التقرير والتحبير الجزء الأول جدول

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

التقرير والتحبير – الجزء الأول
تأليف:
محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
  
بسم الله الرحمن الرحيم
[خطبة الكتاب]
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا وفتح علينا من خزائن علمه فتحا مبينا ومن علينا بالتحلي بشرعه الشريف ظاهرا وباطنا عملا ويقينا، وجعل أجل الكتب فرقانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأفضل الهدي سنة نبيه الكريم الذي لا يدرك بشر قصارى مجده ولا شأو شرفه، وخير الأمم أمته المحفوظ إجماعها من الضلال في سبيل الصواب، والفائز أعلامها في استنباط الأحكام بأوفر نصيب من جزيل الثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها ما زال عليما حكيما، وأن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله نبيا ما برح بالمؤمنين رءوفا رحيما فأقام بيمنه أود الملة العوجاء، وأظهر بمفسر إرشاده محاسن الحنيفية السمحة البيضاء، وأزال بمحكمات نصوصه كل شبهة وريب، وأبان بأوامره ونواهيه منهج الحق طاهرا من كل شين وعيب، وأوضح تقرير الدلالة على طرق الوصول إلى ما شرعه دينه القويم من جميل القواعد وراسخ الأصول فأضحى منهاج سالكه صراطا سويا وبحر أفضاله موردا رواء وشرابا هنيا وتقويم آيات سماء فضائله حكما صادقا ودليلا مهديا، وتنقيح مناط عقائل خرائده روضا أنفا وثمرا جنيا، وتبيين منار بيناته توضيحا باهرا ومنطوقا جليا، وتلويح إشارات عيونه على أنواع فنونه إيماء رائعا ووحيا خافيا، وتحقيق مقاصده بكشف غوامض الأسرار وإفاضة الأنوار في مواقف البيان خطيبا بليغا وكفيلا مليا، ومنخول محصول حاصله بتحصيل الآمال، وبلوغ الغاية القصوى من المنال ضمينا وفيا وسببا قويا، ومنتخب فوائد جوامع كلمه وفرائد مآثر حكمه درا نقيا وعقدا بهيا، ومستصفى نقود مواهبه وخلاصة عقود مآربه كنزا وافرا وذخرا سنيا، وتحرير ميزان دلائله وتقرير آثار رسائله قضاء فصلا وقولا مرضيا فصلى الله على هذا النبي الكريم وعلى آله، وأصحابه الذين بلغوا من المكارم مكانا قصيا ورفعهم في الدارين مقاما عليا وسلم تسليما دائما سرمديا.
[مقدمة الشارح]
"وبعد" لما كان علم أصول الفقه والأحكام من أجل علوم الإسلام كما تقرر عند أولي النهى والأحلام أقام الله تعالى له في كل عصر وزمان طائفة من العلماء الأعيان ومعشرا من فضلاء ذلك الأوان فشيدوا بجميل المذاكرة والتصنيف قواعده الحسان واعتمدوا فيما حاولوه من حسن المدارسة والتأليف غاية الإحسان، وإن من هؤلاء الأقوام شيخنا الإمام الهمام البحر العلامة والحبر المحقق الفهامة محقق حقائق الفروع والأصول محرر دقائق المسموع والمعقول شيخ الإسلام والمسلمين كمال الملة والفضائل والدين الشهير نسبه
 ج / 1 ص -7-
 
  
الكريم بابن همام الدين تغمده الله برحمته، ورفع في الفردوس علي درجته، ومما شهد له بهذا الفضل الغزير مصنفه المسمى بالتحرير فإنه قد حرر فيه من مقاصد هذا العلم ما لم يحرره كثير مع جمعه بين اصطلاحي الحنفية والشافعية على أحسن نظام وترتيب واشتماله على تحقيقات الفريقين على أكمل توجيه وتهذيب مع ترصيع مبانيه بجواهر الفرائد وتوشيح معانيه بمطارف الفوائد وترشيح صنائعه بالتحقيق الظاهر وتطريف بدائعه بالتدقيق الباهر وكم مودع في دلالاته من كنوز لا يطلع عليها إلا الأفاضل المتقنون، ومبدع في إشاراته من رموز لا يعقلها إلا الكبراء العالمون. فلا جرم إن صدقت رغبة فضلاء العصر في الوقوف على شرح يقرر تحقيقاته وينبه على تدقيقاته ويحل مشكلاته ويزيح إبهاماته ويظهر ضمائره ويبدي سرائره وقد كان يدور في خلدي مع قلة بضاعتي ووهن جلدي أن أوجه الفكر نحو تلقاء مدين هذه المآرب، وأصرف عنان القلم نحو تحقيق هذه المطالب؛ لإشارة متعددة من المصنف - تغمده الله برحمته - إلى العبد بذلك حال قراءتي عليه لهذا الكتاب الجليل وسؤال خليل مني هذا المرام بعد خليل وكان يعوقني عن البروز في هذا المضمار ما قدمته من الاعتذار مع ما منيت به من فقد مذاكر لبيب، ومنصف ذي نظر مصيب، وإلمام بعض عوائق بدنية في الوقت بعد الوقت، وقصور أسباب تقعد عن إدراك ما هو المأمول من الجد والبخت إلى أن صمم العزم على الإقدام على تحقيق هذا المرام بتوفيق الملك العلام فوقع الشروع فيه من نحو عشر حجج وتجشمت في الغوص على درر مقدمته ونبذة من مباديه غمرات اللجج ثم بينما العبد الضعيف يركب كل صعب وذلول في تقرير الكتاب ويكشف قناع محاسن أبكاره على الخطاب من الطلاب برزت الإشارة الشيخية بالرحلة إلى حضرته العلية قضاء للحق الواجب من زيارته وتلقيا للزيادات التي ألحقها بالكتاب بعد مفارقته واستطلاعا للوقوف على ما برز من الشرح وكيفية طريقته. فطار العبد إليه بجناحين إلا أنه لم يقدم عليه إلا وقد نشبت به مخالب الحين ثم لم ينشب رحمه الله تعالى إلا قليلا، ومات فلم يقض العبد الوطر مما في النفس من التحقيقات والمراجعات نعم اقتنصت في خلال تلك الأوقات ما أمكن من الفوائد الشاردات، وأثبت في الكتاب عامة ما استقر الحال عليه من التغييرات والزيادات ثم رجعت قافلا والقلب حزين على ما فات والعزم فاتر عن الخوض في هذه الغمرات، والبال قاعد عن تجشم هذه المشقات وانطوى على هذه الأحوال السنون حتى كأن تلك الأمور كانت في سنات غير أن الأخلاء لم يرضوا بإعراض العبد عن القيام بهذا المطلوب ولا برغبته عن هذا الأمر المرغوب بل أكدوا العزيمة على إبرام العزم نحو تحقيق مطالبه وكرروا الإلحاح على إعمال الرجل والخيل في الكر على الظفر بغنيمة مآربه، والعبد يستعظم شرح هذا المرام ويرى أن بعضهم أولى منه بهذا المقام وتطاول على ذلك الأمد وليس بمنصرف عن هذا المسئول منهم أحد فحينئذ استخرت الله تعالى ثانيا في شرح هذا الكتاب لكن لا على السنن الأول من الإطناب بل على سبيل الاقتصاد بين الاختصار والإسهاب وشرعت فيه موجها وجه رجائي في تيسيره إلى الكريم
 ج / 1 ص -8-
 
  
الوهاب سائلا من فضله تعالى مجانبة الزلل والثبات على صراط الصواب، وأن يثيبني عليه من كرمه - سبحانه - جزيل الثواب، وأن يرزقني من كل واقف عليه دعاء صالحا يستجاب وثمرة ثناء حسن يستطاب على أني متمثل في الحال بقول من قال:
  
ماذا تؤمل من أخي ثقة  حملته ما ليس يمكنه  
 
  
إن بان عجز منه فهو على  عذر يبين إذا يبرهنه  
 
  
قدمت فيما قلت معتذرا هذا طراز لست أحسنه  
 
 
 
ولعله إذا فتح الله تعالى بإتمامه، ومن بالفراغ من إتقانه واختتامه أن يكون مسمى بالتقرير والتحبير في شرح كتاب التحرير وحسبي الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
 ج / 1 ص -9-
 
  
[المقدمة]
قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم بدأ بالبسملة الشريفة تبركا، ومجانبة لما نفرت عنه السنة القولية من ترك البداءة بها أو بما يسد مسدها في الثناء على الله تعالى بالجميل على سبيل التبجيل فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر" وفي رواية أقطع فإن قلت وقد جاء أيضا في رواية ثابتة لا يبدأ فيه ب "الحمد لله" فهذه تعارض الأولى فما المرجح للأولى عليها قلت تصدير كتاب الله العظيم وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وغيره بها على ما في الصحيح واستمرار العرف العملي المتوارث عن السلف قولا وفعلا على ذلك ثم هذا إذا كان المراد لا يبدأ بلفظهما لكن ذكر الشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله -: أن المراد بحمد الله ذكر الله كما جاء في الرواية الأخرى فإن كتاب هرقل كان ذا بال من المهمات العظام ولم يبدأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ الحمد وبدأ بالبسملة ا هـ.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: وفي ذلك نظر فإنه إن عنى حينئذ بذكر الله في قوله إن المراد بحمد الله ذكر الله ذكره بالجميل على قصد التبجيل الذي هو معنى الحمد خاصة فالأمر بقلب ما قال وهو أن المراد بذكر الله ما هو المراد بحمد الله فهو من باب حمل المطلق على المقيد لا من باب التجويز بالمقيد عن المطلق وحينئذ يبقى الكلام في تمشية مثل هذا الحمل على القواعد وهو متمش على قواعد الشافعية، ومن وافقهم؛ لأنهم يحملون في مثله المطلق على المقيد لا على قاعدة جمهور الحنفية؛ لأنهم لا يحملون في مثله المطلق على المقيد؛ لأن التقييد فيه راجع إلى معنى الشرط، وإنما يجرون في مثله المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده حتى إنه يخرج عن العهدة بأي فرد كان من أفراد ذلك المطلق فتعليق الحكم الثابت للمطلق بالمقيد من حيث إنه لا يؤثر اعتبار قيد ذلك المقيد في ذلك المطلق عندهم كأفراد فرد من العام بحكم العام حيث لا يوجب ذلك تخصيص العام كما هو المذهب الصحيح على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وحينئذ يتجه أن يسألوا عن الحكمة في التنصيص على ذلك الفرد من المطلق دون غيره ويتجه لهم أن يحيبوا هنا بأن لعلها إفادة تعليم العباد ما هو أولى أو من أولى ما يؤدى به المراد من المطلق، وإن عنى حينئذ بذكر الله في قوله المذكور ذكره مطلقا على أي وجه كان من وجوه التعظيم سواء كان تسبيحا أو تحميدا أو شكرا أو تهليلا أو تكبيرا أو تسمية أو دعاء فلا نسلم أن المراد بحمد الله ذكر الله على هذا الوجه من الإطلاق للعلم بأن المعنى الحقيقي للحمد ليس ذلك فلا يصح ذلك ولا داعي إلى التجوز به عن مطلق الذكر لاندفاع الإشكال بكتاب هرقل، وما جرى مجراه بما ذكرناه على قول جمهور الحنفية فتأمل.
"يقول العبد الفقير محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد الإسكندري مولدا السيواسي منتسبا الشهير بابن همام الدين" لقب والده العلامة عبد الواحد المذكور كان قاضي سيواس البلد الشهير ببلاد الروم، ومن بيت العلم والقضاء به قدم القاهرة وولي
 ج / 1 ص -10-
 
