التقرير والتحبير العلمية ط 1 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: التقرير والتحبير
تأليف: محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
 
ج / 2 ص -153- تلك الصلاة إذا لم تكن صلتها وأن من سافر في آخر الوقت يقصر إذا لم يكن صلاها والفقهاء من أنها لو طهرت في آخر الوقت لزمتها وأن المسافر إذا أقام في آخره قبل أن يصلي يتمها ثم المؤدى إما أن يكون نفلا كما قال البعض لأنه يتمكن من الترك في أوله لا إلى بدل وأثم وهذا حد النفل إلا أن بأدائه يحصل المطلوب وهو إظهار فضل الوقت فيمنع لزومه الفرض كمحدث توضأ قبل الوقت يقع نفلا ومع هذا يمنع لزوم فرض الوقت بعد دخوله وإما أن يكون موقوفا كما قال البعض كالزكاة المعجلة قبل الحول للمصدق كشاة من أربعين شاة فإنه إن تم الحول وعنده تسع وثلاثون أجزأه وإن كان أقل كان له أن يأخذها من يد المصدق إن كانت قائمة تشبث ساقط فإن النصوص كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الاسراء: 78] وقول جبريل عليه السلام في حديث الإمامة: "يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين" رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولا وآخرا أي لوقتها وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل العصر" الحديث رواه الترمذي يتناول جميع أجزاء الوقت وليس المراد تطبيق الصلاة على أوله وآخره ولا فعلها في كل جزء بالإجماع فلم يبق إلا أنه أريد أن كل جزء منه صالح للأداء والمكلف مخير فيه فثبت التوسع شرعا ضرورة لامتناع قسم آخر وليس هو مع الوجوب بممتنع عقلا فإن قول السيد لعبده: خط هذا الثوب في هذا اليوم إما في أوله أو في وسطه أو آخره صحيح عقلا ولا يخلو إما أن يقال ما أوجب شيئا أو أوجب مضيقا وهما محالان فلم يبق إلا أن يقال أوجب موسعا. ثم الإجماع على وجوبها على من بلغ أو أسلم أو طهرت في وسط الوقت أو آخره الباقي منه ما يسعها ولو كان الوجوب معلقا بأوله لما وجبت عليهم بعد فوات أوله كما لو فات جميع الوقت في هذه الأحوال وعلى أن الواجب إنما يتأدى بنية الفرض لا بنية النفل ولا بمطلق النية ولو كان نفلا كما زعم بعضهم لتأدى بنية النفل أو موقوفا كما زعم آخرون لتأدى بمطلق النية ولاستوت فيه نية الفرض والنفل وفي الكشف الكبير وقولهم وجد في المؤدى أول الوقت حد النفل لأنه لا عقاب على تركه فاسد لأنا لا نسلم أن ذلك ترك بل هو تأخير بإذن الشرع وذكر الغزالي أن الأقسام في الفعل ثلاثة: فعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب وفعل لا يعاقب على تركه مطلقا وهو الندب وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت لكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث مفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب به الواجب الموسع وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب فإذن الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل، والنزاع يرجع إلى اللفظ واللفظ الذي ذكرناه أولى ا هـ وهذا السياق الذي تقدم الوعد به "وإنما يلزم" كونه قضاء بعد الجزء الأول في الوقت "لو كان" الجزء "الأول سبب" الوجوب "المضيق" وليس كذلك "وقولهم" أي الحنفية
(1/7)
 
 
ج / 2 ص -154- "تتقرر السببية على ما" أي الجزء الذي "يليه الشروع" في الواجب "فيه" أي في قولهم "ما سنذكر" في المسألة التي تلي المسألة التي تلي هذه وننبهك عليه إن شاء الله تعالى.
مسألة
"الواجب بالسبب الفعل عينا مخيرا" في أجزاء زمانه المحدود له "كما قلنا" آنفا في السابقة "والقاضي أبو بكر الواجب في كل جزء" من أجزاء الوقت ما لم يتضيق "أحد الأمرين منه" أي الفعل "ومن العزم عليه" أي الفعل "فيما بعده" أي ذلك الجزء الخالي هو وما قبله من الفعل فإذا لم يبق منه إلا ما يسع الفعل تعين الفعل "فإن لم يفعل ولم يعزم" على الفعل حتى مضى الوقت "عصى وعند زفر عصى بالتأخير عن قدر ما يسع" الأداء من آخر الوقت "ودفع" قول القاضي "بأن المصلي في الجزء" الذي ليس بالأخير من آخر الوقت "ممتثل لكونه مصليا لا" لكونه "آتيا بأحد الأمرين" الفعل أو العزم مبهما ولو كان هنا تخيير بين الصلاة والعزم لكان الامتثال بها من حيث إنها أحد الأمرين ومشتملة على المفهوم المطلق كما يعلم في تحقيق القول بالتخيير "وله" أي للقاضي "دفعه" أي هذا الدفع "بأن لا منافاة" بين كونه مصليا وبين كونه آتيا بأحد الأمرين مبهما لكونه أحد جزأيه "فليكن" ممتثلا "لكون الصلاة أحدهما" أي الأمرين مبهما "ودعوى التعين" أي بأن الواجب واحد معين منهما "محل النزاع إنما ذلك" أي وجوب أحدهما بعينه "عند التضيق" في الوقت بحيث لم يبق منه إلا ما يسعها وليس الكلام فيه "وفي البديع" في جواب قول القاضي وبأنه "لو كان العزم بدلا" عن الصلاة وقد أتى به "سقط به المبدل" وهو الصلاة "كسائر الإبدال" كالجمعة للظهر وليس كذلك "والجواب" عن هذا "منع الملازمة" أي لا نسلم سقوطها به لأنا لا نعني أنه بدل عنها مطلقا "بل" نعني أنه بدل عن إيقاعها فيما عدا الجزء الأخير منه وحينئذ "اللازم سقوط وجوبها في ذلك الوقت والبدلية ليست إلا في هذا القدر" أي في سقوط وجوبها في ذلك الوقت بالعزم على الفعل في ثاني الحال قيل وأيضا هو لم يجعل العزم وحده بدلا بل العزم مع الفعل في آخره فتحقق العزم فيما عدا الجزء الأخير مع ترك الفعل فيه لا يقتضي سقوطها لعدم تحقق البدل بكماله "بل الجواب" عن قول القاضي "أن الكلام في الواجب بالوقت ولا تعلق لوجوب العزم به" أي بالوقت "بل وجوب العزم على فعل كل واجب" موسعا كان أو مضيقا إجمالا عند الالتفات إليه إجمالا وتفصيلا عند تذكره بخصوصه كالصلاة حكم "من أحكام الإيمان" يثبت مع ثبوت الإيمان سواء دخل وقت الواجب أو لا فهو واجب مستمر قبل وجوبه ومعه بحسب الالتفات إليه ليتحقق التصديق الذي هو الإذعان والقبول غير مختص بالصلاة ومقيدا كون العزم بدلا عن الفعل "هذا ولا يبعد أن مذهب القاضي أن الواجب بأول الوقت الصلاة أو العزم على فعلها" أي الصلاة "بعده" أي أول الوقت "فيه" أي الوقت "كما هو المنقول عن المتكلمين" إذ في برهان إمام الحرمين والذي أراه أنهم لا يوجبون تجديد العزم في الجزء الثاني بل يحكمون بأن العزم الأول ينسحب على جميع الأزمنة المستقبلة كانسحاب النية على العبادة الطويلة مع عزوبها "لا أن كل جزء يلزم فيه الفعل أو العزم المستلزم لاستصحاب العزم من أول
(1/8)
 
 
ج / 2 ص -155- الوقت إلى آخره لأنه بعيد" لأن أحدا لا يقول بأن العزم في الجزء الأخير كاف وقد ذكر غير واحد ما أسلفنا من أن هذا التخيير عنده إنما هو في غير الجزء الأخير أما في الجزء الأخير فيتعين الفعل قطعا والله سبحانه أعلم.
مسألة
"تثبت السببية لوجوب الأداء" في الواجب البدني "بأول الوقت موسعا كما ذكرنا عند الشافعية بخلاف المالي فيثبت بالنصاب" المملوك له "والرأس" الذي يمونه ويلي عليه على قول الحنفية "أو الفطر" أي غروب شمس آخر يوم من رمضان على الصحيح عند الشافعية "والدين" المؤجل إلى وقت معين "أصل الوجوب" للزكاة وصدقة الفطر وتفريغ الذمة من الدين "وتأخر وجوب الدين" إلى تمام الحول في الزكاة وطلوع فجر أول يوم من شوال في صدقة الفطر وحلول الأجل في الدين "بدليل السقوط" لهذه الأشياء عن المكلف "بالتعجيل" لها "وهو" أي سقوطها "فرع سبق الوجوب" لها "و" فرع "تأخر وجوب الأداء عند الحنفية" أي جمهورهم "كذلك" أي قائلون بانفصال الوجوب عن وجوب الأداء "في البدني أيضا" كما في المالي "فثبت بالأول" من إجزاء الوقت "أصل الوجوب فيعتبر حال المكلف في" الجزء "الأخير" من الوقت "من الحيض والبلوغ والسفر وأضدادها" أي الطهارة والصبا والإقامة "فلو كانت طاهرة أول الوقت فلم تصل حتى حاضت آخره لا قضاء" عليها سواء كان الباقي ما يسع الصلاة أو تحريمتها فقط وقال زفر إن بقي ما يسعها لا قضاء وإلا فعليها القضاء وقال الشافعي إن أدرك من عرض له إحدى هذه العوارض قبل عروضها قدر الفرض أخف ما يمكنه فعله وجب عليه وإلا، فلا "وفي قلبه" أي إذا كانت حائضا أول الوقت ثم طهرت آخره "قلبه" أي القضاء ولو كان الباقي من الوقت مقدار ما يسع التحريمة عند علمائنا الثلاثة إذا كان حيضها عشرة أيام فإن كان أقل والباقي قدر الغسل مع مقدماته كالاستقاء وخلع الثوب والتستر عن الأعين والتحريمة فعليها القضاء وإلا فلا وفي شرح للبزدوي وما ذكروا أن المراد به الغسل المسنون أو الفرض والظاهر الفرض لأنه يثبت به رجحان جانب الطهارة وقال زفر لا يثبت الوجوب ما لم يدرك ما يسع جميع الواجب وعلى هذا الخلاف إذا زال الكفر والجنون وقد بقي من الوقت قدر التحريمة يجب عند الثلاثة ولا يجب عند زفر وقال الشافعي يجب إذا زالت هذه العوارض وقد بقي من الوقت قدر تكبيرة والأظهر وجوب الظهر بإدراك تكبيرة العصر، والمغرب بإدراك تكبيرة العشاء ولا يشترط إدراك زمن الطهارة، ويشترط امتداد السلامة من الموانع زمن إمكان الطهارة والصلاة.
"ولا ينكرون" أي الحنفية "إمكان ادعاء الشافعية لكن ادعوه" أي الحنفية إمكانه "غير واقع بدليل وجوب القضاء على نائم كل الوقت وهو" أي وجوب القضاء عليه "فرع وجود الوجوب" عليه حالة النوم وإلا لم يجب عليه القضاء، كما لا يجب بالإجماع على من حدثت له أهلية بعد مضي الوقت بإسلام أو بلوغ وأورد وجوب القضاء عليه ابتداء عبادة تلزمه بعد
(1/9)
 
