التقرير والتحبير علي تحرير الكمال بن الهمام 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: التقرير والتحبير
المؤلف: أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن أمير حاج ويقال له ابن الموقت الحنفي (المتوفى: 879هـ)
عدد الأجزاء: 3
 
وَالتَّكْرَارُ خَارِجَانِ) عَنْ حَقِيقَتِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ الِامْتِثَالُ بِهِ فِي أَيِّهِمَا وُجِدَ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِأَحَدِهِمَا (وَدُفِعَ) هَذَا كَمَا أَفَادَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ (بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالنِّزَاعِ) لِأَنَّ الْمُخَالِفَ يَقُولُ: هِيَ لِلْحَقِيقَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْمَرَّةِ أَوْ التَّكْرَارِ (وَبِأَنَّهُمَا) أَيْ وَاسْتَدَلَّ لَهُ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ (مِنْ صِفَاتِهِ) أَيْ الْفِعْلِ كَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ (وَلَا دَلَالَةَ لِلْمَوْصُوفِ) بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ (عَلَى الصِّفَةِ) الْمُعَيَّنَةِ مِنْهَا فَلَا دَلَالَةَ لِلْأَمْرِ الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ عَلَيْهِمَا (وَدُفِعَ) هَذَا كَمَا أَفَادَهُ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ أَيْضًا (بِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ دَلَالَةِ الْمَادَّةِ أَيْ الْمَصْدَرِ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ الْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ (وَالْكَلَامَ) فِي انْتِقَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا (فِي الصِّيغَةِ) فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَدُلَّ الصِّيغَةُ عَلَى الْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ، وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَاحْتِمَالُ الصِّيغَةِ لَهُمَا لَا يَمْنَعُ ظُهُورَ أَحَدِهِمَا وَالْمُدَّعَى الدَّلَالَةُ بِحَسَبِ الظُّهُورِ لَا النُّصُوصِيَّةُ (قَالُوا) أَيْ الْمُكَرِّرُونَ (تَكَرَّرَ) الْمَطْلُوبُ (فِي النَّهْيِ فَعُمَّ) فِي الْأَزْمَانِ (فَوَجَبَ) التَّكْرَارُ أَيْضًا (فِي الْأَمْرِ لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ (طَلَبٌ قُلْنَا) هَذَا (قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ فِي دَلَالَةِ لَفْظٍ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ (وَ) أُجِيبَ أَيْضًا (بِالْفَرْقِ) بَيْنَهُمَا (بِأَنَّ النَّهْيَ لِتَرْكِهِ) أَيْ الْفِعْلِ (وَتَحَقُّقِهِ) أَيْ التَّرْكِ (بِهِ) أَيْ بِالتَّرْكِ (فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَالْأَمْرُ لَا يُنَافِيهِ) أَيْ الْفِعْلَ (وَيَتَحَقَّقُ) الْفِعْلُ (بِمَرَّةٍ وَيَأْتِي) فِي هَذَا أَيْضًا (أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ) لِأَنَّ كَوْنَهُ لِمُجَرَّدِ إثْبَاتِهِ الْحَاصِلِ بِمَرَّةٍ عَيْنُ النِّزَاعِ إذْ هُوَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ لِإِثْبَاتِهِ دَائِمًا.
(وَأَمَّا) الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْبَدِيعِ (بِأَنَّ التَّكْرَارَ مَانِعٌ مِنْ) فِعْلِ (غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ) لِأَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا لَا تُجَامِعُ كُلَّ فِعْلٍ (فَيَتَعَطَّلُ) مَا سِوَاهُ مِنْ الْمَأْمُورِ وَالْمَصَالِحِ الْمُهِمَّاتِ (بِخِلَافِ النَّهْيِ) فَإِنَّ التُّرُوكَ تُجَامِعُ كُلَّ فِعْلٍ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ: (فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مَدْلُولِهِ) أَيْ لَفْظِ الْأَمْرِ (وَلَيْسَ) مَدْلُولُهُ (مَلْزُومَ الْإِرَادَةِ) لِلتَّكْرَارِ (فَيَجِبُ انْتِفَاؤُهَا) أَيْ إرَادَةِ التَّكْرَارِ (لِلْمَانِعِ) مِنْهَا (قَالُوا) أَيْ الْمُكَرِّرُونَ أَيْضًا: الْأَمْرُ (نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَهُوَ) أَيْ النَّهْيُ (دَائِمِيٌّ) أَيْ يَمْنَعُ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ دَائِمًا (فَيَتَكَرَّرُ) الْأَمْرُ (فِي الْمَأْمُورِ) أَيْ بِهِ، وَالْوَجْهُ عَدَمُ حَذْفِهِ ثُمَّ الظَّاهِرُ فَيَتَكَرَّرُ الْمَأْمُورُ بِهِ.
(قُلْنَا: تَكَرُّرُ) النَّهْيِ (الْمَضْمُونِ فَرْعُ تَكَرُّرِ) الْأَمْرِ (الْمُتَضَمِّنِ، فَإِثْبَاتُ تَكَرُّرِهِ) أَيْ تَكَرُّرِ الْأَمْرِ الْمُتَضَمِّنِ (بِهِ) أَيْ بِتَكَرُّرِ النَّهْيِ الْمَضْمُونِ (دَوْرٌ) لِتَوَقُّفِ تَكَرُّرِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ (وَلَيْسَ) هَذَا الْجَوَابُ (بِشَيْءٍ) دَافِعٍ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ (بَلْ إذَا كَانَ) تَكَرُّرُ النَّهْيِ الْمَضْمُونِ (فَرْعَهُ) أَيْ تَكَرُّرِ الْأَمْرِ الْمُتَضَمِّنِ (وَتَحَقَّقْنَا ثُبُوتَهُ) أَيْ تَكَرُّرِ النَّهْيِ (اسْتَدْلَلْنَا بِهِ) أَيْ بِتَكَرُّرِهِ (عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ) أَيْ الْأَمْرَ (كَذَلِكَ) أَيْ لِلتَّكْرَارِ (مِنْ قَبِيلِ) الْبُرْهَانِ (الْآنِيِّ) هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤْثَرِ (بَلْ) يَلْزَمُ (لِلْفَرْعِيَّةِ) أَيْ لِكَوْنِ تَكْرَارِ النَّهْيِ فَرْعَ تَكْرَارِ الْأَمْرِ (إذَا كَانَ) الْأَمْرُ (دَائِمًا كَانَ) نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ (دَائِمًا أَوْ) كَانَ الْأَمْرُ (فِي) وَقْتٍ (مُعَيَّنٍ فَفِيهِ) أَيْ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ الْأَمْرُ (نَهْيُ الضِّدِّ) أَيْ عَنْ أَضْدَادِهِ (أَوْ) كَانَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا فَفِي (وَقْتِ الْفِعْلِ) لِلْمَأْمُورِ بِهِ يَكُونُ الْأَمْرُ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ (الْمُعَلَّقِ) أَيْ الْقَائِلِ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ قَالَ (تَكَرُّرُ) الْمَأْمُورِ بِهِ (فِي نَحْوِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فَتَكَرُّرُ وُجُوبِ الِاطِّهَارِ بِتَكَرُّرِ الْجَنَابَةِ.
(قُلْنَا: الشَّرْطُ هُنَا عِلَّةٌ فَيَتَكَرَّرُ) مُوجَبُ الْأَمْرِ (بِتَكْرَارِهَا اتِّفَاقًا) ضَرُورَةَ تَكَرُّرِ الْمَعْلُولِ بِتَكَرُّرِ عِلَّتِهِ (لَا بِالصِّفَةِ وَأَمَّا غَيْرُهُ) أَيْ مَا لَا يَكُونُ عِلَّةً (كَإِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ فَأَعْتِقْ
(1/312)
 
 
فَخِلَافٌ) فِي كَوْنِهِ لِلتَّكْرَارِ (وَالْحَقُّ النَّفْيُ) أَيْ نَفْيُ التَّكْرَارِ فِيهِ (فَإِنْ قُلْت فَكَيْفَ نَفَاهُ) أَيْ تَكَرُّرَ الْحُكْمِ بِتَكْرَارِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّتُهُ (الْحَنَفِيَّةُ فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ) {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (فَلَمْ يَقْطَعُوا فِي) الْمَرَّةِ (الثَّالِثَةِ) يَدَ السَّارِقِ الْيُسْرَى إذَا كَانَ قَدْ قُطِعَ فِي الْأُولَى يَدُهُ الْيُمْنَى، وَفِي الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مَعَ أَنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةُ الْقَطْعِ (وَجَلَدُوا فِي الزَّانِي بِكْرًا أَبَدًا) أَيْ كُلَّمَا زَنَى مَعَ أَنَّ الزِّنَا عِلَّةُ الْجَلْدِ (فَالْجَوَابُ أَمَّا مَانِعُو تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَلَمْ يُعَلَّقْ) الْقَطْعُ عِنْدَهُمْ (بِعِلَّةٍ) هِيَ السَّرِقَةُ (لِأَنَّ عَدَمَ قَطْعِ يَدِهِ فِي الثَّانِيَةِ إجْمَاعًا نَقْضٌ) لِكَوْنِهَا عِلَّةً لِتَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا (فَوَجَبَ عَدَمُ الِاعْتِبَارِ) لَهَا عِلَّةً لَهُ (فَبَقِيَ مُوجِبُهُ) أَيْ النَّصُّ (الْقَطْعُ مَرَّةً مَعَ السَّرِقَةِ) بِخِلَافِ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ عُلِّقَ بِعِلَّةٍ هِيَ الزِّنَا فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ.
(وَالْوَجْهُ الْعَامُ) أَيْ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَبِعَدَمِ جَوَازِهِ بَيْنَ هَذَيْنِ (أَنَّهُ) أَيْ نَصَّ الْقَطْعِ (مُؤَوَّلٌ إذْ حَقِيقَتُهُ قَطْعُ الْيَدَيْنِ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ) وَهِيَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهَا إجْمَاعًا (بَلْ صُرِفَ) النَّصُّ (عَنْهُ) أَيْ عَنْ قَطْعِ الْيَدَيْنِ (إلَى وَاحِدَةٍ هِيَ الْيُمْنَى بِالسُّنَّةِ) قُلْت: غَيْرَ أَنَّ كَوْنَ السُّنَّةِ مُفِيدَةً لِلِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدَةٍ كَثِيرٌ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضًا مِنْهُ، وَأَمَّا كَوْنُهَا مُعَيِّنَةً لِلْيُمْنَى فَلَا يَحْضُرُنِي مِنْهَا مَا يُفِيدُ بِمُجَرَّدِهِ تَعَيُّنَ الْيُمْنَى أَلْبَتَّةَ بَلْ غَايَةُ مَا حَضَرَنِي مِنْهَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَمِينَهُ» كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَهُوَ لَا يُفِيدُ تَعَيُّنَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا يُمْنَى بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ كَوْنَ قَطْعِهَا مُخْرِجًا عَنْ الْعَهْدِ لِكَوْنِهَا مِنْ صَدَقَاتِ الْيَدِ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِعَدَمِ إجْزَاءِ قَطْعِ الْيُسْرَى، نَعَمْ إذَا ضُمَّ إلَيْهِ.
وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعُ الْيُسْرَى مَعَ قِيَامِ الْيُمْنَى فَحَيْثُ لَمْ يَقْطَعْ الْيُسْرَى حِينَئِذٍ وَالْيُمْنَى أَنْفَعُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ وَحْدَهَا مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِالْيُسْرَى، وَمِنْ عَادَتِهِ طَلَبُ الْأَيْسَرِ لِلْأُمَّةِ مَا أَمْكَنَ دَلَّ عَلَى تَعَيُّنِ الْيُمْنَى لِلْقَطْعِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ (وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ) فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا عَلَى مَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ، أَوْ وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ عَلَى مَا فِي تَفْسِيرِ الزَّجَّاجِ وَالْكَشَّافِ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ (وَالْإِجْمَاعِ) وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ وَلَا عِبْرَةَ بِمَا نُقِلَ عَنْ شُذُوذٍ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ لِأَنَّ بِهَا الْبَطْشَ (فَظَهَرَ) بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ (أَنَّ الْمُرَادَ) مِنْ النَّصِّ (انْقِسَامُ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ أَيْ كُلُّ سَارِقٍ فَاقْطَعُوا يَدَهُ الْيُمْنَى بِمُوجَبِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ) وَهُوَ " أَيْدِيَهُمَا " (عَلَيْهِ) أَيْ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الْيُمْنَى لِمَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّا نَقُولُ (فَلَوْ فُرِضَتْ) السَّرِقَةُ (عِلَّةً) لِلْقَطْعِ (تَعَذَّرَ) الْقَطْعُ فِي الثَّانِيَةِ (لِفَوْتِ مَحَلِّ الْحُكْمِ) الَّذِي هُوَ الْقَطْعُ وَهُوَ الْيُمْنَى (فِي الثَّانِيَةِ) لِقَطْعِهَا فِي الْأُولَى (بِخِلَافِ الْجَلْدِ) فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِالزِّنَا لِعَدَمِ فَوْتِ مَحَلِّهِ وَهُوَ الْبَدَنُ بِالْجَلْدِ السَّابِقِ، ثُمَّ لَا يُقَالُ لَمَّا تَعَذَّرَ فِي الثَّانِيَةِ أُقِيمَتْ الرِّجْلُ الْيُسْرَى مَقَامَهَا فِيهِ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ.
(وَقَطْعُ الرِّجْلِ فِي الثَّانِيَةِ بِالسُّنَّةِ ابْتِدَاءً) فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَبِالْإِجْمَاعِ، وَقَالَ (الْوَاقِفُ) لَوْ ثَبَتَ كَوْنُهُ لِلْمَرَّةِ أَوْ لِلتَّكْرَارِ (فَأَمَّا بِالْآحَادِ) وَهِيَ إنَّمَا تُفِيدُ الظَّنَّ - وَالْمَسْأَلَةُ عِلْمِيَّةٌ - أَوْ بِالتَّوَاتُرِ وَهُوَ يَمْنَعُ الْخِلَافَ وَالْعَقْلُ الصِّرْفُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ فَلَزِمَ الْوَقْفُ (وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ " صِيغَةُ الْأَمْرِ خَاصٌّ فِي الْوُجُوبِ لِلْوَاقِفِ فِي كَوْنِهَا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ " وَجَوَابُهُ (وَسُؤَالُ) الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَجِّ (أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ أَوْرَدَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ) دَلِيلًا (لِاحْتِمَالِ التَّكْرَارِ) ، فَقَالَ فَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ لَمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَيْ
(1/313)
 
