التخريج عند الفقهاء والأصوليين

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: التخريج عند الفقهاء والأصوليين (دراسة نظرية تطبيقية تأصيلية)
المؤلف: يعقوب بن عبد الوهاب بن يوسف الباحسين التميمي
عدد الأجزاء: 1
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله على كثير فضله وعظيم آلائه، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم رسله وأنبيائه.
وبعد:
فمنذ سنوات غير قليلة، بل منذ أن أقرت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تدريس موضوع (تخريج الفروع على الأصول) على طلبة الدراسات العليا، وأنا أقوم بتدريس هذه المادة، وحينما بدأت لم يكن هناك منهج محدد، ولا معالم معينة لهذا الموضوع، وقد قمت بالاتصال بجهات عدة، وبذلت جهوداً شخصية لدى عدد من أساتذة الجامعات الإسلامية، وطلبة الدراسات العليا فيها، ممن كان لهم سبق زمني في إقرار تدريس هذه المادة، فلم أظفر من ذلك بطائل، ولا وجدت ما يشفي الغليل، لكني وجدت أنّ منهج الدراسات العليا في جامعة أم القرى، اشتمل على أمرين:
الأمر الأول: كان يضم تمهيداً في التعريف بعلم تخريج الفروع على الأصول، وأهميته، ونشأته وتطوره ومصادره والتعريف بها، وعلاقة هذا العلم بعلم الأصول، والفرق بينه وبين علمي الأشباه والنظائر والفروق.
كما ضم البحث عن أسباب الاختلاف في الفروع.
والأمر الثاني: كان قسماً تطبيقياً يتضمن دراسة عدد من الموضوعات، منها ما هو قواعد مختلف فيها، ومنها ما هي أدلة مختلف فيها.
ولم أردت أن أعرف طبيعة ما درس في موضوعات الأمر الأول، لم
(1/5)
 
 
أجد هناك مادة مدروسة تحدد العلم، وتبين نطاقه ومشتملاته، ولهذا فقد اتخذت من تصوراتي منطلقاً لبيان أبعاد هذا الموضوع. وكانت هذه التصورات في بداية الأمر، محدودة، تقتصر على تخريج الفروع على الأصول، متخذة من منهج الزنجاني، وتصوراته مثالاً يحتذى، غير أني لاحت عند ممارستي تدريس هذا العلم، والنظر في جوانبه المختلفة، أن نطاق التخريج أوسع من ذلك، وتكشفت لي خلال سنوات التدريس قضايا كثيرة، اضطررت معها إلى تغيير خطتي التدريسية، وإلى تنويع التخريج بحسب نتائجه وأصوله التي استند إليها، فتميزت لديّ ثلاثة أنواع من التخريج، هي:
الأول: تخريج الأصول من الفروع، وهو الأساس في تأسيس أصول فقه الأئمة الذين لم يدونوا أصولاً، ولم ينصوا على قواعدهم في الاستنباط، أو نصوا على قسم منها، ولم ينقل عنهم شيء بشأن قسمها الآخر.
الثاني: تخريج الفروع على الأصول، وهو النمط الظاهر في كتاب تخريج الفروع على الأصول للزنجاني، وما أشبهه من الكتب التي نحت هذا المنحى.
الثالث: تخريج الفروع على الفروع، وهو النوع الذي حظي بعناية الفقهاء والأصوليين أكثر من غيره، سواء كان في الكتب المفردة عن الافتاء، أو في الكتب الأصولية في مباحث الاجتهاد والتقليد، أو في مواضع منثورة من كتب الفقهاء.
ولم أجد دراسة نظرية تؤصل علم التخريج، وتبين لنا حدوده ومعالمه، ولكني أشيد بما نشره الزميل د/ عياض بن نامي السلمي في بحثه المنشور في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (1)، بعنوان: 0تحرير المقال فيما تصح نسبته للمجتهد من أقوال) ولكنه لم يبحث إلا في النوع الثالث من
__________
(1) العدد 7 سنة 1413هـ/1992م.
(1/6)
 
 
التخريج، مقتصراً على بحث صحة نسبة الأقوال المخرجة إلى الأئمة، دون أن يوضح معالم هذا العلم، ولكنه كان لبنة قيمة في هذا المجال.
وقد أدى هذا التصور للتخريج أن أجري طائفة من التغييرات على ما كنت أعده من محاضرات بهذا الشأن، وعدلت فيما كنت أطرحه من آراء، فأصبحت أنظر إلى التخريج على أنه أنواع من العلوم، يشملها جنس واحد هو التخريج.
ومن الملاحظ أن الأنواع الثلاثة من التخريج التي ذكرتها آنفاً تمثل نوعين متعاكسين من التخريج، أحدهما يتجه إلى تخريج القواعد والضوابط الكلية من الفروع والجزئيات، وثانيهما يتجه، على العكس من ذلك، إلى تخريج الفروع والجزئيات، إما ببنائها على القواعد الكلية، أو ببنائها على جزئيات مثلها.
ولما استقر ذلك عندي، بدا لي أن أضيف إليه أمراً ذا صلة بالتخريج، هو صفات المجتهد وشروط العلماء الذين يقومون به، ومنزلتهم بين طبقات الفقهاء، ومراتب الأقوال التي يخرجونها، وتسميتها وصفاتها.
وتحت إلحاح الكثيرين من أخواني الأساتذة والعلماء، ومن أبنائي طلبة الدراسات العليا، رأيت إخراج ما تجمع لدي من معلومات عن هذا العلم، مع ثقتي بأنه في حاجة إلى زيادة تنقيح، وربما إلى إضافة ما يمكن أن يدخل في نطاقه. على أنه مهما يكن من أمر، فقد بذلت جهداً غير قليل في تأصيل هذا العلم، وإقامته على سوقه، وربما كانت هذه أول دراسة تأصيلية نظرية تطبيقية له. ولهذا فإن الباحث في حاجة إلى معرفة وجهات نظر العلماء وملحوظاتهم، من أجل تقويم هذا البحث وتلافي ما فيه من هنات.
وقد رتبت هذا البحث على تمهيد وبابين وخاتمة.
التمهيد: في تعريف التخريج لغة واصطلاحاً وبيان أنواعه.
الباب الأول: في أنواع التخريج، ويشتمل على ثلاثة فصول:-
(1/7)
 
 
الفصل الأول: في تخريج الأصول من الفروع.
الفصل الثاني: في تخريج الفروع على الأصول.
الفصل الثالث: في تخريج الفروع على الفروع.
الباب الثاني: ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في مراتب المخرجين بين طبقات الفقهاء.
الفصل الثاني: في شروط وصفات علماء التخريج.
الفصل الثالث: في أنواع الأحكام المخرجة وصفاتها.
والخاتمة: في ذكر أحكام بعض الوقائع المعاصرة المخرجة على أصول وفروع الأئمة.
هذا والله أسأل أن يسدد على طريق الحق خطاي، وأن يلهمني، في ما أذهب إليه، الصواب .. وأن يريني الحق حقاً ويرزقني اتباعه، وأن يريني الباطل باطلاً ويرزقني اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد ...
(1/8)
 
 
تمهيد
في تعريف التخريج وبيان أنواعه
معناه في اللغة: قال ابن فارس: الخاء والراء والجيم أصلان.
قال: وقد يمكن الجمع فيهما:
فالأول: النفاذ عن الشيء.
والثاني: اختلاف لونين (1).
ويبدو من خلال تتبع معاني المادة في المعاجم أن المعنى الأول هو الأكثر استعمالاً، فالخروج عن الشيء هو النفاذ عنه وتجاوزه، ومنه خراج الأرض وهو غلتها.
ويبدو أن هذا المعنى هو الأقرب لما نحن فيه، فالتخريج مصدر للفعل خرج المضعف، وهوي فيد التعدية بأن لا يكون الخروج ذاتياً، بل من خارج عنه، ومثله أخرج الشيء واستخرجه فإنهما بمعنى استنبطه، وطلب إليه أن يخرج (2).
ويقال أيضاً خرج فلاناً في العلم أو الصناعة دربه وعلمه، والمصدر تخريج (3).
معناه في الاصطلاح:
وقد استعمل لفظ (التخريج) في طائفة من العلوم، فأصبحت
__________
(1) معجم مقاييس اللغة.
(2) راجع: لسان العرب، والقاموس المحيط في مادة (خرج) باب الجيم فصل الخاء.
(3) المعجم الوسيط (مادة خرج) ص 224.
(1/9)
 
 
استعمالاته عندهم تعني مصطلحاً خاصاً، كما هو الشأن عند علماء الحديث، وعلماء الفقه والأصول، وسنذكر فيما يأتي معناه عندهم:
1 - معناه عند المحدثين:
أطلق المحدثون التخريج على ذكر المؤلف الحديث بإسناده في كتابه (1). ومنه قولهم: هذا الحديث خرجه أو أخرجه فلان بمعنى واحد هو ما ذكرناه.
وذكر بعضهم أنه عند المحدثين (إيراد الحديث من طريق أو طرق أخر تشهد بصحته، ولابد من موافقتها له لفظاً ومعنى) (2).
وحده بعضهم بأنه "عزو الحديث إلى مصدره أو مصادره من كتب السنة المشرفة، وتتبع طرقه وأسانيده وحال رجاله وبيان درجته قوة وضعفاً" (3).
وعلى هذا فالتخريج لا يقتصر على ذكر الأسانيد، بل لابد من بيان أمر رجال الحديث وقوة أسانيده، والحكم عليه قوة وضعفاً، وبيان صحته أو عدمها.
ولتخريج الأحاديث طرق متعددة، وفوائد كثيرة، لعل من أهمها جمع الطرق التي جاء الحديث منها، وجمع ألفاظ متن الحديث (4).
__________
(1) قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث ص 219 لمحمد جمال الدين القاسمي.
(2) القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً ص 114 لسعدي بن أبي حبيب.
(3) تخريج أحاديث اللمع في أصول الفقه ص 10 لعبد الله بن محمد الصديقي الغماري، نقله عنه صبحي السامرائي في مقدمته لكتاب تخريج أحاديث مختصر المنهاج للحاف العراقي. كما ورد بمقدمة تحقيق كتاب الغماري المذكور.
وبهذا المعنى للتخريج عرفه د/ محمود الطحان، فقال في كتابه "أصول التخريج ودراسة الأسانيد" (هو الدلالة على موضع الحديث في مصادره الأصيلة التي أخرجته بسنده، ثم بيان مرتبته عند الحاجة).
(4) طرق تخريج حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ص 14، للدكتور/ أبو محمد عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي.
هذا وللمحدثين طرق متنوعة لتخريج الحديث اشتهر منها خمسة. ولمعرفة ذلك ... =
(1/10)
 
 
كما أطلق المحدثون التخريج على الإشارة إلى كتابة الساقط من المتن في الحواشي وهو المسمى اللحق، أو التنبيه على شرح أو غلط أو اختلاف رواية أو نسخة أو غير ذلك (1). ولهم في بيان كيفية تخريج السقط ضوابط خاصة.
2 - معناه عند الفقهاء والأصوليين:
وإذا تأملنا استعمالات الفقهاء والأصوليين، وجدنا أن مصطلح التخريج يدور في أكثر من نطاق، وأنهم لم يستعملوه بمعنى واحد، وإن كان بين هذه المعاني تقارب وتلاحم، فمن تلك الاستعمالات:
__________
(1) = ومعرفة الأمثلة والمراجع في هذا المجال، راجع:
أصول التخريج ودراسة الأسانيد للدكتور/ محمود الطحان ص 35 - 133، ومفاتيح علوم الحديث وطرق تخريجه لمحمد عثمان الخشت ص 131 - 151.
() من المختار عند المحدثين في ذلك (أن يخط من موضع سقوطه من السطر خطا صاعداً إلى فوق ثم يعطفه بين السطرين عطفة يسيرة إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق، ويبدأ في الحاشية بكتابة اللحق مقابلاً للخط المنعطف وليكن ذلك في حاشيته ذات اليمين، وإن كانت تلي وسط الورقة، إن اتسعت له فليكتبه صاعداً إلى أعلى الورقة لا نازلاً به إلى أسفل).
لاحظ في ذلك:
-التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح ص 211 - 213 لعبد الرحيم بن الحسين العراقي [ت806هـ] بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان.
وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي أيضاً 3/ 29 - 32.
تفاصيل كيفية التخريج يميناً وشمالاً وإلى الجهات الأخرى تلاحظ في فتح المغيث هذا.
وهناك ضوابط متعددة تتعلق بالكيفيات المتعددة بتعدد موضع اسقط، ومن رأي القاضي عياض أن لا يخرج لغير السقط خط، لئلا يدخل اللبس ويحسب من الأصل. فلذا توضع له علامة أخرى كالتضبيب، ولم يرتض الحافظ العراقي ذلك، ورأى أن تخريج السقط يوضع بين الكلمتين فلا يلتبس بغيره. (راجع: التقييد والإيضاح ص 213).
(1/11)
 
 
ما توصلوا إليه من أحكام، في المسائل الفقهية المنقولة عنهم، وذلك من خلال تتبع تلك الفروع الفقهية واستقرائها استقراء شاملاً يجعل المخرج يطمئن إلى ما توصل إليه، فيحكم بنسبة الأصل إلى ذلك الإمام.
ب) إطلاق التخريج على رد الخلافات الفقهية إلى القواعد الأصولية، على نمط ما في كتاب (تخريج الفروع على الأصول) للزنجاني، أو التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) للأسنوي، أو (القواعد، والفوائد الأصولية والفقهية) لابن اللحام.
وهو بهذا المعنى يتصل اتصالاً واضحاً بالجدل وبأسباب اختلاف الفقهاء، إذ هو في حقيقته يتناول واحداً من تلك الأسباب، وهو الاختلاف في القواعد الأصولية، وما ينبني على ذلك الاختلاف من اختلاف في الفروع الفقهية، سواء كانت في إطار مذهب معين، أو في إطار المذاهب المختلفة، وقد يتسع هذا المجال فيشمل من أسباب الاختلاف ما هو خلاف في الضوابط أو بعض القواعد الفقهية، كما هو الشأن في كتاب (تأسيس النظر) المنسوب إلى أبي زيد الدبوسي. وهذا هو ما اصطلح عليه بـ: (تخريج الفروع على الأصول).
ج) وقد يكون التخريج - وهذا هو غالب استعمال الفقهاء - بمعنى الاستنباط المقيد، أي بيان رأي الإمام في المسائل الجزئية التي لم يرد عنه فيها نص، عن طريق إلحاقها بما يشبهها من المسائل المروية عنه، أو بإدخالها تحت قاعدة من قواعده، والتخريج بهذا المعنى هو ما تكلم عنه الفقهاء والأصوليون في مباحث الاجتهاد والتقليد، وفي الكتب المتعلقة بأحكام الفتوى.
د) وقد يطلقون التخريج بمعنى التعليل، أو توجيه الآراء المنقولة عن الأئمة وبيان مآخذهم فيها، عن طريق استخراج واستنباط العلة وإضافة الحكم إليها (1). بحسب اجتهاد المخرج، وهو في حقيقته راجع إلى المعاني
__________
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي 3/ 242 ولاحظ قول الآمدي في الرد على دليل =
(1/12)
 
 
السابقة، لأن تلك المعاني لا يتحقق أي منها دون التعليل والتوجيه، ومن هذا القبيل ما يسمى (تخريج المناط).
لكن الذي نهتم به من إطلاقات التخريج، هو ما يصلح أن يكون عنواناً لعلم مستقل، نسعى لتأصيله، وبيان مقوماته، ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن التخريج يتنوع إلى الآتي:
1 - تخريج الأصول من الفروع.
2 - تخريج الفروع على الأصول.
3 - تخريج الفروع من الفروع.
ونظراً إلى مثل هذا الاختلاف في معنى التخريج عند الفقهاء والأصوليين (1)، فإنه من الصعب أن نعطي عن نشأة التخريج بكل هذه المعاني تاريخاً واحداً، أو أن نتحدث عنها بكلام واحد، ولهذا فإننا سنتحدث عن كل منها على انفراد، مبينين ما يتعلق بها نشأة وتاريخاً وأحكاماً.
__________
(1) = الخصم: (وما ذكروه فقد سبق تخريجه في مسألة تكليف ما لا يطاق) الأحكام 4/ 181، وهو يقصد بذلك تأويله وتوجيهه أو تعليله بما يجعله دليلاً معارضاً لرأيه. ومثل ذلك عنده، كثير.
() من الملاحظ أن هناك إطلاقات خاصة لبعض العلماء على التخريج، لم نذكرها في المتن لعدم عمومها بين العلماء. فقد كان ابن الحاجب - رحمه الله - مثلاً يطلق التخريج على ما قابل الاتفاق، وعلى ما قابل المعروف، وعلى ما قابل المنصوص، وفي أحيان كان يسمى التخريج (الاستقراء).
(انظر: ص109 و110 من كتاب كشف النقاب الحاجب من مصطلح ابن الحاجب لابن فرحون).
(1/13)
 
 
الباب الأول
في أنواع التخريج
الفصل الأول: تخريج الأصول من الفروع
الفصل الثاني: تخريج الفروع على الأصول
الفصل الثالث: تخريج الفروع من الفروع
(1/15)
 
 
الفصل الأول
تخريج الأصول من الفروع
تمهيد في:
تعريفه وبيان موضوعه ومباحثه والعلوم التي استمد منها وفائدته
المبحث الأول: نشأته وتطوره
المبحث الثاني: أمثلة لبعض الأصول المخرجة
المبحث الثالث: حكم نسبة الأصول المخرجة إلى الأئمة
(1/17)
 
 
تعريفه – وبيان موضوعه ومباحثه
والعلوم التي استمد منها وفائدته
تعريفه:
ذكرنا أن من أنواع التخريج التوصل إلى أصول الأئمة وقواعدهم من خلال استقراء وتتبع الفروع الفقهية المروية عنهم، واكتشاف عللها وما بينها من علاقات وقلنا إنه من الممكن أن نطلق على ذلك (تخريج الأصول من الفروع)، وفي الحق إن التخريج بالمعنى المذكور (1) ليس علماً محدداً، ولكن ثمرته هي أصول الفقه وقواعده الكلية، كما أنه ليس علم أصول الفقه نفسه، لأن ثمرة الشيء خارجة عن حقيقته وماهيته، وإذا أردنا أن نضع تعريفاً تقريباً له، قلنا: إنه (العلم الذي يكشف عن أصول وقواعد الأئمة من خلال فروعهم الفقهية وتعليلاتهم للأحكام).
فقولنا: (العلم) كالجنس يشمل المعرف وغيره.
وقولنا: (الذي يكشف عن أصول ...) قيد أخرج ما ليس كذلك،
__________
(1) في موسوعة الفقه الإسلامي الصادرة عن جمعية الدراسات الإسلامية بإشراف الشيخ محمد أبو زهرة- رحمه الله – (إن علماء التخريج ومجتهديهم هم الذين يستخلصون القواعد التي كان يلتزمها الأئمة السابقون، ويجمعون الضوابط الفقهية التي تتكون من علل الأقيسة التي استخرجها العلماء) 1/ 59. نقل ذلك محمد هشام الأيوبي في كتابه (الاجتهاد ومقتضيات العصر) ص 133 وكلام الموسوعة يقصر التخريج على أحد أنواعه، وهو تخريج الأصول من الفروع، وسبق أنبينا أنه أعم من ذلك.
(1/19)
 
 
كالفقه الذي يكشف عن الأحكام الفرعية العملية، والأصول التي هي القواعد نفسها والتي تعد ثمرة ونتيجة لهذا التخريج.
وقولنا: (من خلال تتبع فروعهم ..) قيد ثان أخرج الأصول المصرح بها من قبل الأئمة أنفسهم، لأنها لا تعد أصولاً مخرجة، وإنما هي من المنصوص عليه من قبلهم.
موضوعه (1):
إن بيان موضوع كل علم، يُعد المميز له عن سائر العلوم، كما أن تعيينه وتميزه عن غيره يُعد من الوسائل الهامة التي توضح مجالات العلوم. ويقصدون بموضوع العلم ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية، كبدن الإنسان لعلم الطب. فإنه يبحث فيه عن أحواله من حيث الصحة والمرض، وكالكلمة لعلم النحو، فنه يبحث فيه عن أحوالها من حيث الإعراب والبناء ... إلخ) (2).
والعوارض الذاتية هي الخارجة عن الشيء الذي يحمل عليه، وكونها ذاتية يعني أن منشأها الذات (3)، بأن كانت تلحق الشيء لذاته أو تلحقه لجزئه، أو تلحقه بواسطة أمر آخر خارج عنه مساوٍ له.
وفائدة التقييد يكون الأعراض ذاتية الاحتراز عن الأعراض الغريبة، هي العارضة للشيء لأمر خارج عنه، أعم منه أو أخص منه أو مباين له (4).
ومعنى البحث عن العوارض الذاتية للموضوع حملها عليه وإثباتها له كقولنا: الكتاب يثبت به الحكم، أو حملها على أنواعه، كقولنا: العام يفيد
__________
(1) لاحظ في تفصيل معنى (الموضوع) في الاصطلاح كتاب (أصول الفقه – الحد والموضوع والغاية) للمؤلف ص 7.
(2) تحرير القواعد المنطقية ص 17، 18، المنطق الصوري والرياضي ص6.
(3) تيسير التحرير 1/ 18، إرشاد الفحول ص 2، التلويح 1/ 22.
(4) لاحظ أنواع العوارض عند المناطقة في بحثنا: أصول الفقه الحد والموضوع والغاية هامش 4 ص 8.
(1/20)
 
 
القطع، أو على أنواع أعراضه الذاتية كقولنا: العام الذي خُص منه البعض يفيد الظن (1).
ومن خلال هذا البيان لمعنى الموضوع، ومن التعريف السالف لهذا العلم، ندرك أن موضوعه هو نصوص الأئمة المجتهدين، وأفعالهم وتقريراتهم، من حيث دلالتها على المعاني الرابطة فيما بينها، وما يجمعها من علاقات، وعلى الأسباب الباعثة للأئمة على الأخذ بما اخذوا به من آراء.
مباحثه ومسائله (2):
ومباحثه ومسائله هي معرفة الأحوال العارضة لموضوعه هذا، أي البحث في الأحوال العارضة لنصوص وأفعال الأئمة، لأن المباحث والمسائل ذات صلة وثيقة بموضوع العلم نفسه، على ما هو معلوم في مصطلحاتهم.
استمداده:
والمعين الذي يستمد منه هذا العلم مادته، هو نصوص وأفعال وتقريرات الأئمة، والدراية بعلوم العربية، وبالقرآن الكريم، والحديث الشريف.
وبعد نشأة أصول الفقه وتدوينه، أصبح علم الأصول من أفراد ما يستمد منه المخرج مادته أيضاً، بغية معرفة رأي الإمام في أمثال تلك القواعد التي لم يرد عنه نص بشأنها.
فائدته وغايته (3):
ينظر كثير من الباحثين إلى المصالح المترتبة على الشيء باعتبارين:
__________
(1) التلويح 1/ 22.
(2) مسائل كل عام هي المطالب التي يبرهن عليها في العلم، ويكون الغرض من ذلك العلم معرفتها (التعريفات ص 225)، كمسائل العبادات، والمعاملات ونحوها للفقه، ومسائل الأمر والنهي والعام والخاص والإجماع والقياس ونحوها لأصول الفقه (البحر المحيط 1/ 73).
(3) راجع: أصول الفقه الحد والموضوع والغاية. للمؤلف ص 125 - 128.
(1/21)
 
 
الاعتبار الأول: من حيث ابتداء التفكير في الشيء وهو المسمى عندهم بالعلة الغائية التي هي الباعث على الفعل وطلبه.
والاعتبار الثاني: من حيث النهاية، وهي آخر العمل، أو ثمرة الفعل ونتيجته، وهي المسماة عندهم بالفائدة (1).
وقد أخذ بهذا التفريق طائفة من العلماء، منهم صديق بن حسن القنوجي (ت 1307هـ) (2) في كتابه أبجد العلوم. إذ قال عن علم أصول الفقه أن (الغرض منه تحصيل ملكة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها الأربعة، أعني الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وفائدته استنباط تلك الأحكام على وجه الصحة) (3)، فهو قد فرق بين الغرض أو الباعث على الشيء وبين الفائدة التي هي الثمرة المترتبة عليه.
وبناء على هذا التوضيح لمعنى الفائدة والغاية، فإن غاية هذا العلم الأساسية، هي الكشف عن قواعد وأصول الأئمة التي بنوا عليها أحكامهم.
وأما فائدته فإنه يلتقي مع أصول الفقه في بعض فوائده المترتبة عليه، كما تتحقق منه فوائد أخر.
__________
(1) البحر المحيط 1/ 28. والغاية في اصطلاحهم ما لأجله وجود الشيء (التعريفات للجرجاني ص 166).
(2) هو أبو الطيب محمد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي. المعروف بصديق حسن خان بهادر القنوجي. نشأ بقنوج وأخذ العلم عن كبار العلماء في الهند، ثم ارتحل إلى دلهي وبهوبال ومنها إلى الحجاز. وحج وأخذ عن علماء اليمن، ثم عاد إلى بهوبال وتزوج بملكة إقليم الدكن، شاه جهان، فحسن حاله مالياً، واستقر في بهوبال حتى توفي سنة 1307هـ.
من مؤلفاته: البلغة في أصول الفقه. والإقليد لأدلة الاجتهاد والتقليد، وحصول المأمول من علم الأصول، والروضة الندية شرح الدرر البهية للشوكاني، وأبجد العلوم وهو من أوسع كتبه. راجع في ترجمته: الأعلام 6/ 167، الفتح المبين 3/ 160ن مقدمة أبجد العلوم لعبد الجبار زكار، معجم المطبوعات العربية 2/ 1202.
(3) أبجد العلوم 2/ 70 و71.
(1/22)
 
 
ومن الممكن أن نلحظ بعض هذه الفوائد فيما يأتي:
1 - إن كشف هذا العلم عن قواعد الأئمة يمكن العالم من ترجيح الأقوال واختيار أقواها، عن طريق قوة القاعدة ومتانتها.
2 - إن هذا العلم يساعد على معرفة العلاقات القائمة بين الفروع الفقهية، مما يمكن الباحث في ذلك من التعليل والفهم السليم، وضبط الفروع المروية عن الأئمة بأصولها.
3 - تمكن نتيجته العالم من تخريج المسائل والفروع غير المنصوص عليها، وفق تلك القواعد المخرجة أو أن يجد لها وجهاً أولى.
4 - كما تمكن نتيجته من معرفة أسباب اختلاف الفقهاء. وقد يقال: إن هذا العلم لم تعد له فائدة بعد أن استقر علم أصول الفقه، ودونت قواعده، وعرفت آراء العلماء واختلافاتهم بشأنها. وهو قول لا يخلو من وجاهة، ولكنه لا يمثل الحقيقة كلها، وإنما يمثل جانباً منها.
إنما الأمر الذي نفتقده في كتب الأصول، هو نسبة الآراء إلى أصحابها؛ لأن غالب ما يذكر في هذه الكتب هو نسب الآراء إلى المذاهب، دون أن يعين صاحب الرأي بعينه، وهذه الآراء خليط من آراء الإمام نفسه، ومن آراء تلاميذه، ومن آراء المخرجين الذين جاؤوا فيما بعد.
كما نفتقد في هذه الكتب السند الذي بنيت عليه القواعد التي لم يرد تصريح من الإمام بشأنها، الأمر الذي لا يساعد على تصحيح نسبة هذه القواعد إلى الإمام، وقد يكشف البحث المستفيض والاستقراء الجيد عن رأي يخالف ما نسب إليه.
وفي العلم الذي نحن بصدده إثراء لعلم الأصول بالأمثلة الجزئية وتعزيز له بالجوانب التطبيقية العملية.
(1/23)
 
 
المبحث الأول
نشأته وتطوره
يبدو أن التخريج بالمعنى السابق ظهر حين نشأة المذاهب، وبروز ظاهرة الاتباع ثم التقليد، فمنذ ظهرت رسالة الإمام الشافعي - رحمه الله - (ت: 204هـ) (1) أصبح البحث عن الأدلة والقواعد الأصولية يؤرق تلاميذ المذاهب الأخرى، سعياً على الكشف عما عند أئمتهم من قواعد في استنباطاتهم الفقهية، وإلى إبراز المبررات التي دعتهم إلى مخالفة غيرهم في أحكامهم وتدوين ذلك في رسائل أو كتب، كانت نواة التأليف الأصولي في المذاهب المختلفة.
على أننا ننبه إلى أن تخريج أصول وقواعد المذاهب لم يتزامن مع أصول وقواعد الأئمة المجتهدين نفسها، لأن القواعد المذكورة لابد أن
__________
(1) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي، أحد أئمة المذاهب الإسلامية السنية الأربعة، ولد بغزة في فلسطين، على ما هو الصحيح والمشهور من الآراء، سنة 150هـ وحمل إلى مكة وعمره سنتان. فنشأ فيها وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وموطأ مالك وهو ابن عشر، وتفقه على مسلم بن خالد الزنجي فقيه مكة. لازم الإمام مالكاً، ثم قدم بغداد مرتين، وحدث بها، واجتمع إليه علماؤها وأخذوا عنه، ثم خرج إلى مصر، وأقام فيها حتى اختاره الله إلى جواره سنة 204هـ، ودفن في مقابرها.
من آثاره: الرسالة في الأصول، واختلاف الحديث، والمبسوط في الفقه برواية الربيع بن سليمان والزعفراني، وأحكام القرآن، والأم.
راجع في ترجمته: وفيات العيان 3/ 305، معجم الأدباء 17/ 281، طبقات الشافعية للأسنوي 1/ 11، شذرات الذهب 2/ 9 - 10، الفتح المبين 1/ 127 وما بعدها، معجم المؤلفين 9/ 32 وسائر الكتب الخاصة المؤلفة في ترجمته.
(1/24)
 
 
تكون أقدم من الفروع الفقهية؛ إذ من المستبعد أن نتصور أن الأئمة قد اجتهدوا دون أن تكون معالم طريقهم واضحة لهمن وعرفوا ما يستدل وما لا يستدل به، وما هي المناهج الاستنباطية المعتد بها.
غير أنه لما لم يرد عن أغلبهم التصريح بأصولهم التي اعتدوا بها عند الاجتهاد- كما هو الشأن في رسالة الإمام الشافعي – قام التلاميذ والأتباع باستنباط تلك الأصول من الفروع. وقد كانت تلك الأصول في البداية متناثرة، ولم يقم بها شخص واحد، بل كانت جهود علماء كثيرين.
وبعد ذلك انتظمت في كتب أصولية مذهبية، متدرجة في التنظيم والتنسيق والترتيب بحسب التدرج الزمني.
إن هذا المنهج الاستقرائي هو الظاهرة الطبيعية في نشأة كثير من العلوم، سواء كانت في اللغة أو غيرها، وهو الطريق السليم إلى اكتشاف الروابط والأسس بين قضايا العلوم المتناثرة والجزئية.
ويرى كثير من الباحثين أن أصول الفقه الحنفي قامت على هذا الأساس (1).
بل إن طائفة من أصول بعض الأئمة كانت كذلك (2). قال الدهلوي (3):
(واعلم أني وجدت أكثرهم يزعمون أن بناء الخلاف بين أبي
__________
(1) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ص 330. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي 1/ 354، مقدمة ابن خلدون ص 816.
(2) الفكر الاسمي 1/ 355.
(3) هو: أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي من مدينة دلهي الهندية الملقب شاء ولي الله. من علماء الهند البارزين خلال القرن الثاني عشر الهجري. كان حنفي المذهب، مطلعاً مساهماً في كثير من العلوم، توفي سنة 1176هـ.
من مؤلفاته: حجة الله البالغة، والإنصاف في أسباب الخلاف، وعقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، وتأويل الأحاديث، وإزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء.
راجع في ترجمته: أبجد العلوم 3/ 241ن والأعلام للزركلي 1/ 149ن وكتاب آراء الإمام ولي الله الدهلوي في تاريخ التشريع الإسلامي لسلمان الندوي.
(1/25)
 
 
حنيفة (1) والشافعي- رحمهما الله- على هذه الأصول المذكورة في كتاب اليزدوي (2)، ونحوه، وغنما الحق أن أكثرها مخرجة على قولهم.
وعندي أن المسالة القائلة بأن الخاص مبين ولا يلحقه البيان، وأن الزيادة نسخ وأن العام قطعي كالخاص، وأن لا ترجيح بكثرة الرواة، وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه، إذا انسد باب الرأي، وأن لا عبرة، بمفهوم الشرط أو الوصف أصلاً، وأن موجب الأمر هو الوجوب ألبتة، وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة، وأنه لا تصح رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه) (3).
وفي أصول السرخسي (4) ما يشهد لذلك، فقد ذكر عن محمد – رحمه
__________
(1) أبو حنيفة: هو النعمان بن ثابت الكوفي التيمي بالولاء، أحد أئمة المذاهب الفقهية السنية الأربعة. ولد في الكوفة سنة 80هـ، ونشأ فيها وتلقى علمه على حمد بن أبي سليمان. أراده عمر بن هبيرة على القضاء في الكوفة فامتنع وأراده المنصور العباسين بعد ذلك على القضاء ببغداد فلم يوافق، فحبس وكانت وفاته ببغداد سنة 150هـ.
من آثاره: الفقه الأكبر في الكلام، والمسند في الحديث، والرد على القدرية والمخارج في الفقه.
راجع في ترجمته: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 86، الفهرست ص 284، أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري ص1 - 141، شذرات الذهب 1/ 277، الفتح المبين 1/ 101، وما بعدها معجم المؤلفين 13/ 104، وغير ذلك ومنها الكتب الخاصة للترجمة لأبي حنيفة.
(2) هو: أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم بن الحسين البزدوي المعروف بفخر الإسلام، من كبار فقهاء الحنفية وأصولييهم ومحدثيهم ومفسريهم بما وراء النهر. سكن سمرقند وفيها توفي سنة (482هـ). والبزدوي نسبة إلى بزدة وهي قلعة قريبة من نسف.
من مؤلفاته: المبسوط وشرح الجامع الكبير في فروع الفقه الحنفي، وشرح الجامع الصحيح، وكنز الوصول إلى معرفة الأصول في أصول الفقه.
راجع ترجمته في: الجواهر المضيئة 2/ 594، مفتاح السادة 2/ 53، هدية العارفين 1/ 693، الأعلام 4/ 328 ومعجم المؤلفين 7/ 192.
(3) الإنصاف في بيان أسباب الخلاف ص 88 و89، والحجة البالغة 1/ 160 لولي الله الدهلوي نفسه.
(4) هو: أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي الملقب بشمس الأئمة، متكلم ... =
(1/26)
 
 
الله- وقد سأله بعضهم: أسمعت هذا كله من أبي حنيفة؟ فقال: لا. فقال أسمعت من أبي يوسف (1) فقال: لا. وإنما أخذنا ذلك مذاكرة (2).
ومثل ذلك يمكن أن يقال عن أصول الإمام مالك – رحمه الله- (3) فما
__________
(1) = وفقيه وأصولي ومناظر. ويعد في طبقة المجتهدين في المسائل في الفقه عند الحنفية. تخرج بعلماء مشهورين من أبرزهم شمس الأئمة الحلواني. توفي سنة 490هـ. وقيل سنة 483هـ.
من مؤلفاته: كتاب في أصول الفقه طبع باسم أصول السرخسي، وله أيضاً المبسوط في الفروع، وهو شرح للجامع الصغير، والمحيط في الفروع.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيئة 3/ 78، مفتاح السعادة 2/ 54، هدية العارفين 2/ 76، معجم المؤلفين 8/ 239، الفتح المبين 1/ 264، ومعجم المطبوعات العربية والمعربة لسركيس 1016.
() هو: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي صاحب الإمام أبي حنيفة. من الفقهاء والأصوليين المجتهدين، وإلى جانب ذلك فهو محدث وحافظ وعالم بالتفسير والمغازي وأيام العرب. تفقه على الإمام أبي حنيفة، وروى عنه محمد بن الحسن وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين.
تولى القضاء لثلاثة من خلفاء بني العباس، هم: المهدي، والهادي، والرشيد ودعي بقاضي القضاة: توفي في بغداد سنة 182هـ.
من آثاره: كتاب الخراج، وأدب القاضي، واختلاف الأمصار وكتاب البيوع وغيرها,
راجع في ترجمته: الجواهر المضيئة 3/ 611، والفهرست ص 286، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 134، وأخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري ص 90، والفتح المبين 1/ 108، ومعجم المؤلفين 13/ 240.
(2) أصول السرخسي 1م378 و379.
(3) مالك: هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني. ولد بالمدينة سنة 93هـ وقيل 95هـ وأخذ العلم عن ربيعة بن عبد الرحمن، فقيه أهل المدينة، واحد أئمة المذاهب الفقهية السنية الأربعة. توفي في المدينة سنة 179هـ، ودفن في البقيع.
من آثاره: الموطأ، والمدونة الكبرى وهي تمثل فتاواه، وآراءه برواية تلاميذه.
راجع في ترجمته: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 68، والفهرست ص 280، وفيات ... =
(1/27)
 
 
في كتب المالكية من أصول منسوبة إلى هذا الإمام ليست كلها مما صرح به، بل إن منها مما خرج من مسائله الفقهية. وهكذا القول عن الإمام أحمد – رحمه الله- (1) فإنه لم يدون أصولاً، وإنما جمعت أصوله مما صرح به، ومن فتاواه الفقهية وتفاسيره لبعض آي القرآن وأحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – وغير ذلك.
__________
(1) = الأعيان 3/ 284، الديباج المذهب ص 17 - 30، الفتح المبين 1/ 112، معجم المؤلفين 8/ 168، شذرات الذهب 1/ 289، الأعلام 5/ 257، وسائر الكتب المؤلفة في حياة وسيرة الإمام مالك خاصة.
() أحمد: هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي البغدادي، أحد أئمة المذاهب الفقهية السنية الأربعة. ولد في بغداد، ونشأ فيها وتلقى علمه على مشايخها في الفقه والحديث وسائر العلوم. تنقل في بلدان كثيرة والتقى فيها العلماء، ضُرب وعذب بسبب صلابة موقفه في وجه المعتزلة المثيرين لفتنة القول بخلق القرآن كان إلى جانب علمه ورعاً زاهداً. قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أورع ولا أزهد من ابن حنبل. توفي – رحمه الله- سنة 241هـ.
من آثاره: المسند في الحديث، والناسخ والمنسوخ، وكتاب الزهد، والجرح والتعديل وغيرها.
راجع في ترجمته: طبقات الحنابلة 1/ 4 - 21، المنهج الأحمد 1/ 51 - 109، شذرات الذهب 2/ 96، الفتح المبين 1/ 149، معجم المؤلفين 2/ 96، وسائر الكتب المؤلفة في ترجمته خاصة.
(1/28)
 
 
المبحث الثاني
أمثلة لبعض الأصول المخرجة
ومما يمثل تخريجات العلماء أصولاً للأئمة نكتفي بذكر عدد محدود منها لغرض توضيح هذا المنهج، وبيان طرائق العلماء فيه. فمن ذلك:
1 - إن مقتضى الأمر الذي لم يقيد، لمي رد فيه عن مالك- رحمه الله- ما يفيد أنه للفور أو التراخي نصاً، أو صراحة، ولكن العلماء خرجوا له قولاً هو أنه للفور. قال ابن القصار (ت: 398هـ) (1): (ليس عن مالك - رحمه الله- في ذلك نص، ولكن مهبه يدل على أنها على الفور؛ لأن الحج عنده على الفور، ولم يكن ذلك كذلك إلا لأن الأمر اقتضاه) (2).
ونقل عن القاضي عبد الوهاب (ت 422هـ) (3) أنه ذكر في الملخص أن
__________
(1) هو: علي بن أحمد البغدادي القاضي أبو الحسن المعروف بابن القصار. تفقه بالأبهري، وولي قضاء بغداد. كان أصولياً نظاراً. قال بعض علماء زمانه هو أفقه من رأيت من المالكين. كان ثقة ولكنه قليل الحديث. توفي سنة 398هـ.
من مؤلفاته: عيون الأدلة، وإيضاح الملة في الخلافيات.
راجع في ترجمته: الديباج المذهب ص 199، معجم المؤلفين 7/ 12.
(2) مقدمة ابن القصار ورقة 6/أ، نسخة الاسكوريال.
(3) عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي المالكي. ولد ببغداد ونشأ فيها، وتلقى قدراً من علومه عن الأبهري وابن القصار وابن الجلاب وغيرهم. كان فقيهاً وأصولياً وأدبياً وشاعراً.
رحل إلى الشام والتقى فيها بالشاعر أبي العلاء المعري الذي رحب به استضافه، ثم رحل إلى مصر وبقي فيها إلى أن مات سنة 422هـ. وقد تولى القضاء في منطق متعددة.
من مؤلفاته: الإفادة، والتلخيص، والإشراف على مسائل الخلاف، والتلقين في فقه ... =
(1/29)
 
 
دلالة الأمر على الفور أخذها المالكية من قول مالك بتعجيل الحج، ومنعه من تفريق الوضوء، ومن مسائل أخر (1).
2 - إن بعض العلماء خرجوا لمحمد بن الحسن (ت 189هـ) (2) قولاً يفيد أن الأمر على التراخي. وبنوا ذلك على قوله في الجامع: لو نذر أن يعتكف شهراً له أن يعتكف أي شهر شاء، ولو نذر أن يصوم شهراً. له أني صوم أي شهر شاء، وأنه لا يصير مفرطاً بتأخير أداء الزكاة وصدقة الفطر والعشر (3).
3 - وأن علماء الحنابلة خرجوا للإمام أحمد – رحمه الله –رأيين في المسألة السابقة:
أحدهما: أنه على الفور، وعد الظاهر من كلام الإمام، بناء على قوله بوجوب الحج على الفور.
وآخرهما: أنه على التراخي، وقد كان ذلك إيماء منه في رواية
__________
(1) = مالك وشرح المدونة.
راجع في ترجمة: وفيات الأعيان 2/ 487، والديباج المذهب 159، وشذرات الذهب 3/ 323، والفتح المبين 1/ 230، ومعجم المؤلفين 6/ 226.
() رفع النقاب عن تنقيح الشهاب للرجراجي 0القسم الأول 2/ 984) تحقيق: أحمد بن محمد السراح (آلة كاتبة).
(2) هو: أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، صاحب الإمام أبي حنيفة ومدون المذهب. صحب أبا حنيفة، وأخذ عنه الفقه ثم عن أبي يوسف. والتقى الإمام الشافعي في بغداد وناظره كان مقدماً في الفقه والعربية والحساب. وتميز بالفطنة والذكاء. ولي القضاء بالرقة ثم بالري في عهد الخليفة هارون الرشيد. وكانت وفاته بالري سنة 189هـ، وقيل سنة 187هـ,
من مؤلفاته: كتب ظاهر الرواية المعتمدة في المذهب الحنفي، وهي الجامع الكبير، والجامع الصغير، والسير الكبير، والمبسوط، والزيادات وله كتب كثيرة غيرها.
راجع في ترجمته: الجواهر المضية 3/ 122، أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري ص 120 - 130، وفيات الأعيان 3/ 324، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 145، الفتح المبين 1/ 110، الفهرست ص 287، معجم المؤلفين 9/ 207.
(3) أصول الشاشي ص 131، أصول السرخسي 1/ 26.
(1/30)
 
 
الأثرم (1). فقد سئل عن قضاء رمضان يفرق؟ فقال نعم، قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة/184).
قال: أبو يعلي (ت 458هـ) (2): (فظاهر هذا أنه لم يحمل الأمر على الفور لأنه لو حمله على الفور، منع التفريق) (3).
4 - وأن قول الحنفية إن دلالة العام قطعية، وأنه يقع بينه وبين الخاص التعارض قد خرجوه من طائفة من المسائل المروية عن أئمتهم. قال السرخسي (ت: 490هـ): (فعلى هذا دلت مسائل علمائنا – رحمهم الله – قال محمد- رحمه الله- في الزيادات: إذا أوصى بخاتم لرجل ثم
__________
(1) الأثرم: هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هاني الطائي الأثرم الإسكافي. من أصحاب الإمام أحمد – رحمه الله- سمع الحديث من أحمد وحرمي بن حفص. وعفان بن مسلم، وأبي بكر بن شيبة وغيرهم. كان عالماً بالحديث حافظاً له عارفاً بالعلوم والأبواب والسنن. وقد نقل عن أحمد مسائل كثيرة، فصنفها ورتبها أبواباً. روى عنه طائفة من العلماء منهم موسى بن هرون، ومحمد بن جعفر، وعمرو بن محمد الجوهري وغيرهم. قال عنه الخطيب البغدادي نه من الأذكياء. توفي بعد سنة 260هـ.
من مصنفاته: العلل والسنن.
راجع في ترجمته: طبقات الحنابلة 1/ 66 - 74، تاريخ بغداد 5/ 110 - 112، المنهج الأحمد للعليمي 1/ 218 - 220.
(2) هو: أبو يعلي محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء البغدادي الحنبلي. ولد في بغداد، ونشأ فيها، وتفقه على أبي عبد الله بن حامد وغيره. ولاه القائم قضاء دار الخلافة والحريم وحران وحلوان، فاشترط لتولية ذلك أن لا يخرج في الاستقبالات ولا يقصد دار السلطان، فقبل القائم شرطه. وقد كان أبو يعلي عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون، وإماماً لا يشق له غبار سمع الحديث الكثير، وحدث وأفتى ودرس، فتخرج به عدد من العلماء، كان ذا مكانة عند القادر والقائم العباسيين. وقد توفي في بغداد عام 458ـ، ودفن بمقبرة باب حرب.
من مؤلفاته: العدة والكفاية في أصول الفقه، والمجرد في الفقه على مذهب الإمام أحمد، وردود على بعض الفرق، والأحكام السلطانية وغيرها.
راجع في ترجمته طبقات الحنابلة 2/ 193، شذرات الذهب 3/ 306، المنهج الحمد 2/ 128، الأعلام 6/ 99، معجم المؤلفين 9/ 245.
(3) العدة 1/ 281 - 283، التمهيد لأبي الخطاب 1/ 215 و216.
(1/31)
 
 
أوصى بفصه لآخر بعد ذلك، في كلام مقطوع، فالحلقة للموصى له بالخاتم، والفص بينهما نصفان، لأن الإيجاب الثاني في عين ما أوجبه للأول، لا يكون رجوعاً عن الأول، فيجتمع في الفص وصيتان أحداهما بإيجاب عام، والأخرى بإيجاب خاص. ثم إذا ثبت المساواة بينهما في الحكم يجعل الفص بينهما نصفين) (1).
ثم نقل عنه في المضاربة قوله: (إذا اختلف المضارب ورب المال في العموم والخصوص فالقول قول من يدعي العموم أيهما كان).
قال السرخسي: (فلولا المساواة بين الخاص والعام حكماً فيما يتناوله لم يصر إلى الترجيح بمقتضى العقد) (2).
وعزز السرخسي ذلك الاستدلال بقول محمد – رحمه الله – بشأن اختلاف المضارب ورب المال: (وإذا أقاما جميعاً البينة وأرخ كل منهما، آخرهما تاريخاً أولى، سواء كان مبيناً للعموم أو الخصوص) فقال: فقد جعل العام المتأخر رافعاً للخاص المتقدم، كما جعل الخاص المتأخر مخصصاً للعام المتقدم، ولا يكون ذلك إلا بعد المساواة).
5 - وإن ترجيح العام على الخاص في العمل به، وإثبات التعارض بينه وبين الخاص خرجوه رأياً لأبي حنيفة – رحمه الله – من ترجيحه قوله- صلى الله عليه وسلم -: (من حفر بئراً فله مما حولها أربعون ذراعاً) (3). العام بصيغته على الخاص الوارد بشأن بئر الناضح، وتحديده ذلك بأنه ستون ذراعاً (4).
وترجيحه قوله – صلى الله عليه وسلم -: (ما أخرجت الأرض ففيه العشر) (5) العام
__________
(1) أصول السرخسي 1/ 132 و133، كشف الأسرار للبخاري 1/ 590 - 592.
(2) المصدران السابقان.
(3) روي ابن ماجة من حديث عبد الله بن مغفل (من احتفر بئراً فله أربعون ذراعاً لطعن ماشيته)، وفي سنده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف. وقد أخرجه الطبراني من طريق أشعث عن الحسن. وأحمد عن أبي هريرة. تلخيص الحبير 3/ 63 في كلامه عن الحديث المرقم 1297.
(4) لاحظ مسألة البئر في: فتح القدير 8/ 140، رد المحتار 6/ 434.
(5) حديث (ما أخرجت الأرض ففيه العشر) أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر بلفظ (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)، =
(1/32)
 
 
بصيغته، على الخاص الوارد بقوله- صلى الله عليه وسلم -: (ليس في الخضروات صدقة (1). ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) (2) ومن قوله بنسخ الخاص بالعام، فإنه – رحمه الله – في شأن بول ما يؤكل لحمه، قال بنجاسته، وجعل الحديث الخاص الوارد بشأن العرنيين (3)، منسوخاً بالعام وهو قوله- صلى الله عليه وسلم- (استنزهوا عن البول فن عامة عذاب القبر منه) (4).
6 - وإن القول بنفي المفهوم المخالف خرجه علماء الحنفية لأئمتهم من طائفة من الحكام الفرعية المنقولة عن هؤلاء الأئمة، ومن ذلك أن أبا يوسف قال: إن قوله تعالى: {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} (5) لا دلالة فيه على أن اللاتي لم يهاجرن معه محرمات عليه.
__________
(1) = وقد رواه كثيرون منهم مسلم وابن حبان والنسائي وابن الجارود. ولكن قال أبو زرعة الصحيح وقفه على ابن عمر.
انظر: تلخيص الحبير 2/ 169، نيل الأوطار 4/ 139 و140، وفتح القدير 2/ 3.
() نقل ابن حجر في تلخيص الحبير عن الترمذي بشأن الخضروات أنه ليس يصح فيها شيء عن النبي – صلى الله عليه وسلم- وإنما يروى ذلك مرسلاً عن موسى بن طلحة. وتوجد روايات أخر لحديث: (ليس في الخضروات صدقة) ولكن وقع إنكار وتضعيف لمن قال فيها بالرفع. تلخيص الحبير 2/ 165.
(2) حديث (ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) متفق عليه منحديث أبي سعيد. وفي لفظ مسلم (ليس في حب ولا ثمر صدقة، حتى تبلغ خمسة أوسق). وفي رواية النسائي: (لا صدقة فيما دون خمسة أوساق من التمر) لاحظ تفاصيل ذلك في: تلخيص الحبير 2/ 168 و169.
(3) قصة العرنيين الذين أمرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يشربوا من ألبان وأبوال الإبل جاءت في الصحيحين عن أنس – رضي الله عنه – فانظر القصة وسائر الروايات في نيل الأوطار 1/ 48 و49.
(4) (حديث استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه) رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وفي لفظ له وللحاكم وأحمد وابن ماجة (أكثر عذاب القبر من البول) وأعله أبو حاتم، فقال إن رفعه باطل ولكن نقل عن الحسن أن رجاله ثقات وفي هذا الحديث روايات أخر. تلخيص الحبير 1/ 106.
(5) سورة الأحزاب: آية/50.
(1/33)
 
 
ومثل ذلك ما حكاه أبو الحسن الكرخي (1) عن أبي يوسف أيضاً أنه قال في قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (2): أنه لا دلالة فيه على أنها إذا لم تشهد لا يدرأ عنها العذاب (3). بل ذكروا عن محمد – رحمه الله – تخريجاً، أنه لا حجة فيه حتى في كلام الناس. أخذوه من قوله في السير الكبير (إذا حاصر المسلمون حصناً من حصون المشركين، فقال رجل من أهل الحصن أمنوني على أن أنزل غليكم على أن أدلكم على مائة رأس من السبي في قرية (كذا)، فأمنه المسلمون على ذلك فنزل فلم يخبر بشيء فنه يرد إلى مأمنه، لأنه لم يقل إن لم أدلكم فلا أمان لي) (4).
قال الجصاص (5): (وهذا يدل من مذهبه دلالة واضحة على أن التخصيص
__________
(1) هو: أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال الكرخي الحنفي. انتهت إليه رياسة العلم في أصحاب أبي حنيفة. درس في بغداد وتفقه عليه كثيرون. وكانت له اختيارات في الأصول، وعده ابن كمال باشا في طبقة المجتهدين في المسائل. كان كثير الصوم والصلاة صبوراً على الفقر. أصيب آخر عمره بالفالج، وكانت وفاته ببغداد سنة 340هز
من مؤلفاته: شرح الجامع الكبير وشرح الجامع الصغير في فروع الفقه الحنفي، ومسألة في الأشربة وتحليل نبيذ التمر، ورسالة في أصول الفقه.
راجع في ترجمته: الجواهر المضية 2/ 493، والفهرست لابن النديم ص 293 وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 124، وشذرات الذهب 2م358، والفتح المبين 1/ 186، ومعجم المؤلفين 6/ 239، والأعلام 4/ 193، وتاج التراجم ص 39.
(2) سورة النور: آية/8.
(3) الفصول في الأصول لأبي بكر الرازي الجصاص 1/ 291 و292.
(4) المصدر السابق: 1/ 292.
(5) هو: أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص. من الفقهاء المجتهدين. ورد إلى بغداد شاباً. ودرس وجمع وتفقه على أبي الحسن الكرخي، وأبي سهل الزجاجي، وتخرج به المتفقهة، وكان على جانب كبير من الزهد والورع. توفى في بغداد سنة 370هـ.
من مؤلفاته: الفصول في الأصول، وشرح الجامع الكبير لمحمد بن الحسن وشرح مختصر الطحاوي، وأحكام القرآن وغيرها.
راجع ترجمته في: الفهرست ص 293، والجواهر المضيئة 1/ 220ن ومفتاح السعادة 2/ 52، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 144، والأعلام 1/ 171، ومعجم المؤلفين 2/ 7.
(1/34)
 
 
بالذكر أو التعليق بالشرط لا يدل على أن ما عداه فحكمه بخلافه) (1).
7 - وأن قول الحنفية بأنه لا يجوز أن يراد من اللفظ الواحد في حالة واحدة حقيقته ومجازه، وأن الحقيقة والمجاز لا يجتمعان، أخذوه تخريجاً من طائفة من الفروع الفقهية أيضاً. منها قول علمائهم أنه لما أريد من آية الملامسة (أو لامستم النساء) الوقاع سقط اعتبار إرادة المس باليد وقول محمد بن الحسن: أنه إذا أوصى لمواليه وله موال أعتقهم ولمواليه موال أعتقوهم كانت الوصية لمواليه دون موالي مواليه.
وقوله في السير الكبير: لو استأمن أهل الحرب على آبائهم لا تدخل الأجداد في الأمان ولو استأمنوا على أمهاتهم لا يثبت الأمان في حق الجدات ... وإذا أوصى لأبكار بني فلان، لا تدخل المصابة بالفجور في حكم الوصية .. وقول علمائهم أنه لو أوصى لبني فلان وله بنون وبنو بنيه، كانت الوصية لبنيه دون بني بنيه.
وقولهم: لو حلف لا ينكح فلانة، وهي أجنبية، كان ذلك على العقد، حتى لو زنا بها لا يحنث (2).
8 - إن نسبة اشتراط انقراض العصر للاحتجاج بالإجماع إلى الإمام أحمد – رحمه الله- خرجوه من ظاهر كلامه في رواية عبد الله (الحجة على من زعم أنه إذا كان أمراً مجمعاً، ثم افترقوا، أن نقف على ما أجمعوا عليه، أن أم الولد كان حكمها حكماً للأمة بإجماع، ثم أعتقهن عمر، وخالفه عليّ بعد موته، وحد الخمر ضرب أبو بكر أربعين، وعمر خالفه فزاد أربعين، ثم ضرب عليّ أربعين) فظاهر هذا الكلام اعتداده – رحمه الله – بالمخالفة، خلاف عليّ بعد عمر في أم الولد، وخلاف عمر بعد أبي بكر في حد الخمر. وهذا هو سند تخريجهم رأياً له باشتراط انقراض العصر (3).
__________
(1) الفصول في الأصول 1/ 292.
(2) أصول الشاشي ص 46.
(3) العدة 4/ 1095 وما بعدها. والتمهيد لأبي الخطاب 3/ 346.
(1/35)
 
 
المبحث الثالث
حكم نسبة الأصول المخرجة إلى الأئمة
ذكرنا في المبحث السابق أن كثيراً من أصول الأئمة لم ينص عليها من قبلهم وإنما هي مخرجة من فروعهم الفقهية، اجتهاداً من أهل التخريج، بناء على فهمهم لنصوص الأئمة وإدراكهم لعللها، والمعاني الرابطة بينها عند تعددها، وإذا كان الأمر كذلك فإن احتمالات الخطأ في تخريج القواعد والأصول أمر ممكن، ولا يمكن القطع بنسبتها إليهم - لا سيما إذا كانت مبنية على فروع جزئية محدودة، أو باستقراء جزئي مبتور.
وهذا الأمر - كما يظهر- هو الذي دعا بعض العلماء إلى إنكار مثل هذه التخريجات، على تفاوت بينهم في ذلك، فابن برهان (ت 518هـ) (1) ينكر ذلك جملة وتفصيلاً، فقد قال في مسألة اقتضاء الأمر الفورية أو عدمها، وما نسب من آراء بشأنها على أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله-: (وهذا خطأ
__________
(1) هو: أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد الوكيل المروف بابن برهان الحنبلي ثم الشافعي. ولد ببغداد وفيها نشأ وتلقى علومه على مشاهير علماء زمانه، كأبي حامد الغزالي وأبي بكر الشاشي، وألكيا أبي الحسن الهراسي. كان حاد الذكاء سريع الحفظ، غلب عليه علم الأصول، وكان يُضرب به المثل في حل الإشكال. درس بالنظامية شهراً واحداً وعزلن ثم تولى ذلك ثانياً يوماً واحداً وعزل أيضاً. وكانت وفاته ببغداد سنة 518هـ وقيل غير ذلك.
من مؤلفاته: الوصول على الأصول، والبسيط، والأوسط في علم الأصول أيضاً، وله الوجيز في الفقه.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 1/ 82، طبقات الشافعية للأسنوي 1/ 208، الأعلام 1/ 173 الفتح المبين 2/ 15.
(1/36)
 
 
في نقل المذاهب، فإن الفروع تبني على الأصول. ولا تبنى الأصول على الفروع. فلعل صاحب المقالة لم يبن فروع مسائله على هذا الأصل، ولكن بناها على أدلة خاصة، وهو أصل يعتمد عليه في كثير من المسائل) (1).
وربما كان ما ذكره ابن برهان من احتمال الخطأ، هو الدافع لكثير من العلماء على جعل التخريج على أصول وقواعد الإمام، يأتي بعد مرتبة التخريج من الفروع الفقهية المنصوص عليها من قبله (2).
ومن خلال ما خرج للأئمة من أصول نجد أن العلماء قد اختلفوا في صحة تخريج عدد منها. وسنكتفي بذكر بعض الأمثلة، لإيضاح ذلك وليس للحصر.
1 - ذكر أبو بكر الرازي (ت 370هـ) أن ما روي عن أبي حنيفة – رحمه الله- من تجويزه قضاء القاضي ببيع أمهات الأولاد، يتخرج من ظاهره أن أبا حنيفة يرى الإجماع على أحد الرأيين في العصر التالي ليس بإجماع صحيح ولا يحتج به. لكن أبا الحسن الكرخي (ت 340هـ) كان يرى أن افتاء أبي حنيفة بذلك لا يلزم منه هذا الأصل المخرج، إذ من الجائز أن يكون مذهبه أنه إجماع صحيح. وإن لم يفسخ قضاء القاضي إذا قضى بخلافه. وقد كان الكرخي يوجه رفضه لمثل هذا التخريج توجيهاً خاصاً لم نعلمه لأنه ذهب حفظه عن تلميذه الجصاص فلم ينقله (3) ولكنه – مع ذلك – يكشف لنا أن ما ذكره ابن برهان لا يخلو من وجاهة، وأن تخريج الأصول بمثل هذا الطريق ليس سبيلاً مؤكداً، وأنه ربما كان طريقاً على الخطأ.
2 - وذكر القاضي أبو يعلي (ت 458هـ) تخريج أصل للإمام أحمد – رحمه الله – مفاده أن الأصل في الأعيان المنتفع بها قبل الشرع الإباحة، أخذاً
__________
(1) الوصول إلى الأصول 1/ 150، فواتح الرحموت 1/ 387.
(2) أدب المفتي والمستفتي ص 97.
(3) الفصول 3/ 340.
(1/37)
 
 
من إيماء أحمد في رواية أبي طالب (1)، وقد سأله عن قطع النخل؟ فقال: لا بأس به لم نسمع في قطع النخل، شيئاً. والحجة في ذلك أن الإمام أحمد أسند الإباحة في قطع النخل، لعدم ورود الشرع بحظره (2).
فتعقب ابن تيمية (3) هذا التخريج من هذه الرواية، وبين أن قول الإمام أحمد بعدم البأس لا يعني أخذه بما ذكر. فقد يكون ذلك مأخوذاً من العمومات الشرعية، ويجوز أن يكون مما سكت عنه الشرع فيكون عفواً، ويجوز أن يكون استصحاباً لعدم التحريم، ويجوز أن يكون ذلك راجعاً إلى أن الأصل هو الإباحة العقلية. ثم إن ما جاء في الرواية عن أحمد رحمه الله من إباحة القطع هو من الأحكام المتعلقة بالأفعال، لا المتعلقة بالأعيان (4).
3 - ومن هذا القبيل اختلاف علماء الحنفية في مسألة مخاطبة الكفار بالشرائع
__________
(1) هو: أحمد بن حميد أبو طالب المشكاني. صحب الإمام أحمد، وروي عنه مسائل كثيرة. وكان أحمد – رحمه الله- يكرمه ويقدمه كان صالحاً فقيراً صبوراً على الفقر. توفى سنة 244هـ. انظر: طبقات الحنابلة 1/ 39.
(2) التمهيد لأبي الخطاب 4/ 270، والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص 107 و108، والمسودة لابن تيمية ص 478 و479.
(3) هو: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام المعروف بابن تيمية الحراني ثم الدمشقي. ولد بحران. وتحول به أبوه إلى دمشق، فظهر نبوغه واشتهر بين العلماء ثم ذهب إلى مصر، فتعصب عليه جماعة من أهلها فسجن مدة ثم نقل إلى الإسكندرية ثم أطلق فعاد إلى دمشق. والشيخ –رحمه الله- من أبرز علماء الحنابلة ومجتهديهم، كان عالماً بالفقه والأصول والحديث والتفسير والعربية وغيرها من العلوم. وكانت وفاته بدمشق سنة 728هـ.
من مؤلفاته: مجموعة فتاويه، ومنهاج السنة، وأصول التفسير، ودرء تعارض العقل والنقل والاستقامة وغيرها.
راجع في ترجمته: الدرر الكامنة 1/ 168، وشذرات الذهب 6/ 80، والأعلام 1/ 144، ومعجم المؤلفين 1/ 261، وهدية العارفين 1/ 105.
(4) المسودة ص479، والقواعد والفوائد الأصولية ص 108.
(1/38)
 
 
وتخريجهم رأياً لمشايخهم في المسألة، هو أن الكفار لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط. وقد تنوعت تخريجاتهم وتوجيهاتهم فيها.
وهذه المسألة مما لم ينص عليها علماء الحنفية المتقدمون، ولكن بعض المتأخرين خرجوا لعلمائهم رأياً من مسائلهم، ومن خلافاتهم مع الإمام الشافعي - رحمه الله - في طائفة من الفروع (1).
فبعضهم خرج ذلك من أن المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء صلاة الردة، خلافاً للشافعي - رحمه الله- فدل على أن المرتد الذي هو كافر، غير مخاطب بالصلاة عندهم (2) وبعضهم خرج ذلك من أن المكلف إذا صلى في أول الوقت ثم ارتد، ثم أسلم والوقت باقٍ. فإن عليه الأداء، خلافاً للشافعي، وكذا لو حج ثم ارتد ثم أسلم. وبعضهم خرج ذلك من أن الشرائع ليست من الإيمان عند الحنفية، خلافاً للشافعي، فلا يكونون مخاطبين بأداء الشرائع المبنية على الإيمان.
وهذه تخريجات مرفوضة، أو ضعيفة، عند المحققين من علماء الحنفية، وقد أجابوا عنها بما يدل على أن علماءهم لم يقولوا بالأحكام المذكورة بسبب عدهم الكفار غير مخاطبين بالشرائع، بل لأسباب أخر (3).
وصحح السرخسي وتابعه صدر الشريعة، أن هذا القول يؤخذ من قولهم إن من نذر أني صوم شهراً ثم ارتد ثم أسلم لم يجب عليه شيء.
قال السرخسي: (فعرف أن الردة تبطل وجوب أداء كل عبادة، فيكون هذا شبه التنصيص عن أصحابنا أن الخطاب بأداء الشرائع التي تحتمل السقوط لا يتناولهم ما لم يؤمنوا) (4).
ولا شك أن مثل هذا الاختلاف في التخريجات، ومثل هذه الاعتراضات الموجهة إليها يعزز وجهة النظر القائلة بكثرة احتمالات الخطأ في
__________
(1) التوضيح بشرح التلويح لصدر الشريعة 1/ 214 و215.
(2) المصدر السابق، وأصول السرخسي 1/ 75.
(3) المصدران السابقان، ولاحظ فيهما الإجابة عن كل هذه التخريجات.
(4) أصول السرخسي 1/ 75 و76.
(1/39)
 
 
التخريج، بصورة واضحة.
4 - ومن هذا القبيل تخريج ابن الرفعة (1) (ت 710هـ) أصلاً للشافعي هو الأخذ بقاعدة سد الذرائع، أخذه من نصه في باب إحياء الموات من كتاب الأم، إذ قال - رضي الله عنه- بعد ذكر النهي عن بيع الماء ليمنع به الكلأ، وأنه يحتمل أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله. قال ابن الرفعة: (وإذا كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام) (2).
لكن الشيخ تقي الدين السبكي (3) نازع في هذا التخريج، وقال: (إنما أراد
__________
(1) هو: أحمد بن محمد بن علي الأنصاري البخاري المصري الشافعي، الشهير بابن الرفعة، والملقب بنجم الدين، والمكنى بأبي العباس. كان من كبار أئمة الشافعية في مصر. قال عنه الأسنوي: إنه لم يخرج في غقليم مصر بعد ابن الحداد من يدانيه، ولا نعلم في الشافعية مطلقاً بعد الرافعي من يساويه. كان أعجوبة في معرفة مذهب الشافعي، وفي قوة التخريج. عرف بالدين والتقوى، ومن أشهر تلاميذه تقي الدين السبكي. توفى في مصر سنة 710هـ.
من مؤلفاته: شرح التنبيه المسمي بـ "الكفاية"، وشرح الوسيط المسمى بـ "المطلب" ولم يتمه، والإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان.
انظر في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 5/ 177، طبقات الشافعية للأسنوي 1/ 601، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 66، الدرر الكامنة 1/ 336. معجم المؤلفين 2/ 135 شذرات الذهب 6/ 22.
(2) الأشباه والنظائر لابن السبكي 1/ 119.
(3) هو: أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي السبكي الملقب بتقي الدين، ولد بسبك من أعمال المنوفية في مصر، وإليها نسب، تلقى الفقه على رجل أعمى من أهل شباط ثم ارتحل إلى القاهرة وسمع من جماعة كثيرين، وأخذ العلم عن كبار علماء القاهرة، واتخذ طريقة الجنيد في التصوف ثم ارتحل إلى الإسكندرية، فالشام، ثم عاد واستر في القاهرة مدرساً ومفتياً ومصنفاً حتى عام 739هـ، حين شغر منصب قضاء الشام بموت الجلال القزويني فتولاه الإمام السبكي، فمرض وعاد إلى مصر، وسكن على شاطيء النيل حتى توفاه الله سنة 756هـ، ودفن بمقابر الصوفية بباب النصر. شارك في علوم كثيرة التفسير والحديث، واللغة والنحو والجدل والخلاف والفقه، =
(1/40)
 
 
الشافعي – رحمه الله- تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه. ومن هذا النوع الماء، فإنه مستلزم عادة لمنع الكلأ الذي هو حرام. ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل) (1).
5 - ومن ذلكما ذكره الغزالي (2) في المنخول، ونسبه إلى أبي حنيفة، وهو تجويز إخراج السبب من عموم اللف، أخذ ذلك تخريجاً من قول أبي حنيفة – رحمه الله- إن الحامل لا يلاعن عنها (3)، مع أن الآية وردت في امرأة العجلاني وكانت حاملاً (4). ومن إخراجه ولد الأمة الموطوءة من
__________
(1) = والأصول، وكان محققاً ومدققاً، ذا استنباطات جليلة في الفقه والقواعد المحررة. قيل غنه صنف نحو مائة وخمسين كتاباً مطولاً ومختصراً.
من كتبه: الإبهاج في شرح المنهاج لم يكمله وأتمه ابنه، مختصر طبقات الفقهاء، الدر النظيم في التفسير ولم يكمله.
راجع في ترجمته: طبقات الشافعية للأسنوي 2/ 75، الدرر الكامنة 4/ 74، شذرات الذهب 6/ 180، الأعلام 4/ 302، معجم المؤلفين 7/ 127.
() الأشباه والنظائر لابن السبكي 1/ 119.
(2) هو: أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي المعروف بحجة الإسلام. والغزالي من أشهر علماء المسلمين وأبرزهم في ميادين الحكمة والكلام والفقه والأصول والتصوف مع جمعه إلى ذلك جملة من علوم أخرى. ولد بطوس وارتحل في طلب العلم، فأخذه عن أبي نصر الإسماعيلي، ثم عن إمام الحرمين الجويني في نيسابور، ثم جلس للاقراء، وندب للتدريس في المدرسة النظامية ببغداد، وأعجب به أهل العراق، وعمت منزلته ثم أقبل على السياحة والعبادة، وكانت وفاته بطوس سنة 505هـ،
من مؤلفاته: إحياء علوم الدين، والمستصفي في أصول الفقه والمنخول في أصول الفقه، وشفاء الغليل في أصول الفقه، والوجيز في فروع الفقه الشافعي، وتهافت الفلاسفة والمنقذ من الضلال وإلجام العوام عن علم الكلام، وغيرها.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان 3/ 353، طبقات الشافعية الكبرى 4/ 101، 182، شذرات الذهب 4/ 10، طبقات الشافعية لابن هداية الله ص 192، هدية العارفين 2/ 79، والأعلام 7/ 22 معجم المؤلفين 11/ 266.
(3) انظر رأي أبي حنيفة وتوجيه رأيه ورأي من وافقه بهذا الشأن في الهداية بشرح فتح القدير3/ 259، وفي رد المحتار 3/ 490، وتبين الحقائق 3/ 20.
(4) الآيات الواردة في اللعان هي الآيات: 6 - 9 من سورة النور ونصها: 0والذين يرمون =
(1/41)
 
 
عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش) (1)، فلم يثبت نسبه منه إلا بدعواه، مع أن النص العام (الولد للفراش) جاء بسبب وليدة زمعة، وكانت أمة موطوءة (2) ويعزو الغزالي في المستصفي إخراج أبي حنيفة ولد الأمة من العموم لعدم علمه بالسبب (3). لكن الحنفية يرفضون نسبة مثل هذا الأصل لأبي حنيفة، وإن كانت نسبة الفروع الفقهية إليه صحيحة. لكنهم يؤلونها بطائفة من التأويلات التي تبعد نسبة هذا الرأي عن إمامهم (4).
6 - ومثل ذلك يتحقق حتى في القواعد والضوابط الفقهية. ومن أمثلة ذلك أن المسائل الاثنى عشرية (5) المختلف فيها بين أبي حنيفة – رحمه الله-
__________
(1) = أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين. (7) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9)).
وقد ذكر أكثر من سبب لنزول هذه الآية، ومنها ما أشار إليه الغزالي.
والعجلاني هو عويمر بن نصر. وفي صحيح البخاري ماي شهد لذلك. وقد نقل عن السهيلي أنه قال: إنه الصحيح، ونسب غيره إلى الخطأ (تفسير آيات الأحكام 3/ 135).
وانظر الروايات بهذا الشأن في تلخيص الحبي ر- كتاب اللعان 3/ 224 ومابعدها.
() (الولد للفراش وللعاهر الحجر) جزء من حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة، وقال المناوي: وهو متواتر فقد جاء عن بضعة وعشرين صحابياً (كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2/ 451)، لاحظ قصة الحديث في البخاري وشرحه فتح الباري 12/ 32. فقد جاء بشان الاختلاف في إثبات نسب ولد جارية زمعة، فقد ادعاه سعد بن أبي وقاص لأخيه عتبة، وادعى عبد بن زمعة أنه (أخوه) وابن جارية أبيه وقد ولدته على فراشه.
(2) المنخول ص 151 و152.
(3) المستصفي مع فواتح الرحموت 2/ 61.
(4) التحرير لابن الهمام بشرح التقرير والتحبير 1م36، وبشرح تيسير التحرير 1/ 265.
(5) المسائل الإثنا عشرية هي إثنا عشر فرعاً، فقهياً جلس فيها المصلى الجلسة الأخيرة قدر التشهد ولم يسلم، ثم حدث ما يفسد الصلاة، فعند أبي حنيفة أن صلاته تفسد كما =
(1/42)
 
 
وصاحبيه لم يتفق على الأصل الذي بنيت عليه. فبناها أبو سعيد البردعي (ت 317هـ) (1) على أن الخروج عن الصلاة بصنع المصلى فرض عند أبي حنيفة، وليس فرضاً عندهما (2) فأنكر أبو الحسن الكرخي (ت 340هـ) ذلك، وقال: هذا غلط، لأن الخروج قد يكون بمعصية كالحدث العمد، ولو كان فرضاً لاختص بما هو قربة (3).
وخرجها على أصل آخر هو (ما غير الفرض في أوله غيره في آخر عند أبي حنيفة) (4).
__________
(1) = لو حدث ذلك في خلال الصلاة، وعند صاحبيه لا تفسد، لأن الصلاة قد تمت بالجلوس المساوي في فترته قدر التشهد.
وقد اختلف علماء الحنفية في الأصل الذي تبنى عليه هذه الفروع، فمنهم من انتصر للكرخي، ومنهم من انتصر للبردعي، نظراً لأن بعض الفروع الفقهية صعب تطبيق هذا الضابط عليها، على تخريج الكرخي.
وممن أيد البردعي فيما ذهب إليه حسن بن عمار الشرنبلالي (ت 1069هـ) في رسالة (المسائل البهية الزكية على الإثنى عشرية). ويمكن مراجعة هذه المسائل في كتاب تأسيس النظر، وفي كتب الفقه الحنفي في موضع مفسدات الصلاة. وقد أضاف بعض العلماء مسائل أخر إليها فوصلت إلى عشرين فرعاً.
راجع: تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي في الأصل الأول في كتابه المذكور.
ورد المحتار لابن عابدين 1/ 606، وفتح القدير لابن الهمام 1/ 274، والعناية للبابرتي بهامش فتح القدير 1/ 273، وتبيين الحقائق للزيلعي 1/ 151.
() هو: أبو سعيد أحمد بن الحسين من كبار علماء الحنفية في بغداد في زمانه. كان أستاذاً لأبي الحسن الكرخي وأبي طاهر الدباس القاضي وأبي عمرو الطبري ويرهم. وكانت له منارات مع داود وغيره والبردعي نسبة إلى بردعه، وهي بلدة في أقصى بلاد أذربيجان. توفي سنة 317هـ قتيلاً في وقعة القرامطة مع الحجاج.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيئة 1/ 163، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 141، والفهرست لابن نديم ص 293.
(2) الهداية 1/ 274، واللباب في شرح الكتاب بتحقيق محي الدين عبد الحميد 1/ 87 و88، وتبيين الحقائق للزيلعي 1/ 151، والعناية مع فتح القدير 1/ 274، ورد المحتار لابن عابدين 1/ 449 و1/ 606 وما بعدها.
(3) رد المحتار 1/ 449 و1/ 606 وما بعدها، فتح القدير 1/ 275.
(4) تأسيس النظر ص 11 وما بعدها.
(1/43)
 
 
تعقيب في مسألة نسبة الأصول المخرجة إلى الأئمة:
والذي يظهر لنا من خلال ما لاحظناه من نقد لبعض التخريجات، وما أطلعنا عليه مما لم نذكره، أن مجال النقد في نسبة القواعد والأصول المخرجة إلى الأئمة ينبع من أمرين:
الأمر الأول: أن الأساس في الوصول إلى قواعد الأئمة هو الاستقراء الذي يعتمد على ملاحظة الأقوال الواردة عنهم، والموازنة بينها، وتحليل صفاتها ودلالاتها ومعانيها للوصول بذلك على القضايا الكلية أو القواعد التي تربط بين تلك الأحكام أو القواعد المتفرقة (1).
والاستقراءات التي بنيت عليها القواعد كانت ناقصة، والاستقراء الناقص وإن كان هو المنهج العلمي الصحيح في نظر جون ستيورت مل والمناطقة المعاصرين (2)، لأنه يكسبنا علماً جديداً، ويعرفنا على المجهول، لكن بسبب أن نتيجته أعم من أية مقدمة من مقدماته، فإنه في معرض إيقاع الباحث في الخطأ. فقد يكتشف فيما بعد أمثلة أخرى تخالف الأمثلة التي بنى عليها نتائجه السابقة، الأمر الذي يستدعي تبديل الحكم السابق بما يتفق مع الاكتشاف الجديد ومن قوانين المنطق أن صدق الحكم الجزئي ليس دليلاً على صدق الحكم الكلي (3).
ومن المعلوم أن تخريج أصول الأئمة كان معتمداً على مثل هذا الاستقراء الناقص، بل والبالغ النقصان؛ لأنهم في كثير من الأحيان يبنون القواعد على فروع لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأحياناً على فرع أو فرعين، مما يجعل بعض تخريجاتهم في نطاق الظن الضعيف.
الأمر الثاني: أن الأصول المخرجة كانت تعتمد على فهم المخرج نفسه
__________
(1) لاحظ: المنطق التوجيهي للدكتور/ أبو العلاء عفيفي ص 118 - 121.
(2) المصدر السابق 123/ 124.
(3) مسائل فلسفية 1/ 147 للدكتور/ توفيق الطويل.
(1/44)
 
 
للنص ولحاظه وجه الدلالة فيه، فهو لا يعدو أن يكون مجتهداً في التعرف على مدرك الإمام في الفرع الفقهي موضوع التحليل، وحينئذ فإن احتمال الخطأ في معرفة مدرك الإمام وارد. ومما يدل على ذلك اختلافهم في بعض الأصول المخرجة، واستدراك بعضهم على بعض، مما سبقت الإشارة إلى طائفة منها. وهذا الأمر يضيف خللاً آخر إلى مادة الاستقراء، لأنه يدخل فيها - في حالة الخطأ - ما ليس منها.
وفي كثير من الأحيان لا نجد في مراجع المذاهب ما يؤيد تخريج مثل تلك الأصول أو القواعد للأئمة. فقد لا تكون مرادة لهم، ولعلهم كانوا يوجهون آراءهم بعلل وأسباب أخر. ومن ذلك مثلاً ما خرجه السمرقندي (1) في تأسيس النظائر من أصول وقواعد للأئمة، فإن كثيراً منها يمكن مناقشته فيها.
وعند الرجوع إلى المصادر الفقهية المشهورة في المذهب بشأن الفروع المندرجة في الأصول المذكورة لا نجد تعليل الكثير منها بالأصل الذي ذكره. بل إن الفقهاء يذكرون عللاً وأسباباً أخرى غير تلك الأصول.
وتأسيساً على ما تقدم فن نسبة الأصول والقواعد إلى الأئمة يحتاج إلى مزيد من البحث والتأمل، وتتبع ما نقل عنهم من تراث فقهي، أو أصولي، أو غير ذلك، والتعرف على الطريق الذي أتبع في تخريج الآراء ونسبتها إليهم.
ولكننا ننبه هنا إلى أن كثيراً من الانتقادات المتعلقة بالنسبة كانت لتخريجات مبنية على عدد محدود من الفروع، وربما كان بعضها مبنياً على
__________
(1) هو: أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي الحنفي، الملقب بإمام الهدى. وهو من علماء الحنفية المشهورين، قال عنه القرشي: (هو الإمام الكبير صاحب الأقوال المفيدة والتصانيف المشهورة) توفى سنة 373هـ، وقيل سنة 393هـ.
من مؤلفاته: تأسيس النظائر الفقهية، وكتاب عيون المسائل، وكتاب النوازل في الفقه، وتنبيه الغافلين وبستان العارفين.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيئة للقرشي 1/ 544 و545، وتاج التراجم لابن قطلوبغا ص 79، ومفتاح دار العادة 2/ 142، وكشف الظنون 1/ 334.
(1/45)
 
 
فرع واحد، الأمر الذي أدى إلى نسبة الآراء المتعددة والمتناقضة إلى بعض الأئمة في بعض الأحيان، وفي المسألة الواحدة (1). ولو كان التخريج مبنياً على الاستقراء التام أو الواسع النطاق، باستقصاء كل ما ورد عن الإمام، فإن ذلك يصلح طريقاً إلى التأصيل، ويحقق غلبة ظن بمآخذهم، وما استندوا إليه في التفريع. وهذا المنهج هو الذي قامت عليه قواعد سائر العلوم، وبه استنبطت شروطها، ووضعت ضوابطها والله أعلم.
__________
(1) لاحظ على سبيل المثال ما خرجوه من وجهات نظر متعددة للإمام أحمد – رحمه الله- في مسألة غفادة خبر الواحد العلم أو عدم إفادته ذلك، حيث ذكروا له ما يقرب من خمسة آراء متناقضة أو متضادة.
انظر: العدد ص 898 وما بعدها والتمهيد لأبي الخطاب 3/ 78 وروضة الناظر ص 99 و100، والمسودة ص 240 - 244.
ولاحظ أيضاً ما نقل عنه في مسألة رواية العدل عن غيره هل تعد تعديلاً له أو لا؟
انظر: العدة ص 934 وما بعدها، والتمهيد لأبي الخطاب 3/ 129 - 130، والمسودة ص 273، وأصول الفقه لابن مفلح بتحقيق د/ فهد السدحان ص 209.
(1/46)
 
 
الفصل الثاني
تخريج الفروع على الأصول
ويشتمل على:
- تمهيد في: تعريفه، وبيان موضوعه، ومباحثه وفائدته، والعلوم التي استمد منها وبعض أحكامه.
- المبحث الأول: نشأة هذا العلم وتطوره.
- المبحث الثاني: أسباب اختلاف الفقهاء.
- المبحث الثالث: التخريج على الأصول، وحكم نسبة الآراء إلى الأئمة بناء عليه.
- المبحث الرابع: التعريف بأهم الكتب المؤلفة فيه.
(1/47)
 
 
تمهيد
في: تعريفه – وبيان موضوعه ومباحثه –
وفائدته – وبعض أحكامه
لم نجد من تكلم عن ذلك على أنه علم مستقل يحمل هذا الاسم، وإنما كان يتحدث عن التخريج باعتباره عملاً من أعمال المجتهد أو المفتي. ولهذا فقد كانت بعض مباحثه ترد في باب الاجتهاد من مباحث أصول الفقه، وما ألف في هذا الباب مما يحمل العنوان المذكور، كان تطبيقاً وتمثيلاً لعملية التخريج، فهو ألصق بالفن منه بالعلم، ومن أجل ذلك لم نطلع على من عرفه على أنه علم قائم بذاته، مما يجعل، مهمة تعريفه غير سهلة. وربما كان النظر فيما ألف في هذا الباب، وتأمل ما ذكره مؤلفوها في مقدمات كتبهم مما يساعد على توضيح ذلك، ويكشف عن إطار هذا العلم وحدوده.
إننا لو نظرنا إلى الكتب المؤلفة في هذا العلم، نجد أن أكثر مؤلفيها قد ذكروا في مقدمات كتبهم أن أهم ما يهدفون إليه من تلك الكتب هو رد الاختلافات الفقهية إلى الأصول التي انبنت عليها الآراء، فكأن تخريج الفروع على الأصول هو بيان للأسباب والعلل التي دعت الفقهاء إلى الأخذ بما قالوه من أحكام.
يقول الزنجاني (1): (ثم ال يخفى عليك أن الفروع إنما تبنى على
__________
(1) هو: أبو المناقب. وقيل أبو الثناء محمود بن أحمد بن بختيار الزنجاني الشافعي. كان بحراً من بحار العلم كما يقول الأسنوي. برز في الفقه والأصول والتفسير والحديث. استوطن بغداد وتولى فيها القضاء مدة ثم عزل. درس في المدرسة النظامية والمستنصرية، واستشهد ببغداد، أيام دخول التتار بقيادة هولاكو إليها سنة 656هـ. ... =
(1/49)
 
 
الأصول، وأن من لا يفهم كيفية الاستنباط، ولا يهتدي إلى وجه الارتباط بين أحكام الفروع وأدلتها التي هي أصول الفقه، لا يتسع له المجال، ولا يمكنه التفريع عليها بحال. فإن المسائل الفرعية على اتساعها، وبعد غايتها، لها أصول معلومة وأوضاع منطوقة، ومن لا يعرف أصولها وأوضاعها لم يحط بها علماً) (1).
فالتخريج – عنده – هو بيان للأصول التي استند إليها الأئمة في الاستنباط وبيان لكيفية ووجه الاستنباط منها، وجمع للفروع المختلفة، وإن تباعدت أبوابها، إن كانت تستند إلى أصل واحد.
ويفه من كلامه أن هذا العلم أيضاً، يهيئ العالم به إلى التفريع على الأصول وبيان أحكام ما لم ينص عليه، استناداً إلى تلك الأصول أو العلل إن كانت تلك الوقائع تتفق مع الفروع المنقولة عن الأئمة في معناها، وفي الدخول تحت القاعدة أو الأصل الذي رُدت إليه الفروع.
وفيما ذكره الأسنوي (2) في كتابه المؤلف في هذا العلم تصرحي بأن هذا
__________
(1) = من مؤلفاته: السحر الحلال في غرائب المقال في فروع الشافعية، وتهذيب الصحاح للجوهري، وتخريج الفروع على الأصول.
راجع في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى 5/ 154، طبقات الشافعية للأسنوي 2/ 15، الأعلام 7/ 161، الفتح المبين 2/ 70، معجم المؤلفين 12/ 148، هدية العارفين 2/ 405.
() تخريج الفروع على الأصول ص 1 و2.
(2) هو: أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي الشافعي الملقب بجمال الدين. ولد بأسنا في صعيد مصر، وقدم إلى القاهرة وتلقى علومه على عدد من علمائها، فانتهت غليه رئاسة الشافعية، ولي الحسبة ووكالة بيت المال، ثم اعتزل الحسبة، برع في التفسير والفقه والأصول والعربية والعروض وكانت وفاته بمصر سنة 772هـ.
من مؤلفاته: التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، نهية السول شرح منهاج الوصول في أصول الفقه، طبقات الشافعية، الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية، الهداية إلى أوهام الكفاية في فروع الفقه الشافعي، خبايا =
(1/50)
 
 
العلم، كما يبين مآخذ العلماء وأصولهم التي استندوا إليها فيما ذهبوا إليه من الأحكام، فإنه يقصد منه أيضاً بيان كيفية استخراج الفروع من تلك الأصول. وقد ذكر أنه – شخصياً – فرع على تلك القواعد أحكاماً فيما لم يقف فيه على نقل (1). وأن غرضه من تأليف كتابه هو أن "يعرف الناظر في ذلك مأخذ ما نص عليه أصحابنا وأصلوه وأجملوه أو فصلوه، ويتنبه على استخراج ما أهملوه، ويكون سلاحاً وعدة للمفتين، وعمدة للمدرسين" (2). وأن به تتحقق غاية الطلب، وهي "تمهيد الوصول إلى مقام استخراج الفروع من قواعد الأصول، والتعريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج" (3).
واستناداً إلى مثل ما تقدم، وإلى ما اطلعنا عليه في بعض كتب الفقه والأصول. سنقوم بتعريف هذا العلم، وبيان موضوعه ومباحثه وفائدته، وبعض أحكامه.
أولاً: تعريفه:
إذا نظرنا إلى ما تقدم من وجهات النظر، وأردنا أن نعرف علم تخريج الفروع على الأصول تعريفاً يوفق بين تلك التصورات، فإننا نقترح تعريفه بأنه:
(هو العلم الذي يبحث عن علل أو مآخذ الأحكام الشرعية لرد الفروع إليها بياناً لأسباب الخلاف، أو لبيا حكم ما لم يرد بشأنه نص عن الأئمة بإدخاله ضمن قواعدهم أو أصولهم) (4).
__________
(1) = الزوايا، المنثور في القواعد.
راجع في ترجمته: الدرر الكامنة 3/ 147، شذرات الذهب 6/ 223، معجم المطبوعات 1/ 445، هدية العارفين 1/ 561، الأعلام 3/ 344، معجم المؤلفين 5/ 23.
() التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص 46.
(2) المصدر السابق ص 46 و47.
(3) المصدر السابق.
(4) على أساس أن هذه الحكام معلومة ومعروفة من خلال القاعدة التي هي من القضايا =
(1/51)
 
 
ثانياً: موضوعه ومباحثه:
1 - موضوعه:
بعد أن بينا معنى الموضوع وما يراد به عندهم، في الفصل السابق، فإننا سنحاول تلمس موضوع هذا العلم، وفق ذلك المعنى، من خلال المؤلفات التي كتبت في مجاله التطبيقي، وما ورد في كتب أصول الفقه مما يتعلق ببعض مباحثه، إذ لم أجد من تناول ذلك فيما سبقن ولم أطلع على دراسة نظرية لهذا العلم من بل.
إن إلقاء نظرة على المؤلفات التي طرحت في هذا المجال يوضح أنها كانت تتناول طائفة من القواعد والأصول المختلف فيها، وبعض القواعد والضوابط الفقهية (1) والأحكام الفقهية التي بنيت على هذه القواعد والضوابط. كما أن بعضها اختص بذكر ما يبنى على القواعد النحوية واللغوية من الأحكام الشرعية، كالذي صنعه الأسنوي (ت 772هـ) في كتابه: (الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية) (2) وإفرادها في التأليف لا يعني خروجها عن أن تدخل ضمن القواعد الأصولية، فهي منها وليست خارجة عنها.
وإذن فهذه الكتب تبحث في القواعد الأصولية من حيث ما يبتني عليها
__________
(1) = الحملية الكية الموجبة عندهم، فعمل المخرج هو ضم قضية صغرى إلى الكبرى المتمثلة بالقاعدة الأصولية أو الفقهية لينتج عن ذلك حكم موضوع الصغرى، ولذلك يكون هذا الحكم قد انتقل من القوة إلى الفعل. وعمل المخرج هنا يمكن أن يعد من باب تحقيق المناط، أو تطبيق القاعدة على ما يمكن أن يدخل تحتها من فروع أو جزئيات.
(انظر: التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 1/ 29، وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع 1/ 31 و32.
() كما هو كتاب (تأسيس النظر) لأبي زيد الدبوسي.
(2) الكتاب مطبوع بتحقيق د/عبد الرزاق السعدي، وتوجد طبعة أخرى للكتاب بتحقيق د/ محمد حسن عواد بعنوان (الكوكب الدري فيما يخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية).
(1/52)
 
 
من الفروع الفقهية، وفي الفروع الفقهية من حيث انبناؤها على تلك الأصول.
وههنا أمر جدير بالنظر والتأمل، وهو أن كثيراً من هذه الكتب لم تتناول ما يتعلق بالتخريج على أقوال الأئمة، وشروط المخرج وما يصح أن ينسب إلى الإمام وما لا يصح أن ينسب إليه، مع أن هذه الموضوعات قد وردت في مباحث الاجتهاد في أكثر كتب الأصول. وإذن فموضوع التخريج يتناول الأدلة والقواعد الأصولية، ومن ضمنها قواعد النحو واللغة، كما يتناول الأحكام الفقهية، وصفات المخرج، والشروط التي لابد من تحققها في بناء الفروع على الأصول، وهو أمر أضفناه على ما ورد من الموضوعات المبحوثة في كتب التخريج، لأن أغلب هذه الكتب قصرت كلامها على ما هو من قبيل الاستنباط للأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، الذي هو شأن المجتهد المطلق، ولم يتناول القسم الآخر الذي اصطلح على تسميته بالتخريج، متميزاً بهذا الاطلاق على الاستنباط من الأدلة الشرعية.
وهنا أمر آخر ينبغي التنبيه إليه أيضاً، وهو أن التخريج أساساً إنما نشأ نتيجة الخلافات المذهبية، ورغبة علماء كل مذهب في الدفاع عن آراء أئمتهم، ورد استنباطاتهم الفقهية إلى أصول معينة، أو أصول مستنبطة ومخرجة من مجموعة من الفروع الفقهية، ثم الدفاع عن تلك الأصول، لتسلم لهم قوة الفروع بقوة الأصول. ولهذا فإنه من الممكن أن يقال: إن علم التخريج هذا من ثمرات علم الخلاف والجدل، أو على تقدير آخر إنه على صلة وثيقة به، وعلى هذا فإن بحث هذا العلم في الفروع والأصول إنما هو في نطاق ما وقع الخلاف فيه بين علماء المذاهب، أو بين علماء المذهب الواحد نفسه.
ويتضح مما قدمناه أن موضوع علم تخريج الفروع على الأصول متعدد، ومسألة تعدد موضوع العلم الواحد قضية فيها جدل بين أهل الاختصاص. وقد رجح كثير من المحققين جواز ذلك، إذا كان هناك نوع تناسب بين الأمور المتعددة (1).
__________
(1) صدر الشريعة: التوضيح 1/ 22.
(1/53)
 
 
وذكر ابن الهمام (ت 861هـ) (1) أنه لا مانع من تعدد موضوع العلم الواحد، إذا كانت له غاية واحدة، فالموضوع تابع للغاية التي توجد في الذهن (2)، وهذا ما ذهب إليه الشريف الجرجاني (ت 816هـ) (3) وغيره (4).
على أنه مهما يكن من أمر فإن تخريج الفروع على الأصول يبحث في
__________
(1) هو: كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي الأصل، ثم الإسكندري، ثم القاهري، العالم الحنفي المعروف بابن الهمام والمشارك في عدد من العلوم كالفقه والأصول والتفسير وعلم الطبيعة والفرائض والتصوف والنحو والصرف وغيرها.
عرف عنه أنه جدلي مناظر، وكان يقول: أنا لا أقلد أحداً في المعقولات. تنقل في البلدان، وكان آخر مطافه العودة إلى مصر. حيث توفي في القاهرة سنة 861هـ.
من مؤلفاته: شرح الهداية في الفقه المسمى فتح القدير للعاجز الفقير، والمسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، والتحرير في أصول الفقه، وله مختصر في الفقه سماه زاد الفقير وغيرها.
راجع في ترجمته: مفتاح السعادة 2/ 135 - 136، شذرات الذهب 7/ 298، هدية العارفين 2/ 201، معجم المطبوعات 1/ 278، الأعلام 6/ 255، معجم المؤلفين 10/ 264.
(2) التحرير مع شرحه تيسير التحرير 1/ 11 و12.
(3) هو: علي بن محمد بن علي الجرجاني الحسني الحنفي، ويعرف بالسيد الشريف. ولد بجرجان وإليها نسب، ودرس في شيراز، وفر منها إلى سمرقند بعد دخول تيمور لنك غليها. ثم عاد على شيراز بعد موت تيمورلنك، فأقام فيها حتى توفاه الله سنة 816هـ. شارك في كثير من العلوم لا سيما الفلسفية والعربية والأصولية، وبرع فيها حتى قالوا عنه إنه علامة دهره، وعالم بلاد الشرق.
من مؤلفاته: التعريفات، شرح المواقف، شرح السراجية في الفرائض ورسالة في متن أصول الحديث وغيرها.
راجع في ترجمته: مفتاح السعادة 1/ 187، الأعلام 5/ 7، معجم المؤلفين 7/ 216.
(4) حاشيته على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 16.
(1/54)
 
 
أكثر من موضوع، سواء كانت تلك الموضوعات مقصودة أصالة أو تبعاً.
2 - مباحثه ومسائله:
تعد مباحث ومسائل علم تخريج الفروع على الأصول ذات صلة وثيقة بموضوعه، لأن موضوعات المسائل والمباحث هي نفسها موضوعات العلم أو أنواعها، أو أعراضها الذاتية، أو ما تركب من هذه الأشياء أو بعضها.
ولما كان موضوع العلم، كما عرفنا، هو ما يبحث فيه عن الأحوال العارضة له، فإن مسائله ومباحثه هي معرفة هذه الأحوال العارضة لموضوع العلم نفسه سعة وضيقاً. وإن النظر في الكتب ذات الصلة بها العلم يوضح أن مباحثه ومسائله تتناول ما يأتي:
أ- المباحث المتعلقة بأحوال الأدلة أو القواعد المختلف فيها، أو أنواعها، لا من حيث حقيقتها، بل من حيث صحتها، واستقامة إثبات الأحكام الشرعية بها، وثبوت هذه الأحكام بها.
ب- المباحث المتعلقة بكيفية استخراج الأحكام من أدلتها مثل المباحث التي ترجع إلى شرائط الاستدلال كتقديم النص على الظاهر، والمتواتر على الآحاد، وبعض المبادئ اللغوية ودلالات الألفاظ، مما دخلت عندهم تحت أبواب التعارض والترجيح (1).
وبوجه عام، فإنه لا يبحث في هذه الأمور جميعاً، وإنما يبحث فيما اختلف فيه منها، سواء كان في دلالته على معناه أو تقديمه على غيره، أو ونه مرجحاً لسواه، أو غير ذلك.
ج- أسباب الاختلاف بين الفقهاء.
د- المباحث المتعلقة بالفقيه الذي يخرج الأحكام على قواعد الأئمة، والشروط الواجب تحققها فيه، ممن يسمون أهل التخريج، أو أصحاب الوجوه، أو ما شابه ذلك.
__________
(1) الأسنوي، نهاية السول 1/ 17.
(1/55)
 
 
هـ- مباحث الأحكام والفروع الفقهية، من حيث اكتشاف الروابط بينها، وردها إلى أصول الإمام، أو إلى أصول مخرجة تنسب إلى الإمام.
ثالثاً: الفائدة والغاية من هذا العلم:
وبعد أن أوضحنا معنى الفائدة والغاية، في الفصل السابق، فإن من الممكن أن نقول أن الباعث على طلب علم تخريج الفروع على الأصول، أو غايته، هو التعرف على مآخذ الأئمة لما توصل