التحبير شرح التحرير 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: التحبير شرح التحرير في أصول الفقه
المؤلف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885هـ)
عدد الأجزاء: 8
 
" المسودة "، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره.
وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل الْجرْح الْمُطلق، بل لابد من ذكر السَّبَب الْمُطلق كَمَا تقدم قَرِيبا.
وَلَا يُؤثر قَوْله ذَلِك عِنْد الشَّافِعِيَّة فَلَا يمْنَع قبُوله، فَيقبل الحَدِيث إِذا قَالَ الْمُحدث: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف من غير أَن يعزوه إِلَى مُسْتَند يرجع إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قد يُضعفهُ بِشَيْء لَو ذكره لم يكن قدحاً.
ويؤثر ذَلِك عِنْد الْحَنَفِيَّة، فَلَا يقبله، وَيكون الْخَبَر ضَعِيفا عِنْدهم بذلك. لِأَن الْمُحدث ثِقَة، وَقد ضعفه.
فتلخص فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: الْقبُول مُطلقًا، وَعَدَمه مُطلقًا، وإجراؤه كالجرح الْمُطلق، فَأتى فِيهِ من الْخلاف مَا أَتَى فِيهِ على مَا تقدم.
قَوْله: {أَو تَصْحِيحه} ، أَي: أطلق تَصْحِيح خبر بِأَن يَقُول: هَذَا الْخَبَر
(4/1920)
 
 
صَحِيح، فَهُوَ {كالتعديل الْمُطلق} عندنَا؛ فَإِن إِطْلَاق تَصْحِيحه يسْتَلْزم تَعْدِيل رُوَاته.
وَعَن الإِمَام أَحْمد: إِذا سَمِعت أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: حَدِيث غَرِيب، أَو فَائِدَة فَاعْلَم أَنه خطأ - أَي: لِأَنَّهُ شَاذ - وَإِذا سمعتهم يَقُولُونَ: حَدِيث لَا شَيْء فَاعْلَم أَنه صَحِيح، أَي: لم تفد رِوَايَته لشهرته.
حَكَاهُ القَاضِي، وَجَمَاعَة عَن حِكَايَة أبي إِسْحَاق عَن أبي بكر النقاش، وَهُوَ كَذَّاب، والشاذ أَقسَام عِنْدهم.
قَوْله: {وَلَا شَيْء للجرح بالاستقراء} ، يَعْنِي بِأَن يَقُول: تتبعنا كَذَا
(4/1921)
 
 
فوجدناه كَذَا مرَارًا كَثِيرَة لم ينخرم، فَلَو قيل: من وَجَدْنَاهُ يعْمل كَذَا فَهُوَ مَجْرُوح واستقرأنا ذَلِك فِي أشخاص كَثِيرَة فوجدناه كذك، فَهَذَا لَيْسَ بِجرح، وَلَيْسَ من طرق الْجرْح حَتَّى نحكم بِهِ.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَيَأْتِي معنى الاستقراء وَأَحْكَامه فِي الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا بعد الِاسْتِدْلَال، كَقَوْلِهِم: الْوتر يفعل رَاكِبًا فَلَيْسَ بِوَاجِب لاستقراء الْوَاجِبَات.
قَوْله: {وَله الْجرْح بالاستفاضة} ، إِذا شاع عَن مُحدث أَن فِيهِ صفة توجب رد الحَدِيث وجرحه بهَا جَازَ الْجرْح بهَا، كَمَا تجوز الشَّهَادَة بالاستفاضة فِي مسَائِل مَخْصُوصَة مَعْلُومَة ذكرهَا الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ فَكَذَلِك هَذَا.
(4/1922)
 
 
وَمنعه بعض أَصْحَابنَا، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ الْجرْح بالاستفاضة، وَلَا يقبل كَمَا أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يُزكي بالاستفاضة لَو شاعت عَدَالَته، فَكَذَلِك لَيْسَ لَهُ الْجرْح بِمُجَرَّد الاستفاضة بِمَا يُوجب جرحه.
وَهَذَا ضَعِيف، وَالْأول أولى وَأظْهر.
وَخَالف بعض أَصْحَابنَا فِي التَّزْكِيَة بالاستفاضة فَقَالَ: تجوز التَّزْكِيَة بالاستفاضة.
{وَاحْتج} لذَلِك كثير من الْعلمَاء {بِمن شاعت إِمَامَته وعدالته من الْأَئِمَّة} ، فَإِنَّهُ يُزكي بالإستفاضة بِلَا نزاع.
{قلت: وَهَذَا الْمَذْهَب، وَهُوَ معنى قَول الإِمَام أَحْمد، وَجَمَاعَة} من الْعلمَاء.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن هَذَا احْتِمَال قَول ثَالِث، وَأَنه الْمَذْهَب وَهُوَ
(4/1923)
 
 
معنى قَول أَحْمد وَجَمَاعَة، يسْأَل وَاحِد مِنْهُم عَن مثلهم فَيُقَال: ثِقَة لَا يسْأَل عَن مثله. انْتهى.
كَمَا سُئِلَ - مثلا - عَن الإِمَام مَالك، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَالثَّوْري، وَنَحْوهم.
{وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا صَحِيح مَذْهَب الشَّافِعِي} ، وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد فِي أصُول الْفِقْه، وَمِمَّنْ ذكره من أهل الحَدِيث: الْخَطِيب.
وَمثل ذَلِك بِمَالك وَشعْبَة، والسفيانين، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَاللَّيْث، وَابْن الْمُبَارك، ووكيع، وَأحمد، وَابْن معِين، وَابْن الْمَدِينِيّ، وَمن جرى مجراهم فِي نباهة الذّكر، واستقامة الْأَمر، وَلَا يسْأَل عَن عَدَالَة هَؤُلَاءِ وأمثالهم، إِنَّمَا يسْأَل عَمَّن خَفِي أمره عَن الطالبين. انْتهى.
(4/1924)
 
 
وَقد سُئِلَ ابْن معِين عَن أبي عبيد فَقَالَ: مثلي يسْأَل عَن أبي عبيد {أَبُو عبيد يسْأَل عَن النَّاس؟}
وَسُئِلَ أَحْمد عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فَقَالَ: مثل إِسْحَاق يسْأَل عَنهُ؟ !
(4/1925)
 
 
قَوْله: {فصل}
 
{الْأَرْبَعَة، وأصحابنا، وَالْأَكْثَر يقدم جرح مُطلقًا} ، أَعنِي سَوَاء كثر الْجَارِح أَو قل، أَو سَاوَى؛ لِأَن مَعَه زِيَادَة علم لم يطلع عَلَيْهَا الْمعدل؛ فَلذَلِك قدم. وَهَذَا الصَّحِيح مُطلقًا وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. وَقَالَ ابْن حمدَان من أَصْحَابنَا وَغَيره: يقدم الْجرْح إِن كثر الْجَارِح وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَاهُ فِي الْمَحْصُول فَقَالَ: يقدم الْأَكْثَر من الْجَارِح والمعدل؛ لِأَن الْكَثْرَة لَهَا تَأْثِير فِي الْقُوَّة.
(4/1926)
 
 
ورده الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بِأَن المعدلين وَإِن كَثُرُوا فليسوا مخبرين بِعَدَمِ مَا أخبر بِهِ الجارحون، وَلَو أخبروا بذلك كَانَت شَهَادَة نفي وَهِي بَاطِلَة.
وَقيل: يقدم التَّعْدِيل مُطلقًا؛ لِأَن الْجَارِح قد يجرح بِمَا لَيْسَ فِي نفس الْأَمر جرحا، والمعدل لَا يعدل حَتَّى يتَحَقَّق بطرِيق سَلَامَته من كل جارح.
وَهَذَا القَوْل حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف، لَكِن قَضِيَّة تَعْلِيله بِمَا سبق تَخْصِيص الْخلاف بِالْجرْحِ غير الْمُفَسّر بِنَاء على قبُوله.
وَقيل: يقدم التَّعْدِيل على الْجرْح إِن كثر المعدلون، وَاخْتَارَهُ الْمجد من أَصْحَابنَا مَعَ جرح مُطلق إِن قبلناه، يَعْنِي على القَوْل بِقبُول الْجرْح الْمُطلق،
(4/1927)
 
 
وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل الْجرْح الْمُطلق كَمَا تقدم.
اعْلَم أَن القَاضِي أَبَا بكر ابْن الباقلاني فِي كِتَابه " التَّقْرِيب " جعل مَوضِع الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ عدد المعدلين أَكثر، فَأَما إِن اسْتَويَا فَإِنَّهُ يقدم الْجرْح إِجْمَاعًا، وَكَذَا قَالَ الْخَطِيب فِي " الْكِفَايَة "، وَابْن الْقطَّان وَأَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وَاعْترض على حكايته ذَلِك بِأَن الْقشيرِي نصب الْخلاف فِيمَا إِذا اسْتَوَى عدد الْجَارِح والمعدل، فَإِن كثر المعدلون فقبولهم أولى.
وَقَالَ الْمَازرِيّ: وَحكى ابْن شعْبَان فِي كِتَابه " الزاهي " الْخلاف مَعَ
(4/1928)
 
 
التَّسَاوِي فِي الْعدَد، قَالَ: فَإِن زَاد عدد الجارحين فَلَا وَجه لجَرَيَان الْخلاف.
وَبِه صرح الْبَاجِيّ فَقَالَ: لَا خلاف فِي تَقْدِيم الْجرْح، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا شكّ فِيهِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وعَلى هَذَا فَيخرج فِي مَحل الْخلاف ثَلَاث طرق. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: التَّرْجِيح كإثبات معِين ونفيه يَقِينا} ، أَعنِي أَن التَّرْجِيح قَول محكي فِي الْمَسْأَلَة، أَعنِي أَنَّهُمَا يتعارضان عِنْده فيقف على مُرَجّح يرجع إِلَيْهِ.
(4/1929)
 
 
وَقَوله: (كإثبات معِين ونفيه يَقِينا) وَهَذِه الصُّورَة يتعارضان فِيهَا، وَيقف الْأَمر على مُرَجّح من خَارج بِلَا خلاف عِنْدهم، مثل أَن يَقُول الْجَارِح: هُوَ قتل فلَانا يَوْم كَذَا، وَيَقُول الْمعدل: هُوَ حَيّ وَأَنا رَأَيْته بعد ذَلِك الْيَوْم.
فَيَقَع بَينهمَا التَّعَارُض لعدم إِمْكَان الْجمع الْمَذْكُور فِي تَقْدِيم قَول الْجَارِح على الصَّحِيح فَإِنَّهُ هُنَا يتَعَذَّر فَحِينَئِذٍ يُصَار إِلَى التَّرْجِيح.
قَالَ الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره " فِي هَذَا الْمِثَال: فههنا يتعارضان فيتساقطان وَيبقى أصل الْعَدَالَة ثَابتا، ثمَّ قَالَ: قلت: وَيحْتَمل هُنَا أَن يقدم قَول الْمعدل؛ لِأَن السَّبَب الَّذِي اسْتندَ إِلَيْهِ الْجَارِح قد تبين بُطْلَانه فَتبين بِهِ أَن الْجرْح كَأَنَّهُ لم يكن فَيبقى التَّعْدِيل مُسْتقِلّا وَالْحكم وَاحِد. انْتهى.
قلت: وَهَذَا ضَعِيف وَكَذَا قَوْله: (وَيبقى أصل الْعَدَالَة ثَابتا) وَلَعَلَّه بنى ذَلِك على أَن الأَصْل فِي الْإِنْسَان الْعَدَالَة، وفيهَا خلاف، وَالْمَشْهُور خلاف
(4/1930)
 
 
ذَلِك، وَالله أعلم.
قَوْله: {تَنْبِيه: يعدل بقول، وَحكم، وَعمل، وَرِوَايَة} ، أَعنِي يكون التَّعْدِيل تَارَة بالْقَوْل، وَتارَة بالحكم، وَتارَة بِالْعَمَلِ، وَتارَة بالرواية.
وَلما تقرر فِي حَقِيقَة الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَالْحكم فِي بَيَان سببهما وَاعْتِبَار الْعَدَالَة فيهمَا وَجب القَوْل فِيمَا يحصل بِهِ التَّعْدِيل، وَهُوَ أَرْبَعَة أَشْيَاء: أَحدهَا: صَرِيح القَوْل فِي الرَّاوِي وَالشَّاهِد، وَله صفتان:
(4/1931)
 
 
إِحْدَاهمَا وَهِي أكملهما: قَول الْمعدل: هُوَ عدل رضى، مَعَ بَيَان السَّبَب، أَي: يبين سَبَب الْعَدَالَة مَعَ هَذَا القَوْل بِأَن يثني عَلَيْهِ بِذكر محَاسِن عمله مِمَّا يعلم مِنْهُ مِمَّا يَنْبَغِي شرعا من أَدَاء الْوَاجِبَات وَاجْتنَاب الْمُحرمَات، وَاسْتِعْمَال وظائف الْمُرُوءَة، وَهُوَ أَعلَى مَرَاتِب التَّعْدِيل للاتفاق عَلَيْهِ.
ويليه قَوْله: هُوَ عدل رضى، من غير ذكر سَبَب الْعَدَالَة، وَهِي أدنى من الَّتِي قبلهَا.
وَقد ذكر أَرْبَاب فن الْجرْح وَالتَّعْدِيل أَن مَرَاتِب التَّعْدِيل أَرْبَعَة:
الأولى: الْعليا مِنْهَا تكْرَار اللَّفْظ، بِأَن يَقُول: ثِقَة، ثِقَة، أَو: عدل، عدل، أَو: ثِقَة، عدل. أَو ثِقَة متقن، وَنَحْو ذَلِك.
الثَّانِيَة: ذكر ذَلِك من غير تكْرَار، كَقَوْلِه: ثِقَة، أَو عدل، أَو: متقن، أَو: ثَبت، أَو: حجَّة، أَو: حَافظ، أَو: ضَابِط. قَالَ الْخَطِيب: أرفع
(4/1932)
 
 
الْعبارَات أَن يَقُول: حجَّة، أَو ثِقَة.
الثَّالِثَة: قَوْلهم: لَا بَأْس، وَنَحْوه، أَو صَدُوق، أَو مَأْمُون، أَو خِيَار.
الرَّابِعَة: قَوْلهم: مَحَله الصدْق، أَو رووا عَنهُ، أَو صَالح الحَدِيث، أَو مقارب الحَدِيث، أَو حسن الحَدِيث، أَو صُوَيْلِح، أَو صَدُوق إِن شَاءَ الله تَعَالَى، أَو أَرْجُو أَنه لَيْسَ بِهِ بَأْس وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَحكم مشترط الْعَدَالَة بهَا تَعْدِيل اتِّفَاقًا} .
وَهَذَا الثَّانِي من الْأَرْبَعَة الَّذِي يحصل بهَا التَّعْدِيل، فَهَذَا مَا يحصل بِهِ التَّعْدِيل.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَحكم الْحَاكِم تَعْدِيل اتِّفَاقًا، أطلقهُ فِي " الرَّوْضَة "، وَمرَاده مَا صرح بِهِ غَيره: حَاكم يشْتَرط الْعَدَالَة، وَهُوَ
(4/1933)
 
 
كَمَا قَالَ، وَهُوَ تَعْدِيل مُتَّفق عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ الْحَاكِم فَاسِقًا لقبُول شَهَادَة من لَيْسَ عدلا عِنْده.
قَوْله: {وَهُوَ أقوى من القولي بِالسَّبَبِ} ، يَعْنِي أَن حكم مشترط الْعَدَالَة بهَا أقوى من التَّعْدِيل بالْقَوْل الَّذِي ذكر مَعَه سَببه؛ لِأَن ذَلِك قَول مُجَرّد، وَالْحكم بروايته فعل تضمن القَوْل أَو استلزمه؛ إِذْ تعديله القولي تَقْديرا من لَوَازِم الحكم بروايته، وَإِلَّا [كَانَ] هَذَا الْحَاكِم حَاكما بِالْبَاطِلِ.
وَهَذَا اخْتِيَار الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ، وَغَيره مِنْهُم الْعَسْقَلَانِي شَارِح الطوفي، التَّسْوِيَة بَينهمَا.
قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " هُنَا، وَقَالَ فِي التَّرْجِيح: قَالَ
(4/1934)
 
 
الْآمِدِيّ وَتَبعهُ بعض أَصْحَابنَا: وتزكيته بِصَرِيح القَوْل على حكمه أَو عمله بِشَهَادَتِهِ لاحْتِمَاله بِغَيْرِهِ، وَالْحكم على عمله، وَسبق فِي السّنة. انْتهى.
فَظَاهره التَّنَاقُض عَن الْآمِدِيّ؛ لِأَنَّهُ حكى عَنهُ هُنَا أَنه سوى بَين التَّعْدِيل القولي وَبَين الحكم من مشترط الْعَدَالَة؟
وَحكى عَنهُ فِي التَّرْجِيح أَنه قدم تزكيته بِصَرِيح القَوْل على حكمه أَو عمله بِشَهَادَتِهِ، وَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ أَو يكون غير الْمَسْأَلَة، وَهُوَ بعيد.
وَمحل الْخلاف هُنَا مَعَ ذكر السَّبَب فِي القولي، أما مَعَ عدم ذكره، فَالثَّانِي أقوى للاتفاق عَلَيْهِ.
(4/1935)
 
 
قَوْله: {وَعَمله بروايته تَعْدِيل إِن علم أَن لَا مُسْتَند لَهُ غَيره وَإِلَّا فَلَا عِنْد القَاضِي، وَالْأَكْثَر} .
وَهَذَا الثَّالِث مِمَّا يحصل بِهِ التَّعْدِيل، فمما يحصل بِهِ التَّعْدِيل الْعَمَل بِخَبَر الرَّاوِي بِشَرْط أَن يعلم أَن لَا مُسْتَند للْعَمَل غير رِوَايَته، وَإِلَّا فَلَا، أَي: وَإِن لم يعلم ذَلِك مِنْهُ لم يكن تعديلاً لاحْتِمَال أَنه يكون عمل بِدَلِيل آخر وَافق رِوَايَته.
{وَقَالَهُ الْمُوفق، وَأَبُو الْمَعَالِي إِلَّا فِيمَا الْعَمَل بِهِ احْتِيَاطًا} ؛ لفسقه لَو عمل بفاسق.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": قَالَ الْجُوَيْنِيّ والمقدسي: يكون تعديلاً
(4/1936)
 
 
إِلَّا فِيمَا الْعَمَل بِهِ من مسالك الِاحْتِيَاط.
قَالَ: وَعِنْدِي أَنه يفصل بَين أَن يكون الرَّاوِي مِمَّن يرى قبُول مَسْتُور الْحَال، أَو لَا يرَاهُ، أَو يجهل مذْهبه فِيهِ. انْتهى.
فَكَأَن الْمجد يخْتَار أَنه إِن كَانَ الرَّاوِي يرى أَنه لَا يروي إِلَّا عَن بارز الْعَدَالَة فعمله بروايته تَعْدِيل، وَإِن كَانَ يرى قبُول مَسْتُور الْحَال، أَو يجهل مذْهبه فِيهِ فَلَيْسَ بتعديل للإبهام فَيرجع فِيهِ إِلَى رَأْي الرَّاوِي فِيمَن يروي عَنهُ.
فعلى الأول قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": هُوَ كتعديله بِلَا سَبَب، وَمَعْنَاهُ للآمدي وَمن تبعه.
يَعْنِي إِذا عمل بروايته وَقُلْنَا إِنَّهَا تَعْدِيل فَيكون هَذَا التَّعْدِيل كالتعديل
(4/1937)
 
 
القولي بِلَا ذكر السَّبَب على مَا تقدم عِنْد الشَّيْخ موفق الدّين، وَمن تَابعه.
وَقيل: بل هُوَ كحكمه بِهِ، فعلى هَذَا القَوْل يكون أقوى من القَوْل الَّذِي قبله؛ لِأَن الحكم بِهِ أقوى من التَّعْدِيل القولي وَلَو مَعَ ذكر السَّبَب كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَلَيْسَ ترك الْعَمَل بهَا وبالشهادة جرحا} .
يَعْنِي: لَو ترك الْعَمَل بالرواية أَو بِالشَّهَادَةِ لَا يكون ذَلِك جرحا لاحْتِمَال سَبَب سوى ترك الْعَمَل فَلَا يحكم على الرَّاوِي وَالشَّاهِد إِذا ترك الْعَمَل بهما بجرحهما عِنْد الْجُمْهُور؛ لِأَنَّهُ تَركه للْعَمَل قد يكون لأجل معنى فيهمَا من تُهْمَة قرَابَة، أَو عَدَاوَة، أَو غير ذَلِك، وَقد يكون لغير ذَلِك.
فَإِذا لم يعْمل وَاحْتمل فَلَا يحكم عَلَيْهِ بِالْجرْحِ بذلك مَعَ الِاحْتِمَال؛ لِأَن الأَصْل عَدمه، وَلَيْسَ ترك الحكم بهَا منحصراً فِي الْفسق.
(4/1938)
 
 
وَلِأَن عمله قد يكون متوقفاً على أَمر آخر زَائِد على الْعَدَالَة فَيكون التّرْك لعدم ذَلِك لَا لانْتِفَاء الْعَدَالَة.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: يكون جرحا إِذا تحقق ارْتِفَاع الدوافع، والموانع، وَأَنه لَو كَانَ ثَابتا للَزِمَ الْعَمَل بِهِ.
أما إِن لم يتَبَيَّن قَصده إِلَى مُخَالفَة الْخَبَر فَلَا يكون جرحا، وَفِي الْحَقِيقَة لَا يُخَالف الأول، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وَرِوَايَة الْعدْل تَعْدِيل إِن كَانَ عَادَته لَا يروي إِلَّا عَن عدل} عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالشَّيْخ موفق الدّين، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والطوفي، وَأبي الْمَعَالِي، والآمدي، وَابْن الْقشيرِي، ... ... ... ... .
(4/1939)
 
 
وَالْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والهندي، والباجي، وَغَيرهم، وَهُوَ وَاضح.
وَهَذَا الرَّابِع الَّذِي يحصل بِهِ التَّعْدِيل.
قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": اخْتلف الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث فِي رِوَايَة الثِّقَة عَن رجل غير مَعْرُوف: هَل هُوَ تَعْدِيل، أم لَا؟
وَحكى أَصْحَابنَا عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَتَيْنِ، وحكوا عَن الْحَنَفِيَّة أَنه تَعْدِيل، وَعَن الشَّافِعِيَّة خلاف ذَلِك.
قَالَ: فالمنصوص عَن أَحْمد أَنه إِن عرف مِنْهُ أَنه لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة
(4/1940)
 
 
فروايته عَن إِنْسَان تَعْدِيل لَهُ، وَمن لم يعرف مِنْهُ ذَلِك فَلَيْسَ بتعديل. وَصرح بِهِ طَائِفَة من محققي أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي.
قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة الْأَثْرَم: إِذا روى الحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن رجل فَهُوَ حجَّة، ثمَّ قَالَ: كَانَ عبد الرَّحْمَن أَولا يتساهل فِي الرِّوَايَة عَن غير وَاحِد ثمَّ شدد بعد.
وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة أبي زرْعَة مَالك بن أنس إِذا روى عَن رجل لَا يعرف فَهُوَ حجَّة.
وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن هَانِئ: مَا روى مَالك عَن أحد إِلَّا وَهُوَ ثِقَة
(4/1941)
 
 
وكل من روى عَنهُ مَالك فَهُوَ ثِقَة.
وَذكر نصوصاً أخر فِي ذَلِك عَنهُ، وَعَن ابْن معِين، وَغَيره. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": مذْهبه التَّفْضِيل بَين بعض الْأَشْخَاص.
وَقَالَ أَيْضا: وَالصَّحِيح الَّذِي يُوجِبهُ كَلَام أَحْمد أَن من عرف من حَاله الْأَخْذ عَن الثِّقَات كمالك، وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي، كَانَ تعديلاً دون غَيره. انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَالْحق أَنه إِن عرف من مذْهبه أَو عَادَته أَو صَرِيح قَوْله أَنه لَا يرى الرِّوَايَة وَلَا يروي إِلَّا عَن عدل كَانَ تعديلاً، وَإِلَّا فَلَا؛ إِذْ قد يروي الشَّخْص عَمَّن لَو سُئِلَ عَنهُ لسكت.
وَقَالَ ابْن اللحام فِي " مُخْتَصره " فِي الْأُصُول: وَفِي رِوَايَة الْعدْل عَنهُ
(4/1942)
 
 
أَقْوَال، ثَالِثهَا الْمُخْتَار وَهُوَ الْمَذْهَب: تَعْدِيل إِن كَانَ عَادَته لَا يروي إِلَّا عَن عدل. انْتهى.
إِذا علم ذَلِك فَيعرف كَونه لَا يروي إِلَّا عَن عدل إِمَّا بتصريحه وَهُوَ الْغَايَة، أَو باعتبارنا لحاله، أَو استقرائنا لمن يروي عَنهُ، وَهُوَ دون الأول، قَالَه ابْن دَقِيق الْعِيد، وَغَيره وَتقدم كَلَام الطوفي.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: لَا يكون ذَلِك تعديلاً.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله: وَرِوَايَة الْعدْل لَيست تعديلاً عِنْد أَكثر الْعلمَاء من الطوائف وفَاقا للمالكية، وَالشَّافِعِيَّة. انْتهى.
وَقيل: تَعْدِيل مُطلقًا، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة عملا بِظَاهِر الْحَال.
(4/1943)
 
 
رد بِالْمَنْعِ، وَبِأَنَّهُ خلاف الْوَاقِع، وبعدم الدَّلِيل.
وَرُوِيَ عَن القَاضِي: إِن سَمَّاهُ فَلَا تَعْدِيل لعدم الْغرَر، وَإِلَّا فتعديل لِئَلَّا تكون رِوَايَته ضيَاعًا.
وَلَعَلَّه أَرَادَ بِمَا إِذا سَمَّاهُ أَنه وكل تعديله وجرحه إِلَى غَيره، وأظن أَنِّي رَأَيْت هَذَا النَّقْل عَن القَاضِي فِي " المسودة "، لَكِن قَالَ ابْن مُفْلِح: وَأَشَارَ بعض أَصْحَابنَا: إِن سَمَّاهُ فَلَا تَعْدِيل لعدم الْغرَر وَإِلَّا فتعديل لِئَلَّا تكون رِوَايَته ضيَاعًا كَذَا قَالَ. انْتهى.
وَلم ينْسب النَّقْل إِلَى القَاضِي.
قَوْله: فَائِدَة: {يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي الْفَضَائِل عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالشَّيْخ الْمُوفق، وَالْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " الْآدَاب الْكُبْرَى ": قطع غير وَاحِد مِمَّن صنف فِي عُلُوم
(4/1944)
 
 
5 - الحَدِيث حِكَايَة عَن الْعلمَاء أَنه يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِيمَا لَيْسَ تحليلاً وَلَا تَحْرِيمًا كالفضائل.
وَعَن أَحْمد مَا يُوَافق ذَلِك فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَلَال وَالْحرَام شددنا فِي الْأَسَانِيد، وَإِذا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فَضَائِل الْأَعْمَال، وَمَا لَا يضع حكما، وَلَا يرفعهُ تساهلنا فِي الْأَسَانِيد.
ذكر هَذِه الْفَضَائِل القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، وَاسْتحبَّ الإِمَام أَحْمد الِاجْتِمَاع لَيْلَة الْعِيد فِي رِوَايَة فَدلَّ على الْعَمَل بِهِ لَو كَانَ شعاراً.
وَفِي " الْمُغنِي " فِي صَلَاة التَّسْبِيح: الْفَضَائِل لَا يشْتَرط لَهَا صِحَة
(4/1945)
 
 
الْخَبَر، واستحبها جمَاعَة، لَا لَيْلَة الْعِيد فَدلَّ على التَّفْرِقَة بَين الشعار وَغَيره، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: لَا يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي الْفَضَائِل؛ وَلِهَذَا لم يسْتَحبّ صَلَاة التَّسْبِيح لضعف خَبَرهَا عِنْده، مَعَ أَنه خبر مَشْهُور عمل بِهِ وَصَححهُ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة.
(4/1946)
 
 
وَلم يسْتَحبّ أَيْضا التَّيَمُّم بضربتين على الصَّحِيح عَنهُ، مَعَ أَن فِيهِ أَخْبَارًا أوآثاراً، وَغير ذَلِك من مسَائِل الْفُرُوع.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلم ير أَحْمد الْعَمَل بالْخبر فِي صَلَاة التَّسْبِيح لضَعْفه، فَدلَّ على أَنه لَا يعْمل بِهِ فِي الْفَضَائِل.
وَقيل: لَا يعْمل بِهِ فِيمَا فِيهِ شعار. قَالَ فِي " الْآدَاب ": وَيحْتَمل أَن يُقَال: يحمل الأول على عدم الشعار، وَأَنه إِنَّمَا ترك الْعَمَل بِالثَّانِي لما فِيهِ من الشعار، وَهُوَ معنى مُنَاسِب، وَالله أعلم.
{وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يعْمل بِهِ فِي التَّرْغِيب، والترهيب، لَا فِي إِثْبَات مُسْتَحبّ، وَلَا غَيره} .
(4/1947)
 
 
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن قَول أَحْمد وَقَول الْعلمَاء فِي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي فَضَائِل الْأَعْمَال قَالَ: الْعَمَل بِهِ بِمَعْنى أَن النَّفس ترجو ذَلِك الثَّوَاب، أَو تخَاف ذَلِك الْعقَاب.
وَمِثَال ذَلِك التَّرْغِيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات، وكلمات السّلف، وَالْعُلَمَاء، ووقائع الْعَالم، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يجوز بِمُجَرَّدِهِ إِثْبَات حكم شَرْعِي، لَا اسْتِحْبَاب، وَلَا غَيره، لَكِن يجوز أَن يدْخل فِي التَّرْغِيب والترهيب فِيمَا علم حسنه أَو قبحه بأدلة الشَّرْع فَإِن ذَلِك ينفع، وَلَا يضر وَسَوَاء كَانَ فِي نفس الْأَمر حَقًا أَو بَاطِلا إِلَى أَن قَالَ: وَالْحَاصِل: أَن هَذَا الْبَاب يرْوى وَيعْمل بِهِ فِي التَّرْغِيب والترهيب لَا فِي الِاسْتِحْبَاب.
ثمَّ اعْتِقَاد مُوجبه وَهُوَ مقادير الثَّوَاب وَالْعِقَاب يتَوَقَّف على الدَّلِيل الشَّرْعِيّ.
وَقَالَ فِي " شرح الْعُمْدَة " فِي التَّيَمُّم بضربتين: وَالْعَمَل بالضعاف إِنَّمَا يسوغ فِي عمل قد علم أَنه مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة، فَإِذا رغب فِي بعض أَنْوَاعه بِحَدِيث ضَعِيف عمل بِهِ، أما إِثْبَات سنة فَلَا. انْتهى كَلَامه.
وَنقل الْجَمَاعَة عَن أَحْمد أَنه كَانَ يكْتب حَدِيث الرجل الضَّعِيف،
(4/1948)
 
 
كَابْن لَهِيعَة، وَجَابِر الْجعْفِيّ، وَابْن أبي مَرْيَم، فَيُقَال لَهُ، فَيَقُول: أعرفهُ، أعتبر بِهِ كَأَنِّي أستدل بِهِ مَعَ غَيره، لَا أَنه حجَّة إِذا انْفَرد،
(4/1949)
 
 
وَيَقُول: يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا، وَرَأى ذَلِك أَيْضا، وَيَقُول الحَدِيث عَن الْجعْفِيّ قد يحْتَاج إِلَيْهِ فِي وَقت وَقَالَ: كنت لَا أكتب حَدِيث جَابر الْجعْفِيّ ثمَّ كتبته، أعتبر بِهِ.
وَعجب أَيْضا من ذَلِك وَقَالَ: مَا أعجب أَمر الْفُقَهَاء فِي ذَلِك، وَيزِيد بن هَارُون من أعجبهم يكْتب عَن الرجل مَعَ علمه بضعفه.
وَظَاهر هَذَا مِنْهُ أَنه لَا يحْتَج بِهِ مَعَ غَيره كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام جمَاعَة، وَظَاهر الأول يحْتَج بِهِ، وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَالْمرَاد إِلَّا من ضعفه لكذبه.
(4/1950)
 
 
أما مُنْفَردا فَلَا يحْتَج بِهِ عِنْد الْعلمَاء لاعْتِبَار الشُّرُوط السَّابِقَة فِي الرَّاوِي؛ وَلِهَذَا قَالَ: إِذا جَاءَ الْحَلَال وَالْحرَام أردنَا أَقْوَامًا هَكَذَا، وَقبض كَفه وَأقَام إبهاميه.
وَقَالَ أَيْضا: شددنا فِي الْأَسَانِيد، كَمَا تقدم.
وَفِي جَامع القَاضِي فِي أَوْقَات الصَّلَاة، وَفِي غَيره أَن الحَدِيث الضَّعِيف لَا يحْتَج بِهِ فِي المآثم، قَالَ فِي حَدِيث: " الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم ".
(4/1951)
 
 
مذْهبه - يَعْنِي: أَحْمد - أَن الحَدِيث الضَّعِيف إِذا لم يكن لَهُ معَارض قَالَ بِهِ.
وَقَالَ فِي كَفَّارَة وَطْء الْحَائِض: مذْهبه فِي الْأَحَادِيث وَإِن كَانَت مضطربة وَلم يكن لَهَا معَارض قَالَ بهَا.
وَاحْتج القَاضِي بِحَدِيث مظَاهر ابْن أسلم: " أَن عدَّة الْأمة قرءان " فضعفه خَصمه فطالبه بِسَبَبِهِ، ثمَّ قَالَ: مَعَ أَن أَحْمد يقبل الحَدِيث الحَدِيث الضَّعِيف.
(4/1952)
 
 
وَقَالَ فِي " الْعدة " و " الْوَاضِح ": أطلق أَحْمد القَوْل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف، فَقَالَ النَّاس أكفاء إِلَّا حائكاً أَو حجاماً: ضَعِيف وَالْعَمَل عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي حَدِيث غيلَان: " أَنه أسلم على عشر نسْوَة ": لَا يَصح،
(4/1953)
 
 
وَالْعَمَل عَلَيْهِ فَمَعْنَى قَوْله: ضَعِيف، عِنْد الْمُحدثين [بِمَا] لَا يُوجب ضعفه عِنْد الْفُقَهَاء كتدليس وإرسال والتفرد بِزِيَادَة فِي حَدِيث.
ثمَّ ذكر فِي " الْعدة " مَا سبق من رِوَايَة أَحْمد عَن الضَّعِيف، وَقَالَ: فِيهِ فَائِدَة بِأَن يروي الحَدِيث من طَرِيق صَحِيح فرواية الضَّعِيف تَرْجِيح أَو ينْفَرد الضَّعِيف بالرواية فَيعلم ضعفه فَلَا يقبل.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: قَول أَحْمد: (اسْتدلَّ بِهِ مَعَ غَيره لَا أَنه حجَّة إِذا انْفَرد) يُفِيد يصير حجَّة بالانضمام لَا مُنْفَردا.
(4/1954)
 
 
وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله: طريقتي: لست أُخَالِف مَا ضعف من الحَدِيث إِذا لم يكن فِي الْبَاب مَا يَدْفَعهُ.
قَوْله: {وَلَا يقبل تَعْدِيل مُبْهَم، كحدثني ثِقَة، أَو عدل أَو من لَا أتهم عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة} ، مِنْهُم: الْقفال الشَّاشِي، والصيرفي، والخطيب، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب، وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق، وَابْن الصّباغ، وَالْمَاوَرْدِيّ فِي قَوْله: (حَدثنِي ثِقَة) لاحْتِمَال كَونه مجروحاً عِنْد غَيره.
(4/1955)
 
 
{وَذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب وَابْن عقيل، من صور الْمُرْسل على الْخلاف فِيهِ} ، قَالَ الرَّوْيَانِيّ من الشَّافِعِيَّة: هُوَ كالمرسل.
وَصَححهُ ابْن الصّباغ، قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَكَذَا أَبُو الْمَعَالِي واختياره قبُوله، وَأَن الشَّافِعِي أَشَارَ إِلَيْهِ، وَقَبله الْمجد من أَصْحَابنَا، وَإِن لم يقبل الْمُرْسل والمجهول} ، فَقَالَ: إِذا قَالَ الْعدْل: حَدثنِي الثِّقَة، أَو من لَا أَتَّهِمهُ، أَو رجل عدل، وَنَحْو ذَلِك، فَإِنَّهُ يقبل وَإِن رددنا الْمُرْسل والمجهول؛ لِأَن ذَلِك تَعْدِيل صَرِيح عندنَا. انْتهى.
وَكَذَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَنقل ابْن الصّلاح عَن أبي حنيفَة أَنه يقبل، وَقيل: فِيهِ تَفْصِيل، من يعرف من عَادَته إِذا أطلق ذَلِك، أَنه
(4/1956)
 
 
يَعْنِي بِهِ معينا وَهُوَ مَعْرُوف بِأَنَّهُ ثِقَة فَيقبل وَإِلَّا فَلَا.
حَكَاهُ شَارِح " اللمع الْيَمَانِيّ " عَن صَاحب " الْإِرْشَاد ".
وَقيل: وَهُوَ الظَّاهِر الَّذِي قطع بِهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَنَقله ابْن الصّلاح عَن اخْتِيَار بعض الْمُحَقِّقين - إِنَّه إِن كَانَ الْقَائِل لذَلِك من أَئِمَّة الشَّأْن العارفين بِمَا اشْتَرَطَهُ هُوَ وخصومه فِي الْعدْل، وَقد ذكره فِي مقَام الِاحْتِجَاج فَيقبل؛ لِأَن مثل هَؤُلَاءِ لَا يُطلق فِي مقَام الِاحْتِجَاج إِلَّا فِي مَوضِع يَأْمَن أَن يُخَالف فِيمَن أطلق أَنه ثِقَة.
فَائِدَة: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: حَدثنِي الثِّقَة، فَتَارَة يُرِيد بِهِ أَحْمد، وَتارَة يُرِيد يحيى بن حسان، وَتارَة يُرِيد بِهِ ابْن أبي فديك، وَتارَة يُرِيد
(4/1957)
 
 
بِهِ سعيد بن سَالم القداح، وَتارَة يُرِيد بِهِ إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل، واشتهر عَنهُ ذَلِك فِيهِ، وَتارَة يُرِيد بِهِ مَالِكًا.
وَقيل: مُسلم بن خَالِد الزنْجِي إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر، وَاحْترز عَن التَّصْرِيح باسمه لهَذَا الْمَعْنى.
وَذكر الْحَاكِم جمَاعَة أخر.
(4/1958)
 
 
وَقَالَ ابْن حبَان: إِذا قَالَ: أَخْبرنِي الثِّقَة عَن ابْن أبي ذِئْب فَهُوَ عَن أبي فديك، أَو عَن اللَّيْث، فَهُوَ يحيى بن حسان، أَو عَن الْوَلِيد بن كثير فَهُوَ عَمْرو بن أبي سَلمَة، أَو عَن ابْن جريج فَهُوَ مُسلم بن خَالِد الزنْجِي، أَو عَن صَالح مولى التؤمة فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى.
وَقَالَ الرّبيع: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا الثِّقَة فَهُوَ يحيى بن حسان، وَإِذا قَالَ: من لَا أتهم فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى، فَإِذا قَالَ: بعض [النَّاس] فَهُوَ يُرِيد أهل الْعرَاق، وَإِذا قَالَ: بعض أَصْحَابنَا فيريد أهل الْحجاز.
(4/1959)
 
 
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
أَحدهمَا: الْجرْح نِسْبَة مَا يرد لأَجله القَوْل إِلَى الشَّخْص} الْقَائِل من خبر أَو شَهَادَة، من فعل مَعْصِيّة أَو ارْتِكَاب ذَنْب أَو مَا يخل بِالْعَدَالَةِ. قَالَه الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَشَرحه فِي حد الْجرْح.
قَوْله: {وَالتَّعْدِيل بِخِلَافِهِ} ، أَي: فَهُوَ نِسْبَة مَا يقبل لأَجله القَوْل إِلَى الشَّخْص الْقَائِل من فعل الْخَيْر، والعفة والمروءة، وَالدّين بِفعل الْوَاجِبَات، وَترك الْمُحرمَات، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {الثَّانِيَة: الْإِخْبَار عَن عَام لَا يخْتَص بِمعين، وَلَا ترافع فِيهِ يُمكن عِنْد الْحُكَّام، هُوَ الرِّوَايَة وَعَكسه الشَّهَادَة. قَالَه الْمَازرِيّ: وَمَعْنَاهُ للشَّافِعِيّ} .
(4/1960)
 
 
لما وَقع التَّفْصِيل بَين قبُول تَعْدِيل وَاحِد وجرحه فِي الرِّوَايَة بِخِلَاف ذَلِك فِي الشَّهَادَة احْتِيجَ إِلَى الْفرق بَينهمَا، وَقد خَاضَ جمَاعَة غمره.
وَأكْثر مَا يفرقون بَينهمَا باختلافهما فِي الْأَحْكَام كاشتراط الْعدَد فِي الشَّهَادَة، وَالْحريَّة على قَول، والذكورية فِي صور.
وَلَا يخفى أَن هَذِه أَحْكَام مترتبة على معرفَة الْحَقِيقَة، فَلَو ثبتَتْ الْحَقِيقَة بهَا لزم الدّور.
قَالَ الْقَرَافِيّ: أَقمت مُدَّة أتطلب الْفرق بَينهمَا حَتَّى ظَفرت بِهِ فِي " شرح الْبُرْهَان ".
فَذكر مَا حَاصله أَن الْخَبَر إِن كَانَ عَن عَام لَا يخْتَص بِمعين وَلَا ترافع فِيهِ يُمكن عِنْد الْحُكَّام فَهُوَ الرِّوَايَة، وَإِن كَانَ خَاصّا، وَفِيه ترافع مُمكن فَهُوَ الشَّهَادَة.
(4/1961)
 
 
وَعلم من هَذَا الْفرق الْمَعْنى فِيمَا اخْتصّت بِهِ الشَّهَادَة من الْعدَد، والذكورية، وَالْحريَّة، وَنَحْوهَا.
وَاحْترز بِإِمْكَان الترافع عَن الرِّوَايَة عَن خَاص معِين فَإِنَّهُ لَا ترافع فِيهِ مُمكن، انْتهى مُلَخصا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": قلت: هَذَا الْفرق نَفسه فِي كَلَام الشَّافِعِي، وَبَين المُرَاد من الْعُمُوم وَالْخُصُوص هُنَا، فَقَالَ فِيمَا نَقله الْمُزنِيّ فِي " الْمُخْتَصر " فِي بَاب شَهَادَة النِّسَاء لَا رجل مَعَهُنَّ وَالرَّدّ على من أجَاز شَهَادَة امْرَأَة من هَذَا الْكتاب فِي مَسْأَلَة الْخلاف بَينه وَبَين أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه حَيْثُ قبلوا شَهَادَة امْرَأَة على ولادَة الزَّوْجَة دون الْمُطلقَة مَا نَصه:
(4/1962)
 
 
وَقلت لمن يُجِيز شَهَادَة امْرَأَة فِي الْولادَة، كَمَا يُجِيز الْخَبَر بهَا لَا من قبل الشَّهَادَة، وَأَيْنَ الْخَبَر من الشَّهَادَة؟ : أتقبل امْرَأَة عَن امْرَأَة أَن امْرَأَة رجل ولدت هَذَا الْوَلَد؟ قَالَ: لَا. قلت: وَتقبل فِي الْخَبَر: أخبرنَا فلَان عَن فلَان؟ قَالَ: نعم. قلت: وَالْخَبَر هُوَ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمخبر والمخبر والعامة من حرَام وحلال؟ قَالَ: نعم. قلت: وَالشَّهَادَة مَا كَانَ الشَّاهِد مِنْهُ خلياً والعامة وَإِنَّمَا تلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم. قلت: أفترى هَذَا مشبهاً لهَذَا؟ قَالَ: أما فِي مثل هَذَا فَلَا. انْتهى. وَقَوله: الْخَبَر بهَا لَا من قبل الشَّهَادَة هُوَ المصطلح على تَسْمِيَته رِوَايَة، وَإِن كَانَت الشَّهَادَة أَيْضا خَبرا بِاعْتِبَار مُقَابلَة الْإِنْشَاء.
فللخبر إطلاقات، والمتقدمون يعبرون عَن الرِّوَايَة بالْخبر كَمَا هُوَ فِي بعض عِبَارَات الباقلاني، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَغَيرهمَا.
(4/1963)
 
 
وَبَين الشَّافِعِي السَّبَب فِيمَا تفارق فِيهِ الشَّهَادَة الرِّوَايَة من الْأَحْكَام، وترتبه على مَا افْتَرَقت بِهِ حقيقتاهما من الْمَعْنى، وَذكر بعض الْأَحْكَام قِيَاسا على الْبَعْض ردا على خَصمه الَّذِي قد سلم الْمَعْنى وَفرق فِي الْأَحْكَام بِمَا لَا يُنَاسب.
فَإِن قلت: فَأَيْنَ اعْتِبَار إِمْكَان الترافع فِي الشَّهَادَة دون الرِّوَايَة فِي كَلَام الشَّافِعِي؟
قلت: من قَوْله: (وَإِنَّمَا يلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ) فَإِن اللُّزُوم يَسْتَدْعِي مخاصمة وترافعاً.
فَإِن قيل: لَيْسَ فِيمَا نقلت عَن الشَّافِعِي وَلَا فِيمَا نَقله الْقَرَافِيّ عَن الْمَازرِيّ ذكر مَا يعْتَبر فِي الشَّهَادَة من لفظ: أشهد.
وَكَونه عِنْد الْحَاكِم أَو الْمُحكم أَو سيد العَبْد أَو الْأمة حَيْثُ سمع عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَة لإِقَامَة الْحُدُود إِن جَوَّزنَا لَهُ ذَلِك، وَلَا مَا أشبه ذَلِك مِمَّا يخْتَص بِالشَّهَادَةِ.
قلت: إِنَّمَا لم يذكر لكَونهَا أحكاماً وشروطاً خَارِجا عَن الْحَقِيقَة وعَلى كل حَال فقد علم مِمَّا سبق وَجه الْمُنَاسبَة فِيمَا اخْتصّت بِهِ الشَّهَادَة عَن رِوَايَات الْأَخْبَار.
قَالَ ابْن عبد السَّلَام: لِأَن الْغَالِب من الْمُسلمين مهابة الْكَذِب على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخِلَاف شَهَادَة الزُّور فاحتيج إِلَى الِاسْتِظْهَار فِي الشَّهَادَات، وَأَيْضًا فقد ينْفَرد الحَدِيث النَّبَوِيّ بِشَاهِد وَاحِد فِي المحاكمات؛ وَلِهَذَا يظْهر فِيمَا سبق فِي تَزْكِيَة الْوَاحِد فِي الرِّوَايَة أَنه لكَونه أحوط.
(4/1964)
 
 
وَأَيْضًا بَين كثير من النَّاس إحن وعداوات قد تحمل على شَهَادَة الزُّور من بعض بِخِلَاف الْأَخْبَار النَّبَوِيَّة. انْتهى مُلَخصا.
وَفصل غَيره الْمَعْنى فِيمَا اعْتبر فِي الشَّهَادَة، أما الْعدَد فَإِنَّهَا لما تعلّقت بِمعين تطرقت إِلَيْهَا التُّهْمَة بِاحْتِمَال الْعَدَاوَة فاحتيط بإبعاد التُّهْمَة بِخِلَاف الرِّوَايَة.
وَأما الذُّكُورَة حَيْثُ اشْترطت فَإِن إِلْزَام الْمعِين فِيهِ نوع سلطنة وقهر، والنفوس تأباه، وَلَا سِيمَا من النِّسَاء لنَقص عقلهن ودينهن بِخِلَاف الرِّوَايَة؛ لِأَنَّهَا عَامَّة تتأسى فِيهَا النُّفُوس فيخف الْأَلَم.
وَأَيْضًا فلنقص النِّسَاء يكثر غلطهن وَلَا ينْكَشف ذَلِك غَالِبا فِي الشَّهَادَة لانقضائها بِانْقِضَاء زمانها بِخِلَاف الرِّوَايَة فَإِن متعلقها بِالْعُمُومِ يَقع الْكَشْف عَنْهَا فيتبين مَا عساه وَقع من الْمَرْأَة من غلط وَنَحْوه.
(4/1965)
 
 
قَوْله: {فصل}
 
{تَدْلِيس الْمَتْن عمدا محرم} .
وجرح التَّدْلِيس لَهُ مَعْنيانِ، معنى فِي اللُّغَة وَمعنى فِي الِاصْطِلَاح.
فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: كتمان الْعَيْب فِي مَبِيع أَو غَيره، وَيُقَال: دالسه خادعه، كَأَنَّهُ من الدلس وَهُوَ الظلمَة؛ لِأَنَّهُ إِذا غطى عَلَيْهِ الْأَمر أظلمه عَلَيْهِ.
وَأما فِي الِاصْطِلَاح: فَهُوَ قِسْمَانِ، قسم مُضر يمْنَع الْقبُول، وَقسم لَا يضر.
فَالْأول هُوَ الَّذِي ذكرنَا أَولا وَيُسمى المدرج، سَمَّاهُ بذلك المحدثون، وَهُوَ بِكَسْر الرَّاء اسْم فَاعل.
(4/1966)
 
 
فالراوي للْحَدِيث إِذا أَدخل فِيهِ شَيْئا من كَلَامه أَولا أَو آخرا أَو وسطا على وَجه يُوهم أَنه من جملَة الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ [فَهُوَ المدرج] وَيُسمى هَذَا تَدْلِيس الْمُتُون، وفاعله عمدا مرتكب محرما مَجْرُوح عِنْد الْعلمَاء لما فِيهِ من الْغِشّ.
أما لَو اتّفق ذَلِك من غير قصد من صَحَابِيّ أَو غَيره فَلَا يكون ذَلِك محرما، وَمن ذَلِك كثير أفرده الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بالتصنيف.
وَمن أمثلته حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي التَّشَهُّد، قَالَ فِي آخِره: (وَإِذا قلت هَذَا فَإِن شِئْت أَن تقوم فَقُمْ، وَإِن شِئْت أَن تقعد فَاقْعُدْ) ، وَهُوَ من كَلَامه لَا من الحَدِيث الْمَرْفُوع. قَالَه الْبَيْهَقِيّ والخطيب
(4/1967)
 
 
وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهم: وَهَذَا من المدرج أخيراً.
وَمِثَال المدرج أَولا: مَا رَوَاهُ الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَسْبغُوا الْوضُوء، ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار "، فَإِن " أَسْبغُوا الْوضُوء " من كَلَام أبي هُرَيْرَة.
وَمِثَال الْوسط مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن بسرة بنت صَفْوَان - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " من مس ذكره أَو أثنييه أَو رفغيه فَليَتَوَضَّأ " قَالَ: فَذكر الْأُنْثَيَيْنِ والرفغ مدرج، إِنَّمَا هُوَ من قَول
(4/1968)
 
 
عُرْوَة الرَّاوِي عَن بسرة، ومرجع ذَلِك إِلَى الْمُحدثين.
وَيعرف ذَلِك بِأَن يرد من طرق أُخْرَى التَّصْرِيح بِأَن ذَلِك من كَلَام الرَّاوِي، وَهُوَ طَرِيق ظَنِّي قد يقوى، وَقد يضعف.
وعَلى كل حَال حَيْثُ فعل ذَلِك الْمُحدث عمدا بِأَن قصد إدراج كَلَامه فِي حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غير تَبْيِين، بل دلّس ذَلِك كَانَ فعله حَرَامًا، وَهُوَ مَجْرُوح عِنْد الْعلمَاء غير مَقْبُول الحَدِيث، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَغَيره مَكْرُوه مُطلقًا} .
هَذَا الْقسم الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي لَا يضر، وَله صور:
إِحْدَاهَا: أَن يُسمى شَيْخه فِي رِوَايَته باسم لَهُ غير مَشْهُور من كنية، أَو لقب، أَو اسْم، أَو نَحوه، كَقَوْل أبي بكر بن مُجَاهِد الْمُقْرِئ الإِمَام: ثَنَا الإِمَام عبد الله بن أبي أوفى، يُرِيد بِهِ عبد الله بن أبي دَاوُد
(4/1969)
 
 
السجسْتانِي.
وَقَوله أَيْضا: ثَنَا مُحَمَّد بن سَنَد، يُرِيد بِهِ النقاش الْمُفَسّر نسبه إِلَى جده، وَهُوَ كثير جدا وَيُسمى هَذَا تَدْلِيس الشُّيُوخ.
وَأما تَدْلِيس الْإِسْنَاد، وَهُوَ أَن يروي عَمَّن لقِيه أَو عاصره مَا لم يسمعهُ مِنْهُ موهماً سَمَاعه مِنْهُ قَائِلا: قَالَ فلَان، أَو عَن فلَان وَنَحْوه، وَرُبمَا لم يسْقط شَيْخه وَأسْقط غَيره.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَمثله غَيره بِمَا فِي التِّرْمِذِيّ عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مَرْفُوعا: " لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته
(4/1970)
 
 
كَفَّارَة يَمِين "، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَن الزُّهْرِيّ لم يسمعهُ من أبي سَلمَة.
ثمَّ ذكر أَن بَينهمَا سُلَيْمَان بن أَرقم عَن يحيى بن أبي كثير، وَأَن هَذَا وَجه الحَدِيث، قَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا الْقسم مَكْرُوه جدا، ذمه الْعلمَاء، وَكَانَ شُعْبَة من أَشَّدهم ذماً لَهُ. وَقَالَ مرّة لَهُ: التَّدْلِيس أَخُو الْكَذِب وَمرَّة: لِأَن أزني أحب إِلَيّ من أَن أدلس.
وَهَذَا مِنْهُ إفراط مَحْمُول على الْمُبَالغَة فِي الزّجر عَنهُ.
(4/1971)
 
 
الصُّور الثَّانِيَة: أَن يُسَمِّي شَيْخه باسم شيخ آخر لَا يُمكن أَن يكون رَوَاهُ عَنهُ، كَمَا يَقُول تلامذة الْحَافِظ أبي عبد الله الذَّهَبِيّ: ثَنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ، تَشْبِيها بقول الْبَيْهَقِيّ فِيمَا يرويهِ عَن شَيْخه أبي عبد الله الْحَاكِم: ثَنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ.
وَهَذَا لَا يقْدَح لظُهُور الْمَقْصُود.
الصُّورَة الثَّالِثَة: أَن يَأْتِي فِي التحديث بِلَفْظ يُوهم أمرا لَا قدح فِي إيهامه ذَلِك، كَقَوْلِه: ثَنَا وَرَاء النَّهر، موهماً نهر جيحون، وَهُوَ نهر عِيسَى
(4/1972)
 
 
بِبَغْدَاد أَو الجيزة وَنَحْوهَا بِمصْر، فَلَا حرج فِي ذَلِك، قَالَه الْآمِدِيّ؛ لِأَن ذَلِك من بَاب الإغراب وَإِن كَانَ فِيهِ إِيهَام الرحلة إِلَّا أَنه صدق فِي نَفسه، إِذا علم ذَلِك.
فَالْمُرَاد بذلك الأول، وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه مَكْرُوه كَمَا تقدم.
قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة حَرْب، وَنقل الْمَرْوذِيّ: {لَا يُعجبنِي هُوَ من أهل الرِّيبَة} ، وَلَا يُغير اسْم رجل؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف وَسَأَلَهُ مهنا عَن هشيم قَالَ: ثِقَة إِذا لم يُدَلس. قلت: التَّدْلِيس عيب؟ قَالَ: نعم.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَل كَرَاهَته تَنْزِيه أَو تَحْرِيم يخرج على
(4/1973)
 
 
الْخلاف لنا فِي معاريض غير ظَالِم وَلَا مظلوم، قَالَ: وَالْأَشْبَه تَحْرِيمه؛ لِأَنَّهُ أبلغ من تَدْلِيس الْمَبِيع.
قَوْله: {وَمن فعل متأولاً. قبل: عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر} من الْفُقَهَاء، والمحدثين، {وَلم يفسق} ؛ لِأَنَّهُ قد صدر من الْأَعْيَان المتقدى بهم.
وَقل من سلم مِنْهُ.
وَقد رد الإِمَام أَحْمد قَول شُعْبَة (التَّدْلِيس كذب) قيل للْإِمَام أَحْمد: كَانَ شُعْبَة يَقُول: التَّدْلِيس كذب. فَقَالَ: لَا، قد دلّس قوم وَنحن نروي عَنْهُم، وَتقدم تَأْوِيل كَلَام شُعْبَة.
وَقطع ابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَغَيره بِأَن تَدْلِيس الْأَسْمَاء لَيْسَ بِجرح.
(4/1974)
 
 
قَوْله: {وَمن عرف بِهِ عَن الضُّعَفَاء لم تقبل رِوَايَته حَتَّى يبين سَمَاعه عِنْد الْمُحدثين} ، وَغَيرهم، {وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم} ، وَأَبُو الطّيب وَغَيره من الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى، وسبقت رِوَايَة مهنا، {وَقَالَ الْمجد} ، بن تَيْمِية: {من كثر مِنْهُ التَّدْلِيس لم تقبل عنعنته} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن يحْتَمل تَشْبِيه ذَلِك بِمَا سبق فِي الضَّبْط من كَثْرَة السَّهْو وغلبته، وَمَا فِي البُخَارِيّ وَمُسلم من ذَلِك مَحْمُول على أَن
(4/1975)
 
 
السماع من طَرِيق آخر، كَذَا قيل.
وَقد قيل لِأَحْمَد فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: الرجل يعرف بالتدليس يحْتَج بِمَا لم يقل فِيهِ حَدثنِي أَو سَمِعت؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
قلت: الْأَعْمَش مَتى تصاب لَهُ الْأَلْفَاظ؟ قَالَ: يضيق إِن لم يحْتَج بِهِ.
قَوْله: {والإسناد المعنعن بِلَا تَدْلِيس بِأَيّ لفظ كَانَ مُتَّصِل عِنْد أَحْمد وَالْأَكْثَر} من الْمُحدثين، وَغَيرهم، عملا بِالظَّاهِرِ، وَالْأَصْل عدم التَّدْلِيس.
قَالَ ابْن الصّلاح: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه من قبيل الْإِسْنَاد الْمُتَّصِل.
وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي " التَّمْهِيد " إِجْمَاعًا، وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو عَمْرو
(4/1976)
 
 
الداني إِجْمَاعًا، وَلَكِن شَرط ابْن عبد الْبر ثَلَاثَة شُرُوط: الْعَدَالَة، واللقاء، وَعدم التَّدْلِيس.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه وَدَاوُد عَن الشّعبِيّ عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل ذَلِك ثَابت.
وَذكر جمَاعَة أَن الْإِسْنَاد المعنعن لَيْسَ بِمُتَّصِل.
(4/1977)
 
 
قَالَ ابْن الصّلاح: عده بعض النَّاس من قبيل الْمُرْسل والمنقطع حَتَّى يتَبَيَّن اتِّصَاله بِغَيْرِهِ فَيجْعَل مُرْسلا إِن كَانَ من قبل الصَّحَابِيّ، ومنقطعاً إِن كَانَ من قبل غَيره.
وَقَوْلنَا: (بِأَيّ لفظ كَانَ) يَشْمَل (عَن) و (أَن) و (قَالَ) وَنَحْوه، وَهَذَا الصَّحِيح كَمَا يَأْتِي فِي (قَالَ) وَنَحْوه.
وَنقل أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد أَن (أَن فلَانا) لَيست للاتصال.
وَأطلق القَاضِي وَغَيره من أَصْحَابنَا وَبَعض الْعلمَاء فَلم يفرقُوا بَين المدلس أَو غَيره أَو علم إِمْكَان اللِّقَاء أَو لَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّه غير مُرَاد، وَقَالَ أَبُو بكر البرذعي: إِن حرف (أَن) مَحْمُول على الِانْقِطَاع حَتَّى يتَبَيَّن السماع فِي ذَلِك الْخَبَر من جِهَة أُخْرَى.
(4/1978)
 
 
وَقَالَهُ الْحَافِظ الْفَحْل ابْن شيبَة كَمَا قَالَه الإِمَام أَحْمد، وَيَأْتِي حكم (قَالَ، وَفعل، وَأقر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) .
قَوْله: {وَيَكْفِي إِمْكَان اللقي عِنْد مُسلم، وَحَكَاهُ عَن أهل الْعلم بالأخبار} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ معنى مَا ذكره أَصْحَابنَا فِيمَا يرد بِهِ الْخَبَر وَمَا لم يرد.
قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": وَهُوَ قَول كثير من الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن حبَان، وَغَيره، وَاشْترط عَليّ ابْن الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا الْعلم باللقي وَهُوَ أظهر.
(4/1979)
 
 
قَالَ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ ": هُوَ قَول جُمْهُور الْمُتَقَدِّمين، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة، وَأبي حَاتِم، وَغَيرهم من أَعْيَان الْحفاظ، بل كَلَامهم يدل على اشْتِرَاط ثُبُوت السماع كَمَا تقدم عَن الشَّافِعِي فَإِنَّهُم قَالُوا فِي جمَاعَة من الْأَعْيَان: ثبتَتْ لَهُم الرُّؤْيَة لبَعض الصَّحَابَة وَقَالُوا: مَعَ ذَلِك لم يثبت لَهُم السماع مِنْهُم فرواياتهم عَنْهُم مُرْسلَة، مِنْهُم: الْأَعْمَش وَيحيى بن أبي كثير، وَأَيوب، وَابْن عون وقرة بن خَالِد
(4/1980)
 
 
رَأَوْا أنسا وَلم يسمعوا مِنْهُ، فرواياتهم عَنهُ مُرْسلَة، كَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم، وَقَالَهُ أَبُو زرْعَة أَيْضا فِي يحيى بن أبي كثير وَقَالَ أَحْمد فِي يحيى بن أبي كثير: قد رأى أنسا فَلَا أَدْرِي سمع مِنْهُ أم لَا؟
وَلم يجْعَلُوا رِوَايَته عَنهُ مُتَّصِلَة بِمُجَرَّد الرُّؤْيَة والرؤية أبلغ من إِمْكَان اللقي، وَكَذَلِكَ كثير من صبيان الصَّحَابَة رَأَوْا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يَصح لَهُم سَماع مِنْهُ فرواياتهم عَنهُ مرسله، كطارق ابْن شهَاب وَغَيرهم، وَكَذَلِكَ من علم مِنْهُ أَنه مَعَ اللِّقَاء لم يسمع مِمَّن لقِيه إِلَّا شَيْئا يَسِيرا فروايته عَنهُ زِيَادَة على ذَلِك مُرْسلَة، كروايات ابْن الْمسيب عَن عمر فَإِن الْأَكْثَرين نفوا سَمَاعه مِنْهُ وَأثبت أَحْمد أَنه رَآهُ وَسمع مِنْهُ، وَقَالَ: مَعَ ذَلِك رواياته عَنهُ مُرْسلَة، إِنَّمَا سمع مِنْهُ شَيْئا يَسِيرا.
(4/1981)
 
 
مِثَاله: نعيه النُّعْمَان بن مقرن على الْمِنْبَر، وَنَحْو ذَلِك، وَكَذَلِكَ سَماع الْحسن من عُثْمَان وَهُوَ على الْمِنْبَر [يَأْمر] بقتل الْكلاب وَذبح الْحمام.
ورواياته عَنهُ غير ذَلِك مُرْسلَة.
وَقَالَ أَحْمد: [بن] جريج لم يسمع من طَاوُوس، وَلَا حرفا، وَيَقُول: رَأَيْت طاووساً.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ أَيْضا: الزُّهْرِيّ لَا يَصح سَمَاعه من ابْن عمر رَآهُ وَلم يسمع مِنْهُ، وَرَأى عبد الله بن جَعْفَر وَلم يسمع مِنْهُ.
(4/1982)
 
 
وَأثبت أَيْضا دُخُول مَكْحُول على وَاثِلَة بن الْأَسْقَع ورؤيته لَهُ ومشافهته، وَأنكر سَمَاعه، وَقَالَ: لم يَصح لَهُ مِنْهُ سَماع، وَجعل رواياته عَنهُ؟ مُرْسلَة.
وَقَالَ أَحْمد: أبان بن عُثْمَان لم يسمع من أَبِيه، من أَيْن سمع مِنْهُ؟ وَمرَاده: من أَيْن صحت الرِّوَايَة بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، وَإِلَّا فإمكان ذَلِك واحتماله غير مستبعد.
وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِي أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف: لم يسمع من عمر.
هَذَا مَعَ أَن أَبَا أُمَامَة رأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدلَّ كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة، وَأبي حَاتِم على أَن الِاتِّصَال لَا يثبت إِلَّا بِثُبُوت التَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ،
(4/1983)
 
 
وَهَذَا أضيق من قَول ابْن الْمَدِينِيّ، وَالْبُخَارِيّ؛ فَإِن المحكي عَنْهُمَا أَنه يعْتَبر أحد أَمريْن: إِمَّا السماع، وَإِمَّا اللِّقَاء.
وَأحمد وَمن تبعه عِنْدهم لابد من ثُبُوت السماع.
وَيدل على أَن هَذَا مُرَادهم، أَن أَحْمد قَالَ: ابْن سِيرِين لم يَجِيء عَنهُ سَماع من ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الزُّهْرِيّ أدْرك أبان بن عُثْمَان وَمن هُوَ أكبر مِنْهُ، وَلَكِن لَا يثبت لَهُ السماع، كَمَا أَن حبيب بن أبي ثَابت لَا يثبت لَهُ السماع من عُرْوَة، وَقد سمع مِمَّن هُوَ أكبر مِنْهُ غير أَن أهل الحَدِيث قد اتَّفقُوا على ذَلِك، واتفاقهم على شَيْء يكون حجَّة، وَاعْتِبَار السماع لاتصال الحَدِيث هُوَ الَّذِي ذكره ابْن عبد الْبر، وَحَكَاهُ عَن الْعلمَاء، وَقُوَّة كَلَامه تشعر بإنه إِجْمَاع مِنْهُم.
قَالَ ابْن رَجَب: وَقد تقدم أَنه قَول الشَّافِعِي أَيْضا.
وَأطَال النَّقْل فِي ذَلِك عَن الْأَئِمَّة ثمَّ قَالَ: كَلَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة،
(4/1984)
 
 
وَأبي حَاتِم فِي هَذَا الْمَعْنى كثير جدا، وَكله يَدُور على أَن مُجَرّد ثُبُوت الرُّؤْيَة لَا يَكْفِي فِي ثُبُوت السماع، وَأَن السماع لَا يثبت بِدُونِ التَّصْرِيح بِهِ، وَأَن رِوَايَة من روى عَمَّن عاصره تَارَة بِوَاسِطَة، وَتارَة بِغَيْر وَاسِطَة يدل على أَنه لم يسمع مِنْهُ إِلَّا أَن يثبت لَهُ السماع من وَجه.
ثمَّ قَالَ: فَإِذا كَانَ هَذَا قَول هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، وهم أعلم أهل زمانهم بِالْحَدِيثِ وَعلله، وَصَحِيحه، وسقيمه مَعَ مُوَافقَة البُخَارِيّ وَغَيره، فَكيف يَصح لمُسلم رَحمَه الله دَعْوَى الْإِجْمَاع على خلاف قَوْلهم، بل اتِّفَاق هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة على قَوْلهم هَذَا يَقْتَضِي حِكَايَة إِجْمَاع الْحفاظ المعتبرين على هَذَا القَوْل، وَإِن القَوْل بِخِلَاف قَوْلهم لَا يعرف عَن أحد من نظرائهم وَلَا عَمَّن قبلهم مِمَّن هُوَ فِي درجتهم وحفظهم.
وَيشْهد لصِحَّة ذَلِك حِكَايَة أبي حَاتِم اتِّفَاق أهل الحَدِيث على أَن حبيب ابْن أبي ثَابت لم يثبت لَهُ السماع من عُرْوَة مَعَ إِدْرَاكه لَهُ، وَقد ذكرنَا من قبل أَن كَلَام الشَّافِعِي إِنَّمَا يدل على مثل هَذَا لَا على خِلَافه؛ وَلذَلِك حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن الْعلمَاء فَلَا يبعد حِينَئِذٍ أَن يُقَال: هَذَا قَول الْأَئِمَّة من الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء.
(4/1985)
 
 
وَزَاد ابْن رَجَب مَا ذكره مُسلم من الرِّوَايَات وَاحِدَة وَاحِدَة وَبَين مَا يرد عَلَيْهِ فليعاود فَإِنَّهُ أَجَاد وَأفَاد.
وَقَالَ أَبُو عَمْرو الداني: لابد مَعَ ذَلِك من الْعلم بالرواية عَنهُ مَعَ اللقي؛ إِذْ لَا يلْزم من اللقي الرِّوَايَة عَنهُ.
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: لابد من طول الصُّحْبَة فلابد من اللقي وَطول الصُّحْبَة، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ أضيق من الْأَقْوَال الْمُتَقَدّمَة.
قَوْله: {وَظَاهر الأول أَن من روى عَمَّن [لم] يعرف بِصُحْبَتِهِ وَالرِّوَايَة عَنهُ} أَن رِوَايَته عَنهُ تقبل مُطلقًا. أَعنِي {وَلَو أجمع أَصْحَاب الشَّيْخ أَنه لَيْسَ من أَصْحَابه} ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة.
وَقَالَ الحنيفة، وَابْن برهَان، وَلم تقبله الشَّافِعِيَّة، وَظَاهر كَلَام أَحْمد فِي ذَلِك مُخْتَلف.
(4/1986)
 
 
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": إِذا روى رجل خَبرا عَن شيخ مَشْهُور لم يعرف بِصُحْبَتِهِ، وَلم يشْتَهر بالرواية عَنهُ، وَأجْمع أَصْحَاب الشَّيْخ المعروفون على جهالته بَينهم، وَأَنه لَيْسَ مِنْهُم، هَل يمْنَع ذَلِك قبُول خَبره؟ قَالَت الشَّافِعِيَّة: يمْنَع. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: لَا يمْنَع، وَنَصره ابْن برهَان.
وَالْأول ظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي مَوَاضِع، وَأكْثر الْمُحدثين.
وَالثَّانِي يدل عَلَيْهِ كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي اعتذاره لجَابِر الْجعْفِيّ فِي قصَّة هِشَام بن عُرْوَة مَعَ زَوجته.
(4/1987)
 
 
وَقد قَالَ ابْن عقيل: الْمُحَقِّقُونَ من الْعلمَاء يمْنَعُونَ رد الْخَبَر بالاستدلال، كرد خبر القهقهة اسْتِدْلَالا بِفضل الصَّحَابَة الْمَانِع من الضحك، وَردت عَائِشَة قَول ابْن عَبَّاس فِي الرُّؤْيَة، وَقَول بَعضهم إِن قَوْله: (لأزيدن على السّبْعين) بعيد الصِّحَّة؛ لِأَن السّنة تَأتي بالعجائب،
(4/1988)
 
 
وَلَو شهِدت بَيِّنَة على مَعْرُوف بِالْخَيرِ بِإِتْلَاف أَو غصب لم ترد بالاستبعاد
هَذَا معنى كَلَام أَصْحَابنَا، وَغَيرهم فِي رده بِمَا يحيله الْعقل، وَالله أعلم.
قَوْله: وَلَيْسَ ترك الْإِنْكَار شرطا فِي قبُول الْخَبَر عندنَا، [وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد خلافًا للحنفية ذكره القَاضِي فِي الْخلاف فِي خبر فَاطِمَة بنت قيس] ورد عمر لَهُ.
وَكَذَا قَالَ ابْن عقيل جَوَاب من قَالَ: رده السّلف: إِن الثِّقَة لَا يرد حَدِيثه بإنكار غَيره؛ لِأَن مَعَه زِيَادَة.
(4/1989)
 
 
قَوْله: {فصل}
 
{أَصْحَابنَا، والمعظم: الصَّحَابَة عدُول} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره: الَّذِي عَلَيْهِ سلف الْأمة وَجُمْهُور الْخلف أَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - عدُول بتعديل الله تَعَالَى لَهُم.
قَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره: الْأمة مجمعة على تَعْدِيل جَمِيع الصَّحَابَة، وَلَا يعْتد بِخِلَاف من خالفهم. انْتهى.
(4/1990)
 
 
وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي مُقَدّمَة " الِاسْتِيعَاب " إِجْمَاع أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَحكى فِيهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاع.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل كَمَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فهم عدُول بتعديل الله تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} [التَّوْبَة: 100] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لقد رضى الله عَن الْمُؤمنِينَ} [الْفَتْح: 18] ، وَقَالَ: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار} [الْفَتْح: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} [آل عمرَان: 110] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} [الْبَقَرَة: 143] .
وَقد تَوَاتر امتثالهم الْأَوَامِر والنواهي.
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد مَا بلغ مد أحدهم، وَلَا نصيفه ".
(4/1991)
 
 
وَلَو ورد على سَبَب خَاص فَالْعِبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ، وَلَا يضرنا أَيْضا كَون الْخطاب بذلك للصحابة، أَيْضا؛ لِأَن الْمَعْنى لَا يسب غير أَصْحَابِي أَصْحَابِي، وَلَا يسب أَصْحَابِي بَعضهم بَعْضًا.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خير الْقُرُون قَرْني " مُتَّفق عَلَيْهِمَا.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله اختارني وَاخْتَارَ لي أصحاباً وأنصاراً، لَا تؤذوني فِي أَصْحَابِي " فَأَي تَعْدِيل أصح من تَعْدِيل علام الغيوب وتعديل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ {
فَإِن قيل: هَذِه الْأَدِلَّة دلّت على فَضلهمْ فَأَيْنَ التَّصْرِيح بِعَدَالَتِهِمْ؟
قلت: من أثنى الله عَلَيْهِ بِهَذَا الثَّنَاء، لَا يكون عدلا؟} فَإِذا كَانَ التَّعْدِيل يثبت بقول اثْنَيْنِ من النَّاس فَكيف لَا تثبت الْعَدَالَة بِهَذَا الثَّنَاء الْعَظِيم من الله وَرَسُوله؟ !
(4/1992)
 
 
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": ومرادهم من جهل حَاله فَلم يعرف بقدح.
قَالَ الْمَازرِيّ: وَالْحكم بِالْعَدَالَةِ إِنَّمَا هُوَ لمن اشتهرت صحبته. نَقله الْبرمَاوِيّ.
وَالظَّاهِر أَن هُنَا فِي النُّسْخَة غَلطا.
وَقيل: هم عدُول إِلَى زمن الْفِتَن، وَبعد حُدُوث الْفِتَن كغيرهم، ومثلوا ذَلِك بقتل عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -.
{وَقَالَت الْمُعْتَزلَة} : هم عدُول {إِلَّا من قَاتل عليا} .
وَقَالَت: من قَاتل عليا فَهُوَ فَاسق لِخُرُوجِهِ على الإِمَام بِغَيْر حق.
(4/1993)
 
 
وَهُوَ ضَعِيف؛ بل فعلوا ذَلِك اجْتِهَادًا، وهم من أَهله، وَالْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ وَاجِب، أَو جَائِز.
{وَقيل: هم كغيرهم} مُطلقًا للعمومات الدَّالَّة على ذَلِك.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهَذِه الْأَقْوَال الْبَاطِلَة بَعْضهَا مَنْسُوب إِلَى عَمْرو بن عبيد وَأَضْرَابه، وَمَا وَقع بَينهم مَحْمُول على الِاجْتِهَاد، وَلَا قدح على مُجْتَهد عِنْد المصوبة وَغَيرهم، وَهَذَا متأول.
الأولى: لَيْسَ المُرَاد بكونهم عُدُولًا الْعِصْمَة لَهُم، واستحالة الْمعْصِيَة عَلَيْهِم، إِنَّمَا المُرَاد أَن لَا نتكلف الْبَحْث عَن عدالتهم، وَلَا طلب التَّزْكِيَة فيهم.
(4/1994)
 
 
الثَّانِيَة: قَالَ الْحَافِظ الْمزي: من الْفَوَائِد أَنه لم يُوجد قطّ رِوَايَة عَمَّن لمز بالنفاق من الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم -.
الثَّالِثَة: من فَوَائِد القَوْل بِعَدَالَتِهِمْ مُطلقًا إِذا قيل عَن رجل من الصَّحَابَة: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ كَذَا كَانَ ذَلِك كتعيينه باسمه لِاسْتِوَاء الْكل فِي الْعَدَالَة.
وَقَالَ أَبُو زيد الدبوسي: بِشَرْط أَن يعْمل بروايته السّلف، أَو يسكتوا عَن الرَّد مَعَ الانتشار، أَو تكون مُوَافقَة للْقِيَاس، وَإِلَّا فَلَا يحْتَج بهَا.
وَهَذَا ضَعِيف.
(4/1995)
 
 
قَوْله: {وهم من لَقِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو رَآهُ يقظة حَيا، عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ} وَغَيرهمَا.
لما تقرر أَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - عدُول فلابد من بَيَان الصَّحَابِيّ من هُوَ، وَمَا الطَّرِيق فِي معرفَة كَونه صحابياً؟
وَقد اخْتلف فِي تَفْسِير الصَّحَابِيّ على أَقْوَال منتشرة، الْمُخْتَار مِنْهَا مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم، وَهُوَ مَا قدمْنَاهُ أَولا.
(4/1996)
 
 
قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: وَهِي طَريقَة أهل الحَدِيث.
فقولنا: {من لقِيه} ليعم الْبَصِير وَالْأَعْمَى فَهُوَ أحسن من قَول من قَالَ: من رَآهُ. وَزَاد بَعضهم: أَو رَآهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يدْخل الْأَعْمَى.
وَقَوْلنَا: {يقظة} احْتِرَاز مِمَّن رَآهُ مناماً؛ فَإِنَّهُ لَا يُسمى صحابياً إِجْمَاعًا، وَهُوَ ظَاهر.
وَقَوْلنَا: {حَيا} ، احْتِرَاز مِمَّن رَآهُ بعد مَوته: كَأبي ذُؤَيْب الشَّاعِر خويلد بن خَالِد الْهُذلِيّ؛ لِأَنَّهُ لما أسلم وَأخْبر بِمَرَض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافر ليراه فَوَجَدَهُ مَيتا مسجى فَحَضَرَ الصَّلَاة عَلَيْهِ والدفن فَلم يعد صحابياً.
على أَن الذَّهَبِيّ فِي " التَّجْرِيد " للصحابة عد مِنْهُم أَبَا ذُؤَيْب، وَقواهُ الشَّيْخ أَبُو حَفْص البُلْقِينِيّ، وَقَالَ الشَّيْخ: الظَّاهِر أَنه يعد صحابياً،
(4/1997)
 
 
وَلَكِن مُرَادهم كلهم الصُّحْبَة الْحكمِيَّة الَّتِي سنبينها لَا حَقِيقَة الصُّحْبَة.
وَقَوْلنَا: {مُسلما} ؛ ليخرج من رَآهُ وَاجْتمعَ بِهِ قبل النُّبُوَّة وَلم يره بعد ذَلِك، كَمَا فِي زيد بن عَمْرو بن نفَيْل، فَإِنَّهُ مَاتَ قبل المبعث، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّه يبْعَث أمه وَحده " كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَيخرج أَيْضا من رَآهُ وَهُوَ كَافِر ثمَّ أسلم بعد مَوته.
وَقَوْلنَا: {وَلَو ارْتَدَّ ثمَّ أسلم وَلم يره وَمَات مُسلما} ، لَهُ مَفْهُوم ومنطوق، فمفهومه أَنه إِذا ارْتَدَّ فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو بعد مَوته؛ وَقتل على الرِّدَّة: كَابْن خطل وَغَيره؛ فَإِنَّهُ لَا يعد من الصَّحَابَة قطعا؛ فَإِنَّهُ بِالرّدَّةِ
(4/1998)
 
 
تبين أَنه لم يجْتَمع بِهِ مُؤمنا تَفْرِيعا على قَول الْأَشْعَرِيّ: إِن الْكفْر وَالْإِيمَان لَا يتبدلان خلافًا للحنفية، وَالِاعْتِبَار فيهمَا بالخاتمة.
ومنطوقه لَو ارْتَدَّ ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَام: كالأشعث بن قيس فقد تبين أَنه لم يزل مُؤمنا.
فَإِن كَانَ قد رَآهُ مُؤمنا ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ رَآهُ ثَانِيًا مُؤمنا فَأولى وأوضح أَن يكون صحابياً؛ فَإِن الصُّحْبَة قد صحت بالاجتماع الثَّانِي قطعا.
وَخرج من اجْتمع بِهِ قبل النُّبُوَّة ثمَّ أسلم بعد المبعث وَلم يلقه، فَإِن الظَّاهِر أَنه لَا يكون صحابياً بذلك الِاجْتِمَاع؛ لِأَنَّهُ لم يكن حِينَئِذٍ مُؤمنا، كَمَا
(4/1999)
 
 
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن أبي الحمساء قَالَ: بَايَعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أَن يبْعَث فوعدته أَن آتيه بهَا فِي مَكَانَهُ، ونسيت، ثمَّ ذكرت بعد ثَلَاث فَجئْت فَإِذا هُوَ فِي مَكَانَهُ فَقَالَ: يَا فَتى لقد شققت عَليّ أَنا فِي انتظارك مُنْذُ ثَلَاث.
ثمَّ لم ينْقل أَنه اجْتمع بِهِ بعد المبعث.
وَدخل فِي قَوْلنَا: من لَقِي، من جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ غير مُمَيّز فحنكه: كَعبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل، أَو تفل فِي فِيهِ: كمحمود بن
(4/2000)
 
 
الرّبيع، بل مجه بِالْمَاءِ كَمَا فِي البُخَارِيّ، وَهُوَ ابْن خمس سِنِين أَو أَربع أَو مسح وَجهه: كَعبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير - بالصَّاد وَفتح الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ - وَنَحْو ذَلِك.
فَهَؤُلَاءِ صحابة وَإِن اخْتَار جمَاعَة خلاف ذَلِك، كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام ابْن معِين، وَأبي زرْعَة الرَّازِيّ، وَأبي حَاتِم، وَأبي دَاوُد،
(4/2001)
 
 
وَابْن عبد الْبر، وَغَيرهم، وَكَأَنَّهُم نفوا الصُّحْبَة الْمُؤَكّدَة.
وَقَوْلنَا: {وَلَو جنياً على الْأَظْهر} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْجِنّ الَّذين قدمُوا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من نَصِيبين وهم ثَمَانِيَة من الْيَهُود أَو سَبْعَة؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أنزل من بعد مُوسَى} [الْأَحْقَاف: 30] ، وَذكر فِي أسمائهم: شاصر وماصر وناشي ومنشي والأحقب وزوبعة وسرق وَعَمْرو بن جَابر.
وَقد اسْتشْكل ابْن الْأَثِير فِي " أَسد الغابة " قَول من ذكرهم فِي
(4/2002)
 
 
الصَّحَابَة، وَهُوَ مَحل نظر.
قلت: الأولى أَنهم من الصَّحَابَة، وَأَنَّهُمْ لقوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وآمنوا بِهِ، وَأَسْلمُوا وذهبوا إِلَى قَومهمْ منذرين.
فَائِدَة: قَالَ بعض الْعلمَاء: خرج من الصَّحَابَة من رَآهُمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين كشف لَهُ عَنْهُم لَيْلَة الْإِسْرَاء، أَو غَيرهَا، وَمن رَآهُ فِي غير عَالم الشَّهَادَة: كالمنام كَمَا تقدم، وَكَذَا من اجْتمع بِهِ من الْأَنْبِيَاء، وَالْمَلَائِكَة فِي السَّمَوَات؛ لِأَن مقامهم أجل من رُتْبَة الصُّحْبَة. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَكَذَا من اجْتمع بِهِ فِي الأَرْض: كعيسى وَالْخضر - عَلَيْهِمَا من الله الصَّلَاة وَالسَّلَام - إِن صَحَّ فَإِن المُرَاد اللقي الْمَعْرُوف على الْوَجْه الْمُعْتَاد لَا خوارق الْعَادَات، وَالله أعلم.
وَقد ذكرت أَقْوَال غير ذَلِك كلهَا ضَعِيفَة فَشرط بعض الْعلمَاء فِي
(4/2003)
 
 
الصَّحَابَة زِيَادَة على مَا ذَكرْنَاهُ أَن يروي عَنهُ وَلَو حَدِيث وَاحِدًا، وَإِلَّا فَلَا يكون صحابياً.
وَشرط بَعضهم أَن تطول الصُّحْبَة وتكثر المجالسة على طَرِيق التبع لَهُ وَالْأَخْذ عَنهُ، وينقل ذَلِك عَن أهل الْأُصُول.
قلت: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَقَالَ عمر بن يحيى هُوَ من طَالَتْ صحبته، وَأخذ عَنهُ.
وَقَالَت طَائِفَة: هُوَ وَاقع على من صَحبه وجالسه واختص بِهِ لَا على من كَانَ فِي عَهده. اخْتَارَهُ الجاحظ والباقلاني.
وَشرط سعيد بن الْمسيب أَن يُقيم مَعَه سنة أَو سنتَيْن أَو يَغْزُو مَعَه غَزْوَة أَو غزوتين.
(4/2004)
 
 
وَقد اعْترض عَلَيْهِ بِنَحْوِ جرير بن عبد الله، وَوَائِل بن حجر وَغَيرهمَا مِمَّن وَفد عَلَيْهِ فِي السّنة الْعَاشِرَة وَمَا قاربها، مَعَ أَن الْإِجْمَاع على عدهم من الصَّحَابَة.
ذكر ابْن الْعِرَاقِيّ: إِلَّا أَن يُرِيدُوا الصُّحْبَة الْمُؤَكّدَة فيستقيم.
وَشرط بَعضهم الْبلُوغ، حَكَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن أهل الْعلم، ورد ذَلِك بِخُرُوج عبد الله بن الزبير، وَالْحسن، وَالْحُسَيْن، وأشباههم - رَضِي الله عَنْهُم -.
وَاشْترط أَبُو الْحسن ابْن الْقطَّان الْعَدَالَة، قَالَ: والوليد الَّذِي
(4/2005)
 
 
شرب الْخمر لَيْسَ بصحابي، وَإِنَّمَا صَحبه الَّذين هم على طَرِيقَته، وَالصَّحِيح خِلَافه.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: قَالَ ابْن الصّلاح، وَالنَّوَوِيّ، وَغَيرهمَا: فِي التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابِيّ الْخلاف} الْمُتَقَدّم فِي الصَّحَابَة قِيَاسا عَلَيْهِم.
وَاشْترط الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ وَجَمَاعَة فِي التَّابِعين الصُّحْبَة، فَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّد الرُّؤْيَة وَلَا اللقي، بِخِلَاف الصَّحَابَة فَإِن لَهُم مزية على سَائِر النَّاس وشرفاً بِرُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَاشْترط ابْن حبَان فِي التَّابِعِيّ كَونه فِي سنّ يحفظ عَنهُ بِخِلَاف الصَّحَابِيّ فَإِن الصَّحَابَة قد اختصوا بِشَيْء لم يُوجد فِي غَيرهم.
(4/2006)
 
 
قَوْله: {وَلَا يعْتَبر الْعلم فِي ثُبُوت الصُّحْبَة عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم [خلافًا] لقوم} .
اعْلَم أَن طَريقَة معرفَة الصَّحَابَة تَارَة تكون ظَاهِرَة، وَتارَة خُفْيَة، فالظاهرة مَعْلُومَة فَمِنْهَا: التَّوَاتُر، وَمِنْهَا: استفاضة بِكَوْنِهِ صحابياً أَو بِكَوْنِهِ من الْمُهَاجِرين أَو من الْأَنْصَار.
وَقَول الصَّحَابِيّ ثَابت الصُّحْبَة: هَذَا صَحَابِيّ، أَو ذكر مَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون صحابياً، نَحْو: كنت أَنا وَفُلَان عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو دَخَلنَا عَلَيْهِ، وَنَحْوه، لَكِن بِشَرْط أَن يعرف إِسْلَامه فِي تِلْكَ الْحَال واستمراره عَلَيْهِ.
وَأما الْخفية فَكَمَا لَو ادّعى الْعدْل المعاصر للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه صَحَابِيّ.
(4/2007)
 
 
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلَا يعْتَبر الْعلم فِي ثُبُوت الصُّحْبَة وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة، خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة، فَلَو قَالَ معاصر عدل: أَنا صَحَابِيّ قبل عِنْد أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور. انْتهى.
وَقيل: لَا يقبل، وَإِلَيْهِ ميل الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْقطَّان الْمُحدث، وَبِه قَالَ أَبُو عبد الله الصَّيْمَرِيّ من الْحَنَفِيَّة، وَأَنه لَا يجوز أَن يُقَال: إِنَّه صَحَابِيّ إِلَّا عَن علم ضَرُورِيّ أَو كسبي، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن السَّمْعَانِيّ أَيْضا.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَتعلم الصُّحْبَة بِإِخْبَار غَيره عَنهُ أَو عَن نَفسه، وَفِيه نظر؛ إِذْ هُوَ مُتَّهم بتحصيل منصب الصَّحَابَة، وَلَا يُمكن تَفْرِيع قبُول قَوْله على عَدَالَة الصَّحَابَة، إِذْ عدالتهم فرع الصُّحْبَة، فَلَو ثبتَتْ الصُّحْبَة بهَا لزم الدّور. انْتهى.
(4/2008)
 
 
وَفِي قَوْله: لزم الدّور نظر بَينه شَارِحه.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَتخرج من كَلَام بَعضهم مَذْهَب ثَالِث بالتفصيل بَين مدعي الصُّحْبَة القصيرة فَيقبل؛ لِأَنَّهُ يتَعَذَّر إِثْبَات صحبته بِالنَّقْلِ، إِذْ رُبمَا لَا يحضرهُ حِين اجتماعه بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحد، أَو حَال رُؤْيَته إِيَّاه، وَبَين مدعي طول الصُّحْبَة، وَكَثْرَة التَّرَدُّد فِي السّفر والحضر فَلَا يقبل ذَلِك مِنْهُ؛ لِأَن مثل ذَلِك يشْتَهر وينقل. انْتهى.
وَهُوَ قَول حسن.
قَوْله: {الثَّانِيَة: لَو قَالَ تَابِعِيّ عدل: فلَان صَحَابِيّ، لم يقبل فِي الْأَصَح} ، وَهُوَ ظَاهر كَلَامهم لكَوْنهم خصوا ذَلِك بالصحابي.
قَالَ بعض شرَّاح " اللمع ": لَا أعرف فِيهِ نقلا، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقيَاس أَنه لَا يقبل؛ لِأَن ذَلِك مُرْسل؛ لِأَنَّهَا قَضِيَّة لم يحضرها.
(4/2009)
 
 
قيل: وَالظَّاهِر خلاف ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُول ذَلِك إِلَّا عَن علم اضطراري أَو اكتسابي.
قَوْله: {وَلَو قَالَ: أَنا تَابِعِيّ أدْركْت الصَّحَابَة، فَالظَّاهِر أَنه كالصحابي} فِي قَوْله: أَنا صَحَابِيّ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة عدل مَقْبُول القَوْل، فَقبل كالصحابي.،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(4/2010)
 
 
(قَوْله: {فصل} {فِي مُسْتَند الصَّحَابِيّ} الْمُخْتَلف)
 
اعْلَم أَن مُسْتَند الصَّحَابِيّ فِي الرِّوَايَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: لَا خلاف فِيهِ؛ إِذْ هُوَ صَرِيح فِي ذَلِك لَا يحْتَمل شَيْئا كَقَوْلِه: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو حَدثنِي، أَو أَخْبرنِي، أَو شافهني، أَو رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: أَو يفعل كَذَا. وَهَذَا أرفع الدَّرَجَات لكَونه يدل على عدم الْوَاسِطَة بَينهمَا قطعا.
النَّوْع الثَّانِي: مَا هُوَ مُخْتَلف فِيهِ لكَونه غير صَرِيح، بل مُحْتَمل الْوَاسِطَة، وَهُوَ مَرَاتِب:
(5/2011)
 
 
الْمرتبَة الأولى: أَن يَقُول الصَّحَابِيّ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَذَا، أَو فعل كَذَا، أَو أقرّ على كَذَا، فَهَذَا من الْمُخْتَلف فِيهِ.
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابنَا، وَأكْثر الْعلمَاء: أَنه يحمل على الِاتِّصَال وَأَنه لَا وَاسِطَة بَينهمَا، وَيكون ذَلِك حكما شَرْعِيًّا يجب الْعَمَل بِهِ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِر من حَال الصَّحَابِيّ الْقَائِل ذَلِك.
وَقَوْلنَا: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنَحْوه، أَعنِي نَحْو: قَالَ كَفعل أَو أقرّ، كَمَا تقدم.
وَيدخل فِي ذَلِك (عَن) و (أَن) ، وَتقدم ذَلِك فِي الْإِسْنَاد المعنعن، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو الْخطاب من أَصْحَابنَا، وَجمع من الْعلمَاء، مِنْهُم:
(5/2012)
 
 
القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني.
وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب عَن الأشعرية فَقَالُوا: لَا يحمل على السماع لاحْتِمَاله وتردده بَين سَمَاعه مِنْهُ وَمن غَيره.
قَالَ الباقلاني: مُتَرَدّد بَين سَمَاعه مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَين سَمَاعه من غَيره بِنَاء على عَدَالَة الصَّحَابَة، نَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عَنهُ، ورده السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَقَالَ: الْمَنْقُول عَنهُ فِي " التَّقْرِيب " أَنه مَحْمُول على السماع. انْتهى.
قلت: يحْتَمل أَن لَهُ قَوْلَيْنِ، إِذا علم ذَلِك.
(5/2013)
 
 
فَقَالَ ابْن مُفْلِح: لما قَالَ أَبُو الْخطاب: إِنَّه مُحْتَمل، وَإنَّهُ ظَاهر قَول من نصر أَن الْمُرْسل لَيْسَ بِحجَّة فَظَاهره كمرسل لاحْتِمَال سَمَاعه من تَابِعِيّ.
وَالْأَشْهر يَنْبَنِي على عَدَالَة الصَّحَابَة لظُهُور سَمَاعه مِنْهُم. انْتهى.
وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: إِن قُلْنَا بعدالة جَمِيع الصَّحَابَة قبل وَإِلَّا فكمرسل.
وَتقدم حكم (عَن) و (أَن) والإسناد المعنعن وَالْخلاف فِي ذَلِك.
قَوْله: {أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَذَا، أَو نهى عَن كَذَا، أَو أمرنَا بِكَذَا، أَو نَهَانَا} عَن كَذَا، فَحكمه حكم، قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لكنه فِي الدّلَالَة دون ذَلِك لاحْتِمَال الْوَاسِطَة، واعتقاد مَا لَيْسَ بِأَمْر وَلَا نهي، أمرا أَو نهيا، لَكِن الظَّاهِر أَنه لم يُصَرح بِنَقْل الْأَمر إِلَّا بعد جزمه بِوُجُود حَقِيقَته.
وَمَعْرِفَة الْأَمر مستفادة من اللُّغَة، وهم أَهلهَا، فَلَا يخفى عَلَيْهِم، ثمَّ إِنَّهُم لم يكن بَينهم فِي صِيغَة الْأَمر وَنَحْوهَا خلاف، وخلافنا فِيهِ
(5/2014)
 
 
لَا يستلزمه، فعلى هَذَا يكون حجَّة، وَرجعت إِلَيْهِ الصَّحَابَة وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء.
وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين فِي ذَلِك، وَنقل عَن دَاوُد قَولَانِ.
وَمن خَالف فِي الَّتِي قبلهَا فَفِيهَا أولى.
قَوْله: {وأمرنا، أَو نهينَا، أَو رخص لنا، أَو حرم علينا وَنَحْوه} كأباح لنا، حجَّة عندنَا، وَعند الشَّافِعِي، وَالْأَكْثَر، وَنقل عَن أهل الحَدِيث؛ إِذْ مُرَاد الصَّحَابِيّ الِاحْتِجَاج بِهِ فَيحمل على صدوره مِمَّن يحْتَج
(5/2015)
 
 
بقوله وَهُوَ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، [وَأَنه] هُوَ الَّذِي أَمرهم، ونهاهم، وَرخّص، وَحرم عَلَيْهِم، تبليغا عَن الله تَعَالَى، وَإِن كَانَ يحْتَمل أَنه من بعض الْخُلَفَاء، لكنه بعيد فَإِن المشرع لذَلِك هُوَ صَاحب الشَّرْع.
وَخَالف الصَّيْرَفِي، والباقلاني، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، والكرخي: الحنفيين، والإسماعيلي، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَأكْثر مالكية بَغْدَاد، وَنَقله ابْن الْقطَّان عَن نَص الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد: لاحْتِمَال أَن الْآمِر غير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَذَلِكَ الناهي.
(5/2016)
 
 
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِن اقْترن بِهِ أَن الْأَمر على عَهده لم يتَوَجَّه الْخلاف.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يحْتَمل أَرَادَ أَمر الله بِنَاء على تَأْوِيل أَخطَأ فِيهِ فَيخرج إِذن على كَون مذْهبه حجَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر القَاضِي أَبُو الطّيب: أَن (رخص لنا) حجَّة بِلَا خلاف، وَهُوَ ظَاهر.
وَحكى ابْن السَّمْعَانِيّ قولا بِالْوَقْفِ، وَابْن الْأَثِير قولا إِن كَانَ من أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - فمرفوع؛ لِأَنَّهُ لم يتأمر عَلَيْهِ غَيره، وَإِلَّا فَلَا.
وَفِي " شرح الْإِلْمَام ": إِن كَانَ قَائِله من أكَابِر الصَّحَابَة، وَإِن كَانَ من غَيرهم فالاحتمال فِيهِ قوي.
(5/2017)
 
 
قَوْله: {وَمثله: من السّنة كَذَا} ، يَعْنِي: أَن قَوْله: من السّنة كَذَا مثل قَوْله: أمرنَا أَو نهينَا، فِيهَا من الْخلاف مَا فِي ذَلِك، وَأَن الصَّحِيح أَنه حجَّة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء.
وَكَذَا قَوْله: جرت السّنة، أَو مَضَت السّنة بِكَذَا: كَقَوْل عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: (من السّنة وضع الْكَفّ على الْكَفّ فِي الصَّلَاة تَحت السُّرَّة) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَول أنس: (من السّنة إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا) مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَاخْتِيَار الصَّيْرَفِي، والكرخي، والقشيري، وَأبي الْمَعَالِي أَن قَوْله: من السّنة، لَا يَقْتَضِي سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
(5/2018)
 
 
وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي عَن الْمُحَقِّقين، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هُوَ مُحْتَمل عِنْد الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد، وَكَونه مُحْتملا على سنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْقَدِيم.
وَنَقله غَيره حَتَّى قيل: إِنَّهَا من الْمسَائِل الَّتِي يُفْتِي فِيهَا بالقديم فِي الْأُصُول، لَكِن الْمَشْهُور عِنْدهم أَن هَذَا هُوَ الْجَدِيد.
وَقيل: مَوْقُوف، نَقله ابْن الصّلاح، وَالنَّوَوِيّ عَن أبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ.
قَوْله: قد يكون قَوْله: من السّنة، مُسْتَحبا، كَمَا فِي حَدِيث عَليّ، وَقد يكون وَاجِبا كَمَا فِي حَدِيث أنس، فَلَيْسَ فِي الصِّيغَة تعْيين حكم من وجوب أَو غَيره.
قَوْله: وَكُنَّا نَفْعل وَنَحْوه مثل قَوْله: كُنَّا نقُول أَو نرى على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكُنَّا نقُول على عَهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُنَّا نرى، أَيْضا، كل ذَلِك حجَّة، أطلقهُ
(5/2019)
 
 
أَبُو الْخطاب والموفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي، وَالْحَاكِم، والرازي، وَذكره أَبُو الطّيب ظَاهر مَذْهَبهم؛ لِأَنَّهُ فِي معرض الْحجَّة، فَالظَّاهِر بُلُوغه وَتَقْرِيره.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هُوَ حجَّة إِذا كَانَ من الْأُمُور الظَّاهِرَة الَّتِي لَا يخفى مثلهَا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. انْتهى.
وَتبع فِي ذَلِك الْمجد فِي " مسودته "، وَهُوَ تَوْجِيه احْتِمَال لِابْنِ مُفْلِح.
وَنَقله النَّوَوِيّ فِي أَوَائِل " شرح مُسلم " عَن جمَاعَة، مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق، وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيّ أَيْضا.
(5/2020)
 
 
وَخَالف الْحَنَفِيَّة فَلم يَقُولُوا هِيَ حجَّة.
وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ، وَابْن الصّلاح: هُوَ مَوْقُوف.
وَأطلق القَاضِي أَبُو يعلى فِي الْكِفَايَة احْتِمَالَيْنِ.
قَوْله: {فَائِدَة: لم يذكر} الأصوليون وَغَيرهم {أَنه حجَّة لتقرير الله تَعَالَى، وَذكره الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين محتجا {بقول جَابر} بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا -: {كُنَّا نعزل وَالْقُرْآن ينزل} لَو كَانَ شَيْء ينْهَى عَنهُ لنهانا عَنهُ الْقُرْآن مُتَّفق عَلَيْهِ.
(5/2021)
 
 
وَهُوَ ظَاهر الدّلَالَة.
فَائِدَة: لَو قَالَ الصَّحَابِيّ: نزلت هَذِه فِي كَذَا، هَل هُوَ من بَاب الرِّوَايَة أَو الِاجْتِهَاد؟
طَريقَة البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه " تَقْتَضِي أَنه من بَاب الْمَرْفُوع، وَأحمد فِي " الْمسند " لم يذكر مثل هَذَا. انْتهى.
قَوْله: {وَكَانُوا يَفْعَلُونَ حجَّة عندنَا، وَعند الْحَنَفِيَّة، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم الْآمِدِيّ، وَغَيره، وذكروه عَن الْأَكْثَر لقَوْل عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: (كَانُوا لَا يقطعون فِي الشَّيْء التافه) .
{وَخَالف قوم} مِنْهُم بعض الشَّافِعِيَّة، وَجزم بِهِ بعض متأخري أَصْحَابنَا.
(5/2022)
 
 
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": انْصَرف إِلَى فعل الْأَكْثَرين. وَلم يرتضه ابْن مُفْلِح.
وَنقل النَّوَوِيّ فِي مُقَدّمَة " مُسلم " عَن جُمْهُور الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء، والأصوليين: أَنه مَوْقُوف. ورد قَوْله فِي ذَلِك.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": إِن أضيف إِلَى عهد النُّبُوَّة دلّ على جَوَازه، أَو وُجُوبه على حسب مَفْهُوم لفظ الرَّاوِي؛ إِذا ذكره فِي معرض الِاحْتِجَاج يَقْتَضِي أَنه بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأقره عَلَيْهِ، وَإِلَّا لم يفد.
{وَقَالَ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب: إِجْمَاع أَو حجَّة} ؛ لِأَنَّهُ ظَاهر اللَّفْظ فِي معرض الْحجَّة، وَجَازَت مُخَالفَته؛ لِأَن طَرِيقه ظَنِّي كَخَبَر وَاحِد.
وَاقْتصر ابْن حمدَان فِي " مقنعه " على قَوْله: انْصَرف إِلَى فعل الْأَكْثَرين. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": ثمَّ قَوْله: " كَانُوا يَفْعَلُونَ " لَا يُفِيد الْإِجْمَاع عِنْد بعض الشَّافِعِيَّة مَا لم يُصَرح بِهِ عَن أَهله، وَهُوَ نقل لَهُ عِنْد
(5/2023)
 
 
أبي الْخطاب.
قَوْله: {وَسوى الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، والطوفي بَين (كَانُوا) و (كُنَّا) وَهُوَ مُتَّجه} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُتَّجه، وتبعته على ذَلِك، لَكِن هُوَ أنزل من قَوْله: (كُنَّا نَفْعل على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: واقتصار بعض أَصْحَابنَا على (كَانُوا) لَا يدل على التَّفْرِقَة.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: قَول غير الصَّحَابِيّ يرفعهُ أَو ينميه أَو يبلغ بِهِ أَو رِوَايَة كالمرفوع صَرِيحًا عِنْد الْعلمَاء} .
قَالَ ابْن الصّلاح: حكم ذَلِك عِنْد أهل الْعلم حكم الْمَرْفُوع صَرِيحًا،
(5/2024)
 
 
وَذَلِكَ كَقَوْل سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: " الشِّفَاء فِي ثَلَاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية بِنَار ". ثمَّ قَالَ: رفع الحَدِيث، رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وكحديث أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة يبلغ بِهِ قَالَ: (النَّاس تبع لقريش) ، وَغَيره كثير.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن أبي هُرَيْرَة رِوَايَة: " تقاتلون قوما ... " الحَدِيث.
(5/2025)
 
 
وروى مَالك عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد: " كَانَ النَّاس يؤمرون أَن يضع الرجل يَده الْيُمْنَى على ذراعه الْيُسْرَى فِي الصَّلَاة ".
قَالَ أَبُو حَازِم: لَا أعلم إِلَّا أَنه ينمي ذَلِك.
قَالَ مَالك [رفع] ذَلِك، هَذَا لفظ رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف.
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق القعْنبِي عَن مَالك فَقَالَ: ينمي ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَصرحَ بِرَفْعِهِ.
(5/2026)
 
 
قَوْله: {الثَّانِيَة: قَول التَّابِعِيّ: أمرنَا، أَو نهينَا، أَو من السّنة} ، كَقَوْل الصَّحَابِيّ ذَلِك عِنْد أَصْحَابنَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فِي " من السّنة " لكنه كالمرسل.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": وأصل ذَلِك الْمَرَاسِيل وفيهَا رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَو قَالَ تَابِعِيّ: من السّنة كَذَا، كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْمُرْسل، حجَّة على إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ الشَّيْخ: هما سَوَاء، وَإِن كَانَ قَول الصَّحَابِيّ أولى. انْتهى.
الكتاب: التحبير شرح التحرير في أصول الفقه
المؤلف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885هـ)
عدد ال