  
خلافة الحكم بها عن القاضي الحنفي بها ثمة ثم ولي قضاء الحنفية بالإسكندرية وتزوج بها بنت القاضي المالكي يومئذ فولدت له المصنف، ومدحه الشيخ بدر الدين الدماميني بقصيدة بليغة يشهد له فيها بعلو المرتبة في العلم وحسن السيرة في الحكم ثم رغب عنها ورجع إلى القاهرة، وأقام بها مكبا على الاشتغال في العلم إلى أن مات كذا ذكر لي المصنف رحمه الله. وأما المصنف فمناقبه في تحقيق العلوم المتداولة معروفة مشهورة، ومآثره في بذل المعروف والفضائل على ضروب شجونها محفوظة مأثورة فاكتفينا بقرب العهد بمعرفته عن بسط القول هنا في ترجمته "غفر الله ذنوبه وستر عيوبه الحمد لله" هذه الجملة كما أفاد المصنف فيما كان شرحه من كتاب البديع لابن الساعاتي إخبار صيغة إنشاء معنى كصيغ العقود قال وبالغ بعضهم في إنكار كونها إنشاء لما يلزم عليه من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود ويبطل من قطعيتين إحداهما أن الحامد ثابت قطعا بل الحمادون، والأخرى أنه لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد ثابت له القيام قائم فلو كان الحمد إخبارا محضا لم يقل لقائل الحمد لله حامد ولانتفى الحامدون وهما باطلان فبطل ملزومهما، واللازم من المقارنة انتفاء وصف الواصف المعين لا الاتصاف وهذا؛ لأن الحمد إظهار الصفات الكمالية الثابتة لا ثبوتها نعم يتراءى لزوم كون كل مخبر منشئا حيث كان واصفا للواقع، ومظهرا له وهو توهم فإن الحمد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه ابتداء التعظيم وهذا ليس جزء ماهية الخبر فاختلفت الحقيقتان وظهر أن الغفلة عن اعتبار هذا القيد جزء ماهية الحمد هو منشأ الغلط، إذ بالغفلة عنه ظن أنه إخبار لوجود خارج مطابقه وهو الاتصاف ولا خارج للإنشاء، وأنت علمت أن هذا خارج جزء المفهوم وهو الوصف بالجميل وتمامه وهو المركب منه، ومن كونه على وجه ابتداء التعظيم لا خارج له بل هو ابتداء معنى لفظه علة له والله سبحانه الموفق. ا هـ. وقد عرفت منه معنى الحمد وللناس عبارات شتى في بيانه لا يخلو بعضها من نظر وبحث فيطلب مع بيان الفرق بين الحمد والشكر والمدح في مظانها إذ لا حاجة بنا هنا إلى الإطناب بها. ثم من المعلوم أن الاسم الجليل أعني الله خاص بواجب الوجود "ولكن هل هو عربي أم عبري أو سرياني؟ ثم على أنه عربي هل هو علم أو صفة؟ ثم على أنه علم هل هو مشتق أو الخالق للعالم المستحق لجميع المحامد بل هو أخص أسمائه الحسنى والصحيح أنه عربي كما عليه عامة العلماء لا أنه عبري أو سرياني كما ذهب إليه أبو زيد البلخي ثم على أنه عربي هل هو علم أو صفة فقيل صفة، والصحيح الذي عليه المعظم أنه علم ثم على أنه علم هل هو مشتق أو غير مشتق فقيل مشتق على اختلاف بينهم في المادة التي اشتق منها، وفي أن علميته حينئذ بطريق الوضع أو الغلبة. وقيل غير مشتق بل هو علم مرتجل من غير اعتبار أصل أخذ منه، وعلى هذا الأكثرون منهم أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن والشافعي والخليل والزجاج وابن كيسان والحليمي، وإمام الحرمين والغزالي والخطابي ثم روى هشام عن محمد بن الحسن قال سمعت أبا حنيفة - رحمه الله - يقول: اسم الله الأعظم هو الله، وبه قال الطحاوي
 ج / 1 ص -11-
 
  
وكثير من العلماء، وأكثر العارفين حتى إنه لا ذكر عندهم لصاحب مقام فوق الذكر به، وقد علم من هذا وجه تخصيص الحمد به دون غيره من أسمائه تعالى، وإنما قدم الحمد عليه جريا على ما هو الأصل من تقديم المسند إليه مع انتفاء المقتضي للعدول عنه من غير معارض سالم من المعارض؛ لأن كون ذكر الله أهم نظرا إلى ذاته يعارضه كون المقام مقام الحمد لله.
"الذي أنشأ" في الصحاح أنشأه الله خلقه، والاسم النشأة والنشاءة بالمد عن أبي عمرو بن العلاء، وأنشأ يفعل كذا أي ابتدأ "هذا العالم" المشاهد علويه وسفليه، وما بينهما لذوي البصائر والأبصار على ممر السنين والأعصار ثم قيل هو مشتق من العلم فإطلاقه حينئذ على السموات والأرض، وما بينهما بطريق التغليب لما في هذه من ذوي العلم من الثقلين والملائكة على غيرهم من الحيوانات والجمادات والجواهر والأعراض، وقيل هو مشتق من العلامة؛ لأن فاعلا كثيرا ما يستعمل في الآلة التي يفعل بها الشيء كالطابع والخاتم فهو كالآلة في الدلالة على صانعه فهو حينئذ اسم لكل ما سوى الله تعالى بصفاته من الجواهر والأعراض فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده، ولعل على هذا ما في الصحاح من تفسيره بالخلق أي المخلوق "البديع" وهو يحتمل أن يكون صفة مشبهة من بدع بداعة وبدوعا صار غاية في وصفه خيرا كان أو شرا، وأن يكون معناه المبتدع على صيغة اسم المفعول أي المخترع لا على مثال كما أشار إليه في الصحاح وغيره لكن على هذا يكون قوله البديع "بلا مثال سابق" تصريحا بلازمين لإنشاء العالم؛ لأن الظاهر أن الفعل المبتدأ للفاعل المطلق غير مسبوق إليه ولا متقدم في الوجود العيني ما يقدر متعلقه عليه كما هو ظاهر من قوله تعالى {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة: 35] الاحتمال الأول فإن عليه إنما يكون في هذا القول تصريح بلازم واحد وهو قوله بلا مثال سابق، وأيا ما كان فلا ضير غير أن الأول أنسب بما سيأتي كما سنشير إليه. وقد يقال الإنشاء والإبداع إيجاد الشيء بلا سبق مادة وزمان ولا توسط آلة وكل منهما يقابل التكوين لكونه مسبوقا بالمادة والإحداث لكونه مسبوقا بالزمان، وعند العبد الضعيف غفر الله تعالى له في هذا نظر ينوره قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام: 98] {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] "وأنار لبصائر العقلاء طرق دلالته على وجوده وتمام قدرته" أي جعل أنواع الأدلة الأنفسية والآفاقية الدالة على وجوب وجوده بالذات وشمول كمال قدرته لسائر الممكنات واضحة جلية لذوي الاستبصار من عقلاء العباد حتى صار ذلك عند الخاصة من أولي الرشاد من ضرورات الدين بل ومن عين اليقين، وأحسن بقول العارف أبي إسحاق إبراهيم الخواص:
  
لقد وضح الطريق إليك حقا  فما أحد أرادك يستدل  
 
 
ويقول الآخر:
  
لقد ظهرت فلا تخفى على أحد  إلا على أكمه لا يعرف القمرا  
 
 ج / 1 ص -12-
 
  
"فهو إلى العلم بذلك سائق" أي إيضاحه للأدلة عليه سائق للقلوب المستبصرة إلى العلم القطعي بوجوده الذاتي، وقدرته الباهرة، ومن عيون كلام الشيخ أبي عمرو بن مرزوق قيل وكان من أوتاد مصر: الطريق إلى معرفة الله وصفاته الفكر والاعتبار بحكمه وآياته ولا سبيل للألباب إلى معرفة كنه ذاته فجميع المخلوقات سبل متصلة إلى معرفته وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه المتبصرون على قدر بصائرهم. "دفع نظامه" أي اضطر نظام العالم "المستقر" أي الثابت على أتم وجوه الانتظام من غير اختلال ولا انخرام للمعتبرين من ذوي النهى والأحلام "إلى القطع بوحدانيته"؛ لأنه كما قال أصدق القائلين {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]، وقد أحسن أبو العتاهية في قوله:
  
فواعجبا كيف يعصى الإله  أم كيف يجحده الجاحد  
 
  
ولله في كل تحريكة  وتسكينة أبدا شاهد  
 
  
وفي كل شيء له آية  تدل على أنه واحد  
 
 
"كما أوجب" لذوي النظر الصحيح "توالي نعمائه تعالى المستمر" أي تتابعها الدائم على سائر مخلوقاته مع تلبس الكثير من المكلفين بالكفر والعصيان والجحود والطغيان "العلم" القطعي لهم "برحمانيته" أي باتصافه بالرحمة الواسعة التي هي إفاضة الإنعام أو إرادة الإحسان، وإلا لبادوا عند الخالفة ولم يمهلوا وقتا من الزمان كما قال الكريم المنان {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] إلى غير ذلك من آي القرآن، وأنواع البرهان فسبحانه من إله وسع كل شيء رحمة وعلما وغفر ذنوب المذنبين كرما وحلما.
"تنبيه" وهذا من المصنف رحمه الله جار على منوال كون العلم الحاصل عقب النظر الصحيح واجبا أي لازما حصوله عقبه إما وجوبا عاديا كما هو منسوب إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين أو وجوبا عقليا غير متولد منه كما هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي وكشف القناع عنه في الكتب الكلامية يعني وجب بخلق الله تعالى للعقلاء عقب نظرهم الصحيح في دوام تواتر نعمائه التي لا تحصى على العباد مع كثرة أهل الشرك والعصيان في كثير من البلاد العلم القطعي باتصافه سبحانه بهذه الصفة العظيمة التي هي من أصول صفاته الحسنى ونعوته العلى فاتحد هذان المطلبان في القطع دليلا ومدلولا. وقد ظهر أن هاتين الجملتين خرجتا مخرج البيان والشهادة لبداعة هذا العالم كما هو مقتضى الاحتمال الأول فيما اشتق منه البديع هنا، ولجملة وأنار لبصائر العقلاء طرق دلالته فلا جرم أن لهذا ولكونهما لا يصح تشريكهما في حكم ما قبلهما من الجملتين الأوليين إذ لا يصلح أن يقعا صلتين لما الأوليان صلتان له فصلهما عنهما. وظهر أيضا أن إسناد دفع إلى نظام، وأوجب إلى توالي إسناد مجازي لملابسة السببية كما في قوله تعالى {إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
 ج / 1 ص -13-
 
  
إِيمَاناً} [الأنفال: 2]، وأن قوله المستمر مرفوع على أنه صفة توالي كما أن المستقر مرفوع على أنه صفة نظامه وتعالى جملة معترضة بين الصفة والموصوف للدلالة على الإجلال والتعظيم ثم كما أن لربنا تعالى علينا نعما يتعذر إحصاؤها كذلك لنبينا أيضا علينا منن يبعد استقصاؤها وهو أيضا الوسيلة العظمى إليه، ومن رام إنجاح مطالبه فهو كل عليه فلا جرم إن أتى المصنف بتبجيله وتمجيده منسوقا على حمد الله وتوحيده فقال "وصلى الله على رسوله محمد" وكون الحمد في صورة الجملة الأسمية والصلاة في صورة الجملة الفعلية غير ضائر لاتفاقهما هنا في كونهما إنشاء وسيأتي في مسألة هل المشترك عام استغراقي في مفاهيمه أن الصلاة موضوعة للاعتناء بإظهار الشرف وتتحقق منه تعالى بالرحمة، ومن غيره بدعائه له.
ثم كما قال بعض المحققين: أجمع الأقوال الشارحة للرسالة الإلهية أنها سفارة بين الحق والخلق تنبه أولي الألباب على ما تقصر عنه عقولهم من صفات معبودهم ومعادهم، ومصالح دينهم ودنياهم، ومستحثات تهديهم ودوافع شبه ترديهم، والأصح أنها غير مرادفة للنبوة وبينهما فروق شهيرة، فلا جرم أن قال القاضي عياض: والصحيح الذي عليه الجمهور أن كل رسول نبي من غير عكس، وهو أقرب من نقل غيره الإجماع عليه لنقل غير واحد الخلاف في ذلك، ومما قيل في التفرقة بينهما أن الرسول مأمور بالإنذار، وأنه يأتي بشرع مستأنف ولا كذلك النبي، وإن كان قد أمر بالتبليغ، وأنه يأتيه الوحي من جميع وجوهه والنبي يأتيه الوحي من بعض وجوهه والنبوة، والرسالة أشرف مراتب البشر ثم لما كان من جملة ما يقع به التفضيل الثمرة والجدوى قال الشيخ شهاب الدين القرافي: وجاء من هذا الوجه تفضيل الرسالة على النبوة فإنها تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي فنسبتها إلى النبوة كنسبة العالم إلى العابد، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يلاحظ في النبوة جهة أخرى يفضلها بها على الرسالة وكان يقول النبوة عبارة عن خطاب الله تعالى نبيه بإنشاء حكم يتعلق به كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فهذا وجوب متعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم والرسالة خطاب يتعلق بالأمة، والرسول عليه السلام أفضل من الأمة بالخطاب المتعلق به فيكون أفضل من جهة شرف المتعلق فإن النبوة هو متعلقها، والرسالة متعلقها الأمة، وإنما حظه منها التبليغ فهذان وجهان متعارضان ولا مانع من أن تكون الحقيقة الواحدة لها شرف من وجه دون وجه ا هـ. وقطع في مؤلف له بأن النبوة أفضل قائلا: لأن النبوة إخبار عما يستحقه الرب سبحانه من صفات الجلال ونعوت الكمال، وهي متعلقة بالله من طرفيها، والإرسال دونها أمر بالإبلاغ إلى العباد فهو متعلق بالله من أحد طرفيه وبالعباد من الطرف الآخر ولا شك أن ما تعلق بالله من طرفيه أفضل مما تعلق من أحد طرفيه. والحاصل أن النبوة راجعة إلى التعريف بالإله وبما يجب للإله، والإرسال راجع إلى أمره الرسول بأن يبلغ عنه إلى عباده أو إلى بعض عباده ما أوجبه عليهم من معرفته وطاعته واجتناب معصيته، والنبوة سابقة على الإرسال فإن قول الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] مقدم على قوله {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24،والنازعات: 17] فجميع ما أخبره به قبل قوله:
 ج / 1 ص -14-
 
  
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24 والنازعات: 17] نبوة، وما أمره بعد ذلك من التبليغ فهو إرسال، وأفاد أيضا - رحمه الله تعالى - أن الإرسال من الصفات الشريفة التي لا ثواب عليها، وإنما الثواب على أداء الرسالة التي حملها، وأما النبوة فمن قال النبي هو الذي ينبئ عن الله قال يثاب على إنبائه عنه؛ لأنه من كسبه، ومن قال بما ذهب إليه الأشعري من أنه الذي نبأه الله قال لا ثواب له على إنباء الله تعالى إياه لتعذر اندراجه في كسبه وكم من صفة شريفة لا يثاب الإنسان عليها كالمعارف الإلهية التي لا كسب له فيها وكالنظر إلى وجه الله الكريم الذي هو أشرف الصفات ثم لا شك في أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الإنس والجن كما دل عليه الكتاب والسنة، وانعقد عليه الإجماع. وأما أنه هل هو مرسل إلى الملائكة أيضا فنقل البيهقي في شعب الإيمان عن الحليمي من غير تعقب نفي إرساله إليهم، ومشى عليه فخر الدين الرازي بل في نسخة من تفسير سورة الفرقان في تفسيره أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولا إلى الملائكة ا هـ. فما في تشنيف المسامع بجمع الجوامع بعد ذكر هذه مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع فاضل درس عندهم، وقال لهم الملائكة ما دخلت في دعوته فقاموا عليه ما لفظه. وذكر فخر الدين في تفسير سورة الفرقان الدخول محتجا بقوله تعالى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] والملائكة داخلون في هذا العموم. ا هـ غلط فليتنبه له.
ومحمد أشهر أسمائه الأعلام، وهل هو منقول أو مرتجل فعلى ما عن سيبويه أن الأعلام كلها منقولة، وما قيل في تفسير المرتجل بأنه الذي لم يثبت له أصل يرجع استعماله إليه، وإنما هو لفظ مخترع أو أنه الذي استعمل من أول الأمر علما ولم يستعمل نكرة هو منقول إما عن اسم المفعول أو المصدر مبالغة؛ لأن هذه الصيغة كما تكون اسم مفعول كما هو الظاهر الكثير قد تكون مصدرا كما في قوله تعالى {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19]، وقولهم جربته كل مجرب. ووجه كونه منقولا على القولين الأولين ظاهر، وأما على الثالث فلأنه استعمل صفة قبل التسمية به، وعرف بأداة التعريف قال الأعشى:
 إلى الماجد الفرع الجواد المحمد
وعلى ما عن الزجاج الأعلام كلها مرتجلة؛ لأن النقل خلاف الأصل فلا يثبت إلا بدليل، ولا دليل على قصد النقل إذ لا يثبت إلا بالتصريح من الواضع ولم يثبت عنه تصريح هو مرتجل. وعلى كونه مرتجلا مشى ابن معط ولا ينافيه قول القائل فيه:
  
وشق له من اسمه ليجله  فذو العرش محمود وهذا محمد  
 
 
ولا قول أهل اللغة يقال رجل محمد، ومحمود أي كثير الخصال المحمودة لكن لعل النقل أشبه.
ثم أيا ما كان فكما قال العلماء إنما سمي بهذا الاسم؛ لأنه محمود عند الله، وعند أهل السماء والأرض، وإن كفر به بعض أهل الأرض جهلا أو عنادا، وهو أكثر الناس حمدا إلى غير ذلك، وقد منع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحد غيره إلى أن شاع قبيل إظهاره للوجود الخارجي أن نبيا يبعث اسمه محمد فسمى قليل من العرب أبناءهم به رجاء من كل أن يكون
 ج / 1 ص -15-
 
  
ابنه ذلك ثم منع الله كلا منهم أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه سبب يشكك أحدا في أمره. ثم المفيد لصحة وصفه بما مدحه به من قوله "أفضل من عبده من عباده" الكتاب والسنة والإجماع التي من خالف شيئا منها فقد ضل طريق سداده، وكذا لا ريب في كونه أعلم الخلق بالله وأتقاهم، وأنه أرحم بأمته من الوالد العطوف بأولاده "وأقوى من ألزم" باللسان والسنان من أمكنه تبليغه "أوامره" ليفوز الملزم بذلك بالسعادة السرمدية أبد آباده "ونشر ألوية شرائعه" على اختلاف موضوعاتها وتباين محمولاتها فغدت على ممر الأحقاب مرفوعة الأعلام "في بلاده" ثم يجوز أن يكون المراد بالأمر هنا دينه وشرعه كما في الحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" بدليل ما في لفظ آخر له "من أحدث في ديننا ما ليس فيه رد" وجمعه نظر إلى أنواع متعلقاته من الاعتقادات والعمليات، ويجوز أن يكون المراد به ضد النهي، وعلى هذا إنما لم يذكر النواهي اكتفاء بأحد الضدين كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 21] أي والبرد على أحد القولين ثم لا يخفى ما في قوله ونشر ألوية شرائعه في بلاده من حسن الاستعارة المكنية التخيلية المرشحة على طريقة صاحب التلخيص فإنه أضمر في النفس تشبيه الشرائع بالملوك ذوي الجيوش والرايات بجامع ما بينهما من السلطنة، ونفاذا لحكم في متعلقهما فإن الشرائع الإلهية المتعلقة بالمكلفين نافذة أحكامها فيهم وواجب عليهم طاعة مقتضاها أبلغ من نفاذ أحكام الملوك في أتباعهم ورعاياهم، وآكد من طاعة الرعايا لهم ثم رشح ذلك تخييلا بذكر نشر الألوية في البلاد فإن هذا من لوازم المشبه به وهو صفة كمال له. ثم ما زال صلى الله عليه وسلم قائما بأعباء التبليغ ودعوة الخلق إلى دين الإسلام وطاعة الرحمن بنفسه وكتبه ورسله إلى البلاد بحسب الاستطاعة والإمكان "حتى افترت ضاحكة عن جذل بالعدل والإحسان" يقال افتر فلان ضاحكا إذا ضحك حتى بدت أسنانه فضاحكة منصوب على الحال من الضمير الذي للبلاد في افترت من قبيل الحال المؤكدة لعاملها كقوله تعالى {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً} [النمل: 19]. وعن جذل بفتح الجيم والذال المعجمة أي عن فرح وابتهاج مصدر جذل يجذل من حد علم يعلم وهو متعلق بافترت في محل النصب على أنه مفعول به وبالعدل والإحسان متعلق بجذل في محل النصب على أنه مفعول به أيضا أي حتى تجاوز افترار البلاد عن الفرح والسرور بما بسط الله في بسطتها من التوسط في الأمور اعتقادا كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملا كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب وخلقا كالجود المتوسط بين البخل والتبذير إلى غير ذلك، ومن الإحسان في الطاعات كمية وكيفية، وفي معاملة الخلق، ومعاشرتهم حتى في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب ولا يخفى ما في هذه الغاية من حسن الاستعارة المكنية التخيلية المرشحة فإنه أضمر في النفس تشبيه البلاد بالعقلاء من بني آدم بجامع أن كلا منهما محل لمظاهر الأحكام، وإقامة شرائع الإسلام ثم رشح ذلك تخييلا بالتبسم والضحك الناشئ عن السرور والفرح بهما فإن ذلك من لوازم فرح العقلاء عادة وصفة كمال لهم فعم البلاد آثار هذا الجود
 ج / 1 ص -16-
 
  
والامتنان "بعد طول انتحابها على انبساط بهجة الإيمان" لكثرة ما اشتملت عليه من الكفر والطغيان والظلم والعدوان. ثم النحيب رفع الصوت بالبكاء، والانبساط هنا ترك الاحتشام، والبهجة الحسن وهذا ترشيح آخر للاستعارة الماضية. البيان "ولقد كانت" البلاد في ذلك الزمان.
"كما قيل:
  
وكأن وجه الأرض خد متيم  وصلت سجام دموعه بسجام  
 
 
المتيم العاشق من تيمه الحب ذلك وجعله عبدا لمحبوبه وسجم الدمع سجوما سال وانسجم، وإنما كان المحب على هذا الحال من الحزن والاكتئاب لما يتوارد عليه من ألوان العذاب في معاملة الأحباب، ولا سيما إذا بعد من ذلك الجناب، وفقد ما يوصله إليه من الأسباب بل ربما يبكي المحب في حالة القرب مخافة الافتراق كما يبكي حالة البعد من شدة الاشتياق كما قال القائل:
  
وما في الدهر أشقى من محب  وإن وجد الهوى حلو المذاق  
 
  
تراه باكيا أبدا حزينا  لخوف تفرق أو لاشتياق  
 
  
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم  ويبكي إن دنوا خوف الفراق  
 
 
ثم غير خاف وجه هذا التشبيه وحسن ما فيه. وقد سألت المصنف رحمه الله عن اسم صاحب هذا البيت فذكر أنه لا يحضره، وقتئذ، وأن البيت مذكور في كتاب نور الطرف ونور الظرف
ثم إن المصنف ختم هذه الصفات المادحة للنبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه ثانيا عودا على بدء لما عنده من الشغف بذلك، ويحق له ذلك وليقرنها بالسلام عليه كما اقترنا في الأمر بهما في الكتاب العزيز فيخرج عن عهدة ما قيل من كراهة إفرادها عنه، وإن لم يكن ذلك صحيحا كما بيناه في كتابنا حلبة المجلي وليقرب أتباع الآل والصحب له في ذلك فإن لهم من الاختصاص بذاته الشريفة ما ليس لسائر الأمة، وقد وصل إلى الأمة بواسطتهم من الخيرات، وأسباب البركات ولا سيما من تبليغ الأحكام الشرعية للمكلفين ما لم يصل مثله إليهم بواسطة غيرهم من اللاحقين فقال "صلى الله عليه وسلم وعلى آله الكرام، وأصحابه الذين هم مصابيح الظلام وسلم تسليما". على أن الطبراني في الأوسط، وأبا الشيخ في الثواب وغيرهما رووا بسند فيه ضعف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة يستغفرون له ما دام اسمي في ذلك الكتاب "، وفي لفظ لبعضهم من كتب في كتابه صلى الله عليه وسلم لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام في كتابه، ومثل هذا مما يغتنم ولا يمنع منه الضعف المذكور لكونه من أحاديث الفضائل ولم يضعف بالوضع.
وقد اختلف في أصل الآل فسيبويه والبصريون أهل فأبدلت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا والكسائي ويونس وغيرهما أول
 ج / 1 ص -17-
 
  
فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها كما في قال وهذا هو الصحيح أما أولا فلأن هذا الانقلاب قياس مطرد في الأسماء والأفعال حتى صار من أشهر قواعد التصريف والاشتقاق بخلاف انقلاب الهاء همزة حتى قال الإمام أبو شامة: إنه مجرد دعوى، وحكمه العرب تأباه إذ كيف يبدل من الحرف السهل وهو الهاء حرف مستثقل وهو الهمزة التي عادتهم الفرار منها حذفا وإبدالا وتسهيلا مع أنهم إذا أبدلوا الهاء همزة في هذا المكان فهي في موضع لا يمكن إثباتها فيه بل يجب قلبها ألفا فأي حاجة إلى اعتقاد هذا التكثير من التغيير بلا دليل ولا يشكل بماء لقيام الدليل على إبدال الهاء فيه همزة ليقوى على الإعراب. وأما أرقت فالهاء فيه بدل من الهمزة لا بالعكس، وأما ثانيا فلاختلافهما استعمالا مع عدم الموجب لذلك فيما يظهر فإن الآل لم يسمع إلا مضافا إلى معظم ذي علم علم أو ما جرى مجراه يصلح أن يكون مرجعا، ومآلا بخلاف الأهل فإنه يضاف إلى معظم وغير معظم ذي علم وغير ذي علم علما ونكرة، ومن ثمة يقال آل محمد وآل إبراهيم ولا يقال آل ضعيف ولا آل الدار ويقال أهل ضعيف، وأهل الدار، وأما قول عبد المطلب في الاستغاثة بالله على أصحاب الفيل:
  
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك  
 
 
فالظاهر أنه على سبيل المشاكلة كما في {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]. والأصل في الاسمين إذا اتحدا أن يتساويا في الاستعمال إلا لموجب ولا موجب هنا فيما يظهر وبهذا يندفع ما احتج به القائلون: إن أصله أهل من أنه سمع في تصغيره أهيل لا أويل، والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها، ووجه اندفاعه أنه لم يسمع مصغرا بالشروط المذكورة، وإنما سمع في نحو يا أهيل الحمى يا أهيل النقى، وقد عرفت من أنه لا يقال آل الدار بل يقال أهلها أنه لا يقال آل الحمى والنقى بل أهلهما فأهيل الحمى والنقى تصغير أهل حينئذ لا آل وكأن اختصاصه بذوي الخطر من ذوي العلم الأعلام منع من ذلك. ويبقى بعد هذا علاوة على ما ذكر الكسائي أنه سمع أعرابيا فصيحا يقول أويل في تصغير آل، وأما ثالثا فإن الآل إذا ذكر مضافا إلى من هو له ولم يذكر من هو له معه مفردا أيضا تناوله الآل كما يشهد به كثير من المواقع كقوله تعالى {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] {اَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] إذ لا ريب في دخول فرعون في آله في كلتا الآيتين وكما في الصحيحين في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم علمهم أن يقولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم فإن إبراهيم داخل فيما صلى الله عليه بل هو الأصل المستتبع لسائر آله، وما فيهما أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى أن أباه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى "، ومعلوم أن أبا أوفى هو المقصود بالذات بهذه الدعوة ولا كذلك الأهل إذ لو قيل مثلا جاء أهل زيد لم يدخل زيد فيهم ثم الصحيح جواز إضافته إلى المضمر واختلف في المراد بهم في مثل هذا الموضوع فالأكثرون أنهم قرابته الذين حرمت عليهم الصدقة على الاختلاف فيهم، وقيل جميع أمة الإجابة، وإلى هذا مال مالك على ما ذكر ابن العربي واختاره الأزهري ثم النووي في شرح مسلم، وقيل غير ذلك، وبسط الكلام
 ج / 1 ص -18-
 
  
فيه له موضع غير هذا الكتاب. والكرام جمع كريم وهو قد يراد به الجواد الكثير الخير المحمود، وقد يراد به الذات الشريفة، وقد يراد به كل ذات صدر منها منفعة وخير، وآله لم يخلو من هذه الأوصاف غالبا، ومن كرمهم عموما تحريم أوساخ الناس عليهم ودخولهم في الصلاة عليه تبعا له حتى في الصلاة، ومن لطيف ما يؤثر مما يناسب هذا ما حكى الخطيب قال دخل يحيى بن معاذ على علوي ببلخ أو بالري زائرا له، ومسلما عليه فقال العلوي ليحيى ما تقول فينا أهل البيت فقال ما أقول في طين عجن بماء الوحي وغرست فيه شجرة النبوة وسقي بماء الرسالة فهل يفوح منه إلا مسك الهدى، وعنبر التقوى، فقال العلوي ليحيى إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك فلك الفضل زائرا ومزورا والأصحاب جمع صحب قاله الجوهري، وفي صحيح البخاري الأشهاد واحده شاهد مثل صاحب وأصحاب، وهو أشبه وسيأتي في مسألة الأكثر على عدالة الصحابة أن الصحابي عند المحدثين وبعض الأصوليين من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، ومات على الإسلام أو قبل النبوة، ومات قبلها على الحنفية كزيد بن عمرو بن نفيل أو ارتد، وعاد في حياته، وعند جمهور الأصوليين من طالت صحبته متتبعا له مدة يثبت معها إطلاق صاحب فلان عرفا بلا تحديد في الأصح ويذكر ثمة مزيد تحقيق لهذا إن شاء الله تعالى. وفي وصفهم بكونهم مصابيح الظلام إشارة على سبيل التلميح إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم" وسيأتي الكلام عليه مع تخريجه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى فإن النجوم تسمى مصابيح أيضا كما قال تعالى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] ثم غير خاف أن بين الآل والأصحاب عموما وخصوصا من وجه، وأن ذلك ليس بمانع من عطف أحدهما على الآخر
"وبعد فإني بعد أن صرفت طائفة من العمر" أي مدة من مدة الحياة في الدنيا "في طريقي الحنفية والشافعية في الأصول خطر لي أن أكتب كتابا مفصحا عن الاصطلاحين" في الأصول للفريقين كائنا "بحيث يطير من أتقنه إليهما بجناحين" أي بحيث يصل من أحاط بما فيه دراية إلى معرفة الاصطلاحين ولا يخفى ما في هذه الاستعارة المكنية التخيلية المرشحة من اللطف والحسن فإنه شبه في النفس الاصطلاحين بالمكان الرفيع بجامع علو المقام بينهما، وإن كان العلو في المكان حسيا، وفي الاصطلاحين عقليا، والمتقن للكتاب بالطائر بجامع السعي السريع بينهما الموصل للمطلوب، وأثبت للمشبه الجناحين اللذين لا قوام للمشبه به إلا بهما تخييلا وترشيحا، وما دعاني إلى قصد كتابة كتاب بهذه المثابة إلا "إذا كان من علمته أفاض في هذا المقصود" أي من صنف كتابا في بيان الاصطلاحين المذكورين كالنحرير العلامة صاحب البديع فإنه ذكر في ديباجته: قد منحتك أيها الطالب لنهاية الوصول إلى علم الأصول هذا الكتاب البديع في معناه المطابق اسمه لمسماه لخصته لك من كتاب الأحكام ورصعته بالجواهر النفيسة من أصول فخر الإسلام ثم قال: وهذا الكتاب يقرب منهما البعيد ويؤلف الشريد، ويعبد لك الطريقين ويعرفك اصطلاح الفريقين "لم يوضحهما حق الإيضاح ولم
 ج / 1 ص -19-
 
  
يناد مرتادهما" أي طالبهما بالنصب مفعول ينادي، وفاعله "بيانه إليهما بحي على الفلاح" وهذا قد صار في العرف مثلا يستعمل في اشتهار التبليغ والإيقاظ له. والإفصاح عن المقصود مأخوذ من قول المؤذن ذلك فكنى بهذا القول عن عدم بيان من صنف في بيان الاصطلاحين إياهما على الوجه الواضح الجلي المستوفي؛ لأنك تارة ترى بعض المواضع منه عاريا من التمييز بينهما، وتارة ترى بعضا منه خاليا من أحدهما "فشرعت في هذا الغرض" وهو كتابة كتاب مفصح على الاصطلاحين بحيث يطير من أتقنه إليهما بجناحين "ضاما إليه" أي إلى بيان الاصطلاحين "ما ينقدح" أي يظهر "لي من بحث" وسيأتي تعريفه "وتحرير" أي تقويم "فظهر لي بعد" كتابة شيء "قليل" من ذلك "أنه" أي هذا المشروع فيه إذا تم "سفر" أي كتاب "كبير، وعرفت من أهل العصر" أي من مشتغلي زماني "انصراف هممهم" أي توجهها جمع همة وهي اسم من الاهتمام بمعنى الاغتمام من هم إذا تدافع في القصد، وقيل هي الباعث القلبي المنبعث من النفس لمطلوب كمالي، ومقصود عال "في غير الفقه إلى المختصرات، وإعراضهم عن الكتب المطولات" وخصوصا إن كانت تلك المختصرات بالمعنى الحقيقي اللغوي للاختصار وهو رد الكثير إلى القليل، وفيه معنى الكثير، وقد يعبر عنه بما دل قليله على كثيره كما هو منقول عن الخليل بن أحمد فإن اختيار المختصرات حينئذ متجه؛ لأن المختصر أقرب إلى الحفظ، وأنشط للقارئ، وأوقع في النفس، ومن ثمة تداول الناس إعجاز قوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وعجبوا من وجيز قوله سبحانه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، ومن اختصار قوله عز وجل {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] الآية. وقالوا إنها أخصر آية في كتاب الله واستحسنوا اختصار قوله جل، وعلا {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] حيث جمع في هذا اللفظ الوجيز بين جميع المطعومات والمشروبات والملبوسات وغيرها ولفضل الاختصار على الإطالة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا"، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل غير أن للإطالة موضعا تحمد فيه ولذلك لم يكن جميع كتاب الله الكريم مختصرا، ومن هنا اختيرت المطولات أيضا في الفقه واللغة والتواريخ لتعلق الغرض باتساع ما فيها من الجزئيات التي لا يجمعها ضابط في الغالب. "فعدلت" بهذا السبب عن إتمام ذلك "إلى" تصنيف "مختصر متضمن إن شاء الله تعالى الغرضين" يعني - والله أعلم - غرضه الذي هو ذكر الاصطلاحين على الوجه الذي قصده من الإيضاح والإتقان، وغرض أهل العصر الذي هو الاختصار في البيان "واف بفضل الله سبحانه بتحقيق متعلق العزمين" يعني - والله أعلم - بأحد العزمين العزم على بيان الاصطلاحين على الوجه الذي ذكره وبالآخر العزم على ضم ما ينقدح له من بحث وتحرير إلى ذلك، ومتعلقهما البيان والضم المذكوران والعزم القصد المصمم، وقد يعبر عنه بجزم الإرادة بعد التردد، والباء في بفضل الله إما بمعنى من أو للسببية، وفي بتحقيق للتعدية وهو ظاهر. "غير أنه" أي هذا المعدول إليه "مفتقر إلى الجواد الوهاب تعالى أن يقرنه" بكسر الراء وضمها "بقبول أفئدة العباد" والجواد بالتخفيف من
 ج / 1 ص -20-
 
  
أسماء الله تعالى، ورد في عدة أحاديث منها حديث أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه وهو في كلام العرب الكثير العطاء، وقال أبو عمرو بن العلاء: الكريم، وأما كون الوهاب من أسمائه تعالى فمما تظافر عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو في حقه تعالى يدل على البذل الشامل والعطاء الدائم بغير تكلف ولا غرض ولا عوض، واختلف في أنه من صفات الذات أو الأفعال، والوجه الصحيح الظاهر أنه من صفات الأفعال. "وأن يتفضل عليه بثواب يوم التناد" أي يوم القيامة سمي به؛ لأنه ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة أو يتنادى أصحاب الجنة، وأصحاب النار، وقيل غير ذلك وهذا إذا لم تكن الدال مشددة، فإن كانت مشددة فلأنه يند بعضهم من بعض أي يفر كما قال تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34] الآية. والأول هو الرواية، وقراءة السبعة في قوله تعالى {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر: 32]، وإنما كان هذا المصنف محتاجا إلى كل من هذين الأمرين؛ لأن الغرض في الدنيا من التصنيف نشر المصنف والتحلي بمعرفته، وهو لا يتم إلا بعلاقة القلوب بكتابته، ومدارسته واعتقاد صحته وحقيقته، وفي الآخرة إفاضة الجود والإحسان من الكريم المنان مسببا ذلك في الجملة عما عاناه المصنف في ذلك العمل في سالف الأزمان، ولما كان ذلك مقذوفا بمقتضى فضل الله الذي يخص به سبحانه من شاء من أفراد الإنسان. قال: "والله سبحانه وتعالى أسأل ذلك" أي جعله في الدنيا مقبولا، وفي الآخرة جزيل الثواب حبلا موصولا وذلك مما يصلح أن يقع إشارة إلى المثنى بدليل قوله {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]، وقدم المفعول وهو الاسم الجليل للاهتمام والتخصيص "وهو سبحانه نعم الوكيل" وكفى به وكيلا، وكيف لا وهو المستقل بجميع ما يحتاج إليه جميع الخلق، وقد وكل أمور خلقه إليه ووكل عباده المتوكلون عليه أمورهم إليه ثم هذا من أسمائه تعالى التي تظافر عليها الكتاب والسنة والإجماع، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول، وعليه تفسيره بالموكول إليه الأمور من تدبير البرية وغيرها، وأن يكون بمعنى فاعل، وعليه تفسيره بالكفيل بالرزق والقيام على الخلق بما يصلحهم وبالمعين وبالشاهد وبالحفيظ وبالكافي إلى غير ذلك ثم أفاد القرطبي أنه إذا كان الوكيل الذي وكل عباده أمورهم إليه واعتمدوا في حوائجهم عليه فهو وصف ذاتي فيه معنى الإضافة الخاصة إذ لا يكل أمره إليه من عباده إلا قوم خاصة وهم أهل العرفان، وإذا كان الوكيل الذي وكل أمور عباده إلى نفسه، وقام بها وتكفل بالقيام عليها كان وصفا فعليا مضافا إلى الوجود كله؛ لأن هذا الوصف لا يليق بغيره، وعلى هذا يخرج شرح العلماء لهذا الاسم ويتضمن أوصافا عظيمة من أوصافه كحياته وعلمه وقدرته، وغير ذلك، والضمير المرفوع المنفصل هو المخصوص بالمدح قدمه للتخصيص. "وسميته بالتحرير" لكونه مشتملا على تقويم قواعد هذا الفن وتقريب مقاصده وتهذيب مباحث هذا العلم وكشف القناع عن وجوه خرائده "بعد ترتيبه على مقدمة هي المقدمات" الآتي ذكرها، وهي الأمور الأربعة بيان المفهوم الاصطلاحي للاسم الذي هو لفظ أصول الفقه، وبيان موضوعه أي التصديق بأنه ما هو، وبيان المقدمات المنطقية التي هي جملة مباحث النظر وطرق معرفة صحيحه وفاسده وبيان استمداده من أي شيء فصارت
 ج / 1 ص -21-
 
  
المقدمة تقال على كل واحد من البيانات الأربعة، وعلى مجموع البيانات كما يقال لكل فرد إنسان وللكل الإنسان، وقد يقال إنسان بمعناه، وعليه قوله مقدمة هي المقدمات ذكره المصنف.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: فظهر من هذا أن المراد بالمقدمة هنا ما يذكر أمام الشروع في العلم لتوقف الشروع على بصيرة أو زيادتها عليه، ولما كان كل من هذه الأمور المذكورة لا تنفك عند التحقيق عن أحد هذين كما أن جملتها لا تنفك عنهما بطريق أولى ساغ أن يترجم عن هذا المعنى بلفظ مفرد نكرة نظرا إلى أنه معنى كلي تشترك فيه هذه الماصدقات فيكفي في التعبير عنه اسم الجنس النكرة؛ لأن الأصل في الأسماء التنكير على ما عرف ثم لا موجب هنا يوجب مخالفته على أن ما كان على الأصل لا يسأل عن سببه. ثم لما كانت المقدمات عبارة عن الأمور المذكورة، وقد تقدم الشعور بالمعنى الكلي الشامل لها بحيث يعد كل منها من ماصدقاته لاستبداد كل منها في إفادة أحد ذينك الأمرين، وإن كان بعضها أتم من بعض باعتبار تقدم اللفظ الحامل له أعني لفظ مقدمة تعين إذ جمعت هذه الماصدقات، ووقعت تفسيرا له أن تعرف، ويكون التعريف فيها للعهد الذكري؛ لتقدم مدلولها معنى كما قالوا في قوله تعالى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] فتأمله. هذا وأفاد المصنف رحمه الله أنه إنما لم يقل على مقدمة في كذا كما في كلام غير واحد؛ لأنه يستدعي تكلف كلام في مجازية الظرف المفاد بفي وبعد الفراغ منه يظهر أن حقيقة المقدمة ليس إلا عين البيان للأمور التي تقدمت معرفتها على الشروع في الفن يوجب حصول زيادة البصيرة فيه فأسقط بذلك مؤنة ذلك ونبه على ما قد يغفل عنه من أنها هي المذكورات بعينها أعني البيانات بمعنى الحاصل بالمصدر. ا هـ.
فإن قلت: المشهور كون مقدمة العلم حده وغايته والتصديق بموضوعه فما بال المصنف أسقط ذكر الغاية وذكر المقدمات المنطقية والاستمداد؟. قلت: لأنه قد صرح غير واحد من المحققين منهم الشريف الجرجاني بأن ما جرت به العادة من ذكرهم وجه ما اشتملت عليه مقدمة العلم من حده وغايته والتصديق بموضوعه لم يقصدوا به بيان حصر المقدمة فيها بل توجيه ما ذكر فيها حتى ولو وجد غيرها مشاركا لها في إفادة البصيرة ساغ ضمه وجعله منها. وعلى قياس هذا ولو ظهر عدم الاحتياج إلى بعضها في إفادة البصيرة لسد غيره مسده جاز أيضا إسقاطه استغناء بغيره عنه، ولا مرية في مشاركة المقدمات المنطقية والاستمداد لهذه الأمور في إفادة البصيرة كما أنه لا احتياج إلى ذكر الغاية مع ذكر الحد في هذا الغرض كما سيتعرض له المصنف فيما سيأتي، ويذكر عنه ثمة توجيهه إن شاء الله تعالى. ومن هذا يظهر أن حصر المقدمة في الأمور المذكورة ليس من حصر الكل في أجزائه كما هو ظاهر كلام غير واحد بل من حصر الكلي في جزئياته أو في جزئيات منها بحسب الاستيفاء لها وعدمه، كما مشى عليه المصنف ثم المقدمة اسم فاعل على المشهور قيل من قدم لازما بمعنى تقدم كبين بمعنى تبين، وقيل متعديا؛ لأن هذه الأمور لما فيها من سبب التقدم كأنها
 ج / 1 ص -22-
 
  
تقدم غيرها أو لإفادتها الشروع بالبصيرة تقدم من عرفها من الشارحين على من لم يعرفها. وعن الزمخشري أن فتح الدال خلف، وعن غيره جوازه إذا كانت من المتعدي فلعل ما عن الزمخشري محمول على ما إذا كانت من اللازم فلا يكون بين هذين تعارض ثم لم يبين الزمخشري وجه منع الفتح قيل: ولعله أن في الفتح إيهام أن تقدم هذه الأمور إنما هو بالجعل والاعتبار دون الاستحقاق الذاتي وهو خلاف المقصود؛ لأن تقدم هذه الأمور إنما هو بسبب استحقاقها للتقدم بحسب الذات كما بين في موضعه ا هـ.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: وفيه أيضا من جهة اللفظ عدم ذكر الجار والمجرور، ويلزم مع اسم المفعول من اللازم ذكر الجار والمجرور كما عرف في موضعه فانتفى على هذا ما قيل أن فتح الدال فيها ليس ببعيد لفظا، ومعنى ثم هل هي منقولة عن مقدمة الجيش فيكون لفظها في مقدمتي العلم والكتاب حقيقة عرفية، أو مستعارة منها فتكون مجازا فيهما أو كلاهما موجود فيها بناء على أنها في الأصل صفة حذف موصوفها وأطلقت على الطائفة المتقدمة من المعاني أو الألفاظ على العلم أو على سائر ألفاظ الكتاب، والتاء إما للنقل من الوصفية إلى الاسمية أو لاعتباره مؤنثا كما قالوا: في لفظ الحقيقة احتمالات، ورجح أنها إن كانت بمعنى الوصف أي ذات مؤنثة ثبت لها صفة التقديم، واعتبار معنى التقديم فيها لصحة إطلاق الاسم كالضاربة فإطلاقها على الطائفة المذكورة حقيقة إن كان باعتبار أنها من أفراد هذا المفهوم، ومجاز إن كان بملاحظة خصوصها، وإن كانت بمعنى الاسم واعتبار معنى التقديم لترجح الاسم كما في القارورة فإطلاقها على الطائفة إنما يكون حقيقة لو ثبت وضع واضع اللغات المقدمة لهذه الطائفة. والظاهر أنه لم يثبت بل الثابت إنما هو وضعه لها بإزاء مقدمة الجيش
"وثلاث مقالات في المبادئ" أي، وعلى ثلاث مقالات أولها في بيان التصورات والتصديقات المعدودة من مبادئ هذا العلم "وأحوال الموضوع" أي وثانيها في بيان التصورات والتصديقات الراجعة إلى أحوال موضوع العلم "والاجتهاد" أي وثالثها في بيان ماهية الاجتهاد، وما يقابله وهو التقليد، وما يتبعهما من الأحكام
ثم لما كان المذكور في هذه المقالة ما يفيد أنه ليس من مسائل الفن؛ لأن مسائل الفن ما للبحث فيها رجوع إلى موضوعه، ومسائل الاجتهاد وما يتبعه ليست كذلك كما سنذكره لكن جرت عادة كثير منهم الشافعية أن يذكروها على سبيل اللواحق المتممة للغرض منه إسعافا أشار المصنف إلى ذلك فقال "وهو" أي الاجتهاد مع ما يتبعه "متمم مسائله" بعضها "فقهية" لكون هذا البعض من بيان أحكام أفعال المكلفين كمسألة الاجتهاد واجب عينا على المجتهد في حق نفسه، وكذا في حق غيره إذا خاف فوت الحادثة على غير الوجه، وحرام في مقابلة قاطع نص أو إجماع إلى آخر أقسامها إلى غير ذلك فإن الاجتهاد فعل المجتهد، وهو بذل وسعه في طلب الحكم الشرعي، وكل من الوجوب والحرمة وباقي محمولات أقسام موضوعات المسألة
 ج / 1 ص -23-
 
  
حكم شرعي، وإلى هذا أشار بقوله "لمثل ما سنذكر" قريبا. بيان الموضوع أن البحث عن حجية الإجماع وخبر الواحد والقياس ليس منه بل من الفقه؛ لأن موضوعاتها أفعال المكلفين، ومحمولاتها الحكم الشرعي فإن مثل هذا الكلام جار في بعض مسائل الاجتهاد الكائن على هذا الوجه، وإنما لم يقل لما سنذكر نظرا إلى خصوص الجزئية الكائن لهذه المسائل فإنه غير الخصوص الكائن لغيرها "واعتقادية" أي وبعضها مسائل اعتقادية لكونه راجعا إلى ما على النفس من الأمور الاعتقادية المنسوبة إلى دين الإسلام كمسألة لا حكم في المسألة الاجتهادية قبل الاجتهاد، ومسألة يجوز خلو الزمان عن مجتهد فإن كلا من هاتين عقيدة دينية منسوبة إلى دين الإسلام غاية الأمر كما قال المصنف أنهم لم يدونوا هذه المسائل في الفقه والكلام، وذلك لا يخرجها عنهما بعد رجوع البحث عنها إلى موضوعهما، وكان مقتضى ما فعله في المقدمة أن يذكر في المقالات نظيره فيقول ثلاث مقالات هي المبادئ ولكن المقالة أجريت مجرى القول بالمعنى المصدري فكان المقول الذي هو نفس العلم متعلقه فيثبت التغاير، والله أعلم. فإن قلت لم اختار الترتيب على التأليف؟. قلت ليشير على سبيل التنصيص إلى أنه وضع ما اشتمل عليه المختصر من الأجزاء مواضعها اللائقة بها من التقديم والتأخير في الرتبة العقلية؛ لأنهم قالوا الترتيب في اللغة جعل كل شيء في مرتبته، وفي الاصطلاح جعل الأشياء المتعددة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، ويكون لبعضها نسبة إلى البعض بالتقديم والتأخير في الرتبة العقلية بخلاف التأليف فإنه جعل الأشياء المتعددة بحيث يطلق عليها اسم الواحد سواء كان لبعضها نسبة إلى بعض بالتقديم والتأخير أم لا فهو أعم من الترتيب فلا يكون فيه إشارة ناصة على هذا المطلوب ثم قد ظهر من هذا أن الضمير المجرور في ترتيبه راجع إلى المختصر مرادا به مضمون ما قام في النفس من الأجزاء والمواد التي يستعقب تركيبها على الوجه المذكور المختصر؛ لأن الصورة معلول الترتيب، ولا ضير في ذلك، وإن كان الضمير في سميته راجعا إلى المختصر مرادا به معناه المقرر له في الخارج المتبادر من إطلاقه فإن مثله شائع بل هو من التحسين المعنوي المسمى بالاستخدام عند أهل البديع فتنبه له.
 ج / 1 ص -24-
 
  
المقدمة
[الأمر الأول: في مفهوم اسم أصول الفقه]
"المقدمة" المذكورة فالتعريف فيها للعهد الذكري "أمور" أربعة، وقد عرفت لم قال هكذا ولم يقل في أمور الأمر "الأول مفهوم اسمه" أي اسم هذا العلم، وهو لفظ أصول الفقه ووجه تقديم هذا الأمر على غيره ظاهر "والمعروف كونه" أي اسمه حال كونه غير مراد به المعنى الإضافي "علما، وقيل" بل اسمه "اسم جنس لإدخاله اللام" أي لصحة إدخال اللافظ اللام عليه فيقال الأصول، وإلى هذا جنح القاضي تاج الدين السبكي حيث قال وجعله اسم جنس أولى من جعله علم جنس؛ لأنه لو كان علما لما دخلته اللام. قال المصنف "وليس" هذا القول بشيء أو ليس اللام بداخل عليه، وهذا من المصنف مشى على ما ذهب إليه بعض النحويين من جواز حذف الخبر في باب كان وأخواتها في سعة الكلام اختصارا، وإنما قلنا إن هذا ليس بشيء "فإن العلم" بفتح اللام هو الاسم "المركب" الإضافي من لفظي أصول والفقه "لا الأصول" أي لا أحد جزأي هذا المركب الذي هو لفظ أصول فقط ونحن لا ندعي العلمية إلا للمركب المذكور حال كونه غير مراد به المعنى الإضافي، واللام لم تدخل عليه بل على الجزء الأول حالة كونه فاقدا للإضافة مطلقا؛ لأن اللام لا تجامع الإضافة، وقد تعقبها ونحن نقول: إنه حينئذ نكرة فإذا دخلت عليه اللام عرفته ثم لما كان كثيرا ما يطلق لفظ الأصول محلى باللام ويراد به هذا العلم. وقد ظهر أنه سبب وهم القائل أنه اسم جنس أشار إلى وجه ذلك فقال "بل الأصول بعد كونه" في الأصل لفظا "عاما في المباني" أي في كل ما يبنى عليه شيء، سواء كان ذلك في الحسيات كبناء الجدار على الأساس أو في المعنويات كبناء المسائل الجزئية على القواعد الكلية كما هو مقتضى عرف اللغة يعني إذا لم يقصد بالأصول خصوص من المباني فإنه حينئذ من ألفاظ العموم صيغة، ومعنى لكونه جمعا محلى باللام للاستغراق "يقال" لفظ الأصول أيضا قولا "خاصا في المباني المعهودة للفقه" التي هي عبارة عن هذا العلم على سبيل الغلبة عليه من بين سائر المباني كالنجم للثريا أعني الأدلة الكلية والقواعد التي يتوصل بمعرفتها إلى قدرة الاستنباط كما هو عرف الفقهاء حتى صار حقيقة عرفية فيه "فاللام" فيه حينئذ بالنسبة إلى أول حالات إرادتها بخصوصها منه لأهل هذا العرف "للعهد" الذهني ثم صارت بعد ذلك لازمة له كالجزء منه كهي في النجم للثريا يعني، ومن المعلوم أيضا أنه بهذا الاعتبار ليس باسم جنس أيضا بل من الأعلام الكائنة على سبيل الغلبة، وقصارى ما يلزم من هذا أن يكون له اسمان علم منقول لا بطريق الغلبة هو لفظ أصول الفقه، وعلم منقول بطريق الغلبة وهو لفظ الأصول ولا محذور في ذلك. ثم حيث كان المعروف كون اسمه الذي هو أصول الفقه علما فهل هو جنسي أو شخصي؟. فنص المحقق الشريف الجرجاني على أنه من أعلام الأجناس؛ لأن علم أصول الفقه كلي يتناول أفرادا متعددة إذ القائم منه بزيد غير ما قام
 ج / 1 ص -25-
 
  
بعمرو شخصا، وإن اتحد مفهوماهما ولما احتيج إلى نقل هذا اللفظ عن معناه الإضافي جعلوه علما للعلم المخصوص على ما عهد في اللغة لا اسم جنس، وقال المصنف: "والوجه" في علمية أصول الفقه "أنه" أي أصول الفقه علم "شخصي إذ لا يصدق" أصول الفقه "على مسألة" واحدة من مسائله، وهذا أمارة الشخصية؛ لأن الكل لا يصدق على جزئه حقيقة.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: وهذا إنما ينفي كونه اسم جنس لا كونه علم جنس؛ لأن علم الجنس موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن كما هو الصحيح وسيأتي في موضعه من هذا الكتاب ثم هم قد عاملوه معاملة المتواطئ في إطلاقه حقيقة على كل فرد كما صرح به ابن الحاجب وغيره فأصول الفقه إذا كان علم جنس فإنما هو موضوع للحقيقة المتحدة ذهنا التي هي مجموع الإدراكات أو المدركات المتعينة فيه، وأفراد هذا المعنى إنما هي المظاهر الوجودية للحقيقة المذكورة لا مسائله التي هي أجزاء مسماه على القول بأنه موضوع بإزائها فعدم صحة إطلاقه على المسألة الواحدة كما أنه لازم لكونه علم شخص كذلك هو لازم لكونه علم جنس فلا يصلح أن يكون معينا لأحدهما نافيا للآخر نعم يمكن إثبات كونه علم شخص بشيء غير هذا أشار إليه المصنف حال قراءتنا لهذا الموضع عليه وهو ما حاصله مزيدا عليه ما يكسوه إيضاحا وتحقيقا أنا لا نسلم أن هذا الاسم موضوع لأمر كلي يتناول أفرادا متعددة متغايرة قائمة بزيد، وعمرو وغيرهما بل هو موضوع لأمر خاص هو مجموع إحدى الكثرتين الإدراكات الخاصة أو المدركات الخاصة الآتي بيانهما أعني الكثرة الحاضرة المعينة في الذهن، وإن تركبت من مفاهيم كلية فمسماه حينئذ إما مجموع أمور محققة خاصة هي العلم بأن الأمر للوجوب، والعلم بأن النهي للتحريم إلى غير ذلك أو مجموع عين الأمر للوجوب والنهي للتحريم إلى غير ذلك ثم هو يصلح أن يكون متعلقا لإدراك زيد، وعمرو وغيرهما بمعنى أن يكون مدركا لهم. ومن المعلوم أن وقوع هذا له لا يقتضي تعددا له في نفسه من حيث هو بل هو حالة تعلق إدراك زيد به هو بعينه حالة تعلق إدراك عمرو به وهلم جرا كما أن تصورات متصورين لزيد علما وتصديقاتهم بأحواله لا يقتضي تعدده بل هو هو، سواء تعلقت به تصوراتهم وتصديقاتهم بأحواله أو لم تتعلق فإن قلت لا بأس بهذا فيما إذا كان الاسم موضوعا بإزاء المدركات لصحة تعلق الإدراكات بها أما إذا كان موضوعا بإزاء الإدراكات فكيف يسوغ ذلك إذ يصير الإدراك متعلق الإدراك قلت سواغه أيضا ظاهر؛ لأنه حينئذ يكون بالنسبة إلى الإدراك المذكور مدركا، وإن كان هو في نفسه إدراكا أيضا فتأمله. ثم هذا جار في أسماء سائر العلوم، والله سبحانه أعلم.
ثم لما كان تعريف مفهوم هذا الاسم مختلفا باعتبار ما كان اللفظ أولا عليه وباعتبار ما صار ثانيا إليه، وقد أفادوا تعريفه على كليهما وافقهم المصنف على ذلك مشيرا إلى صنيعهم هذا تمهيدا لإفادته لذلك فقال: "والعادة تعريفه مضافا، وعلما" أي تعريف مفهوم اسمه الذي هو لفظ أصول الفقه من حيث كون اسمه مركبا إضافيا ليس بعلم أو حال كونه كذلك، ومن
 ج / 1 ص -26-
 
  
جهة كونه علما على هذا العلم أو حال كونه كذلك والفرق بين الاعتبارين إنه باعتبار الإضافة مركب يعتبر فيه حال الأجزاء وباعتبار العلمية مفرد لا يعتبر فيه حال الأجزاء، ثم بدأ بتعريفه على التقدير الأول ذاكرا معنى كل من جزأيه من حيث تصح الإضافة بينهما كما هو السبيل في مثله مراعاة للتقدم الوجودي فقال: "فعلى الأول" أي فتعريف مفهوم اسمه على تقدير كون الاسم مركبا إضافيا ليس بعلم أن يقال "الأصول الأدلة" فأداة التعريف في الأصول للعهد أي المذكور في قولنا أصول الفقه ثم هي جمع أصل، وعنه لغة عبارات أحسنها ما يبتنى عليه غيره كما ذكره أبو الحسين وغيره. وأشار المصنف آنفا إليه أي من حيث يبتنى عليه لما عرف أن قيد الحيثية لا بد منه في تعريف الإضافيات إلا أنه كثيرا ما يحذف لشهرة أمره ويستعمل اصطلاحا بمعان المناسب منها هنا الدليل كما ذكره المصنف ونذكر وجهه قريبا، والمراد بالأدلة الأدلة الكلية السمعية الآتي بيانهأدلته، وهذا أيضا هو العذر في ترك التقييد لفظا بالسمعية ثم المعين أيضا لذلك كله إضافتها إلى الفقه كما سيتضح وجهه قريبا فإن دلائل الفقه في نفس الأمر كذلك. ثم في هذا المعنى الاصطلاحي المالأدلة مبنى الفقه، ومرجعه بل نص غير واحد من المحققين على أن الأصل هنا بمعنى الدليل ليس منقولاعنى اللغوي؛ لأن هذه  عا، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإنما لم يذكر المصنف لفظ الكلية للعلم به من حيث إن قيد الحيثية مراد منها كما ذكرنا حتى كأنه قال من حيث هي ن المعنى اللغوي السابق، وإنما هو من ماصدقاته، غايته أن بالإضافة إلى الفقه الذي هو معنى عقلي يعلم أن الابتناء هنا عقلي فيكون أصول الفقه ما يبتنى هو عليه ويستند إليه ولا معنى لمستند العلم ومبتناه إلا دليله، وهو حسن نعم إذا أطلق لفظ الأصول مرادا به هذا العلم الخاص يكون علما بطريق الغلبة منقولا كما حققناه سالفا، وإن اندرجت حقيقته في مطلق مسمى الأصول لغة؛ لأن تخصيص الاسم بالأخص بعد كونه للأعم الصادق عليه، وعلى غيره نقل بلا شك، وقد نبه على هذا شيخنا المصنف في غير هذا الكتاب فلا تذهلن عنه.
"والفقه التصديق لأعمال المكلفين التي لا تقصد لاعتقاد بالأحكام الشرعية القطعية مع ملكة الاستنباط" فالتصديق أي الإدراك القطعي سواء كان ضروريا أو نظريا صوابا أو خطأ جنس لسائر الإدراكات القطعية بناء على اشتهار اختصاص التصديق بالحكم القطعي كما في تفسير الإيمان بالتصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، ومن ثمة سيقول المصنف مشيرا إلى ظن الأحكام الشرعية، وعلى ما قلنا ليس هو شيئا من الفقه ولا الأحكام المظنونة إلا باصطلاح ولا يضر استعمال المنطقيين إياه مرادا به ما هو أعم من القطعي والظني؛ لأنهم قسموا العلم بالمعنى الأعم إلى التصور والتصديق تقسيما حاضرا توسلا به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه، ولأعمال المكلفين أي سواء كانت من أعمال الجوارح، وهي حركات البدن أو من أعمال القلوب، وهي قصودها وإرادتها، والمكلف هو العاقل البالغ فصل أخرج التصديق لغير أعمالهم من السماء والأرض وغيرهما بالوجود وغيره والتي لا تقصد لاعتقاد فصل ثان أخرج التصديق لأعمالهم التي تقصد لاعتقاد كالتصديق لطاعاتهم ومعاصيهم
 ج / 1 ص -27-
 
  
بأنها واقعة بقضاء الله تعالى، وقدره وإرادته ومشيئته، والاعتقاد الحكم الذهني الذي لا يحتمل النقيض عند الحاكم لا بتقديره في نفسه ولا بتشكيك مشكك، وهو إن كان مطابقا فصحيح، وإلا ففاسد وسببه الأكثري التقليد، وقوته ورخاوته على حسب مراتب الكبراء في النفوس، والمراد بكونها لا تقصد لاعتقاد أن لا يكون المقصود من الحمل عليها نفس الاعتقاد لها وبالأحكام الشرعية فصل ثالث أخرج التصديق لأعمالهم التي لا تقصد لاعتقاد بما ليس بحكم شرعي من عقلي أو لغوي أو غيرهما. والمراد بالأحكام الشرعية آثار خطابه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو وضعا كما سيأتي بيانه مفصلا في أوائل المقالة الثانية إن شاء الله تعالى. والقطعية فصل رابع أخرج التصديق لأعمالهم التي لا تقصد لاعتقاد بالأحكام الشرعية التي ليست بقطعية من المظنونات وغيرها، والمراد بالقطعية ما ليس في ثبوته احتمال ناشئ عن دليل، ومع ملكة الاستنباط أي مع حصولها لمن قام به هذا التصديق فصل خامس أخرج التصديق المذكور إذا لم تكن معه هذه الملكة، والمراد بها كيفية راسخة في النفس متسببة عن استجماع المآخذ والأسباب والشروط التي يكفي المجتهد الرجوع إليها في معرفة الأحكام الشرعية الفرعية التي بحيث تنال بالاستنباط أي باستخراج الوصف المؤثر من النصوص المشتملة عليه لتعدي ذلك الحكم الكائن للمحال المنصوص عليها إلى المحال التي ليست كذلك لمساواتها إياها في الوصف المذكور، ومن هذا عرفت أنه لا حاجة إلى تقييد الاستنباط بالصحيح كما أفصح به صدر الشريعة وآثر لفظ الاستنباط على الاستخراج ونحوه إشارة إلى ما في استخراج الأحكام من النصوص من الكلفة والمشقة الملزومة لمزيد التعب كما هو الواقع فإن استعماله الكثير لغة في استخراج الماء من البئر والعين والتعب لازم لذلك عادة، وإشارة أيضا إلى ما بين المستخرجين من المناسبة، وهي التسبب إلى الحياة مع أنها في العلم أتم فإن في الماء حياة الأشباح، وفي العلم حياة الأشباح والأرواح. ثم قد وضح من هذا التقرير أن كلا من قوله لأعمال المكلفين، ومن قوله بالأحكام في محل النصب على أنه مفعول به للتصديق، وعداه إلى أحدهما باللام، وإلى الآخر بالباء؛ لأن مما يعبر عنه الحكم، وهو من شأنه أن يعدى إلى أحد مفعوليه بالباء، وإلى الآخر بعلى في مثل هذا التركيب وجعل المعدى إليه باللام هو الأعمال والمعدى إليه بالباء هو الأحكام؛ لأن الأعمال هي الموضوع والأحكام هي المحمول، ومن هنا قدم الأعمال على الأحكام؛ لأن الأصل تقديم الموضوع على المحمول، وأن قوله مع ملكة الاستنباط في محل النصب على أنه حال من التصديق، ثم بقي أن يقال لم قيد الأحكام الشرعية بالقطعية ثم قيد التصديق للأعمال المذكورة بها بمصاحبة هذه الملكة؟. والجواب إنما وقع التقييد بالقطعية دفعا لما كان يلزم من كون الفقه هو التصديق لعامة عمليات المكلفين المذكورة بعامة الأحكام الشرعية لعموم كل من أعمال المكلفين والأحكام الشرعية صيغة ومعنى، ويلزم لكون الفقه هذا المعنى على هذه الصرافة من العموم أنه إلى الآن لم يوجد الفقه والفقيه؛ لأن من المعلوم أن من الأحكام الشرعية الكائنة للأعمال المذكورة ما كل من دلالة النصوص عليه، ومن طريق وصوله إلى المكلفين قطعي كالثابت
 ج / 1 ص -28-
 
  
بالنص من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع المتواتر، وأن هذا مما يمكن إحاطة كثير من المكلفين به فضلا عن المجتهدين. ومنها ما ليس كذلك إما لكون دلالة النصوص عليه غير قطعية أو لكون طريق وصوله إلى كثير من المكلفين غير قطعي كالثابت بالقياس، وبخبر الواحد من حيث هو ثابت بهما، وإن هذا مما لا يمكن لأحد من البشر الإحاطة به فإن الواقعات الجزئية لا تقف عند حد ولا تدخل تحت الضبط والعد؛ لأنها لا تنتهي إلا بانتهاء دار التكليف، واللازم باطل قطعا فالملزوم مثله ثم إنما لم يكتف بالتصديق القطعي للأعمال المذكورة بالأحكام الشرعية القطعية بل ضم إليه ملكة الاستنباط لما علم من أن مفيد الأحكام الشرعية للأعمال المذكورة أحد أمرين النص عليها في خصوص محالها، والقياس على المنصوص حيث تتوفر شروط القياس، وأن الفقيه الذي هو المجتهد هو القيم بكليهما معرفة تفصيلية في المنصوصات السمعية المشار إليها، وملكة لإدراك ما سواها على الوجه الذي يخرج به عن عهدة التكليف بها شرعا ولا يقدح في هذا ثبوت لا أدري في بعض المسائل من بعض من لا شك في كونه مجتهدا كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة تعارضا يوجب الوقف أو لعدم التمكن من الاجتهاد في الحال أو لعارض غير هذين من العوارض الموقفة للمجتهد عن الحكم بشيء معين فإذن لا بد من تقييد التصديق المذكور بملكة الاستنباط ليقع استيفاء جزأي المعنى المتبادر من إطلاق اللفظ اصطلاحا، وإلا كان التعريف غير تام ثم من التأمل في هذا التحقيق يندفع أن يختلج في الذهن أن حصول ملكة الاستنباط شرط للفقه لا شطر. ويظهر ما أشار إليه بقوله "ودخل نحو العلم بوجوب النية" في الفقه حتى تكون النية واجبة في الصلاة والزكاة والصوم والحج من مسائله؛ لأن موضوعها عمل من أعمال المكلفين القلبية التي لا تقصد لاعتقاد، ومحمولها حكم من الأحكام الشرعية القطعية، وهو الوجوب، وقد تعلق التصديق له بالوجوب، وإنما نص على هذا دفعا لوهم اختصاص الأعمال المذكورة بأعمال الجوارح كما وقع لبعضهم، وإنما قال نحو العلم بوجوب النية تنبيها على دخول أمثال هذا مما موضوعه عمل من الأعمال القلبية التي لا تقصد لاعتقاد، ومحموله حكم من الأحكام الشرعية القطعية كالعلم بتحريم الحسد والرياء "وقد يخص" الفقه "بظنها" أي الأحكام الشرعية للأعمال المذكورة حتى شاع أن الفقه من باب الظنون، وهذا طريق الإمام فخر الدين الرازي، وأتباعه، وعليه مشى المصنف في ضمن كلام له في شرح الهداية فقال: والعلم مطلقا بمعنى الإدراك جنس، وما تحته من اليقين والظن نوع، والعلوم المدونة تكون ظنية كالفقه، وقطعية كالكلام والحساب والهندسة ا هـ. وملخص ما قالوا في وجه هذا أن الفقه مستفاد من الأدلة اللفظية السمعية، وهي لا تفيد إلا ظنا لتوقف إفادتها اليقين على نفي الاحتمالات العشرة المعروفة في موضعها، ونفيها ما ثبت إلا بالأصل، والأصل إنما يفيد الظن قالوا وبتقدير أن يكون منه شيء قطعي الثبوت والدلالة فهو مما علم بالضرورة من الدين، وهو ليس من الفقه اصطلاحا منهم على ذلك وسيتعرض المصنف لهذا قريبا. ونذكر ما قيل في وجهه وعليه، وعلى هذا فلا يقال في تعريفه العلم بالأحكام الشرعية
 ج / 1 ص -29-
 
  
الفرعية عن أدلتها التفصيلية كما وقع لبعضهم بل الظن بذلك "وعلى ما قلنا" من أنه التصديق إلخ "ليس هو" أي الظن بالأحكام الشرعية لأعمال المكلفين التي لا تقصد لاعتقاد "شيئا من الفقه" أي جزءا من أجزائه فضلا عن أن لا يكون الفقه سواه "ولا الأحكام المظنونة" أي ولا تكون نفس الأحكام المظنونة جزءا من الفقه أيضا حتى إن الظن بالأحكام الشرعية القطعية للأعمال المذكورة، وما موضوعه عمل من الأعمال المذكورة، ومحموله حكم شرعي مظنون لا يكون من مسائل الفقه "إلا باصطلاح" من الاصطلاحات غير اصطلاحنا المذكور كالاصطلاح بأن الفقه كله ظني فيكون الفقه هو الظن بالأحكام المذكورة للأعمال المذكورة إذا قلنا إن الاسم موضوع بإزاء الإدراك والأحكام المظنونة إذا قلنا إن الاسم موضوع بإزاء المدرك، وإلى الإشارة إلى كون الفقه يقال على كل من هذين المعنيين تعرض لنفيهما تفريعا على ما اختاره من التعريف، وكالاصطلاح بأن منه ما هو قطعي، ومنه ما هو ظني، وقد نص غير واحد من المتأخرين على أنه الحق فيكون حينئذ كل من ظن الأحكام المذكورة، ومن الأحكام المظنونة من الفقه على الاختلاف في مسمى الاسم بقي الشأن في أي من هذه الاصطلاحات أحسن أو متعين، ويظهر أن ما مشى عليه المصنف متعين بالنسبة إلى أن المراد بالفقيه المجتهد لما ذكرنا ونذكر، وأن الثالث أحسن إذا كان موضوعا بإزاء المدرك، وما زال العمل في التدوين له من السلف والخلف على هذا، وغاية ما يلزم على هذا أنه لا يوجد جملة الفقه بهذا المعنى ما بقيت دار التكليف ويلزم منه انتفاء حصوله أجمع بهذا المعنى لأحد من البشر، ولا ضير في ذلك إذ لا قائل بتوقف وجود حقيقة الاجتهاد والمجتهد عليه برمته بهذا المعنى في الواقع لينتفي بسبب انتفاء تمام جملته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"ثم على هذا التقدير"، وهو كون الفقه الظن بالأحكام الشرعية للأعمال المذكورة وكذا على تقدير كون الفقه هو الأحكام الشرعية المظنونة للأعمال المذكورة "يخرج ما علم بالضرورة الدينية" أي يخرج من الفقه ما صار من الأمور الظاهرة المعروف انتسابها إلى دين الإسلام بحيث صار التصديق به كالتصديق البديهي في الاستغناء عن الاستدلال حتى اشترك في معرفة كونه من الدين العوام القاصرون والنساء الناقصات كوجوب الصلوات الخمس على المكلفين، ووجه الخروج ظاهر فإن العناد بين الظن والعلم مفهوما قائم وكذا يخرج هذا من الفقه عند من جعله علما، واشترط في كونه متعلقا بالأحكام والأعمال المشار إليهما أن يكون عن استدلال قيل: والنكتة في ذلك أن الفقه لما كان لغة: إدراك الأشياء الخفية حتى يقال فقهت كلامك ولا يقال فقهت السماء والأرض خص بالعلوم النظرية ولا يخرج هذا من الفقه على قولنا؛ لأنه جزئي من جزئيات العلم القطعي، وهو أوجه فإنه يلزم المخرج إخراج أكثر علم الصحابة بالأحكام الشرعية للأعمال المشار إليهما من الفقه فإنه ضروري لهم لتلقيهم إياه من النبي صلى الله عليه وسلم حسا، ومن المعلوم بعد هذا فكذا ما يفضي إليه.
قال العبد الضعيف - غفر الله تعالى له -: والجواب عن النكتة المذكورة أنا لا نسلم أن الفقه
 ج / 1 ص -30-
 
  
لغة ما ذكرت فقد نص في الصحاح وغيره على أنه الفهم من غير تقييد بشيء، وعلى هذا لا مانع من أن يقال فقهت السماء والأرض كما لا مانع من أن يقال فهمتهما بمعنى علمتهما ولو سلم ذلك فلعل المانع أن الفهم إنما يذكر في الأمور المعنوية والسماء والأرض من المحسوسات ولو سلم ذلك فليس بلازم اعتبار المناسبة بين اللغوي والاصطلاحي في خصوص هذا الوصف ولو سلم ذلك فليس هو بلازم في كل مسألة من مسائله، ولو سلم ذلك فاشتراطه إنما هو بحسب الأصل، وهو موجود في هذا فإن ظهوره إلى هذا الحد إنما هو بعارض كونه قد صار من شعائر الدين فلا يكون هذا العروض له بمانع من جعله من الفقه، وكذا على هذا التقدير يخرج منه ما علم ثبوته قطعا من الأحكام للأعمال المشار إليهما، وإن لم يكن من ضروريات الدين، ومن هذا يعرف أن المصنف إذا كان مصرحا بهذا اللازم لو قال: وعلى هذا التقدير يخرج ما علم ثبوته قطعا لكان أولى لشموله حينئذ ما كان من ضروريات الدين، وما لم يكن كذلك.
"وأما قصره" أي الفقه "على اليقين" أي يقين الأحكام الشرعية العملية بأن جعل اسما له حيث كان موضوعا بإزاء الإدراك "وجعل الظن في طريقه" أي هذا اليقين، وهو مقدمتا القياس الموصل إليه كما أشار إلى هذا الصنيع إمام الحرمين ثم فخر الدين الرازي، ومن تبعه كالبيضاوي فإنه بعد أن تعرض لاعتراض القاضي أبي بكر الباقلاني تعريف الفقه بالعلم بالأحكام الشرعية بقوله قيل الفقه من باب الظنون يعني فلا يجوز أن يؤخذ العلم جنس تعريفه أجاب بما حاصله مشروحا أن المراد بالعلم بالأحكام الشرعية العلم بوجوب العلم بها عن ظن المجتهد ثبوت ذلك الحكم، وهذا أمر قطعي؛ لأنه ثابت بدليل قطعي، وهذا الحكم مظنون المجتهد قطعا وكل مظنون للمجتهد قطعا يجب العمل به قطعا أما كون الصغرى قطعية فظاهر؛ لأن ثبوت ظن الحكم له وجداني والإنسان يقطع بوجود ظنه كما يقطع بوجود جوعه وعطشه، وأما كون الكبرى قطعية فقالوا للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن ثم لم يعينه صاحب المحصول ولا مختصروه، وعينه غيرهم على اختلاف بينهم في تعيينه، وأحسن ما قيل فيه أنه الإجماع كما نقله الشافعي في رسالته ثم الغزالي في مستصفاه واعترض بأنه لا يفيد القطع ودفع بأنه خلاف المختار نعم يشترط في قطعيته أن لا يكون سكوتيا كما هو قول قوم من العلماء، والظاهر أن هذا كذلك فإن الشافعي على ما نقل عنه أنه لا يرى حجية السكوتي فضلا عن كونه قاطعا، وقد نقله في معرض الاستدلال، وأن يكون متواترا، والاستقراء يدل على أنه كذلك حتى زعم بعضهم أن هذا الحكم الثابت به من ضروريات الدين وحيث كانت هاتان المقدمتان قطعيتين فالمطلوب، وهو فهذا الحكم يجب العمل به قطعا قطعي غير أنه وقع الظن في طريقه كما رأيت من التصريح به محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى وذلك غير موجب لظنية المقدمة؛ لأن المعتبر في كون المقدمة قطعية أو ظنية ما اشتملت عليه من الحكم فإن ظنيا فظنية، وإن قطيعا فقطعية، سواء كان الطرفان ظنيين في نفسهما أو قطعيين أو أحدهما ظنيا والآخر قطعيا، وقد علمت هنا قطعية كل من الحكمين اللذين اشتمل عليهما
 ج / 1 ص -31-
 
  
المقدمتان المذكورتان. وإذا كان هذا هو المراد من التعريف المذكور فيلزمه أمران أحدهما ما أشار إليه بقوله "فمغير لمفهومه" أي فهذا الصنيع مغير لمفهوم الاسم؛ لأنه صار المعنى العلم بوجوب العمل بالأحكام المظنونة للمجتهد، وقد كان هو العلم بنفس الأحكام الشرعية العملية، وأين أحدهما من الآخر. ثانيهما ما أشار إليه بقوله "ويقصره" أي هذا الصنيع الفقه "على حكم" واحد من الأحكام الخمسة، وهو وجوب العمل بما ظنه المجتهد فيصير الفقه كله هذه المسألة الواحدة، وقد كان العلم بأحكام شرعية من وجوب وندب وتحريم وكراهة وإباحة، وهذان اللازمان باطلان فالملزوم مثلهما .
فإن قيل المراد العلم بمقتضى الظن بالأحكام على الوجه المظنون فإن ظن وجوبه علم وجوب العمل به، وإن ظن حرمته علم حرمة العمل بها وكذا الباقي والتعرض للوجوب على سبيل التمثيل أجيب بأن القياس المذكور لا يفيد إلا وجوب العمل بمقتضى الظن لا غير، ولا يقال المراد وجوب اعتقاد الحكم على الوجه المظنون فإذا كان الندب مظنونا وجب اعتقاد ندبيته، وهكذا الباقي؛ لأنا نقول لا دلالة للعلم بالأحكام على ذلك فحينئذ يكون التعريف فاسدا ثم هذا كله بعد تسليم صحة أن يقال أولا العلم بالأحكام ويراد العلم بوجوب العمل بالأحكام، وإلا فقد يقال أولا لا دلالة له على هذا بشيء من الدلالات الثلاث، ولو قيل أطلق ذلك وأريد به هذا مجازا فجوابه أنه أولا ممنوع إذ لا علاقة بينهما مجوزة له ولو سلم فمثل هذا المجاز ليس بشهير ولا قرينة ظاهرة عليه فلا يجوز استعماله في التعريفات وثانيا العلم بوجوب العمل بالأحكام مستفاد من الأدلة الإجمالية، والفقه مستفاد من الأدلة التفصيلية. وثالثا إنما يتم هذا المطلوب على مذهب المصوبة القائلين بكون الأحكام تابعة لظن المجتهد، وهو قول مرجوح كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما على مذهب غيرهم فيجب عليه اتباع ظنه ولو خطأ فلا يكون مناطا للحكم ولا وجوب اتباعه موصلا له إلى العلم، قال المحقق الشريف: ولا مخلص إلا أن يراد بالأحكام أعم مما هو حكم الله تعالى في نفس الأمر أو في الظاهر، ومظنونه حكم الله ظاهرا طابق الواقع أو لا، وهو الذي نيط بظنه، وأوصله وجوب اتباعه إلى العلم بثبوته، ومن ها هنا ينحل الإشكال بأنا نقطع ببقاء ظنه، وعدم جزم مزيل له، وإنكاره بهت فيستحيل تعلق العلم به لتنافيهما وذلك؛ لأن الظن الباقي متعلق بالحكم قياسا إلى نفس الأمر والعلم المتعلق به مقيسا إلى الظاهر "وما قيل في" وجه "إثبات قطعية مظنونات المجتهد" بناء على أن المصيب واحد كما هو المذهب الراجح على ما ذكره الفاضل العبري في شرح منهاج البيضاوي من القياس المركب المفصول النتائج لإنتاج أن الفقه عبارة عن علم قطعي متعلق بمعلوم قطعي، وهو الحكم المظنون للمجتهد، وأن الظن إنما هو وسيلة إليه لا نفسه "مظنونة" أي الحكم المظنون للمجتهد "مقطوع بوجوب العمل به" للدليل القاطع عليه كما سلف فهذه صغرى قطعية "وكل ما قطع إلخ" أي بوجوب العمل به "فهو مقطوع به" أي بأنه حكم الله، وإلا لم يجب العلم به فهذه كبرى قطعية أيضا فينتج من الضرب الثاني من الشكل الأول لازم قطعي ضرورة قطعية المقدمتين، وهو مظنون المجتهد مقطوع
 ج / 1 ص -32-
 
  
بأنه حكم الله، وهو المطلوب، ولما كان كل من هذه الصغرى والكبرى محتاجا إلى كسب بقياس آخر تجعل كبرى هذا القياس صغرى لكبرى قياس آخر هكذا كل ما قطع بوجوب العمل به فهو معلوم قطعا، وكل ما هو معلوم قطعا فهو مقطوع به ينتج إذا سلمت مقدمتاه كل حكم قطع بوجوب العمل به فهو مقطوع به فتثبت الكبرى المذكورة حينئذ ثم تجعل صغرى القياس الأول صغرى لقياس آخر، وهذه النتيجة كبراه هكذا الحكم المظنون للمجتهد مقطوع بوجوب العمل به وكل مقطوع بوجوب العمل به فهو مقطوع به ينتج إذا سلمت مقدمتاه الحكم المظنون للمجتهد مقطوع به فتثبت الصغرى حينئذ. فالجواب أن تمام هذا موقوف على تسليم مقدمتيه أو قيام الدليل على تمامهما ولم يوجد كل منهما بل هو مسلم الصغرى "ممنوع الكبرى"، وهي وكل ما قطع بوجوب العلم به فهو مقطوع بأنه حكم الله فإنا لا نسلم أن كل ما قطع بوجوب العمل به يكون هو نفسه قطعي الثبوت بأنه حكم الله، لم لا يجوز أن يكون بعضه ظني الثبوت بأنه حكم الله بل هذا هو الثابت في نفس الأمر؛ لأن من الظاهر أن أبا حنيفة مثلا يقطع بوجوب العمل بالوتر عليه ولا يقطع بثبوت وجوب الوتر نفسه بل إنما ظنه، وقطع بحكم آخر بعده، وهو وجوب العمل بهذا المظنون فهو نفسه مظنون ولزوم العمل قطعي فظهر أن قوله، وإلا لم يجب العمل به ممنوع لظهور أنه يجب العمل بما يظن أنه حكم الله تعالى أيضا على أنه كما قال الشيخ جمال الدين الإسنوي ما ذكر، وإن دل على أن الحكم مقطوع به لكن لا يدل على أنه معلوم؛ لأن القطع أعم من العلم إذا المقلد قاطع وليس بعالم يعني، وقد عرف أنه لا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت أخص بخصوصه، وإن بنى على أن كل ما هو مظنون للمجتهد فهو حكم الله قطعا كما هو رأي البعض يكون ذكر وجوب العمل ضائعا لا معنى له أصلا ذكره المحقق سعد الدين التفتازاني ولا يمنع هذا استرواحا إلى أن الاستدلال حينئذ من الشكل الثالث هكذا الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به، وكل ما هو مظنون للمجتهد فهو حكم الله قطعا؛ لأنه ينتج بعض ما يجب العمل به فهو حكم الله قطعا فلا يثبت المدعي، وهو كل ما يجب العمل به من الحكم المظنون للمجتهد فهو حكم الله قطعا على أن هذا بناء على رأي غير سديد. هذا واعلم أنه لما ظهر من تعريف المصنف للفقه أنه مجموع أمرين العلم بالأحكام الشرعية العملية القطعية، وملكة الاستنباط، وقد اعترض على مثله بأن ذكرها مما يجتنب في التعر