الفصول في الأصول 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الفصول في الأصول
المؤلف: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (المتوفى: 370هـ)
عدد الأجزاء:4
الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا عِلْمُنَا وَمَعْرِفَتُنَا، فَيَكُونُ قِيَاسُهُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِنَا.
وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا: بِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي» قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرَ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا، إذَا اتَّفَقَا عَلَى قَوْلٍ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ: عَلَى أَنَّهُمَا إذَا خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَلْزَمْ تَقْلِيدُهُمَا فَخَصَصْنَاهُ مِنْ اللَّفْظِ،، وَبَقِيَ حُكْمُهُ فِي لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا إذَا أَجْمَعَا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يُخَالِفْهُمَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمَا، وَإِذَا لَزِمَ تَقْلِيدُهُمَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا - لَزِمَ. تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا، وَأَحَدُ الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَيَدُلُّ أَيْضًا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِ هُدًى، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْهُدَى لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ.
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلِلْقِيَاسِ مَدْخَلٌ فِي إثْبَاتِهِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُجَّةً، لَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ مُخَالَفَتُهُ، كَمَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كَانَا حُجَّةً يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُمَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمَا.
فَقِيلَ لَهُ: بِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ مُخَالَفَةُ الْجَمَاعَةِ مَعَ كَوْنِ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً عَلَيْنَا. فَمَا أَنْكَرَتْ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُجَّةً، وَيَكُونُ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ حُجَّةً عَلَيْنَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ، فَأَجَابَ بِأَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لِلْجَمَاعَةِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ.
قَالَ: وَنَظِيرُ مَا قُلْنَا: أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَشِذَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَيُخَالِفُهُمْ بَعْدَ
(3/363)
 
 
مُوَافَقَتِهِ إيَّاهُمْ، فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ، وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَلَا يُنْقِضُهُ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَلَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ حُجَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ، فَلِذَلِكَ جَازَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخَالَفَتُهُ.
قَالَ: وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى تَقْلِيدِهِ وَاتِّبَاعِ قَوْلِهِ.
(أَلَا تَرَى: أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَصَبْت الْحَقَّ، أَوْ كَلَامًا نَحْوَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ، وَلَكِنْ لَمْ آلُ عَنْ الْحَقِّ) وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فِي قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا (فِي الْجَدِّ) : لَيْسَ رَأْيِي حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ، فِي نَفْيِ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمْ.
فَإِذَا لَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ عَلَى النَّاسِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ: أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ إنَّمَا مَنَعَتْ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فَأَخْبَرُوا: أَنَّهُمْ لَا يَلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يُقَلِّدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فِيهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ دُونَ التَّقْلِيدِ.
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَرَى قَبُولَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، (لَازِمًا) فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ، وَالِاجْتِهَادِ.
وَيُعْزِي ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا، وَيَذْكُرُ مَسَائِلَ قَالُوا فِيهَا بِتَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ وَلُزُومِ قَبُولِ قَوْلِهِ، نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ (إذَا قَعَدَ الرَّجُلُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ) وَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ: أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ (وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَغَيْرِهِ (فِي أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا) ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ
(3/364)
 
 
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِمِقْدَارِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ) .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ وَكَانَ طَرِيقُهُ التَّوْقِيفَ أَوْ الِاتِّفَاقَ، ثُمَّ وَجَدْنَا الصَّحَابِيَّ قَدْ قَطَعَ بِذَلِكَ وَأَثْبَتَهُ، دَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ: عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَوْقِيفًا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ تَخْمِينًا وَتَظَنُّنًا، فَصَارَ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ إنَّمَا يَلْزَمُ قَبُولُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْوَاحِدِ فِيهِ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ تَوْقِيفًا.
قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى إثْبَاتِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالرَّأْيِ وَأَنَّ طَرِيقَهُ التَّوْقِيفُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، لَيْسَ عَلَى جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ (بَيْنَ) قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، فَيَكُونُ مَوْكُولًا إلَى الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأٌ، كَمَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ، الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَمَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ، وَمِقْدَارِ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ، لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ تَوْقِيفٌ، كَذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ تُثْبِتُونَ أَنْتُمْ مَقَادِيرَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ: ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَقَالَ فِي الْغُلَامُ
(3/365)
 
 
إذَا لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهُ مَا لَمْ تَمْضِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَلَا تَوْقِيفَ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ (شَيْءٍ مِنْ) هَذِهِ الْمَقَادِيرِ، وَلَا اتِّفَاقَ، فَأَثْبَتُوهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ.
وَإِذَا كَانَ الرَّأْيُ وَالِاجْتِهَادُ يَدْخُلُ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ، لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ قَالَتْ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَنْهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ. فَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَوْقِيفٌ.
قِيلَ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لَا عَلَى، جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي قَدْ عُلِمَ، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي قَدْ عُرِفَ، أَوْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَوَكَّلَ حُكْمَ الْوَاسِطَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا إلَى آرَائِنَا وَمَا يُؤَدِّينَا إلَيْهِ اجْتِهَادُنَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
أَلَا تَرَى: أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاجْتِهَادَ لَا يُوجِبَانِ حَدَّ الزِّنَا (مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وَلَا حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ، وَلَا يَدُلَّانِ عَلَى مَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَلَا عَلَى مَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، لِأَنَّهَا كُلُّهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأَةٌ. كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي حَكَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
(3/366)
 
 
[بَابٌ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَذَمِّ التَّقْلِيدِ]
ِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَإِثْبَاتِ حُجَجِ الْعُقُولِ.
فَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: النَّظَرُ وَاجِبٌ، وَحُجَجُ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ، تُعْرَفُ بِهَا صِحَّةُ الْمَذَاهِبِ مِنْ فَاسِدِهَا.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ: لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي تَصْحِيحِ شَيْءٍ وَلَا إفْسَادِهِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ صِحَّةُ الْمَذَاهِبِ وَفَسَادُهَا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ، وَمَشْهُورٌ عَنْ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بَلْ عَلَى الْعُقُولِ. وَمَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِ: أَنَّ حُجَّةَ الْعُقُولِ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْقَائِلُونَ بِنَفْيِ حُجَجِ الْعُقُولِ إنَّمَا يَنْفُونَهَا بِالْقَوْلِ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْعُقُولِ فِي إثْبَاتِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أَوْ فِي نَفْيِهَا وَالْحِجَاجُ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ صُورَتُهُ فِي عُقُولِ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ، إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَامِضٌ خَفِيٌّ.
فَالْجَلِيُّ مِنْهُ: لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ الشَّكُّ فِيهِ، وَلَا إيرَادُ شُبْهَةٍ عَلَى نَفْسِهِ فِي نَفْيِهِ.
(3/369)
 
 
وَالْخَفِيُّ مِنْهَا: قَدْ يَعْرِضُ فِيهِ شُبْهَةٌ يَتْبَعُهَا النَّاظِرُ، فَيَذْهَبُ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ، وَأَكْثَرُ مَا يَعْرِضُ هَذَا لِمَنْ نَظَرَ فِي الْفُرُوعِ قَبْلَ إحْكَامِ الْأُصُولِ، أَوْ لَا يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ.
أَلَا تَرَى: أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ وَلَا تَعْرِضُ لَهُ شُبْهَةٌ: فِي أَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا يَخْلُوَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَا فَاسِدَيْنِ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَحِيحًا وَالْآخَرُ فَاسِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِقَادُ لِصِحَّتِهِمَا جَمِيعًا، كَنَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ (فِي هَذِهِ السَّاعَةِ) .
وَقَالَ آخَرُ: لَيْسَ هُوَ فِي هَذِهِ الدَّارِ (فِي هَذِهِ السَّاعَةِ) إنَّهُمَا جَمِيعًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صَادِقَيْنِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا كَاذِبَيْنِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَادِقًا وَالْآخَرُ كَاذِبًا، وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ طَرِيقُهُ الْعَقْلُ.
وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ لَا يَشْتَرِكُونَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْخَبَرِ وَاقِعٌ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَمَنْ نَفَى هَذَا فَهُوَ كَنَافِي عُلُومِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَاتِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ مَا يَدُقُّ وَيَلْطُفُ، فَيَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّأَمُّلِ. كَالشَّخْصِ إذَا رَأَيْنَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَكَالْهِلَالِ إذَا طَلَبْنَاهُ، فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ، وَرُبَّمَا كَانَ إدْرَاكُهُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيقِ الشَّدِيدِ، وَكَذَلِكَ عُلُومُ الْعَقْلِ: فِيهَا جَلِيٌّ، وَفِيهَا خَفِيٌّ.
وَيُبَيَّنُ بِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا: أَنَّ الْعِلْمَ يُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ، كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَاتِ، وَكَالْعِلْمِ يُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادَاتِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَقْلِ حَظٌّ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَبِيلُ إدْرَاكِهَا الْعَقْلُ (لَكَانَ الْإِنْسَانُ وَالْبَهِيمَةُ) بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ إلَّا مَا تَعْلَمُهُ الْبَهِيمَةُ إذَا كَانَتْ عُلُومُهُ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تُؤَدِّيهِ إلَيْهِ حَوَاسُّهُ.
وَتَبَيَّنَ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ حُجَجِ الْعُقُولِ ضَرُورَةٌ إذْ كُلُّ مَنْ نَفَاهَا فَإِنَّمَا يَنْفِيهَا بِحُجَجِ
(3/370)
 
 
الْعُقُولِ، وَبِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَيَحْتَجُّ لِصِحَّةِ التَّقْلِيدِ بِالْعُقُولِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ لِلتَّقْلِيدِ بِالتَّقْلِيدِ نَفْسِهِ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةً لِنَفْسِهَا، فَإِنَّمَا يَفْزَعُ إلَى مَعْنًى غَيْرِ التَّقْلِيدِ، فَيَقُولُ: إنَّ (النَّظَرَ بِدْعَةٌ، وَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الْحِيرَةِ، وَإِلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، فَقَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ الْمُقَلِّدَ وَالنَّافِي لِلنَّظَرِ إنَّمَا يُثْبِتُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْفِيهِ، كَمَا أَنَّ النَّافِيَ لِعُلُومِ الْحِسِّ إنَّمَا يَرُومُ نَفْيَهَا بِحِجَاجٍ وَنَظَرٍ هُوَ دُونَ عُلُومِ الْحِسِّ فِي مَنْزِلَةِ الثَّبَاتِ وَالْوُضُوحِ، فَيَقُولُ: إنَّمَا أَبْطَلَتْ عِلْمَ الْحِسِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي النَّوْمِ مَا (لَا) يَشُكُّ فِي حَقِيقَتِهِ وَصِحَّتِهِ، كَرُؤْيَتِهِ لِمَا يَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ، ثُمَّ لَا يَجِدُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ لَهُ حَقِيقَةً، وَكَمَا يَرَى الْإِنْسَانُ السَّرَابَ، فَلَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مَاءٌ، ثُمَّ إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وَكَالْمَرِيضِ يَجِدُ الْعَسَلَ مُرًّا، فَلَمْ آمَنْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَحْسُوسَاتِ، فَيَرُومُ إبْطَالَ (عُلُومِ) الْحِسِّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
كَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ: إنَّمَا يَفْزَعُ فِي إثْبَاتِ التَّقْلِيدِ وَإِبْطَالِ النَّظَرِ، إلَى النَّظَرِ وَالْحِجَاجِ، فَيُنَاقِضُ فِي مَذْهَبِهِ، وَيَهْدِمُ مَقَالَتَهُ بِحِجَاجِهِ.
وَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِالتَّقْلِيدِ وَالنَّافِي لِحُجَجِ الْعُقُولِ: أَثْبَتَ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ بِحُجَّةٍ، فَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، فَقَدْ حَكَمَ عَلَى مَذْهَبِهِ بِالْفَسَادِ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي إثْبَاتِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " حَدُّ الْبُلُوغِ " فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَا يَكُونُ بَالِغًا، وَقَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً يَكُونُ بَالِغًا، فَهَذَانِ الطَّرَفَانِ قَدْ عَلِمْنَا حُكْمَهُمَا يَقِينًا، وَوَكَّلَ حُكْمَ مَا بَيْنَهُمَا فِي إثْبَاتِ حَدِّ الْبُلُوغِ إلَى اجْتِهَادِنَا، إذَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ إجْمَاعٌ، فَأَوْجَبَ عِنْدَهُ اجْتِهَادُهُ: أَنْ يَكُونَ حَدُّ الْبُلُوغِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ قَوْلِهِ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْغُلَامِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ إنَّهُ (قَدْ) ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا
(3/371)
 
 
وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فَذَكَرَ هَاهُنَا حَالًا لَا يُنْتَظَرُ فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] فَمَنَعَ إمْسَاكَ مَالِ الْيَتِيمِ بَعْدَ بُلُوغِ رُشْدِهِ، فَكَانَ هَذَانِ الطَّرَفَانِ اللَّذَانِ هُمَا: حَالُ الصَّغِيرِ، وَحَالُ بُلُوغِ الرُّشْدِ (مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا، وَوَكَّلَ حَدَّ بُلُوغِ الرُّشْدِ) إلَى اجْتِهَادِنَا. فَكَانَ عِنْدَهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ، لِأَنَّ مِثْلَهُ (يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ) جَدًّا. وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ أَشُدَّهُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ، وَلِوَلَدِهِ وَلَدٌ، فَكَذَلِكَ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ (وَ) فَارَقَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي مُدَّةِ نَفْيِ الْوَلَدِ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ سُكُوتَهُ سَاعَةً وَسَاعَتَيْنِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَفْيِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، وَاعْتَبَرَ مُدَّةَ النِّفَاسِ الَّذِي هُوَ حَالُ الْوِلَادَةِ، وَهَذَا مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا نَظِيرُ الِاجْتِهَادِ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، فَيَثْبُتُ مَقَادِيرُ الْقِيَمِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ لِمَا يَبْتَاعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ الْأَثْمَانِ، أَوْ مَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ النَّقْصِ بِالْجِرَاحَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ فِي شَيْءٍ.
وَإِنْ قَالَ: أَثْبَتَهُ بِحُجَّةٍ.
قِيلَ لَهُ: فَمَا تِلْكَ الْحُجَّةُ؟ فَإِنْ ادَّعَى نَصًّا، أَوْ اتِّفَاقًا، فَلَمْ يَجِدْهُ، وَإِنْ فَزِعَ إلَى التَّقْلِيدِ، وَقَالَ: حُجَّتِي فِي إثْبَاتِهِ هُوَ التَّقْلِيدُ نَفْسُهُ، فَقَدْ أَبْطَلَ، لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً
(3/372)
 
 
لِنَفْسِهَا، وَهُوَ إنَّمَا (يَسْأَلُ عَنْ) التَّقْلِيدِ لِمَ قُلْت: إنَّهُ حُجَّةٌ.
فَإِنْ قَالَ: هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْك فِي قَوْلِك بِحُجَجِ الْقَوْلِ، لِأَنَّا نَقُولُ لَك: أَثْبِتْ حُجَّةَ الْعَقْلِ بِالْعَقْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ.
فَإِنْ قُلْت: أُثْبِتُهَا بِغَيْرِ الْعَقْلِ، قُلْنَا لَك: فَأَظْهِرْهُ.
وَإِنْ قُلْت: أُثْبِتُهَا بِالْعَقْلِ، فَفِي هَذَا نُوزِعْت، وَإِنَّمَا جَعَلْت الْمَسْأَلَةَ دَلِيلًا لِنَفْسِهَا.
قِيلَ لَهُ: أَوَّلُ مَا فِي هَذَا: أَنَّ اعْتِرَاضَك بِهِ احْتِجَاجٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَمُنَاظَرَةٌ مِنْك فِي إفْسَادِ الْمَذْهَبِ، وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتٌ مِنْك لِحُجَّةِ الْعَقْلِ، فَأَنْتَ مِنْ حَيْثُ أَرَدْت نَفْيَهَا أَثْبَتّهَا، وَنَاقَضْت فِي قَوْلِك، عَلَى أَنَّا نُجِيبُك إلَى سُؤَالِك، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا لَك بِحَقِّ النَّظَرِ. فَنَقُولُ: إنَّا أَثْبَتْنَا دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ: ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا يَرْتَابُ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ. وَمِنْهُ غَامِضٌ خَفِيٌّ، فَوَصَلْنَا إلَى عِلْمِ الْخَفِيِّ مِنْهُ بِالْجَلِيِّ، وَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ الْخَفِيِّ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُولِ إلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ، وَعَرَضَهُ عَلَى الْجَلِيِّ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ.
فَمَا صَحَّحَهُ صَحَّ، وَمَا نَفَاهُ انْتَفَى، كَمَا نَقُولُ فِي الْمَحْسُوبَاتِ: إنَّا أَثْبَتْنَا عُلُومَهَا بِالْحِسِّ، وَإِنْ احْتَجْنَا فِي الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِ آلَةِ الْحِسِّ.
أَلَا تَرَى: أَنَّ مَنْ بَيْنِ يَدَيْهِ طَعَامٌ، لَا يَدْرِي حُلْوٌ هُوَ أَمْ حَامِضٌ: أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِوُجُودِ آلَةِ الْحِسِّ فِيهِ دُونَ ذَوْقِهِ، حَتَّى يَعْرِفَ طَعْمَهُ. كَذَلِكَ الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ: مِنْهَا مَا هُوَ جَلِيٌّ، يُعْتَبَرُ بِهِ الْخَفِيُّ مِنْهُ، وَيُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ.
وَيُقَالُ لَهُ فِي النَّظَرِ وَمُوجِبِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ: خَبَرُنَا عَنْ قَوْلِك بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ، هُوَ مَذْهَبٌ قَدْ عَلِمْت صِحَّتَهُ، أَوْ لَمْ تَعْلَمْهَا.
فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ صِحَّتَهُ، فَقَدْ قَضَى عَلَى اعْتِقَادِهِ بِالْفَسَادِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجُوزُ لَهُ
(3/373)
 
 
اعْتِقَادُ صِحَّةِ (شَيْءٍ) وَلَا يَدْرِي هَلْ صَحِيحٌ أَمْ فَاسِدٌ.
وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت صِحَّتَهُ.
قِيلَ لَهُ: فَعَلِمْته بِدَلِيلٍ أَمْ بِلَا دَلِيلٍ؟ فَإِنْ قَالَ: عَلِمْته بِلَا دَلِيلٍ.
قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ عَلِمْت صِحَّتَهُ؟ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْته بِدَلِيلٍ.
قِيلَ لَهُ: فَقَدْ تَرَكْت التَّقْلِيدَ وَلَجَأْت إلَى النَّظَرِ، فَهَلَّا نَظَرْت فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدْت فِيهِ غَيْرَك فَاسْتَدْلَلْت عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ؟ وَقَدْ اسْتَغْنَيْت عَنْ التَّقْلِيدِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، كَمَا أَثْبَتَّ التَّقْلِيدَ ضَرُورَةً، فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُضْطَرَّ إلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إثْبَاتُهُ، وَلِخَصْمِهِ مَعَ ذَلِكَ: أَنْ يُعَارِضَهُ فَيَدَّعِيَ عِلْمَ الضَّرُورَةِ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ، وَوُجُوبِ النَّظَرِ، وَعَلَى أَنَّ مَا كَانَ الْعِلْمُ بِهِ ضَرُورَةً، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ فِي وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ إذَا تَسَاوَوْا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ.
وَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِالتَّقْلِيدِ: قَدْ وَجَدْنَا الْقَائِلِينَ بِالتَّقْلِيدِ مُخْتَلِفِي الْمَذَاهِبِ، مُتَضَادِّي الِاعْتِقَادَاتِ عَلَى حَسَبِ تَقْلِيدِهِمْ لِمَنْ اتَّبَعُوهُ. فَأَيُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَضَادَّةِ الصَّحِيحُ؟ وَأَيُّهَا الْفَاسِدُ؟ إذْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا كُلُّهَا فِي الصِّحَّةِ.
فَإِنْ قَالَ: مَذْهَبِي هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْلَى بِأَنْ يُقَلَّدَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَذْهَبِي صَحِيحًا، وَمَذْهَبُ غَيْرِي فَاسِدًا.
قِيلَ لَهُ: وَلِمَ صَارَ مَنْ قَلَّدْته مَذْهَبُك أَوْلَى بِأَنْ يُقَلَّدَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَلَّدَهُ خَصْمُك؟ .
فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْرَعُ وَأَزْهَدُ، وَأَظْهَرُ صَلَاحًا.
قِيلَ لَهُ: فَتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ وَاعْتِقَادَ الْبَاطِلِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ قَدْ أَمِنْت جَوَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَدْ حَكَمَ لَهُ بِصِحَّةِ غَيْبِهِ، وَأَنَّ بَاطِنَهُ كَظَاهِرِهِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ لِأَحَدٍ، إلَّا لِمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَإِنْ قَالَ: يَجُوزُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ الضَّلَالِ، وَاخْتِيَارُ الْخَطَأِ، وَالْعُدُولُ عَنْ الصَّوَابِ.
قِيلَ لَهُ: فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَسْت تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ مُبْطِلًا فِي تَقْلِيدِك إيَّاهُ، وَاعْتِقَادِك مَذْهَبَهُ، فَلَسْتَ إذًا عَلَى عِلْمٍ مِنْ صِحَّةِ قَوْلِك وَبُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى
(3/374)
 
 
عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] . وَأَيْضًا: فَإِنَّك إذَا قَلَّدْت مَنْ لَا تَعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ، فَقَدْ جَعَلْت مَنْزِلَتَهُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْلَى بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْخَطَأِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا بَعْدَ إظْهَارِ الْأَعْلَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَجَعَلَهَا حُجَّةً عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ، فَكَانَ عَلَيْك فِي هَذَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّك جَعَلْت مَنْزِلَةَ مَنْ قَلَّدْته بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يَجِبْ اتِّبَاعُهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ - فَمَنْ دُونَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَك صِحَّةَ حُجَجِ الْعُقُولِ: أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ فَهُوَ يَجِدُ نَفْسَهُ يَفْزَعُ إلَى النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُ، مَعْرِفَتِهِ الْحِسَّ وَالْخَبَرَ، كَمَا يَجِدُهَا تَفْزَعُ إلَى الْحَوَاسِّ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِسُّ، وَإِلَى الِاسْتِخْبَارِ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْخَبَرُ. فَلَوْلَا أَنَّ النَّظَرَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى عُلُومٍ عَقْلِيَّةٍ - لَمَا كَانَتْ تَفْزَعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا لَا تَفْزَعُ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الذَّوْقَ إلَى الشَّمِّ، وَلَا فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمَاعُ إلَى الذَّوْقِ، وَإِنَّمَا تَفْزَعُ فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ الطُّعُومِ إلَى الذَّوْقِ، وَفِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْأَلْوَانِ إلَى الْبَصَرِ، وَفِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمْعُ إلَى الِاسْتِمَاعِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ: أَنَّ النَّظَرَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ، كَالْحِسِّ، قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِيَارًا وَسَبَبًا إلَى الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ أُمُورٍ بِهِ تُدْرَكُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُقَلَاءِ، لَا يَخْلُو مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، حَتَّى الْعَامِّيُّ الْغُفْلُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ طَلَبُ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ، يَفْزَعُ إلَى النَّظَرِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ، كَمَا يَفْزَعُ إلَى الْحِسِّ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِسُّ، وَإِلَى الْخَبَرِ فِيمَا (طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ) الْخَبَرُ.
(3/375)
 
 
وَالنَّافِي لِلنَّظَرِ وَحُجَجِ الْعُقُولِ، كَالنَّافِي لِعُلُومِ وَصِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ.
لَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: (قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ، كَمَا جَعَلَ فِي طِبَاعِهِمْ الْحَوَاسَّ وَسَمَاعَ الْأَخْبَارِ) .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْحُمْقِ: إنَّمَا قُلْت بِالتَّقْلِيدِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، لِأَنَّهُمْ أَمَرُونَا بِالِاتِّبَاعِ، وَنَهَوْنَا عَنْ الِابْتِدَاعِ وَاتِّبَاعِ الرَّأْيِ.
قِيلَ لَهُ: أَوَّلُ مَا فِي هَذَا، أَنَّهُ تَخَرُّصٌ عَلَى السَّلَفِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَعْمَلُوا النَّظَرَ وَالرَّأْيَ فِي حَوَادِثِ أُمُورِهِمْ، وَلَا يَجْهَلُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ، وَأَحْسَبُ: أَنَّا قَدْ سَلِمْنَا لَك مَا ادَّعَيْته عَلَى السَّلَفِ. فَخَبِّرْنَا مِنْ أَيْنَ ثَبَتَ عِنْدَك لُزُومُ تَقْلِيدِ السَّلَفِ فِيمَا ذَكَرْت؟
فَإِنْ قَالَ: لِأَنِّي قَدْ عَلِمْت: أَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى خَطَأٍ. قِيلَ: وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ عِنْدَك صِحَّةُ الْكِتَابِ (وَالسُّنَّةِ) ؟ فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى إثْبَاتِ النَّظَرِ وَحُجَجِ الْعُقُولِ، لِأَنَّ بِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّاتُ بِالدَّلِيلِ، وَالْأَعْلَامُ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَهُوَ لَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ بِتَقْلِيدِ السَّلَفِ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ، فَهُوَ مِمَّا اتَّبَعَ الدَّلَائِلَ، وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتُ النَّظَرِ وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ عَلَى صِحَّتِهِ دَلَالَةٌ.
وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا فِي الْعُقُولِ مِنْ نَفْيِ التَّقْلِيدِ وَإِثْبَاتِ (النَّظَرِ) ، بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ: {فَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ، وَالِاعْتِبَارُ هُوَ: النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ.
وَقَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
(3/376)
 
 
الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء: 24] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24] وَأَمَرَ إبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُحَاجَّةِ الْكَافِرِ حَتَّى بُهِتَ الْكَافِرُ وَانْقَطَعَ، وَأَخْبَرَ عَنْ اسْتِدْلَالِ إبْرَاهِيمَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76] إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ} [الروم: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191] . وَاحْتَجَّ فِي إبْطَالِ قَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ وَالْمَجُوس بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] .
(3/377)
 
 
وَاحْتَجَّ عَلَى أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ بِقَوْلِهِ: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] إلَى قَوْله تَعَالَى {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] فَأَدْحَضَ مَقَالَتَهُمْ، وَأَبَانَ عَنْ فَسَادِهَا بِأَنَّ هَذَا (لَوْ كَانَ) مِنْ طَبْعِ التُّرْبَةِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ - لَجَاءَتْ الطُّعُومُ مُتَسَاوِيَةً مُتَّفِقَةً، وَلَمْ يَتْرُكْ لِمُلْحِدٍ تَأَمَّلَهُ شُبْهَةً، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فَدَلَّهُمْ بِخَلْقِهَا ابْتِدَاءً، عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى إعَادَتِهَا بَعْدَ إفْنَائِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] فَحَثَّهُمْ عَلَى النَّظَرِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ، مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَلَوْ كَانَ الدِّينُ بِالتَّقْلِيدِ لَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَمَوَاضِعُ الْفِكْرِ.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ: مِنْ الْآيِ، الَّتِي فِيهَا الْحِجَاجُ، وَالنَّظَرُ، وَالْأَمْرُ بِالِاعْتِبَارِ، وَالْفِكْرِ. كَثِيرَةٌ يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا، وَإِلَى هَذَا دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى أَنْ قُبِضَ. وَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ، قَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ ذَلِكَ، خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، نَقْلًا مُتَوَاتِرًا مُتَّصِلًا، كَمَا نَقَلُوا دُعَاءَهُ إيَّاهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ. وَإِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلُوا مَعَهُ دُعَاءَهُ إيَّاهُمْ إلَى الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ. فَمَنْ أَنْكَرَ حُجَجَ الْعُقُولِ وَدَلَائِلَهَا، فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى اللَّهِ
(3/378)
 
 
تَعَالَى، أَوْ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْرَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَنَا) بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، كَانَ أَمْرُهُ بِهِ مَقْرُونًا بِالْأَمْرِ (بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ) عَلَى التَّوْحِيدِ، وَعَلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أَمْرَهُ إيَّانَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَجْسَامِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ، لَمْ يَحْدُثْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَائِلُ لَمْ تَكُنْ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهَا قَبْلَ أَمْرِهِ إيَّانَا بِالنَّظَرِ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا، فَعَلِمْنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ خَلَقَهَا فَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْعُقَلَاءِ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا.
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَجَاءَتْ الْأَنْبِيَاءُ تَدْعُو إلَى تَرْكِ التَّقْلِيدِ، وَإِلَى النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] فَحَكَمَ بِضَلَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَرْجِعُوا فِي مَذَاهِبِهِمْ إلَى حُجَّةٍ تُصَحِّحُهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ الْمُقَلِّدِ.
وَذَمَّ مَنْ احْتَجَّ بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] وَجَعَلَ اللَّهُ تَارِكِي النَّظَرِ بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ، وَبِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ. فَقَالَ تَعَالَى: {إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ، وَصَيَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ، مِثْلُ الْبَهِيمَةِ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ
(3/379)
 
 
مَا خُوطِبَ بِهِ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحْوِجْ إلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَغْنَانَا عَنْهَا بِالسَّمْعِ، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِحُجَجِ الْعُقُولِ وَدَلَائِلِهَا، وَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَكْذِيبِ مُسَيْلِمَةَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ وَالنَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَلَا يَتَأَتَّى فِعْلُهُ لِمَخْلُوقٍ، وَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ مُسَيْلِمَةُ مَخَارِيقَ وَحِيَلَ لَا تَعُوزُ أَحَدًا صَرْفُ هِمَّتِهِ إلَيْهِ إلَّا فَعَلَ مِثْلَهُ وَأَضْعَافَهُ.
وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ يُضَاهِي قَوْلَ دَاوُد فِي قَوْلِهِ: إنِّي عَرَفْت اللَّهَ بِالْخَبَرِ. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مُقِرٌّ: أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى، لِزَعْمِهِ أَنَّ الْعَقْلَ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَا عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إلَى عِلْمِ ذَلِكَ، إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَلَا وُصُولَ إلَى عِلْمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ إلَّا بِالْعَقْلِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذِبِ الْمُتَنَبِّي. وَعَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْرِفَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُرْسِلَ، وَيَعْلَمَ النَّبِيَّ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنِّي عَرَفْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَبَرِ، لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ خِذْلَانٍ لَيْسَ وَرَاءَهُ غَايَةٌ، وَمِنْ جَهَالَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا نِهَايَةٌ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَعْرِفُ دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِانْضِمَامِ الْخَبَرِ إلَيْهَا، وَمَتَى لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا الْخَبَرُ لَمْ تَكُنْ الْعُقُولُ مُفْضِيَةً إلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ادَّعَيْت أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِدَلَائِل الْعَقْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا صَحِيحًا، أَوْ فَاسِدًا، أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ، لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَلَا فَسَادُهُ، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَاسِدًا أَوْ كَاذِبًا، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجِبَ الْعِلْمَ (بِمُخْبِرِهِ لِأَنَّ مُخْبِرَهُ كَذَبَ، وَالْخَبَرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ أَيْضًا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ) ، لِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ لَمْ
(3/380)
 
 
يَكُنْ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ (لَا) يَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ خَبَرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُ خَبَرِهِ، إذَا لَمْ تُرَاعَ صِحَّتُهُ فِي انْضِمَامِهِ إلَى دَلَائِلِ الْعُقُولِ. وَإِنْ كَانَ شَرْطُ ذَلِكَ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَصِدْقًا، فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ فَسَادِهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، فَيَحْتَاجُ أَوَّلًا أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، فَقَدْ أُوجِبَ اسْتِعْمَالُ دَلَالَةِ الْعَقْلِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ، وَقَدْ اسْتَغْنَى الْعَقْلُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَدْلُولِهِ عَنْ خَبَرٍ يُضَادُّهُ، فَتَنَاقَضَ قَوْلُك، وَظَهَرَ تَجَاهُلُك.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ فِي الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، عَلَى مَا كَلَّفَنَا الْعِلْمُ بِهِ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ انْضِمَامِ خَبَرٍ إلَيْهِ.
وَإِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ قَبْلَ أَنْ جَاءَهُ الْوَحْيُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] إلَى قَوْله تَعَالَى: {إنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79] ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ سَبِيلُ كُلِّ مُكَلَّفٍ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] إلَى قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَسْت أَقُولُ: إنَّ الْخَبَرَ وَالْعَقْلَ مَعًا يُحْدِثَانِ لِي الْعِلْمَ بِمُوجِبَاتِ أَحْكَامِ الْعُقُولِ عِنْدَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَلَكِنِّي أَقُولُ: إنَّ الْخَبَرَ يُنَبِّهُ عَلَى النَّظَرِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ دَلَائِلِ الْعَقْلِ، وَلَوْلَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ لِي سَبِيلٌ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا.
قِيلَ لَهُ: فَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّنَبُّهُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، شَرْطُهُ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ صِدْقُهُ مَعْلُومًا، أَوْ جَائِزًا، لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَصِدْقُهُ. وَأَيُّ خَبَرٍ كَانَ وَقَعَ بِهِ التَّنَبُّهُ،
(3/381)
 
 
وَإِنْ كَانَ شَرِيطَةُ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ (مَعْلُومًا صِحَّتُهُ) عِنْدَك، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُك أَنْ تَعْلَمَ صِدْقَهُ إلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَادَ عَلَيْك الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَلَى مَنْ قَالَ: إنِّي لَا أَعْلَمُ التَّوْحِيدَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَإِنْ جَازَ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّنْبِيهُ، خَبَرَ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ، لِوُجُودِ التَّنْبِيهِ فِي الْحَالَيْنِ، فَلَيْسَ يُفِيدُك الْخَبَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، إلَّا مَا يُفِيدُك الْخَوَاطِرُ الْمُنَبِّهَةُ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، فَقَدْ اسْتَغْنَى بِالْخَوَاطِرِ عَنْ الْخَبَرِ، إذْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْلُو مِنْهُ، لِمَا يُرَى مِنْ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَا يُشَاهِدُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا صُنْعَ لَهُ فِيهَا، وَمَنْ لَمْ تُزْعِجْهُ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ وَلَمْ تَبْعَثْهُ عَلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، فَخَبَرُ الْمُخْبِرِ لَهُ بِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ. فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ وُجُودُ الْمُخْبِرِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ: أَنَّ الْعُلُومَ إلْهَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ لَا يُوَصِّلَانِ إلَى عِلْمٍ يَرِدُ، لِنَصِّ الْآيِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلَ بِهِ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَقُولُ: قَدْ أُلْهِمْت الْعِلْمَ بِإِبْطَالِ الْإِلْهَامِ.
وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: مِنْ أَيْنَ حَكَمَ بِأَنَّ مَا سَبَقْت إلَى اعْتِقَادِهِ هُوَ عِلْمٌ حَتَّى قَضَيْت بِأَنَّهُ إلْهَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ظَنًّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهَلَّا يُمْكِنُك الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ ضِدَّ مَقَالَتِك، وَيَدَّعِي أَنَّهُ إلْهَامٌ؟
فَإِنْ ادَّعَى دَلَالَةً أَوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ - فَقَدْ تَرَكَ الْقَوْلَ بِالْإِلْهَامِ، وَرَجَعَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ. وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ - فَهُوَ وَخَصْمُهُ فِي الدَّعْوَى سَوَاءٌ. وَإِلَى ذَلِكَ يَئُولُ عَاقِبَةُ مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/382)
 
 
[بَابٌ الْقَوْلُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ]
بَابٌ
الْقَوْلُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّافِي وَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ نَفْيِهِ لِمَا نَفَاهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَا فِي السَّمْعِيَّاتِ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ عَلَى الْمُثْبِتِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا نَفَاهُ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: عَلَى كُلِّ مَنْ نَفَى شَيْئًا وَأَثْبَتَهُ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ، وَعَلَى إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ، وَذَلِكَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ سَوَاءٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا، فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُثْبِتٌ لِوُجُودِ اعْتِقَادِ (صِحَّةِ ذَلِكَ) . فَاقْتَضَى أَصْلُهُ وُجُوبَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ فِي إسْقَاطِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي - فَهُوَ مِنْ حَيْثُ يَرُومُ إسْقَاطَ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي، فَقَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ لِذَلِكَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ، قَدْ قَضَى لِخَصْمِهِ بِإِسْقَاطِ الدَّلَائِلِ عَنْهُ فِي نَفْيِ قَوْلِهِ، لِأَنَّ خَصْمَهُ نَافٍ لِصِحَّةِ مَقَالَتِهِ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ إذًا فِي نَفْيِهِ مَقَالَتَهُ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَا دَلَالَةَ أَيْضًا عَلَى الْقَائِلِ: بِأَنَّ النَّفْيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَيُوجِبُ هَذَا تَنَاقُضَ الْقَوْلَيْنِ،
(3/385)
 
 
لِأَنَّهُ حَكَمَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ (فِي نَفْيِهِ) لِمَا نَفَاهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى خَصْمِهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ.
وَيُقَالُ لِقَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ: إذَا نَفَيْت حُكْمًا خُولِفْت فِي نَفْيِهِ، وَزَعَمْت أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْك فَهَلْ عَلِمْت صِحَّةَ مَا نَفَيْته؟ فَإِنْ قَالَ: قَدْ عَلِمْت (أَنَّ) مَا نَفَيْته فَهُوَ مُنْتَفٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
قِيلَ لَهُ: بِمَ عَلِمْته وَخَصْمُك بِإِزَائِك يُخَالِفُك فِيهِ، وَمَنْ ادَّعَى عِلْمَ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بُرْهَانٍ.
فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ حَقًّا.
قِيلَ لَهُ: فَلِمَ اعْتَقَدْته مَنْفِيًّا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، وَأَنْتَ لَا تَدْرِي أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَإِنْ جَازَ لَك أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّةَ مَا لَا تَعْلَمُهُ حَقًّا وَصَوَابًا إذَا كُنْت نَافِيًا، وَلَا تُلْزِمُ نَفْسَك إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُثْبِتَ مَا لَا تَعْلَمُهُ ثَابِتًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ؟ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَتْهُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ حَقًّا، كَانَ لَا دَلِيلَ عَلَى مَنْ نَفَى حَدَثَ الْعَالَمِ، وَنَفَى إثْبَاتَ الصَّانِعِ، وَلَجَازَ لَهُ الْقَوْلُ فِي نَفْيِ ذَلِكَ، وَتَرْكُ النَّظَرِ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ أَوْ نَفْيِهِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ نَفَى مَا طَرِيقُهُ الْعَقْلُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ دَلَالَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ. فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ فِيهِ: بِأَنَّ فِي الْعَقْلِ دَلَالَةً عَلَى إثْبَاتِ الْمُثْبِتِ، وَنَفْيِ الْمُنْتَفِي بِمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ الْعَقْلُ. فَلِمَ يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
وَأَمَّا السَّمْعِيَّاتُ فَطَرِيقُهَا السَّمْعُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي إثْبَاتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مِنْهَا
(3/386)
 
 
شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ، وَمَنْ ادَّعَى إثْبَاتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّهُ غَيْرُ مُثْبِتٍ.
فَيُقَالُ لِلْقَائِلِ بِهَذَا الْقَوْلِ: إنَّك وَإِنْ كُنْت نَافِيًا لِلْحُكْمِ الَّذِي نَازَعَك فِيهِ خَصْمُك، فَإِنَّك مُثْبِتٌ لِصِحَّةِ اعْتِقَادِك بِأَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْك، وَإِنَّ نَفْيَ هَذَا الْحُكْمِ وَاجِبٌ.
وَهَذَا شَيْءٌ طَرِيقُهُ السَّمْعُ، فَلِمَ ثَبَتَ اعْتِقَادُك كَذَلِكَ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَنَاقَضْت فِي قَوْلِك: إنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الْمُثْبِتِ.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إنَّ طَرِيقَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ أُصُولُهَا السَّمْعَ - فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَبَ فِي أُصُولِهَا دَلَائِلَ عَلَى فُرُوعِهَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَقَدْ جَرَتْ مَجْرَى الْعَقْلِيَّاتِ فِي وُجُوبِ دَلَائِلِهَا عَلَى الْمَنْفِيِّ وَالْمُثْبَتِ مِنْهَا، فَهَلَّا أَوْجَبْت إقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَيْت كَمَا أَوْجَبْتهَا عَلَى إثْبَاتِ مَا أَثْبَتّ؟ .
وَأَيْضًا: فَإِنَّك قَدْ اسْتَدْلَلْت عَلَى النَّفْيِ بِمَا ذَكَرْته: مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ النَّفْيُ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السَّمْعُ، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّفْيِ، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَقَدْ نَاقَضْت فِي قَوْلِك: إنَّ النَّافِيَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَيُقَالُ: هَلْ عَلِمْت: أَنَّ مَا نَفَيْت مِنْ ذَلِكَ لَا دَلِيلَ عَلَى إثْبَاتِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ.
قِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْته؟ فَإِنْ قَالَ عَلِمْته بِدَلَالَةٍ.
قِيلَ لَهُ: فَأَنْتَ إنَّمَا نَفَيْته بِدَلَالَةٍ، فَأَظْهِرْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ. وَقَدْ تَرَكْتَ مَعَ ذَلِكَ أَصْلَك لِإِقْرَارِك بِأَنَّ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلًا.
فَإِنْ قَالَ: لَسْت أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.
قِيلَ لَهُ: فَنَفَيْتَهُ بِجَهْلٍ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْك بِنَفْيِ الدَّلَالَةِ، فَهَلَّا أَثْبَتَّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِدَلَالَتِهِ؟ وَكَيْفَ صَارَ النَّفْيُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى مِنْ الْإِثْبَاتِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ هَذِهِ طَرِيقَتُهُ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ. فَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] فَعَنَّفَهُمْ
(3/387)
 
 
عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مَنْفِيًّا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ: أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، فَلَمْ يُخَصِّصْ بِالْبَيَانِ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ (لَمْ) يُرِدْ بِهِ وُقُوعَ الْبَيَانِ فِي الْجَمِيعِ نَصًّا.
وَإِنَّمَا أَرَادَ نَصًّا وَدَلِيلًا، وَلَمْ يُخَصِّصْ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. فَهَلَّا طَلَبْت دَلَالَةَ النَّفْيِ فِي الْكِتَابِ: كَدَلَالَةِ الْإِثْبَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَأَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي اسْتِدْرَاكِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ الْإِثْبَاتَ مِنْ النَّفْيِ، فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَالنَّافِي مُنْكِرٌ، فَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَالْمُثْبِتُ مُدَّعٍ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.
قِيلَ: لَوْ اكْتَفَيْنَا بِهَذَا الْخَبَرِ (فِي) دَحْضِ مَقَالَتِك، وَفَسَادِ أَصْلِك، كَانَ كَافِيًا، لِأَنَّك مُدَّعٍ لِنَفْيِ الْحُكْمِ بِإِنْكَارِك لَهُ، وَمُدَّعٍ لِبُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك الْمُثْبِتِ لِمَا نَفَيْت، وَمُدَّعٍ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ، وَمُدَّعٍ لِصِحَّةِ اعْتِقَادِك بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْك فِيمَا نَفَيْت مِنْ ذَلِكَ. فَمِنْ حَيْثُ كُنْت مُدَّعِيًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ عَلَيْك إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعَاوِيك هَذِهِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى» .
فَإِنْ تَرَكَ الِاحْتِجَاجَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَقَالَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا فِي يَدَيْ
(3/388)
 
 
رَجُلٍ فَجَحَدَهُ: إنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي فِي يَدِهِ بَيِّنَةٌ، إذْ كَانَ مُنْكِرًا وَجَبَ مِثْلُهُ فِي مُنْكِرِ الْحُكْمِ وَالْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِهِ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ رَضِينَا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَيْضًا، فَأَنْتَ مُثْبِتٌ فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَأَلْزِمْ نَفْسَك إقَامَةَ الدَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ كُنْت مُدَّعِيًا لِإِثْبَاتِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا، وَلِمَ صِرْت بِإِسْقَاطِ الدَّلَالَةِ عَنْك أَوْلَى مِنْ حَيْثُ كَانَ مُثْبِتًا؟ وَأَسْقَطْت عَنْ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُنْكِرًا؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ، إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرًا لِمِلْكِ صَاحِبِهِ، وَمُدَّعِيًا لِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيِّنَةَ عَلَى الَّذِي لَيْسَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الَّذِي الشَّيْءُ فِي يَدِهِ ظَاهِرَةُ يَدِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمِلْكَ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيِّنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ شَهَادَةِ ظَاهِرَةِ الْيَدِ، وَالْخَارِجُ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لَهُ، فَاحْتَاجَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى بَيِّنَةٍ، وَأَمَّا الْمُتَنَازِعَانِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتِهِ، فَلَيْسَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لَهُ، فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ مُدَّعِي الْمِلْكِ: أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَهُمَا يَدَّعِيَانِهِ، فَيُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِدَعْوَى صَاحِبِهِ، إذْ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا ظَاهِرٌ يَشْهَدُ (لَهُ) .
وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخَلِّ الْمُنْكِرَ مِنْ يَمِينٍ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ، لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْخُصُومَةِ، فَهَلْ تُوجِبُ أَنْتَ عَلَى مُنْكِرِ الْحُكْمِ سَبَبًا يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ غَيْرَ نَفْيِهِ إيَّاهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ يَجِيءُ مَسَائِلُ تُشَاكِلُ هَذَا الْبَابَ فِي إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي جَمِيعًا، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الَّذِي انْتَحَلَهُ قَدْ انْطَوَى تَحْتَ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي النَّفْيَ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَالْإِثْبَاتُ إنْ كَانَ مُثْبَتًا، فَيَبْنِي الْقَائِلُ بِهِ مَقَالَتَهُ فِي الْفَرْعِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى
(3/389)
 
 
الْجُمْلَةِ الَّتِي تَفَرَّدَتْ. فَيَقُولُ: لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ مَا سُمِّيَ تَحْرِيمُهُ، أَوْ لَمْ يَثْبُتْ نَفْيُ مَا أَرَدْت نَفْيَهُ، إذَا نَفَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِنَفْيِ أَحْكَامٍ هَذَا مِنْهَا، أَوْ يُعَلِّقُهُ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ، إذَا رَامَ إثْبَاتَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ الْمُثْبِتَ وَالنَّافِيَ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْبَابِ، مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى مَا نَفَاهُ أَوْ أَثْبَتَهُ، إلَّا أَنَّ دَلَالَتَهُ فِي ذَلِكَ: هِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي أَسْنَدَ إلَيْهَا مَقَالَتَهُ، عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا.
نَظِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ لَنَا: لِمَ أَبَحْتُمْ أَكْلَ الْأَرْنَبِ؟ لَجَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ؛ إذْ كَانَ الْأَصْلُ الْإِبَاحَةَ فِي مِثْلِهِ، فَمَنْ رَامَ الْعُدُولَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَإِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْهُ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ خَطَرِهِ، فَإِذَا عَلَّقَهُ بِهَذَا الْأَصْلِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَظْرِ، وَيَحْتَاجُ مُثْبِتُ الْحَظْرِ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ادَّعَى، فَلَا يَحْتَاجُ الْقَائِلُ بِالْإِبَاحَةِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهُ الْمَسْئُولُ بِأَصْلٍ يَقْتَضِي إبَاحَتَهُ - لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَفَتَثْبُتُ إبَاحَتُهُ؟
فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ.
قِيلَ لَهُ: فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ أَجَزْتُمْ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ؟ فَقُلْنَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ، وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ الْبُيُوعَ بِلَفْظٍ عَامٍّ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَمَنْ ادَّعَى الْحَظْرَ وَإِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، كَانَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ، وَإِلَّا فَالْحُكْمُ الْإِبَاحَةُ وَالْجَوَازُ، كَانَ هَذَا كَلَامًا صَحِيحًا، وَلَوْ اقْتَصَرَ الْمَسْئُولُ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى أَصْلٍ مِنْ عُمُومٍ أَوْ جُمْلَةