلم أن في الشرع أحكاما رفعت بعد الأمر بها ويعتقد ذلك سواء كان ذلك كشفا عن انقضاء مدة العبادة أو لم يمكن, وإن وقوع مثل هذا شرعا مما ثبت تواترا. وأما تجويز وقوعه عقلا فليس يخصه النظر فيه ولا في جهة جوازه, فلنبدأ من ذلك بالضروري في هذه الصناعة, والقول في ذلك يشتمل على مسائل:
117-إذا نسخ بعض العبادة أو شرط من شروطها أو سنة من سننها هل هو نسخ لأصل العبادة أم لا؟ وهذه المسألة قد اختلفوا فيها, والحق أن رفع البعض رفع للكل, لأن الكل إنما هو كل ببعضه, والعبادة
(1/84)
 
 
إنما هي مأمور بها من جهة ما تحتوي على جميع أجزائها. وبالجملة رفع الجزء رفع للكل, لأنه لا يبقى كلا وذلك فيما لا يتبعض. ويشبه أن يكون كذلك رفع الشرط, لأنه الذي به تتم العبادة. وأما رفع السنة فليس يلزم عنها رفع وجوب العبادة.
118-مسألة: الزيادة على النص نسخ عند قوم, وليست بنسخ عند القوم. والمختار أن الزيادة إذا صار بها المزيد غير ما كان قبل وثانيا بالعدد فهي نسخ, مثل الصلاة إن صح فيها أنها فرضت أولا ركعتين ثم زيد فيها. فأما إذا كانت الزيادة مباينة للعبادة المزيد عليها بالنوع فبين أنها ليست بنسخ, كإيجاب الصلاة مثلا, ثم إيجاب الزكاة. وكذلك إن كانت الزيادة مع المزيد عليه واحدة بالنوع ولم يصر المزيد عليه بها غيرا بالشخص فليست أيضا بنسخ, كزيادة عشرين جلدة في الحد مثلا على ثمانين, وإن كان أبو حنيفة رحمه الله يرى مثل هذا نسخا.
119-مسألة: ليس من شرط النسخ إثبات بدل المنسوخ يقوم مقامه ويتنزل منزلته, وذلك جائز على مذهب أهل السنة, وواقع شرعا, كنسخ ادخار لحوم الأضاحي, وتقدمه الصدقة أمام المناجاة. وأما قول الله عز وجل- {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها} - فإنها وإن كانت ظاهرة في إثبات بدل المنسوخ المتنزل منزلته فيمكن أن يتأول قوله عز وجل- {نأت بخير منها} - أي نأتي بآية أخرى, وإن لم تتضمن بدلها الآية المنسوخة في الحكم, بل تتضمن حكما آخر ليس ببدل للحكم المرفوع.
120- مسألة: يجوز النسخ بالأخف والأثقل, وذلك جائز عقلا وواقع شرعا. مثال نسخ الأخف بالأثقل نسخ التخيير بين الصوم والفدية بالإطعام بتعيين الصيام, وتحريم الخمر ونكاح المتعة, ونسخ
(1/85)
 
 
صوم عاشوراء بإيجاب رمضان.
121-مسألة: الآية إذا تضمنت حكما يجوز نسخ تلاوتها دون حكمها ونسخ حكمها دون تلاوتها ونسخها جميعا, وذلك جائز عقلا وواقع شرعا. أما جوازه عقلا فإن التلاوة تتضمن معنيين: أحدهما قراءتها وكتبها في المصحف والصلاة بها. والثاني ما فيها من الأحكام. وكل واحد من هذين المعنيين جائز أن يكلفه الإنسان دون الثاني, وجائز أن يرفعا معا بحسب ما تقتضيه مذاهب أهل السنة. وأما الذي يدل على وقوعه سمعا فقوله تعالى- {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} - الآية. وقد نسخ حكمها بتعيين الصوم وبقيت تلاوتها. وكذلك قوله عز وجل - {الوصية للوالدين والأقربين} -منسوخ بقوله عليه السلام- *لا وصية لوارث*- لكن في هذا نظر, لأن من الناس من لا يجوز نسخ القرآن بالسنة. وأما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فقد تظاهرت الأخبار بنسخ تلاوة آية الرجم مع بقاء حكمها, لكن عندي في هذا نظر, لأنه ينبغي أن يقبل أن مثل هذا كان في القرآن حتى يتواتر ولا يقبل ذلك بطرق الآحاد.
122-مسألة: الإجماع لا ينسخ به, إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي, وإن توهم أن شيئا ما منسوخ بالإجماع فذالك دليل على ناسخ سبق لم يبلغنا.
123-مسألة: نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة, والآحاد بالآحاد, والآحاد بالمتواتر, مما لا خلاف فيه. فأما نسخ المتواتر بالآحاد فقد اختلفوا فيه, والمختار أنه جائز عقلا وواقع شرعا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحول أهل مسجد قباء إلى الكعبة بخبر الواحد, وقد كان ثابتا عنهم التوجه إلى بيت المقدس بطريق قطعي, وبالجملة فإنفاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
(1/86)
 
 
رسله إلى الأطراف بالناسخ والمنسوخ مما تواتر. فأما وقوع ذلك بعده - صلى الله عليه وسلم - فممتنع بإجماع الصحابة على أن القرآن لا يرفع بخبر الواحد , وبالجملة التواتر. ويشبه أن تكون العلة في ذلك قرائن تقترن بخبر المخبرين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته ليس تقترن بالمخبرين عنه بعد موته - صلى الله عليه وسلم - من إمكان مراجعته واستفهامه وغير ذلك.
124- وأما نسخ المتواتر من القرآن بالمتواتر من السنة فإنه قد نقل عن الشافعي وعن قوم من أهل الظاهر أنهم كانوا لا يجوزون ذلك بدليل قوله عز وجل - {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} - وهذه الآية وإن كانت ظاهرة فيما رأوا فقد قلنا في ما سلف أنه يمكن أن لا تتضمن الآية الواردة بدل الآية المنسوخة في الحكم , وتكون السنة هي المتضمنة بدل حكم المنسوخة. ومن يجوز ذلك فقد احتج بنسخ قوله تعالى - {الوصية للوالدين والأقربين} - بقوله عليه السلام – "لا وصية للوارث" – وكذلك احتجوا بقوله عليه السلام أيضا " قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة (1) وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" (2) وهو نسخ {فأمسكونهن في البيوت} وهذه الاحتجاجات قد يتمكن أن يتطرق إليها الاحتمال وليست قاطعة.
125- ويشبه أن يكون الذي أصار القائلين بهذا إلى امتناع ذلك مع ما تقدم من حجتهم ,ما نجد في أنفسهم من ترجيح التصديق الواقع عن تواتر الكتاب , إذ هو أرفع مراتب التواتر , وأن ما عدا ذلك من
_________
(1) في الأصل: هاته.
(2) وفي بداية المجتهد نقرأ: " خذوا عني قد جعل الله سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة. ص326/ج2.
(1/87)
 
 
الأحاديث فإنها تواترت فلا يمتنع أن يكون التصديق بها مقصرا عن التصديق بالكتاب. وليس بمحال على ما يرى كثير من الناس أن يتفاضل التصديق اليقيني لاسيما فيما سبيله النقل , فأما ما نقل عن الشافعي رحمه الله أنه كان لا يجوز نسخ السنة المتواترة بالقرآن , فلا معنى له , إذا أخذ على ظاهره , اللهم إلا أن يتأول ذلك , فإن وجوه التأويل لا تضيق.
126- مسألة: لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المظنون , كما لا يجوز بخبر الواحد. وقد احتج من أجاز ذلك بجواز تخصيص القياس للنص المتواتر. وهذا إذا سلم فليس بحجة , إذ التخصيص بيان والنسخ رفع. وبالجملة فالحجة في ذلك إجماع الصحابة على إبطال كل رأي مخالف للنص , فكيف النص المتواتر. وحديث معاذ إذ قال اجتهد رأيي عند عدم النص وتزكية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك , فأما إذا تناقض نصان قاطعان وأشكل فهل يقضى بتأخر أحدهما بخبر الآحاد؟ فيه نظر , والمسألة في محل الاجتهاد.
127- مسألة: لا ينسخ الحكم بقول الصحابي نسخ حكم كذا ما لم يقل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك. هذا إذا كان الحكم ثابتا بخبر الواحد , لأن كثيرا ما يظن بما ليس بنسخ أنه نسخ , كما ظن قوم أن الزيادة على النص نسخ. وأما إذا كان الحكم ثابتا بطريق التواتر فليس قول الصحابي بنسخ وإن نقل ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لأن الآحاد لا ينسخ به التواتر كما تقدم.
128- وبالجملة فينبغي أن تعلم أن للنسخ شرائط يتضمنها الحد المتقدم وهي منطوية فيه أولها: أن يكون المرفوع حكما شرعيا لا عقليا كالبراءة الأصلية التي ترتفع بإيجاب العبادات. والثاني أن يكون النسخ بخطاب لا أن يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت يقتضي
(1/88)
 
 
دخوله. وبالجملة فتلحقه شرائط تعتبر فيه بحسب حد حد من حدود النسخ التي عددناها وتخرج عنه شرائط.
129- مسألة: إذا تعارض نصان قاطعان فلم يعلم أيهما ناسخ لصاحبه. فالوقوف على ذلك ليس يكون بشيء سوى النقل وذلك يمكن بطرق: أحدها أن يكون في لفظ أحدهما ما يدل على نسخ الآخر , كقوله عيه السلام "كنت نهيتكم عن كذا فافعلوه ". الثاني أن يعلم التاريخ فيهما. وقد تقع معرفة ذلك بأن تجتمع الأمة على نسخ أحدهما. وما سوى هذا مما يظن أنه نسخ فليس بنسخ, مثل تأخر الراوي في الإسلام , وتأخره في السن أو انقطاع صحبته.
تم القول في الناسخ والمنسوخ.
(1/89)
 
 
القول في الأصل الثالث من أصول الأدلة وهو الإجماع
130- والإجماع هو اتفاق المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعي وسواء كان ذلك الحكم مما صرح به صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - فدثر ولم ينقل, أو لم يصرح به, فوقع الإجماع منهم على ذلك لقرينة حال أو دليل أو غير ذلك مما يوجب الاتفاق. أما ما صرح به النبي عليه السلام ونقل نقل تواتر فلا غناء للإجماع في تصحيحه. وأما ما نقل نقل آحاد فإن الإجماع ينقله من رتبة الظن إلى رتبة القطع. وأما ما لم يصرح به أو صرح به ولم يبلغنا فإن الإجماع يستعمل دليلا قاطعا في تثبيته. أما وقوع مثل هذا شرعا فموجود وأما اطلاعنا عليه فذلك يمكن بأحد وجهين: أما إن كان المجمعون معاصرين لنا فبلقائهم. وأما إن كانوا ممن (1) سلف فبالنقل المستفيض الذي يوقع التصديق.
131- وأما الدليل على كون الإجماع حجة فمأخوذ من جهة النقل من الكتاب والسنة. فمن ذلك قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} الآية. وهذه أقوى آية في التمسك بالإجماع. ومنها قوله تبارك وتعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} . وقوله: {كنتم خر أمة أخرجت للناس} . وقوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} .
وهذه الآيات وإن لم تكن واحدة واحدة منها نصا في كون الإجماع دليلا شرعيا فإنها بمجموعها تقتضي لهذه الأمة التعظيم والتشريف واتباع سبيلهم وموافقتهم والنهي عن مخالفتهم والخروج عن جماعتهم.
_________
(1) في الأصل: من.
(1/90)
 
 
وبالجملة إذا أضيف إلى هذه الآيات ما ورد من أحاديث الأخبار في وجوب العصمة لهذه الأمة , وإن لم تكن تواترت في اللفظ فهي متواترة في المعنى , كقوله عليه السلام: " لا تجتمع أمتي على خطأ " وقوله عليه السلام" لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ ومن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " (1) . وقوله عليه السلام " يد الله مع الجماعة " , إلى ما سوى ذلك من الأحاديث , ثبت على القطع كون الإجماع دليلا شرعيا. (2)
132-وأما من احتج على كون الإجماع حجة بدليل العقل فضعيف, لأنه وإن كان يبعد اجتماع الكثير على الكذب, فغير بعيد اجتماعهم على الخطأ. بل تقول لو بقي من أهل الاجتهاد اثنان أو ثلاثة وأجمعوا على رأي وقع الإجماع بهم لشهادة الشرع لهم بالعصمة, من حيث ينطلق عليهم اسم الأمة في ذلك الوقت.
133-وإنما اشترطنا في حده المجتهدين, لأن العوام وإن تصور دخولهم في الإجماع فإنما ذلك في الأمور التي نقلت نقل تواتر كالصلوات الخمس والصوم والزكاة, أو فيما كانوا (3) فيه مستصحبين وتابعين لإجماع المجتهدين, فلذلك لا غناء لإجماعهم في تصحيح
_________
(1) ورد هذا الحديث في المستصفى هكذا: ( ... ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) .
(2) تحدث عن مفهم الإجماع بجهة مخالفة في (مختصر المنطق) فقال: (وأما الإجماع الذي هو اتفاق أهل الملة فمستنده أيضا في الإقناع شهادة الشرع لهم بالعصمة. ولما شعر قوم بهذا قالو إن خارق الإجماع ليس بكافر. وأبوا حامد قد صرح بهذا المعنى في أول كتابه الملقب بالتفرقة بين الإسلام والزندقة قال لم يجمع بعد على ما هو الإجماع) . ص195
(3) في الأصل: أو في كانوا
(1/91)
 
 
شيء, بل العوام أبدا متبعون للمجتهدين وموافقون لهم, إذ كان ذلك فرضهم. فإن سمّي مثل هذا إجماعا لم يمتنع, لكن مثل هذا ليس بأصل يستعمله المجتهد.
134- فأما عدد المجمعين فليس فيه شرط سوى أن يكونوا جميع المجتهدين من أهل العلم الموجدين في عصر واحد, لأنا لو اشترطنا إجماع أهل الأعصار, من سلف منهم ومن هو حاضر ومن سيأتي, لم يقع إجماعا.
135-فأما إن أجمع أهل عصرنا على أمر لم يجمع عليه من سبقهم هل ينعقد الإجماع أم لا؟ ففيه موضع نظر. أما ما سكت عليه أهل العصر المتقدم, ولم ينقل عنهم فيه قول, فإجماع من بعدهم منعقد ضرورة. وأما إذا نقل فيه عن من سلف خلاف, فها هنا موضع القول. وقد اختلف الناس في ذلك, والوقوف عليه يكون من جهة صيغ الألفاظ الواردة في معنى العصمة لهذه الأمة كقوله عليه السلام (لن تجتمع أمتي على الضلال) , وسائر الأحاديث التي أوردناها, فإنها وإن لم يمكن حملها على العموم, إذ هو من الممتع أن يتناول ههنا لفظ الأمة من سيأتي, فهو حجة في عموم ما بقي داخلا تحت تناول اللفظ. فبأي جهة ليت شعري يخرج من شرط الإجماع أهل العصر المتقدم, وعموم ما بقي من دلالة اللفظ يتناولهم, اللهم إلا عند من يرى أن العام إذا خصص فليس بحجة في عموم ما بقي.
136-فأما أهل الظاهر فليس يتصور معهم هذا الخلاف لأنهم يرون الإجماع إنما هو اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على حكم ما. وذلك لازم لأصولهم. لأنهم لا يجوزون الإجماع بالقياس. وإذا كان هذا هكذا فإنما يقع الإجماع عندهم إما لأثر قد عفا ولم يصل إلينا ,
(1/92)
 
 
وإما لقرائن وأحوال مشاهدة منه - صلى الله عليه وسلم - , ومثل هذا لا يتصور في غير الصحابة. وأما من يجوز وقوع الإجماع عن القياس فيلزمه الخلاف المذكور وسنبين هذا في كتاب الاستنباط, إذا تبين ما هو المعنى الذي يعنونه بالقياس في هذه الصناعة.
137-وأما هل يتناول أيضا لفظة الأمة جميع الشخوص المجتهدين في ذلك العصر حتى إن شذ منهم واحد لم يكن إجماعا, أم يراد به الأكثر, فالظاهر من الصيغ الواردة في ذلك تناول جميعهم. وبالجملة فالنظر في هذه الأحوال المشترطة في الإجماع يشبه أن يكون اجتهاديا. وأما إذا نقل عن أكثرهم أيضا قول, وسكت الباقون فمختلف فيه. والأظهر كما يقول الشافعي ألا ينسب إلى ساكت قول قائل, اللهم إلا أن يعلم من قرائن أحوال الساكتين أن سكوتهم ربما كان رضي منهم بالقول واتفاقا عليه, فإن الإنسان قد يسكت لأسباب شتى: إما أنه ليس عنده في ذلك الوقت في الشيء رأي, وإما إن كان عنده رأي في الشيء فقد تمنعه عن التصريح به موانع: منها أنه لعله يرى أن الحكم في محل الاجتهاد, أو أن كل مجتهد مصيب, أو هيبة ما, أو غير ذلك من قرائن تقترن له.
138-وإذا كان هذا هكذا وكان من شرط الإجماع اتفاق جميع المجتهدين الموجودين في ذلك العصر, فمن رأى إجماع أهل المدينة حجة لأنهم الأكثر في أول الإسلام فلا معنى له. لكن حذاق المالكيين إنما يرونه حجة من جهة النقل وهذا إذا بني فيه أن يجعل حجة فيما يظهر لي, فينبغي أن يصرح فيه بنقل العمل قرنا بعد قرن حتى يوصل بذلك إلى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فيكون ذلك حجة بإقراره له - صلى الله عليه وسلم -. مثل أن يقولوا: هكذا وجدنا آباءنا يفعلون, إلى أن ينتهي ذلك إلى زمن
(1/93)
 
 
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -. مثل ما اتفق لمالك مع أبي يوسف بحضرة الرشيد في مسألة الصاع. وإلا متى لم يشترط هذا, ولم يحتفظ به, لم يكن ممتنعا أن يكون إجماعهم على أمر حملهم عليه بعض الخلفاء والأمراء. وبالجملة فالحكم في الشرع بمثل هذا الحكم بين أنه ليس يرجع إلى أصل مقطوع به في الشرع على ما شأنها (1) أن ترجع إليه الأمارة الظنية, اللهم إلا أن يصرح بنقل العمل كما قلنا فيكون من باب النقل (2) .
139-وأما من يشترط في الإجماع انقراض عصر المجتهدين دون أن يقطع بينهم خلاف فليس تقتضيه صيغ الأحاديث الواردة بكون الإجماع حجة, بل من خالف من بعد وقوع الإجماع
_________
(1) في الأصل: (على ما تبيانها)
(2) لعل هذا الموضع الذي يحيل إليه في (بداية المجتهد) حين قال: (ص74/جI) (وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي وهو الذي يدعى بأصول الفقه) . ولكنه في موضع آخر من البداية (ص126/جi) ينتهي إلى موقف يحمل جديدا بالقياس إلى ما ذهب إليه ههنا يقول: (لكن النظر في هذا الأصل الذي هو العمل كيف يكون دليلا شرعيا فيه نظر. فإن متقدمي شيوخ المالكية كانوا يقولون إنه من باب الإجماع وذلك لا وجه له فإن إجماع البعض لا يحتج به. وكان متأخروهم يقولون إنه من باب نقل التواتر ويحتجون في ذلك بالصاع وغيره مما نقله أهل المدينة خلفا عن سلف. والعمل إنما هو فعل, والفعل لا يفيد التواتر إلا أن يقترن بالقول, فإن التواتر طريقه الخبر لا العمل, وجعل الأفعال تفيد التواتر عسير بل لعله ممنوع. والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوى الذي يذهب إليه أبو حنيفة.... وهو أقوى من عموم البلوى ... لأن أهل المدينة أحرى ألا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل. وبالجملة العمل لا يشك أنه قرينة إذا اقترنت بالشيء المنقول إن وافقته أفادت به غلبة ظن وإن خالفته أفادت به ضعف ظن ... )
(1/94)
 
 
في لحظة ما فغير ملتفت إليه ومقطوع بخطئه.
140-فهذا هو القول في الإجماع ما هو, وسائر ما يشترط فيه بأوجز ما أمكننا, وسائر ما يلحقه من المسائل والاعتراضات التي كثر أبو حامد بذكرها فقد يقف عليها بسهولة من تصور من الإجماع هذا المقدار الذي كتبناه.
(1/95)
 
 
القول في الأصل الرابع
141- وهو دليل العقل في استصحاب براءة الذمة عن الواجبات , وسقوط الحرج عن الخلق فيما لم يأت فيه أمر أو نهي , كسقوط الصلاة السادسة مثلا , وأكل شوال وما أشبه ذلك. وبالجملة فتسمية هذا دليلا تجوز فيه العبارة. والذي أصارهم إلى هذا تكلفهم أن يجعلوا السمعيات في وجوب الدليل في حالتي النفي والإثبات كوجوب ذلك في العقليات , حتى تراهم يضطربون , فمرة يقولون: "عدم الدليل دليل " , ومرة يقولون: " ثبت بالقياس أو بالإجماع إن لم يلف دليل عليه في الشرع فتستصحب فيه البراءة الأصلية ". والصواب غير هذا , لأن ما كان طريق وجوده السمع فهو على العدم محمول حتى يرد غير ذلك , والعدم فيه أشهر. وما كان هذا إما أن لا يطلب من الناس دليل عليه أصلا , وأما إن طلب فدون دليل المثبت , كالحال في المدعي والمدعى عليه.
[221/1] 142- والاستصحاب في هذه الصناعة يطلق على وجوه: أحدها استصحاب البراءة الأصلية الذي تقدم. والثاني استصحاب العموم حتى يرد تخصيص. والثالث استصحاب النص حتى يرد نسخ. والرابع استصحاب حكم عند أمر قرنه الشرع به لتكرر ذلك الأمر. والخامس استصحاب الإجماع , أو بالجملة الحكم الشرعي الثابت بالنقل في موضع يظن أن المحكوم عليه قد تغير حكمه لتغيره في نفسه, كبيع أم الولد وما أشبه ذلك. وهذا الاستصحاب يراه أهل الظاهر وهم لازمون في ذلك لأصولهم , لأن من لا يجوز في الشرع النوع من النظر الذي يسمى عند أهل هذه الصناعة بالقياس, فالأشياء كما أنها عندهم على البراءة الأصلية حتى يرد دليل السمع , كذلك إذا ورد دليل الشرع بقي على حكمه وإن تغيرت أوصافه حتى يرد دليل