التحبير شرح التحرير 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: التحبير شرح التحرير في أصول الفقه
المؤلف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885هـ)
عدد الأجزاء: 8
 
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَا القَوْل حسن، وَخرج عَلَيْهِ فرعا فِي مَذْهَبهم.
قَوْله: {وَقيل: يشْتَرط أَن لَا يُعَارضهُ ظَاهر، وَقيل: ظَاهر غَالب} .
قلت: لنا مسَائِل كَثِيرَة يقدم فِيهَا الظَّاهِر على الأَصْل، ومسائل فِيهَا خلاف، إِطْلَاق الِاحْتِجَاج بالاستصحاب شَامِل لمعارضة ظَاهر أَو لَا، وَلَكِن يرد علينا فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات مسَائِل كَثِيرَة فِيمَا تعَارض فِي الأَصْل وَالظَّاهِر: كطين الشوارع، وَثيَاب مدمني الْخمر، وأواني الْكفَّار المتلبسين بِالنَّجَاسَةِ، وَثيَاب القصابين، وأفواه الصغار، وَغير ذَلِك من الْمسَائِل الَّتِي لَا تكَاد تحصى.
وَقد ذكر الْعَلامَة ابْن رَجَب فِي " قَوَاعِده ": فِيمَا يغلب الأَصْل على الظَّاهِر، وَفِيمَا يغلب الظَّاهِر على الأَصْل ومسائل كَثِيرَة مترددة بَينهمَا
(8/3759)
 
 
وَالتَّرْجِيح مُخْتَلف فليعاود، فَإِنَّهُ فِي أَوَاخِر الْقَوَاعِد.
(8/3760)
 
 
لَكِن إِذا قدمنَا الظَّاهِر على الأَصْل لَيْسَ تَقْدِيمه من حَيْثُ الِاسْتِصْحَاب، بل لمرجح من خَارج يَنْضَم إِلَى ذَلِك، وَقد صحّح الشَّافِعِيَّة الْأَخْذ بِالْأَصْلِ دَائِما.
وَقيل: غَالِبا.
قَالُوا: لِأَن الأَصْل أصدق وأضبط من الْغَالِب الَّذِي يخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمَان وَالْأَحْوَال.
(8/3761)
 
 
قَالُوا: وَالنَّقْل يعضده " فقد حمل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمَامَة فِي الصَّلَاة "، وَكَانَت بِحَيْثُ لَا تحترز عَن نَجَاسَة.
قلت: وَهَذَا لَا يطرد فِي مَذْهَبنَا وَلَا فِي مَذْهَبهم، وَيَأْتِي قبيل التَّقْلِيد هَل يلْزم نافي الحكم الدَّلِيل عَلَيْهِ أم لَا؟
قَوْله: {وَلَيْسَ اسْتِصْحَاب حكم الْإِجْمَاع فِي مَحل الْخلاف حجَّة عِنْد
(8/3762)
 
 
الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، وَخَالف ابْن شاقلاء، وَابْن حَامِد، وَجمع} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْتِصْحَاب حَال الْإِجْمَاع فِي مَحل الْخلاف، وَهُوَ أَن يحصل الْإِجْمَاع على حكم فِي حَال، فتتغير تِلْكَ الْحَال، وَيَقَع الْخلاف، فَلَا يستصحب حَال الْإِجْمَاع فِي مَحل الْخلاف، كَقَوْل من يَقُول فِي الْخَارِج من غير السَّبِيلَيْنِ: إِنَّه لَا ينْقض الْإِجْمَاع على أَنه قبله متطهر، وَالْأَصْل الْبَقَاء حَتَّى يثبت تعَارض، وَالْأَصْل عَدمه.
وَالأَصَح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم من الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمَالِكِيَّة، وَذكر أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل عَن عَامَّة محققي الْفُقَهَاء والمتكلمين أَنه لَيْسَ بِحجَّة.
(8/3763)
 
 
وَعند أبي إِسْحَاق بن شاقلاء، وَابْن حَامِد، وَجمع، وأصحابنا، والمزني، وَأبي ثَوْر، والصيرفي، وَابْن سُرَيج، وَابْن خيران، وَدَاوُد، وَأَصْحَابه.
(8/3764)
 
 
والآمدي، وَابْن الْحَاجِب إِلَى أَنه حجَّة.
" لِأَن بَقَاء الحكم لَا يفْتَقر إِلَى دَلِيل إِن نزل منزلَة الْجَوْهَر، وَلَا نسلم أَنه كالعرض ثمَّ الِاسْتِصْحَاب دَلِيل، ثمَّ هُوَ دَلِيل الدَّلِيل؛ لِأَن بَقَاء الظَّن لَهُ دَلِيل.
وَذكر أَبُو الْخطاب وَغَيره: أَنه يُؤَدِّي إِلَى التكافيء فِي الْأَدِلَّة، لِأَنَّهُ مَا من أحد يستصحب حَالَة الْإِجْمَاع فِي مَوضِع الْخلاف إِلَّا ولخصمه أَن يستصحب حَالَة الْإِجْمَاع فِي مُقَابِله.
مِثَاله: لَو قَالَ فِي مَسْأَلَة التَّيَمُّم: قيل: أَجمعُوا أَن رُؤْيَة المَاء فِي غير الصَّلَاة تبطل تيَمّمه فَكَذَا فِي الصَّلَاة، قيل: أَجمعُوا على صِحَة تَحْرِيمه، فَمن أبْطلهُ لزمَه الدَّلِيل.
وَجَوَابه: بِمَنْع التكافيء، وَإِن تَعَارضا.
(8/3765)
 
 
وَاحْتج لَهُ أَيْضا: بِالْقِيَاسِ على قَول الشَّارِع.
وَأجَاب بِمَا مَعْنَاهُ: أَنه لَا يجوز اسْتِصْحَاب حكم الدَّلِيل فِي الْحَالة الثَّانِيَة إِلَّا أَن يَتَنَاوَلهَا الدَّلِيل.
قيل لَهُ: فَيجب قصره على الزَّمن الْوَاحِد فَالْتَزمهُ، إِلَّا أَن يكون دَلِيل الحكم وعلته قد عَم الْأَزْمِنَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقَالَ: سبق خِلَافه فِي شُرُوط الْعلَّة [أَنه] لَا ترجع على الأَصْل بالإبطال.
وَلَكِن جَوَابه أَن قَول الشَّارِع مُطلق فَيعم، وَالْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ فِي صفة خَاصَّة، وَلِهَذَا يجوز تَركه فِي الْحَالة الثَّانِيَة بِدَلِيل غير الْإِجْمَاع، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة.
ذكره عَنْهُم القَاضِي، وَابْن عقيل، وَهُوَ ضَعِيف) ، انْتهى نقل كَلَام ابْن مُفْلِح.
(8/3766)
 
 
(قَوْله: {فصل} )
 
{شرع من قبلنَا} .
من الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا مَا ثَبت فِي شرع من مضى من الْأَنْبِيَاء - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم - السَّابِقين على بعثة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل يكون شرعنا لنا حَتَّى يسْتَدلّ بِهِ فِي أَحْكَام شرعنا، إِذا لم نجد لَهُ دَلِيلا يقرره، وَلَا ورد مَا ينسخه، أَو لَيْسَ بشرع لنا حَتَّى يَأْتِي فِي شرعنا مَا يُقرر ذَلِك الحكم؟ فِيهِ قَولَانِ يأتيان قَرِيبا.
قَوْله: {يجوز تعبد نَبِي بشريعة [نَبِي] قبله عقلا وَمنعه قوم} .
يجوز تعبد نَبِي بشريعة نَبِي قبله عقلا على الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحال، وَلَا يلْزم مِنْهُ محَال.
وَقدمه ابْن مُفْلِح وَقَالَ: " وَمنعه بَعضهم لعدم الْفَائِدَة ".
رد فَائِدَته: إحياؤها وَلَعَلَّ فِيهِ مصلحَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: ثمَّ قيل: إِنَّه مُمْتَنع عقلا لما فِيهِ من التنفير عَنهُ.
(8/3767)
 
 
وَقيل: شرعا، وَعَزاهُ القَاضِي عِيَاض لحذاق أهل السّنة، وَيَأْتِي هَذَا قَرِيبا.
قَوْله: {وَكَانَ نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل الْبعْثَة متعبدا فِي الْفُرُوع بشرع من قبله مُطلقًا عِنْد القَاضِي، والحلواني، وَغَيرهمَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، وَقيل: معِين، فَقيل: أَدَم، أَو نوح، أَو إِبْرَاهِيم، اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَالْمجد، وَالْبَغوِيّ، وَابْن كثير، وَجمع، أَو مُوسَى، أَو عِيسَى، وَمنع الْحَنَفِيَّة، والمالكية، والباقلاني، وَغَيرهم، لاستحالته عقلا عِنْد الْمُعْتَزلَة، وَشرعا عِنْد الباقلاني، والرازي والآمدي، وَلأَحْمَد الْقَوْلَانِ، وَتوقف أَبُو الْخطاب، [وَالْغَزالِيّ] ، والآمدي، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَقَالَ هُوَ وَجمع: لفظية، وَعَن الْمُعْتَزلَة: تعبد بشريعة الْعقل، وَابْن حمدَان: بِوَضْع شَرِيعَة اخْتَارَهَا، والطوفي: بالإلهام} .
اخْتلف الْعلمَاء - رَحْمَة الله عَلَيْهِم - فِي نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل كَانَ متعبدا - بِكَسْر الْبَاء - قبل الْبعْثَة فِي الْفُرُوع بشرع من قبله أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ:
(8/3768)
 
 
أَحدهمَا: وَهُوَ الصَّحِيح أَنه كَانَ متعبدا بشرع من قبله، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن كل وَاحِد من الْأَنْبِيَاء قبله دَعَا إِلَى شَرعه كل الْمُكَلّفين، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحِد مِنْهُم، فيتناوله عُمُوم الدعْوَة.
ثمَّ اخْتلفُوا على هَذَا القَوْل، هَل كَانَ متعبدا بشرع معِين أَو لَا؟ فِيهِ قَولَانِ.
ثمَّ اخْتلف الْقَائِل بِأَنَّهُ متعبد بشرع معِين فِي الْمعِين:
فَقيل: آدم - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ -، وَلم يذكرهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ".
وَقيل: نوح.
وَقيل: إِبْرَاهِيم، اخْتَارَهُ جمع كثير مِنْهُم: ابْن عقيل، وَالْمجد، وَالْبَغوِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الشورى، وَابْن كثير فِي " تَارِيخه " - قبل الْبعْثَة - وَغَيرهم، وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن الشَّافِعِيَّة.
وَقيل: مُوسَى.
(8/3769)
 
 
وَقيل: عِيسَى، صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنه كَانَ متعبدا بشرع من قبله مُطلقًا، أَي: من غير تعْيين وَاحِد مِنْهُم بِعَيْنِه، وَهَذَا [اخْتَارَهُ] أَبُو يعلى، والحلواني، وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَذكره القَاضِي عَن الشَّافِعِيَّة.
وَخَالف الْحَنَفِيَّة.
(8/3770)
 
 
والمالكية، وَابْن الباقلاني، وَأَبُو الْحُسَيْن، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن الْأَكْثَر: أَنه كَانَ غير متعبد بشرع لَا معِين وَلَا غير معِين، وَأَن عَن أَحْمد قَوْلَيْنِ، وَنَقله الباقلاني عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين.
وَتوقف أَبُو هَاشم، وَعبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْخطاب، وَالْغَزالِيّ،
(8/3771)
 
 
وَابْن الْأَنْبَارِي.
وَأَبُو الْمَعَالِي قَالَ هُوَ وَجَمَاعَة: لفظية.
وَعَن الْمُعْتَزلَة: أَنه تعبد بشريعة الْعقل. [قَالَه ابْن مُفْلِح.
وَقَالَ ابْن حمدَان: تعبد بِوَضْع شَرِيعَة اخْتَارَهَا.
وَقَالَ الطوفي: تعبد بالإلهام.
وَإِذا قُلْنَا: إِنَّه غير متعبد بشريعة أصلا.
(8/3772)
 
 
فَقيل: لامتناعه عقلا، لما فِيهِ من التنفير عَنهُ.
وَقيل: شرعا، وَعَزاهُ القَاضِي عِيَاض لحذاق أهل السّنة، إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لنقل ولتداولته الْأَلْسِنَة، وَاخْتَارَهُ الباقلاني، والرازي، والآمدي، وَغَيرهم.
اسْتدلَّ من قَالَ: إِنَّه كَانَ متعبدا بشريعة من قبله بِمَا فِي مُسلم عَن عَائِشَة " أَنه كَانَ يَتَحَنَّث، وَهُوَ التَّعَبُّد فِي غَار حراء ".
وَفِي البُخَارِيّ أَيْضا: " كَانَ يَتَحَنَّث بِغَار حراء ".
رد: بِأَن مَعْنَاهُ التفكر وَالِاعْتِبَار، وَلم يثبت عَنهُ عبَادَة صَوْم وَنَحْوه.
(8/3773)
 