 
وَكَوْنُهُ دَلِيلًا (لِلْوَقْفِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي) وَهُوَ لَا يَدْرِي مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ أَهُوَ الْمَرَّةُ أَمْ التَّكْرَارُ (أَظْهَرُ) مِنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا لِاحْتِمَالِ التَّكْرَارِ لِأَنَّ كَوْنَهُ ظَاهِرًا لِلْمَرَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ السُّؤَالِ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ لِجَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الِاسْتِخْبَارِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ خَفِيًّا عَلَى السَّامِعِ فَإِنَّ سُؤَالَهُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِيهِ وَالْأَصْلُ الْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ (وَإِيرَادُهُ) دَلِيلًا (لِإِيجَابِ التَّكْرَارِ وُجِّهَ بِعِلْمِهِ) أَيْ السَّائِلِ (بِدَفْعِ الْحَرَجِ) فِي الدِّينِ وَفِي حَمْلِ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ عَلَى التَّكْرَارِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَإِنَّمَا يُصَحِّحُ) هَذَا التَّوْجِيهَ (السُّؤَالُ) عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْأَمْرِ لِلتَّكْرَارِ، إذْ يُقَالُ: إنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَيُعْتَذَرُ بِهَذَا (لَا كَوْنُهُ دَلِيلًا لِوُجُوبِ التَّكْرَارِ) لِاسْتِغْنَائِهِ حِينَئِذٍ عَنْ السُّؤَالِ ظَاهِرًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ (أَوْ احْتِمَالِهِ) فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْسَارَ قَدْ يَكُونُ لِلْقَطْعِ بِالْمَرْجُوحِ لِظَنِّهِ بِقَرِينَةٍ عَلَيْهِ (ثُمَّ الْجَوَابُ) لِلْجُمْهُورِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ (أَنَّ الْعِلْمَ بِتَكْرِيرِ) الْحُكْمِ (الْمُتَعَلِّقِ بِسَبَبٍ مُتَكَرِّرٍ ثَابِتٌ فَجَازَ كَوْنُهُ) أَيْ سُؤَالِ السَّائِلِ (لِإِشْكَالِ أَنَّهُ) أَيْ سَبَبَ الْحَجِّ (الْوَقْتُ فَيَتَكَرَّرُ) الْحَجُّ لِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ (أَوْ) أَنَّ سَبَبَهُ (الْبَيْتُ فَلَا) يَتَكَرَّرُ لَا لِكَوْنِ الْأَمْرِ يُوجِبُ التَّكْرَارَ أَوْ يَحْتَمِلُهُ أَوْ لِلْوَقْفِ فِي مُقْتَضَاهُ، وَالِاحْتِمَالُ مُسْقِطٌ لِلِاسْتِدْلَالِ ثُمَّ الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ، نَعَمْ كَوْنُ السَّائِلِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ هُوَ كَذَلِكَ عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، ثُمَّ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْمَعْنَى لَوْ قُلْت نَعَمْ لَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ فِي كُلِّ عَامٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْأَمْرِ، وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ مَعْنَاهُ لَصَارَ الْوَقْتُ سَبَبًا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ صَاحِبَ الشَّرْعِ وَإِلَيْهِ نَصْبُ الشَّرَائِعِ. هَذَا وَفِي التَّلْوِيحِ وَفِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ سُرَاقَةُ، فَقَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَمْرِ اهـ. وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِذَلِكَ وَاَلَّذِي فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْآثَارِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا أَمَرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ عُمْرَتِنَا هَذِهِ أَلَنَا خَاصَّةً أَمْ هِيَ لِلْأَبَدِ قَالَ هِيَ لِلْأَبَدِ» (وَبَنَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ) أَيْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَصَدْرِ الشَّرِيعَةِ (عَلَى التَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ وَاحْتِمَالِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ أَوْ طَلِّقْهَا يَمْلِكُ) الْمَأْمُورُ أَنْ يُطَلِّقَ (أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدَةِ) جُمْلَةً وَمُتَفَرِّقَةً (بِلَا نِيَّةٍ عَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ التَّكْرَارِ، أَمَّا مَا لَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فَفِي الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا نَوَى عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ وَإِنْ أَوْجَبَ التَّكْرَارَ عِنْدَهُمْ فَقَدْ يَمْنَعُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ، وَالنِّيَّةُ دَلِيلٌ، انْتَهَى.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْهُ مُسَلَّمٌ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَفِيمَا فِيهِ تَخْفِيفٌ وُجِدَ الْمَانِعُ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ مُوجَبِهِ، وَهُوَ الثَّلَاثُ لِلتَّخْفِيفِ (وَبِهَا) أَيْ وَيَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدَةِ بِالنِّيَّةِ (عَلَى الثَّالِثِ) أَيْ احْتِمَالِ التَّكْرَارِ مُطَابِقًا لِنِيَّتِهِ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ لَا غَيْرُ (وَعَلَى الثَّانِي) أَيْ عَدَمِ احْتِمَالِهِ التَّكْرَارَ (وَهُوَ) أَيْ الثَّانِي (قَوْلُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ (وَاحِدَةٌ) سَوَاءٌ نَوَاهَا أَوْ الثِّنْتَيْنِ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا (وَالثَّلَاثُ بِالنِّيَّةِ لَا الثِّنْتَانِ) وَإِنْ نَوَاهُمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَفَرِّعَ) فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (تَعْدَادُ الْأَفْرَادِ) لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَعَدَمُ
(1/314)
 
 
تَعْدَادِهَا (وَلَيْسَ) تَعْدَادُهَا (التَّكْرَارَ) لِلْفِعْلِ (وَلَا مَلْزُومَهُ) أَيْ التَّكْرَارِ (لِلتَّعَدُّدِ) فِي الْأَفْرَادِ (وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ فِي التَّطْلِيقِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا) فَإِنَّ فِيهِ تَعَدُّدَ الطَّلَاقِ مَعَ عَدَمِ تَكَرُّرِ فِعْلِ الْمُطَلِّقِ (فَهُوَ) أَيْ تَعَدُّدُ الْأَفْرَادِ (لَازِمٌ لِلتَّكْرَارِ أَعَمَّ) مِنْهُ لِصِدْقِهِ مَعَ التَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ (فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ التَّعَدُّدِ ثُبُوتُهُ) أَيْ التَّكْرَارِ (وَلَا مِنْ انْتِفَاءِ التَّكْرَارِ انْتِفَاؤُهُ) أَيْ التَّعَدُّدِ (فَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَأَمْثَالُهَا غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ عَلَى هَذَا الْمُبْتَنَى بَلْ هِيَ مَسْأَلَةٌ (مُبْتَدَأَةٌ) .
 
هَكَذَا (صِيغَةُ الْأَمْرِ لَا تَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ الْمَحْضَ لِأَفْرَادِ مَفْهُومِهَا فَلَا تَصِحُّ إرَادَتُهُ) أَيْ التَّعَدُّدِ الْمَحْضِ مِنْهَا (كَالطَّلَاقِ) أَيْ كَمَا لَا يَصِحُّ إرَادَةُ الطَّلَاقِ (مِنْ اسْقِنِي، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا تَحْتَمِلُهُ (لِأَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ النَّكِرَةِ) حَتَّى كَانَ قَائِلُ: طَلِّقْ أَوْقَعَ طَلَاقًا (وَهُوَ) أَيْ الْمَصْدَرُ النَّكِرَةُ (فَرْدٌ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ فَرْدِيَّةِ مَعْنَاهُ فَلَا يَحْتَمِلُ ضِدَّ مَعْنَاهُ) وَهُوَ التَّعَدُّدُ الْمَحْضُ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْفَرْدَ مَا لَا تَرَكُّبَ فِيهِ، وَالْعَدَدَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ الْأَفْرَادِ، فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ إرَادَةُ الثِّنْتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ، لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ، وَلَا إرَادَةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ هَذَا لِزَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ كَمَا لَا تَصِحُّ إرَادَةُ الثِّنْتَيْنِ فِيهِ لَهَا، فَالْجَوَابُ الْمَنْعُ (وَصِحَّةُ إرَادَةِ الثِّنْتَيْنِ فِي الْأَمَةِ وَالثَّلَاثِ فِي الْحُرَّةِ لِلْوَحْدَةِ الْجِنْسِيَّةِ) فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا كُلُّ جِنْسِ طَلَاقِهِمَا، إذْ لَا مَزِيدَ لَهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ عَلَى الثِّنْتَيْنِ وَفِي حَقِّ الْحُرَّةِ عَلَى الثَّلَاثِ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فَرْدًا وَاحِدًا مِنْ أَجْنَاسِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَيَقَعُ بِالنِّيَّةِ (بِخِلَافِ الثِّنْتَيْنِ فِي الْحُرَّةِ لَا جِهَةَ لِوَحْدَتِهِ) فِيهَا لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا (فَانْتَفَى) كَوْنُهُ مُحْتَمَلَ اللَّفْظِ فَلَا يُنَالُ بِالنِّيَّةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَرْدَ الْحَقِيقِيَّ مُوجَبُهُ وَالْفَرْدَ الِاعْتِبَارِيَّ مُحْتَمَلُهُ، وَالْعَدَدَ لَا مُوجَبُهُ وَلَا مُحْتَمَلُهُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مُوجَبَ اللَّفْظِ يَثْبُتُ بِاللَّفْظِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَمُحْتَمَلَ اللَّفْظِ لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا نَوَى، وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَا يَثْبُتُ وَإِنْ نَوَى لِأَنَّ النِّيَّةَ لِتَعْيِينِ مُحْتَمَلِ اللَّفْظِ لَا لِإِثْبَاتِهِ.
 
قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَبَعْدَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ مَدْلُولِ الصِّيغَةِ وَتَعَدُّدُهُ) أَيْ مَدْلُولِهَا بَلْ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَدِّدًا (فَقَدْ يَبْعُدُ نَفْيُ الِاحْتِمَالِ) أَيْ احْتِمَالِ التَّعَدُّدِ (لِثُبُوتِ الْفَرْقِ لُغَةً بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْمَعَانِي وَبَعْضِ) أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ (الْأَعْيَانِ، إذْ لَا يُقَالُ لِرَجُلَيْنِ رَجُلٌ، وَيُقَالُ لِلْقِيَامِ الْكَثِيرِ قِيَامٌ، كَالْأَعْيَانِ الْمُتَمَاثِلَةِ الْأَجْزَاءِ كَالْمَاءِ وَالْعَسَلِ فَإِذَا صَدَقَ الطَّلَاقُ عَلَى طَلْقَتَيْنِ كَيْفَ لَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ الطَّلَاقُ هَذَا الْعَدَدَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ؟
(لَكِنَّهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةَ (اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا سَمِعْت) مِنْ عَدَمِ الِاحْتِمَالِ (فِي الْكُلِّ) أَيْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْمَعَانِي وَالْأَعْيَانِ حَتَّى قَالُوا تَفْرِيعًا عَلَى ذَلِكَ (فَلَوْ حَلَفَ: لَا يَشْرَبُ مَاءً انْصَرَفَ إلَى أَقَلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ) مَاءٌ وَهُوَ قَطْرَةٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (وَلَوْ نَوَى مِيَاهَ الدُّنْيَا صَحَّ فَيَشْرَبُ مَا شَاءَ) مِنْهَا وَلَا يَحْنَثُ لِصِدْقِ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهَا (أَوْ) قَدْرًا مِنْ الْأَقْدَارِ الْمُتَخَلِّلَةِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ كَمَا لَوْ نَوَى (كُوزًا لَا يَصِحُّ) ذَلِكَ مِنْهُ لِخُلُوِّ الْمَنْوِيِّ عَنْ صِفَةِ الْفَرْدِيَّةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
 
[مَسْأَلَةٌ الْفَوْر للأمر ضروري لِلْقَائِلِ بِالتَّكْرَارِ]
(مَسْأَلَةٌ: الْفَوْرُ) لِلْأَمْرِ وَهُوَ امْتِثَالُ الْمَأْمُورِ بِهِ عَقِبَهُ (ضَرُورِيٌّ لِلْقَائِلِ بِالتَّكْرَارِ) لَهُ لِأَنَّهُ مِنْ لَازِمِ اسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَافِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (وَأَمَّا غَيْرُهُ) أَيْ الْقَائِلِ بِالتَّكْرَارِ (فَإِمَّا) أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ (مُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ يَفُوتُ الْأَدَاءُ بِفَوْتِهِ) أَيْ الْوَقْتِ، يَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ مُسْتَوْفًى فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ (أَوْ لَا) أَيْ أَوْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ يَفُوتُ الْأَدَاءُ بِفَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي وَقْتٍ لَا مَحَالَةَ (كَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ وَالْقَضَاءِ) لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ (فَالثَّانِي) أَيْ غَيْرُ الْمُقَيَّدِ الْمَذْكُورُ (لِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ فَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ)
(1/315)
 
 
عَلَى وَجْهٍ لَا يُفَوِّتُ الْمَأْمُورَ بِهِ أَصْلًا كَمَا يَجُوزُ الْبِدَارُ بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ،.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ نَصٌّ، وَإِنَّمَا فُرُوعُهُمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اهـ.
وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالتَّرَاخِي، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ كَالْبِدَارِ لَا أَنَّ الْبِدَارَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ (وَقِيلَ يُوجِبُ الْفَوْرَ أَوَّلَ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ) لِلْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ مَعْزُوٌّ إلَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ (الْقَاضِي) الْأَمْرُ يُوجِبُ (إمَّا إيَّاهُ) أَيْ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ (أَوْ الْعَزْمَ) عَلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَالِ.
(وَتَوَقَّفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَنَّهُ لُغَةً لِلْفَوْرِ أَمْ لَا فَيَجُوزُ التَّرَاخِي وَلَا يَحْتَمِلُ وُجُوبَهُ) أَيْ التَّرَاخِي (فَيَمْتَثِلُ بِكُلٍّ) مِنْ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي (مَعَ التَّوَقُّفِ فِي إثْمِهِ بِالتَّرَاخِي، وَقِيلَ بِالْوَقْفِ فِي الِامْتِثَالِ) إنْ بَادَرَ بِهِ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ كَمَا يَتَوَقَّفُ فِي الْفَوْرِ (لِاحْتِمَالِ وُجُوبِ التَّرَاخِي، لَنَا) عَلَى الْمُخْتَارِ وَهُوَ أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ أَنَّهُ (لَا يَزِيدُ دَلَالَةً عَلَى مُجَرَّدِ الطَّلَبِ) مِنْ فَوْرٍ أَوْ تَرَاخٍ لَا بِحَسَبِ الْمَادَّةِ وَلَا بِحَسَبِ الصِّيغَةِ (بِالْوَجْهِ السَّابِقِ) فِي السَّابِقَةِ، وَهُوَ إطْبَاقُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ هَيْئَةَ الْأَمْرِ لَا دَلَالَةَ لَهَا إلَّا عَلَى الطَّلَبِ فِي خُصُوصِ زَمَانٍ إلَى آخِرِهِ (وَكَوْنُهُ) دَالًّا (عَلَى أَحَدِهِمَا) أَيْ الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي (خَارِجٌ) عَنْ مَدْلُولِهِ (يُفْهَمُ بِالْقَرِينَةِ كَ اسْقِنِي) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِ لِلْعِلْمِ الْعَادِيِّ بِأَنَّ طَلَبَ السَّقْيِ يَكُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ عَاجِلًا (وَافْعَلْ بَعْدَ يَوْمٍ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي بِقَوْلِهِ بَعْدَ يَوْمٍ (قَالُوا) أَيْ الْقَائِلُونَ بِالْفَوْرِ.
أَوَّلًا (كُلُّ مُخْبِرٍ) بِكَلَامٍ خَبَرِيٍّ كَ زَيْدٌ قَائِمٌ (وَمُنْشِئٍ كَ بِعْت وَطَلِّقْ يَقْصِدُ الْحَاضِرَ) عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجَرُّدِ مِنْ الْقَرَائِنِ حَتَّى يَكُونَ مُوجِدًا لِلْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ بِمَا ذَكَرَهُ (فَكَذَا الْأَمْرُ) وَالْجَامِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَبَرِ كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْإِنْشَاءَاتِ - الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْحَاضِرُ - كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا إنْشَاءً.
(قُلْنَا) هَذَا (قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ) لِأَنَّهُ قِيَاسُ الْأَمْرِ فِي إفَادَتِهِ الْفَوْرَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ اخْتِلَافِ حُكْمِهِ غَيْرُ جَائِزٍ فَمَا الظَّنُّ (مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهِ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ تَعَيُّنُ الْحَاضِرِ وَيَمْتَنِعُ فِي الْأَمْرِ غَيْرُ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْمَطْلُوبِ) لِأَنَّ الْحَاصِلَ لَا يُطْلَبُ (وَالْحَاضِرُ الطَّلَبُ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ) أَيْ فِي الطَّلَبِ بَلْ فِي الْمَطْلُوبِ (فَإِنْ كَانَ) الْمَطْلُوبُ إيجَادُهُ مَطْلُوبًا (أَوَّلَ زَمَانٍ يَلِيهِ) أَيْ الطَّلَبَ (فَالْفَوْرُ أَوْ) إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ إيجَادُهُ مَطْلُوبًا فِي زَمَانٍ هُوَ (مَا بَعْدَهُ) أَيْ مَا بَعْدَ أَوَّلِ زَمَانٍ يَلِي الطَّلَبَ (فَوُجُوبُ التَّرَاخِي أَوْ) إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ إيجَادُهُ مَطْلُوبًا (مُطْلَقًا فَمَا يُعَيِّنُهُ) الْمَأْمُورَ مِنْ الْوَقْتِ (لَا عَلَى أَنَّهُ) أَيْ التَّرَاخِيَ (مَدْلُولُ الصِّيغَةِ قَالُوا)
ثَانِيًا (النَّهْيُ يُفِيدُ الْفَوْرَ فَكَذَا الْأَمْرُ) لِأَنَّهُ طَلَبٌ مِثْلُهُ.
(قُلْنَا) قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ وَأَيْضًا الْفَوْرُ (فِي النَّهْيِ ضَرُورِيٌّ بِخِلَافِ الْأَمْرِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَطْلُوبِ بِهِ) أَيْ بِالنَّهْيِ (وَهُوَ الِامْتِثَالُ) إنَّمَا يَكُونُ (بِالْفَوْرِ) لِأَنَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ لِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَتَحَقُّقُ تَرْكِهِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِهِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ (لَا أَنَّهُ) أَيْ النَّهْيَ (يُفِيدُهُ) أَيْ الْفَوْرَ.
(وَقَوْلُنَا ضَرُورِيٌّ فِيهِ أَيْ فِي امْتِثَالِهِ قَالُوا)
ثَالِثًا (الْأَمْرُ نَهْيٌ عَنْ الْأَضْدَادِ وَهُوَ) أَيْ النَّهْيُ (لِلْفَوْرِ فَيَلْزَمُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ لِيَتَحَقَّقَ امْتِثَالُ النَّهْيِ عَنْهَا) أَيْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ (وَتَقَدَّمَ) الْآنَ (نَحْوُهُ وَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ) فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الِامْتِثَالَ بِالْفَوْرِ لَا أَنَّ النَّهْيَ يُفِيدُهُ (قَالُوا)
رَابِعًا (ذَمَّ) اللَّهُ - تَعَالَى - إبْلِيسَ (عَلَى عَدَمِ الْفَوْرِ) بِقَوْلِهِ {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] حَيْثُ قَالَ
(1/316)
 
 
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [البقرة: 34] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِلْفَوْرِ، وَإِلَّا لَأَجَابَ بِأَنَّك مَا أَمَرْتَنِي بِالْبِدَارِ، وَسَوْفَ أَسْجُدُ (قُلْنَا) هَذَا (مُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ) أَيْ وَقْتِ تَسْوِيَتِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، وَقَدْ (فَوَّتَهُ) أَيْ إبْلِيسُ الِامْتِثَالَ (عَنْهُ بِدَلِيلِ {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي " إذَا " " فَقَعُوا " فَالتَّقْدِيرُ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ وَقْتَ تَسْوِيَتِي إيَّاهُ وَنَفْخِي فِيهِ الرُّوحَ، فَامْتِنَاعُ تَأْخِيرِ السُّجُودِ عَنْ زَمَانِ التَّسْوِيَةِ وَالنَّفْخِ مُسْتَفَادٌ مِنْ امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْمَظْرُوفِ عَنْ ظَرْفِهِ الزَّمَانِيِّ لَا مِنْ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ (قَالُوا)
خَامِسًا (لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ لَوَجَبَ إلَى) وَقْتٍ (مُعَيَّنٍ أَوْ إلَى آخِرِ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ وَالْأَوَّلُ)
أَيْ وُجُوبُ التَّأْخِيرِ إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ (مُنْتَفٍ) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَذْكُورًا فَالْفَرْضُ خِلَافُهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ لَا فِي الْمُقَيَّدِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فَلَا إشْعَارَ لِلْأَمْرِ بِهِ وَلَا دَلِيلَ مِنْ خَارِجٍ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ بَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ، وَهُوَ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِفَوَاتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ تَأْخِيرِهِ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِالْوَقْتِ الْمَذْكُورِ إلَّا ذَلِكَ.
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلظَّنِّ مِنْ أَمَارَةٍ وَلَيْسَتْ إلَّا كِبَرَ السِّنِّ أَوْ الْمَرَضَ الشَّدِيدَ وَنَحْوَهُمَا وَهِيَ مُضْطَرِبَةٌ إذْ كَمْ مِنْ شَابٍّ يَمُوتُ فَجْأَةً وَشَيْخٍ وَمَرِيضٍ يَعِيشُ مُدَّةً
(وَالثَّانِي) أَيْ وُجُوبُ تَأْخِيرِهِ إلَى آخِرِ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ تَكْلِيفُ (مَا لَا يُطَاقُ) لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لِلْمُكَلَّفِ فَيَكُونُ مُكَلَّفًا بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ يَجْهَلُهُ، وَبِالْمَنْعِ عَنْ تَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتٍ لَا يَعْلَمُهُ وَهُوَ مُحَالٌ (أُجِيبَ بِالنَّقْضِ) الْإِجْمَالِيِّ (بِجَوَازِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ) بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ افْعَلْ وَلَك التَّأْخِيرُ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ إجْمَاعًا وَمَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ جَارٍ فِيهِ (وَ) بِالنَّقْضِ التَّفْصِيلِيِّ (بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ) تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ (بِإِيجَابِ التَّأْخِيرِ إلَيْهِ) أَيْ آخِرِ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ.
(أَمَّا جَوَازُهُ) أَيْ التَّأْخِيرِ (إلَى وَقْتٍ يُعَيِّنُهُ الْمُكَلَّفُ فَلَا) يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ (لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِامْتِثَالِ) بِالْبِدَارِ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ (قَالُوا)
سَادِسًا (وَجَبَتْ الْمُسَارَعَةُ) إلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَارَعَةُ إلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَغْفِرَةِ لَيْسَتْ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَأُطْلِقَ الْمُسَبَّبُ وَأُرِيدَ السَّبَبُ، وَمِنْ سَبَبِهَا فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا مِنْ الْخَيْرَاتِ فَتَجِبُ الْمُسَارَعَةُ وَالْمُسَابَقَةُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ بِفِعْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ.
(الْجَوَابُ جَازَ) أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُفِيدَةً لِإِيجَابِ الْفَوْرِ (تَأْكِيدًا لِإِيجَابِهِ بِالصِّيغَةِ) كَمَا قَالُوا (وَتَأْسِيسًا) أَيْ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُفِيدَةً لِفَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَهِيَ وُجُوبُ الْفَوْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصِّيغَةَ غَيْرُ مُتَعَرِّضَةٍ لِوُجُوبِهِ كَمَا قُلْنَا (فَلَا يُفِيدُ) كُلٌّ مِنْهُمَا (أَنَّهُ) أَيْ الْفَوْرَ (مُوجَبُهَا) أَيْ الصِّيغَةِ عَيْنًا كَمَا هُوَ مَطْلُوبُهُمْ لِعَدَمِ انْتِهَاضِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ احْتِمَالِ خِلَافِهِ (فَكَيْفَ وَالتَّأْسِيسُ مُقَدَّمٌ) عَلَى التَّأْكِيدِ إذَا تَعَارَضَا فَيَتَرَجَّحُ أَنَّ الصِّيغَةَ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَيْهِ (فَانْقَلَبَ) دَلِيلُهُمْ عَلَيْهِمْ (إذْ أَفَادَ) دَلِيلُهُمْ (حِينَئِذٍ نَفْيَهُ) أَيْ الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُسَارَعَةِ وَالِاسْتِبَاقِ مُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مَعَ جَوَازِ الْإِتْيَانِ بِهِ فِي غَيْرِهِ.
(الْقَاضِي ثَبَتَ حُكْمُ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي الْفِعْلِ وَالْعَزْمِ وَهُوَ) أَيْ حُكْمُهَا (الْعِصْيَانُ بِتَرْكِهِمَا) أَيْ الْفِعْلِ وَالْعَزْمِ (وَعَدَمُهُ) أَيْ الْعِصْيَانِ (بِأَحَدِهِمَا) أَيْ بِالْفِعْلِ أَوْ الْعَزْمِ (فَكَانَ) الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ (مُقْتَضَاهُ) أَيْ الْأَمْرِ.
(وَالْجَوَابُ: الْجَزْمُ بِأَنَّ الطَّاعَةَ) إنَّمَا هِيَ (بِالْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ، فَوُجُوبُ الْعَزْمِ لَيْسَ مُقْتَضَاهُ) أَيْ الْأَمْرِ (عَلَى التَّخْيِيرِ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ (بَلْ هُوَ) أَيْ الْعَزْمُ (عَلَى) فِعْلِ (مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ) يَثْبُتُ مَعَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ
(1/317)
 
 
بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَلَا بِهَذَا الْفِعْلِ.
(الْإِمَامُ الطَّلَبُ مُحَقَّقٌ، وَالشَّكُّ فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ فَوَجَبَ الْفَوْرُ) لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ (وَاعْتَرَضَ) عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ (لَا يُلَائِمُ مَا تَقَدَّمَ لَهُ) أَيْ الْإِمَامِ (مِنْ التَّوَقُّفِ فِي كَوْنِهِ لِلْفَوْرِ، وَأَيْضًا وُجُوبُ الْمُبَادَرَةِ يُنَافِي قَوْلَهُ) أَيْ الْإِمَامِ (أَقْطَعُ بِأَنَّهُ مَهْمَا أَتَى بِهِ مَوْقِعٌ بِحُكْمِ الصِّيغَةِ لِلْمَطْلُوبِ) ذَكَرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَأَنْتَ إذَا وَصَلْت قَوْلَهُ) أَيْ الْإِمَامِ (لِلْمَطْلُوبِ يُنَافِي قَوْلَهُ: وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ هَلْ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ مَعَ أَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِأَصْلِ الْمَطْلُوبِ لَمْ تَقِفْ عَنْ الْجَزْمِ بِالْمُطَابَقَةِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْفَوْرِ بَعْدَ مَا قَالَ لَيْسَ إلَّا احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ الْفَوْرِ لَا أَنَّهُ مُقْتَضَى الصِّيغَةِ، وَأَنَّ الشَّكَّ فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ بِالشَّكِّ فِي الْفَوْرِ) أَيْ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي أَحَدِ الضِّدَّيْنِ شَكٌّ فِي الْآخَرِ بِالضَّرُورَةِ (ثُمَّ كَوْنُهُ مُمْتَثِلًا بِحُكْمِ الصِّيغَةِ يُنَافِي الْإِثْمَ إلَّا أَنْ يُرَادَا ثُمَّ تَرَكَ الِاحْتِيَاطَ) وَبَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ الْفَوْرَ احْتِيَاطٌ فَكَوْنُ تَرْكِهِ مُؤَثِّمًا مَحَلُّ نَظَرٍ (نَعَمْ لَوْ قَالَ) الْإِمَامُ (الْقَضَاءُ بِالصِّيغَةِ لَا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ أَمْكَنَ) عَدَمُ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الِامْتِثَالِ بِحُكْمِ الصِّيغَةِ وَالتَّأْثِيمِ بِالتَّأْخِيرِ إلَى مَا بَعْدَ زَمَنِ الْفَوْرِ لِجَوَازِ جَعْلِهِ مُمْتَثِلًا بِحُكْمِ الصِّيغَةِ - مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءُ - وَآثِمًا بِتَرْكِهِ الِامْتِثَالَ بِحُكْمِ الصِّيغَةِ - مِنْ حَيْثُ الْأَدَاءُ -، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَعَلَيْهِ مِنْ التَّعَقُّبِ.
أَوَّلًا أَنَّ الْمُصْطَلَحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودُ الطَّرَفَيْنِ - كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ - لَا تُوصَفُ بِأَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ.
وَثَانِيًا أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ عَامَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.
وَثَالِثًا أَنَّ نَفْسَ الْإِمَامِ قَدْ قَالَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: فَأَمَّا وَضْعُ التَّوَقُّفِ فِي أَنَّ الْمُؤَخِّرَ هَلْ يَكُونُ كَمَنْ أَوْقَعَ مَا طُلِبَ مِنْهُ وَرَاءَ الْوَقْتِ الَّذِي يَتَأَقَّتُ بِهِ الْأَمْرُ حَتَّى لَا يَكُونَ مُمْتَثِلًا أَصْلًا؟ فَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الصِّيغَةَ مُرْسَلَةٌ، وَلَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِزَمَانٍ فَلَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ.
(وَأُجِيبَ لَا شَكَّ) فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ (مَعَ دَلِيلِنَا) الْمُفِيدِ لَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ ثُمَّ هَذَا.
 
[تَنْبِيهٌ] كَانَ الْأَوْلَى ذِكْرَهُ فِي ذَيْلِ مَسْأَلَةِ " صِيغَةُ الْأَمْرِ خَاصٌّ فِي الْوُجُوبِ " (قِيلَ مَسْأَلَةُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ شَرْعِيَّةٌ لِأَنَّ مَحْمُولَهَا الْوُجُوبُ وَهُوَ شَرْعِيٌّ وَقِيلَ لُغَوِيَّةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآمِدِيِّ وَأَتْبَاعِهِ) ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ (إذْ كَرَّرُوا قَوْلَهُمْ فِي الْأَجْوِبَةِ: قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ وَإِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِلَوَازِمِ الْمَاهِيَّةِ وَهُوَ) أَيْ كَوْنُهَا لُغَوِيَّةً (الْوَجْهُ إذْ لَا خَلَلَ) فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَحْمُولُهَا الْوُجُوبَ (فَإِنَّ الْإِيجَابَ لُغَةً الْإِثْبَاتُ وَالْإِلْزَامُ، وَإِيجَابَهُ - سُبْحَانَهُ - لَيْسَ إلَّا إلْزَامَهُ، وَإِثْبَاتَهُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بِطَلَبِهِ الْحَتْمِ فَهُوَ) أَيْ الْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ (مِنْ أَفْرَادِ اللُّغَوِيِّ) فَإِنْ قِيلَ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ شَرْعِيَّةً لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي تَعْرِيفِ الْوُجُوبِ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ بِالتَّرْكِ وَهُوَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ فَالْجَوَابُ الْمَنْعُ (وَاسْتِحْقَاقُهُ الْعِقَابَ بِالتَّرْكِ لَيْسَ جُزْءَ الْمَفْهُومِ) لِلْوُجُوبِ (بَلْ) لَازِمٌ (مُقَارَنٌ بِخَارِجٍ عَقْلِيٍّ أَوْ عَادِيٍّ لِأَمْرِ كُلِّ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ وَهُوَ) أَيْ الْخَارِجُ الْمَذْكُورُ (حُسْنُ عِقَابِ مُخَالِفِهِ) أَيْ أَمْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ (وَتَعْرِيفُ الْوُجُوبِ طَلَبٌ) لِفِعْلٍ (يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ) كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ (تَجُوزُ) بِمُطْلَقِ الْوُجُوبِ (لِإِيجَابِهِ - تَعَالَى - أَوْ) لِإِيجَابِ (مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِقَرِينَةٍ يَنْتَهِضُ إلَى آخِرِهِ، فَيَصْدُقُ إيجَابُهُ - تَعَالَى - فَرْدًا مِنْ مُطْلَقِهِ) أَيْ الْوُجُوبِ اللُّغَوِيِّ (وَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ) لِلْعِقَابِ بِالتَّرْكِ (لَيْسَ لَازِمَ التَّرْكِ) مُطْلَقًا (بَلْ) هُوَ لَازِمٌ (لِصِنْفٍ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْوُجُوبِ (لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ مُفِيدًا لِلْإِيجَابِ فَيَتَحَقَّقُ هُوَ) أَيْ الْوُجُوبُ فِيهِ (وَلَا اسْتِحْقَاقَ) لِلْعِقَابِ (بِتَرْكِهِ) لِأَنَّهُ
(1/318)
 
 
(بِلَا وِلَايَةٍ) لِلْآمِرِ عَلَيْهِ.
 
[مَسْأَلَةٌ الْآمِرُ لِشَخْصٍ بِالْأَمْرِ لِغَيْرِهِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ آمِرًا لِذَلِكَ الْمَأْمُورِ]
(مَسْأَلَةٌ الْآمِرُ) لِشَخْصٍ (بِالْأَمْرِ) لِغَيْرِهِ (بِالشَّيْءِ لَيْسَ آمِرًا بِهِ) أَيْ بِالشَّيْءِ (لِذَلِكَ الْمَأْمُورِ، وَإِلَّا) لَوْ كَانَ آمِرًا بِهِ لِذَلِكَ (كَأَنْ " مُرْ عَبْدَك بِبَيْعِ ثَوْبِي " تَعَدِّيًا) عَلَى الْمُخَاطَبِ بِالتَّصَرُّفِ فِي عَبْدٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ (وَنَاقَضَ قَوْلَك لِلْعَبْدِ لَا تَبِعْهُ) لِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ مَا أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ.
قَالُوا: وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ فِيهِمَا قَالَ السُّبْكِيُّ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْأَوَّلِ إنَّمَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا لَوْ كَانَ أَمْرُهُ لِعَبْدِ الْغَيْرِ غَيْرَ لَازِمٍ لِأَمْرِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ لَازِمٌ لَهُ هُنَا لِدَلَالَةِ " مُرْ عَبْدَك بِكَذَا " عَلَى أَمْرِ السَّيِّدِ بِأَمْرِ عَبْدِهِ بِذَلِكَ وَعَلَى أَمْرِهِ هُوَ الْعَبْدَ بِذَلِكَ وَهَذَا لَازِمٌ لِلْأَوَّلِ بِمَعْنَى أَنَّ أَمْرَ الْقَائِلِ لِلْعَبْدِ بِذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَمْرِ السَّيِّدِ إيَّاهُ بِهِ لَازِمٌ لَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ أَمْرُهُ لِلْعَبْدِ تَعَدِّيًا لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَمْرِ السَّيِّدِ لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ آمِرٌ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ سَيِّدُهُ.
سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّعَدِّيَ لِأَجْلِ أَنَّ الصِّيغَةَ لَمْ تَقْتَضِهِ بَلْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ - وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ عَلَيْهِ - وَهَذَا الْمَانِعُ مَفْقُودٌ فِي أَوَامِرِ الشَّرْعِ لِوُجُودِ سُلْطَانِ التَّكْلِيفِ لَهُ عَلَيْنَا فَلَا تَعَدِّيَ حِينَئِذٍ.
وَعَلَى الثَّانِي إنَّمَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ لَوْ كَانَ اللَّازِمُ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِرَادَةِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ غَيْرَ مُرَادٍ فَلَا تَنَاقُضَ، انْتَهَى.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا تَدَافُعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بَلْ بَيْنَ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَالْأَوْلَى قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَلَا يَخْفَى مَنْعُ بُطْلَانِ) اللَّازِمِ (الثَّانِي) الَّذِي هُوَ التَّنَاقُضُ (إذْ لَا يُرَادُ بِالْمُنَاقَضَةِ هُنَا إلَّا مَنْعُهُ) أَيْ الْمَأْمُورِ مِنْ الْبَيْعِ (بَعْدَ طَلَبِهِ) أَيْ الْبَيْعِ (مِنْهُ) أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ (وَهُوَ) أَيْ مَنْعُهُ مِنْهُ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ (نَسْخٌ) لِطَلَبِهِ هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَقِيلَ أَمْرٌ بِهِ.
(قَالُوا فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - رَسُولَهُ بِأَنْ يَأْمُرَنَا) فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْآمِرَ هُوَ اللَّهُ - تَعَالَى - (وَ) أَمْرِ (الْمَلِكِ وَزِيرَهُ) بِأَنْ يَأْمُرَ فُلَانًا بِكَذَا فَإِنَّهُ يُفْهِمُ أَنَّ الْآمِرَ الْمَلِكُ.
(أُجِيبَ بِأَنَّهُ) أَيْ فَهْمَ ذَلِكَ فِي كِلَيْهِمَا (مِنْ قَرِينَةِ أَنَّهُ) أَيْ الْمَأْمُورَ أَوَّلًا (رَسُولٌ) وَمُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، وَعَنْ الْمَلِكِ كَمَا فِي الثَّانِي (لَا مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ) أَيْ بِالْمَأْمُورِ بِهِ ثَانِيًا، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ هَذَا ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ: وَمَحَلُّ النِّزَاعِ قَوْلُ الْقَائِلِ: مُرْ فُلَانًا بِكَذَا، أَمَّا لَوْ قَالَ: قُلْ لِفُلَانٍ افْعَلْ كَذَا فَالْأَوَّلُ آمِرٌ وَالثَّانِي مُبَلِّغٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْمُنْتَهَى وَسَوَّى التَّفْتَازَانِيُّ بَيْنَهُمَا فِي الْإِرَادَةِ بِمَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ قَالَ وَقَدْ سَبَقَ إلَى بَعْضِ الْأَوْهَامِ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوَّلُ فَقَطْ، يَعْنِي مَا كَانَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا هُوَ الثَّبْتُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
 
[مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَاقَبَ أَمْرَانِ غَيْرُ مُتَعَاطِفَيْنِ بِمُتَمَاثِلَيْنِ فِي مَأْمُورٍ بِهِ]
(مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَاقَبَ أَمْرَانِ) غَيْرُ مُتَعَاطِفَيْنِ (بِمُتَمَاثِلَيْنِ فِي) مَأْمُورٍ بِهِ (قَابِلٍ لِلتَّكْرَارِ) كَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ (بِخِلَافِ) أَمْرَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ غَيْرِ مُتَعَاطِفَيْنِ بِمُتَمَاثِلَيْنِ فِي مَأْمُورٍ بِهِ غَيْرِ قَابِلٍ لِلتَّكْرَارِ، نَحْوُ صُمْ الْيَوْمَ (صُمْ الْيَوْمَ وَلَا صَارِفَ عَنْهُ) أَيْ التَّكْرَارِ (مِنْ تَعْرِيفٍ) لِلْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ مُنَكَّرًا (كَ صَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ) بَعْدَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ (أَوْ) مِنْ (عَادَةٍ كَ اسْقِنِي مَاءً) اسْقِنِي مَاءً (فَإِنَّهُ) أَيْ كَوْنَ الثَّانِي مُؤَكِّدًا الْأَوَّلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (اتِّفَاقٌ) أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ لِعَدَمِ الْقَابِلِيَّةِ لِلتَّكْرَارِ وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْأَكْثَرِيَّ أَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً كَانَتْ عَيْنَ الْأُولَى، وَأَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَلِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ غَالِبًا يَمْنَعُ تَكْرَارَ السَّقْيِ، وَسَيُعْلِمُ فَائِدَةَ مَا بَقِيَ مِنْ الْقُيُودِ (قِيلَ بِالْوَقْفِ) فِي كَوْنِهِ تَأْسِيسًا أَوْ تَأْكِيدًا، وَهُوَ لِأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ.
(وَقِيلَ: تَأْكِيدٌ) وَهُوَ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُبَّائِيِّ (وَقِيلَ: تَأْسِيسٌ) وَهُوَ لِلْأَكْثَرِينَ عَلَى مَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ وَلِعَبْدِ الْجَبَّارِ عَلَى مَا فِي الْبَدِيعِ (لِأَنَّهُ أَفْوَدُ، وَوُضِعَ الْكَلَامُ لِلْإِفَادَةِ وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالْأَوَّلُ) وَهُوَ لِأَنَّهُ أَفْوَدُ وَوَضْعُ الْكَلَامِ
(1/319)
 
 
لِلْإِفَادَةِ (يُغْنِي عَنْ هَذَا) أَيْ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَالْكُلُّ) أَيْ وَكُلٌّ مِنْهُمَا (لَا يُقَاوِمُ الْأَكْثَرِيَّةَ) لِلتَّكْرِيرِ فِي التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ كَثُرَ التَّكْرِيرُ فِي التَّأْكِيدِ مَا لَمْ يَكْثُرْ فِي التَّأْسِيسِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ حَمْلًا لِلْفَرْدِ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ (وَمُعَارَضٌ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ) أَيْ وَالتَّأْسِيسُ مُعَارَضٌ بِمَا فِي التَّأْكِيدِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِلْأَصْلِ، الَّذِي هُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ مِنْ تَعَلُّقِ التَّكَلُّفِ بِهَا مَرَّةً ثَانِيَةً إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ (بَعْدَ مَنْعِ الْأَصَالَةِ) أَيْ كَوْنِ الْأَصْلِ فِي الْكَلَامِ الْإِفَادَةَ (فِي التَّكْرَارَ) إنَّمَا ذَاكَ فِي غَيْرِ التَّكْرَارِ بِشَهَادَةِ الْكَثْرَةِ (فَيَتَرَجَّحُ) التَّأْكِيدُ (وَإِذْ مُنِعَ كَوْنُ التَّأْسِيسِ أَكْثَرَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ) وَهُوَ تَوَالِي أَمْرَيْنِ بِمُتَمَاثِلَيْنِ فِي قَابِلٍ لِلتَّكْرَارِ لَا صَارِفَ عَنْهُ (سَقَطَ مَا قِيلَ) أَيْ مَا قَالَهُ الْوَاقِفُ (تَعَارَضَ التَّرْجِيحُ) فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّأْكِيدِ (فَالْوَقْفُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَرْجَحِيَّةُ التَّأْكِيدِ عَلَيْهِ فَلَا وَقْفَ هَذَا فِي التَّعَاقُبِ بِلَا عَطْفٍ (وَفِي الْعَطْفِ كَ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) بَعْدَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ (يُعْمَلُ بِهِمَا) أَيْ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِوَاوِ الْعَطْفِ لَمْ يُعْهَدْ أَوْ يَقِلُّ قَالَ الْقَرَافِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الَّذِي يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَقِيلَ: يَكُونُ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ، انْتَهَى.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ (إلَّا إنْ تَرَجُّحَ التَّأْكِيدِ) فِي الْمَعْطُوفِ بِمُرَجِّحٍ عَادِيٍّ مِنْ تَعْرِيفٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا مُعَارِضَ يَمْنَعُ مِنْهُ (فِيهِ) أَيْ فَيُعْمَلُ بِالتَّأْكِيدِ (أَوْ) يُوجَدُ (التَّعَادُلُ) بَيْنَ تَرَاجِيحِ كَوْنِهِ تَأْسِيسًا وَتَأْكِيدًا (فَبِمُقْتَضًى خَارِجٍ) أَيْ فَالْعَمَلُ بِمُقْتَضًى خَارِجٍ عَنْهُمَا إنْ وُجِدَ، وَإِلَّا فَالْوَقْفُ كَ اسْقِنِي مَاءً، وَاسْقِنِي الْمَاءَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ وَالتَّعْرِيفَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَطْفِ وَالتَّأْسِيسِ، فَإِنْ قِيلَ بَلْ يَتَرَجَّحُ التَّأْسِيسُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِاحْتِمَالِ الْوُجُوبِ مَرَّةً ثَانِيَةً، أُجِيبَ: قَدْ يَكُونُ الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَمْلِ عَلَى التَّأْكِيدِ لِاحْتِمَالِ الْحُرْمَةِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَمْرَيْنِ بِمُتَمَاثِلَيْنِ فَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ عُمِلَ بِهِمَا اتِّفَاقًا مُتَعَاطِفَيْنِ كَانَا كَ صُمْ وَصَلِّ أَوْ غَيْرَ مُتَعَاطِفَيْنِ كَ صُمْ صَلِّ ذَكَرَهُ فِي الْبَدِيعِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الثَّانِيَ إذَا كَانَ ضِدَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتَيْنِ، نَحْوُ أَكْرِمْ زَيْدًا وَأَهِنْهُ فَإِنْ اتَّحَدَ الْوَقْتُ حُمِلَ عَلَى التَّخْيِيرِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى النَّسْخِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ التَّرَاخِيَ حَتَّى يَسْتَقِرَّ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ وَيَقَعَ التَّكْلِيفُ وَالِامْتِحَانُ بِهِ وَيَكُونَ الْوَاوُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى أَوْ حَتَّى يَحْصُلَ التَّخْيِيرُ.
وَفِي الْمَحْصُولِ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا، نَحْوُ صُمْ كُلَّ يَوْمٍ صُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي غَيْرَ مَعْطُوفٍ كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ، وَالْأَشْبَهُ الْوَقْفُ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ ظَاهِرِ الْعُمُومِ وَظَاهِرِ الْعَطْفِ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَسْبِقُ لِلْوَهْمِ عِنْدَ السَّمَاعِ مِنْ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ لِلِاسْمِ الْمَذْكُورِ اهْتِمَامًا بِهِ بِذِكْرِهِ ثَانِيًا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُؤَخَّرًا، وَبِذِكْرِهِ أَوَّلًا عَلَى تَقْدِيرِ الْبُدَاءَةِ بِهِ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ فِي الْمُتَعَاقِبَيْنِ فَإِنْ تَرَاخَى أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ عُمِلَ بِهَا، سَوَاءٌ تَمَاثَلَا أَوْ اخْتَلَفَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الثَّانِي مَعْطُوفًا أَوْ غَيْرَ مَعْطُوفٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
 
[مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالنَّفْسِيِّ]
(مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالنَّفْسِيِّ فَاخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ فَوْرًا لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءِ (وَلَا يَقْتَضِيهِ) أَيْ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ (عَقْلًا، وَالْمَنْسُوبُ إلَى الْعَامَّةِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْهُ إنْ كَانَ) الضِّدُّ (وَاحِدًا) فَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ نَهْيٌ عَنْ الْكُفْرِ (وَإِلَّا) فَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ (فَعَنْ الْكُلِّ) أَيْ فَهُوَ يَنْهَى عَنْ كُلِّهَا فَالْأَمْرُ بِالْقِيَامِ نَهْيٌ عَنْ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهَا، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَغَيْرُهُ.
(وَقِيلَ) نَهْيٌ (عَنْ وَاحِدٍ غَيْرِ عَيْنٍ)
(1/320)
 
 
مِنْ أَضْدَادِهِ (وَهُوَ بَعِيدٌ) ظَاهِرُ الْبُعْدِ (وَإِنَّ النَّهْيَ أَمْرٌ بِالضِّدِّ الْمُتَّحِدِ) فَالنَّهْيُ عَنْ الْكُفْرِ أَمْرٌ بِالْإِيمَانِ (وَإِلَّا) فَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ (فَقِيلَ) أَيْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ أَمْرٌ (بِالْكُلِّ) أَيْ بِأَضْدَادِهِ كُلِّهَا (وَفِيهِ بُعْدٌ) يَظْهَرُ مِمَّا سَيَأْتِي.
(وَالْعَامَّةُ:) مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمُحَدِّثِينَ هُوَ أَمْرٌ (بِوَاحِدٍ غَيْرِ عَيْنٍ) مِنْ أَضْدَادِهِ (فَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ) الْبَاقِلَّانِيُّ قَالَ (أَوَّلًا كَذَلِكَ) أَيْ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ (وَآخِرًا يَتَضَمَّنَانِ) أَيْ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ (وَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ) أَيْ قَالَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَسَكَتَ عَنْ النَّهْيِ وَهُوَ مَعْزُوٌّ إلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمُتَابِعِيهِ (وَعَمَّمَ) الْأَمْرَ فِي أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الضِّدِّ (فِي الْإِيجَابِيِّ وَالنَّدْبِيِّ فَهُمَا) أَيْ الْأَمْرُ الْإِيجَابِيُّ وَالْأَمْرُ النَّدْبِيُّ (نَهْيَا تَحْرِيمٍ وَكَرَاهَةٍ فِي الضِّدِّ) أَيْ فَالْأَمْرُ الْإِيجَابِيُّ نَهْيٌ تَحْرِيمِيٌّ عَنْ الضِّدِّ، وَالْأَمْرُ النَّدْبِيُّ نَهْيٌ تَنْزِيهِيٌّ عَنْ الضِّدِّ (وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ أَمْرَ الْوُجُوبِ) فَجَعَلَهُ نَهْيًا تَحْرِيمِيًّا عَنْ الضِّدِّ دُونَ النَّدْبِ (وَاتَّفَقَ الْمُعْتَزِلَةُ لِنَفْيِهِمْ) الْكَلَامَ (النَّفْسِيَّ عَلَى نَفْيِ الْعَيْنِيَّةِ فِيهِمَا) أَيْ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَلَا بِالْعَكْسِ لِعَدَمِ إمْكَانِ ذَلِكَ فِيهِمَا لَفْظًا.
(وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُوجِبُ كُلٌّ مِنْ الصِّيغَتَيْنِ) أَيْ صِيغَتَيْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ (حُكْمًا فِي الضِّدِّ؟ فَأَبُو هَاشِمٍ وَأَتْبَاعُهُ لَا بَلْ) الضِّدُّ (مَسْكُوتٌ) عَنْهُ (وَأَبُو الْحُسَيْنِ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ) الْأَمْرُ (يُوجِبُ حُرْمَتَهُ) أَيْ الضِّدِّ (وَعِبَارَةُ) طَائِفَةٍ (أُخْرَى) الْأَمْرُ (يَدُلُّ عَلَيْهَا) أَيْ حُرْمَةِ ضِدِّهِ (وَ) عِبَارَةُ طَائِفَةٍ (أُخْرَى) الْأَمْرُ (يَقْتَضِيهَا) أَيْ حُرْمَةَ ضِدِّهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُرْمَةَ الضِّدِّ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ مُوجِبَاتِ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِرَارًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ تَنَوَّعَتْ أَشَارَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوا، فَمَنْ قَالَ يُوجِبُ أَشَارَ إلَى أَنَّ حُرْمَةَ الضِّدِّ تَثْبُتُ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ حُكْمِ الْأَمْرِ كَالنِّكَاحِ أَوْجَبَ الْحِلَّ - فِي حَقِّ الزَّوْجِ بِصِيغَتِهِ - وَالْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِحُكْمِهِ دُونَ صِيغَتِهِ، وَمَنْ قَالَ يَدُلُّ أَشَارَ إلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ تَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْحُرْمَةُ مِنْ مُوجَبَاتِهَا، كَالنَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الضَّرْبِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُرْمَتُهُ مِنْ مُوجَبَاتِ لَفْظِ التَّأْفِيفِ، وَمَنْ قَالَ يَقْتَضِي أَشَارَ إلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى غَيْرِ لَفْظِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى يَثْبُتُ زِيَادَةً عَلَى اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ مَا فِيهِ (وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ) السَّرَخْسِيُّ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ (وَأَتْبَاعُهُمْ) مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَمْرُ (يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الضِّدِّ، وَلَوْ كَانَ) الْأَمْرُ (إيجَابًا وَالنَّهْيُ) يَقْتَضِي (كَوْنَهُ) أَيْ الضِّدِّ (سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَلَوْ) كَانَ النَّهْيُ (تَحْرِيمًا، وَحُرِّرَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي أَمْرِ الْفَوْرِ لَا التَّرَاخِي) ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَغَيْرُهُمْ (وَفِي الضِّدِّ) الْوُجُودِيِّ (الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّرْكِ، لَا التَّرْكِ) ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا ثُمَّ قَالُوا (وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي لَفْظِهِمَا) أَيْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِأَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ افْعَلْ وَنَحْوُهَا، وَصِيغَةَ النَّهْيِ لَا تَفْعَلْ (وَلَا الْمَفْهُومَيْنِ) أَيْ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ مَفْهُومَ أَحَدِهِمَا - وَهُوَ الصِّيغَةُ الَّتِي هِيَ كَذَا - عَيْنُ مَفْهُومِ الْآخَرِ أَوْ فِي ضِمْنِهِ (لِلتَّغَايُرِ) أَيْ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَفْهُومَ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ مَفْهُومِ الْآخَرِ (بَلْ) النِّزَاعُ (فِي أَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ - الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ - عَيْنُ طَلَبِ تَرْكِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ النَّهْيُ)
فَالْجُمْهُورُ: نَعَمْ فَالْمُتَعَلِّقُ وَاحِدٌ وَالْمُتَعَلَّقُ بِهِ شَيْئَانِ مُتَلَازِمَانِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَالْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ
(1/321)
 
 
بِمَعْلُومَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا وَيُجْهَلَ الْآخَرُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الِاقْتِضَاءُ النَّفْسِيُّ لِفِعْلٍ دُونَ اقْتِضَائِهِ لِتَرْكِ ضِدِّهِ، وَالْقَاضِي آخِرًا: لَا، إلَّا أَنَّهُ يُثَنِّي الْمُتَعَلِّقَ وَالْمُتَعَلَّقَ بِهِ جَمِيعًا فَيَرَى أَنَّ الْأَمْرَ النَّفْسِيَّ يُقَارِنُهُ نَهْيٌ نَفْسِيٌّ أَيْضًا فَيَكُونُ وُجُودُ الْقَوْلِ النَّفْسِيِّ - الَّذِي هُوَ اقْتِضَاءُ الْقِيَامِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِ قُمْ - مُتَضَمِّنًا وُجُودَ قَوْلٍ آخَرَ فِي النَّفْسِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَا تَقْعُدْ وَيَكُونُ الْقَوْلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِ قُمْ مُتَضَمِّنًا لِلْقَوْلِ الثَّانِي وَمُقَارِنَهُ حَتَّى لَا يُوجَدَ مُنْفَرِدًا عَنْهُ وَيَجْرِي مَجْرَى الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُمْكِنُ انْفِصَالُهُمَا.
وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا لَا أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ الْمُتَعَلِّقَ وَالْمُتَعَلَّقَ بِهِ هَذَا، وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا إلَى أَنَّ غَيْرِيَّةَ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ إنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ طَلَبُ الْقِيَامِ هَلْ هُوَ بِعَيْنِهِ طَلَبُ تَرْكِ الْقُعُودِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فَرْضُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ كَلَامَهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ، فَلَا تَتَطَرَّقُ الْغَيْرِيَّةُ إلَيْهِ فَلْيُفْرَضْ فِي الْمَخْلُوقِ وَهُوَ أَنَّ طَلَبَهُ لِلْحَرَكَةِ هَلْ هُوَ بِعَيْنِهِ كَرَاهَةُ السُّكُونِ وَطَلَبٌ لِتَرْكِهِ، اهـ.
وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ وَاحِدٌ وَلَكِنَّهُ مُتَعَدِّدٌ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلِّقَاتِ، وَكَلَامُنَا فِي الْغَيْرِيَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا أَيْضًا أَنَّ النِّزَاعَ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ أَوْ لَا إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ طَلَبَ الْكَفِّ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ النَّهْيُ هَلْ هُوَ عَيْنُ طَلَبِ فِعْلِ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ أَمْ لَا، فَقِيلَ نَعَمْ اتَّحَدَ الضِّدُّ أَمْ تَعَدَّدَ وَقِيلَ بَلْ أَمْرٌ بِالْمُتَّحِدِ، وَإِلَّا فَبِوَاحِدٍ غَيْرِ عَيْنٍ وَقِيلَ لَا وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُهُ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ يُرْشِدُ إلَيْهِ (وَقَوْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ مَعَهُ) الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي كَوْنَ ضِدِّهِ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً (لَا يَسْتَلْزِمُ اللَّفْظِيَّ) أَيْ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ الْأَمْرَ اللَّفْظِيَّ وَبِالنَّهْيِ النَّهْيَ اللَّفْظِيَّ (بَلْ هُوَ) أَيْ هَذَا الْقَوْلُ (كَالتَّضَمُّنِ فِي قَوْلِ الْقَاضِي آخِرًا) فَإِنَّهُ أَفَادَ أَنَّهُ اخْتَارَ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَمَّا كَانَ ثَابِتًا فِي الْآخَرِ ضَرُورَةً لَا مَقْصُودًا، وَكَانَ الثَّابِتُ بِغَيْرِهِ ضَرُورَةً لَا يُسَاوِي بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتٌ بِقَدْرِ مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَالثَّانِيَ ثَابِتٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سَمَّاهُ اقْتِضَاءً، ثُمَّ قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاقْتِضَاءِ هُنَا الْمُصْطَلَحَ - وَهُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مَنْطُوقًا لِتَصْحِيحِ الْمَنْطُوقِ إذْ لَا تَوَقُّفَ لِصِحَّةِ الْمَنْطُوقِ عَلَيْهِ - بَلْ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَسُمِّيَ بِهِ لِشَبَهِهِ بِهِ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ ضَرُورَةً، وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَ مُوجَبُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُنَا بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَهُوَ الْكَرَاهَةُ وَالتَّرْغِيبُ كَمَا يُجْعَلُ الْمُقْتَضَى مَذْكُورًا بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَهُوَ صِحَّةُ الْكَلَامِ وَهَذَا فِي الْمَعْنَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي مِنْ الْمُرَادِ بِالتَّضَمُّنِ لَكِنَّ هَذَا لَا يُعَيِّنُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ النَّفْسِيَّ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّفْظِيَّ هُوَ الْمُرَادُ لَهُ كَمَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ كِتَابَهُ إلَى هَذَا الْبَابِ (وَمُرَادُهُ) أَيْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ (غَيْرُ أَمْرِ الْفَوْرِ لِتَنْصِيصِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الضِّدِّ الْمُفَوِّتِ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَقَالَ: وَفَائِدَةُ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ لَمْ يُعْتَبَرْ إلَّا مِنْ حَيْثُ يُفَوِّتُ الْأَمْرَ فَإِذَا لَمْ يُفَوِّتْهُ كَانَ مَكْرُوهًا كَالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ لَيْسَ بِنَهْيٍ عَنْ الْقُعُودِ قَصْدًا حَتَّى إذَا قَعَدَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ بِنَفْسِ الْقُعُودِ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ، اهـ.
وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ أَمْرَ الْفَوْرِ إمَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الرَّازِيّ أَوْ لِأَنَّهُ مُضَيَّقٌ ابْتِدَاءً كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ بِسَبَبِ ضِيقِ الْوَقْتِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ لَمْ يَتَأَتَّ الْقَوْلُ بِكَرَاهَةِ الضِّدِّ لِأَنَّهُ مَا مِنْ ضِدٍّ إلَّا، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ مُفَوِّتٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ حِينَئِذٍ
(1/322)
 
 
(وَعَلَى هَذَا) الَّذِي تَحَرَّرَ مُرَادًا لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ (يَنْبَغِي تَقْيِيدُ الضِّدِّ بِالْمُفَوِّتِ ثُمَّ إطْلَاقُ الْأَمْرِ عَنْ كَوْنِهِ فَوْرِيًّا) فَيُقَالُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ الْمُفَوِّتِ لَهُ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَعَلَى قِيَاسِهِ: وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ الْمُفَوِّتِ عَدَمَهُ لَهُ فَيَئُولُ فِي الْمَعْنَى إلَى قَوْلِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ: إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الضِّدَّ إنْ فَوَّتَ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ يَحْرُمُ، وَإِنْ فَوَّتَ عَدَمَهُ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ يَجِبُ، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْ فَالْأَمْرُ يَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ، وَالنَّهْيُ كَوْنَهُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً لَكِنْ كَمَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ وُجُوبَ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ تَرْكِهِ، وَحُرْمَةَ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِهِ وَهَذَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ نِزَاعٌ، انْتَهَى. وَأَمَّا الْبَاقِي فَسَيَأْتِي مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
 
(وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ) فِي كَوْنِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ.
أَوْ لَا تَظْهَرُ إذَا تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَفَعَلَ ضِدَّهُ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ بِنَهْيٍ مِنْ حَيْثُ (اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَقَطْ) كَمَا هُوَ لَازِمُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ (أَوْ) اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ (بِهِ) أَيْ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ (وَبِفِعْلِ الضِّدِّ حَيْثُ عَصَى أَمْرًا وَنَهْيًا) كَمَا هُوَ لَازِمُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَفِي كَوْنِ النَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرًا بِضِدِّهِ تَظْهَرُ إذَا فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَتَرَكَ ضِدَّهُ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ بِأَمْرٍ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ بِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَطْ كَمَا هُوَ لَازِمُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا بِضِدِّهِ أَوْ بِهِ وَبِتَرْكِ فِعْلِ الضِّدِّ كَمَا هُوَ لَازِمُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَلَعَلَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ اكْتِفَاءً بِإِرْشَادِ الْأَوَّلِ إلَيْهِ (لِلنَّافِينَ) كَوْنَ الْأَمْرِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَبِالْعَكْسِ أَنَّهُ (لَوْ كَانَا) أَيْ النَّهْيُ عَنْ الضِّدِّ وَالْأَمْرُ بِالضِّدِّ (إيَّاهُمَا) أَيْ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ (أَوْ لَازِمَيْهِمَا) أَيْ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ (لَزِمَ تَعَقُّلُ الضِّدِّ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْكَفِّ) فِي الْأَمْرِ وَالْأَمْرِ فِي النَّهْيِ (لِاسْتِحَالَتِهِمَا) أَيْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حِينَئِذٍ (مِمَّنْ لَمْ يَتَعَقَّلْهُمَا) أَيْ الضِّدَّ وَالْكَفَّ فِي الْأَمْرِ وَالضِّدَّ وَالْأَمْرَ فِي النَّهْيِ (وَالْقَطْعُ بِتَحَقُّقِهِمَا) أَيْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ (وَعَدَمِ خُطُورِهِمَا) أَيْ الضِّدِّ وَالْكَفِّ فِي الْأَمْرِ وَالضِّدِّ وَالْأَمْرِ فِي النَّهْيِ (وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَا لَا يَخْطُرُ الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ، وَالْمُرَادُ) بِالضِّدِّ هُنَا (الضِّدُّ الْعَامُّ) أَيْ الْمُطْلَقُ وَهُوَ مَا لَا يُجَامِعُ الْمَأْمُورَ بِهِ الدَّائِرَ فِي الْأَضْدَادِ الْجُزْئِيَّةِ. (وَتَعَلُّقُهُ) أَيْ الضِّدِّ الْعَامِّ (لَازِمٌ) لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ (إذْ طَلَبُ الْفِعْلِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِعَدَمِهِ) أَيْ الْفِعْلِ (لِانْتِفَاءِ طَلَبِ الْحَاصِلِ وَهُوَ) أَيْ الْعِلْمُ بِعَدَمِهِ (مَلْزُومُ الْعِلْمِ بِالْخَاصِّ) أَيْ بِالضِّدِّ الْخَاصِّ (وَهُوَ) أَيْ الضِّدُّ الْخَاصُّ (مَلْزُومٌ لِلْعَامِّ) أَيْ لِلضِّدِّ الْعَامِّ (وَلَا يَخْفَى مَا فِي الِاعْتِرَاضِ مِنْ عَدَمِ التَّوَارُدِ أَوَّلًا، وَتَنَاقُضِهِ فِي نَفْسِهِ ثَانِيًا، إذْ فَرْضُهُمْ الْجُزْئِيَّةَ) لِلضِّدِّيَّةِ فِي نَفْيِ الْخُطُورِ (فَلَا تَخْطُرُ) الْأَضْدَادُ الْجُزْئِيَّةُ (تَسْلِيمٌ) لِنَفْيِ خُطُورِ الضِّدِّ الْجُزْئِيِّ (وَقَوْلُهُ) الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْفِعْلِ (مَلْزُومُ الْعِلْمِ بِالْخَاصِّ يُنَاقِضُ مَا لَا يَخْطُرُ إلَى آخِرِهِ) أَيْ الْأَضْدَادَ الْجُزْئِيَّةَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالضِّدِّ الْخَاصِّ إثْبَاتُ خُطُورٍ لَهُ (وَأُجِيبَ) عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ (بِمَنْعِ التَّوَقُّفِ) لِلْأَمْرِ بِالْفِعْلِ (عَلَى الْعِلْمِ بِعَدَمِ التَّلَبُّسِ) بِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي حَالِ الْأَمْرِ (لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مُسْتَقْبَلٌ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى الِالْتِفَاتِ إلَى مَا فِي الْحَالِ وَلَوْ سُلِّمَ) تَوَقُّفُ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ عَلَى الْعِلْمِ بِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِهِ.
(فَالْكَفُّ) عَنْ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الضِّدُّ (مُشَاهَدٌ) مَحْسُوسٌ (وَلَا يَسْتَلْزِمُ) الْكَفُّ حِينَئِذٍ (الْعِلْمَ بِفِعْلِ ضِدٍّ خَاصٍّ لِحُصُولِهِ) أَيْ الْكَفِّ (بِالسُّكُونِ) فَلَا يَلْزَمُ تَعَقُّلُ الضِّدِّ (وَلَوْ سُلِّمَ) لُزُومُ تَعَقُّلِ الضِّدِّ (فَمُجَرَّدُ تَعَقُّلِهِ الضِّدَّ لَيْسَ مَلْزُومًا لِطَلَبِ تَرْكِهِ) الضِّدَّ (لِجَوَازِ الِاكْتِفَاءِ) فِي الْأَمْرِ (بِمَنْعِ تَرْكِ الْفِعْلِ) الْمَأْمُورِ بِهِ (إمَّا لِمَا قِيلَ: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ
(1/323)
 
 
تَرْكِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ) أَيْ مَنْعَ تَرْكِهِ (بِطَلَبٍ آخَرَ) غَيْرِ طَلَبِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ (لِخُطُورِ التَّرْكِ عَادَةً، وَطَلَبُ تَرْكِ تَرْكِهِ) أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ (الْكَائِنِ بِفِعْلِهِ وِزَانَ لَا تَتْرُكْ وَكَذَا الضِّدُّ الْمُفَوِّتُ) أَيْ مَطْلُوبٌ بِطَلَبٍ آخَرَ لِخُطُورِهِ عَادَةً وَطَلَبِ تَرْكِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ (فَالْأَوْجَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَرْكِهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ) اسْتِلْزَامًا (بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ) فِيهِ (وَكَذَا) الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ (عَنْ الضِّدِّ الْمُفَوِّتِ لِخُطُورِهِ كَذَلِكَ) يَعْنِي إذَا تَعَقَّلَ مَفْهُومَ الضِّدِّ الْمُفَوِّتِ وَتَعَقَّلَ مَعْنَى طَلَبِ التَّرْكِ حُكِمَ بِهِ فِيهِ وَبِلُزُومِهِ لَهُ قَالَهُ الْمُصَنِّفُ (فَإِنَّمَا التَّعْذِيبُ بِهِ) أَيْ بِالضِّدِّ (لِتَفْوِيتِهِ) الْمَأْمُورَ بِهِ فَالتَّعْذِيبُ عَلَى فِعْلِ الضِّدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُفَوِّتٌ لَا مُطْلَقًا (فَإِمَّا ضِدٌّ بِخُصُوصِهِ) إذَا كَانَ لِلْمَأْمُورِ بِهِ ضِدٌّ غَيْرُهُ (فَلَيْسَ لَازِمًا عَادَةً لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ خُطُورِ الْأَكْلِ مِنْ تَصَوُّرِ الصَّلَاةِ فِي الْعَادَةِ، الْقَاضِي لَوْ لَمْ يَكُنْ) الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ (إيَّاهُ) أَيْ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَبِالْعَكْسِ (فَضِدُّهُ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ خِلَافُهُ) لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ إنْ تَنَافَيَا لِذَاتَيْهِمَا أَيْ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَاتَيْهِمَا فَضِدَّانِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الذَّاتِيَّاتِ وَاللَّازِمِ فَمِثْلَانِ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَيَا بِأَنْفُسِهِمَا بِأَنْ لَمْ يَتَنَافَيَا أَوْ تَنَافَيَا لَا بِأَنْفُسِهِمَا فَخِلَافَانِ.
(وَالْأَوَّلَانِ) أَيْ كَوْنُهُمَا ضِدَّيْنِ وَكَوْنُهُمَا مِثْلَيْنِ (بَاطِلَانِ) ، وَإِلَّا لَمْ يَجْتَمِعَا لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ وَالْمِثْلَيْنِ (وَاجْتِمَاعُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ مَعَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ) لِأَنَّ وُقُوعَهُ ضَرُورِيٌّ كَمَا فِي: تَحَرَّكْ وَلَا تَسْكُنْ (وَكَذَا الثَّالِثُ) أَيْ كَوْنُهُمَا خِلَافَيْنِ بَاطِلٌ أَيْضًا (وَإِلَّا جَازَ كُلٌّ) أَيْ اجْتِمَاعُ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ (مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ كَالْحَلَاوَةِ وَالْبَيَاضِ) أَيْ يَجُوزُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْحَلَاوَةُ مَعَ ضِدِّ الْبَيَاضِ، وَهُوَ السَّوَادُ (فَيَجْتَمِعُ الْأَمْرُ بِشَيْءٍ مَعَ ضِدِّ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ) أَيْ الشَّيْءِ (وَهُوَ) أَيْ ضِدُّ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّ الشَّيْءِ (الْأَمْرُ بِضِدِّهِ) أَيْ الشَّيْءِ (وَهُوَ) أَيْ الْأَمْرُ بِشَيْءٍ مَعَ ضِدِّ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ (تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَمْرَ (طَلَبَهُ) أَيْ الْفِعْلَ (فِي وَقْتٍ طُلِبَ فِيهِ عَدَمُهُ) أَيْ الْفِعْلِ فَقَدْ طُلِبَ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ.
(أُجِيبَ بِمَنْعِ كَوْنِ لَازِمِ كُلِّ خِلَافَيْنِ ذَلِكَ) أَيْ اجْتِمَاعَ كُلٍّ مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ (لِجَوَازِ تَلَازُمِهِمَا) أَيْ الْخِلَافَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمَشَايِخُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّغَايُرِ جَوَازُ الِانْفِكَاكِ كَالْجَوْهَرِ مَعَ الْعَرَضِ وَالْعِلَّةِ مَعَ مَعْلُولِهَا الْمُسَاوِي (فَلَا يُجَامِعُ) أَحَدُهُمَا (الضِّدَّ) لِلْآخَرِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ أَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ مَعَ شَيْءٍ يُوجِبُ اجْتِمَاعَ الْآخَرِ مَعَهُ فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ كُلٍّ مَعَ ضِدِّهِ، وَهُوَ مُحَالٌ (وَإِذَنْ فَالنَّهْيُ إنْ كَانَ طَلَبَ تَرْكِ ضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ اخْتَرْنَاهُمَا) أَيْ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ وَالنَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ (خِلَافَيْنِ وَلَا يَجِبُ اجْتِمَاعُهُ) أَيْ النَّهْيِ (مَعَ ضِدِّ طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَالصَّلَاةِ مَعَ إبَاحَةِ الْأَكْلِ) فَإِنَّهُمَا خِلَافَانِ وَلَا يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمَا (وَبَعْدَ تَحْرِيرِ النِّزَاعِ لَا يُتَّجَهُ التَّرْدِيدُ بَيْنَهُ) أَيْ تَرْكِ ضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ (وَبَيْنَ فِعْلِ ضِدِّ ضِدِّهِ) أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ (الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ تَرْكُ ضِدِّهِ، وَهُوَ) أَيْ فِعْلُ ضِدِّ ضِدِّهِ (عَيْنُهُ) أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ. وَإِذَنْ (فَحَاصِلُهُ طَلَبُ الْفِعْلِ طَلَبُ عَيْنِهِ وَإِنَّهُ لَعِبٌ ثُمَّ إصْلَاحُهُ) حَتَّى لَا يَكُونَ لَعِبًا (بِأَنْ يُرَادَ أَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ لَهُ اسْمَانِ أَمْرٌ بِالْفِعْلِ وَنَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ) أَيْ النِّزَاعُ (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ يَكُونُ الْمُرَادُ: هَذَا نِزَاعٌ (لُغَوِيٌّ) فِي تَسْمِيَةِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ تَرْكًا لِضِدِّهِ وَفِي تَسْمِيَةِ طَلَبِهِ نَهْيًا وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ.
(وَلَهُمْ) أَيْ الْقَائِلِينَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ عَيْنُ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ وَبِالْعَكْسِ وَهُوَ الْقَاضِي وَمُوَافِقُوهُ (أَيْضًا فِعْلُ السُّكُونِ عَيْنُ تَرْكِ الْحَرَكَةِ، وَطَلَبُهُ) أَيْ فِعْلِ السُّكُونِ (اسْتِعْلَاءً - وَهُوَ) أَيْ طَلَبُهُ
(1/324)
 
 
اسْتِعْلَاءً (الْأَمْرُ - طَلَبُ تَرْكِهَا) أَيْ الْحَرَكَةِ (وَهُوَ) أَيْ طَلَبُ تَرْكِهَا (النَّهْيُ وَهَذَا) الدَّلِيلُ (كَالْأَوَّلِ يَعُمُّ النَّهْيَ) لِأَنَّهُ يُقَالُ أَيْضًا بِالْقَلْبِ (وَالْجَوَابُ بِرُجُوعِ النِّزَاعِ لَفْظِيًّا) كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ (مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ) أَيْ النِّزَاعُ (فِي وَحْدَةِ الطَّلَبِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَتَعَدُّدِهِ) أَيْ الطَّلَبِ الْقَائِمِ بِهَا (بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ - أَعْنِي الْحَاصِلَ بِالْمَصْدَرِ وَتَرْكِ أَضْدَادِهِ - وَاحِدٌ فِي الْوُجُودِ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا) أَيْ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ (بَلْ الْجَوَابُ مَا تَضَمَّنَهُ دَلِيلُ النَّافِينَ مِنْ الْقَطْعِ بِطَلَبِ الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ الضِّدِّ وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يَتِمُّ) هَذَا الدَّلِيلُ (فِيمَا أَحَدُهُمَا) أَيْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ (تَرْكُ الْآخَرِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَا الْأَضْدَادِ الْوُجُودِيَّةِ فَلَيْسَ) مَا أَحَدُهُمَا تَرْكُ الْآخَرِ (مَحَلَّ النِّزَاعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَلَا تَمَامَهُ) أَيْ مَحَلِّ النِّزَاعِ (عِنْدَنَا) لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ (وَلِلْمُعَمِّمِ) أَيْ الْقَائِلِ (فِي النَّهْيِ) : إنَّهُ أَمْرٌ بِالضِّدِّ (دَلِيلَا الْقَاضِي) وَهُمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ نَفْسَهُ لَكَانَ مِثْلَهُ أَوْ ضِدَّهُ أَوْ خِلَافَهُ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَتَرْكُ السُّكُونِ الْحَرَكَةُ، فَطَلَبُهُ طَلَبُهَا (وَالْجَوَابُ) عَنْهُمَا (مَا تَقَدَّمَ) آنِفًا وَهُوَ مَنْعُ كَوْنِ لَازِمِ الْخِلَافَيْنِ ذَلِكَ لِجَوَازِ تَلَازُمِهِمَا وَالْقَطْعِ بِطَلَبِ الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ الضِّدِّ (وَأَيْضًا يَلْزَمُ فِي نَهْيِ الشَّارِعِ كَوْنُ كُلٍّ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُضَادَّةِ) كَاللِّوَاطِ وَالزِّنَا (مَأْمُورًا بِهِ مُخَيَّرًا) مُثَابًا عَلَيْهِ إذَا تَرَكَ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ وَالْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبِ (وَلَوْ الْتَزَمُوهُ) أَيْ هَذَا (لُغَةً غَيْرَ أَنَّهَا) أَيْ الْمَعَاصِيَ (مَمْنُوعَةٌ بِشَرْعِيٍّ كَالْمُخْرَجِ مِنْ الْعَامِّ) مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَامَّ (يَتَنَاوَلُهُ) أَيْ الْمُخْرَجَ (وَيَمْتَنِعُ فِيهِ) أَيْ الْمُخْرَجِ (حُكْمُهُ) أَيْ الْعَامِّ بِمُوجِبٍ لِذَلِكَ (أَمْكَنَهُمْ وَعَلَى اعْتِبَارِهِ فَالْمَطْلُوبُ ضِدٌّ لَمْ يَمْنَعْهُ الدَّلِيلُ وَأَمَّا إلْزَامُ نَفْيِ الْمُبَاحِ)
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ إذْ مَا مِنْ مُبَاحٍ إلَّا وَهُوَ تَرْكُ حَرَامٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا يَأْتِي (فَغَيْرُ لَازِمٍ) إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الشَّيْءِ فِعْلُ ضِدِّهِ (الْمُضَمِّنِ) أَيْ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ قَالَ (أَمْرُ الْإِيجَابِ طَلَبُ فِعْلٍ يُذَمُّ تَرْكُهُ فَاسْتَلْزَمَ النَّهْيَ عَنْهُ) أَيْ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ (وَعَمَّا يَحْصُلُ بِهِ) تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ (وَهُوَ) أَيْ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ (الضِّدُّ) لِلْأَمْرِ، وَهُوَ النَّهْيُ (وَنُقِضَ) هَذَا بِأَنَّهُ (لَوْ تَمَّ لَزِمَ تَصَوُّرُ الْكَفِّ عَنْ الْكَفِّ لِكُلِّ أَمْرٍ) لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ الْفِعْلِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ حِينَئِذٍ، وَالنَّهْيَ طَلَبُ فِعْلٍ هُوَ كَفٌّ فَيَكُونُ الْأَمْرُ مُتَضَمِّنًا لِطَلَبِ الْكَفِّ عَنْ الْكَفِّ، وَالْحُكْمُ بِالشَّيْءِ فَرْعُ تَصَوُّرِهِ فَيَلْزَمُ تَصَوُّرُ الْكَفِّ عَنْ الْكَفِّ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِطَلَبِ الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ الْكَفِّ عَنْ الْكَفِّ فَلَا يَكُونُ الْكَفُّ الَّذِي ذُمَّ عَلَيْهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ النَّهْيَ عَنْ الْكَفِّ وَلَا عَنْ الضِّدِّ (وَلَوْ سُلِّمَ) عَدَمُ النَّقْصِ بِهَذَا لِعَدَمِ لُزُومِ تَصَوُّرِ الْكَفِّ عَنْ الْكَفِّ فِي كُلِّ أَمْرٍ لِلدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الْكَفَّ مُشَاهَدٌ فَيُسْتَغْنَى بِمُشَاهَدَتِهِ عَنْ تَصَوُّرِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْعَرَضِ فَهُوَ مُعْتَرِضٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (مَنْعُ كَوْنِ الذَّمِّ بِالتَّرْكِ جُزْءًا لِوُجُوبٍ) فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَإِنْ وَقَعَ) الذَّمُّ بِالتَّرْكِ (جُزْءَ التَّعْرِيفِ) الرَّسْمِيِّ لَهُ (بَلْ هُوَ) أَيْ الْوُجُوبُ (الطَّلَبُ الْجَازِمُ ثُمَّ يَلْزَمُ تَرْكُهُ) أَيْ مُقْتَضَاهُ (ذَلِكَ) أَيْ الذَّمَّ (إذَا صَدَرَ) الْأَمْرُ (مِمَّنْ لَهُ حَقُّ الْإِلْزَامِ) فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ مُتَضَمِّنًا لِلنَّهْيِ لِأَنَّ الْمَبْحَثَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ بِحَسَبِ مَفْهُومِهِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ مَفْهُومِهِ (وَلَوْ سُلِّمَ) كَوْنُ الذَّمِّ بِالتَّرْكِ جُزْءَ الْوُجُوبِ (فَجَازَ كَوْنُ الذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ) مَا أُمِرَ بِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ الذَّمُّ عَلَى الْعَدَمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَدَمٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَلَيْسَ الْعَدَمُ فِعْلَهُ بَلْ التَّرْكُ الْمُبْقِي لِلْعَدَمِ عَلَى الْأَصْلِ وَمَا قِيلَ لَوْ سُلِّمَ) أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ
(1/325)
 
 
مُتَضَمِّنٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ (فَلَا مُبَاحَ) لِأَنَّ الشَّيْءَ حِينَئِذٍ مَطْلُوبٌ فِعْلُهُ وَتَرْكُ ضِدِّهِ، وَالْمُبَاحُ لَيْسَ أَحَدَهُمَا (غَيْرُ لَازِمٍ) لِجَوَازِ عَدَمِ طَلَبِ فِعْلِ شَيْءٍ، وَعَدَمِ طَلَبِ تَرْكِ ضِدِّهِ، وَفِعْلُ أَوْ تَرْكُ مَا هُوَ كَذَلِكَ هُوَ الْمُبَاحُ (وَإِلَّا) لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا نَفْيَ الْمُبَاحِ (امْتَنَعَ التَّصْرِيحُ بِلَا تَعَقُّلِ الضِّدِّ الْمُفَوِّتِ) لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ.
(وَالْحَلُّ أَنَّ لَيْسَ كُلُّ ضِدٍّ مُفَوِّتًا، وَلَا كُلُّ مُقَدَّرٍ ضِدًّا كَذَلِكَ) أَيْ مُفَوِّتًا (كَخَطْوِهِ فِي الصَّلَاةِ وَابْتِلَاعِ رِيقِهِ وَفَتْحِ عَيْنِهِ وَكَثِيرٍ، وَأَيْضًا لَا يَسْتَلْزِمُ) هَذَا الدَّلِيلُ (مَحَلَّ النِّزَاعِ وَهُوَ: الضِّدُّ) لِلْأَمْرِ (غَيْرُ التَّرْكِ) لِلْمَأْمُورِ بِهِ (لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ النَّهْيِ اللَّازِمِ) لِلْأَمْرِ (أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ التَّرْكِ وَالضِّدِّ) أَيْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالضِّدِّ الْجُزْئِيِّ لِقَطْعِنَا بِأَنَّ لُزُومَهُ لِنَفْيِ التَّفْوِيتِ، وَهُوَ كَمَا يَثْبُتُ بِفِعْلِ الضِّدِّ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ (فَنَخْتَارُ الْأَوَّلَ) أَيْ أَنَّ اللَّازِمَ النّ