 
ج / 2 ص -156- حدوث أهلية الخطاب بخطاب مبتدأ كما ذهب إليه الشيخ أبو المعين وهو ما روى النسائي والترمذي وصححه عنه صلى الله عليه وسلم: "فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها" وأجيب بالمنع لأن شرائط القضاء فيه كالنية وغيرها ولو كان ابتداء فرض لما روعيت ودفع بأن عند الخصم لا فرق بين الأداء والقضاء في حق النية لا في الصلاة ولا في الصوم بل يحتاج أن ينوي ما عليه عند عدم العذر ولولا العذر لوجب في الوقت وبهذا لا يتبين أنهما وجبا على المكلف في حالة سقوط أدائهما عنه وستقف في كلام المصنف على ما يؤخذ منه دفعه وننبهك عليه إن شاء الله تعالى.
"ولا اعتبار لقول من جعله" أي القضاء المذكور "أداء منهم" أي الحنفية كما هو ظاهر السياق ولعله يريد فخر الإسلام حيث قال وهو أي انفكاك وجوب الأداء وتراخيه عن نفس الوجوب كالنائم والمغمى عليه إذا مر عليهما وقت جميع الصلاة وجنب الأصل وتراخي وجوب الأداء والخطاب ومن ثمة قال الشيخ أكمل الدين في شرحه عبارة الشيخ هنا تدل على أن ما يأتي به النائم والمغمى عليه بعد اليقظة والانتباه أداء لا قضاء، وقال وهو المناسب للقواعد أما أولا فلأن الأداء تسليم نفس الواجب بالأمر وما وجب عليهما بالأمر هو ما يأتيان به بعد خروج الوقت وأما ثانيا فلأن القضاء تسليم مثل الواجب بالأمر والمثل إنما يتحقق إذا كان المكلف مخاطبا بالأصلي وقد فاته فوجب عليه مثله وهذا ليس كذلك لعدم أهليتها لفهم الخطاب ا هـ وهو موافق لما ذكرنا آنفا عن أبي المعين فيندفع بما يندفع به والأشبه كما في شرح الشيخ قوام الدين الأتقاني استعارة معنى الأداء للقضاء لوجود معنى التسليم فيهما لانتفاء حقيقة الأداء بعد انقضاء الوقت إذ هي تسليم الواجب في وقته أو أنه أراد به مجرد التسليم فلا يخالف في المعنى كونه قضاء كما أطلقه القوم.
"والاتفاق على انتفاء وجوب الأداء عليه" أي النائم المذكور كما في الكشف وغيره لكن فيه أيضا الأداء نوعان نوع يكون نفس الفعل فيه مطلوبا حتى يأثم بتركه ولا بد فيه من استطاعة سلامة الأسباب والآلات ونوع لا يكون نفس الفعل فيه مطلوبا بل المطلوب منه ثبوت خلفه وهو القضاء حتى لا يأثم بترك الفعل ويكفي فيه تصور ثبوت الاستطاعة ففي مسألة النائم وجوب الأداء بالمعنى الأول غير موجود لفوات استطاعة سلامة الآلات وبالمعنى الثاني موجود لتصور حدوثها بالانتباه فوجوب القضاء بناء على هذا وعدم الإثم بناء على انتقاء ذلك ثم ذكر عن فخر الإسلام في شرح المبسوط ما يوافق هذا ولكن على هذا كما قال الشيخ قوام الدين الكاكي للخصم أن يمنع انفصال وجوب الأداء عن نفس الوجوب وقيل القضاء مبني على نفس الوجوب دون وجوب الأداء بمعنى أن الوجوب إذ ثبت في الذمة فإما أن يكون مفضيا إلى وجوب الأداء أو وجوب القضاء فإن أمكن إيجاب الأداء وجب القول به وإلا وجب الحكم بوجوب القضاء وليس يشترط لوجوب القضاء أن يكون وجوب الأداء ثابتا أولا ثم أنه يجب القضاء لفواته بل الشرط أن يصلح السبب
(1/10)
 
 
ج / 2 ص -157- الموجب لإفضائه إلى وجوب الأداء في نفس الأمر فإذا امتنع وجوب الأداء لمانع ظهر وجوب القضاء فهذا هو معنى الخلفية والسبب الموجب وهو الوقت يصلح للإفضاء إلى وجوب الأداء في نفس الأمر كما في حق المستيقظ والمفيق فيصلح أن يكون مفضيا إلى القضاء في حق النائم والمغمى عليه قال الكاكي فعلى هذا الوجه لا يرد المنع المذكور ولكن يرد بوجه آخر وهو أن يقول لا نسلم أن وجوب القضاء عليهما بهذا الطريق ا هـ.
هذا وقد عللوا عدم وجوب الأداء على النائم والمغمى عليه الوقت كله بعدم الخطاب ; لأن خطاب من لا يفهم لغو وفي التلويح ولقائل أن يمنع عدم الخطاب وإنما يلزم اللغو أن لو كان مخاطبا بأن يفعل في حالة النوم مثلا وليس كذلك بل هو مخاطب بأن يفعل بعد الانتباه والمريض مخاطب بأن يفعل في الوقت أو في أيام أخر كما في الواجب المخير والعجب أنهم جوزوا خطاب المعدوم بناء على أن المطلوب صدور الفعل حالة الوجود حتى قال شمس الأئمة من شرط وجوب الأداء القدرة التي بها يتمكن المأمور من الأداء إلا أنه لا يشترط وجودها عند الأمر بل عند الأداء فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الناس كافة وصح أمره في حق من وجد بعده ويلزمهم الأداء بشرط أن يبلغهم ويتمكنوا من الأداء وقد يصرح بذلك، كالمريض يؤمر بقتال المشركين إذا برأ قال الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] أي إذا أمنتم من الخوف فصلوا بلا إيماء ا هـ وأجيب بأنه يمكن أن يقال لا يجوز أن يكون النائم مخاطبا بأن يفعل بعد الانتباه، والمريض مخاطبا بأن يفعل في الوقت في أيام أخر، وإلا يلزم أن يكون الصبي أيضا مكلفا، ومخاطبا بأن يفعله بعد البلوغ فلم يبق فرق بين الصبي والبالغ والحائض وغيرهما واللازم باطل فالملزوم مثله قال العلامة الشيرازي في شرح مختصر ابن الحاجب: واعلم أنه لا نزاع بين الفريقين في أن حصول الشرط الشرعي لأداء الواجب كالتمكن من الأداء شرط في التكليف بأدائه وليس شرطا في التكليف بوجوبه ولهذا لم يكن المكلف النائم في وقت الصلاة مكلفا بأداء الصلاة مع وجوبها عليه بدخول الوقت وإلا لم يجب عليه القضاء إذا انتبه بعد مضي الوقت كما لو كان النائم غير مكلف بأن كان صبيا - فانتبه - بالغا لانتفاء شرط الوجوب في حقه وهو التمكن من فهم الخطاب ثم إن الخطاب الذي نحن بصدده إنما هو الخطاب بتنجيز التكليف والخطاب بالمعدوم بمعنى التعلق المعنوي وهو كون المعدوم مأمورا ومكلفا على تقدير وجوده ولا فرق في هذا الخطاب بين الصبي والبالغ والمريض والصحيح والنائم والمستيقظ بخلاف الأول وبهذا يندفع التعجب ا هـ لكن كون الصبي إذا استيقظ بعد خروج الوقت بالغا لا قضاء عليه قول بعض المشايخ، وفي الخلاصة والمختار أن عليه القضاء ونقله عن أبي حنيفة، والله سبحانه وتعالى أعلم. "وكذا صحة صوم المسافر عن الفرض فرع الوجوب عليه" أي على المسافر لعدم جواز التعجيل قبل الوجوب "وعدم إثمه" أي المسافر "لو مات بلا أداء في سفره" دليل عدم وجوب الأداء عليه وكأنه حذفه لإرشاد ما قبله إليه "وصرحوا" أي الحنفية "بأن لا طلب في أصل الوجوب بل هو" أي أصل الوجوب "مجرد اعتبار من الشارع أن في
(1/11)
 
 
ج / 2 ص -158- ذمته" أي المكلف "جبرا لفعل كالشغل بالدين وهو" أي الدين "فعل عند أبي حنيفة" وهو تمليك المال أو تسليمه، ألا يرى أنه يوصف بالوجوب والوجوب صفة الأفعال لا الأعيان وأورد أن قول القائل أوفى فلان الدين صحيح ولو كان الدين فعلا لكان المعنى أوفى الإيفاء وإن المال يوصف بالوجوب أيضا كما في على فلان ألف درهم واجبة من ثمن مبيع وأجيب عن الأول بأن الإيفاء هو الأداء، والفعل يوصف به وبالقضاء وإن كان كل منهما عين الفعل فيقال أدى الصلاة وقضاها أي فعل هذا الفعل وأتى به فكذا هنا معنى أوفى الدين أتى بهذا الفعل وهو تمليك المال أو تسليمه وعن الثاني بأن المال يوصف به مجازا باعتبار أنه محل الوجوب كالموهوب يسمى هبة، ألا يرى أن المال المجرد عن الفعل لا يصح وصفه بالوجوب فلا يقال جدار واجب كما يصح وصف الفعل المجرد عن المال كالصلاة فعلم أن الوجوب حقيقة من خصائص الفعل.
"وقد يشكل المذهبان" أي مذهبا الحنفية والشافعية "بأن الفعل بلا طلب كيف يسقط الواجب وهو" أي الواجب إنما يكون واجبا "بالطلب، والسقوط" إنما يكون "بتقدمه" أي الطلب أيضا. "وقصد الامتثال" إنما يكون "بالعلم به" أي بالطلب وهو يقتضي سبق الوجوب "والشافعية إن أرادوه" أي أرادوا بنفس الوجوب ما أراد الحنفية "فكذلك" أي ورد عليهم ما ورد على الحنفية من أنه إسقاط قبل الطلب "وإن دخله طلب قلنا لا يعقل طلب فعل بلا أدائه وقضائه ; لأنه" أي الفعل "إما مطلق عن الوقت وهو" أي المطلق عنه "مطلوب الأداء في العمر أو مقيد به" أي الوقت "فهو مطلوب الأداء فيه" أي في وقته "مخيرا في الإجزاء وهو الموسع ثم" مطلوب الأداء فيه "مضيفا" عند ضيق الوقت "وقول الحنفية يتضيق" الوجوب "عند الشروع وتتقرر السببية للذي يليه" الشروع "يلزمه كون المسبب هو المعرف للسبب وهو" أي كون المسبب هو المعرف للسبب "عكس وضعه" أي المسبب "و" عكس "وضع العلامة" فإن السبب هو المعرف للمسبب والعلامة هي المعرفة لما هي علامة له "ومفوتا" والظاهر ومفوت "لمقصودها" أي العلامة وهي التعريف بما هي علامة له عطف على عكس "وبه" أي بكون المسبب هنا هو المعرف للسبب "يصير" هذا القول "أبعد من المذهب المرذول أن التكليف مع الفعل لقولهم" أي الحنفية "إن الطلب لم يسبقه" أي الفعل "إذ لا طلب في أصل الوجوب كما ذكرنا وهو" أي أصل الوجوب "السابق" على الفعل قال المصنف رحمه الله تعالى أي يلزم الحنفية أن التكليف بالفعل مع الشروع فيه وهو المذهب الذي تقدم تزييفه وبطلانه، ووجهه أنهم لما قالوا الثابت بأول الوقت أصل الوجوب وصرحوا بأنه لا طلب عنه لزم أن يكون ما يتضيق بآخر الوقت ليس ذاك بل وجوب الأداء والفرض أنه لم يسبق قبل ذلك طلب فيلزم كون المتعلق والمتضيق عند الشروع هو وجوب الأداء وهو ذلك المذهب بعينه وباستلزام عكس وضع العلامة والسبب صار أبعد منه وهذا هو الموعود به في مسألة السبب الجزء الأول عينا بقولنا فيه ما سنذكر "والوجه أن ما أمكن فيه اعتبار وجود الأداء بالسبب موسعا اعتبر كالدين المؤجل يثبت بالشغل" للذمة "وجوب الأداء موسعا أي مخيرا إلى
(1/12)
 
 
ج / 2 ص -159- الحلول أو الطلب بعده" أي الحلول "فيتضيق" وجوب الأداء حينئذ "وكالثوب المطار" أي الذي أطارته الريح "إلى إنسان يجب" أداؤه موسعا "إلى طلب مالكه" فيتضيق حينئذ "وما لا" يمكن فيه اعتبار وجوب الأداء بالسبب موسعا "كالزكاة عند الحنفية فإنه لو وجب الأداء بملك النصاب موسعا فإما إلى الحول فيتضيق وإما إلى آخر العمر والأول" أي وجوب الأداء بملك النصاب موسعا إلى الحول "فيتضيق منتف ; لأنه" أي وجوب الأداء "بعد الحول على التراخي على ما اختاروه" كما أسلفناه "وكذا الثاني" أي وجوب الأداء بملك النصاب موسعا إلى آخر العمر منتف "لأن حاصله واجب موسع من حين الملك إلى آخر العمر فيضيع معنى اشتراط الحلول نعم يتم" كون الزكاة واجبة الأداء بملك النصاب موسعا إلى الحول "على" القول "المضيق" للوجوب "بالحول والمصرف" ثم قوله وما لا مبتدأ خبره "فيجب أن يعتبر فيه" أي في هذا "إقامة السبب مقام الوجوب شرعا في حق التعجيل" قبل حقيقة وجوب الأداء لإذن الشارع في ذلك "فلو لم يعجل لا يتحقق هذا الاعتبار" وهو أن السبب أقيم مقام الوجوب شرعا في حق التعجيل "أو" يعتبر فيه "أنه بالمبادرة المأذون فيها شرعا إلى سد خلة أخيه" الفقير "دفع عنه" أي المعجل "الطلب أن يتعلق" الطلب "به شرعا" وإنما قلنا ذلك; لأنه "ألزم ذلك الدليل وكذا في مستغرق الوقت يوما" أقيم السبب مقام وجوب الأداء في حقه ليظهر أثره في ثبوت مصلحة القضاء ومن هذا يؤخذ الجواب عما ذكره الشيخ أبو المعين ثم الشيخ أكمل الدين فليتأمل. "ولو أراد الحنفية هذا" أي أنه أقيم السبب مقام الوجوب شرعا في هذه المواضع "لم يفتقروا إلى اعتبار شيء يسمى بالوجوب ولا طلب فيه ولا تكلف كلام زائد ولا يستقيم ما ذكروا إلا على ذلك".
"مسألة: الأداء فعل الواجب في وقته المقيد به شرعا"
ثم أوضح الوقت المقيد به شرعا باتباعه بقوله "العمر وغيره" أي غير العمر ليشمل الواجب المطلق والمؤقت "وهو" أي فعل الواجب في وقته "تساهل" بالنسبة إلى المؤقت فإنه لا يشترط لكونه أداء وجود جميعه في الوقت بل ما أشار إليه بقوله "بل" الشرط "ابتداؤه" أي الفعل "في غير العمر كالتحريمة للحنفية" في غير صلاة الفجر فإن بإدراكها في الوقت يكون مدركا للصلاة أداء وإن كان ما سواها مفعولا خارجه على ما هو المشهور عندهم وهو مطلقا وجه للشافعية تبعا لما في الوقت "وركعة للشافعية" فإن بإدراكها في الوقت يكون مدركا للصلاة أداء وإن كان ما سواها مفعولا خارجه على ما هو أصح الأوجه عندهم كما ذكره النووي وغيره لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" متفق عليه. وإلا ففي المحيط الصلاة الواحدة يجوز أن يكون بعضها أداء وبعضها قضاء كمصلي العصر غربت الشمس عليه في خلال صلاته يتم الباقي قضاء لا أداء وسبقه إلى هذا الناطفي أيضا، وذكر أبو حامد من الشافعية أنه قول عامة الشافعية قيل وهو التحقيق اعتبارا لكل جزء بوفائه وعلى هذا فلا يكون في العبارة تساهل. "والإعادة فعل مثله" أي الواجب "فيه" أي في الوقت مرة أخرى "لخلل غير الفساد و" غير "عدم صحة الشروع" في نفس الواجب ففعل مثله شامل
(1/13)
 
 
ج / 2 ص -160- للقضاء والإعادة وفيه مخرج لفعل مثله بعده على ما عليه البعض وإلا فقول الميزان الإعادة في عرف الشرع إتيان مثل الفعل الأول على صفة الكمال بأن وجب على المكلف فعل موصوف بصفة الكمال فأداه على وجه النقصان وهو نقصان فاحش يجب عليه الإعادة وهي إتيان مثل الأول ذاتا مع صفة الكمال ا هـ يفيد أنه إذا فعل ثانيا في الوقت أو خارج الوقت يكون إعادة كما قال صاحب الكشف والباقي مخرج لما يفعل ثانيا لمفسد في الأول كترك ركن أو لعدم صحة شروع لفقد شرط مقدور من طهارة أو غيرها ; لأن لما فسد أو لم يصح الشروع فيه شرعا حكم العدم شرعا فيكون الاعتبار للثاني الجامع لموجب الاعتبار شرعا وهو أداء إن وقع في الوقت وقضاء إن وقع خارجه ولعله يريد بالخلل ما يؤثر نقصا في الصلاة يجب به سجود السهو كما يعطيه قوة كلام الميزان وحينئذ فهل تكون الإعادة واجبة فصرح غير واحد من شراح أصول فخر الإسلام بأنها ليست بواجبة وأن بالأول يخرج عن العهدة وإن كان على وجه الكراهة على الأصح وأن الفعل الثاني بمنزلة الجبر كالجبر بسجود السهو فلا يدخل في تقسيم الواجب إلى أداء وقضاء والأوجه الوجوب كما أشار إليه في الهداية وصرح به بعضهم كالشيخ حافظ الدين في شرح المنار وهو موافق لما عن السرخسي وأبي اليسر من ترك الاعتدال يلزمه الإعادة زاد أبو اليسر ويكون الفرض هو الثاني وعلى هذا يدخل في تقسيم الواجب وإنما الكلام في أنه لا يخرج عن أحدهما كما هو ظاهر الميزان أو عن الأداء كما صرح به القاضي عضد الدين. وذكر السبكي أنه مصطلح الأكثرين أو أنه قسم ثالث كما مشى عليه في الحاصل والمنهاج، ثم كما قال شيخنا المصنف لا إشكال في وجوب الإعادة إذ هو الحكم في كل صلاة أديت مع كراهة التحريم ويكون جابرا للأول ; لأن الفرض لا يتكرر وجعله الثاني يقتضي عدم سقوطه بالأول إذ هو لازم ترك الركن لا الواجب إلا أن يقال المراد أن ذلك امتنان من الله تعالى إذ يحتسب الكامل، وإن تأخر عن الفرض لما علم سبحانه أنه سيوقعه ا هـ. ومن هذا يظهر أن الإعادة قسم من الأداء أو القضاء أو غيرهما فإن قلنا الفرض هو الأول فهي غيرهما، وإن قلنا الثاني فهي أحدهما، ثم هذا كله على اصطلاح أصحابنا والمشهور عند الشافعية الذي جزم به الإمام الرازي وغيره ورجحه ابن الحاجب أنها فعل الشيء ثانيا في وقت الأداء لخلل في فعله أولا من فوات شرط أو ركن كما صرح به القاضي أبو بكر وغيره وعلى هذا الإخفاء في أن الحق أنها أداء وقيل لعذر أي لخلل في فعله أولا أو حصول فضيلة لم يكن في فعله أولا بناء على أن العذر أعم من الخلل وهو ما ينقطع به اللوم وعلى هذا قيل:
لعل به عذرا وأنت تلوم
فالصلاة المفعولة في وقت الأداء جماعة بعد فعلها على الانفراد من غير خلل إعادة على هذا لحصول فضيلة الجماعة دون الأول لانتفاء الخلل وعلى هذا فالإعادة أعم من الأداء.
(1/14)
 
 
ج / 2 ص -161- "والقضاء" تعريفه بناء "على أنه" واجب "بسببه" أي الأداء "فعله" أي الواجب "بعده" أي الوقت، ثم أشار إلى اعتراض على قول الحنفية القضاء يجب بسبب الأداء نفسه فالمقتضى هو نفس الواجب المقيد بالوقت إذا فعله بعد الوقت مع تعريفهم القضاء بأنه أداء مثل الواجب فقال "ففعل مثله" أي الواجب "بعده" أي الوقت "خارج" عن الأقسام الثلاثة الأداء والإعادة والقضاء ثم قال استطرادا "كفعل غير المقيد من السنن" بوقت "والمقيد" منها بوقت "كصلاة الكسوف" فإنها لا توصف بأحد هذه الأوصاف حقيقة عند بعضهم وإلا فقد نص القاضي أبو زيد في التقويم وفخر الإسلام في شرحه. على أن الأداء نوعان: واجب ونفل وتعريفه على هذا فعل ما طلب من العمل بعينه كما ذكر أبو زيد أو تسليم عين ما طلب شرعا كما ذكر شيخنا المصنف "ومن يحقق القضاء في غير الواجب" مثل سنة الفجر كما ذكر أصحابنا وغيرهم "يبدل الواجب بالعبادة" فيقول فعل العبادة بعد وقتها أو فعل مثل عين ما طلب شرعا كما أشار إليه شيخنا المصنف "فتسمية الحج" الصحيح "بعد" الحج "الفاسد قضاء" كما وقع في عبارة مشايخنا وغيرهم "مجاز"; لأنه في وقته وهو العمر فهو أداء على قول مشايخنا وإعادة على تعريفها المذكور للشافعية "وتضييقه" أي وقت الحج "بالشروع" فلا يجوز له الخروج منه وتأخيره إلى عام آخر كما ذكر الإسنوي وغيره "لا يوجبه" أي كونه قضاء بعد الإفساد لفوات وقت الإحرام به كما زعموا "كالصلاة في الوقت" ثانيا "بعد إفسادها والتزام بعض الشافعية" أي القاضي حسين والمتولي والروياني "أنها" أي الصلاة المذكورة "قضاء"; لأنه يتضيق عليه وقتها بدخوله ففات وقت إحرامه بها "بعيد إذ لا ينوي" القضاء بها اتفاقا ولو كانت قضاء لوجبت نيته. قلت وقول السبكي لا يلزم من كونها قضاء وجوب نية القضاء ; لأنا لا نشرط نية القضاء في القضاء ولا نية الأداء في الأداء عجب منه فإنه يعد أن هذا قول الأكثرين فمرادهم كما في الروضة الصحة لمن نوى جاهل الوقت لغيم أو نحوه أو ظانا خروج الوقت أو بقاءه، ثم تبين الأمر بخلاف ظنه، أما العالم بالحال فلا تنعقد صلاته قطعا نقله في شرح المهذب عن تصريحهم ومن ثمة قيل ; لأن نية القضاء مبطلة للمؤدي بعد الإفساد فلا يمكن نيته، ثم التضييق بالشروع بفعله لا بأمر الشرع والنظر في الأداء والقضاء إلى أمر الشرع "وبعضهم" أي الشافعية قال هي "إعادة" وهو متجه على تعريفها لهم كما تقدم. "واستبعاد قول القاضي" أبي بكر من ابن الحاجب وغيره "فيمن" أدرك وقت الفعل، ثم "أخر" الفعل "عن جزء" منه "مع ظن موته قبله" أي الفعل "حتى أثم" بالتأخير "اتفاقا" حيث قال القاضي "إنه" أي فعله بعد ذلك الوقت في وقته المقدر له شرعا أولا "قضاء" خلافا للجمهور في كونه أداء "إن أراد" به أنه يجب فيه "نية القضاء" بناء على أن ذلك الظن كما صار سببا لتعين ذلك الوقت جزءا صار سببا أيضا لخروج ما بعده عن كونه مقدرا أولا بالكلية ثابت وهو خبر استبعاد لم يذكره للعلم به وإنما كان كذلك ; لأنه لم يقل أحد بوجوب نية القضاء وخروج ما بعده عن كونه مقدرا له أولا في نفس الأمر فإن تعين ذلك الجزء إنما يظهر في حق العصيان ولا يلزم اعتباره في خروج ما بعده عن كونه وقتا عند ظهور فساد الظن المقتضي لتعينه "وإلا" لو لم يرد
(1/15)
 
 
ج / 2 ص -162- هذا "فلفظي"؛ لأن القاضي يوافق الجمهور في أنه فعل واقع في وقت كان مقدرا له شرعا أولا وهم يوافقونه في كونه واقعا خارج ما صار وقتا له بحسب ظنه فلا منازعة في المعنى "وتعريفه" أي القضاء "بفعل مثله" أي الواجب كما ذكر الحنفية "إنما يتجه على أنه" أي القضاء "بآخر" أي بسبب غير سبب الأداء. "واختلف فيه" أي القضاء "بمثل معقول" أي مدرك للعقل مماثلته للفائت كالصلاة للصلاة والصوم للصوم هل يجب بما يجب به الأداء أو بأمر آخر "فأكثر الأصوليين" منهم أصحابنا العراقيون وصاحب الميزان وعامة الشافعية والمعتزلة يجب "بأمر آخر والمختار للحنفية" كالقاضي أبي زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام ومتابعيهم يجب "به" أي بما يجب به الأداء وبه قال بعض الشافعية والحنابلة وعامة أهل الحديث، وإنما قيد المثل بالمعقول؛ لأنه بمثل غير معقول أي غير مدرك للعقل مماثلته للفائت لعجزه لا أن العقل ينفيه ويحكم بعدم مماثلته؛ لأن العقل حجة من حجج الله وهي لا تتناقض كالفدية للصوم لا يجب إلا بدليل آخر بالاتفاق "للأكثر القطع بعدم اقتضاء صم يوم الخميس صم الجمعة وإلا" لو اقتضاه "كانا" أي صوم يوم الخميس وصوم يوم الجمعة "سواء" في كونهما أداء بمنزلة صم إما يوم الجمعة وإما يوم الخميس فلا يعصي بالتأخير "والجواب مقتضاه أمران التزام الصوم وكونه" أي الصوم "فيه" أي يوم الخميس. "فإذا عجز عن الثاني" وهو كونه فيه الذي به كمال المأمور به "لفواته بقي اقتضاؤه الصوم لا في" خصوص "الجمعة ولا غيرها، وإنما يلزم ما ذكر" من المساواة "لو اقتضاه" أي صم يوم الخميس الصوم "في معين" غيره كيوم الجمعة وليس كذلك "نعم لو اقتضى فواته" أي الأداء "ظهور بطلان مصلحة الواجب ومفسدته" بالنصب عطف على ظهور وبالجر عطف على بطلان "سقط" الواجب بالكلية "للمعارض الراجح" وهو ظهور بطلان مصلحته ومفسدته "وهو" أي اقتضاء فواته ذلك "بعيد إذ عقلية حسن الصلاة ومصلحتها بعد الوقت كقبله" أي الوقت؛ لأن المقصود بها تعظيم الله تعالى ومخالفة الهوى وذلك لا يختلف باختلاف الأوقات. وإنما امتنع التقديم على الوقت لامتناع تقديم الحكم على السبب "وغاية تقييده" أي الواجب "به" أي بالوقت "لزيادة المصلحة فيه" أي في الوقت لشرفه "وقولهم" أي القائلين بأنه غير واجب بما وجب به الأداء "لو لم يكن" الوقت "قيدا فيه" أي في فعل الواجب "داخلا في المأمور به جاز تقديمه" أي المأمور به على الوقت المقيد به "مندفع بأن الكلام في الواجب ولا واجب قبل التعلق" بالوقت فصوم يوم الخميس غير واجب قبل تعلقه به فلا يتقدم عليه وقد اندرج في هذا دليل المختار "ثم قيل ثمرته" أي الخلاف "في الصيام المنذور المعين" إذا فات وقته "يجب قضاؤه على الثاني" أي القول بأنه يجب بما يجب به الأداء وسنذكر ما فيه "ولا" يجب "على الأول" أي القول بأنه يجب بأمر آخر لعدم ورود دليل مقصود فيه. قال صاحب الكشف والتحقيق: وهذا هو الذي يشير إليه كلام فخر الإسلام وصاحب المنتخب "وقيل القضاء" فيه "اتفاق" ذكره أبو اليسر "فلا ثمرة" لهذا الخلاف وفيه بحث فات في الكشف والتحقيق وغيرهما إلا أنه على القول الأول بسبب آخر مقصود غير النذر وهو التفويت; لأنه بمنزلة نص مقصود حتى كأنه إذا فوت
(1/16)
 
 
ج / 2 ص -163- فقد التزم المنذور ثانيا أو قضاء المنذور قصدا وعلى القول الثاني بالنذر فإن لم يكن الفوات عند الأولين وهو عدم الفعل لعذر كمرض أو جنون أو إغماء كالتفويت وهو عدم الفعل من غير عذر كما هو ظاهر التعليل فلا يجب القضاء على من فاته الأداء لعذر لعدم النص المقصود صريحا أو دلالة في حقه فلا يكون القضاء مطلقا اتفاقا وحينئذ يظهر ثمرة الاختلاف في بعض الأحكام، وفي التخريج، وإن كان الفوات عندهم كالتفويت كما ذكر شمس الأئمة ولعله الأشبه فلا يظهر ثمرة الاختلاف في الأحكام، وإنما يظهر في التخريج لا غير، والله سبحانه أعلم.
"ويطالبون" أي القائلون بأنه يجب بالأمر الجديد "بالأمر الجديد" في هذه الصورة والإتيان به فيها متعذر فيما يظهر، ثم هذا على ما في الميزان قال صاحب الكشف وهكذا في عامة نسخ أصول الفقه ونحوه ما في أصول فخر الإسلام واختلف المشايخ في القضاء أيجب بنص مقصود أم يجب بالسبب الذي يوجب الأداء فعليه أنهم يطالبون بالنص المقصود "ولو قيل" بدل بأمر جديد "بسبب" آخر أو بدليل آخر غير الأمر الذي به وجب الأداء كما هو عبارة السرخسي وأبي اليسر وهو أولى "شمل القياس فيمكن" أن يجيبوا بأن الدليل الآخر هو القياس "على الصلاة" المفروضة في الصلاة المنذورة فقد قدمنا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها" وعلى الصوم المفروض في الصوم المنذور فقد قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] اعتبارا لما هو واجب بإيجاب العبد بما هو واجب بإيجاب الله تعالى ابتداء. وأما ما قيل القياس مظهر لا مثبت فيكون بقاء وجوب المنذور ثابتا بالنص الوارد في بقاء الصوم والصلاة فيكون الوجوب في الكل بالسبب السابق ففيه تأمل فليتأمل.
"ونوقض" المختار "بنذر اعتكاف رمضان إذا لم يعتكفه" أي رمضان حيث "يجب" في ظاهر الرواية قضاؤه "بصوم جديد ولم يوجبه" أي نذر اعتكافه صومه لوجوبه بدون النذر "فكان" القضاء "بغيره" أي غير ما هو موجب للأداء "ويبطل" النذر "كأبي يوسف والحسن" ابن زياد؛ لأنه لا يمكن إيجاب القضاء بلا صوم؛ لأنه لا اعتكاف إلا بالصوم، ولا إيجابه بالصوم؛ لأنه يزيد على ما التزمه "أجيب بأنه" أي نذر الاعتكاف "موجب" للصوم؛ لأنه شرط صحة الاعتكاف وشرط الشيء تابع له فيجب لوجوبه إلا أنه "امتنع" إيجابه له "في خصوص ذلك" أي إضافته إلى رمضان بعارض شرف الوقت وحصول المقصود بصوم الشهر؛ لأن الشرط من حيث هو شرط يعتبر وجوده تبعا لا قصدا "فعند عدمه" أي المانع وهو رمضان "ظهر أثره" أي نذر الاعتكاف في إيجاب الصوم كمتطهر نذر صلاة ركعتين فإنه يصليهما بتلك الطهارة وإذا انتقضت لزمته لأدائهما بذلك النذر لا بسبب آخر "ولزم أن لا يقضي في رمضان آخر ولا واجب" آخر؛ لأن الصوم، وإن كان شرطا لكنه مما يلزم بالنذر لكونه عبادة مقصودة في نفسه فإذا ظهر أثر النذر في إيجابه لا يتأدى بعد بواجب آخر كما لو نذره مطلقا أو مضافا إلى غير
(1/17)
 
 
ج / 2 ص -164- رمضان "سوى قضاء" الرمضان "الأول" فإنه يجوز فيه "للخلفية" أي لخلفية صوم الشهر المقضى عن صوم شهر رمضان إذ امتناع وجوب الصوم في هذا الاعتكاف كما جاز أن يكون لشرف الوقت وقد زال جاز أن يكون لاتصاله بصوم الشهر وهو باق لبقاء الخلف فيجوز لبقاء إحدى العلتين ونظر فيه صاحب الكشف وغيره بأن الاتصال بالقضاء غير الاتصال بالأداء لكونهما غيرين ولئن سلم أن الاتصال علة فهو باعتبار شرف الوقت وقد فات ومنع بأن العلة الاتصال بصوم الشهر مطلقا وهو موجود.
"تذنيب" لهذا البحث المتعلق بالأداء والقضاء يشتمل على أقسام لهما باعتبارات مختلفة:
"قسم الحنفية الأداء معممين" التقسيم له "في المعاملات" كما في العبادات "إلى كامل" وهو المستجمع لجميع الأوصاف المشروعة "كالصلاة" المشروع فيها الجماعة مثل المكتوبة والعيد والوتر في رمضان والتراويح "بجماعة" وإلا فهي صفة قصور كالإصبع الزائد "وقاصر" وهو ما ليس بمستجمع لجميع الأوصاف المشروعة فيه "كالصلاة" المكتوبة إذا صلاها "منفردا" وكيف لا، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"، وفي رواية "بخمس وعشرين ضعفا"، ولا منافاة فإن القليل لا ينفي الكثير أو أخبر أولا بالقليل، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل. "وما" أي وأداء "في معنى القضاء كفعل اللاحق" وهو من فاته بعدما دخل مع الإمام بعض صلاة الإمام لنوم أو سبق حدث فما فاته من صلاة الإمام "بعد فراغ الإمام" فهو أداء باعتبار كونه في الوقت قضاء باعتبار فواته مع الإمام بفراغه إذ هو مثل ما انعقد له إحرام الإمام من المتابعة له والمشاركة معه لا عينه لعدم كونه خلف الإمام حقيقة إلا أنه لما كانت العزيمة في حقه الأداء مع الإمام مقيدا به وقد فاته ذلك تعذر جعل الشارع ذلك أداء في هذه الحالة كالأداء مع الإمام فصار كأنه خلف الإمام فصح اجتماعهما في فعل واحد مع تنافيهما لاختلاف الجهة، ثم لما كان أداء باعتبار الأصل قضاء باعتبار الوصف جعل أداء شبيها بالقضاء لا قضاء شبيها بالأداء "ولذا" أي كونه في معنى القضاء "لا يقرأ فيه ولا يسجد لسهوه ولا يتغير فرضه" من الثنائية إلى الرباعية لو كان مسافرا "بنية الإقامة" فيه في موضع صالح لها والوقت باق لأن القضاء لا يتغير بالمغير؛ لأنه مبني على الأصل وهو لم يتغير بها لانقضائه والخلف لا يفارق الأصل في الحكم فكذا ما في معنى القضاء خلافا لزفر في هذا. ثم هو كالمقتدي حكما والمقتدي لا يقرأ خلف الإمام ولا يسجد لسهو نفسه فكذا ما هو مثله حكما بخلاف فعله قبل فراغ الإمام فإنه إذا وجد المغير فيه والوقت باق يصير فرضه به أربعا لانتقاء شبه القضاء فيه وقبول صلاة الإمام للتغير بالمتغير فكذا التبع؛ لأنه لا يفارق الأصل في حكمه هذا كله في حق الله تعالى "وفي حقوق العباد رد عين المغصوب سالما" أي على الوجه الذي غصبه أداء كامل لكونه على الوجه الذي وجب "ورده مشغولا بجناية" في يده يستحق بها رقبته أو طرفه أو بدين باستهلاكه مال إنسان
(1/18)
 
 
ج / 2 ص -165- في يده أداء قاصر لكونه ردا لا على الوجه الذي وجب ولأصل الأداء لو هلك في يد المالك قبل الدفع أو البيع في الدين برئ الغاصب ولقصوره إذا دفع أو قتل بذلك السبب أو بيع في ذلك الدين رجع المالك على الغاصب بالقيمة كأن الرد لم يوجد "وتسليم عبد غيره المسمى مهرا بعد شرائه" لزوجته التي سماه لها أداء يشبه القضاء فكونه أداء؛ لأنه عين ما وجب عليه بالتسمية "فتجبر" الزوجة "عليه" أي قبوله كما لو كان في ملكه عند العقد ولا يملك الزوج منعها منه. "ويشبه القضاء؛ لأنه بعد الشراء ملكه حتى نفذ عتقه" وبيعه وغيرهما من التصرفات فيه "منه" أي الزوج "لا منها" أي الزوجة؛ لأن تبدل الملك بمنزلة تبدل العين شرعا لما في صحيح مسلم عن عائشة وأهدي لبريرة لحم فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال: "ألم أر برمة على النار فيها لحم" فقالوا: بلى يا رسول الله لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه فقال: "هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية". ورواه البخاري مختصرا فكانت هذه التصرفات مصادفة محلها فينفذ "و" قسموا "القضاء إلى ما" أي قضاء "بمثل معقول وغير معقول كالصوم للصوم والفدية له" أي للصوم وهي الصدقة بنصف صاع بر أو صاع من شعير أو تمر بدلا منه عند العجز المستدام عنه فالأول مثال المعقول والثاني مثال غير المعقول كما تقدم وكلاهما ظاهر "وما" أي وإلى قضاء "يشبه الأداء كقضاء تكبيرات العيد في الركوع" عند أبي حنيفة ومحمد إذا أدرك الإمام فيه وخاف أن يرفع رأسه منه لو اشتغل بها يكبر للافتتاح ثم للركوع، ثم أتى فيه بها "خلافا لأبي يوسف" حيث قال لا يأتي بها فيه، وفي التقريب وروى هلال الرأي عن يوسف السمتي عن أبي حنيفة مثله لفواتها عن محلها وهو القيام وعدم قدرته على مثل من عنده قربة في الركوع كما لو نسي الفاتحة أو السورة أو القنوت، ثم ركع، ووجه ظاهر الرواية أن الركوع لما أشبه القيام حقيقة من حيث بقاء الانتصاب والاستواء في النصف الأسفل من البدن وبه فارق القيام القعود؛ لأن استواء عاليه موجود فيهما وحكما. لأن المدرك المشارك للإمام في الركوع مدرك لتلك الركعة لم يتحقق الفوات لبقاء محل الأداء من وجه وقد شرع ما هو من جنسها وهو تكبيرة الركوع فيما له شبه القيام فإن الأصح أن الإتيان بها في حالة الانحطاط وهي محتسبة في الركعة الثانية من صلاة العيد من تكبيراتها والتكبير عبادة وهي تثبت بالشبهة كان الاحتياط في فعلها لبقاء جهة الأداء لا ببقاء المحل من وجه لا باعتبار جهة القضاء بخلاف القراءة والقنوت فإن كلا غير مشروع فيما له شبه القيام بوجه ثم لا يرفع يديه فيها؛ لأنه ووضع الكف على الركبة سنتان إلا أن الرفع فات هنا عن محله في الجملة والوضع لم يفت فكان أولى، هذا في حق الله تعالى "وفي حقوق العباد ضمان المغصوب" المثلي من مكيل أو موزون أو معدود متقارب "بالمثل صورة" فيتبعها المعنى ضرورة كالحنطة بالحنطة والزيت بالزيت والبيضة بالبيضة قضاء كامل مثل بمثل معقول. "ثم" ضمانه بالمثل "معني بالقيمة للعجز" عن المثل صورة ومعنى لانقطاعه بأن لا يوجد في الأسواق وضمان القيمي كالحيوان والعددي المتقارب كالبطيخ والرمان بالقيمة للعجز عن القضاء بالمثل صورة قضاء قاصر بمثل معقول، أما
(1/19)
 
 
ج / 2 ص -166- كونه قضاء فظاهر وأما كونه قاصرا فلانتقاء الصورة. وأما كونه بمثل معقول فللمساواة في المالية "وبغير معقول" أي والقضاء بمثل قاصر غير معقول "ضمان النفس والأطراف بالمال في" القتل والقطع "الخطأ" إذ لا مماثلة صورة بين النفس أو الطرف والمال وهو ظاهر ولا معنى؛ لأن الآدمي مالك مبتذل والمال مملوك مبتذل وللقصور لم يشرع إلا عند تعذر المثل الكامل المعقول وهو القصاص مراعاة لصيانة نفس المقتول أو للطرف عن الهدر وللتخفيف عن كل من القاتل والجاني لعدم قصده إلى غير ذلك مما يأتي قريبا. "وإعطاء قيمة عبد سماه مهرا بغير عينه" قضاء يشبه الأداء "حتى أجبرت" الزوجة "عليها" أي على قيمة عبد وسط أي قبولها إياها إذا أتاها بها كما تجبر على قبول عبد وسط إذا أتاها به لكونه عين الواجب "وإن كانت" القيمة "قضاء لشبهه" أي هذا القضاء "بالأداء لمزاحمتها" أي القيمة "المسمى إذ لا يعرف" هذا المسمى لجهالته وصفا "إلا بها" أي بالقيمة إذ لا يمكن تعيينه بدونها ولا تتعين إلا بالتقويم فصارت القيمة أصلا من هذا الوجه مزاحما للمسمى فأيهما أتى به يجبر على القبول بخلاف المعين فإنه معلوم بدون التقويم فكانت قيمته قضاء محضا فلم يجبر عليها عند القدرة عليه.
"وفيه" أي هذا الحكم لهذه المسألة نظرا إلى تعليلها المذكور. "نظر" ولعله أما ما قيل فينبغي على هذا أن تتعين القيمة ولا يخير الزوج بينها وبين العبد وقد أجيب بأن العبد معلوم الجنس وبالنظر إليه يجب هو كما لو أمهر عبدا بعينه مجهول الوصف وبالنظر إليه تجب القيمة كما لو أمهر عبد غيره فصار الواجب كأنه أحد الشيئين فيتخير إذ التسليم عليه لا على المرأة فبأي أتاها يجبر على قبوله وإما ما قيل فعلى هذا يصير كأنه تزوجها على عبد أو قيمته وذا يوجب فساد التسمية ويوجب مهر المثل كما قال الشافعي وقد أجيب بأن التسمية إنما فسدت في هذه؛ لأن القيمة تصير واجبة بها ابتداء وهي مجهولة لاختلافها باختلاف المقومين فصار كأنه قال علي عبد أو دراهم بخلاف مسألتنا فإن العبد الوسط يجب بالعقد وصحت التسمية والقيمة اعتبرت بناء على وجوب تسليم المسمى إذ لا يمكن تسليمه إلا بمعرفتها لا أنها تجب بالعقد؛ لأنه ما سماها كما لو تزوجها على عبد معين فاستحق أو هلك تجب القيمة مهرا أو يتنصف بالطلاق قبل الدخول؛ لأنها وجبت بناء على مسمى معلوم لا ابتداء فكذا هذا كذا في الأسرار ولعل هذا الاحتمال هو الأظهر في كونه المراد ولا يخفى ما في جوابه على المتأمل النقاد.
"وعن سبق المماثل صورة" ومعنى على المماثل معنى لا غير في الاعتبار "قال أبو حنيفة فيمن قطع" يد إنسان عمدا "ثم قتل" القاطع المقطوع أيضا "عمدا قبل البرء" للقطع "للولي كذلك" أي أن يقطع يده ثم يقتله كما له أن يقتله من غير قطع؛ لأن القطع مع القتل مثل كامل لفعله صورة وهو ظاهر ومعنى وهو إزهاق الروح بخلاف القتل بلا قطع فإنه مثل قاصر لمساواته معنى لا صورة والمثل الكامل سابق عليه فله استيفاؤه وله الاقتصار على القاصر؛
(1/20)
 
 
ج / 2 ص -167- لأنه حقه كما له العفو لكن قيل هذا يقتضي أن هذا القصاص لو كان بين صغير وكبير هو وليه أن لا يتمكن الكبير من الاقتصار على القتل عنده؛ لأن حق الصغير في الكامل وهو ممكن "خلافا لهما" فإنهما قالا ليس له سوى القتل "بناء على أنها" أي هذه الأفعال جناية "واحدة" معنى عندهما وهي القتل. "لأن بالقتل ظهر أنه" أي الجاني "قصده" أي القتل "بالقطع" فصار كما لو قتله بضربات "وجنايتان عنده" أي أبي حنيفة "وما ذكرا" من أن بالقتل ظهر أنه قصده "ليس بلازم"؛ لأن القتل كما يحتمل أن يكون ماحيا لأثره؛ لأن المحل يفوت به فلا تتصور السراية بعد فواته وهو علة صالحة لإزهاق الروح قطعا فوق القطع فيضاف الحكم إليه ابتداء لتيقنه لا للقطع لعدم القطع بالسراية بخلاف ما لو تخلل البرء بينهما فإن الاتفاق على أن له أن يقطع ويقتل؛ لأن الأولى قد انتهت واستقر حكمها بالبراءة، ثم للمسألة أحكام أخرى بحسب اختلاف وجوهها تعرف في الكتب الفقهية "وعنه" أي سبق المماثل صورة ومعنى على القاصر في الاعتبار أيضا "قال" أبو حنيفة "لا يضمن" الغاصب المغصوب "المثلي بالقيمة إذا انقطع المثل" من أيدي الناس "إلا يوم الخصومة" والقضاء بها "لأن التضييق" لوجوب أدائه المثل الكامل الواجب في ذمته "بالقضاء" به عليه "فعنده" أي القضاء به عليه "يتحقق العجز" عنه فيتحول إلى القاصر. "بخلاف" المغصوب "القيمي" حيث تجب قيمته يوم الغصب اتفاقا "لأن وجوب قيمته بأصل السبب" الذي هو الغصب "فيعتبر" الوجوب "يوم الغصب ولأبي يوسف" في أنه تجب قيمة المثلي "يوم الغصب" أيضا أن يقال "لأنه لما التحق" المثلي "بما لا مثل له بالانقطاع وجب الخلف" وهو القيمة "ووجوبه" أي الخلف "بسبب الأصل" أي المثل صورة ومعنى "وهو" أي السبب "الغصب ومحمد" قال "القيمة للعجز" عن المثل صورة ومعنى "وهو" أي العجز "بالانقطاع فيعتبر يومه" أي الانقطاع ونص في التحفة على أن الصحيح قول أبي حنيفة.
"واتفقوا" أي أصحابنا "أن بإتلاف المنافع" للأعيان كاستخدام العبد وركوب الدابة وسكنى الدار "لا ضمان لعدم المثل القاصر"؛ لأن المنفعة لا تماثل العين صورة وهو ظاهر ولا معنى؛ لأن العين مال متقوم والمنفعة لا؛ لأن المال ما يصان ويدخر لوقت الحاجة والمنافع لا تبقى بل كما توجد تتلاشى والتقوم الذي هو شرط الضمان لا يثبت بدون الوجود. لأن التقوم لا يسبق الوجود إذ المعدوم لا يوصف بأنه متقوم؛ لأنه ليس بشيء وبعد الوجود لا يحرز لعدم البقاء فلا يتقوم؛ لأن التقوم لا يسبق الإحراز "والاتفاق" واقع "على نفي القضاء بالكامل" أي على أن المنافع لا تضمن بمثلها من المنافع "لو وقع" ذلك فيها "كالحجر على كميات متساوية" أي الحجر على تقطيع واحد بأجرة واحدة لا يضمن منفعة إحداها بالأخرى مع وجود المشابهة صورة ومعنى فلأن لا يضمن بالأعيان مع أن لا مماثلة بينهما صورة ومعنى أولى.
ولما ذهب الشافعي إلى ضمانها بناء على أنها مال متقوم كالعين بدليل ورود العقد عليها؛
(1/21)
 
 
ج / 2 ص -168- لأن غير المال لا يرد العقد عليه كالميتة والدم وأشار إلى دفعه بقوله "ورود العقد عليها لتحقق الحاجة" أي ثبت تقومها في العقد لقيام العين مقامها لضرورة حاجة الناس فإن حاجتهم ماسة إلى شرعية عقد الإجارة ولا بد له من محل يضاف إليه فجعلت محرزة حكما على خلاف القياس بأن أقيم العين مقامها وأضيف العقد إليه. ومن ثمة لا يجوز إضافته إلى المنافع حتى لو قال آجرتك منافع هذه الدار شهرا لا يصح وليس مثل هذه الضرورة في ضمان العدوان فيبقى على الحقيقة فإن قيل الحاجة ماسة إلى ضمانها هنا أيضا؛ لأن في القول بعدم وجوب الضمان انفتاح باب الظلم وإبطال حق الملاك بالكلية أجيب بالمنع فإن الحاجة فيما يكثر وجوده لا فيما يندر والعدوان مما يندر فإنه منهي عنه وسبيله عدم الوجود "ولم ينحصر دفعها" أي حاجة دفع العدوان "في التضمين بل الضرب والحبس أدفع" للعدوان من التضمين ونحن أوجبناهما أو أحدهما على المتعدي تعزيرا له على عدوانه على أن ضمان المنافع بالعقد لو كان على وفق القياس لا يصح قياس العدوان عليه للفرق المؤثر بينهما فإن ضمان العقد إنما وجب بالتراضي وللرضا أثر في إيجاب أصل المال بمقابلة ما ليس بمال كما في الخلع والصلح عن دم العمد، وفي إيجاب الفضل أيضا. كما لو باع شيئا بأضعاف قيمته فإنه يصح ويجب على المشتري الفضل على القيمة لرضاه به وضمان العدوان يبنى على أوصاف العين من الجودة والرداءة بجبر القاضي لا على التراضي فانتفى الجامع بينهما ولا يبطل حق المالك بل يتأخر إلى الدار الآخرة هذا، وفي المجتبى وأصحابنا المتأخرون يفتون بقول الشافعي في المسبلات والأوقاف وأموال اليتامى ويوجبون أجر منافعها على الغصبة، وفي الفتاوى الكبرى وغيرها منافع العقار الموقوفة مضمونة سواء كان معدا للاستغلال أو لا نظرا للوقف، وفي جامع الفتاوى نقلا عن المحيط الصحيح لزوم الأجران معدا للاستغلال بكل حال وحكى بعضهم الإجماع على ضمان المنافع بالغصب والإتلاف إذا كان العين معدا للاستغلال بل وسيذكر المصنف في ذيل الكلام على العلة من مباحث القياس أنه ينبغي الفتوى بضمان المنافع مطلقا لو غلب غصبها وهو حسن كما نذكره ثمة إن شاء الله تعالى، والله سبحانه أعلم.
"ولا" يضمن "القصاص بقتل المستحق عليه" القصاص بقصاص ولا دية. "ولا" يضمن أيضا "ملك النكاح بشهادة الطلاق بعد الدخول إذا رجعوا" أي الشهود بالطلاق بشيء "خلافا للشافعي فيهما" أي في هاتين المسألتين فإن عن الشافعي أن القاتل للقاتل يضمن الدية؛ لأن القصاص ملك متقوم للولي ألا يرى أن القاتل إذا صالح في مرضه على الدية يعتبر من جميع المال وقد أتلف عليه ذلك بقتله فيضمن وأن الشهود يضمنون للزوج مهر المثل؛ لأن ملك النكاح متقوم على الزوج فيكون متقوما عليه زوالا؛ لأن الزائل عين الثابت بل أولى؛ لأن ملك اليمين يجوز اكتسابه بلا بدل بخلاف ملك النكاح فإنه لا ينفك عن مهر، وإنما قلنا نحن لا يضمن القصاص بالدية وملك النكاح بعد الدخول بالمهر "لأن الدية ومهر المثل لا يماثلانهما" أي القصاص وملك النكاح صورة ولا معنى، أما صورة فظاهر وأما معنى فلأن المقصود من
(1/22)
 
 
ج / 2 ص -169- القصاص الانتقام والتشفي بإعدام الحياة للإحياء ومن ملك النكاح السكن والازدواج وإبقاء النسل فلم يكونا مالا متقوما. "والتقوم" بالمال في باب القتل وملك النكاح "شرعي للزجر" كما في قتل الأب ابنه عمدا "أو لجبر" كما في القتل الخطأ "وللخطر" أي لشرف المحل فيهما أيضا صيانة للدم عن الهدر ولشرف بضع المرأة في ملك النكاح حالة ثبوته تعظيما له ليكون مصونا عن الابتذال بتملكه مجانا فإن له خطرا كالنفوس لكون النسل حاصلا منه ولذا لا يملك إلا بمهر وشهود وولي في بعض أو مطلقا على الاختلاف فيه والمملوك مجانا مبتذل "لا للتقوم المالي" للقتل وملك النكاح ولما كان التزام القاتل الدية في الصلح بمقابلة ما هو من أصول حوائجه وهو إبقاء نفسه وحاجته مقدمة على حق الوارث اعتبر من جميع المال على أن في تهذيب البغوي القاتل لا يضمن الدية كمذهبنا، والملك الوارد على البضع ليس بذي خطر ولذا صحت إزالته بالطلاق بغير شهود ولا ولي ولا عوض فعند زوال استيلائه لا يحتاج إلى التقويم وقيد بالطلاق بعد الدخول؛ لأن قبله إذا رجعوا يضمنون نصف المهر بالاتفاق؛ لأن المسمى لا يستحق عليه عند سقوط تسليم البضع إليه بالفرقة قبل الدخول لا بصنع منه ولا بانتهاء النكاح فلما أوجب الشهود عليه نصفه بإضافة الفرقة إليه مع فوات تسليم البضع، ثم رجعوا كان قصرا ليده عن ذلك المقدار أي ظهر بالرجوع أنهم أخذوا باطلا ودفعوه إليه فيضمنونه له، والله سبحانه أعلم.
"القسم الثاني" من أقسام الوقت المقيد به الواجب "كون الوقت" أي ما يكون الوقت1 فيه "سببا للوجوب مساويا للواجب وكل موقت فالوقت شرط أدائه"؛ لأنه لا يتحقق بدونه وهو غير جزء منه ولا مؤثر في وجوده "ويسمونه" أي الحنفية هذا الوقت "معيارا" لتقدير الواجب به حتى يزداد بزيادته وينقص بنقصه فهو يعلم به مقداره كما تعرف مقادير الأوزان بالمعيار "وهو رمضان عين شرعا لفرض الصوم فانتفى شرعية غيره من الصيام فيه فلم يشرطوا" أي الحنفية "نية التعيين" أي تعيين أنه الصوم الفرض في أدائه "فأصيب" صومه "بنية مباينه" أي مباين صومه "كالنذر والكفارة بناء على لغو الجهة" أي الوصف في نية المباين "فيبقى المطلق" الذي هو أصل نية الصوم "وبه" أي المطلق "يصاب" الصوم الفرض الرمضاني أداء "كالأخص" مثل "زيد يصاب بالأعم" مثل "إنسان والجمهور على نفيه" أي وقوعه عن رمضان بهذه النية "وهو" أي ونفي وقوعه عن رمضان بهذه النية "الحق؛ لأن نفي شرعية غيره" أي صوم رمضان. "إنما توجب نفي صحته" أي الغير "إذا نواه" أي الغير "ونفي صحة ما نواه من الغير لا يوجب وجود نية ما يصح وهو" أي الناوي "ينادي لم أرده" أي ما يصح إذ لم يتعلق له قصد بغير ذلك المعين "بل لو ثبت" وقوعه عن فرض رمضان بهذه النية "كان" وقوعه عنه "جبرا" وهو النافي للصحة؛ لأنه لا بد في أداء الفرض من الاختيار وليس إصابة الأخص
ـــــــــــــــــــ
1 الوقت كذا في النسخ ولعل المناسب الموقت كما لا يخفى. كتبه مصححه.
(1/23)
 
 
ج / 2 ص -170- بالأعم بمجرد إرادة مطلق الصوم بل كما قال "وإصابة الأخص بالأعم" إنما يكون "بإرادته" أي الأخص "به" أي الأعم "ونقول لو أراد نية صوم الفرض للصوم صح؛ لأنه أراده وارتفع الخلاف. وأما كون التعيين" أي تعيين الوقت الذي هو رمضان لصومه "يوجب الإصابة" لصومه "بلا نية كرواية عن زفر". وذكره النووي عن مجاهد وعطاء أيضا "فعجب"؛ لأن ذلك إنما يتم لو لم يكن الاختيار للصوم من المكلف شرطا لوجوده شرعا لكنه شرط له بالنص والإجماع ومن المعلوم أن تعين المحل شرعا ليس علة لاختيار المكلف فأنى يكون له وجود بدون نيته. وقد تداول كثير كالشيخ أبي بكر الرازي وأبي زيد والسرخسي وفخر الإسلام حكاية هذا عن زفر ولكن في التقريب والمبسوط قال أبو الحسن الكرخي من حكى هذا فقط غلط، وإنما قال زفر إنه يجوز بنية واحدة.
"واستثنى أبو حنيفة" من وقوع نية غير رمضان عن رمضان في رمضان "نية المسافر غيره" أي غير رمضان من واجب آخر من نذر أو كفارة أو قضاء فقال "تقع" نية ذلك الغير "عن الغير" باتفاق الروايات عنه ذكره في الأجناس "لإثبات الشارع الترخص له" أي المسافر بترك الصوم تخفيفا عليه للمشقة "وهو" أي الترخص "في الميل إلى الأخف" عنده من مشروع لوقت وغيره من الواجبات ومن الفطر "وهو" أي الأخف "صوم الواجب المغاير" لمشروع الوقت إذا اختاره بناء على أن إسقاطه من ذمته أهم عنده من إسقاط فرض الوقت؛ لأنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر لم يؤاخذ بفرض الوقت، ويؤاخذ بذلك الواجب وأن مصلحة الدين أهم من مصلحة البدن. "وعلى هذا" التوجيه "يقع" المنوي "بنية النفل عن رمضان" إذ لا ترخص بهذه النية؛ لأن الفائدة ليست إلا الثواب وهو في الفرض أكثر فكان هذا ميلا إلى الأثقل فيلغو وصف النفلية ويبقى مطلق الصوم فيقع عن فرض الوقت "وهو رواية" لابن سماعة "عنه" أي أبي حنيفة، وفي الكشف وغيره وهو الأصح، وفي الأجناس ولو صامه بنية التطوع حال سفره في رمضان في المجرد عن أبي حنيفة يكون عن صوم رمضان، وفي نوادر أبي يوسف رواية عن ابن سماعة يكون عن التطوع، وفي مختصر الكرخي وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يكون من التطوع "ولأن انتفاء غيره" أي غير فرض الوقت ليس حكم الوجوب فإن الوجوب موجود في الواجب الموسع بل هو "حكم التعيين" أي تعيين هذا الزمان لأداء الفرض. "ولا تعيين عليه" أي المسافر؛ لأنه مخير بين الأداء والتأخير فصار هذا الوقت في حقه "كشعبان فيصح نفله" وواجب آخر عليه كما يصحان في شعبان "وهو رواية" للحسن عن أبي حنيفة أيضا ذكره غير واحد "وهو" أي هذا التوجيه "مغلطة؛ لأن التعيين عليه" أي المكلف "ليس تعيين الوقت ليندرج" التعيين عليه "فيه" أي في تعيين الوقت "وينتفي" التعيين عليه "بانتفائه" أي الوقت "بل معناه" أي التعيين عليه "إلزامه" أي المكلف "صوم الوقت وعدمه" أي إلزامه صوم الوقت "يصدق بتجويز الفطر وتعيين الوقت أن لا يصح فيه" أي في الوقت "صوم آخر فجاز اجتماع عدم التعيين عليه بتجويز الفطر مع تعيين الوقت بأن لا يصح فيه" أي في الوقت "صوم غيره" أي غير فرض الوقت "لو صامه" أي لو نوى صيام غيره. "فلم
(1/24)
 
 
ج / 2 ص -171- يلزم من نفي التعيين عليه نفي تعيين الوقت وحقق في المريض تفصيل بين أن يضره" الصوم ككون مرضه حمى مطبقة أو وجع الرأس أو العين "فتعلق الرخصة" بترك صوم فرض الوقت في حقه "بخوف الزيادة" للمرض "فكالمسافر" أي فهذا المريض كالمسافر في تعلق الرخصة في حقه بعجز مقدر لا بحقيقة العجز وعلى هذا يحمل ما مشى عليه صاحب الهداية وأكثر مشايخ بخارى من أن المريض إذا نوى واجبا آخر أو النفل يقع عما نواه كما هو رواية الحسن عن أبي حنيفة "و" بين "أن لا" يضره الصوم "كفساد الهضم" والأمراض الرطوبية "فبحقيقتها" أي فتعلق الرخصة بحقيقة المشقة التي هي العجز "فيقع" ما نواه هذا المريض من الغير "عن فرض الوقت" إذا لم يهلك به؛ لأنه حينئذ يظهر أنه لم يكن عاجزا فلم يثبت له الترخيص فكان كالصحيح وعلى هذا يحمل ما ذهب إليه فخر الإسلام والسرخسي أنه يقع عن فرض الوقت بدليل قول السرخسي. وذكر الكرخي أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة وهذا سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق ويخاف منه ازدياد المرض ا هـ والقائم بهذا التحقيق صاحب الكشف.
قال العبد الضعيف غفر الله تعالى له وعند التحقيق يظهر أن هذا تحقيق يحصل به التوفيق بين ما ذهب إليه كل فريق فإن إجماع من يعتد بإجماعه على أن المرض المبيح للفطر المرض الذي يضر بسببه الصوم صاحبه على اختلاف فيه وأدناه الازدياد أو الامتداد وأعلاه الهلاك وأصحابنا قاطبة على أن الأول هو المناط فالمرض الذي لا يضر بسببه الصوم صاحبه غير مبيح لصاحبه الترخيص بالفطر إجماعا فلا يتفرع على صيام صاحبه بنية واجب آخر أو النفل التردد بين وقوعه عن رمضان أو عما نوى بل يتفرع عليه ما يتفرع على صيام الصحيح بهذه النية؛ لأن من به هذا المرض صحيح بالنسبة إلى الصوم والمرض الذي يضر بسببه الصوم صاحبه مبيح وهذا مما يمكن أن يتفرع على صيامه بنية واجب آخر أو النفل التردد بين وقوعه عن فرض الوقت أو عما نوى بناء على أن المناط عدم القدرة أصلا ولم يتحقق أو وجود اشتداد أو امتداد فيه وقد تحقق وتحمل صاحبه ذلك لغرض له فيه وقد عرفت أن الثاني هو المناط دون الأول. فما رواه الحسن حسن ومن ثمة مشى عليه كثير كخواهر زاده وصاحب الهداية وقاضي خان والولوالجي وأبي الفضل الكرماني وغيرهم نعم لا بأس بأن يؤول قول فخر الإسلام والسرخسي بأن المراد مريض في الجملة لا المريض الذي يباح له الفطر، والله سبحانه أعلم. ثم هذا كله على قول أبي حنيفة، وقالا يقع ما نواه المسافر والمريض من واجب أو نفل عن فرض رمضان كالصحيح المقيم وقد عرفت ما فيه فضلا عمن سواه ممن يباح له الفطر فلا حاجة إلى التطويل بتوجيهه ودفعه، والله تعالى أعلم.
"القسم الثالث" من أقسام الوقت المقيد به الواجب وقت هو "معيار لا سبب كالنذر المعين" أي نذر صوم معين أما كونه معيارا فظاهر. وأما أنه ليس بسبب فلأن السبب النذر
(1/25)
 
 
ج / 2 ص -172- "فإدراج" النذر "المطلق والكفارة والقضاء فيه" أي في هذا القسم كما فعل البزدوي والسرخسي وأسلفنا ذكره موجها "غير صحيح؛ لأن الأمر فيها مطلق لا مقيد بالوقت فلا يشترط نية التعيين" له في خروجه عن عهدة النذر "للتعيين شرعا" فيتأدى بمطلق النية ونية النفل إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة على ما في المحيط ولا يتأدى بنية واجب آخر بل يقع فيه عما نوى بلا خلاف بخلاف رمضان؛ لأن ولاية العبد قاصرة فله إبطال ماله وهو صلاحيته للنفل وليس له إبطال ما عليه وهو صلاحيته للواجبات ولله تعالى الولاية المطلقة الكاملة فله إبطال ما للعبد وما عليه فأبطل صلاحيته لغير فرض رمضان نفلا وواجبا وأورد عليه أن التعيين في النذر المعين بإذن صاحب الحق وهو الشارع لإذنه تعالى له بإلزامه على نفسه فينبغي أن يجوز تعديه إلى حقه تعالى أيضا. وأجيب بأنه أذن للعبد في أن يتصرف في حق نفسه لا غير وأورد إذا لم يتعد إلى حق الشارع بقي محتملا لصوم القضاء والكفارة فينبغي أن يشترط التعيين فلا يتأدى بمطلق النية كالظهر عند ضيق الوقت أجيب بأن صوم القضاء والكفارة من محتملات الوقت وأصل المشروع فيه النفل الذي صار واجبا بالنذر وهو واحد فينصرف المطلق إليه وكذا نية النفل بخلاف الظهر المضيق فإن تعين الوقت يعارض التقصير في تأخير الأداء فلا يتعين الوقت بعده له بعدما كان غير متعين له.
قلت ويتمشى البحث السابق للمصنف في أداء رمضان بمطلق النية ونية النفل في أداء هذا بهما أيضا فليتأمل.
"بخلاف ما أدرجوه" من النذر المطلق والكفارة والقضاء فإنه لا بد فيه من التعيين ليلا حتى مطلع الفجر لعدم تعين الزمان لها.
"القسم الرابع" من أقسام الوقت المقيد به الواجب وقت "ذو شبهين بالمعيار والظرف" وهو "وقت الحج لا يسع في عام سوى" حج "واحد" فمن هذه الحيثية يشبه المعيار كالنهار للصوم "ولا يستغرق فعله" أي الحج "وقته" أي جميع أجزاء وقته كما يستغرق الصوم النهار ومن هذه الحيثية يشبه الظرف "والخلاف في تعيينه" أي وجوب أدائه "من أول سني الإمكان" أي إمكان أدائه لحصول شرائط وجوب أدائه من الزاد والراحلة وغيرهما "عند أبي يوسف" حتى كان على الفور عنده وكذا عند أبي حنيفة "خلافا لمحمد" حيث قال هو على التراخي إلا إذا غلب على ظنه الفوات إذا أخر فحينئذ لا يحل له التأخير ويصير مضيقا عليه ليس بناء على اختلافهما في أن الأمر المطلق عن الوقت يوجب الفور عند أبي يوسف فأوجب الحج مضيقا بناء عليه ولا يوجبه عند محمد فأوجب الحج موسعا بناء عليه كما ذهب إليه بعض المشايخ كالكرخي. فإن الصحيح الذي عليه عامة المشايخ أنهما متفقان على أن الأمر المطلق لا يوجب الفور بل الخلاف بينهما في الحج "ابتدائي" لدليل لاح لكل منهما فيما ذهب إليه فأبو يوسف قال على الفور "للاحتياط عنده"؛ لأن العام الأول موجود بيقين ولا مزاحم إلا بإدراك العام الثاني وهو مشكوك فيه "لأن الموت في سنة غير نادر" والمشكوك لا يزاحم
(1/26)
 
 
ج / 2 ص -173- المتيقن فيتعين العام الأول للأداء تحرزا عن الفوات "فيأثم" بالتأخير عنه "وإلا" لو لم يكن للاحتياط "فموجبه" أي الحج أمر "مطلق" عن الوقت فلا يوجبه على الفور "ولذا" أي الاحتياط "عنده اتفقا" أي أبو يوسف ومحمد "على أنه لو فعل" الحج "بعده" أي أول سني الإمكان "وقع أداء"؛ لأنا إنما قلنا بتعيينه للأداء للشك في إدراك العام الثاني فإذا أدركه زال الشك وحصل اليقين بكونه من عمره ووقع الأمن من الفوات وسقط العام الأول وتعين الثاني للأداء وكذا الحكم في كل عام ولو كان الفور متعينا قطعا للدليل القطعي على تعينه لكان قضاء عند القائل بأنه للفور لفواته عن وقته المتعين له بالدليل القطعي. "وتأدى فرضه" أي حجة الإسلام "بإطلاق النية" للحج "لظاهر الحال" أي حال المكلف الواجب عليه الحج فإن الظاهر منه أنه لا يتحمل المشاق الكثيرة لغيره لما فيه من براءة الذمة وكثرة الثواب "لا" أن تأديه بمطلقها "من حكم الإشكال" أي كون الوقت مشكلا لشبهه بالظرف وبالمعيار "ولذا" أي ولكون التأدي بها لظاهر الحال "يقع" حجه "عن النفل إذا نواه" أي النفل "لانتفاء الظاهر" بالتصريح بخلافه لرجحان الصريح عليه "وقد يبنيان" أي تأدى فرضه بمطلقها ووقوعه عن النفل إذا نواه "على الشبهين" شبه المعيار وشبه الظرف "فالأول" أي تأديه بمطلقها "لشبه المعيار" إذ من شأن المقيد بالوقت الذي هو معيار للواجب شرعا إصابته بمطلق النية كما تقدم في الصوم. "والنفل للظرف"؛ لأن من شأن ما كان ظرفا للواجب أن يصح وقوع النفل فيه كوقت الصلاة والباني لصحة النفل على شبه الظرف عامة أهل المذهب ولم أقف على بناء وقوعه عن فرضه بمطلق نيته على شبهه بالمعيار لغير المصنف وهو أولى من بنائه على ظاهر الحال كما ذكروه؛ لأنه كما قال "ولا يخفى عدم ورود الدليل وهو ظاهر الحال على الدعوى" وهي "تأديه بنية المطلق، وإنما يستلزم" الدليل المذكور "حكم الخارج" أي غير الناوي "عليه" أي الحاج "بأنه" أي الحاج "نوى الفرض لا" أنه يستلزم "سقوطه" أي الفرض "عنه" أي عن الحاج "عند الله إذا نوى الحج مطلقا في الواقع" وليس الكلام إلا في هذا على أنه كما قيل يشكل أيضا بما إذا لم يبق من وقت الصلاة إلا القدر الذي يسعها فإن في هذه الصورة يشترط نية التعيين ولا يتأدى بمطلق النية مع وجود دلالة الحال فإن المسلم لا يشتغل بأداء النفل مع تفويت الفرض فظهر أن بناءه على شبه المعيار كما لحظه المصنف أقرب، والله سبحانه أعلم.
مسألة
"الأمر بواحد" أي إيجاب واحد مبهم "من أمور معلومة صحيح" عند جمهور الفقهاء والأشاعرة واختاره الآمدي وابن الحاجب فيكون الواجب بذلك الأمر الواحد المبهم ويعرف بالواجب المخير "كخصال الكفارة" أي كفارة اليمين فإن قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] في قوة الأمر بالإطعام فيفيد إيجابه وقد عطف الكسوة والتحرير عليه فيقتضي إيجابهما أيضا فيكون كل منها واجبا على البدل لا الجمع لاقتضاء أو ذلك "وقيل" أي وقال بعض المعتزلة هو "أمر بالجميع ويسقط" وجوب الجميع "بفعل البعض وقيل" أي، وقال بعضهم أيضا أمر "بواحد معين عنده تعالى" دون المكلفين "وهو" أي الواحد
(1/27)
 
 
ج / 2 ص -174- المعين "ما يفعل كل" منهم "فيختلف" المأمور به بالنسبة إليهم ضرورة أن الواجب على كل ما اختاره ولا شك في اختلاف اختياراتهم. "وقيل لا يختلف" المأمور به باختلاف المفعول لهم "ويسقط" المأمور به "به" أي بالمأمور به "وبغيره" أي غير المأمور به منها ويسمى هذا القول التراجم؛ لأن الأشاعرة ترويه عن المعتزلة والمعتزلة عن الأشاعرة ذكره في المحصول وتعاضد الفريقان على إفساده فإذا لا يسوغ نقله عن أحدهما كما قاله السبكي بل قال والده لم يقل به قائل "ونقل" وجوب "الجميع على البدل" كما هو لازم ما تقدم من أنه أمر بالجميع ويسقط بالبعض ونقله غير واحد "لا يعرف ولا معنى له إلا أن يكون" هو "المختار" بناء على اعترافهم بأن تاركها جميعا لا يأثم إثم من ترك واجبات ومقيمها جميعا لم يثبت له ثواب واجبات كما ذكره الإمام في البرهان عن البهشمية فيكون الخلاف لفظيا وقد مشى عليه غير واحد أما على أن تاركها يأثم إثم من ترك واجبات والآتي بها يثبت له ثواب واجبات كما هو منقول عن بعضهم فالخلاف بينه وبين المختار ظاهر. "لنا القطع بصحة أوجبت أحد هذه" الأمور "فإنه" أي قوله هذا "لا يوجب جهالة مانعة من الامتثال لحصول التعيين بالفعل" لمعين منها "وتعلق علمه تعالى بما يفعل كل" من المكلفين "لا يوجبه" أي مفعول كل "عينا على فاعله بل" يوجب "ما يسقط" به الوجوب من مفعول كل من الأمور المخير فيها إذ كان فردا من أفراد الواحد الدائر بينها المأمور به لا باعتبار خصوص ذلك المفعول "ولا يلزم اتحاد الواجب والمخير فيه بين الفعل والترك؛ لأن الواجب" الواحد "المبهم" منها "لا على معنى بشرط الإبهام" فيه بل بمعنى أنه "لا يعينه الموجب" وهو الله تعالى والحاصل أن الواجب مفهوم الواحد الدائر بين المعينات والمخير فيه ما صدق عليه ذلك المفهوم وهو كل واحد من المعينات فالوجوب لم يتعلق بمعين، والتخيير لم يقع في مبهم وإلا لجاز تركه وهو بترك الكل وهو باطل. "فلذا" أي لكون الواجب هو الواحد المبهم "سقط" الوجوب "بالمعين" منها "لتضمنه" أي المعين "مفهوم الواحد" المبهم.
تتمة: ثم على قول الجمهور إذا كان في الكل ما هو أعلى ثوابا وعقابا وما هو أدنى كذلك ففعل المكلف الكل فقيل المثاب عليه ثواب الواجب الأعلى؛ لأنه لو اقتصر عليه لأثيب عليه ثواب الواجب فضم غيره إليه معا أو مرتبا لا ينقضه، وإن ترك الكل وعوقب عوقب على أدناها عقابا؛ لأنه لو فعله فقط لم يعاقب، وإن تساوى الكل فثواب الواجب والعقاب على واحد منها فعلت معا أو مرتبة وقيل في المرتب الواجب ثوابا أولها تفاوتت أو تساوت لتأدي الواجب به قبل غيره ويثاب ثواب المندوب على كل، وغير خاف أن هذا كله بناء على أن محل ثواب الواجب والعقاب على تركه أحدها من حيث خصوصه الذي يقع نظرا إلى تأدي الواجب به وإلا فالتحقيق على قول الجمهور أنه يثاب ثواب الواجب على مسمى أحدها من حيث إنه أحدها لا من حيث ذلك الخصوص وإلا كان من تلك الحيثية واجبا حتى إن الواجب ثوابا في المرتب أولها من حيث إنه أحدها لا من حيث خصوصه وكذا يقال في كل من الزائد على ما يتأدى به الواجب منها إنه يثاب عليه ثواب المندوب من حيث إنه أحدها لا من حيث خصوصه، والله تعالى أعلم.
(1/28)
 
 
ج / 2 ص -175- "مسألة الواجب على الكفاية"
وهو مهم متحتم مقصود حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله فتناول ما هو ديني كصلاة الجنازة ودنيوي كالصنائع المحتاج إليها وخرج المسنون؛ لأنه غير متحتم وفرض العين؛ لأنه منظور بالذات إلى فاعله حيث قصد حصوله من عين مخصوصة كالمفروض على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته أو من كل عين عين أي واحد واحد من المكلفين واجب "على الكل ويسقط" الوجوب عنهم "بفعل البعض" هذا قول الجمهور وهو المختار عند المصنف ثم المراد بالكل الكل الإفرادي وقيل المجموعي إذ لو تعين على كل أحد لكان إسقاطه عن الباقين رفعا للطلب بعد تحققه وهو إنما يكون بالنسخ وليس بنسخ اتفاقا بخلاف الإيجاب على الجميع من حيث هو فإنه لا يستلزم الإيجاب على واحد ويكون التأثيم للجميع بالذات ولكل واحد بالعرض وأجيب بمنع كون سقوط الطلب بعد تحققه إنما يكون بالنسخ فإنه قد يكون لانتفاء علة الوجوب كحصول المقصود من الفعل هنا. فيكون أمارة على سقوط الواجب من غير نسخ لانتفاء الطريق الشرعي المتراخي الذي يثبت به النسخ، ثم كما في المنهاج فإن ظن كل طائفة أن غيره فعل سقط عن الكل، وإن ظن أنه لم يفعل وجب أي على كل ثم كما قال الإسنوي، وإن ظنت طائفة قيام غيرها به وظنت أخرى عكسه سقط عن الأولى ووجب على الثانية "وقيل" واجب "على البعض" وهو قول الإمام الرازي واختاره السبكي، ثم المختار على هذا أي بعض كان كما هو المشهور إذ لا دليل على أنه معين فمن قام به سقط الوجوب بفعله وقيل من قام به لسقوطه بفعله وقيل معين عند الله دون الناس يسقط الواجب بفعله وبفعل غيره كما يسقط الدين عن المدين بأداء غيره عنه "لنا أثم الكل بتركه" اتفاقا ولو لم يكن واجبا عليهم لما أثموا.
"قالوا" أي القائلون بأنه على البعض أولا "سقط" الوجوب "بفعل البعض" ولو كان على الكل لما سقط إذ من المستبعد سقوط الواجب عن المكلف بفعل غيره.
"قلنا" لا استبعاد "لأن المقصود وجوب الفعل لا ابتلاء كل مكلف" كما في فرض العين وقد وجد "كسقوط ما على زيد" من الدين الضامن عمرو إياه عنه "بفعل عمرو" أي بأدائه عنه اتفاقا لحصول الغرض به وقيدنا بالضمان؛ لأن فيه أداء ما يجب في ذمة المؤدي وإسقاط ما في ذمة غيره كما في محل النزاع بخلاف أداء عمرو وما في ذمة زيد غير ضامن له فإن الخصم بما قال لما لم يكن أداؤه واجبا عليهم لم يبعد أن يكون الإتيان به لإسقاط ما يجب على الغير.
"قالوا" ثانيا "أمر واحد مبهم كواحد مبهم" فكما جاز الثاني أعني المكلف به المبهم من أمور معينة بإلغاء الإبهام فيه جاز الأول أعني المكلف المبهم بإلغاء الإبهام فيه.
"أجيب بالفرق بأن إثم" مكلف "مبهم غير معقول" بخلاف تأثيم المكلف بترك أحد أمور معينة مبهما فإنه معقول فالإبهام في المأمور مانع، وفي المأمور به غير مانع. أي قال
(1/29)
 
 
ج / 2 ص -176- الشيخ سعد الدين التفتازاني وهذا إنما يصح لو لم يكن "مذهبهم" أي القائلين بالوجوب على البعض "إثم الكل" بسبب ترك البعض "لكن قول قائله" أي الوجوب على البعض "إنه" أي الوجوب "يتعلق بمن غلب على ظنه أنه" أي الواجب "لن يفعله غيره فإن ظنه" أي عدم الفعل "الكل عمهم" الوجوب "وإن خص" ظن عدم الفعل البعض "خصه" أي ذلك البعض الظان "الإثم" على تقدير الترك وحينئذ "فالمعنى" المكلف بالوجوب بعض "غير معين وقت الخطاب؛ لأنه" أي المكلف "لا يتعين" للوجوب عليه "إلا بذلك الظن" وهو ظن أن لن يفعله غيره "ولو لم يظن" هذا الظن أحد "لا يأثم أحد ويشكل" هذا حينئذ "ببطلان معنى الوجوب" فإن لازمه الإثم على تقدير الترك فإذا انتفى انتفى الملزوم الذي هو الوجوب. "وقد يقال" في الجواب عن هذا "إنما يبطل" الوجوب "لو كلف" المكلف بالواجب المذكور "مطلقا" أي سواء ظن أن لن يفعل غيره أو لا "أما" لو كلف "الظان" أن لن يفعل غيره فقط "فلا" يبطل معنى الوجوب؛ لأنه لا تكليف به عند انتفاء الظن حينئذ نعم الشأن في أن هؤلاء القائلين بوجوبه على البعض قائلون به على الوجه الذي ذكره المصنف وقد ذكر بعضهم أن على قول هؤلاء من ظن أن غيره لم يفعله وجب عليه ومن لا فلا "والحق أنه" أي القول بوجوبه على البعض "عدول عن مقتضى الدليل" الدال على وجوبه على الكل "كقاتلوا الذين لا يؤمنون ونحوه بلا ملجئ" للعدول عنه "لما حققناه" من أنه واجب على الكل.
"قالوا" ثالثا "قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}". فصرح بالوجوب على طائفة غير معينة من الفرقة بواسطة لولا الداخلة على الماضي الدالة على التنديم واللوم.
"قلنا" هذا مؤول "بالسقوط" للوجوب عن الجميع "بفعلها" أي الطائفة من الفرقة "جمعا بين الدليلين" أي هذا ودليلنا الدال على الوجوب على الجميع على وجه يرتفع التنافي الظاهر بينهما؛ لأنه أولى من إلغاء هذا؛ لأن دليلنا كما أنه لا يلغى لا يحتمل التأويل بخلاف هذا فإنه يحتمل التأويل.
"واعلم أنه إذا قيل صلاة الجنازة واجبة" أي فرض "على الكفاية" كما صرح به غير واحد من الحنفية والشافعية وحكوا الإجماع عليه "فقد يستشكل بفعل الصبي" المميز كما هو الأصح عند الشافعية.
"والجواب" عن هذا "بما تقدم" من أن المقصود الفعل وقد وجد "لا يدفع الوارد من لفظ الوجوب" فإنه لا وجوب على الصبي ولا يحضرني هذا منقولا فيما وقفت عليه من كتب المذهب، وإنما ظاهر أصوله عدم السقوط كما هو غير خاف، والله سبحانه أعلم.
مسألة
"لا يجب شرط التكليف اتفاقا كتحصيل النصاب" للتكليف بوجوب الزكاة "والزاد" أي وتحصيله لوجوب الحج "وأما ما يتوقف عليه الواجب" المأمور به مطلقا من حيث كونه له "سببا عقلا كالنظر" المحصل "للعلم" الواجب كما ذكر الإسنوي "وفيه" أي كون النظر سببا
(1/30)
 
 
ج / 2 ص -177- عقليا للعلم "نظر" بل هو سبب عادي له فإن استعقاب النظر العلم بخلقه تعالى بطريق إجراء العادة عند الحنفية والأشاعرة "أو" من حيث كونه سببا له "شرعا كالتلفظ" بما يفيد العتق "للعتق أو" من حيث كونه سببا له "عادة كالأول" أي النظر للعلم "وحز العنق" للقتل "أو" من حيث كونه له "شرطا عقلا كترك الضد" أي جنسه للواجب "أو" من حيث كونه شرطا له "عادة كغسل جزء من الرأس" كغسل الوجه "أو" من حيث كونه شرطا له "شرعا" كالوضوء للصلاة. "فالحنفية والأكثر واجب به" أي بالإيجاب لذلك الواجب "وقيل في الشرط الشرعي" أي واختار ابن الحاجب وصاحب البديع أن المقدور للمكلف الذي يتوقف عليه الواجب من حيث إنه شرط شرعي له يجب بوجوبه وإلا فلا "وقيل" ما يتوقف عليه الواجب لا يجب بوجوبه سواء كان مقدورا للمكلف أو لا "لا في الشرط وغيره فيخطئان" أي هذان القولان "للاتفاق على الأسباب" أي على أن إيجاب المسبب إيجاب لتحصيل سببه المستلزم له "إلا أن يقال التعلق" للإيجاب إنما هو "بها" أي بالأسباب ابتداء "فالأمر بالقتل والعتق يتعلق بالحز" للعنق ونحوه "والتلفظ" بصيغة العتق "ابتداء" لا بنفي الحياة ولا بإزالة الرق "إذ لا تعلق بغير المقدور"؛ لأن التكليف لا يكون إلا بمقدور لنا والمسببات قد لا تكون مقدورة لنا كهذه بخلاف مباشرة الأسباب فإنها في وسع المكلف فالأمر المتعلق ظاهرا بالمسبب متعلق في الحقيقة بالسبب وهو الواجب حقيقة. وإن كان وسيلة إلى المسبب ظاهرا فحينئذ لا يكون القولان من هذا القبيل خطأ "ولا بد من قيد به" في قولهم ما يتوقف عليه الواجب واجب "وإلا" لو لم يكن مرادا "لزم الكفر"؛ لأن المتبادر من إطلاقه الواجب لذاته وهو ليس إلا الله رب العالمين مع أنه ليس المراد من هذا الإطلاق قطعا "للأكثر لو لم يجب" ما يتوقف عليه الواجب من الأقسام الماضية "بقي جواز الترك" للشرط "دائما ولازمه" أي جواز الترك له دائما "جواز ترك ما لا يتأتى" الواجب "بدونه وهو" أي جواز ترك ما لا يتأتى الواجب بدونه "مناف لوجوبه" أي الواجب "في وقت" فإن جواز ترك ما لا يتأتى هو إلا به يستلزم جواز ترك الواجب نفسه ضرورة أنه لا يتحقق الواجب إلا به "أو" لازمه "جواز فعله" أي الواجب الذي هو المشروط "دونه" أي الشرط؛ لأنه يصدق حينئذ أنه أتى بجميع ما أمر به فتجب صحته "فما فرض شرطا ليس شرطا" موقوفا عليه حينئذ. وهو باطل؛ لأنه موقوف عليه بالفرض "ولا يخفى منع الملازمة" أي لا نسلم أنه يلزم من عدم وجوب ما يتوقف عليه الواجب بإيجاب الواجب جواز الترك لجواز وجوبه بغيره "وإنما يجوز الترك لو لم يجب" ما يتوقف عليه الواجب "مطلقا" أما إذا كان واجبا مطلقا كما نحن قائلون به فلا "واستدلالهم" أي الأكثرين "بالإجماع على" وجوب "التوصل" إلى الواجب ولو لم يجب ما لا يتم الواجب إلا به لما وجب التوصل إلى الواجب إذ لا معنى له إلا الإتيان بجميع ما يتوقف عليه "في غير" محل "النزاع؛ لأن الموجب حينئذ" أي حين الاستدلال بالإجماع على أن الموصل إلى الواجب واجب "غير موجب الأصل" الذي هو الواجب الأصلي فإن موجبه الأمر وموجب ما يتوقف عليه الإجماع "وإذن لا حاجة للنافي" لوجوب ما يتوقف عليه الواجب بإيجابه في غير الشرط الشرعي كابن
(1/31)
 
 
ج / 2 ص -178- الحاجب وصاحب البديع "إلى الجواب بتخصيص الدعوى بغير الأسباب" كما فعلاه. "واستدلاله" أي النافي "لو وجب" ما يتوقف عليه الواجب بإيجاب الواجب "امتنع التصريح بنفي وجوبه" أي ما يتوقف عليه الواجب لمناقضته له والقطع بصحة إيجاب غسل الوجه ونفي إيجاب غسل غيره "إن أراد" بامتناع التصريح بنفي وجوبه "نفي وجوبه به" أي بإيجاب الواجب "فنفي التالي" الذي هو امتناع التصريح بنفي وجوبه "عين النزاع أو" نفي وجوبه "مطلقا نفينا الملازمة" أي منعناها وهو ظاهر "وكذا قوله" أي النافي "وصح قول الكعبي في نفي المباح"؛ لأن فعل الواجب وهو ترك الحرام لا يتم إلا بالمباح فيجب المباح وهو باطل عليه منع الملازمة وكذا قول النافي "ووجب نية المقدمة"؛ لأنها حينئذ عبادة شرعية واجبة فتجب به "ومعناه" أي وجوب نية المقدمة أنها تجب فيها "كما لو وجب" ما يتوقف عليه الواجب الذي هو المقدمة "بغيره" أي غير الواجب فإن النية تجب فيه لكن وجوبها في المقدمة ممنوع بل يكفي في صحة العمل نية الواجب دون مقدمته عليه منع الملازمة. "وإنما يلزمان" أي نفي المباح ووجوب نية المقدمة "لو تعين" المباح للامتثال "أو شرع" ما يتوقف عليه "عبادة لكنه" أي الامتثال "يمكن بغيره" أي المباح "ونلتزمه" أي وجوب النية "في مقدمة هي عبادة" لا مطلقا "وكذا قوله" أي النافي "لو كان" ما يتوقف عليه الواجب واجبا "لزم تعقله" أي ما يتوقف عليه الواجب "للآمر" لامتناع إيجاب الشيء بدون تعقله "والقطع بنفيه" أي نفي لزوم تعقله؛ لأن الآمر بالشيء قد يذهل عما يتوقف عليه ذلك الشيء عند الأمر به "ممنوع الملازمة بأنه" أي لزوم تعقل الموجب إنما هو "في الواجب أصالة" أما في إيجاب الشيء بتبعية غيره فلا فإن قيل لو وجب ما يتوقف عليه الواجب بإيجاب الواجب للزم وجوبه بلا تعلق الخطاب به وهو ممنوع؛ لأن كل ما تعلق به الخطاب حتما فهو واجب وما لا فلا لدخول التعلق المذكور في حقيقة الوجوب. وهذا مما أورده النافي أيضا دليلا على نفي قول الأكثرين فجوابه ما أشار إليه بقوله "ولزوم الوجوب" لما يتوقف عليه الواجب "بلا تعلق" للخطاب به "ممنوع لما نذكر" قريبا "فإن دفع" هذا المنع "بأن المراد" بأنه لم يتعلق به خطاب الواجب إن دليله غير دال عليه "إذ لو دل" دليله عليه "لعقل" لامتناع إيجاب الشيء بدون تعقله "وإذ لم يعقل لم يدل فلا إيجاب به" أي بدليل الواجب "ووجوبه" أي ما يتوقف عليه الواجب "بغيره" أي غير دليل الواجب "ليس الكلام فيه قلنا وهو الدليل الحق للأكثر إن الدلالة على" اصطلاح "الأصوليين لا تختص باللوازم البينة بالأخص" أي بالمعنى الأخص وهو كون اللازم يحصل في الذهن كلما حصل الملزوم بل بالمعنى الأعم وهو كونه حاصلا للملزوم كلما تعقلا ولا شك في دلالة دليل الواجب عليه بهذا النوع من الدلالة. "وتقدم في مفهوم الموافقة أن دلالته" أي مفهومها "قد تكون نظرية ويجري فيها الخلاف" فلا بعد في كون دليل الواجب موجبا لما يتوقف عليه بطريق الدلالة بل كما قال "فعلى ما علم مقدمة مما هي" أي المقدمة "له أظهر" أي فدلالة اللفظي للواجب على وجوب ما علم مقدمة لمدلوله بحيث يتوقف هو عليها وهو اللفظ الملزم لما له تلك المقدمة كدلالة صل على طلب ما عرف مقدمة
(1/32)
 
 
ج / 2 ص -1