التمهيد في تخريج الفروع على الأصول

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: التمهيد في تخريج الفروع على الأصول
المؤلف: عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعيّ، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 772هـ)
عدد الأجزاء: 1
 
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة فريد دهره ووحيد عصره جمال الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحِيم بن الْحسن الْإِسْنَوِيّ امتع الله بِبَقَائِهِ الْمُسلمين
الْحَمد لله مزيل أعذار الْمُكَلّفين بإرشاد الْعُقُول وتمهيد الْأُصُول مقيل عثار الْمُجْتَهد مِنْهُم فِيمَا يعْمل بِاجْتِهَادِهِ أَو يَقُول وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة تنيل قَائِلهَا أعظم سَوَّلَ وأبلغ مأمول وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أكْرم نَبِي وأشرف رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه ذَوي السَّيْف المسلول وَالْفضل المبذول وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا
وَبعد فَإِن أصُول الْفِقْه علم عظم نَفعه وَقدره وَعلا شرفه وفخره إِذْ هُوَ مثار الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة ومنار الْفَتَاوَى الفرعية الَّتِي بهَا صَلَاح الْمُكَلّفين معاشا ومعادا ثمَّ إِنَّه الْعُمْدَة فِي الِاجْتِهَاد وأهم مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من الْموَاد كَمَا نَص عَلَيْهِ الْعلمَاء وَوَصفه بِهِ الْأَئِمَّة الْفُضَلَاء وَقد أوضحه الإِمَام فِي الْمَحْصُول فَقَالَ
(1/43)
 
 
أما علم الْكَلَام فَلَيْسَ شرطا فِي الإجتهاد لعدم ارتباطه بِهِ وَكَذَلِكَ علم الْفِقْه لِأَنَّهُ نتيجته بل يشْتَرط فِيهِ أُمُور وَهُوَ أَن يعرف من الْكتاب وَالسّنة مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَيعرف الْمسَائِل الْمجمع عَلَيْهَا والمنسوخ مِنْهَا وَحَال الروَاة لِأَن الْجَهْل بِشَيْء من هَذِه الْأُمُور قد يُوقع الْمُجْتَهد فِي الْخَطَأ وَأَن يعرف اللُّغَة إفرادا وتركيبا لِأَن الْأَدِلَّة من الْكتاب وَالسّنة عَرَبِيَّة وشرائط الْقيَاس لِأَن الِاجْتِهَاد مُتَوَقف عَلَيْهِ وَكَيْفِيَّة النّظر وَهُوَ تَرْتِيب الْمُقدمَات
فَأَما الْخَمْسَة الْأَوَائِل فَيَكْفِي فِيهَا أَن يكون عِنْده تصنيف مُعْتَمد فِي كل وَاحِد مِنْهَا يرجع إِلَيْهِ عِنْد حُدُوث الْوَاقِعَة فَإِذا رَاجع ذَلِك فَلم يجد فِيهَا غلب على ظَنّه نفي وجوده حَتَّى بَالغ الرَّافِعِيّ وَقَالَ إِنَّه يَكْفِي فِي علم السّنة أَن يكون عِنْده سنَن أبي دَاوُد وَالَّذِي قَالَه مُتَّجه فَإِن ظن الْعَدَم يحصل بِعَدَمِ وجوده فِيهِ وَالظَّن هُوَ الْمُكَلف بِهِ فِي الْفُرُوع وَبَالغ النَّوَوِيّ فِي الرَّد عَلَيْهِ فِي تمثيله بسنن أبي دَاوُد لتوهمه من كَلَامه خلاف مُرَاده وَأما اللُّغَة فَالْمُعْتَبر مِنْهَا معرفَة الْمُفْردَات
(1/44)
 
 
الْوَاقِعَة فِي الْكتاب وَالسّنة وَمَعْرِفَة فهم التراكيب من الفاعلية والمفعولية وَالْإِضَافَة وَنَحْو ذَلِك دون دقائق العلمين وَهَذَا الْمِقْدَار يسير جدا وَمَعَ ذَلِك فَالشَّرْط هُوَ الْقُدْرَة على الِاطِّلَاع عَلَيْهِ عِنْد الِاحْتِيَاج اليه لَا حفظه وترتيب الْمُقدمَات أَيْضا يسير
وَأما شَرَائِط الْقيَاس وَهُوَ الْكَلَام فِي شَرَائِط الأَصْل وَالْفرع وشرائط الْعلَّة وأقسامها ومبطلاتها وَتَقْدِيم بَعْضهَا على بعض عِنْد التَّعَارُض فَهُوَ بَاب وَاسع تَتَفَاوَت فِيهِ الْعلمَاء تَفَاوتا كثيرا وَمِنْه يحصل الِاخْتِلَاف غَالِبا مَعَ كَونه بعض أصُول الْفِقْه
فَثَبت بذلك مَا قَالَه الإِمَام أَن الرُّكْن الْأَعْظَم وَالْأَمر الأهم فِي الِاجْتِهَاد إِنَّمَا هُوَ علم أصُول الْفِقْه
وَكَانَ إمامنا الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ هُوَ المبتكر لهَذَا الْعلم بِلَا نزاع وَأول من صنف فِيهِ بِالْإِجْمَاع وتصنيفه الْمَذْكُور فِيهِ مَوْجُود بِحَمْد الله تَعَالَى وَهُوَ الْكتاب الْجَلِيل الْمَشْهُور المسموع عَلَيْهِ الْمُتَّصِل إِسْنَاده الصَّحِيح إِلَى زَمَاننَا الْمَعْرُوف بالرسالة الَّذِي أرسل الإِمَام عبد الرَّحْمَن بن مهْدي من خُرَاسَان إِلَيّ الشَّافِعِي بِمصْر فصنفه لَهُ وتنافس فِي تَحْصِيله عُلَمَاء عصره
على أَنه قد قيل إِن بعض من تقدم على الشَّافِعِي نقل عَنهُ إِلْمَام بِبَعْض مسَائِله فِي أثْنَاء كَلَامه على بعض الْفُرُوع وَجَوَاب عَن سُؤال سَائل لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع
وَهل يُعَارض مقَالَة قيلت فِي بعض الْمسَائِل بتصنيف مَوْجُود مسموع
(1/45)
 
 
مستوعب لأبواب الْعلم
وَكنت قَدِيما قد اعتنيت بِهَذَا الْعلم وراجعت غَالب مصنفاته المبسوطة والمتوسطة والمختصره من زمن إمامنا المبتكر لَهُ وَإِلَى زَمَاننَا حَتَّى صنفت فِيهِ بِحَمْد الله تَعَالَى مَا اجْتمع فِيهِ من قَوَاعِد هَذَا الْعلم ومسائله ومقاصده ومذاهب أئمته مَا أَظن أَنه لم يجْتَمع فِي غَيره مَعَ صغر حجمه بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ فَإِن تَطْوِيل مبسوطاته إِنَّمَا هُوَ بِذكر أَدِلَّة أَكْثَرهَا ضَعِيف وَأما مسَائِله ومقاصده فمحصورة مضبوطة
ثمَّ إِنِّي استخرت الله تَعَالَى فِي تأليف كتاب يشْتَمل على غَالب مسَائِله وعَلى الْمَقْصُود مِنْهُ وَهُوَ كَيْفيَّة اسْتِخْرَاج الْفُرُوع مِنْهَا
فأذكر أَولا الْمَسْأَلَة الْأُصُولِيَّة بِجَمِيعِ أطرافها منقحة مهذبة ملخصة
ثمَّ اتبعها بِذكر شَيْء مِمَّا يتَفَرَّع عَلَيْهَا ليَكُون ذَلِك تَنْبِيها على مَا لم أذكرهُ
وَالَّذِي أذكرهُ على أَقسَام
فَمِنْهُ مَا يكون جَوَاب أَصْحَابنَا فِيهِ مُوَافقا للقاعدة
وَمِنْه مَا يكون مُخَالفا لَهَا
وَمِنْه مَا لم أَقف فِيهِ على نقل بِالْكُلِّيَّةِ فأذكر فِيهِ مَا تَقْتَضِيه قاعدتنا الْأُصُولِيَّة ملاحظا أَيْضا للقاعدة المذهبية والنظائر الفروعية وَحِينَئِذٍ يعرف النَّاظر فِي ذَلِك مَأْخَذ مَا نَص عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وأصلوه وأجملوه
(1/46)
 
 
أَو فصلوه ويتنبه بِهِ على اسْتِخْرَاج مَا أهملوه وَيكون سِلَاحا وعدة للمفتين وعمدة للمدرسين خُصُوصا الْمَشْرُوط فِي حَقهم إِلْقَاء العلمين وَالْقِيَام بالوظيفتين فَإِن الْمَذْكُور جَامع لذَلِك واف بِمَا هُنَالك لَا سِيمَا أَن الْفُرُوع الْمشَار إِلَيْهَا مهمة مَقْصُودَة فِي نَفسهَا بِالنّظرِ وَكثير مِنْهَا قد ظَفرت بِهِ فِي كتب غَرِيبَة أَو عثرت بِهِ فِي غير مظنته أَو استخرجته أَنا وَصورته وكل ذَلِك ستراه مُبينًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَقد مهدت بكتابي هَذَا طَرِيق التَّخْرِيج لكل ذِي مَذْهَب وَفتحت بِهِ بَاب التَّفْرِيع لكل ذِي مطلب فلتستحضر أَرْبَاب الْمذَاهب قواعدها الْأُصُولِيَّة وتفاريعها ثمَّ تسلك مَا سلكته فَيحصل بِهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى لجميعهم التمرن على تَحْرِير الْأَدِلَّة وتهذيبها والتبين لمأخذ تضعيفها وتصويبها ويتهيأ لأكْثر المستعدين الملازمين للنَّظَر فِيهِ نِهَايَة الأرب وَغَايَة الطّلب وَهُوَ تمهيد الْوُصُول إِلَى مقَام اسْتِخْرَاج الْفُرُوع من قَوَاعِد الْأُصُول والتعريج إِلَى ارتقاء مقَام ذَوي التَّخْرِيج حقق الله تَعَالَى ذَلِك بمنه وَكَرمه فَلذَلِك سميته بالتمهيد
وَالله المسؤول أَن ينفع بِهِ مُؤَلفه وكاتبه والناظر فِيهِ وَجَمِيع الْمُسلمين بمنه وَكَرمه
ثمَّ شرعت فِي أثْنَاء ذَلِك فِي كتاب آخر على هَذَا الأسلوب بِالنِّسْبَةِ إِلَى علم الْعَرَبيَّة مُسَمّى بالكوكب الدُّرِّي ليقوى بِهِ الاستمداد والتدريج وَيتم بِهِ الاستعداد للتخريج أعَان الله تَعَالَى على ذَلِك كُله بحوله وقوته لارب غَيره وَلَا مرجو سواهُ وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
(1/47)
 
 
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الحكم الشَّرْعِيّ وأقسامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
 
مَسْأَلَة 1
 
الحكم الشَّرْعِيّ خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين بالاقتضاء أَو التَّخْيِير
وَزَاد ابْن الْحَاجِب فِيهِ أَو الْوَضع ليدْخل جعل الشَّيْء سَببا أَو شرطا أَو مَانِعا كجعل الله تَعَالَى زَوَال الشَّمْس مُوجبا لِلظهْرِ وَجعله الطَّهَارَة شرطا لصِحَّة الصَّلَاة والنجاسة مَانِعَة من صِحَّتهَا فَإِن الْجعل الْمَذْكُور حكم شَرْعِي لأَنا إِنَّمَا استفدناه من الشَّارِع وَلَيْسَ فِيهِ طلب وَلَا تَخْيِير لِأَنَّهُ لَيْسَ من أفعالنا حَتَّى يطْلب منا أَو نخير فِيهِ
والأولون تكلفوا فِي إِدْخَال هَذِه الْأَشْيَاء فِي الْحَد
(1/48)
 
 
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع كَون الحكم الشَّرْعِيّ لَا بُد من تعلقه بالمكلفين 1 ان وطىء الشُّبْهَة الْقَائِمَة بالفاعل وَهُوَ مَا إِذا وطىء أَجْنَبِيَّة على ظن أَنَّهَا زَوجته مثلا هَل يُوصف وَطْؤُهُ بِالْحلِّ أَو الْحُرْمَة وَإِن انْتَفَى عَنهُ الْإِثْم أَو لَا يُوصف بِشَيْء مِنْهَا
فِيهِ ثَلَاثَة أوجه أَصَحهَا الثَّالِث وَبِه أجَاب النَّوَوِيّ فِي كتاب النِّكَاح من فَتَاوِيهِ لِأَن الْحل وَالْحُرْمَة من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَالْحكم الشَّرْعِيّ هُوَ الْخطاب الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين
والساهي والمخطىء وَنَحْوهمَا لَيْسُوا مكلفين
وَجزم فِي الْمُهَذّب بِالْحُرْمَةِ وَقَالَ بِهِ جمَاعَة كَثِيرَة من أَصْحَابنَا وَالْخلاف يجْرِي فِي قتل الْخَطَأ وَفِي أكل الْمُضْطَر للميتة
وَمن أطلق عَلَيْهِ التَّحْرِيم أَو الْإِبَاحَة لم يُقيد التَّعَلُّق بالمكلفين بل بالعباد ليدْخل فِيهِ أَيْضا صِحَة صَلَاة الصَّبِي وَغَيرهَا من الْعِبَادَات وَوُجُوب الغرامة بإتلافه وَإِتْلَاف الْمَجْنُون والبهيمة والساهي وَنَحْو ذَلِك مِمَّا ينْدَرج فِي خطاب الْوَضع كَمَا سَيَأْتِي إيضاحه فِي أَوَاخِر هَذِه الْمُقدمَة
(1/49)
 
 
مَسْأَلَة 2
 
الْفِقْه الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية واحترزنا بِالْأَحْكَامِ عَن الْعلم بالذوات كزيد وبالصفات كسواده وبالأفعال كقيامه
وَعبر الْآمِدِيّ بقوله هُوَ الْعلم بجملة غالبة من الْأَحْكَام وَهُوَ تَعْبِير حسن
فَإِن ظَاهر إِطْلَاق الْجمع الْمحلى بأل عُمُوم الْعلم بِكُل فَرد وَذَلِكَ لَا يتَصَوَّر فِي أحد من الْمُجْتَهدين وَلَا غَيرهم
واحترزنا بالشرعية عَن الْعَقْلِيَّة كالحسابيات والهندسة وَعَن اللُّغَوِيَّة كرفع الْفَاعِل وَكَذَلِكَ نِسْبَة الشَّيْء إِلَى غَيره إِيجَابا كقام زيد أَو سلبا نَحْو لم يقم
واحترزنا بالعملية عَن العلمية وَهِي أصُول الدّين فَإِن الْمَقْصُود مِنْهَا هُوَ الْعلم الْمُجَرّد أَي الِاعْتِقَاد الْمسند إِلَى الدَّلِيل
وبالمكتسب عَن علم الله تَعَالَى والمكتسب مَرْفُوع على الصّفة للْعلم
(1/50)
 
 
وبقولنا من أدلتها عَن علم الْمَلَائِكَة وَعلم الرَّسُول الْحَاصِل بِالْوَحْي فَإِن ذَلِك كُله لَا يُسمى فقها بل علما
وبقولنا التفصيلية عَن الْعلم الْحَاصِل للمقلد فِي الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة فَإِنَّهُ لَا يُسمى فقها بل تقليدا لِأَنَّهُ أَخذه من دَلِيل إجمالي مطرد فِي كل مَسْأَلَة
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا علم أَن هَذَا الحكم الْمعِين قد أفتى بِهِ الْمُفْتِي وَعلم أَن كل مَا أفتاه بِهِ فَهُوَ حكم الله تَعَالَى فِي حَقه فَيعلم بِالضَّرُورَةِ أَن ذَلِك الْمعِين حكم الله تَعَالَى فِي حَقه وَيفْعل هَكَذَا فِي كل حكم
وَمَا ذَكرْنَاهُ حدا وشرحا هُوَ أقرب إِلَى الصَّوَاب من غَيره وَإِن كَانَ فِيهِ أُمُور ذكرتها فِي الشَّرْح
وَقد أوردوا على هَذَا الْحَد أَن غَالب الْفِقْه مظنون لكَونه مَبْنِيا على العمومات وأخبار الْآحَاد والأقيسة وَغَيرهَا من المظنونات فَكيف يعبرون عَنهُ بِالْعلمِ
وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ لما كَانَ المظنون يجب الْعَمَل بِهِ كَمَا فِي الْمَقْطُوع رَجَعَ إِلَى الْعلم بالتقرير السَّابِق
إِذا علمت ذَلِك فَالَّذِي ذَكرُوهُ فِي ضَابِط الْفِقْه يتَفَرَّع عَلَيْهِ مسَائِل كَثِيرَة كالأوقاف والوصايا والأيمان وَالنُّذُور والتعليقات وَغَيرهَا فَنَقُول مثلا
(1/51)
 
 
إِذا وقف على الْفُقَهَاء فَقَالَ القَاضِي حُسَيْن فِي الْوَقْف من إِحْدَى تعليقتيه صرف إِلَى من يعرف من كل علم شَيْئا فَأَما من تفقه شهرا أَو شَهْرَيْن فَلَا وَلَو وقف على المتفقهة صرف إِلَى من تفقه يَوْمًا مثلا لِأَن الِاسْم صَادِق عَلَيْهِ
وَقَالَ فِي التعليقة الْأُخْرَى يعْطى لمن حصل من الْفِقْه شَيْئا يَهْتَدِي بِهِ إِلَى الْبَاقِي قَالَ وَيعرف بِالْعَادَةِ
وَقَالَ فِي التَّهْذِيب فِي الْوَصِيَّة إِنَّه يصرف لمن حصل من كل نوع وَكَأن هَذَا هُوَ مُرَاد القَاضِي بقوله من كل علم
وَقَالَ فِي التَّتِمَّة فِي بَاب الْوَصِيَّة إِنَّه يرجع فِيهِ إِلَى الْعَادة وَعبر فِي كتاب الْوَقْف بقوله إِلَى من حصل طرفا وَإِن لم يكن متبحرا فقد رُوِيَ أَن من حفظ أَرْبَعِينَ حَدِيثا يعد فَقِيها
(1/52)
 
 
وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء يدْخل الْفَاضِل فِي الْفِقْه وَلَا يدْخل الْمُبْتَدِي من شهر وَنَحْوه والمتوسط بَينهمَا دَرَجَات يجْتَهد الْمُفْتِي فِيهَا والورع لهَذَا الْمُتَوَسّط ترك الْأَخْذ انْتهى
وَمَا ذكره الْغَزالِيّ قد نَقله عَنهُ النَّوَوِيّ فِي كتاب البيع من شرح الْمُهَذّب وَأقرهُ وغالب الْكتب المطولة كالحاوي وَالْبَحْر وتعليقة االقاضي أبي الطّيب وَغَيرهَا لَيْسَ فِيهَا تعرض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة
إِذا علمت ذَلِك فقد وَقع هُنَا للرافعي شَيْء عَجِيب تبعه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَنَقله عَنهُ ايضا ابْن الرّفْعَة ساكتا عَلَيْهِ
(1/53)
 
 
فَقَالَ فِي بَاب الْوَقْف وَيصِح الْوَقْف على المتفقهة وهم المشتغلون بتحصيل الْفِقْه مبتديهم ومنتهيهم وعَلى الْفُقَهَاء وَيدخل فِيهِ من حصل مِنْهُ شَيْئا وَإِن قل
هَذَا كَلَامه
وَمَا ذكره فِي دُخُول مُحَصل الشَّيْء إِن قل فِي مُسَمّى الْفَقِيه حَتَّى يسْتَحق من حصل الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة مُخَالف لجَمِيع مَا سبق وَلَا أعلم أحدا ذكره وكما أَنه مُخَالف للمنقول فِي الْمَذْهَب فَهُوَ مُخَالف للقاعدة النحوية لِأَن الْفُقَهَاء جمع فَقِيه وفقيه اسْم فَاعل من فقه بِضَم الْقَاف إِذا صَار الْفِقْه لَهُ سجية وَأما الْمَكْسُورَة فَمَعْنَاه فهم والمفتوح مَعْنَاهُ أَنه سبق غَيره إِلَى الْفَهم على قَاعِدَة أَفعَال المغالبة وَقِيَاس اسْم فاعلهما فَاعل وَهُوَ فاقه
وَقد أعَاد الرَّافِعِيّ الْمَسْأَلَة فِي بَاب الْوَصِيَّة وَزَاد شَيْئا آخر رددنا بعضه عَلَيْهِ أَيْضا فِي كتاب الْمُهِمَّات فليطلب مِنْهُ
وَاعْلَم أَن الظَّاهِرِيَّة لَا يسْتَحقُّونَ مِمَّا هُوَ مرصد باسم الْفُقَهَاء
(1/54)
 
 
شَيْئا كَذَا نَقله ابْن الصّلاح فِي فَوَائِد رحلته عَن ابْن سُرَيج وَأجَاب بِهِ جمَاعَة من اصحابنا وَقد انْتهى الْكَلَام على هَذِه الْمَسْأَلَة
وَأما وجوب الْعَمَل فِي الْفُرُوع بالمظنون فيتفرع عَلَيْهِ فروع كَثِيرَة بَعْضهَا مُوَافق للقاعدة كظن طَهَارَة المَاء وَالثَّوْب فِي الِاجْتِهَاد وَكَذَا اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَدخُول وَقت الصَّلَاة وَالصَّوْم وَغير ذَلِك
وَمِنْهَا إِذا جومعت الْمَرْأَة وأنزلت ثمَّ خرج مِنْهَا مَاء الرجل بعد غسلهَا فَإِن الْغسْل يجب عَلَيْهَا لِأَن الظَّاهِر اخْتِلَاط الماءين فَيخرج مِنْهَا مَاؤُهَا أَيْضا كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ حكما وتعليلا
وَمن الْفُرُوع الْمُخَالفَة
مَا إِذا قَالَ لَهُ عَليّ ألف فِي علمي أَو فِي ظَنِّي لزمَه فِي الأول دون الثَّانِي كَذَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب الاول من ابواب الْإِقْرَار
فَلَو قَالَ فِي رَأْيِي فَجَوَابه يعلم مِمَّا أذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي أول
(1/55)
 
 
الِاشْتِرَاك فَرَاجعه
وَمِنْهَا إِذا تَيَقّن الطَّهَارَة وَظن الحَدِيث فَإنَّا لَا نَأْخُذ بِالظَّنِّ الْمَذْكُور بل يستصحب يَقِين الطَّهَارَة بِخِلَاف عَكسه وَهُوَ مَا إِذا تَيَقّن الْحَدث وَظن الطَّهَارَة فَإِنَّهُ يَأْخُذ بِالطَّهَارَةِ المظنونة لرجحانها فَإِن اسْتَوَى الطرفان وَهُوَ الشَّك لم نَأْخُذ بِهِ
كَذَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الْكَبِير وَمَا ذكره فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قد تبعه عَلَيْهِ صَاحب الْحَاوِي الصَّغِير وَمُقْتَضى كَلَام الْأَصْحَاب أَنه لَا يُؤْخَذ بِالظَّنِّ وَأَنه لَا فرق بَين التَّسَاوِي والرجحان وَبِه صرح النَّوَوِيّ فِي الدقائق وَنَقله فِي الذَّخَائِر عَن الْأَصْحَاب فَقَالَ قَالَ أَصْحَابنَا يُؤْخَذ فِي الطَّرفَيْنِ بِالْيَقِينِ لَا بِالظَّنِّ ثمَّ قَالَ وَيحْتَمل عِنْدِي تخريجهما على الْقَوْلَيْنِ فِي تعَارض الأَصْل وَالظَّاهِر
(1/56)
 
 
وَلأَجل ذَلِك قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة إِن مَا قَالَه الرَّافِعِيّ لم نره لغيره
وَاعْلَم أَن صَاحب الشَّامِل وَغَيره قد قَالُوا إِنَّمَا قُلْنَا ينْتَقض الْوضُوء بِالنَّوْمِ مُضْطَجعا لِأَن الظَّاهِر خُرُوج الْحَدث وَحِينَئِذٍ يصدق أَن يُقَال رفعنَا يَقِين الطَّهَارَة بطن الْحَدث لَا بِالْعَكْسِ وَهَذَا عكس مَا يَقُول الرَّافِعِيّ
وَسبب الْفرق أَن الصَّلَاة فِي ذمَّته بِيَقِين
فَتَأمل مَا ذكرته نقلا واستدلالا فَإِنَّهُ مُهِمّ
وَذكر أَيْضا نَحوه الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيب فَقَالَ إِذا تَيَقّن الطَّهَارَة وتيقن أَنه رَأْي رُؤْيا بعْدهَا وَلَا يذكر هَل كَانَ مُضْطَجعا أم لَا فَعَلَيهِ الْوضُوء وَلَا يحمل على النّوم قَاعِدا لِأَنَّهُ خلاف الْمُعْتَاد
هَذَا كَلَامه وَلَا شكّ أَن الرَّافِعِيّ قصد مَا ذكره ابْن الصّباغ وَالْبَغوِيّ فانعكس عَلَيْهِ
وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا مَا سبق نَقله عَن الرَّافِعِيّ فِي خُرُوج مَاء الْمَرْأَة بعد إنزالها واغتسالها وَقد حذف النَّوَوِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة من الرَّوْضَة وَكَانَ الصَّوَاب ذكرهَا والتنبيه على مَا فِيهَا
(1/57)
 
 
مَسْأَلَة 3
 
الْفَرْض وَالْوَاجِب عندنَا مُتَرَادِفَانِ
وَقَالَت الْحَنَفِيَّة إنَّهُمَا متباينان فَقَالُوا إِن ثَبت التَّكْلِيف بِدَلِيل قَطْعِيّ بِالْكتاب وَالسّنة المتواترة فَهُوَ الْفَرْض كالصلوات الْخمس وَإِن ثَبت بِدَلِيل ظَنِّي كَخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس المظنون فَهُوَ الْوَاجِب ومثلوه بالوتر على قاعدتهم
فَإِن ادعوا أَن التَّفْرِقَة شَرْعِيَّة أَو لغوية فَلَيْسَ فِي اللُّغَة وَلَا فِي الشَّرْع مَا يَقْتَضِيهِ
وَإِن كَانَت اصطلاحية فَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح
إِذا علمت ذَلِك فَمن الْفُرُوع الْمُخَالفَة لهَذِهِ الْقَاعِدَة
1 - أَنه إِذا قَالَ الطَّلَاق لَازم لي أَو وَاجِب عَليّ طلقت زَوجته للْعُرْف بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ فرض عَليّ لعدم الْعرف فِيهِ
كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي كتاب الطَّلَاق عَن زيادات الْعَبَّادِيّ وَنقل عَن البوشنجي أَن الْجَمِيع كنايات ثمَّ نقل عَن الْأَكْثَرين أَن قَوْله طَلَاقك لَازم لي صَرِيح
(1/58)
 
 
مَسْأَلَة 4
 
والبطلان وَالْفساد عندنَا مُتَرَادِفَانِ فَنَقُول مثلا بطلت الصَّلَاة وفسدت
وَقَالَ أَبُو حنيفَة إنَّهُمَا متباينان
فالباطل عِنْده مالم يشرع بِالْكُلِّيَّةِ كَبيع مَا فِي بطُون الْأُمَّهَات
وَالْفَاسِد مَا يشرع أَصله وَلَكِن امْتنع لاشْتِمَاله على وصف كالربا
إِذا علمت ذَلِك فقد ذكر أَصْحَابنَا فروعا مُخَالفَة لهَذِهِ الْقَاعِدَة فرقوا فِيهَا بَين الْفَاسِد وَالْبَاطِل
وَقد حصرها النَّوَوِيّ فِي تصنيفه الْمُسَمّى بالدقائق فِي أَرْبَعَة وَهُوَ الْحَج وَالْعَارِية وَالْكِتَابَة وَالْخلْع وَلم يذكر صورها
فَأَما تَصْوِير الْكِتَابَة وَالْخلْع فَوَاضِح فَإِن الْبَاطِل مِنْهُم مَا كَانَ على عوض غير مَقْصُود كَالدَّمِ أَو رَجَعَ إِلَى خلل فِي الْعَاقِد كالصغر والسفه وَالْفَاسِد خِلَافه
وَحكم الْبَاطِل أَنه لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَال وَالْفَاسِد يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْعتْق وَالطَّلَاق وَيرجع الزَّوْج وَالسَّيِّد بِالْقيمَةِ
وَأما الْحَج فَيبْطل بِالرّدَّةِ وَيفْسد بِالْجِمَاعِ
وَحكم الْبَاطِل أَنه لَا يجب الْمُضِيّ فِيهِ بِخِلَاف الْفَاسِد هَذَا صُورَة طريان الْفساد
وَأما الْفَاسِد ابْتِدَاء فصورته إِذا أحرم بِالْعُمْرَةِ ثمَّ جَامع
(1/59)
 