 
ثمَّ فعله من قبل نَفسه [تشبها] بالأنبياء.
وَأَيْضًا: الْأَنْبِيَاء قبْلَة لكل مُكَلّف.
رد: بِالْمَنْعِ ثمَّ لم يثبت عِنْده وَلِهَذَا بعث.
وَاعْتمد القَاضِي الباقلاني فِي كَونه غير متعبد بشرع من قبله وامتناعه: على أَنه لَو كَانَ على مِلَّة لاقتضى الْعرف ذكره لَهَا لما بعث، ولتحدثوا بذلك فِي زَمَانه، وَفِيمَا بعده.
وعارض ذَلِك أَبُو الْمَعَالِي: بِأَنَّهُ لَو لم يكن على دين أصلا لنقل، فَإِن ذَلِك أبدع وَأبْعد عَن الْمُعْتَاد مِمَّا ذكره الباقلاني، فتعارض الْأَمْرَانِ.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: " وَفِيه نظر فَلَيْسَ انصراف النُّفُوس عَن نقل كَونه لَيْسَ على دين، كانصرافه عَن نقل دينه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ".
ثمَّ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: " الْوَجْه أَن يُقَال: انخرقت الْعَادة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أُمُور:
مِنْهَا: انصراف همم النَّاس عَن أَمر دينه والبحث عَنهُ " انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَجه الْمَنْع أَنه لَو كَانَ متعبدا بشرع لخالط أَهله عَادَة.
رد: بِاحْتِمَال مَانع.
(8/3774)
 
 
وَأجِيب - أَيْضا -: يعْمل بِمَا تَوَاتر فَقَط فَلَا يحْتَاج إِلَى مخالط.
وَفِيه نظر.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": فَإِنَّمَا كَانَ متعبدا على وضع شَرِيعَة اخْتَارَهَا لعدم الْوَحْي قبل الْبعْثَة.
وَقيل: يَقْتَضِي الْمُنَاسبَة لعلمه بِفساد مَا عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة.
وَقَالَ: الْأَصَح [أَنه] متعبد - بِكَسْر الْبَاء -.
قَالَ الْقَرَافِيّ: متعبدا بِكَسْر الْبَاء، وَلَا يجوز فتحهَا، وَكَلَام الْآمِدِيّ موهم بِخِلَاف مَا بعد الْبعْثَة، فَإِنَّهُ كَانَ متعبدا بِفَتْح الْبَاء. انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " قلت: من الْمُتَّجه أَنه كَانَ متعبدا بالإلهام، أَي: يلهمه الله تَعَالَى عبادات يتعبد بهَا، ويخلق فِيهَا علما ضَرُورِيًّا بمشروعيتها لَهُ، وبمعرفة تفاصيلها، وَهَذَا أحسن مَا يُقَال فِي تعبده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قبل الْبعْثَة ".
تَنْبِيه: قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": " حِكَايَة الْخلاف أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ متعبدا قبل نبوته بشرع من قبله، يجب أَن يكون مَخْصُوصًا بالفروع دون الْأُصُول، فَإِن قَوَاعِد العقائد كَانَ النَّاس مكلفين بهَا إِجْمَاعًا؛ وَلذَلِك كَانَ موتاهم فِي النَّار إِجْمَاعًا، لَوْلَا التَّكْلِيف مَا كَانُوا فِي النَّار، فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام متعبد بشرع من قبله، فَالْخِلَاف فِي الْفُرُوع خَاصَّة، فعموم إِطْلَاق الْعلمَاء مَخْصُوص بِالْإِجْمَاع ".
(8/3775)
 
 
قَوْله: {وَلم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا كَانَ عَلَيْهِ قومه عِنْد الْأَئِمَّة، قَالَ أَحْمد: من زَعمه فَقَوْل سوء} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا كَانَ عَلَيْهِ قومه عِنْد أَئِمَّة الْإِسْلَام، كَمَا تَوَاتر عَنهُ، قَالَ الإِمَام أَحْمد: من زَعمه فَقَوْل سوء " انْتهى.
وَهَذَا مِمَّا لَا يشك مُسلم بِهِ، وقر الْإِيمَان فِي قلبه، وَتقدم هَل هُوَ مَعْصُوم من الصَّغَائِر والكبائر؟ وَأما أَنه كَانَ على مَا كَانَ عَلَيْهِ قومه فحاشا وكلا.
قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": وَلم يكن على دين قومه قطّ بل ولد مُسلما مُؤمنا، قَالَه ابْن عقيل.
وَقيل: بل على دين قومه، حَكَاهُ ابْن حَامِد عَن بَعضهم، وَهُوَ غَرِيب بعيد، انْتهى.
قلت: الَّذِي نقطع بِهِ أَن هَذَا القَوْل خطأ.
قَالَ ابْن عقيل: لم يكن قبل الْبعْثَة على دين سوى الْإِسْلَام، وَلَا كَانَ على دين قومه قطّ، بل ولد مُؤمنا نَبيا صَالحا على مَا كتبه الله وَعلمه من حَاله وخاتمته لَا بدايته.
(8/3776)
 
 
قَوْله: {وَبعدهَا - أَي: بعد الْبعْثَة - تعبد بشرع من قبله عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية، ثمَّ
(8/3777)
 
 
مِنْهُم من خصّه بشرع كَمَا سبق، وَلم يَخُصُّهُ أَصْحَابنَا والمالكية} .
إِذا قُلْنَا: إِنَّه قبل الْبعْثَة غير متعبد بشرع من قبله فَبعد الْبعْثَة بطرِيق أولى.
وَإِن قُلْنَا: إِنَّه كَانَ متعبدا فَاخْتَلَفُوا هَل كَانَ بعد الْبعْثَة متعبدا؟ فِيهِ خلاف.
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء أَنه متعبد بِمَا لم ينْسَخ من شريعتهم.
فعلى هَذَا القَوْل من الْعلمَاء من خصّه بشرع نَبِي من الْأَنْبِيَاء، كَمَا تقدم بَيَانه.
وَلم يَخُصُّهُ أَصْحَابنَا والمالكية، فعلى هَذَا هُوَ شرع لنا مَا لم ينْسَخ، وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
قَالَ القَاضِي: " من حَيْثُ صَار شرعا لنبينا، لَا من حَيْثُ صَار شرعا لمن قبله ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " على معنى أَنه مُوَافق لَا متابع ".
وَذكر القَاضِي - أَيْضا - كَمَا ذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ - من أَصْحَابنَا -: أَنه شرع لم ينْسَخ فيعمنا لفظا.
(8/3778)
 
 
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فيعمنا عقلا لتساوي الْأَحْكَام، وَهُوَ الِاعْتِبَار الْمَذْكُور فِي قصصهم، فيعمنا حكما.
ثمَّ اعْتبر القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا ثُبُوته قطعا.
قَالَ القَاضِي: وَإِنَّمَا يثبت كَونه شرعا لَهُم مَقْطُوع بِهِ، إِمَّا بِكِتَاب، أَو بِخَبَر الصَّادِق، أَو بِنَقْل متواتر، فَأَما الرُّجُوع إِلَيْهِم، أَو إِلَى كتبهمْ فَلَا.
وَقد أَوْمَأ أَحْمد إِلَى هَذَا.
وَمَعْنَاهُ فِي " الْمقنع " لِابْنِ حمدَان فَقَالَ: كَانَ هُوَ وَأمته متعبدين بشرع من تقدم بِالْوَحْي إِلَيْهِ، فِي الْكل أَو الْبَعْض، لَا من كتبهمْ المبدلة وَنقل أَرْبَابهَا، مَا لم ينْسَخ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَغَيره: " وَيثبت - أَيْضا - بأخبار الْآحَاد عَن نَبينَا، وَأما بِالرُّجُوعِ إِلَى مساءلة أهل الْكتاب فَفِيهِ الْكَلَام " انْتهى.
(8/3779)
 
 
وَعَن أَحْمد: لم يتعبد، وَلَيْسَ بشرع لنا، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والآمدي، والأشعرية، والمعتزلة.
وَقيل: بِالْوَقْفِ: كَمَا قبل الْبعْثَة.
وَجه القَوْل الأول: قَوْله تَعَالَى: {فبهداهم اقتده} [الْأَنْعَام: 90] .
رد: أَرَادَ الْهدى الْمُشْتَرك وَهُوَ التَّوْحِيد، لاخْتِلَاف شرائعهم وَالْعقل هاد إِلَيْهِ، ثمَّ أَمر باتباعه بِأَمْر محدد لَا بالاقتداء.
أُجِيب: الشَّرِيعَة من الْهدى، وَقد أَمر بالاقتداء وَإِنَّمَا يعْمل بالناسخ كشريعة وَاحِدَة.
قَالَ مُجَاهِد: لِابْنِ عَبَّاس: " أأسجد فِي ص؟ فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة فَقَالَ: نَبِيكُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّن أَمر أَن يقْتَدى بهم " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
(8/3780)
 
 
وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم} [النَّحْل: 123] .
رد: أَرَادَ التَّوْحِيد؛ لِأَن الْفُرُوع لَيست مِلَّة، وَلِهَذَا لم يبْحَث عَنْهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} [النَّحْل: 123] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا من سفه نَفسه} ، ثمَّ أمرنَا باتباعها بِمَا أُوحِي إِلَيْهِ. أُجِيب: الْفُرُوع من الْملَّة تبعا كملة نَبينَا؛ لِأَنَّهَا دينه عِنْد عَامَّة الْمُفَسّرين.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هُوَ الظَّاهِر.
وَذكره الْبَغَوِيّ عَن الْأُصُولِيِّينَ، وَقد أمرنَا باتباعها مُطلقًا.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} الْآيَة، وَأَيْضًا: ظَاهر قَوْله تَعَالَى عَن التَّوْرَاة: {يحكم بهَا النَّبِيُّونَ} [الْمَائِدَة: 44] ، وَالْمرَاد من بعد مُوسَى.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله} .
(8/3781)
 
 
وَالْقَوْل بتعارض الْآيَات دَعْوَى بِلَا دَلِيل.
وَأَيْضًا فقد ورد فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْقصاصِ فِي السن، وَقَالَ: " كتاب الله الْقصاص "، وَإِنَّمَا هَذَا فِي التَّوْرَاة.
وَسِيَاق قَوْله تَعَالَى: {فاعتدوا عَلَيْهِ} ، فِي غَيره، وَلِهَذَا لم يُفَسر لَهُ.
وللترمذي، وَالنَّسَائِيّ، عَن عمرَان: " أَن رجلا عض يَد رجل فنزعها من فِيهِ، فَوَقَعت ثنيتاه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا دِيَة لَك، فَأنْزل الله {والجروح قصاص} [الْمَائِدَة: 45] ، وَقُرِئَ فِي السَّبع بِرَفْع الجروح ونصبها.
وَأَيْضًا: فِي " صَحِيح مُسلم " من حَدِيث أنس، وَأبي هُرَيْرَة: " من نسي صَلَاة فليصلها إِذا ذكرهَا، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {وأقم الصَّلَاة لذكري} "
(8/3782)
 
 
[طه: 14] ، وَهُوَ خطاب لمُوسَى وسياقه وَظَاهره: أَنه احْتج بِهِ؛ لِأَن أمته أمرت كموسى.
وَاسْتدلَّ بتعبده بِهِ قبل بَعثه، وَالْأَصْل بَقَاؤُهَا وبالاتفاق على الِاسْتِدْلَال بقوله: {النَّفس بِالنَّفسِ} [الْمَائِدَة: 45] .
رد: بِالْمَنْعِ.
وَاسْتدلَّ " بِرُجُوعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى التَّوْرَاة فِي الرَّجْم ".
(8/3783)
 
 
رد: لإِظْهَار كذبهمْ، وَلِهَذَا لم يرجع فِي غَيره.
قَالُوا: {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} [الْمَائِدَة: 48] .
رد: اخْتلفت فِي شَيْء [فباعتباره] : هِيَ شرائع مُخْتَلفَة.
قَالُوا: لم يذكر فِي خبر معَاذ السَّابِق فِي مَسْأَلَة الْإِجْمَاع.
رد: إِن صَحَّ فلذكره فِي الْقُرْآن، أَو عَمه الْكتاب، أَو لقلته، أَو لعلمه بِعَدَمِ من يَثِق بِهِ.
قَالُوا: أَتَاهُ عمر بِكِتَاب فَغَضب وَقَالَ: " أمتهوكون فِيهَا يَا ابْن الْخطاب، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد جِئتُكُمْ بهَا بَيْضَاء نقية " رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي عَاصِم،
(8/3784)
 
 
وَالْبَزَّار، وَأحمد، وَزَاد: " وَلَو كَانَ مُوسَى حَيا مَا وَسعه إِلَّا اتباعي ".
وَرَوَاهُ - أَيْضا - وَفِيه: " وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو أصبح مُوسَى فِيكُم ثمَّ اتبعتموه وتركتموني لَضَلَلْتُمْ ".
(8/3785)
 
 
رد: فِي الأول مجَالد، وَالثَّانِي: جَابر الْجعْفِيّ، وهما ضعيفان.
ثمَّ لم يَثِق بِهِ.
قَالُوا: لَو كَانَ لوَجَبَ تعلمهَا والبحث عَنْهَا ومراجعتها فِي الوقائع، وَاحْتج بِهِ الصَّحَابَة.
رد: إِن اعْتبر الْمُتَوَاتر فَقَط لم يحْتَج، ثمَّ لعدم الوثوق لتبديلها وتحريفها إِجْمَاعًا وَعدم ضبط وتمييز.
قَالُوا: يلْزم أَن يلْزم شرعنا، أَي: نَبينَا.
رد: لَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ شَرعه، أَو نظر إِلَى الْأَكْثَر.
قَالُوا: شَرعه نَاسخ إِجْمَاعًا.
رد: لما خَالفه؛ لِأَن النّسخ عِنْد التَّنَافِي، وَلِهَذَا لم ينْسَخ التَّوْحِيد وَلَا تَحْرِيم الْكفْر.
(8/3786)
 
 
وَاحْتج الْآمِدِيّ: بِأَن فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " أَن كل نَبِي بعث إِلَى قومه "، وَلَيْسَ من قَومهمْ.
رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ ثَبت بشرعنا.
وَقَالَ الطوفي: " المأخذ الصَّحِيح لهَذِهِ الْمَسْأَلَة التحسين الْعقلِيّ فَإِن الْمُثبت يَقُول: الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة حسنها ذاتي لَا تخْتَلف باخْتلَاف شرع فَتَركهَا قَبِيح، والنافي يَقُول: حسنها لَهُ وقبحه لنا ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
(8/3787)
 
 
(قَوْله: {فصل} )
 
{الاستقراء بالجزئي على الْكُلِّي إِن كَانَ ثَابتا، أَي: بِالْكُلِّ إِلَّا صُورَة النزاع فقطعي عَن الْأَكْثَر، وَهُوَ حجَّة بِلَا نزاع} .
الاستقراء نوع من أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال، وَهُوَ: تتبع أَمر كلي من جزئيات، ليثبت الحكم لذَلِك الْكُلِّي، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: استقراء تَامّ، وَهُوَ: إِثْبَات حكم فِي جزئي لثُبُوته فِي الْكُلِّي، نَحْو: كل جسم متحيز، فَإنَّا استقرأنا جَمِيع جزئيات الْجِسْم فَوَجَدْنَاهَا منحصرة فِي الجماد والنبات وَالْحَيَوَان، وكل من ذَلِك متحيز، فقد أَفَادَ هَذَا الاستقراء الحكم يَقِينا فِي كلي وَهُوَ الْجِسْم، الَّذِي هُوَ مُشْتَرك بَين الجزئيات، فَكل جزئي من ذَلِك كلي يحكم عَلَيْهِ بِمَا يحكم بِهِ على الْكُلِّي إِلَّا صُورَة النزاع، فيستدل بذلك على صُورَة النزاع، وَهُوَ مُفِيد للْقطع بِأَنَّهُ الْقيَاس، فَإِن الْقيَاس المنطقي الْمُفِيد للْقطع عِنْد الْأَكْثَر.
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ حجَّة بِلَا خلاف.
وَلذَلِك قُلْنَا فِي الْمَتْن: وَهُوَ حجَّة بِلَا نزاع.
(8/3788)
 
 
قَوْله: {أَو نَاقِصا أَي: بِأَكْثَرَ الجزئيات [فظني] وَيُسمى إِلْحَاق الْفَرد بالأعم الْأَغْلَب، وَهُوَ حجَّة عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر: كالوتر يفعل رَاكِبًا فَلَيْسَ وَاجِبا لاستقراء الْوَاجِبَات} .
هَذَا النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الاستقراء النَّاقِص، وَهُوَ الَّذِي تتبع فِيهِ أَكثر الجزئيات لإِثْبَات الحكم الْكُلِّي الْمُشْتَرك بَين جَمِيع الجزئيات، بِشَرْط أَن لَا يتَبَيَّن الْعلَّة المؤثرة فِي الحكم، وَيُسمى هَذَا عِنْد الْفُقَهَاء بإلحاق الْفَرد بالأعم الْأَغْلَب، وَيخْتَلف فِيهِ الظَّن باخْتلَاف الجزئيات، فَكلما كَانَ الاستقراء فِي أَكثر، كَانَ أقوى ظنا.
وَقد اخْتلف فِي هَذَا النَّوْع.
فَاخْتَارَ بعض أَصْحَابنَا، وَصَاحب " الْحَاصِل "، والبيضاوي، والهندي، وَغَيرهم: أَنه حجَّة، لكنه يُفِيد الظَّن لَا الْقطع، لاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك الجزئي مُخَالفا لباقي الجزئيات المستقرأة.
(8/3789)
 
 
وَقَالَ الرَّازِيّ: الْأَظْهر أَنه لَا يُفِيد الظَّن إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل، ثمَّ بِتَقْدِير الْحُصُول يكون حجَّة.
وَبِهَذَا يعلم أَن الْخلاف الْوَاقِع فِي أَنه يُفِيد الظَّن أَو لَا؟ أَن الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ هَل يكون حجَّة.
ورد الْبرمَاوِيّ كَلَام الرَّازِيّ.
وَقد مثله ابْن مُفْلِح، والبيضاوي، وَغَيرهمَا بقولهمَا: الْوتر يصلى على الرَّاحِلَة فَلَا يكون وَاجِبا؛ لأَنا استقرأنا الْوَاجِبَات: الْقَضَاء وَالْأَدَاء من الصَّلَوَات الْخمس، فَلم نر شَيْئا مِنْهَا يُؤدى على الرَّاحِلَة.
وَالدَّلِيل على أَنه يُفِيد الظَّن: أَنا إِذا وجدنَا صورا كَثِيرَة دَاخِلَة تَحت نوع واشتركت فِي حكم، وَلم نر شَيْئا مِمَّا يعلم أَنه مِنْهَا خرج عَن ذَلِك الحكم، أفادتنا تِلْكَ الْكَثْرَة قطعا ظن الحكم بِعَدَمِ الْأَدَاء على الرَّاحِلَة فِي مثالنا هَذَا من صِفَات ذَلِك النَّوْع، وَهُوَ الصَّلَاة الْوَاجِبَة، وَإِذا كَانَ مُفِيدا للظن، كَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا.
(8/3790)
 
 
وَرُبمَا اسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " نَحن نحكم بِالظَّاهِرِ، وَالله يتَوَلَّى السرائر "، كَمَا اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره.
لكنه حَدِيث لَا يعرف، لَكِن رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم الجنزوي فِي كِتَابه: " إدارة الْأَحْكَام " فِي
(8/3791)
 
 
قصَّة الْكِنْدِيّ والحضرمي الَّذين اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأصل حَدِيثهمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فَقَالَ الْمقْضِي عَلَيْهِ: قضيت عَليّ وَالْحق لي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا نقضي بِالظَّاهِرِ وَالله يتَوَلَّى السرائر " وَله شَوَاهِد.
(8/3792)
 
 
مِنْهَا: حَدِيث المتلاعنين: " لَوْلَا مَا فِي كتاب الله لَكَانَ لي وَلها شَأْن ".
وَفِي " الصَّحِيح " من حَدِيث أم سَلمَة: " إِنَّمَا أَنا بشر، وَإنَّهُ يأتيني الْخصم، فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَلحن بحجته من بعض فأحسب أَنه صدق، فأقضي لَهُ بذلك، فَمن قضيت لَهُ بِحَق مُسلم فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة من النَّار فليأخذها أَو ليتركها ".
(8/3793)
 
 
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " إِنِّي لم أُؤمر أَن أنقب عَن قُلُوب النَّاس وَلَا أشق بطونهم ".
(8/3794)
 
 
وَقَول عمر: " إِن الْوَحْي قد انْقَطع، وَإِنَّمَا نأخذكم الْآن بِمَا ظهر لنا "، وَغير ذَلِك وَهُوَ كثير، مِمَّا يدل على أَن الْعَمَل بِالظَّنِّ وَاجِب.
تَنْبِيه: ينشأ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ فِي الاستقراء أَن القياسات المنطقية تَدور على ذَلِك، فَإنَّا إِذا قُلْنَا: الْعَالم متغير، وكل متغير حَادث، فَيكون الْعَالم متغيرا، إِنَّمَا علم بالاستقراء التَّام، وَلذَلِك أَفَادَ الْقطع وَالْيَقِين.
وَإِذا قُلْنَا: الْوضُوء وَسِيلَة لِلْعِبَادَةِ، وكل مَا هُوَ وَسِيلَة لِلْعِبَادَةِ عبَادَة، إِنَّمَا أثبتنا الْمُقدمَة الثَّانِيَة بالاستقراء، وَهُوَ ظَنِّي؛ لِأَنَّهُ من أَكثر الجزئيات.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَرُبمَا ينْدَرج فِيهِ - أَيْضا - مَا ذكره ابْن الْحَاجِب، وَغَيره:
(8/3795)
 
 
الِاسْتِدْلَال من قِيَاس التلازم، وَهُوَ تلازم بَين ثبوتين إِلَى آخِره، كَمَا تقدم مُسْتَوفى محررا.
فَائِدَة: قَالَ ابْن حمدَان فِي آخر " نِهَايَة المبتدئين ": وأوجز من هَذَا أَن الِاسْتِدْلَال إِمَّا بالجزئي على الْكُلِّي وَهُوَ الاستقراء، أَو بالكلي على الجزئي وَهُوَ الْقيَاس، أَو بالجزئي على الجزئي وَهُوَ التَّمْثِيل، أَو بالكلي على الْكُلِّي وَهُوَ قِيَاس وتمثيل انْتهى.
(8/3796)
 
 
(قَوْله: {فصل} )
 
{قَول صَحَابِيّ غير الْخُلَفَاء على صَحَابِيّ غير حجَّة اتِّفَاقًا} .
ذكر الْآمِدِيّ أَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة على صَحَابِيّ إِجْمَاعًا.
وَكَذَا نقل ابْن عقيل وَزَاد: وَلَو كَانَ أعلم أَو إِمَامًا أَو حَاكما.
وَفِي نقل الْإِجْمَاع فِي ذَلِك نظر، فقد تقدم لنا فِي الْإِجْمَاع: رِوَايَة عَن أَحْمد أَن قَول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة حجَّة وَإِجْمَاع، وَاخْتَارَهُ ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا، وَأَبُو خازم من أَعْيَان الْحَنَفِيَّة الْمُتَقَدِّمين.
(8/3797)
 
 
وَرِوَايَة: أَن قَوْلهم [لَيْسَ بِإِجْمَاع وَلَا] حجَّة.
وَرِوَايَة: أَن قَول الشَّيْخَيْنِ حجَّة.
وَرِوَايَة: أَن قَوْلهمَا إِجْمَاع.
وَرِوَايَة: أَنه يحرم مُخَالفَة أحد الْأَرْبَعَة، اخْتَارَهُ الْبَرْمَكِي من أَصْحَابنَا وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
فَكيف نحكي الْإِجْمَاع مَعَ هَذَا الْخلاف؟
وَكَذَلِكَ قَالَ الْبرمَاوِيّ عَن حِكَايَة ابْن الْحَاجِب الِاتِّفَاق على ذَلِك فَقَالَ: (فِي حكايته الِاتِّفَاق نظر.
فقد قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ - بعد تَقْرِير أَنه إِنَّمَا يكون حجَّة على قَول من يرَاهُ إِذا لم يخْتَلف الصَّحَابَة، وَلَكِن نقل عَن وَاحِد مِنْهُم وَلم يظْهر خِلَافه: أَن الشَّافِعِي قَالَ فِي مَوضِع: إِذا اخْتلف الصَّحَابَة فالتمسك بقول الْخُلَفَاء أولى،
(8/3798)
 
 
قَالَ: فَهَذَا كالدليل على أَنه لَا يسْقط الِاحْتِجَاج بأقوال الصَّحَابَة من أجل الِاخْتِلَاف انْتهى.
وَفِي " الْمَحْصُول " فِي مَسْأَلَة الْإِجْمَاع السكوتي مَا يشْعر بِالْخِلَافِ فِي كَونه حجَّة على صَحَابِيّ آخر.
وَفِي " اللمع " للشَّيْخ أبي إِسْحَاق أَن الصَّحَابَة إِذا اخْتلفُوا على قَوْلَيْنِ يَنْبَنِي على الْقَوْلَيْنِ فِي أَنه حجَّة أم لَا؟ فَإِن قُلْنَا لَيْسَ بِحجَّة لم يكن قَول بَعضهم حجَّة على بعض، وَلم يجز تَقْلِيد وَاحِد مِنْهُمَا، بل يرجع إِلَى الدَّلِيل، وَإِن قُلْنَا إِنَّه حجَّة فهما دليلان تَعَارضا يرجح أَحدهمَا على الآخر بِكَثْرَة الْعدَد من أحد الْجَانِبَيْنِ، أَو يكون فِيهِ إِمَام انْتهى.
قَوْله: {فَإِن انْتَشَر وَلم يُنكر فَسبق} .
فِي الْإِجْمَاع السكوتي محررا.
(8/3799)
 
 
قَوْله: {وَإِن لم ينتشر فحجة مقدم على الْقيَاس عِنْد الْأَرْبَعَة، وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَالْحَنَفِيَّة غير الْكَرْخِي، وَقَالَهُ [الشَّافِعِي] فِي الْقَدِيم والجديد} .
نَقله ابْن مُفْلِح، وَنَقله - أَيْضا - عَن مَالك، وَإِسْحَاق، فَمن
(8/3800)
 
 
أَصْحَابنَا أَبُو بكر، [و] ابْن شهَاب، وَالْقَاضِي، والموفق، والطوفي، وَغَيرهم، وَنَقله أَبُو يُوسُف، وَغَيره عَن أبي حنيفَة.
فعلى هَذَا القَوْل إِن اخْتلف صحابيان فكدليلين تَعَارضا على مَا يَأْتِي.
وَقيل: إِن انْضَمَّ إِلَيْهِ قِيَاس تقريب كَانَ حجَّة مقدما على الْقيَاس وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ قولا للشَّافِعِيّ، وَذَلِكَ: كَقَوْل عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فِي البيع بِشَرْط الْبَرَاءَة من كل عيب " أَن البَائِع يبرأ بِهِ مِمَّا لم يعلم فِي الْحَيَوَان دون غَيره ".
(8/3801)
 
 
قَالَ الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -: لِأَنَّهُ يغتذي بِالصِّحَّةِ والسقم، أَي: فِي حالتيهما وتحول طبائعه.
وقلما يَخْلُو من عيب ظَاهر أَو خَفِي، بِخِلَاف غَيره، فَيبرأ البَائِع فِيهِ من خَفِي لَا يُعلمهُ بِشَرْط الْبَرَاءَة الْمُحْتَاج هُوَ إِلَيْهِ ليثق [باستقرار] العقد.
فَهَذَا قِيَاس تقريب، قرب قَول عُثْمَان الْمُخَالف لقياس التَّحْقِيق، وَالْمعْنَى من أَنه لَا يبرأ من شَيْء للْجَهْل بالمبرأ مِنْهُ.
وَقيل: حجَّة دون الْقيَاس فَيقدم الْقيَاس عَلَيْهِ إِذا تَعَارضا.
وَقيل: إِجْمَاع.
(8/3802)
 
 
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي الْإِجْمَاع: " وَإِن لم ينتشر القَوْل فَلَا إِجْمَاع لعدم الدَّلِيل.
وَعند بَعضهم إِجْمَاع؛ لِئَلَّا يَخْلُو الْعَصْر عَن الْحق.
رد: بِجَوَازِهِ لعدم علمهمْ " انْتهى.
وَعَن أَحْمد لَيْسَ بِحجَّة كَأبي حنيفَة نَقله عَنهُ ابْن برهَان، وَالشَّافِعِيّ
(8/3803)
 
 
فِي الْجَدِيد، وَأكْثر أَصْحَابه، والأشعرية، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، وَجمع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَإِلَيْهِ ذهب الأشاعرة والمعتزلة، والكرخي من الْحَنَفِيَّة، والرازي وَأَتْبَاعه، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهم ".
(8/3804)
 
 
فَيقدم الْقيَاس عَلَيْهِ عِنْد التَّعَارُض؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَالْأَصْل عَدمه.
وَسبق فِي دَلِيل الْقيَاس: {فاعتبروا} [الْحَشْر: 2] ، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} [النِّسَاء: 59] .
رد: إِن أمكن رده إِلَى الرَّسُول، ثمَّ قَوْله من الرَّسُول.
وَاسْتدلَّ بِأَنَّهُ يلْزم من ذَلِك أَن قَول الأعلم حجَّة.
رد: لَا يلْزم ذَلِك لمشاهدة التَّنْزِيل وَتَمام الْمعرفَة.
وَاسْتدلَّ: بِأَنَّهُ يلْزم من ذَلِك التَّقْلِيد مَعَ إِمْكَان الِاجْتِهَاد.
رد: لَا تَقْلِيد وَهُوَ حجَّة.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: يلْزم من القَوْل بِأَنَّهُ حجَّة تنَاقض الْحجَج.
رد: بِأَن التَّرْجِيح يدْفع ذَلِك، أَو الْوَقْف، أَو التَّخْيِير كَبَقِيَّة الْأَدِلَّة.
قَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة} [آل عمرَان: 110] .
رد: للْجَمِيع.
قَالُوا: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، رَوَاهُ عُثْمَان الدَّارمِيّ، وَابْن عدي.
(8/3805)
 
 
رد: لَا يَصح عِنْد عُلَمَاء الحَدِيث، قَالَ أَحْمد: لَا يَصح، وَذكره فِي رِوَايَة حَنْبَل.
(8/3806)
 
 
قَالَ القَاضِي: فقد احْتج بِهِ فَدلَّ على صِحَّته عِنْده.
رد: سبق كَلَام الإِمَام فِي الْخَبَر الضَّعِيف، ثمَّ الرِّوَايَة الأولى أصح وأصرح.
ثمَّ لَا يدل على عُمُوم الاهتداء فِي كل مَا يقْتَدى بِهِ، فَالْمُرَاد الِاقْتِدَاء فِي طَرِيق الِاجْتِهَاد، وَفِي روايتهم، أَو هُوَ خطاب الْعَامَّة.
(8/3807)
 
 
وَبِه يعرف جَوَاب مَا سبق فِي الْإِجْمَاع: أَن الْحجَّة قَول الْخُلَفَاء أَو قَول أبي بكر وَعمر.
وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": بِأَنَّهَا لَا تفِيد الْعلم، وَأَن أحدا لم يُوجب الِاقْتِدَاء بِأبي بكر وَعمر فَقَط، كَذَا قَالَ.
قَالُوا: فِي البُخَارِيّ " أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ لعُثْمَان: أُبَايِعك على سنة الله وَرَسُوله والخليفتين من بعده، فَبَايعهُ عبد الرَّحْمَن وَبَايَعَهُ النَّاس ".
(8/3808)
 
 
رد: إِنَّمَا ذَلِك فِي السياسية، وَلِهَذَا بَينهم خلاف فِي الْأَحْكَام.
قَالُوا: يقدم مَعَ قِيَاس ضَعِيف على قِيَاس قوي فَقدم مُطلقًا كَقَوْل الشَّارِع.
رد: بِالْمَنْعِ، ذكره فِي " الْوَاضِح "، وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد " ثمَّ سلمه.
وَقَالَهُ القَاضِي: لاجتماعهما كشاهدين، وَيَمِين مَعَ شَاهد.
قَالُوا: قَالَ الزُّهْرِيّ لصالح بن كيسَان: " نكتب مَا جَاءَ عَن الصَّحَابَة فَإِنَّهُ سنة، فَقَالَ: لَيْسَ بِسنة فَلَا تكتبه، قَالَ: فأنجح وضيعت "، رَوَاهُ
(8/3809)
 
 
[عبد الرَّزَّاق] عَن معمر عَن صَالح.
رد: لَا حجَّة فِيهِ.
قَوْله: {وَقَوله فِيمَا يُخَالف الْقيَاس يحمل على التَّوْقِيف ظَاهرا عِنْد أَحْمد وَأكْثر الصَّحَابَة، وَالشَّافِعِيّ، وَالْحَنَفِيَّة، وَابْن الصّباغ،
(8/3810)
 
 
والرازي، وَخَالف أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة} .
قَالَ السُّبْكِيّ، وَتَبعهُ ابْنه التَّاج، وَالشَّيْخ صَلَاح الدّين العلائي: أَن الشَّافِعِي يَقُول: إِنَّه يحمل على التَّوْقِيف فِي الْجَدِيد.
وَقَالَ السُّبْكِيّ أَيْضا: إِنَّه مَذْكُور فِي الْجَدِيد وَالْقَدِيم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يصير فِي حكم الْمَرْفُوع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَقد سبق أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ مَا لَا يُمكن أَن يَقُوله عَن اجْتِهَاد بل عَن تَوْقِيف: أَنه يكون مَرْفُوعا، صرح بِهِ عُلَمَاء الحَدِيث وَالْأُصُول " انْتهى.
(8/3811)
 
 
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: هُوَ اخْتِيَار الشَّافِعِي، أَعنِي قَوْله فِيمَا يُخَالف الْقيَاس أَنه يحمل على التَّوْقِيف.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وبنينا عَلَيْهِ مسَائِل: كتغليظ الدِّيَة بالحرمات الثَّلَاث.
قَوْله: {فعلى الأول يكون حجَّة حَتَّى على صَحَابِيّ عندنَا، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " يلْزم على القَوْل بِأَنَّهُ توقيفي أَن يكون حجَّة على صَحَابِيّ.
رد: نقُول بِهِ، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي.
وَأَيْضًا: يُعَارض خَبرا مُتَّصِلا.
رد: نعم، يُعَارضهُ عِنْد أبي الْخطاب، ثمَّ الْمُتَّصِل ثَبت من النَّقْل فَقدم الْمُتَّصِل عَلَيْهِ، وَأَيْضًا: لَا يجوز إِضَافَته إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالظَّنِّ.
رد: يمْنَع ذَلِك كَخَبَر الْوَاحِد.
(8/3812)
 
 
وَأَيْضًا: لَو كَانَ حَدِيثا لنقله الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِئَلَّا يكون كَاتِما للْعلم.
رد: يحْتَمل أَنه نَقله وَلم يبلغنَا، أَو ظن نقل غَيره لَهُ، فَاكْتفى بذلك الْغَيْر عَن نَقله، أَو كره الرِّوَايَة.
قلت: كل هَذِه الِاحْتِمَالَات بعيدَة، بل يُقَال: لَا يلْزم أَنه إِذا [روى] ذَلِك وَكَانَ توقيفا أَن يُصَرح بِرَفْعِهِ.
قَوْله: {وَمذهب التَّابِعِيّ لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَعنهُ: بلَى، فيخص بِهِ الْعُمُوم ويفسر بِهِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " مَذْهَب التَّابِعِيّ لَيْسَ بِحجَّة عِنْد أَحْمد وَالْعُلَمَاء للتسلسل، وَذكر بعض الْحَنَفِيَّة عَنهُ رِوَايَتَيْنِ.
(8/3813)
 
 
وَقَالَ ابْن عقيل: لَا يخص بِهِ الْعُمُوم وَلَا يُفَسر بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة.
قَالَ: وَعنهُ جَوَاز ذَلِك، ثمَّ ذكر قَول أَحْمد: لَا يكَاد يَجِيء شَيْء عَن التَّابِعين إِلَّا يُوجد عَن الصَّحَابَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: كَلَام أَحْمد يعم تَفْسِيره وَغَيره.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ على هَذَا رفع التسلسل ".
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَلَا يلْزم الرُّجُوع إِلَى تَفْسِير التَّابِعِيّ.
قَالَ بَعضهم: وَلَعَلَّه مُرَاد غَيره إِلَّا أَن ينْقل ذَلِك عَن الْعَرَب.
وَأطلق القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن وَغَيره رِوَايَتَيْنِ: الرُّجُوع، وَعَدَمه.
نقل أَبُو دَاوُد: إِذا جَاءَ الشَّيْء عَن الرجل من التَّابِعين لَا يُوجد فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يلْزم الْأَخْذ بِهِ.
وَنقل الْمَرْوذِيّ: ينظر مَا كَانَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِن لم يكن فَعَن الصَّحَابَة فَإِن لم يكن فَعَن التَّابِعين.
(8/3814)
 
 
قَالَ القَاضِي: وَيُمكن حمله على إِجْمَاعهم انْتهى.
قَوْله: {وَكَذَا لَو خَالف الْقيَاس، وَذكره ابْن عقيل مَحل وفَاق، يَعْنِي: أَنه لَا يكون حجَّة، وَعند الْمجد: كصحابي} .
يَعْنِي: أَنه إِذا قَالَ قولا يُخَالف الْقيَاس هَل يحمل على التَّوْقِيف أم لَا؟
الْمَذْهَب: لَا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَذكره ابْن عقيل مَحل وفَاق.
وَقَالَ الْمجد فِي " شرح الْهِدَايَة " " فِي - مَسْأَلَة من قَامَ من نوم اللَّيْل فَغمسَ يَده فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا -[وَزَوَال طهوريته] قَول الْحسن وَهُوَ
(8/3815)
 
 
مُخَالف للْقِيَاس، والتابعي إِذا قَالَ مثل ذَلِك فَإِنَّهُ حجَّة، لِأَن الظَّاهِر أَنه تَوْقِيف عَن صَحَابِيّ، أَو نَص ثَبت عِنْده ".
وَقَالَهُ - أَيْضا - عَن قَول أَسد بن ودَاعَة التَّخْفِيف بِقِرَاءَة " يس " عِنْد المحتضر.
(8/3816)
 
 
وَذكر ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " بعد أَن ذكر كَلَام الْمجد وَغَيره: وَيتَوَجَّهُ تَخْرِيج رِوَايَة من جعل تَفْسِيره كتفسير الصَّحَابِيّ.
ثمَّ قَالَ: وَذكر صَاحب " الْمُحَرر " وَغَيره: كصحابي، فَلم ينْفَرد الْمجد بذلك وَالله أعلم.
(8/3817)
 
 
(قَوْله: {فصل} )
 
{الِاسْتِحْسَان قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّة، وَأحمد فِي مَوَاضِع، وَكتب أَصْحَاب مَالك مَمْلُوءَة مِنْهُ، وَلم ينص عَلَيْهِ، وَأنْكرهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَرُوِيَ عَن أَحْمد، قَالَ أَبُو الْخطاب: أنكر مَا لَا دَلِيل لَهُ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: أطلق أَحْمد القَوْل بِهِ فِي مَوَاضِع.
قلت: قَالَ فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ: " اسْتحْسنَ أَنه يتَيَمَّم لكل صَلَاة، وَالْقِيَاس: أَنه بِمَنْزِلَة المَاء حَتَّى يحدث أَو يجد المَاء ".
وَقَالَ فِي رِوَايَة بكر بن مُحَمَّد فِيمَن غصب أَرضًا فزرعها: " الزَّرْع لصَاحب الأَرْض وَعَلِيهِ النَّفَقَة، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء يُوَافق الْقيَاس، وَلَكِن اسْتحْسنَ أَن يدْفع إِلَيْهِ النَّفَقَة ".
(8/3818)
 
 
وَقَالَ فِي رِوَايَة صَالح فِي الْمضَارب إِذا خَالف فَاشْترى غير مَا أَمر بِهِ صَاحب المَال: " فَالرِّبْح لصَاحب المَال، وَلِهَذَا أُجْرَة مثله، إِلَّا أَن يكون الرِّبْح يُحِيط بأجره مثله فَيذْهب، وَكنت أذهب إِلَى أَن الرِّبْح لصَاحب المَال ثمَّ استحسنت هَذَا ".
وَيَأْتِي مثله غير ذَلِك قَرِيبا فِي التَّعْرِيف الأول.
وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: لم ينص عَلَيْهِ مَالك، وَكتب أَصْحَابنَا مَمْلُوءَة مِنْهُ، كَابْن قَاسم، وَأَشْهَب، وَغَيرهمَا.
(8/3819)
 