 
وَأدْخل عَلَيْهِ الْحَج فَإِن الْأَصَح أَنه ينْعَقد فَاسِدا وَقيل صَحِيحا ثمَّ يفْسد وَقيل بل صَحِيحا وتستمر صِحَّته وَقيل لَا ينْعَقد بِالْكُلِّيَّةِ
وَأما إِذا أحرم مجامعا فَإِن الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه ينْعَقد أَيْضا فَاسِدا
كَذَا قَالَه فِي بَاب مَوَاقِيت الْحَج قبيل الْكَلَام على الْمِيقَات المكاني وَلَكِن حذفه من الرَّوْضَة وَقد ذكره الرَّافِعِيّ فِي مَوْضِعه وَهُوَ بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام وَلم يصحح شَيْئا وَصحح النَّوَوِيّ من زوائده عدم الِانْعِقَاد
واما الْعَارِية فقد صورها الْغَزالِيّ فِي الْوَسِيط فِي بَاب الْعَارِية فَإِنَّهُ حكى الْخلاف فِي صِحَة إِعَارَة الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك مَا نَصه فَإِن أبطلناها فَفِي طَريقَة الْعرَاق أَنَّهَا مَضْمُونَة لِأَنَّهَا إِعَارَة فَاسِدَة وَفِي طَرِيق المراوزة أَنَّهَا غير مَضْمُونَة لِأَنَّهَا غير قَابِلَة للإعارة فَهِيَ بَاطِلَة
وَمَا ذكره النَّوَوِيّ من حصر التَّفْرِقَة فِي الْأَرْبَعَة مَمْنُوع بل يتَصَوَّر أَيْضا الْفرق فِي كل عقد صَحِيح غير مَضْمُون كَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَة وَغَيرهمَا
فَإِنَّهُ لَو صدر من سَفِيه أَو صبي وَتَلفت الْعين فِي يَده المسأجر والمتهب وَجب الضَّمَان وَلَو كَانَ فَاسِدا لم يجب ضَمَانهَا كَمَا صرح هُوَ بِهِ فِي بَاب الْإِجَارَة وَبَاب الْهِبَة لِأَن فَاسد كل عقد كصحيحه فِي الضَّمَان وَعَدَمه
فَإِن قلت بل هَذَا العقد فَاسد وَلَا أسلم فِيهِ التَّفْرِقَة
قلت فَيلْزم فَسَاد هَذِه الْقَاعِدَة الْمَشْهُورَة لَا سِيمَا وَعقد السَّفِيه هُنَا كعقده للكتابة وَقد جعلوها بَاطِلَة
(1/60)
 
 
ثمَّ إِن أَصْحَابنَا قد ذكرُوا فِي البيع أَيْضا هَذِه التَّفْرِقَة وَقد تعرض لَهُ النَّوَوِيّ فِي البيع من شرح الْمُهَذّب فِي بَاب مَا يفْسد البيع من الشَّرْط فَإِنَّهُ ذكر أَن البيع الْفَاسِد يملك عِنْد أبي حنيفَة حَتَّى إِذا وطىء فِيهِ فَلَا حد ثمَّ قَالَ هَذَا إِذا اشْتَرَاهُ بِشَرْط فَاسد أَو خمر أَو خِنْزِير فَإِن اشْتَرَاهُ بميتة أَو دم أَو عذرة أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا لَيْسَ هُوَ مَالا عِنْد اُحْدُ من النَّاس لم يملكهُ أصلا هَذَا كَلَامه
وَاعْلَم أَن هَذِه التَّفْرِقَة يتَّجه مَجِيء مثلهَا فِي تَفْرِيق الصَّفْقَة حَتَّى إِذا أجَاز فَلَا يُجِيز إِلَّا بِجَمِيعِ الثّمن فِي الدَّم وَنَحْوه
مَسْأَلَة 5
 
ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الْمُبَاح حسن
وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة لَيْسَ بِحسن وَلَا قَبِيح
وَالْخلاف نَشأ من تفسيرهم للأفعال
فالأشاعرة قَالُوا الْفِعْل إِن نهى الشَّارِع عَنهُ كَانَ قبيحا محرما كَانَ اَوْ مَكْرُوها
(1/61)
 
 
وَإِن لم ينْه عَنهُ كَانَ حسنا سَوَاء أَمر بِهِ كالواجب وَالْمَنْدُوب أم لَا كالمباح
وَقَالَ جُمْهُور الْمُعْتَزلَة مَا لَيْسَ لَهُ ان يَفْعَله فَهُوَ الْقَبِيح وَإِلَّا فَهُوَ الْحق
فانتظم من الحدين أَن الْمُبَاح حسن عِنْدهم وَإِن اخْتلفَا فِي الْمَكْرُوه
وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة إِن اشْتَمَل الْفِعْل على صفة توجب الذَّم وَهُوَ الْحَرَام فقبيح أَو على صفة توجب الْمَدْح كالواجب وَالْمَنْدُوب فَحسن وَمَا لم يشْتَمل على احدهما كالمكروه والمباح فَلَيْسَ بِحسن وَلَا قَبِيح
فتلخص أَن قَائِل هَذَا مُخَالف لمن تقدم فِي دُخُول الْمُبَاح وَكَذَلِكَ فِي الْمَكْرُوه أَيْضا
وَفَائِدَة الْخلاف فِيمَا إِذا قطع يَد الْجَانِي قصاصا فَمَاتَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَان فِيهِ عندنَا لقَوْله تَعَالَى {مَا على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيل} والمحسن من أَتَى بالْحسنِ فيندرج فِي الْآيَة عِنْد من قَالَ بِأَنَّهُ حسن
وَقَالَ أَبُو حنيفَة يضمن
وَكَذَلِكَ يَأْتِي هَذَا الْعَمَل فِي كل مَوضِع كَانَ الْقصاص مَكْرُوها
(1/62)
 
 
مَسْأَلَة 6
 
الْعِبَادَة إِن وَقعت فِي وَقتهَا الْمعِين لَهَا أَولا شرعا وَلم تسبق بِأُخْرَى على نوع من الْخلَل كَانَت أَدَاء وَإِن سبقت بذلك كَانَت إِعَادَة وَإِن وَقعت بعد الْوَقْت الْمَذْكُور كَانَت قَضَاء
واحترزنا بقولنَا فِي الْأَدَاء أَولا عَن قَضَاء رَمَضَان فَإِنَّهُ مُؤَقّت بِمَا قبل رَمَضَان الَّذِي بعده وَمَعَ ذَلِك هُوَ قَضَاء لِأَنَّهُ تَوْقِيت ثَان لَا تَوْقِيت أول
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا إِذا احرم بِالْحَجِّ ثمَّ أفْسدهُ فَإِن المأتي بِهِ بعد ذَلِك يكون قَضَاء كَمَا صرح بِهِ الْأَصْحَاب
وَسَببه أَنه بِمُجَرَّد إِحْرَامه يضيق عَلَيْهِ الْإِتْيَان بِهِ فِي ذَلِك الْعَام اتِّفَاقًا وَلِهَذَا لَا يجوز لَهُ ابقاؤه على إِحْرَامه إِلَى عَام آخر
2 - وَمِنْهَا إِذا أحرم بِالصَّلَاةِ فِي وَقتهَا ثمَّ أفسدها وأتى بهَا ثَانِيًا فِي الْوَقْت فَإِنَّهُ يكون أَيْضا قَضَاء كَذَا صرح بِهِ القَاضِي الْحُسَيْن فِي تَعْلِيقه وَالْمُتوَلِّيّ فِي التَّتِمَّة وَالرُّويَانِيّ فِي الْبَحْر كلهم
(1/63)
 
 
فِي صفة الصَّلَاة فِي الْكَلَام على النِّيَّة
وَسَببه أَن وَقت الْإِحْرَام بهَا قد فَاتَ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَو أَرَادَ الْخُرُوج مِنْهَا لم يجز على الْمَعْرُوف
وَخَالفهُم الشَّيْخ أَبُو اسحق الشِّيرَازِيّ فَجزم بِأَنَّهَا تكون أَدَاء ذكر ذَلِك فِي كتاب اللمع لَهُ وَهُوَ من تصانيفه فِي أصُول الْفِقْه
وَقِيَاس الأول أَن ذَلِك لَو وَقع فِي الْجُمُعَة لامتنع استئنافها لِأَن الْجُمُعَة لَا تقضى وَأَنه لَو وَقع ذَلِك فِي الصَّلَاة الْمَقْصُورَة لامتنع قصرهَا إِذا منعنَا قصر الْفَوَائِت
 
مَسْأَلَة 7
 
إِذا ظن الْمُكَلف أَنه لَا يعِيش إِلَى آخر وَقت الْعِبَادَة الموسعة تضيقت الْعِبَادَة عَلَيْهِ وَلَا يجوز إخْرَاجهَا عَن الْوَقْت الَّذِي غلب على ظَنّه أَنه لَا يبْقى بعده لِأَن التَّكْلِيف فِي الْفُرُوع دائر مَعَ الظَّن
وَقد استفدنا من هَذَا التَّعْلِيل أَن ذكر الْمَوْت وَقع على سَبِيل الْمِثَال وَأَن الضَّابِط فِي ذَلِك هُوَ ظن الْإِخْرَاج عَن وقته بِأَيّ سَبَب كَانَ إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - ان تعتاد الْمَرْأَة طرُو الْحيض عَلَيْهَا فِي أثْنَاء الْوَقْت من يَوْم معِين فَإِن الْفَرْض يتضيق عَلَيْهَا أَيْضا كَمَا نبه عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الْكَلَام
(1/64)
 
 
على مبادرة الْمُسْتَحَاضَة
 
مَسْأَلَة 8
 
إِذا لم يُبَادر الْمُكَلف فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة وَبَان لَهُ خطأ ظَنّه بِأَن عَاشَ فَفعل بعد الْوَقْت الَّذِي ظَنّه فَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر قَضَاء اعْتِبَارا بظنه الْمُقْتَضِي للتضييق
وَقَالَ الْغَزالِيّ يكون أَدَاء لِأَن ظَنّه قد بَان لَهُ أَنه خطأ وَيتَخَرَّج على الْقَاعِدَة فروع
أَحدهَا إِذا بَاعَ مَال أَبِيه مثلا على ظن أَنه حَيّ فَبَان مَيتا فَفِيهِ قَولَانِ مدركهما مَا ذَكرْنَاهُ
وَالْقَوْلَان يجريان كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ فِيمَا إِذا زوج أمة أَبِيه أَو بَاعَ العَبْد على أَنه آبق أَو مكَاتب فَبَان رَاجعا أَو فاسخا للكتابة
(1/65)
 
 
الثَّانِي إِذا بَاعَ شَيْئا وَهُوَ يظنّ أَنه لغيره فَبَان لنَفسِهِ فقد جزم إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كتاب الرّجْعَة من النِّهَايَة بِالصِّحَّةِ وَفرق بَين هَذَا وَبَين الْمَسْأَلَة السَّابِقَة بِأَن الْجَهْل هُنَاكَ قد اسْتندَ إِلَى أصل وَهُوَ بَقَاء ملك الْأَب فقوي فَأبْطل
الثَّالِث إِذا وطىء أمة نَفسه جَاهِلا بِأَنَّهَا لَهُ فعقلت مِنْهُ فَفِي ثُبُوت الِاسْتِيلَاد وَجْهَان أصَحهمَا الثُّبُوت كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْغَصْب وَكتاب الْوَصِيَّة
الرَّابِع إِذا وطىء زَوجته ظَانّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّة فَإِنَّهَا تحل لمن طَلقهَا ثَلَاثًا كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَلَا نزاع فِي أَنه يَأْثَم بل يجب الْحَد على وَجه حَكَاهُ ابْن الصّلاح فِي فَوَائِد رحلته
الْخَامِس إِذا حمل نَجَاسَة ظَانّا انها من الطاهرات وفيهَا قَولَانِ اصحهما بطلَان الصَّلَاة
السَّادِس إِذا أكل مُعْتَقدًا أَنه ليل ثمَّ بَان أَنه نَهَار فَإِنَّهُ يلْزمه الْقَضَاء
السَّابِع إِذا رَأَوْا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صَلَاة شدَّة الْخَوْف ثمَّ بَان أَنه لَيْسَ بعدو أَو تحققوا أَنه عَدو وَلَكِن بَان أَنه كَانَ بَينهم
(1/66)
 
 
حَائِل من خَنْدَق أَو نَار أم مَاء أَو بَان أَنه كَانَ بقربهم حصن كَانَ يُمكنهُم التحصن فِيهِ أَو ظنُّوا أَن الْكفَّار أَكثر من الضعْف فصلوا منهزمين ثمَّ بَان خِلَافه فَفِي الْجَمِيع قَولَانِ أصَحهمَا وجوب الْقَضَاء
الثَّامِن مسَائِل مُتَعَلقَة بالعدة نقدم عَلَيْهَا مُقَدّمَة وَهِي أَن الْحرَّة تَعْتَد بِثَلَاثَة أَقراء والرقيقة والمبعضة إِذا وطِئت بِنِكَاح فَاسد أَو شُبْهَة نِكَاح تَعْتَد بقرءين كَمَا لَو طلقت وَإِن وطِئت بِشُبْهَة ملك الْيَمين استبرأت بقرء وَاحِد
إِذا تقرر هَذَا فَلَو وطىء أمة أَجْنَبِي يَظُنهَا أمته لَزِمَهَا قرء وَاحِد وَلَو ظَنّهَا زَوجته الْمَمْلُوكَة فَهَل يلْزمهَا قرء أم قرءان اعْتِبَارا بظنه وَجْهَان أصَحهمَا قرءان وَإِن ظَنّهَا زَوجته الْحرَّة فَهَل يجب قرء وَاحِد أم اثْنَان أم ثَلَاثَة فِيهِ اوجه أَصَحهَا الثَّالِث
هَذَا كُله إِذا وطىء أمة
فَإِن وطىء حرَّة نظر إِن ظَنّهَا أمته لَزِمَهَا ثَلَاثَة أَقراء لِأَن الظَّن لَا يُؤثر فِي الِاحْتِيَاط دون المساهلة وَقيل يَجِيء الْوَجْهَانِ فِي أَنا نعتبر ظَنّه أَو الْوَاقِع وَإِن ظَنّهَا زَوجته الْمَمْلُوكَة فَوَجْهَانِ أشبههما كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ النّظر إِلَى ظَنّه لِأَن الْعدة لحقته فعلى هَذَا يجب قرءان وَالثَّانِي ثَلَاثَة نظرا إِلَى الْوَاقِع
(1/67)
 
 
مَسْأَلَة 9
 
الْأَمر بِالْأَدَاءِ هَل هُوَ أَمر بِالْقضَاءِ على تَقْدِير خُرُوج الْوَقْت
فِيهِ مذهبان أصَحهمَا عِنْد الإِمَام فَخر الدّين والآمدي وأتباعهما أَنه لَا يكون أمرا بِهِ
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مالو قَالَ لوَكِيله أد عني زَكَاة الْفطر فَخرج الْوَقْت هَل لَهُ أَن يُخرجهَا بعده
يتَّجه تَخْرِيجه على هَذِه الْقَاعِدَة
2 - وَمِنْهَا إِذا نذر أضْحِية ووكل شخصا فِي ذَبحهَا وأداها إِلَى الْفُقَرَاء فَخرج وَقتهَا وَهِي كالمسألة السَّابِقَة
3 - وَمِنْهَا وَإِن لم يُوصف بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء مَا إِذا قَالَ بِعْ هَذِه السّلْعَة فِي هَذَا الشَّهْر فَلم يتَّفق بيعهَا فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ بيعهَا بعد ذَلِك كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب الأول من أَبْوَاب الْوكَالَة وَزَاد فِي الرَّوْضَة
(1/68)
 
 
فَقَالَ وَكَذَلِكَ الْعتْق وَأما الطَّلَاق فَفِي الشَّامِل وَغَيره عَن الداركي انه إِذا كَانَت مُطلقَة يَوْم الْجُمُعَة كَانَت مُطلقَة فِي يَوْم السبت قَالَ النَّوَوِيّ وَفِيه نظر
 
مَسْأَلَة 10
 
قَالَ الْآمِدِيّ فِي الإحكام يجوز عندنَا دُخُول النِّيَابَة فِيمَا كلف بِهِ من الْأَفْعَال الْبَدَنِيَّة خلافًا للمعتزلة
وَاسْتَدَلُّوا بِأَن الْوُجُوب إِنَّمَا كَانَ لقهر النَّفس وَكسرهَا والنيابة تأبى ذَلِك
(1/69)
 
 
واجاب أَصْحَابنَا بِأَن النِّيَابَة لَا تأباه لما فِيهَا من بذل الْمُؤْنَة أَو تحمل الْمِنَّة
وَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا اسْتدلَّ بِهِ الْآمِدِيّ وَهُوَ النِّيَابَة فِي حج الْفَرْض عَن الْمَيِّت والمعضوب وَكَذَا فِي حج النَّفْل للْوَارِث فِي أصح الْقَوْلَيْنِ
2 - وَمِنْهَا صب المَاء على أَعْضَاء المتطهر وَكَذَا الْمُتَيَمم وَقيل يمْتَنع عِنْد الْقُدْرَة
3 - وَمِنْهَا صَوْم الْوَلِيّ عَن الْمَيِّت كَمَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيّ وَجَمَاعَة
4 - وَمِنْهَا رَكعَتَا الطّواف يفعلهما الْأَجِير عَن الَّذِي يحجّ عَنهُ تبعا للطَّواف كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْوَصِيَّة وَحكى مَعَه وَجها أَن الرَّكْعَتَيْنِ تقعان عَن الْأَجِير وَلَكِن تَبرأ ذمَّة المحجوج عَنهُ بِمَا فعل وَقِيَاس وقوعهما عَن الْمَيِّت عِنْد فعل الْأَجِير أَن تقعا للصَّبِيّ إِذا حج عَنهُ الْوَلِيّ
 
مَسْأَلَة 11
 
الرُّخْصَة فِي اللُّغَة هِيَ التسهيل فِي الْأَمر
والعزم هُوَ الْقَصْد الْمُؤَكّد
(1/70)
 
 
وَأما فِي الشَّرْع فالرخصة هِيَ الحكم الثَّابِت على خلاف الدَّلِيل لعذر هُوَ الْمَشَقَّة والحرج
واحترزنا بالقيد الْأَخير عَن التكاليف كلهَا فَإِنَّهَا أَحْكَام ثَابِتَة على خلاف الأَصْل وَالْأَصْل من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة وَمَعَ ذَلِك لَيْسَ بِرُخْصَة لِأَنَّهَا لم تثبت لأجل الْمَشَقَّة
وَمَا ذَكرْنَاهُ من كَون الرُّخْصَة والعزيمة من أَقسَام الحكم ذكره الْغَزالِيّ فِي كتبه وَصَاحب الْحَاصِل والبيضاوي فِي منهاجه وَجعلهَا الإِمَام والآمدي وَابْن الْحَاجِب من اقسام الْفِعْل
إِذا علمت ذَلِك فالرخصة تَنْقَسِم إِلَى أَرْبَعَة اقسام
الْقسم الأول أَن تكون وَاجِبَة فَمِنْهَا
1 - حل الْميتَة للْمُضْطَر وَقيل لَا يلْزمه الْأكل بل لَهُ أَن يصبر إِلَى الْمَوْت
(1/71)
 
 
2 - وَمِنْهَا التَّيَمُّم إِمَّا لفقد المَاء وَإِمَّا للخوف من اسْتِعْمَاله وَقد صرح الرَّافِعِيّ فِي الْكَلَام على جبر الْعظم بانه إِذا خَافَ من غسل النَّجَاسَة التّلف حرم عَلَيْهِ غسلهَا وَمَا نَحن فِيهِ مثله بِلَا شكّ وَمَا ذَكرْنَاهُ من كَونه رخصَة هُوَ الَّذِي جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي مَوَاضِع مِنْهَا فِي الْكَلَام على تعداد رخص السّفر وَقيل إِنَّه عَزِيمَة وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ الْبَنْدَنِيجِيّ فِي صَلَاة الْمُسَافِر
وَجزم الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى بتفصيل حسن فَقَالَ إِن كَانَ التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء فَإِنَّهُ عَزِيمَة وَإِن كَانَ مَعَ وجوده لعذر كعطش وجراحة وَنَحْوهمَا فرخصة
3 - وَمِنْهَا الْفطر للْمُسَافِر إِذا خشِي من الصَّوْم الْهَلَاك فَإِن الصَّوْم حرَام كَمَا جزم بِهِ الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى والجرجاني فِي التَّحْرِير فَإِن صَامَ فقد قَالَ الْغَزالِيّ يحْتَمل أَن يُقَال لَا ينْعَقد لِأَنَّهُ عَاص بِهِ فَكيف يتَقرَّب بِمَا يَعْصِي بِهِ وَيحْتَمل أَن يُقَال إِنَّمَا عصى بِجِنَايَتِهِ على الرّوح الَّتِي هِيَ حق الله تَعَالَى فَيكون كالمصلي فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة
الْقسم الثَّانِي أَن تكون مَنْدُوبَة فَمِنْهَا
(1/72)
 
 
1 - الْقصر إِن كَانَ سَفَره يبلغ ثَلَاثَة أَيَّام فَصَاعِدا
2 - وَمِنْهَا مسح الرَّأْس للمتوضىء فَإِنَّهُ أفضل من الْغسْل وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ رخصَة كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي وَرَأَيْت فِي شرح غنية ابْن سُرَيج لأبي الْقَاسِم الْبَغْدَادِيّ أَنه عَزِيمَة ذكره فِي الْكَلَام على اسْتِحْبَاب التَّثْلِيث فِي مسح الرَّأْس
الْقسم الثَّالِث أَن تكون مَكْرُوهَة
فَمِنْهَا الْقصر فِي أقل من ثَلَاث مراحل فَإِنَّهُ مَكْرُوه كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ فِي اثناء النِّكَاح وأثناء الرَّضَاع
الْقسم الرَّابِع أَن تكون مُبَاحَة وَهُوَ كل مَا رخص فِيهِ من الْمُعَامَلَات كالسلم وَالْمُسَاقَاة والقراض وَالْإِجَارَة وَمن ذَلِك الْعَرَايَا وَقد وَقع فِي الحَدِيث الصَّحِيح التَّصْرِيح بِالرُّخْصَةِ فِيهَا فَقَالَ وأرخص فِي الْعَرَايَا
(1/73)
 
 
مَسْأَلَة 12
 
إِذا طلب الْفِعْل الْوَاجِب من كل وَاحِد بِخُصُوصِهِ اَوْ من وَاحِد معِين كخصائص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ فرض الْعين
وَإِن كَانَ الْمَقْصُود من الْوُجُوب إِنَّمَا هُوَ إِيقَاع الْفِعْل مَعَ قطع النّظر عَن الْفَاعِل فيسمى فرضا على الْكِفَايَة وَسمي بذلك لِأَن فعل الْبَعْض فِيهِ يَكْفِي فِي سُقُوط الْإِثْم عَن البَاقِينَ مَعَ كَونه وَاجِبا على الْجَمِيع بِخِلَاف فرض الْعين فَإِنَّهُ يجب إِيقَاعه من كل عين أَي ذَات اَوْ من عين مُعينَة
(1/74)
 
 
وَمَا ذَكرْنَاهُ من تعلق فرض الْكِفَايَة بِالْجَمِيعِ هُوَ الصَّحِيح عِنْد الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الْمَحْصُول إِنَّه يجب على طَائِفَة غير مُعينَة
وَهَذَا التَّقْسِيم يَأْتِي أَيْضا فِي السّنة
فَسنة الْعين كسنن الْوضُوء وَالْأُضْحِيَّة وَغير ذَلِك
3 - وَسنة الْكِفَايَة كتشميت الْعَاطِس وَابْتِدَاء السَّلَام وَالْأُضْحِيَّة فِي حق أهل الْبَيْت وَالْأَذَان وَالْإِقَامَة للْجَمَاعَة الْوَاحِدَة إِذا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ إنَّهُمَا سنتَانِ
إِذا علمت جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ فيتفرع عَلَيْهِ فروع مِنْهَا
1 - تَفْضِيل فرض الْكِفَايَة على فرض الْعين وَقد تعرض لَهُ فِي الرَّوْضَة من زوائده فِي كتاب السّير فَقَالَ قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابَة الغياثي الَّذِي أرَاهُ ان الْقيام بِفَرْض الْكِفَايَة أفضل من فرض
(1/75)
 
 
الْعين لِأَن فَاعله ساع فِي صِيَانة الْأمة كلهَا عَن المأثم وَلَا شكّ فِي رُجْحَان من حل مَحل الْمُسلمين أَجْمَعِينَ فِي الْقيام بمهم من مهمات الدّين
انْتهى مُلَخصا
وإقتصار النَّوَوِيّ على النَّقْل عَن الإِمَام خُصُوصا مَعَ تَعْبِيره بقوله وَالَّذِي أرَاهُ كَذَا وَكَذَا يُوهم أَن ذَلِك لَا يعرف لغيره وَلَيْسَ كَذَلِك فقد سبقه إِلَى هَذِه الْمقَالة وَالِده فِي الْمُحِيط وَكَذَلِكَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَق وَقد نَقله عَنْهُمَا ابْن الصّلاح فِي فَوَائِد رحلته وَلَكِن فرق النَّقْل فِي موضِعين ورأيته أَيْضا فِي أول شرح التَّلْخِيص للشَّيْخ أبي عَليّ السنجي مَجْزُومًا بِهِ وَزَاد على ذَلِك فنقله عَن أهل التَّحْقِيق
(1/76)
 
 
فَقَالَ قَالَ أهل التَّحْقِيق إِن فرض الْكِفَايَة أهم من فرض الْأَعْيَان والاشتغال بِهِ أفضل من الِاشْتِغَال بأَدَاء فرض الْعين هَذَا لَفظه ثمَّ ذكر مَا سبق من التَّعْلِيل وَالْكتاب الْمَذْكُور جليل الْمِقْدَار عَظِيم الْفَوَائِد
وَقِيَاس مَا ذَكرُوهُ تَفْضِيل سنة الْكِفَايَة على السّنة العينية
2 - وَمِنْهَا إِذا صلى على الْجِنَازَة وَاحِد ذكر كفى على الصَّحِيح بَالغا كَانَ أَو صَبيا
فَلَو صلى عَلَيْهِ أَكثر من ذَلِك أَو صلى جمَاعَة بعد جمَاعَة وَقع الْجَمِيع فرضا كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ
وَسَببه أَن الْفَرْض يتَعَلَّق بِالْجَمِيعِ كَمَا أوضحناه وَأَيْضًا لترغيب الْمُصَلِّين لِأَن ثَوَاب الْفَرْض يزِيد على ثَوَاب النَّفْل وَحكى ابْن الرّفْعَة عَن الذَّخَائِر للْقَاضِي مجلي حِكَايَة وَجه أَن الزَّائِد فِي الصَّلَاة الْوَاحِدَة
(1/77)
 
 
يَقع نفلا وَيلْزم اطراده فِي الطَّائِفَة الثَّانِيَة بطرِيق الأولى وَهَذَا الْوَجْه أبداه الإِمَام احْتِمَالا وَهُوَ يُوَافق الْقَائِل بتعلق الْفَرْض بِالْبَعْضِ فتفطن لذَلِك
3 - وَمِنْهَا إِذا سلم شخص على جمَاعَة فَرد عَلَيْهِ أَكثر من وَاحِد فَالْقِيَاس التحاقه بالجنازة حَتَّى يَقع الْجَمِيع فرضا على الصَّحِيح ويثاب ثَوَاب الْفَرْض
وَقد اسْتندَ الإِمَام فِي الْوَجْه الَّذِي حاوله وَهُوَ حُصُول الْفَرْض لوَاحِد إِلَى الْوَجْه بِأَن الزَّائِد فِي مسح الرَّأْس على مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم يَقع نفلا فَألْحق من يجب عَلَيْهِ بالشَّيْء الْوَاجِب
وَهُوَ مَرْدُود
فَإِن حُصُول ثَوَاب الْفَرْض لشخص غير معِين لَا يعقل بِخِلَاف الثَّوَاب على فعل من أَفعَال الصَّلَاة فَإِنَّهُ مَعْقُول
ثمَّ إِن تساءت فِي الثَّوَاب فَلَا كَلَام وَإِن اخْتلفت فيثاب على أَعْلَاهَا لِأَنَّهُ لَو اقْتصر عَلَيْهِ لحصل لَهُ ذَلِك فبالأولى إِذا أحسن وَزَاد عَلَيْهِ غَيره
فَإِن ضايق مضايق وَقَالَ إِنَّمَا يُثَاب على أدونها فَهُوَ مَعْلُوم أَيْضا
(1/78)
 
 
مَسْأَلَة 13
 
الْوُجُوب قد يتَعَلَّق بِشَيْء معِين كَالصَّلَاةِ وَالْحج وَغَيرهمَا وَيُسمى وَاجِبا معينا
وَقد يتَعَلَّق بِأحد أُمُور مُعينَة كخصال كَفَّارَة الْيَمين
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة كل وَاحِد من هَذَا وَأَمْثَاله يُوصف بِالْوُجُوب وَلَكِن على التَّخْيِير بِمَعْنى أَنه لَا يجب الْإِتْيَان بِالْجَمِيعِ وَلَا يجوز تَركه
وَقيل الْوَاجِب مُبْهَم عندنَا معِين عِنْد الله تَعَالَى إِمَّا بعد اخْتِيَاره وَإِمَّا قبله بِأَن يلهمه الله تَعَالَى إِلَى اخْتِيَاره
وَهَذَا القَوْل يُسمى قَول التراجم لِأَن الأشاعرة تنسبه إِلَى الْمُعْتَزلَة والمعتزلة تنسبه إِلَى الأشاعرة
وَمَا ذَكرْنَاهُ من كَون الْوَاجِب أَحدهَا نَقله الْآمِدِيّ عَن الْفُقَهَاء والأشاعرة وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب والبيضاوي وَغَيرهمَا وَيُسمى وَاجِبا مُخَيّرا وَفِيه بحث ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره فَقَالُوا أحد الْأَشْيَاء قدر مُشْتَرك بَين الْخِصَال كلهَا لصدقه على كل وَاحِد مِنْهَا وَهُوَ وَاحِد لَا تعدد فِيهِ وَإِنَّمَا التَّعَدُّد فِي محاله لِأَن المتواطىء مَوْضُوع لِمَعْنى وَاحِد صَادِق
(1/79)
 
 
على أَفْرَاد كالإنسان وَلَيْسَ مَوْضُوعا لمعان مُتعَدِّدَة وَإِذا كَانَ وَاحِدًا اسْتَحَالَ فِيهِ التَّخْيِير وَإِنَّمَا التَّخْيِير فِي الخصوصيات وَهُوَ خُصُوص الاعتاق مثلا اَوْ الْكسْوَة أَو الْإِطْعَام
فَالَّذِي هُوَ مُتَعَلق الْوُجُوب لَا تَخْيِير فِيهِ وَالَّذِي هُوَ مُتَعَلق التَّخْيِير لَا وجوب فِيهِ وَهَذَا كَلَام مُحَقّق نَافِع
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع القَوْل الصَّحِيح وَهُوَ كَون الْوَاجِب أَحدهَا
1 - مَا إِذا أوصى فِي الْكَفَّارَة المخيرة بخصلة مُعينَة وَكَانَت قيمتهَا تزيد على قيمَة الخصلتين الْبَاقِيَتَيْنِ فَهَل يعْتَبر من رَأس المَال
فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم لِأَنَّهُ تأدية وَاجِب وَهَذَا هُوَ قِيَاس كَون الْوَاجِب أَحدهَا
وأصحهما اعْتِبَاره من الثُّلُث لِأَنَّهُ غير متحتم وَتحصل الْبَرَاءَة بِدُونِهِ كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْوَصِيَّة قَالَ وعَلى هَذَا وَجْهَان
أَحدهمَا تعْتَبر جَمِيع قيمَة الْمخْرج من الثُّلُث فَإِن لم يَفِ بِهِ عدل إِلَى غَيره
(1/80)
 
 
وأقيسهما أَن الْمُعْتَبر من الثُّلُث مَا بَين الْقِيمَتَيْنِ لِأَن أقلهما لَازم لَا محَالة
قَالَ وَلَو اعْتِقْ من عَلَيْهِ كَفَّارَة مخيرة فِي مرض الْمَوْت قَالَ الْمُتَوَلِي لَا تعْتَبر قيمَة العَبْد من الثُّلُث لِأَنَّهُ مؤد فرضا وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْرِيع على الْوَجْه الْقَائِل بِأَنَّهُ إِذا أوصى بِهِ اعْتِقْ من رَأس المَال انْتهى كَلَام الرَّافِعِيّ وَذكر فِي كتاب الْأَيْمَان كلَاما آخر مُتَعَلقا بِالْمَسْأَلَة ومخالفا للَّذي هُنَا
2 - وَمِنْهَا إِذا أَتَى بالخصال مَعًا فَإِنَّهُ يُثَاب على كل وَاحِد مِنْهَا لَكِن ثَوَاب الْوَاجِب أَكثر من ثَوَاب التَّطَوُّع وَلَا يحصل إِلَّا على وَاحِد فَقَط وَهُوَ أَعْلَاهَا إِن تفاوتت لِأَنَّهُ لَو اقْتصر عَلَيْهِ لحصل لَهُ ذَلِك فاضافة غَيره إِلَيْهِ لَا تنقصه وَإِن تَسَاوَت فعلى أَحدهَا وَإِن ترك الْجَمِيع عُوقِبَ على أقلهَا لِأَنَّهُ لَو اقْتصر عَلَيْهِ لأجزأه ذكره ابْن التلمساني فِي شرح المعالم وَهُوَ حسن
 
مَسْأَلَة 14
 
يجوز عندنَا تَحْرِيم وَاحِد لَا بِعَيْنِه خلافًا للمعتزلة
وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوَاجِب الْمُخَير قَالَه الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب
مِثَاله أَن يَقُول حرمت عَلَيْك أحد هذَيْن الشَّيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِه وَلَا أحرم عَلَيْك وَاحِدًا معينا وَلَا الْجَمِيع وَلَا أبيحه
(1/81)
 
 
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا إِذا كَانَ لَهُ أمتان وهما أختَان فوطىء إِحْدَاهمَا فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ وَطْء الْأُخْرَى حَتَّى تحرم الأولى عَلَيْهِ بتزويج أَو كِتَابَة وَنَحْو ذَلِك فَإِن أقدم وَوَطئهَا قبل ذَلِك فَإِنَّهُ يتَخَيَّر فِي وَطْء من شَاءَ مِنْهُمَا وَتحرم عَلَيْهِ الْأُخْرَى
نَص عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ
وَكَأن سَببه أَن الْوَطْء قد وَقع وَقد اسْتَويَا الْآن فِي سَبَب التَّحْرِيم فَأشبه استواءهما قبل الْوَطْء وَلَا سَبِيل إِلَى تحريمهما على التَّأْبِيد فَجعلنَا تَحْرِيم إِحْدَاهمَا بِعَينهَا مَنُوطًا بِاجْتِهَادِهِ
2 - وَمِنْهَا مالو اعْتِقْ إِحْدَى أمتيه وَجَعَلنَا الْوَطْء تعيينا وَهُوَ الصَّحِيح فَيصدق عَلَيْهِ مَا ذَكرْنَاهُ لِأَن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تحرم بِوَطْء الْأُخَر
وَهُوَ مُخَيّر فِي وَطْء مَا شَاءَ مِنْهُمَا فَيكون مُخَيّرا فِي تَحْرِيم مَا شَاءَ
وَهَكَذَا إِذا أسلم على خمس نسْوَة مثلا وَجَعَلنَا الْوَطْء تعيينا فَإِذا وطىء ثَلَاثًا مِنْهُنَّ بَقِي الْأَمر فِي الرَّابِعَة وَالْخَامِسَة على مَا ذَكرْنَاهُ فِي الأمتين
(1/82)
 
 
مَسْأَلَة 15
 
الْأَمر بالشَّيْء هَل يكون أمرا بِمَا لَا يتم ذَلِك لشَيْء إِلَّا بِهِ وَهُوَ الْمُسَمّى بالمقدمة أم لَا يكون أمرا بِهِ
فِيهِ مَذَاهِب
أَصَحهَا عِنْد الإِمَام فَخر الدّين وَأَتْبَاعه وَكَذَا الْآمِدِيّ أَنه يجب مُطلقًا ويعبر عَنهُ الْفُقَهَاء بقَوْلهمْ مَالا يَتَأَتَّى الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب
وَسَوَاء كَانَ سَببا وَهُوَ الَّذِي يلْزم من وجوده الْوُجُود وَمن عَدمه الْعَدَم
أَو شرطا وَهُوَ الَّذِي يلْزم من عَدمه الْعَدَم وَلَا يلْزم من وجوده وجود وَلَا عدم
وَسَوَاء كَانَ ذَلِك السَّبَب شَرْعِيًّا كالصيغة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعتْق الْوَاجِب أَو عقليا كالنظر المحصل للْعلم الْوَاجِب أَو عاديا كحز الرَّقَبَة فِي الْقَتْل إِذا كَانَ وَاجِبا
وَهَكَذَا الشَّرْط أَيْضا
فالشرعي كَالْوضُوءِ والعقلي كَتَرْكِ أضداد الْمَأْمُور بِهِ والعادي
(1/83)
 
 
كَغسْل جُزْء من الرَّأْس فِي الْوضُوء للْعلم بِحُصُول غسل الْوَجْه
مِثَال ذَلِك إِذا قَالَ السَّيِّد لعَبْدِهِ كن على السَّطْح فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك إِلَّا بِنصب السّلم والصعود فالصعود سَبَب وَالنّصب شَرط
وَالْمذهب الثَّانِي يكون أمرا بِالسَّبَبِ دون الشَّرْط
وَالثَّالِث لَا يكون أمرا بِوَاحِد مِنْهُمَا حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب فِي الْمُخْتَصر الْكَبِير وَاخْتَارَ فِي مُخْتَصره الْمَعْرُوف فِي الشَّرْط أَنه إِذا كَانَ شَرْعِيًّا وَجب وَإِن كَانَ عقليا أَو عاديا فَلَا
(1/84)
 
 
إِذا علمت ذَلِك فيتخرج على هَذِه الْقَاعِدَة مسَائِل
الأولى غسل جُزْء من الرَّأْس والرقبة وَنَحْوهمَا ليتيقن غسل الْوَجْه فَإِنَّهُ وَاجِب لما ذَكرْنَاهُ
هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف
وَحكى الدَّارمِيّ فِي الاستذكار فِيهِ وَجْهَيْن فَقَالَ وَهل وَجب فِي نَفسه أَو لغيره على وَجْهَيْن
الثَّانِيَة إِذا اشتبهت زَوجته بأجنبيه فَيجب عَلَيْهِ الْكَفّ عَن الْجَمِيع
وَمثله إِذا اشتبهت محرمه بأجنبيات محصورات فَلَيْسَ لَهُ أَن يتَزَوَّج وَاحِدَة مِنْهُنَّ
وسنعيد الْمَسْأَلَة مبسوطة فِي الْكَلَام على التَّخْصِيص
الثَّالِثَة إِذا نسي صَلَاة من الْخمس وَلم يعلم عينهَا فَيلْزمهُ الْخمس
الرَّابِعَة إِذا اخْتَلَط موتى الْمُسلمين بموتى الْكفَّار فَيجب غسل الْجَمِيع وتكفينهم وَالصَّلَاة عَلَيْهِم ثمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ صلى
(1/85)
 
 
على الْجَمِيع دفْعَة وَاحِدَة وَيَنْوِي الصَّلَاة على الْمُسلمين مِنْهُم وَإِن شَاءَ صلى على كل وَاحِد وَيَقُول فِي نِيَّته أُصَلِّي عَلَيْهِ إِن كَانَ مُسلما
وَسَتَأْتِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ فروع تتَعَلَّق بهَا فِي آخر الْكتاب قبيل الْكتاب السَّابِع
الْخَامِسَة إِذا خرج مِنْهُ شَيْء وَلم يعلم هَل هُوَ منى أَو مذى فَقيل يجب الْعَمَل بموجبهما وَالصَّحِيح التَّخْيِير لِأَنَّهُ إِذا أَتَى بِمُوجب أَحدهمَا شككنا فِي الآخر هَل هُوَ عَلَيْهِ أم لَا
السَّادِسَة إِذا كَانَ عَلَيْهِ زَكَاة وَلم يدر هَل هِيَ بقرة أم شَاة فَإِنَّهُ يلْزمه الْجَمِيع كَمَا قَالَه الشَّيْخ عز الدّين فِي الْقَوَاعِد وقاسه على الصَّلَاة وَالَّذِي قَالَه إِن كَانَ صورته فِيمَا إِذا وَجب عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ وَأخرج أَحدهمَا وَشك فِيهِ فَمُسلم وَهُوَ نَظِير
(1/86)
 
 
الصَّلَاة وَإِن وَجب أَحدهمَا فَقَط وَشك فِي عينه فَمَمْنُوع بل يتَّجه إِلْحَاقه بِمَا إِذا شكّ فِي الْخَارِج
السَّابِعَة إِذا غصب لوحا وأدخلها فِي سفينة لَهُ واشتبهت بغَيْرهَا من سفنه فَإِنَّهُ يلْزمه نزع أَلْوَاح الْجَمِيع فَلَو كَانَت السَّفِينَة فِي اللجة وفيهَا مَال للْغَاصِب فَقَط وَلم تشتبه وَكَانَ نَزعهَا يُؤَدِّي إِلَى غرق السَّفِينَة فَفِي النزع وَجْهَان أصَحهمَا لَا بل ينْتَظر وصولها إِلَى الشط وَيغرم الْغَاصِب الْقيمَة للْحَيْلُولَة
فَإِن قُلْنَا بالنزع فاختلطت الَّتِي فِيهَا اللَّوْح بسفن أُخْرَى للغاضب أَيْضا بِحَيْثُ لَا يعرف ذَلِك اللَّوْح إِلَّا بِنَزْع الْجَمِيع فَفِي نَزعهَا وَجْهَان قَالَ فِي الرَّوْضَة من زوائده يَنْبَغِي أَن يكون أرجحهما عدم النزع
وَالَّذِي قَالَه مُشكل وَقِيَاس مَا سبق أَنه ينْزع
وَلَو كَانَت سفينة الْمَغْصُوب مِنْهُ تشرف على الْغَرق إِذا لم نجْعَل فِيهَا
(1/87)
 
 
اللَّوْح الَّتِي غصبهَا مِنْهَا فَالْمُتَّجه وجوب قلعهَا لحق الْمَالِك وَلَا يحضرني الْآن نَقله
الثَّامِنَة إِذا نذر صَوْم بعض يَوْم لم يلْزمه شَيْء على الصَّحِيح لِأَنَّهُ غير مُعْتَد بِهِ شرعا
وَقيل يجب يَوْم كَامِل لِأَن صَوْم بعض الْيَوْم مُمكن بصيام بَاقِيه وَقد الْتزم الْبَعْض فَيلْزمهُ الْجَمِيع بِنَاء على هَذِه الْقَاعِدَة وَهَذَا هُوَ الْمُتَّجه
نعم إِن قُلْنَا إِن مَفْهُوم اللقب أَي الِاسْم حجَّة فَكَأَنَّهُ قَالَ عَليّ النّصْف دون غَيره كَأَن نذر نذرا فَاسِدا بِلَا شكّ لَكِن الْمَشْهُور أَنه لَيْسَ بِحجَّة
التَّاسِعَة إِذا اخْتَار الإِمَام رق بعض الْأَسير فَالصَّحِيح الْجَوَاز فَإِن منعنَا سرى الرّقّ إِلَى بَاقِيه
كَذَا قَالَه الْأَصْحَاب
وَاسْتَشْكَلَهُ الرَّافِعِيّ فَقَالَ وَكَانَ يجوز أَن يُقَال لَا يرق شَيْء
(1/88)
 
 
وَهَذِه الْمَسْأَلَة تؤيد مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة
الْعَاشِرَة إِذا غصب صَاعا من الْحِنْطَة وخلطه بآخر وَالْقِيَاس أَنه يلْزمه إِعْطَاء الصاعين لِأَن إِعْطَاء الْمَغْصُوب لَا يُمكن إِلَّا بذلك ثمَّ يُعْطي الْمَغْصُوب مِنْهُ الْغَاصِب مثل صاعه من أَي مَوضِع أَرَادَ
وَقَرِيب من هَذَا مَا إِذا نسي صَلَاة من الْخمس واشتبهت فانه يجب عَلَيْهِ الْخمس بكمالها لما ذَكرْنَاهُ ومسألتنا أولى لِأَنَّهُ يَأْخُذ عوضا عَمَّا بذله
إِلَّا أَنا لَا نعلم أحدا قَالَ بِهَذِهِ الْمقَالة بل اخْتلفُوا على وَجْهَيْن أَحدهمَا وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الشَّيْخ فِي التَّنْبِيه أَنه يجْبر الْغَاصِب على الْإِعْطَاء من الْمَخْلُوط لِأَنَّهُ أقرب إِلَى حَقه وأصحهما أَن الْغَاصِب يُعْطي مِمَّا شَاءَ وَذكر الرَّافِعِيّ فِي بَاب إحْيَاء الْموَات صُورَة هِيَ أشكل من هَذِه الصُّور جَمِيعًا فَقَالَ إِذا بَاعَ صَاعا من صبرَة وَقُلْنَا الْمَبِيع صَاعا مِنْهَا ثمَّ صب عَلَيْهَا صَاعا آخر فَالْبيع صَحِيح وَيبقى الْمَبِيع مَا بَقِي صَاع فأوجبوا عَلَيْهِ الصَّاع هَا هُنَا مَعَ الْقطع باشتماله على غير الْمَبِيع لِأَنَّهُ أقرب إِلَى حَقه
الْحَادِيَة عشرَة إِذا نذر الصَّلَاة فِي وَقت لَهُ فَضِيلَة على غَيره فَإِنَّهُ يتَعَيَّن إيقاعها فِيهِ فَلَو قَالَ لله تَعَالَى عَليّ أَن أُصَلِّي لَيْلَة الْقدر تعيّنت إِلَّا أَنَّهَا محصورة فِي الْعشْر الْأَخير غير مُعينَة فِي لَيْلَة بِعَينهَا فَيلْزمهُ أَن يُصَلِّي كل لَيْلَة من ليَالِي الْعشْر الْأَخير ليصادفها كمن نسي صَلَاة من الْخمس فَإِن لم يفعل لم يقضها إِلَّا فِي مثله
كَذَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي وَنَقله عَنهُ فِي الْبَحْر وَقَالَ إِنَّه حسن صَحِيح
(1/89)
 
 
مَسْأَلَة 16
 
الْوَاجِب إِذا لم يكن مُعَلّقا بِمِقْدَار معِين بل مُعَلّقا على اسْم يتَفَاوَت بالقلة وَالْكَثْرَة كمسح الرَّأْس فِي الْوضُوء وَالْمسح على الْخُف وَنَحْوهمَا إِذا زَاد فِيهِ على الِاسْم فَهَل يَقع ذَلِك الزَّائِد نفلا أم وَاجِبا
فِيهِ مذهبان
الصَّحِيح فِي الْمَحْصُول وَالْحَاصِل وَغَيرهمَا الأول لِأَنَّهُ يجوز تَركه
وَيتَفَرَّع على الْقَاعِدَة مسَائِل مِنْهَا
1 - إِذا مسح زِيَادَة على الْوَاجِب أَو طول الْقيام أَو الرُّكُوع أَو السُّجُود أَو لَزِمته شَاة فِي الزَّكَاة فَأخْرج عَنْهَا بَدَنَة أَو نذر التَّضْحِيَة
(1/90)
 
 
بهَا فضحى ببدنة عَنْهَا وَقد اخْتلف كَلَام النَّوَوِيّ فِي ذَلِك اخْتِلَافا عجيبا أوضحته فِي الْمُهِمَّات وَغَيره فصحح فِي بَاب صفة الصَّلَاة من زَوَائِد الرَّوْضَة أَن الْجَمِيع يَقع وَاجِبا وَصحح فِي أَبْوَاب كَثِيرَة أَن الزَّائِد يَقع نفلا وَكَلَامه فِي الزَّكَاة يشْعر بِأَن الصَّحِيح أَن الزَّائِد فِي بعير الزَّكَاة يَقع فرضا وَأَن الزَّائِد فِي بَاقِي الصُّور نفل وَصرح بِتَصْحِيحِهِ هُنَاكَ فِي شرح الْمُهَذّب وَادّعى اتِّفَاق الْأَصْحَاب على تَصْحِيحه
وَالأَصَح كَمَا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب أَنه لَا فرق فِي مسح الرَّأْس بَين أَن يَقع دفْعَة وَاحِدَة أَو مترتبا
2 - وَمن فروع الْمَسْأَلَة أَيْضا مَا إِذا وقف بِعَرَفَات زِيَادَة على قدر الْوَاجِب وَقد خرجه ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة على هَذَا الْخلاف
وَمثله إِذا قُلْنَا بِوُجُوب مبيت لَيْلَة مُزْدَلِفَة فَزَاد على لَحْظَة من النّصْف الثَّانِي وبالوجوب فِي ليَالِي منى فَزَاد على الْمُعظم
وَمِنْهَا إِذا زَاد فِي الْحلق وَالتَّقْصِير على ثَلَاث شَعرَات وَقِيَاسه التَّخْرِيج على مَا سبق
وَأما إِذا زَاد فِي الْكَفَّارَة على الْمِقْدَار الْوَاجِب فقد جزم الرَّافِعِيّ فِيهِ فِي أَوَائِل بَاب النّذر بِوُقُوعِهِ تَطَوّعا وَتَابعه عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَة والزكوات وَالنُّذُور والديون وَنَحْوهَا بِمَثَابَة الْكَفَّارَات
(1/91)
 
 
وَالْفرق بَين هَذِه الْأَشْيَاء وَبَين مسح الرَّأْس ونظائره مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي أول الْمَسْأَلَة أَن لَهَا قدرا مَعْلُوما محدودا مَنْصُوصا عَلَيْهِ
وَقد تقدم فِي الْكَلَام على فرض الْكِفَايَة كَلَام يتَعَلَّق بِالْمَسْأَلَة فَرَاجعه
وَاعْلَم أَن الْخلاف الْمَذْكُور لَهُ ثَلَاث فَوَائِد ذكرهَا فِي التَّحْقِيق وَشرح الْمُهَذّب فِي مَوَاضِع
أَحدهَا جَوَاز الْأكل فَإِن قُلْنَا الزَّائِد فرض فَلَا يجوز أكله وَإِلَّا فَيجوز
وَهَذِه الْفَائِدَة ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي بَاب الدِّمَاء وَفِي بَاب الْأُضْحِية
الثَّانِيَة إِذا عجل الْبَعِير عَن الشَّاة وَاقْتضى الْحَال الرُّجُوع فَهَل يرجع بِخَمْسَة فَقَط أم بكله على هَذَا الْخلاف
كَذَا ذكره النَّوَوِيّ مَعَ الْفَائِدَة الْمُتَقَدّمَة وَالَّتِي ستأتي فِي بَاب صفة الصَّلَاة من التَّحْقِيق وَشرح الْمُهَذّب
الْفَائِدَة الثَّالِثَة زِيَادَة الثَّوَاب فَإِن ثَوَاب الْوَاجِب أعظم من ثَوَاب النَّفْل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة عَن الله تَعَالَى وَمَا تقرب إِلَيّ المتقربون بِمثل
(1/92)
 
 
أَدَاء مَا افترضت عَلَيْهِم
وَهَذِه الْفَائِدَة ذكرهَا أَيْضا النَّوَوِيّ فِي بَاب الْأُضْحِية من زيادات الرَّوْضَة
وَالْقدر الَّذِي يمتاز بِهِ الواحب هُوَ سَبْعُونَ دَرَجَة حَكَاهَا فِي الرَّوْضَة من زوائده فِي أول النِّكَاح عَن حِكَايَة الإِمَام قَالَ واستأنسوا فِيهِ بِحَدِيث وَقد أوضحت مُسْتَند ذَلِك فِي الْمُهِمَّات فَرَاجعه
قلت وَفَائِدَة رَابِعَة وَهِي الحسبان من الثُّلُث إِذا أوصى بذلك أَو فعله فِي مرض مَوته
فَإِن جَعَلْنَاهُ نفلا حسب من الثُّلُث وَإِن جَعَلْنَاهُ فرضا فَيتَّجه تَخْرِيجه على الْخلاف فِيمَا إِذا أوصى بِالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَة المخيرة هَل يحْتَسب من رَأس المَال أم لَا وَفِيه اخْتِلَاف فِي التَّرْجِيح
وَفَائِدَة خَامِسَة وَهِي كَيْفيَّة النِّيَّة فِي الْبَعِير الْمخْرج عَن شَاة
(1/93)
 
 
وَنَحْو ذَلِك
فَإِن جعلنَا الْجَمِيع فرضا فَلَا بُد أَن يَنْوِي بِالْجَمِيعِ الزَّكَاة أَو الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة
وَإِن قُلْنَا إِنَّه الْخمس كَفاهُ الِاقْتِصَار عَلَيْهِ فِي النِّيَّة
 
مَسْأَلَة 17
 
الْأَمر بالشَّيْء هَل هُوَ نهي عَن ضِدّه أم لَا
فِيهِ ثَلَاث مَذَاهِب حَكَاهَا إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَان وَغَيره
ولنقدم على ذَلِك مُقَدّمَة وَهِي أَنه إِذا قَالَ السَّيِّد لعَبْدِهِ مثلا اقعد فَمَعْنَاه أَمْرَانِ منافيان للْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ وجود الْقعُود أَحدهمَا منَاف لَهُ بِذَاتِهِ أَي بِنَفسِهِ وَهُوَ عدم الْقعُود لِأَنَّهُمَا نقيضان والمنافاة بَين النقيضين بِالذَّاتِ فاللفظ الدَّال على الْقعُود دَال على النَّهْي عَن عَدمه أَو على الْمَنْع مِنْهُ بِلَا خلاف
وَالثَّانِي منَاف لَهُ بِالْفَرْضِ أَي بالاستلزام وَهُوَ الضِّدّ كالقيام فِي مثالنا اَوْ الِاضْطِجَاع
(1/94)
 
 
وضابطه أَن يكون معنى وجوديا يضاد الْمَأْمُور بِهِ وَوجه منافاته بالاستلزام أَن الْقيام مثلا يسْتَلْزم عدم الْقعُود الَّذِي هُوَ نقيض الْقعُود فَلَو جَازَ عدم الْقعُود لاجتمع النقيضان فامتناع اجْتِمَاع الضدين إِنَّمَا هُوَ لِامْتِنَاع اجْتِمَاع النقيضين لَا لذاتهما فاللفظ الدَّال على الْقعُود يدل على النَّهْي عَن الأضداد الوجودية كالقيام بالالتزام وَالَّذِي يَأْمر قد يكون غافلا عَنْهَا
كَذَا ذكره الإِمَام وَغَيره وَحكى الْقَرَافِيّ عَن بَعضهم أَن الْمُنَافَاة بَين الضدين ذاتيه
إِذا علمت ذَلِك فلنرجع إِلَى ذكر الْمَذْهَب فَنَقُول
أَحدهَا أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ هُوَ نفس النَّهْي عَن ضِدّه فَإِذا قَالَ مثلا تحرّك فَمَعْنَاه لَا تسكن واتصافه بِكَوْنِهِ أمرا ونهيا باعتبارين كاتصاف الذَّات الْوَاحِدَة بِالْقربِ والبعد بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْئَيْنِ
وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الإِمَام وَأَتْبَاعه وَكَذَلِكَ الْآمِدِيّ أَنه غَيره وَلكنه يدل عَلَيْهِ بالالتزام لِأَن الْأَمر دَال على الْمَنْع من التّرْك وَمن لَوَازِم الْمَنْع من ذَلِك مَنعه من الأضداد فَيكون الْأَمر دَالا على الْمَنْع من الأضداد بالالتزام وعَلى هَذَا فَالْأَمْر بالشَّيْء نهي عَن
(1/95)
 
 
جَمِيع أضداده بِخِلَاف النَّهْي عَن الشَّيْء فَإِنَّهُ أَمر بِأحد أضداده كَمَا ستعرفه
وَالثَّالِث وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب أَنه لَا يدل عَلَيْهِ أصلا لِأَنَّهُ قد يكون غافلا عَنهُ كَمَا سبق ويستحيل الحكم على الشَّيْء مَعَ الْغَفْلَة عَنهُ
وَإِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ يدل فَهَل يخْتَص بِالْوَاجِبِ أم يدل أَيْضا أَمر النّدب على كَرَاهَة ضِدّه
فِيهِ قَولَانِ حَكَاهُمَا الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا
اصحهما أَنه لَا فرق
وَيشْتَرط فِي كَونه نهيا عَن ضِدّه أَن يكون الْوَاجِب مضيقا
(1/96)
 
 
كَمَا نَقله شرَّاح الْمَحْصُول عَن القَاضِي عبد الْوَهَّاب
لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يَنْتَهِي عَن التّرْك الْمنْهِي عَنهُ حِين وُرُود النَّهْي وَلَا يتَصَوَّر الِانْتِهَاء عَن تَركه إِلَّا مَعَ الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ فاستحال النَّهْي مَعَ كَونه موسعا
إِذا علمت ذَلِك فقد ذكر الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير فَائِدَة الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَفِي عكسها من الْفُرُوع فَقَالَ
1 - إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن خَالَفت أَمْرِي فَأَنت طَالِق ثمَّ قَالَ لَهَا لَا تكلمي زيدا فكلمته لم تطلق لِأَنَّهَا خَالَفت نَهْيه لَا أمره هَذَا هُوَ الْمَشْهُور
وَقَالَ الْغَزالِيّ أهل الْعرف يعدونه مُخَالفا لِلْأَمْرِ
2 - وَلَو قَالَ إِن خَالَفت نهيي فَأَنت طَالِق ثمَّ قَالَ لَهَا قومِي فَقَعَدت
فللأصوليين من الْأَصْحَاب وَغَيرهم خلاف فِي أَن الْأَمر بالشَّيْء هَل هُوَ نهي عَن ضِدّه أم لَا
(1/97)
 
 
فَذهب بعض من جعله نهيا إِلَى وُقُوع الطَّلَاق
وَالْأَظْهَر عِنْد الإِمَام وَغَيره الْمَنْع مُطلقًا إِذْ لَا يُقَال فِي عرف اللُّغَة لمن قَالَ قُم إِنَّه نهي
انْتهى كَلَام الشَّرْح الصَّغِير مُلَخصا وَلم يذكر الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الْكَبِير شَيْئا من ذَلِك مَعَ ذكر ذَلِك فِي الْوَجِيز وَكَأن نظره انْتقل حَالَة الشَّرْح أَو سقط ذَلِك من نُسْخَة الْوَجِيز الَّذِي كَانَ ينْقل مِنْهُ وَلَو ير النَّوَوِيّ خلو الرَّوْضَة عَن هَذِه الْمَسْأَلَة فأثبتها فِيهَا نَاقِلا لَهَا من الْوَجِيز إِلَّا أَنه بسط كَلَامه وَخَالف أَيْضا مَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير فِيمَا إِذا قَالَ إِن خَالَفت نهيي ثمَّ قَالَ قومِي فَقَعَدت فَإِن كَلَام الرَّافِعِيّ يَقْتَضِي أَن الْمَعْرُوف فِي النَّقْل أَنه لَا يَقع وَكَلَام الرَّوْضَة يَقْتَضِي عَكسه وَكَانَ يَنْبَغِي للنووي أَن يُنَبه على أَن هَذِه الْمَسْأَلَة من زوائده فَإِن الْوَاقِف عَلَيْهَا فِي الرَّوْضَة يتَوَهَّم أَن الرَّافِعِيّ ذكرهَا وَأَن كَلَامه قد اخْتلف على أَن بعض نساخ الرَّافِعِيّ قد أثبتها أَيْضا من الْوَجِيز
 
مَسْأَلَة 18
 
الْمَطْلُوب بِالنَّهْي أَي الَّذِي تعلق النَّهْي بِهِ إِنَّمَا هُوَ فعل ضد النَّهْي عَنهُ فَإِذا قَالَ لَا تتحرك فَمَعْنَاه اسكن لَا التَّكْلِيف بِعَدَمِ
(1/98)
 
 
الْحَرَكَة لِأَن الْعَدَم غير مَقْدُور عَلَيْهِ لكَونه حَاصِلا وَتَحْصِيل الْحَاصِل محَال
نعم الأعدام فعل مَقْدُور عَلَيْهِ إِلَّا أَنه مُتَوَقف على وجود الْفِعْل وَقَالَ أَبُو هَاشم وَالْغَزالِيّ الْمَطْلُوب بِالنَّهْي هُوَ نفس أَن لَا يفعل وَهُوَ عدم الْحَرَكَة فِي مثالنا لِأَن الْعَدَم الَّذِي لَا يقدر عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ الْعَدَم الْمُطلق لَا الْعَدَم الْمُضَاف
وَهَذِه الْمَسْأَلَة ذكرهَا الْبَيْضَاوِيّ فِي الْمِنْهَاج قبيل بَاب الْعُمُوم وَالْخُصُوص وفائدتها فِي الْفُرُوع تقدّمت فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة
 
مَسْأَلَة 19
إِذا أوجب الشَّارِع شَيْئا ثمَّ نسخ وُجُوبه فَيجوز الاقدام عَلَيْهِ عملا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْمَحْصُول فِي آخر هَذِه الْمَسْأَلَة وَصرح بِهِ غَيره
وَلَكِن الدَّلِيل الدَّال على الْإِيجَاب قد كَانَ أَيْضا دَالا على الْجَوَاز دلَالَة تضمن
(1/99)
 
 
فَتلك الدّلَالَة هَل زَالَت بِزَوَال الْوُجُوب أم هِيَ بَاقِيَة
اخْتلفُوا فِيهِ
فَقَالَ الْغَزالِيّ إِنَّهَا لَا تبقى بل يرجع الْأَمر إِلَى مَا كَانَ قبل الْوُجُوب من الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة أَو الْإِبَاحَة أَو التَّحْرِيم وَصَارَ الْوُجُوب بالنسخ كَأَن لم يكن كَذَا جزم بِهِ فِي الْمُسْتَصْفى
وَقَالَ الإِمَام فَخر الدّين وَالْجُمْهُور إِنَّهَا بَاقِيَة
ومرادهم بِالْجَوَازِ هُوَ التَّخْيِير بَين الْفِعْل وَالتّرْك وَهُوَ الَّذِي صرح الْغَزالِيّ أَيْضا بِعَدَمِ بَقَائِهِ
وَحِينَئِذٍ فَيكون الْخلاف بَينهمَا معنويا على خلاف مَا ادَّعَاهُ ابْن التلمساني من أَن الْخلاف لَفْظِي وَيكون الْجَوَاز الَّذِي كَانَ فِي الْوَاجِب جِنْسا وفصله الْمَنْع من التّرْك قد صَار فَصله بعد النّسخ هُوَ التَّخْيِير بَين الْفِعْل وَالتّرْك فَإِن النَّاسِخ أثبت رفع الْحَرج عَن التّرْك فالماهية الْحَاصِلَة بعد النّسخ مركبة من قيدين
أَحدهمَا زَوَال الْحَرج عَن الْفِعْل وَهُوَ مُسْتَفَاد من الْأَمر
وَالثَّانِي زَوَاله عَن التّرْك وَهُوَ مُسْتَفَاد من النَّاسِخ وَهَذِه الْمَاهِيّة هِيَ الْمَنْدُوب أَو الْمُبَاح هَكَذَا قَالَه فِي الْمَحْصُول
وتلخص من ذَلِك أَنه إِذا نسخ الْوُجُوب بَقِي النّدب أَو الْإِبَاحَة من الْأَمر مَعَ ناسخه لَا من الْأَمر فَقَط
(1/100)
 
 
وَصُورَة المسالة أَن يَقُول الشَّارِع نسخت الْوُجُوب أَو نسخت تَحْرِيم التّرْك أَو رفعت ذَلِك
فَأَما إِذا نسخ الْوُجُوب بِالتَّحْرِيمِ أَو قَالَ رفعت جَمِيع مَا دلّ عَلَيْهِ الْأَمر السَّابِق من جَوَاز الْفِعْل وَامْتِنَاع التّرْك فَيثبت التَّحْرِيم قطعا
وَهَذَا الْخلاف كثيرا مَا يعبر عَنهُ الْفُقَهَاء بقَوْلهمْ إِذا بَطل الْخُصُوص هَل يبطل الْعُمُوم
إِذا علمت ذَلِك فللمسألة فروع
أَحدهَا تَنْزِيل الْقِرَاءَة الشاذة فِي الِاحْتِجَاج بهَا منزلَة الْخَبَر وَسَيَأْتِي إِيضَاح الْمَسْأَلَة فِي أول الْكتاب الأول الْمَعْقُود للْكتاب
الثَّانِي الْخلاف فِي كَرَاهَة الْحجامَة والفصد للصَّائِم فالمجزوم بِهِ فِي الرَّافِعِيّ هُوَ الْكَرَاهَة وَتَابعه فِي الرَّوْضَة عَلَيْهَا ثمَّ جزم أَعنِي النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب بِأَنَّهُمَا خلاف الأولى وَلم يذكر الْكَرَاهَة أصلا وَنَصّ الشَّافِعِي فِي الْبُوَيْطِيّ على مَا يُوَافقهُ فَإِنَّهُ قَالَ وللصائم أَن يحتجم وَتَركه أحب إِلَيّ وَكَذَلِكَ فِي الْإِمْلَاء فِي بَاب نهي الْمُعْتَكف فَقَالَ وَلَا بَأْس أَن يحتجم الصَّائِم هَذَا لَفظه أَيْضا وَمن الْبُوَيْطِيّ
(1/101)
 
 
والإملاء نقلت وَنقل عَن الآم كَمَا فِي الْبُوَيْطِيّ وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي الْمَذْهَب كَمَا أوضحته فِي الْمُهِمَّات
وَجه تَفْرِيع هَذِه الْمَسْأَلَة على هَذِه الْقَاعِدَة أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفطر الحاجم والمحجوم يدل على التَّحْرِيم بِلَا شكّ
وَلَكِن ثَبت أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام احْتجم وَهُوَ صَائِم فَانْتفى التَّحْرِيم ثمَّ إِن قُلْنَا بِأَن الْمُتَكَلّم يدْخل فِي عُمُوم كَلَامه وَأَن كل مَا ثَبت فِي حَقه ثَبت مثله فِي حَقنا إِذا لم يقم دَلِيل على التَّخْصِيص وَهُوَ الصَّحِيح وَإِذا انْتَفَى التَّحْرِيم خَاصَّة بقيت دلَالَة اللَّفْظ الأول على الْمَنْع غير المتحتم وَتَقْرِيره كَمَا فِي عَكسه
الثَّالِث لَو أَشَارَ إِلَى حَيَوَان معيب عَيْبا مَانِعا من الْأُضْحِية فَقَالَ جعلت هَذَا أضْحِية أَو نذر التَّضْحِيَة بِهِ ابْتِدَاء وَجب ذبحه لالتزامه كمن أعتق عَن كَفَّارَته معيبا يعْتق ويثاب عَلَيْهِ وَإِن كَانَ لَا يَجْزِي عَن الْكَفَّارَة وَيكون ذبحه قربَة وتفرقة لَحْمه صَدَقَة وَلَا يَجْزِي عَن الضَّحَايَا والهدايا الْمَنْذُورَة لِأَن السَّلامَة مُعْتَبرَة فِيهَا وَهل يخْتَص ذَبحهَا بِيَوْم النَّحْر وتجري مجْرى الضَّحَايَا فِي الْمصرف
فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا لِأَنَّهَا لَيست أضْحِية بل شَاة لحم
(1/102)
 
 
وأصحهما كَمَا قَالَه فِي أصل الرَّوْضَة وَنَقله الرَّافِعِيّ عَن تَصْحِيح الإِمَام الْغَزالِيّ نعم لِأَنَّهُ أوجبهَا باسم الْأُضْحِية وَقد بَطل الْبَعْض فثبتت بَاقِي الْأَحْكَام فَإِنَّهُ لَا محمل لكَلَامه غَيره
الرَّابِع إِذا أَشَارَ إِلَى ظَبْيَة وَقَالَ جعلت هَذِه أضْحِية فَهُوَ لاغ وَإِن أَشَارَ إِلَى فصيل أَو سخلة وَقَالَ جعلت هَذِه أضْحِية فَهَل هُوَ كالظبية أم كالمعيب
فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا الثَّانِي
الْخَامِس لَو كَانَ فِي ذمَّته أضْحِية أَو هدي بِنذر أَو غَيره فعين عَمَّا عَلَيْهِ حَيَوَانا بِهِ عيب لم يتَعَيَّن وَلم تَبرأ ذمَّته بذَبْحه وَهل يلْزمه ذبح الْمعينَة بِالتَّعْيِينِ
ينظر
إِن قَالَ عينت هَذِه عَمَّا فِي ذِمَّتِي لم يلْزمه
وَإِن قَالَ لله عَليّ أَن أضحي بِهَذِهِ عَمَّا فِي ذِمَّتِي لزمَه على الْأَصَح
وَسَتَأْتِي الْإِشَارَة إِلَى هَذِه الْفُرُوع الثَّلَاثَة فِي أثْنَاء الْكتاب لمدرك آخر
السَّادِس إِذا بطلت الْجُمُعَة لخُرُوج الْوَقْت أَو نُقْصَان الْأَرْبَعين وَنَحْو ذَلِك فَالْأَصَحّ انقلابها ظهرا
وَالْقَائِل بِأَنَّهَا لَا تنْقَلب إِلَى ظهر تَحْتَهُ وَجْهَان
(1/103)
 
 
أَحدهمَا انقلابها نَافِلَة
وَالثَّانِي بُطْلَانهَا بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا لَو تحرم بِالظّهْرِ قبل الزَّوَال
وَيحْتَمل مَجِيء التَّفْصِيل بَين الْعَالم بِضيق الْوَقْت وَالْجَاهِل بِهِ
وَهَذَا الْكَلَام يَأْتِي نَظِيره فِيمَا إِذا خرج من الِاعْتِكَاف الَّذِي يجب فِيهِ التَّتَابُع بِلَا عذر
وَاعْلَم أَنا لما أبطلنا الْخُصُوص فِي مَسْأَلَتنَا أبطلناه إِلَى خُصُوص آخر وَهُوَ الظّهْر وَلم نبطله إِلَى الْعُمُوم مُطلقًا وَهُوَ النَّافِلَة وَهِي دَرَجَة متوسطة
السَّابِع يتَيَمَّم للفريضة قبل الْوَقْت فَإِنَّهُ لَا يَصح مُطلقًا على الصَّحِيح وَقيل يَصح للنفل
الثَّامِن إِذا نوى الْمُحدث أَو الْجنب بتيممه رفع الْحَدث فَإِنَّهُ لَا يَصح التَّيَمُّم على الصَّحِيح وَقيل يَصح لِأَن نِيَّة الرّفْع تَسْتَلْزِم الْإِبَاحَة
وَمثله إِذا نوى دَائِم الْحَدث بوضوئه ذَلِك
التَّاسِع إِذا نذر صَوْم يَوْم الْعِيد
فَقَالَت الْحَنَفِيَّة يَصح وَيلْزمهُ يَوْم آخر كَمَا لَو قَالَ لله عَليّ صِيَام يَوْم وَهَذَا قِيَاس بَقَاء الْعُمُوم كَمَا قُلْنَاهُ فِي مسَائِل تقدّمت
(1/104)
 
 
وَقد رَأَيْت فِي فروع ابْن كج فِي نَظِيره مثله فَقَالَ إِذا قَالَ لله عَليّ صِيَام يَوْم بِغَيْر نِيَّة فقد ذكرنَا أَنه على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه يلْزمه صِيَامه بنية وَالثَّانِي أَن النّذر بَاطِل هَذِه عِبَارَته
وَلَكِن اتّفق الْأَصْحَاب على إبِْطَال النّذر فِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة أَعنِي يَوْم الْعِيد وبالغوا فِي الرَّد على الْحَنَفِيَّة وَفِيه مَا ذَكرْنَاهُ
ثمَّ حكى ابْن كج الْوَجْهَيْنِ أَيْضا فِيمَا إِذا كَانَ بِبَغْدَاد مثلا فِي أول ذِي الْحجَّة فَقَالَ لله عَليّ أَن أحج فِي هَذَا الْعَام هَل يلْزمه حجَّة أم لَا ونباهما على مَا إِذا نذر صَوْم نصف يَوْم
وَوجه الشّبَه أَن بعض الْعِبَادَة مُمكن وَهُوَ الْإِحْرَام وَإِن حكمنَا عَلَيْهِ بعد ذَلِك بالفوات وَلُزُوم حجه لكنه جزم بِبُطْلَان النّذر إِذا قَالَ لله عَليّ عتق عبد فلَان
الْعَاشِر إِذا نذر صَلَاة وَعين لَهَا مَسْجِدا غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة بَطل التَّعْيِين وَوَجَب الصَّلَاة بِلَا محَالة ويوقعها فِي أَي مَوضِع أَرَادَ
الحادري عشر إِذا قَالَ لله تَعَالَى عَليّ أَن آتِي بَيت الله الْحَرَام لزمَه قَصده بِحَجّ اَوْ عمْرَة فَلَو صرح بِنَفْي ذَلِك فَقَالَ بِلَا حج وَلَا عمْرَة فَقيل لَا ينْعَقد نَذره بِالْكُلِّيَّةِ وَقيل ينْعَقد وَيَلْغُو مَا نَفَاهُ وَصَححهُ
(1/105)
 
 
فِي الرَّوْضَة من زوائده وَالَّذِي ذكره غير مُنْتَظم كَمَا أوضحته فِي الْمُهِمَّات
الثَّانِي عشر قَالَ إِن شفا الله مريضي فَللَّه عَليّ أَن أَتصدق بِعشْرَة على فلَان فشفاه الله تَعَالَى لزمَه التَّصَدُّق عَلَيْهِ فَإِن لم يقبل لم يلْزمه شَيْء كَذَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ قَالَ وَهل لفُلَان مُطَالبَته بالتصدق بعد الشِّفَاء يحْتَمل أَن يُقَال لَهُ ذَلِك كَمَا يُطَالب العَبْد الْمَنْذُور اعتاقه ومستحقو الزَّكَاة إِذا كَانُوا مَحْصُورين انْتهى
وَلم يَقُولُوا يبْقى عُمُوم النّذر حَتَّى يصرفهُ إِلَى غَيره وَلم يَقُولُوا أَيْضا بإجباره على الْقبُول كَمَا يجْبر المستحقون المحصورون
وَالْفرق أَن النَّاذِر هُوَ الَّذِي كلف نَفسه بذلك وَأما الزَّكَاة فأوجبها الشَّارِع ابْتِدَاء فالامتناع مِنْهَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل أحد الْأَركان الَّتِي بني عَلَيْهَا الْإِسْلَام
وَلَو أجَاب زيد بعد الِامْتِنَاع فتعبير الرَّافِعِيّ مشْعر بِأَن الْإِعْطَاء لَهُ لَا يجب وَهُوَ مُتَّجه فَإِنَّهُ إِعْرَاض عَن حق ثَبت لَهُ وَيُؤَيِّدهُ أَنه إِذا وقف على معِين ورد الْمعِين الْقبُول فَإِن الْوَقْف يرْتَد وَإِن قُلْنَا لَا يحْتَاج إِلَى الْقبُول
الثَّالِث عشر إِذا بَاعَ السَّيِّد العَبْد الْمَأْذُون أَو أعْتقهُ فَفِي انعزاله وَجْهَان أصَحهمَا كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي بَاب مداينة العبيد أَنه يَنْعَزِل فَلَو قَالَ لَهُ السَّيِّد إِن شِئْت فبع هَذَا وَإِن شِئْت فَلَا ثمَّ اعتقه أَو بَاعه فَلَا يبطل الْإِذْن بِلَا خلاف فَإِن عبر بقوله بِعْ هَذَا أَو بقوله
(1/106)
 
 
وَكلتك فِي بَيْعه فَثَلَاثَة أوجه حَكَاهَا الرَّافِعِيّ فِي الْكَبِير من غير تَرْجِيح ثَالِثهَا إِن كَانَ بِلَفْظ الْوكَالَة لم يَنْعَزِل وَإِن كَانَ بِلَفْظ الْأَمر انْعَزل وَقَالَ فِي الشَّرْح الصَّغِير إِن هَذَا الثَّالِث هُوَ أقرب الْوُجُوه وَصحح النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه انعزاله مُطلقًا وَنَقله فِي الرَّوْضَة من زوائده عَن تَصْحِيح الْمَاوَرْدِيّ والجرجاني وَسكت عَلَيْهِ
الرَّابِع عشر إِذا فرعنا على أَن الْوَقْف على نَفسه لَا يَصح وعَلى أَن الْوَقْف الْمُطلق وَهُوَ الَّذِي لم يذكر مصرفه يَصح فَقَالَ وقفت على نَفسِي فَالْأَصَحّ بُطْلَانه وَقيل يَصح وَيَلْغُو التَّقْيِيد قَالَ الرَّافِعِيّ وَيَنْبَغِي اطراده فِي الْوَقْف على من لَا يجوز مُطلقًا
الْخَامِس عشر قَالَ لزوجته طَلِّقِي نَفسك فَقَالَت أَنا طَالِق إِذا قدم زيد لم يَقع بِهِ شَيْء لِأَن التَّنْجِيز لم توقعه وَالتَّعْلِيق لم يملكهَا إِيَّاه
وَقيل يَقع بعد وجود الصّفة كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ قَالَ وَكَذَا حكم تَفْوِيض الْإِعْتَاق إِلَى العَبْد وَلَو خرجوه على قاعدتنا لَكَانَ يَقع الْمُنجز على الصَّحِيح أَو على وَجه
السَّادِس عشر إِذا أعتق عبدا عَن كَفَّارَته وَكَانَ بِهِ مَا يمْنَع من الْإِجْزَاء فَإِن الْعتْق ينفذ لَا عَن الْكَفَّارَة كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي كتاب الظِّهَار حَتَّى بَالغ فَقَالَ إِذا قَالَ لمكاتبه إِذا عجزت عَن النُّجُوم فَأَنت حر عَن كفارتي
(1/107)
 
 
فعجز عتق وَلَا يَجْزِي عَن الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ حِين علق لم يكن بِصفة الْإِجْزَاء قَالَ وَكَذَا إِذا قَالَ لكَافِر إِذا أسلمت أَو علق بِخُرُوج الْجَنِين سليما
السَّابِع عشر إِذا نذر صَلَاة فَاسِدَة هَل تلْزمهُ صَلَاة صَحِيحَة فِيهِ وَجْهَان فِي بَاب الْإِحْرَام بِالْحَجِّ من زَوَائِد الرَّوْضَة أصَحهمَا وَهُوَ مَا جزم بِهِ فِي كتاب النّذر عدم الِانْعِقَاد وَمثله إِذا نذر أَن يقْرَأ الْقُرْآن جنبا فَإِن نَذره لَا يَصح كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي أَوَاخِر كتاب الْأَيْمَان
الثَّامِن عشر إِذا قَالَ اعْتِقْ مستولدتك على ألف فَأعْتقهَا نفذ الْعتْق وَثبتت الْألف وَكَانَ ذَلِك افتداء من السَّائِل كاختلاع الْأَجْنَبِيّ وَلَو قَالَ أعْتقهَا عني على ألف فَقَالَ اعتقها عَنْك نفذ الْعتْق ولغت الْإِضَافَة وَهِي التَّعْبِير بقوله عَنْك وعني وَهل يسْتَحق عوضا على وَجْهَيْن أَحدهمَا نعم على إِلْغَاء الْإِضَافَة وَالصَّحِيح أَنه لَا يسْتَحق لِأَنَّهُ الْتَزمهُ على تَقْدِير حُصُول الْعتْق عَنهُ وَلم يحصل
(1/108)
 
 
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَرْكَان الحكم وَهِي الْحَاكِم والمحكوم عَلَيْهِ وَبِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
 
مَسْأَلَة 1
 
الْأَفْعَال الصادرة من الشَّخْص قبل بعثة الرُّسُل إِن كَانَت اضطرارية كالتنفس فِي الْهَوَاء وَأكل مَا تقوم بِهِ البنية فَهِيَ غير مَمْنُوع مِنْهَا وَأما الاختيارية وَأكل الْفَاكِهَة وَنَحْوهَا فَثَلَاثَة أَقْوَال للشَّافِعِيَّة وَغَيرهم
أَحدهَا أَنَّهَا على الْإِبَاحَة
وَالثَّانِي على الْحَظْر
(1/109)
 
 
وَالثَّالِث وَهُوَ رَأْي الْأَشْعَرِيّ التَّوَقُّف بِمَعْنى عدم الْعلم وَاخْتَارَهُ الصَّيْرَفِي وَالْإِمَام فَخر الدّين
(1/110)
 
 
فَإِن قيل قد ذكر الإِمَام أَيْضا فِي آخر الْمَحْصُول وَكَذَلِكَ أَتْبَاعه أَن الأَصْل فِي الْمَنَافِع هُوَ الْإِبَاحَة على الصَّحِيح
قُلْنَا الْخلاف هُنَاكَ فِيمَا بعد الشَّرْع بأدلة سمعية
إِذا علمت ذَلِك فللمسألة فروع مِنْهَا
1 - إِذا وَقعت وَاقعَة وَلم يُوجد من يُفْتِي فِيهَا فَحكمهَا كَمَا قَالَ فِي الرَّوْضَة فِي كتاب الْقَضَاء حكم مَا قبل وُرُود الشَّرْع قَالَ وَالصَّحِيح فِي ذَلِك أَنه لَا حكم فِيهَا وَلَا تَكْلِيف أصلا وَلَا يُؤَاخذ صَاحب الْوَاقِعَة بِمَا يَفْعَله
2 - وَمِنْهَا لَو خَفِي عَلَيْهِ الْمِقْدَار المعفو عَنهُ من النَّجَاسَة أَو خَفِي عَلَيْهِ جنسه وَلم يجد من يعرفهُ فَيتَّجه بِنَاؤُه على هَذَا الأَصْل لَكِن قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي أَوَاخِر كِتَابه الْمُسَمّى بالغياثي الْوَجْه أَن يُقَال إِن كَانَ التشاغل بإزالته يُفْضِي إِلَى مشقة تذهله عَن مهمات دينه ودنياه لم تجب إِزَالَته وَإِلَّا وَجَبت
وَاعْلَم أَن الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ فِي كتاب الْقَضَاء قد بنيا على هَذَا الْخلاف أَيْضا تَقْرِير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيره على فعل من الْأَفْعَال هَل يدل على الْجَوَاز من جِهَة الشَّرْع أَو من جِهَة الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة وَكَون الأَصْل هُوَ الْإِبَاحَة
(1/111)
 
 
فان قُلْنَا أصل الْأَشْيَاء على التَّحْرِيم دلّ التَّقْرِير على الْجَوَاز شرعا
وان قُلْنَا أَصْلهَا على الْإِبَاحَة فَلَا
وَمن فَوَائِد هَذَا الْخلاف الْأَخير أَن رَفعه هَل يكون نسخا أم لَا فَإِن رفع الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة بابتداء شَرْعِيَّة الْعِبَادَات لَيْسَ بنسخ على مَا أوضحناه فِي مَوْضِعه
 
مَسْأَلَة 2
 
هَل يَصح تَعْلِيق التَّكْلِيف بايقاع الْفِعْل مِمَّن لَا يفهم ويعبر عَنهُ بالغافل كَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُون والنائم وَغَيرهم
فِيهِ خلاف مَبْنِيّ على التَّكْلِيف بالمحال
فَإِن منعنَا ذَلِك منعنَا هَذَا بطرِيق الأولى
وَإِن جوزناه فللأشعري هَهُنَا قَولَانِ نقلهما ابْن التلمساني وَغَيره قَالُوا وَالْفرق أَن التَّكْلِيف هُنَاكَ فِيهِ فَائِدَة وَهِي ابتلاء الشَّخْص واختباره وَفرقُوا بَين التَّكْلِيف بالمحال وتكليف الْمحَال أَي بِإِسْقَاط الْبَاء فَقَالُوا
(1/112)
 
 
الأول أَن يكون الْخلَل رَاجعا إِلَى الْمَأْمُور بِهِ وَالثَّانِي ضابطه رُجُوع الْخلَل إِلَى الْمَأْمُور نَفسه كتكليف الغافل
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - أَن السَّكْرَان هَل هُوَ مُكَلّف حَتَّى تصح تَصَرُّفَاته كلهَا سَوَاء كَانَت لَهُ أَو عَلَيْهِ وَإِقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِ والتعازير وَنَحْو ذَلِك أم لَا
فِيهِ ثَلَاثَة أوجه
الصَّحِيح أَنه مُكَلّف وَحكمه حكم الصاحي فِي هَذِه الْأُمُور كلهَا
وَثَانِيها لَا
وَثَالِثهَا يصلح مَا عَلَيْهِ دون مَاله مُؤَاخذَة وتغليظا
وَقد نَص الشَّافِعِي فِي الْأُم فِي بَاب طَلَاق السَّكْرَان على الأول فَقَالَ مَا نَصه فَإِن قَالَ قَائِل فَهَذَا مغلوب على عقله وَالْمَرِيض وَالْمَجْنُون مغلوب على عقله
قيل الْمَرِيض مأجور وَيكفر عَنهُ بِالْمرضِ مَرْفُوع عَنهُ الْقَلَم إِذا ذهب عقله وَهَذَا إِثْم مَضْرُوب على السكر غير مَرْفُوع عَنهُ الْقَلَم فَكيف يُقَاس من عَلَيْهِ الْعقَاب بِمن لَهُ الثَّوَاب
(1/113)
 
 
هَذَا لَفظه بِحُرُوفِهِ وَمن الْأُم نقلته وَنَقله أَيْضا الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر
وَهَذَا النَّص الَّذِي ذكرته صَرِيح أَيْضا فِي رد مَا قَالَه الشَّيْخ عز الدّين فِي الْقَوَاعِد إِنَّه لَا ثَوَاب على حُصُول المصائب والآلام وَإِنَّمَا الثَّوَاب على الصَّبْر عَلَيْهَا أَو الرضى بهَا فَإِنَّهُ حكم بأجره مَعَ زَوَال عقله
(1/114)
 
 
وَإِذا علمت مَا ذَكرْنَاهُ علمت أَن الصَّحِيح عِنْد الْفُقَهَاء خلاف مَا صَححهُ الأصوليون
وَقد غلط النَّوَوِيّ فِي مَوَاضِع من الرَّوْضَة وَغَيرهَا غَلطا فَاحِشا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَإِن الرَّافِعِيّ قد قَالَ فِي البيع وَالطَّلَاق وَغَيرهمَا إِنَّه يشْتَرط فِي نفوذها التَّكْلِيف فَاعْترضَ النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فَقَالَ لَا بُد من اسْتثِْنَاء السَّكْرَان فَإِنَّهُ غير مُكَلّف كَمَا بَينه أَصْحَابنَا فِي الْأُصُول وَمَعَ ذَلِك تصح تَصَرُّفَاته على الصَّحِيح
وَالَّذِي قَالَه ذُهُول عَجِيب وغفلة فَاحِشَة فالفقهاء قد قَالُوا بتأثيمه وَإِيجَاب الْحُدُود والتعازير عَلَيْهِ ونفوذ تَصَرُّفَاته كلهَا سَوَاء كَانَت عَلَيْهِ أَو لَهُ فَأَي معنى للتكاليف غير هَذَا
وَحَاصِله أَنه غفل فاشتبهت عَلَيْهِ طَريقَة الْفُقَهَاء بطريقة الْأُصُولِيِّينَ
(1/115)
 
 
مَسْأَلَة 3
 
لَا يشْتَرط التَّكْلِيف فِي خطاب الْوَضع كجعل الْإِتْلَاف مُوجبا للضَّمَان وَنَحْو ذَلِك وَلِهَذَا تجب الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالضَّمان بفعلهما وَفعل الساهي والبهيمة بِالشّرطِ الْمَعْرُوف فِي بَابه وَيتَفَرَّع على ذَلِك أَيْضا فروع فِيهَا نظر مِنْهَا
1 - إِذا جن الْمحرم فَقتل صيدا فَإِن الْجَزَاء لَا يج