 
وَقَالَ الشَّافِعِي: " اسْتحْسنَ الْمُتْعَة ثَلَاثِينَ درهما ".
وَثُبُوت الشُّفْعَة إِلَى ثَلَاث، وَترك شَيْء من الْكِتَابَة، وَأَن لَا تقطع يمنى السَّارِق أخرج يَده الْيُسْرَى فَقطعت، والتحليف على الْمُصحف.
(8/3820)
 
 
وَالْأَشْهر عَنهُ: إِنْكَاره، وَقَالَهُ أَصْحَابه.
وَقَالَ: " من اسْتحْسنَ فقد شرع ".
وَهُوَ بتَشْديد الرَّاء، أَي: نصب شرعا على خلاف مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله، وَأنْكرهُ على الْحَنَفِيَّة.
وَعَن أَحْمد: " الْحَنَفِيَّة تَقول: نستحسن هَذَا وَنَدع الْقيَاس، فتدع مَا نزعمه الْحق بالاستحسان، وَأَنا أذهب إِلَى كل حَدِيث جَاءَ وَلَا أَقيس عَلَيْهِ ".
(8/3821)
 
 
قَالَ القَاضِي: هَذَا يدل على إِبْطَاله.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: إِنَّمَا أنكر اسْتِحْسَانًا بِلَا دَلِيل، قَالَ: وَمعنى " أذهب إِلَى مَا جَاءَ وَلَا أَقيس "، أَي: أترك الْقيَاس بالْخبر، وَهُوَ الِاسْتِحْسَان بِالدَّلِيلِ انْتهى.
وأوّل أَصْحَاب الشَّافِعِي كَلَام الشَّافِعِي بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِدَلِيل، لكنه سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا، لَا عده حسنا.
وَلَا يُنكر التَّعْبِير بذلك، وَيُقَال لِلْقَائِلين بِهِ إِن عنيتم مَا يستحسنه الْمُجْتَهد بعقله من غير دَلِيل كَمَا حَكَاهُ الشَّافِعِي عَن أبي حنيفَة.
قَالَ الشِّيرَازِيّ: " هُوَ الصَّحِيح فِي النَّقْل عَنهُ ".
فَأمر عَظِيم، وَقَول فِي الشَّرِيعَة لمُجَرّد التشهي وتفويض الْأَحْكَام إِلَى عقول ذَوي الآراء، وَقد قَالَ تَعَالَى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} [الشورى: 10] ، وَلَكِن أَصْحَابه يُنكرُونَ هَذَا التَّفْسِير عَنهُ.
(8/3822)
 
 
وَإِن عنيتم جَوَاز لفظ الِاسْتِحْسَان فَقَط فَلَا إِنْكَار فِي ذَلِك، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} [الزمر: 18] .
وَفِي الحَدِيث: " مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن "، وَالْكتاب وَالسّنة مشحونان بِنَحْوِ ذَلِك.
لكِنهمْ لَا يقصدون هَذَا الْمَعْنى، فَلَيْسَ لكم أَن تحتجوا بِمثلِهِ على الِاسْتِحْسَان بِالْمَعْنَى الَّذِي تريدونه.
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، والدارمي، عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَمن رَفعه فقد أَخطَأ، وَرَفعه من حَدِيث أنس سَاقِط لَا يحْتَج بِهِ، وعَلى تَقْدِير صِحَّته فَالْمُرَاد بِهِ إِجْمَاع الْأمة ورأيهم حسنه بِالدَّلِيلِ الَّذِي قَامَ لَهُم.
قَوْله: {وَهُوَ لُغَة: اعْتِقَاد الشَّيْء حسنا} .
الِاسْتِحْسَان، استفعال من الْحسن: اعْتِقَاد الشَّيْء حسنا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا [اعْتِقَاد] الشَّيْء حسنا، وَلم نقل الْعلم بِكَوْن الشَّيْء حسنا؛ لِأَن الِاعْتِقَاد لَا يلْزم مِنْهُ الْعلم الْجَازِم المطابق لما فِي نفس الْأَمر، إِذْ قد يكون الِاعْتِقَاد صَحِيحا إِذا طابق الْوَاقِع، وَقد يكون فَاسِدا إِذا لم يُطَابق، وَحِينَئِذٍ قد يستحسن الشَّخْص شَيْئا بِنَاء على اعْتِقَاده وَلَا يكون حسنا فِي نفس الْأَمر، وَقد يُخَالِفهُ غَيره فِي استحسانه، فَلَو قيل: الْعلم بِكَوْن الشَّيْء حسنا يخرج مِنْهُ مَا لَيْسَ حسنه حَقًا فِي نفس الْأَمر، وَإِذا قُلْنَا: اعْتِقَاد الشَّيْء حسنا تنَاول ذَلِك.
(8/3823)
 
 
قَوْله: {وَعرفا، أَي فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ واصطلاحهم الْعُدُول بِحكم الْمَسْأَلَة عَن نظائرها لدَلِيل شَرْعِي} .
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَتَبعهُ بعض أَصْحَابه وتابعناهم: وأجود مَا قيل فِيهِ: إِنَّه الْعُدُول بِحكم الْمَسْأَلَة عَن نظائرها لدَلِيل شَرْعِي خَاص بِتِلْكَ الْمَسْأَلَة.
قَالَ الطوفي: " مِثَاله قَول أبي الْخطاب فِي مَسْأَلَة الْعينَة: وَإِذا اشْترى مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن الأول: لم يجز اسْتِحْسَانًا، وَجَاز قِيَاسا، فَالْحكم فِي نَظَائِر هَذِه الْمَسْأَلَة من الربويات: الْجَوَاز، وَهُوَ الْقيَاس، لَكِن عدل بهَا عَن نظائرها بطرِيق الِاسْتِحْسَان، فمنعت، وَحَاصِل هَذَا يرجع إِلَى تَخْصِيص الدَّلِيل بِدَلِيل أقوى مِنْهُ فِي نظر الْمُجْتَهد.
قَالَ ابْن المعمار الْبَغْدَادِيّ: مِثَال الِاسْتِحْسَان مَا قَالَه أَحْمد رَحمَه الله: إِنَّه يتَيَمَّم لكل صَلَاة، اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاس أَنه بِمَنْزِلَة المَاء حَتَّى يحدث.
وَقَالَ: يجوز شِرَاء أَرض السوَاد وَلَا يجوز بيعهَا.
قيل لَهُ: فَكيف يَشْتَرِي مِمَّن لَا يملك البيع؟
(8/3824)
 
 
فَقَالَ: الْقيَاس هَكَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَان.
وَكَذَلِكَ يمْنَع من بيع الْمُصحف وَيُؤمر بِشِرَائِهِ استحسانه ".
وَقيل: دَلِيل ينقدح فِي نفس الْمُجْتَهد يعجز عَن التَّعْبِير عَنهُ، وَهُوَ لبَعض الْحَنَفِيَّة.
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": " مَا لَا يعبر عَنهُ لَا يدرى أوهم أَو تَحْقِيق ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمرَاده مَا قَالَ الْآمِدِيّ: يرد إِن شكّ فِيهِ وَلَا عمل بِهِ اتِّفَاقًا.
وَمرَاده النَّاظر لَا المناظر ".
قَالَ الطوفي عَن هَذَا الْحَد: وَهُوَ هوس إِلَى طرف من الْجُنُون، حَيْثُ هُوَ كَلَام لَا فَائِدَة فِيهِ.
(8/3825)
 
 
ورده ابْن الْحَاجِب: بِأَنَّهُ إِذا لم يتَحَقَّق بِكَوْنِهِ دَلِيلا فمردود اتِّفَاقًا، وَإِن تحقق فمعتبر اتِّفَاقًا.
قيل: وَفِيمَا قَالَه نظر، لِأَنَّهُ قد يُقَال على الشَّك الأول لَا معنى لكَونه لم يتَحَقَّق، لِأَن الْغَرَض أَنه عِنْدهم دَلِيل على الشق الثَّانِي، لَا نسلم أَن مَا لَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ من الْأَدِلَّة يعْمل بِهِ.
ورده الْبَيْضَاوِيّ: " بِأَنَّهُ لَا بُد من ظُهُوره ليتميز صَحِيحه من [فاسده] "، فَإِن مَا ينقدح فِي نفس الْمُجْتَهد قد يكون وهما لَا عِبْرَة بِهِ.
قيل: وَفِيه نظر؛ لِأَن هَذَا إِنَّمَا يقْدَح فِيمَا يكون فِي المناظرة، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى عمل الْمُجْتَهد بِهِ فَإِنَّهُ انقدح عِنْده أَنه دَلِيل فَعمل بِهِ وَأفْتى بِهِ، وَإِن لم يقدر على التَّعْبِير عَنهُ فَيَنْبَغِي أَن يُقَال فِي الرَّد: إِن المنقدح فِي نفس الْمُجْتَهد إِنَّمَا يمتاز عَن غَيره من الْأَدِلَّة لكَونه لَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ، وَلَكِن ذَلِك لَا يقْدَح فِي كَونه دَلِيلا، فَيمكن التَّمَسُّك بِهِ وفَاقا فَأَيْنَ الِاسْتِحْسَان الْمُخْتَلف فِيهِ؟
فَقَالَ الْكَرْخِي، وَالْقَاضِي فِي " الْعدة "، وَالْقَاضِي يَعْقُوب: ترك الحكم لحكم أولى مِنْهُ.
(8/3826)
 
 
وأبطله أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": بِأَن الْقُوَّة للأدلة لَا للْأَحْكَام.
وَقَالَ القَاضِي - أَيْضا - والحلواني: القَوْل بأقوى الدَّلِيلَيْنِ.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب: أَن كَلَام أَحْمد يَقْتَضِي أَنه عدُول عَن مُوجب قِيَاس لقياس أقوى.
وَاخْتَارَهُ فِي " الْوَاضِح ".
وَقيل: الْعُدُول عَن حكم الدَّلِيل إِلَى الْعَادة لمصْلحَة النَّاس: كشرب المَاء من السقاة، وَدخُول الْحمام من غير تَقْدِير المَاء.
ورد ذَلِك: بِأَن الْعَادة إِن ثَبت جريانها بذلك فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ ثَابت بِالسنةِ، أَو فِي زمانهم من غير إِنْكَار فَهُوَ إِجْمَاع، وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُود.
(8/3827)
 
 
وَقيل: ترك قِيَاس لقياس أقوى مِنْهُ.
وأبطله فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: أَنه لَو تَركه لنَصّ كَانَ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد ": ترك قِيَاس لما هُوَ أولى مِنْهُ أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد.
وَقد ظهر مِمَّا تقدم أَنه لَا يتَحَقَّق اسْتِحْسَان مُخْتَلف فِيهِ، وَإِن تحقق اسْتِحْسَان مُخْتَلف فِيهِ، فَمن قَالَ بِهِ فقد شرع، كَمَا قَالَ الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَلَا نزاع معنوي فِي ذَلِك.
قَوْله: {وَعند الْحَنَفِيَّة يثبت بالأثر: كسلم، وَإِجَارَة، وَبَقَاء
(8/3828)
 
 
صَوْم نَاس، وبالإجماع وبالضرورة: كتطهير الْحِيَاض، وَسموا مَا ضعف أَثَره قِيَاسا وَالْقَوِي اسْتِحْسَانًا} .
أَي: قِيَاسا مستحسنا لقُوَّة أَثَره: كتقديمه فِي طَهَارَة سِبَاع الطير، وَقدمُوا قِيَاسا ظهر فَسَاده واستتر أَثَره على اسْتِحْسَان ظهر أَثَره واستتر فَسَاده: كالركوع بدل سُجُود التِّلَاوَة للخضوع الْحَاصِل بِهِ، لِأَن السُّجُود لم
(8/3829)
 
 
يُؤمر بِهِ لعَينه فَلم يشرع قربَة مَقْصُودَة.
وَفرقُوا بَين الِاسْتِحْسَان بِالثَّلَاثَةِ الأول، بِالْقِيَاسِ الْخَفي بِصِحَّة التَّعْدِيَة بِهِ دونهَا: كالاختلاف فِي ثمن مَبِيع قبل قَبضه لَا يحلف بَائِع قِيَاسا؛ لِأَنَّهُ مُدع، وَيحلف اسْتِحْسَانًا لإنكاره تَسْلِيمه بِمَا يَدعِيهِ مُشْتَر فيتعدى إِلَى الْوَارِث وَالْإِجَارَة، وَبعد قَبضه يثبت الْيَمين بالأثر فَلم يَتَعَدَّ إِلَى وَارثه وَإِلَى حَال تلف مَبِيع.
وَكَذَا قَالُوا: وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَمثل هَذَا لم يقل بِهِ أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَالله أعلم، قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَالَ: (وَإِن ثَبت اسْتِحْسَان مُخْتَلف فِيهِ فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَالْأَصْل عَدمه، وَقَوله تَعَالَى: {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} [الزمر: 55] ، لَا نسلم أَن هَذَا مَا أنزلهُ فضلا عَن كَونه أحسن وَلم يفسره بِهِ أحد.
" وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن " سبق فِي الْإِجْمَاع وَهُوَ المُرَاد قطعا.
(8/3830)
 
 
وَنَازع ابْن عقيل الْحَنَفِيَّة وَقَالَ: الْقيَاس: هُوَ وضع الِاسْتِحْسَان، وَأَنه يتَصَوَّر الْخلاف مَعَهم فِي ترك الْقيَاس للْعُرْف وَالْعَادَة، وَاحْتج بِأَن الْقيَاس حجَّة فَلَا يجوز تَركه لعرف طاريء كَغَيْرِهِ) انْتهى.
قَوْله: {سد أَحْمد وَمَالك الذرائع: وَهُوَ مَا ظَاهره مُبَاح، ويتوصل بِهِ إِلَى محرم، وأباحه أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ} .
قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " وَمن تبعه: بل عَلَيْهِ الْأَصْحَاب " والحيل كلهَا مُحرمَة لَا تجوز فِي شَيْء من الدّين.
وَهُوَ: أَن يظْهر عقدا مُبَاحا يُرِيد بِهِ محرما مخادعة وتوسلا إِلَى فعل مَا حرم الله، واستباحة محظوراته، أَو إِسْقَاط وَاجِب، أَو دفع حق، وَنَحْو ذَلِك.
قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ رَحمَه الله: إِنَّهُم ليخادعون الله كَمَا يخادعون صَبيا، لَو كَانُوا يأْتونَ الْأَمر على وَجهه كَانَ أسهل عَليّ.
(8/3831)
 
 
فَمن ذَلِك: لَو كَانَ لرجل عشرَة صحاحا وَمَعَ آخر خمس عشرَة مكسرة، فاقترض كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا مَعَ صَاحبه، ثمَّ تباريا توصلا إِلَى بيع الصِّحَاح بالمكسرة مُتَفَاضلا، أَو بَاعه الصِّحَاح بِمِثْلِهَا من المكسرة، ثمَّ وهبه الْخَمْسَة الزَّائِدَة، أَو اشْترى مِنْهُ بهَا أُوقِيَّة صابون، وَنَحْوهَا مِمَّا يَأْخُذهُ بِأَقَلّ من قِيمَته، أَو اشْترى مِنْهُ بِعشْرَة إِلَّا حَبَّة من الصَّحِيح بِمِثْلِهَا من المكسرة، أَو اشْترى مِنْهُ بالحبة الْبَاقِيَة ثوبا قِيمَته خَمْسَة دَنَانِير، وَهَكَذَا لَو أقْرضهُ مِنْهُ شَيْئا، وَبَاعه سلْعَة بِأَكْثَرَ من قيمتهَا، أَو اشْترى مِنْهُ سلْعَة بِأَقَلّ من قيمتهَا توسلا إِلَى أَخذ عوض عَن الْقَرْض.
فَكل مَا كَانَ من هَذَا على وَجه الْحِيلَة هُوَ خَبِيث محرم، وَبِهَذَا قَالَ مَالك.
(8/3832)
 
 
وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ: هَذَا كُله وأشباهه جَائِز إِذا لم يكن مَشْرُوطًا فِي العقد.
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: يكره أَن يدخلا عَلَيْهِ.
ثمَّ قَالَ الْمُوفق: وَلنَا أَن الله تَعَالَى عذب أمة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة، وَسَمَّاهُمْ معتدين، وَجعل ذَلِك نكالا وموعظة لِلْمُتقين ليتعظوا بهم، ويمتنعو من مثل أفعالهم " وَأطَال فِي ذَلِك، ذكره فِي الشَّرْح آخر الرِّبَا وَالله أعلم.
(8/3833)
 
 
(قَوْله: {فصل} )
 
{الْمصَالح الْمُرْسلَة: سبقت فِي المسلك الرَّابِع، وَذكر أَبُو الْخطاب أَن الاستنباط قِيَاس واستدلال بأمارة، أَو عِلّة بِشَهَادَة الأَصْل، قَالَ الشَّيْخ: هَذَا هُوَ الْمصَالح} .
سبقت الْمصَالح الْمُرْسلَة فِي المسلك الرَّابِع بأقسامها، وتفاريعها، وأحكامها، وَالْخلاف فِيهَا، محررة مستوفاة فليعاود.
وَذَلِكَ إِن شهد الشَّرْع باعتبارها: كاقتباس الحكم من مَعْقُول دَلِيل شَرْعِي فَقِيَاس، أَو ببطلانها: كتعيين الصَّوْم فِي كَفَّارَة وَطْء رَمَضَان على الْمُوسر كالملك وَنَحْوه فلغو.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: " أنكرها متأخرو أَصْحَابنَا من أهل الْأُصُول، والجدل، وَابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين ".
وَقَالَ بهَا مَالك، وَالشَّافِعِيّ فِي قَول قديم، وَحكي عَن أبي حنيفَة.
(8/3834)
 
 
وَقَالَ ابْن برهَان: الْحق مَا قَالَه الشَّافِعِي: إِن لاءمت أصلا كليا أَو جزئيا قُلْنَا بهَا وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ: مَالك لَا يُخَالف هَذَا الْمَذْهَب.
وَذكر أَبُو الْخطاب فِي تَقْسِيم أَدِلَّة الشَّرْع: أَن الاستنباط قِيَاس، واستدلال بأمارة أَو عِلّة، وبشهادة الْأُصُول.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الِاسْتِدْلَال بأمارة أَو عِلّة هُوَ الْمصَالح.
وَأنكر بعض أَصْحَابنَا مذهبا ثَالِثا فِيهَا وَالله أعلم.
قَوْله: {فَائِدَة:}
{من أَدِلَّة الْفِقْه: لَا يرفع يَقِين شكّ، وَالضَّرَر يزَال وَلَا يزَال بِهِ، ويبيح الْمَحْظُور، وَالْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير، وَدفع الْمَفَاسِد أولى من جلب الْمصَالح، وَدفع أَعْلَاهَا بأدناها، وتحكم الْعَادة، وَجعل الْمَعْدُوم كالموجود احْتِيَاطًا} .
هَذِه كالأدلة وَالْقَوَاعِد للفقه ذَكرنَاهَا هُنَا من كتب أَصْحَابنَا وَغَيرهم،
(8/3835)
 
 
فَإِن هَذَا الْبَاب مَوْضُوع الِاسْتِدْلَال، وَلذَلِك ذكرُوا هُنَا الإلهام هَل هُوَ دَلِيل أم لَا؟ وَكَذَلِكَ أقل مَا قيل: كدية الْكِتَابِيّ.
فَهَذِهِ قَوَاعِد تشبه الْأَدِلَّة وَلَيْسَت بأدلة لَكِن ثَبت مضمونها بِالدَّلِيلِ، وَصَارَت يقْضى بهَا فِي جزئياتها كَأَنَّهَا دَلِيل على ذَلِك الجزئي، فَلَمَّا كَانَت كَذَلِك ناسب أَن نذْكر هُنَا شَيْئا من مهمات مَذْهَب أَحْمد وَأَصْحَابه الَّتِي صَارَت مَشْهُورَة بَين الْأَصْحَاب، وَهِي فِي الْحَقِيقَة رَاجِعَة إِلَى قَوَاعِد أصُول الْفِقْه، فنذكرها ونشير إِلَى مَا يرجع كل مِنْهَا إِلَيْهِ من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه بِاخْتِصَار.
(8/3836)
 
 
وَقد ذكر الْعَلامَة ابْن رَجَب قَوَاعِد جليلة عَظِيمَة لَكِنَّهَا فِي الْفِقْه.
وَبعده تِلْمِيذه القَاضِي عَلَاء الدّين ابْن اللحام البعلي، ذكر قَوَاعِد فِي أصُول الْفِقْه، كل مِنْهُمَا أَتَى بأَشْيَاء كَثِيرَة حَسَنَة جدا نافعة لطَالب الْعلم.
وَكَذَلِكَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين [ذكر] قَوَاعِد كَثِيرَة فِي الْمَذْهَب، وَكَذَلِكَ ابْن الْقيم وَغَيره.
إِذْ يحب على كل من أَرَادَ إحكام علم أَن يضْبط قَوَاعِده ليرد إِلَيْهَا مَا ينتشر من الْفُرُوع، ثمَّ يُؤَكد ذَلِك بالاستكثار من حفظ الْفُرُوع ليرسخ فِي الذِّهْن؛ فيتميز على نظرائه بِحِفْظ ذَلِك واستحضاره.
وَاعْلَم أَن قَوَاعِد مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه كَثِيرَة جدا لَا تَنْحَصِر، كَمَا تقدم ذكر بَعْضهَا عَن ابْن رَجَب وَغَيره، وَكَذَلِكَ جَمِيع الْمذَاهب الْأَرْبَعَة لكل أَصْحَاب مَذْهَب قَوَاعِد كَثِيرَة جليلة عَظِيمَة.
(8/3837)
 
 
وَقد رد الْعَلامَة أَبُو الطَّاهِر الدباس الْحَنَفِيّ إِمَام الْحَنَفِيَّة بِمَا وَرَاء النَّهر جَمِيع مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله إِلَى سبع عشرَة قَاعِدَة، وَكَانَ يضن بتعليمها.
وَلما بلغ ذَلِك الإِمَام الْعَلامَة القَاضِي الْحُسَيْن أحد أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة رد جَمِيع مَذْهَب الشَّافِعِي إِلَى أَربع قَوَاعِد، وَهِي: الْيَقِين لَا يزَال بِالشَّكِّ، وَالضَّرَر يزَال، وَالْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير، وَالْعَادَة محكمَة.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فِي كَون هَذِه الْأَرْبَع دعائم الْفِقْه نظر، فَإِن غالبه لَا يرجع إِلَيْهَا إِلَّا بوسائط وتكلف.
قَالَ الْحَافِظ العلائي: (وَرَأَيْت فِيمَا علقت بِالْقَاهِرَةِ، وَعَن بعض الْفُضَلَاء أَنه ضم إِلَى الْأَرْبَع خَامِسَة وَهِي: الْأُمُور بمقاصدها، لحَدِيث: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، وَقَالَ: بني الْإِسْلَام على خمس، وَالْفِقْه على خمس، وَهُوَ حسن) .
(8/3838)
 
 
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: أصُول الْإِسْلَام ثَلَاثَة أَحَادِيث:
" الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ "، و " الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين " و " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُد تلميذ الإِمَام أَحْمد: الْفِقْه يَدُور على خَمْسَة أَحَادِيث:
(8/3839)
 
 
" الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين "، و " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، و " مَا نَهَيْتُكُمْ عَنهُ فَاجْتَنبُوهُ، وَمَا أَمرتكُم بِهِ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم "، و " لَا ضَرَر وَلَا ضرار "، و " الدّين النَّصِيحَة ".
وَقَالَ أَيْضا: كتبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خمس مائَة ألف حَدِيث، انتخبت مِنْهُ مَا ضمنته كتابي السّنَن، جمعت فِيهِ أَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حَدِيث، ذكرت الصَّحِيح وَمَا يُشبههُ ويقاربه، وَيَكْفِي الْمُسلم لدينِهِ من ذَلِك أَرْبَعَة أَحَادِيث:
(8/3840)
 
 
" الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، و " من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه "، و " لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يرضى لِأَخِيهِ مَا يرضى لنَفسِهِ "، و " الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين ".
(8/3841)
 
 
وَقَالَ الرّبيع: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: يدْخل حَدِيث عمر، يَعْنِي " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " على سبعين بَابا من الْفِقْه، أَي: أنواعا، أَو مُبَالغَة، اعْتِبَارا أَنه دَاخل فِي أَكثر الْفِقْه.
وَقَالَ أَيْضا: يدْخل فِي هَذَا الحَدِيث ثلث الْعلم.
ورد بعض أهل الْعلم ذَلِك إِلَى أقل من الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة قبل.
ورد ابْن عبد السَّلَام الْفِقْه كُله إِلَى اعْتِبَار الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد.
وَلَو ضايقه مضايق لقَالَ: ورد الْكل إِلَى اعْتِبَار الْمصَالح، فَإِن دَرْء الْمَفَاسِد من جُمْلَتهَا، وكل هَذَا تعسف، وَفِيه إِجْمَال شَدِيد، بل الْقَوَاعِد تزيد على الْمِائَتَيْنِ، كَمَا ذكر بَعْضهَا ابْن اللحام من أَصْحَابنَا وَغَيره.
وَذكر التَّاج السُّبْكِيّ قَوَاعِد كَثِيرَة جدا أَجَاد فِيهَا وَأفَاد.
وَذكرنَا هُنَا بعض قَوَاعِد تشْتَمل على مسَائِل مهمة، وَهِي متسعة جدا، وَلذَلِك ذكر التَّاج السُّبْكِيّ الْأَرْبَعَة الأول.
وَزَاد بَعضهم خَامِسَة، وزدنا عَلَيْهَا شَيْئا يَسِيرا.
فَمن ذَلِك: " لَا يرفع يَقِين بشك ".
(8/3842)
 
 
وَمعنى ذَلِك: أَن الْإِنْسَان إِذا تحقق شَيْئا ثمَّ شكّ: هَل زَالَ ذَلِك الشَّيْء الْمُحَقق أم لَا؟ الأَصْل بَقَاء المتحقق، فَيبقى الْأَمر على مَا كَانَ متحققا بِحَدِيث عبد الله بن زيد الْمَازِني: شكي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الرجل يخيل إِلَيْهِ: أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة؟ قَالَ: " لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَلمُسلم: " إِذا وجد أحدكُم فِي بَطْنه شَيْئا فأشكل عَلَيْهِ: أخرج مِنْهُ شَيْء فَلَا يخْرجن من الْمَسْجِد حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا ".
(8/3843)
 
 
فَلَو شكّ فِي امْرَأَة هَل تزَوجهَا أم لَا؟
لم يكن لَهُ وَطْؤُهَا استصحابا لحكم التَّحْرِيم إِلَى أَن يتَحَقَّق تزَوجه بهَا اتِّفَاقًا.
وَكَذَا لَو شكّ: هَل طلق زَوجته أم لَا؟
لم تطلق زَوجته، وَله أَن يطَأ حَتَّى يتَحَقَّق الطَّلَاق استصحابا للنِّكَاح.
وَكَذَا لَو شكّ: هَل طلق وَاحِدَة أم ثَلَاثًا؟
الأَصْل الْحل.
وَكَذَا لَو تحقق الطَّهَارَة ثمَّ شكّ فِي زَوَالهَا، أَو عَكسه، لم يلْتَفت إِلَى الشَّك فيهمَا، وَفعل فيهمَا مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا.
وَكَذَا لَو شكّ فِي طَهَارَة المَاء أَو نَجَاسَته، وَأَنه متطهر أَو مُحدث، أَو شكّ فِي عدد الرَّكْعَات وَالطّواف؟ وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يحصر.
وَلَا تخْتَص هَذِه الْقَاعِدَة بالفقه، بل الأَصْل فِي كل حَادث عَدمه حَتَّى يتَحَقَّق كَمَا نقُول: الأَصْل انْتِفَاء الْأَحْكَام عَن الْمُكَلّفين، حَتَّى يَأْتِي مَا يدل على خلاف ذَلِك، وَالْأَصْل فِي الْأَلْفَاظ أَنَّهَا للْحَقِيقَة، وَفِي الْأَوَامِر: للْوُجُوب، والنواهي: للتَّحْرِيم، وَالْأَصْل: بَقَاء الْعُمُوم حَتَّى يتَحَقَّق وُرُود الْمُخَصّص، وَبَقَاء حكم النَّص حَتَّى يرد النَّاسِخ، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا حصر لَهُ.
وَقد تقدم فِي الْمَتْن وَشَرحه قبل مبدأ اللُّغَات مَا يتَعَلَّق بذلك.
وَلأَجل هَذِه الْقَاعِدَة: كَانَ الِاسْتِصْحَاب حجَّة، بل يكَاد أَن يَكُونَا متحدين.
(8/3844)
 
 
وَمِمَّا يَنْبَنِي على الْقَاعِدَة: أَن الْمَانِع لَا يُطَالب بِالدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ مُسْتَند إِلَى الِاسْتِصْحَاب، كَمَا أَن الْمُدعى عَلَيْهِ لَا يُطَالب بِحجَّة، بل القَوْل فِي الْإِنْكَار قَول بِيَمِينِهِ: كَمَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ "، وَفِي رِوَايَة: " على من أنكر ".
قَوْله: {وَالضَّرَر يزَال} .
(8/3845)
 
 
من أَدِلَّة الْفِقْه " أَن الضَّرَر يزَال "، أَي: تجب إِزَالَته.
ودليلها: قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار "، وَفِي رِوَايَة: " وَلَا إِضْرَار " بِزِيَادَة همزَة فِي أَوله وَألف بَين الراءين.
وَقد علل أَصْحَابنَا بذلك فِي مسَائِل كَثِيرَة جدا.
وَقد تقدم قَرِيبا أَن أَبَا دَاوُد قَالَ: الْفِقْه يَدُور على خَمْسَة أَحَادِيث، مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار ".
وَهَذِه الْقَاعِدَة فِيهَا من الْفِقْه مَا لَا حصر لَهُ، ولعلها تَتَضَمَّن نصفه، فَإِن الْأَحْكَام إِمَّا لجلب الْمَنَافِع أَو لدفع المضار، فَيدْخل فِيهَا دفع الضروريات الْخمس الَّتِي هِيَ: حفظ الدّين، وَالنَّفس، وَالنّسب، وَالْمَال، وَالْعرض، كَمَا سبق ذَلِك وَشَرحه، وَغير ذَلِك.
وَهَذِه الْقَاعِدَة ترجع إِلَى تَحْصِيل الْمَقَاصِد، وتقريرها بِدفع الْمَفَاسِد أَو تخفيفها.
تَنْبِيه: مِمَّا يدْخل فِي هَذِه الْقَاعِدَة: قَوْلنَا: وَلَا يزَال بِهِ، أَي: الضَّرَر لَا يزَال بِالضَّرَرِ؛ لِأَن فِيهِ ارْتِكَاب ضَرَر، وَإِن زَالَ ضَرَر آخر، وَفِي هَذِه الْقَاعِدَة
(8/3846)
 
 
- أَيْضا - أَحْكَام كَثِيرَة ذكرهَا الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ.
وَمِمَّا يدْخل - أَيْضا - فِي هَذِه الْقَاعِدَة: الضرورات تبيح الْمَحْظُورَات، بِشَرْط عدم نقصانها عَنْهَا، وَمن ثمَّ جَازَ بل وَجب أكل الْميتَة عَنهُ المخمصة، وَكَذَلِكَ إساغة اللُّقْمَة بِالْخمرِ، وبالبول، وَقتل الْمحرم الصَّيْد دفعا عَن نَفسه إِذا صال عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يضمن، وَمِنْه الْعَفو عَن أثر الِاسْتِجْمَار، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا حصر لَهُ.
قَوْله: {وَالْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير} .
من الْقَوَاعِد أَن الْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير.
وَدَلِيله: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} [الْحَج: 78] . إِشَارَة إِلَى مَا خفف عَن هَذِه الْأمة من التَّشْدِيد على غَيرهم، من الإصر وَنَحْوه، وَمَا لَهُم من تخفيفات أخر دفعا للْمَشَقَّة: كَمَا قَالَ تَعَالَى:
(8/3847)
 
 
{الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا} [الْأَنْفَال: 66] ، وَكَذَلِكَ تَخْفيف الْخمسين صَلَاة فِي الْإِسْرَاء إِلَى خمس صلوَات، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا ينْحَصر، وَقد قَالَ تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر} [الْبَقَرَة: 185] ، {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} [النِّسَاء: 28] ، وَقَالَ فِي صفة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} [الْأَعْرَاف: 157] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} [الْبَقَرَة: 286] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي دُعَائِهِمْ: {وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} [الْبَقَرَة: 286] ، وَغير ذَلِك، وَقَالَ: " بعثت بالحنيفية السمحة ".
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أحب الْأَدْيَان إِلَى الله الحنيفية السمحة " فِي أَحَادِيث
(8/3848)
 
 
وآثار كَثِيرَة.
وَيدخل تَحت هَذِه الْقَاعِدَة: أَنْوَاع من الْفِقْه، مِنْهَا فِي الْعِبَادَات: التَّيَمُّم عِنْد مشقة اسْتِعْمَال المَاء على حسب تفاصيل فِي الْفِقْه، وَالْقعُود فِي الصَّلَاة عِنْد مشقة الْقيام وَفِي النَّافِلَة مُطلقًا، وَقصر الصَّلَاة فِي السّفر، وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَنَحْو ذَلِك.
وَمن ذَلِك: رخص السّفر وَغَيرهَا.
وَمن التخفيفات أَيْضا: أعذار الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة، وتعجيل الزَّكَاة، والتخفيفات فِي الْعِبَادَات لَا تكَاد تَنْحَصِر،
(8/3849)
 
 
وَهِي فِي الْمُعَامَلَات كَثِيرَة جدا، وَفِي المناكحات، والجنايات، وَفِي كتاب الْقَضَاء.
(8/3850)
 
 
وَمن التخفيفات الْمُطلقَة: فروض الكفايات وسننها، وَالْعَمَل بالظنون لمَشَقَّة الِاطِّلَاع على الْيَقِين، إِلَى غير ذَلِك.
وَهَاتَانِ القاعدتان تَرْجِعَانِ من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه إِلَى مَا سبق من أَن الْأَحْكَام معللة بِدفع الْمَفَاسِد، والمضار الدِّينِيَّة والدنيوية، وَأَن الْعلَّة فِي ذَلِك إِمَّا أَن تكون دافعة للضَّرَر وَالْمَشَقَّة، أَو رَافِعَة لذَلِك، وَقد تقدم فِي الْقيَاس.
قَوْله: {ودرء الْمَفَاسِد أولى من جلب الْمصَالح، وَدفع أَعْلَاهَا بأدناها} .
من الْقَوَاعِد: إِذا دَار الْأَمر بَين دَرْء مفْسدَة وجلب مصلحَة، كَانَ دَرْء الْمفْسدَة أولى من جلب الْمصلحَة، قَالَه الْعلمَاء، وَإِذا دَار الْأَمر أَيْضا بَين دَرْء إِحْدَى المفسدتين، وَكَانَت إِحْدَاهمَا أَكثر فَسَادًا من الْأُخْرَى، فدرء الْعليا مِنْهُمَا أولى من دَرْء غَيرهَا، وَهَذَا وَاضح يقبله كل عَاقل، وَاتفقَ عَلَيْهِ أولو الْعلم.
قَوْله: {وتحكيم الْعَادة} .
من الْقَوَاعِد: أَن الْعَادة محكمَة، أَي: مَعْمُول بهَا شرعا لحَدِيث: " مَا
(8/3851)
 
 
رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن "، لَكِن لَا يَصح، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُول عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
وللقاعدة أَدِلَّة أُخْرَى غير ذَلِك مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ} [الْأَعْرَاف: 199] ، قَالَ: [ابْن السَّمْعَانِيّ] : المُرَاد مَا يعرفهُ النَّاس ويتعارفونه فِيمَا بَينهم.
قَالَ ابْن عَطِيَّة: " مَعْنَاهُ: كل مَا عَرفته النُّفُوس مِمَّا لَا ترده الشَّرِيعَة ".
قَالَ ابْن ظفر فِي " الينبوع ": " الْعرف مَا عرفه الْعُقَلَاء بِأَنَّهُ حسن وأقرهم الشَّارِع عَلَيْهِ ".
(8/3852)
 
 
وكل مَا تكَرر من لفظ الْمَعْرُوف فِي الْقُرْآن نَحْو: {وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19] ، فَالْمُرَاد مَا يتعارفه النَّاس من مثل ذَلِك الْأَمر.
وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليستئذنكم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم} الْآيَة [النُّور: 58] ، فَالْأَمْر بالاستئذان فِي الْأَوْقَات الَّتِي جرت الْعَادة فِيهَا بالابتذال وَوضع الثِّيَاب، فابتنى الحكم الشَّرْعِيّ على مَا كَانُوا يعتادونه.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لهِنْد: " خذي مَا يَكْفِي وولدك بِالْمَعْرُوفِ ".
(8/3853)
 
 
وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لحمنة بنت جحش: " تحيضي فِي علم الله سِتا أَو سبعا كَمَا تحيض النِّسَاء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ الْحَاكِم.
وَحَدِيث أم سَلمَة: أَن امْرَأَة كَانَت تهراق الدَّم على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فاستفتت أم سَلمَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " لتنظر عدد اللَّيَالِي وَالْأَيَّام الَّتِي كَانَت تحيضهن من الشَّهْر قبل أَن يُصِيبهَا ذَلِك فلتترك الصَّلَاة " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي " صَحِيحَيْهِمَا ".
(8/3854)
 
 
وَمِنْهَا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد " رَوَاهُ مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ، فَإِنَّهُ دَلِيل على اعْتِبَار مَا الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ إِمَّا من جِهَة الْأَمر الشَّرْعِيّ، أَو من جِهَة الْعَادة المستقرة، لشمُول قَوْله: لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا ذَلِك.
وَمِنْهَا حَدِيث: " الْمِكْيَال مكيال أهل الْمَدِينَة، وَالْوَزْن وزن أهل مَكَّة "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَسَنَده صَحِيح.
وَذَلِكَ أَن أهل الْمَدِينَة لما كَانُوا أهل نخل وَزرع اعْتبرت عَادَتهم فِي مِقْدَار الْكَيْل، وَأهل مَكَّة أهل تِجَارَة اعْتبرت عَادَتهم فِي الْوَزْن، وَالْمرَاد اعْتِبَار ذَلِك فِيمَا يتَقَدَّر شرعا: كنصب الزكوات، وَمِقْدَار الدِّيات، وَزَكَاة الْفطر، وَالْكَفَّارَات، وَالسّلم، والربا، وَغير ذَلِك.
(8/3855)
 
 
وَمِنْهَا حَدِيث حرَام بن محيصة الْأنْصَارِيّ عَن الْبَراء بن عَازِب: " أَن نَاقَة الْبَراء دخلت حَائِطا فأفسدت فِيهِ، فَقضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أهل الْحَائِط حفظهَا بِالنَّهَارِ، وعَلى أهل الْمَوَاشِي حفظهَا بِاللَّيْلِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَححهُ جمَاعَة.
(8/3856)
 
 
وَهُوَ أدل شَيْء على اعْتِبَار الْعَادة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِذْ بنى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّضْمِين على مَا جرت بِهِ الْعَادة.
وَقيل: وَيَنْبَنِي على هَذِه الْقَاعِدَة مَا اعْتَمدهُ إمامنا وأصحابنا فِي أقل سنّ الْحيض للْمَرْأَة، وَأَقل الْحيض وَالطُّهْر، وأكثرهما، وَثمن الْمثل، وكفء النِّكَاح، وَأكْثر مُدَّة الْحمل وأقلها، وَسن الْيَأْس، وَمهر الْمثل.
وَضَابِط كل فعل رتب عَلَيْهِ الحكم، وَلَا ضَابِط لَهُ فِي الشَّرْع وَلَا فِي اللُّغَة: كإحياء الْموَات، والحرز فِي السّرقَة، وَالْأكل من بَيت الصّديق، وَمَا يعد قبضا، وإيداعا، وَإِعْطَاء، وهدية، وغصبا، وَالْمَعْرُوف فِي المعاشرة، وانتفاع الْمُسْتَأْجر.
وَمن ذَلِك أَيْضا: الرُّجُوع للْعَادَة فِي تَخْصِيص عين أَو فعل أَو مِقْدَار، يحمل اللَّفْظ عَلَيْهِ: كالألفاظ فِي الْأَيْمَان، والأوقاف، والوصايا، والأقارير، والتفويضات، وَإِطْلَاق الدِّينَار، وَالدَّرَاهِم، والصاع، وَالْمدّ، والوسق، والقلة، وَالْأُوقِية، وَإِطْلَاق النُّقُود فِي الْحمل على الْغَالِب، وَصِحَّة المعاطاة بِمَا يعده النَّاس بيعا، وَهَذَا كثير لَا ينْحَصر فِي عد.
ومأخذ هَذِه الْقَاعِدَة وموضعها من أصُول الْفِقْه فِي قَوْلهم: الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ قد يكون عرفيا، أَي: من مقتضيات الْعرف، وَفِي بَاب
(8/3857)
 
 
التَّخْصِيص فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْعَادَةِ، وَتقدم ذَلِك مَبْسُوطا.
قَوْله: {وَجعل الْمَعْدُوم كالموجود احْتِيَاطًا} .
هَذِه من جملَة الْقَوَاعِد الْمُتَقَدّمَة.
وَقد قَالَ الْقَرَافِيّ: إِعْطَاء الْمَعْدُوم حكم الْمَوْجُود، كالمقتول تورث عَنهُ الدِّيَة، وَإِنَّمَا تجب بِمَوْتِهِ، وَلَا تورث عَنهُ إِلَّا إِذا دخلت فِي ملكه، فَيقدر دُخُولهَا قبل مَوته.
وَتقدم ذَلِك بعد عدم التَّأْثِير فِي الْوَصْف فِي الْفَائِدَة.
تَنْبِيه: قيل: تدخل قَاعِدَة: " إدارة الْأُمُور فِي الْأَحْكَام على قَصدهَا ".
(8/3858)
 
 
فِي قَاعِدَة: أَن الْعَادة محكمَة؛ فَهِيَ مَأْخُوذَة مِنْهَا، وَجعل من قَالَ ذَلِك عذرا للْقَاضِي حُسَيْن فِي عدم ذكرهَا.
قَالُوا: لِأَن الْعَادة [محكمَة] فَإِن غير الْمَنوِي من غسل وَصَلَاة وَكِتَابَة مثلا لَا يُسمى فِي الْعَادة غسلا وَلَا قربَة وَلَا عقدا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَلَا يخفى مَا فِي ذَلِك من نظر.
وَقيل: مَأْخُوذ من قَاعِدَة: الضَّرَر يزَال؛ لِأَن من توجه عَلَيْهِ شَيْء بِدَلِيل إِذا تَركه أَو فعله لَا يقْصد امْتِثَال الْأَمر، حصل لَهُ الضَّرَر بِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الذَّم فيزال بِالنِّيَّةِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا الآخر من النّظر، بل لَو أخذت من قَاعِدَة: الْيَقِين لَا يرفع بِالشَّكِّ كَانَ أقرب؛ لِأَن الأَصْل عدم ذَلِك الشَّيْء، فَلَا يُصَار إِلَى جعله مُعْتَبرا إِلَّا بِوَاسِطَة تَرْجِيح المتردد فِيهِ بِقصد أَن يُخَالف الأَصْل ".
وَقيل: هِيَ قَاعِدَة برأسها نقلهَا العلائي عَن بعض الْفُضَلَاء، كَمَا تقدم، ودليلها حَدِيث عمر: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، وَرُبمَا أخذت من قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} [الْبَيِّنَة: 5] ، وَمن قَوْله
(8/3859)
 
 
تَعَالَى: {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} [اللَّيْل: 20] ، وَمن هَذِه الْمَادَّة أَحَادِيث كَثِيرَة ذكر فِيهَا ابْتِغَاء وَجه الله، وَتقدم كَلَام أبي دَاوُد فِي الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَغَيره.
وَحَدِيث " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " أعمها وَأَعْظَمهَا؛ لِأَن أَفعَال الْعُقَلَاء إِذا كَانَت مُعْتَبرَة فَإِنَّمَا تكون عَن قصد.
وَأَيْضًا: فقد ذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى أَن [أول] الْوَاجِبَات على الْمُكَلف الْقَصْد إِلَى النّظر الْموصل إِلَى معرفَة الله تَعَالَى كَمَا تقدم ذَلِك، فالقصد سَابق دَائِما.
وَسَوَاء فِي اعْتِبَار الْقَصْد فِي الْأَفْعَال الْمُسلم وَالْكَافِر، إِلَّا أَن الْمُسلم يخْتَص بِقصد التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى فَلَا تصح هَذِه النِّيَّة من كَافِر، بِخِلَاف نِيَّة الِاسْتِثْنَاء، وَالنِّيَّة فِي الْكِنَايَات، وَنَحْو ذَلِك.
وَقد تكلم الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن رَجَب وَغَيره على حَدِيث عمر كلَاما شافيا، ونشير إِلَى شَيْء من ذَلِك، فَمِنْهُ: أَنهم اخْتلفُوا فِي تَقْدِير مَعْنَاهُ، فَقيل: من دلَالَة الْمُقْتَضى لَا بُد فِيهِ من تَقْدِير لصِحَّة هَذَا الْكَلَام.
وأرباب هَذَا القَوْل اخْتلفُوا:
فَقَالَ بَعضهم: يقدر صِحَة الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، أَو اعْتِبَارهَا أَو نَحْو ذَلِك.
وَقيل: يقدر كَمَال الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ.
(8/3860)
 
 
وَقَالَ كثير من الْمُحَقِّقين: لَيْسَ من دلَالَة الْمُقْتَضى، وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير شَيْء أصلا؛ لِأَن الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة تَنْتفِي بِانْتِفَاء ركنها أوشرطها، فَإِذا لم يكن الْعَمَل بنية فَهُوَ صُورَة عمل لَا عمل شَرْعِي فصح النَّفْي، فَلَا حَاجَة لتقدير.
وَبِالْجُمْلَةِ: فمما تدخل فِيهِ النِّيَّة: الْعِبَادَات جَمِيعهَا: الْوضُوء عندنَا، وَالتَّيَمُّم، وَالْغسْل، وَالصَّلَاة: فَرضهَا ونفلها، عينهَا وكفياتها، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام وَالِاعْتِكَاف، وَالْحج، فرض الْكل، ونفله، وَالْأُضْحِيَّة، وَالْهَدْي، وَالنُّذُور، وَالْكَفَّارَات، وَالْجهَاد، وَالْعِتْق، وَالتَّدْبِير، وَالْكِتَابَة، بِمَعْنى أَن حُصُول الثَّوَاب فِي هَذِه الْأَرْبَعَة يتَوَقَّف على قصد التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى.
بل يسري هَذَا إِلَى سَائِر الْمُبَاحَات إِذا قصد بهَا التَّقْوَى على طَاعَة الله، أَو التَّوَصُّل إِلَيْهَا كَالْأَكْلِ، وَالنَّوْم، واكتساب المَال، وَالنِّكَاح، وَالْوَطْء فِيهِ، وَفِي الْأمة إِذا قصد بهَا الإعفاف، أَو تَحْصِيل الْوَلَد الصَّالح وتكثير الْأمة.
وَقد ذكر الْبرمَاوِيّ أَحْكَام النِّيَّة واستقصاها فأجاد وَأفَاد، فَمن أرادها فليعاودها.
(8/3861)
 
 
فارغة
(8/3862)
 
 
(بَاب الِاجْتِهَاد)
(8/3863)
 
 
فارغة
(8/3864)
 
 
(قَوْله: {بَاب الِاجْتِهَاد} )
 
{لُغَة: استفراغ الوسع لتَحْصِيل أَمر شاق} .
قد نجز بِحَمْد الله تَعَالَى الْكَلَام على أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال، وَهَذَا حِين الشُّرُوع فِي بَيَان أَحْكَام الْمُسْتَدلّ، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من بَيَان الِاجْتِهَاد، والمجتهد، والتقليد، والمقلد، ومسائل ذَلِك.
فَنَقُول: الِاجْتِهَاد افتعال من الْجهد بِالضَّمِّ وَالْفَتْح وَهُوَ: الطَّاقَة، سمي بذلك لاستفراغ الْقُوَّة والطاقة فِي تَحْصِيل الْمَطْلُوب، فَهُوَ بذل الوسع مِمَّا فِيهِ كلفة، وَلِهَذَا لَا يُقَال اجْتهد فِي حمل خردلة وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الْخَفِيفَة، [وَيُقَال اجْتهد] فِي حمل الرَّحَى وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الشاق حملهَا.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: استفراغ الْفَقِيه وَسعه لدرك حكم شَرْعِي} .
(8/3865)
 
 
معنى استفراغ الوسع: بذل الوسع بِحَيْثُ تحس النَّفس بِالْعَجزِ عَن زِيَادَة، وَهُوَ جنس، وَكَون ذَلِك من الْفَقِيه قيد مخرج للمقلد، وَالْمرَاد ذُو الْفِقْه، وَقد سبق أول الْكتاب حَده وَتَفْسِيره.
وَقَوْلنَا: (لدرك حكم شَرْعِي) وَبَعْضهمْ قَالَ: لتَحْصِيل ظن، احْتِرَاز من الْقطع، فَإِنَّهُ لَا اجْتِهَاد فِي القطعيات.
وَقَوْلنَا: (حكم شَرْعِي) قيد مخرج للحسيات، والعقليات، وَنَحْو ذَلِك، لذا قيد ابْن الْحَاجِب وَغَيره الحكم بالشرعي وَلم يُقَيِّدهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة بذلك، للاستغناء عَنهُ بِذكر الْفَقِيه؛ لِأَنَّهُ لَا يتَكَلَّم إِلَّا فِي الحكم الشَّرْعِيّ.
وَأورد على ذَلِك: " اجْتِهَاد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ لَا يُسمى فِي الْعرف فَقِيها وَلعدم الْإِذْن فِيهِ.
إِلَّا أَن يُقَال: المُرَاد بِالْحَدِّ اجْتِهَاد الْفَقِيه لَا مُطلق الِاجْتِهَاد " قَالَه الْبرمَاوِيّ.
(8/3866)
 
 
قَالَ فِي " الرَّوْضَة "، و " الْمُسْتَصْفى ": بذل المجهود فِي الْعلم بِأَحْكَام الشَّرْع.
وَمَعْنَاهُ للطوفي، فَإِنَّهُ قَالَ: " بذل الْجهد فِي تعرف الحكم الشَّرْعِيّ، ثمَّ قَالَ: والتام مِنْهُ: مَا انْتهى إِلَى حَال الْعَجز عَن مزِيد طلب ".
وَقَالَ الْآمِدِيّ: " هُوَ: استفراغ الوسع فِي طلب الظَّن بِشَيْء من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، على وَجه يحس من النَّفس الْعَجز عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ ".
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: " هُوَ: استفراغ الوسع فِي الْمَطْلُوب لُغَة، واستفراغ الوسع فِي النّظر فِيمَا يلْحقهُ فِيهِ لوم شَرْعِي اصْطِلَاحا ".
ومعانيها مُتَقَارِبَة إِن لم تكن مُتَسَاوِيَة.
قَوْله: {وَشرط الْمُجْتَهد وَهُوَ الْفَقِيه، الْعلم بأصول الْفِقْه،
(8/3867)
 
 
وَمَا يستمد مِنْهُ، والأدلة السمعية مفصلة، وَاخْتِلَاف مراتبها، فَمن الْكتاب وَالسّنة مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ بِحَيْثُ يُمكنهُ استحضاره للاحتجاج بِهِ لَا حفظه، وَأوجب فِي " الْوَاضِح " معرفَة جَمِيع أصُول الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام، وَأوجب جمع وَنقل عَن الشَّافِعِي: حفظ جَمِيع الْقُرْآن، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ، وَمَعْرِفَة صِحَة الحَدِيث وَضَعفه، وَلَو تقليدا: كنقله من كتاب صَحِيح، والناسخ والمنسوخ مِنْهُمَا، وَمن النَّحْو واللغة مَا يَكْفِيهِ فِيمَا يتَعَلَّق بهما من نَص وَظَاهر، ومجمل، ومبين، وَحَقِيقَة، ومجاز، وَأمر، وَنهي، وعام، وخاص، ومستثنى ومستثنى مِنْهُ، وَمُطلق، ومقيد، وَدَلِيل الْخطاب، وَنَحْوه، وَالْمجْمَع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ، وَلم يذكرهُ فِي " التَّمْهِيد "، وَفِي " الْمقنع "، وَغَيره: و " أَسبَاب النُّزُول "، وَفِي " التَّمْهِيد " و " الْوَاضِح " و " الْمقنع "، وَغَيرهَا، وَمَعْرِفَة الله بصفاته الْوَاجِبَة لَهُ، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَيمْتَنع، لَا تفاريع الْفِقْه، وَعلم الْكَلَام، وَلَا معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (الْمُفْتِي الْعَالم بأصول الْفِقْه وَمَا يستمد مِنْهُ، والأدلة السمعية مفصلة، وَاخْتِلَاف مراتبها - كَمَا سبق - أَي: غَالِبا ذكره جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
(8/3868)
 
 
وَفِي " الْوَاضِح ": يجب معرفَة جَمِيع أصُول الْفِقْه وأدلة ال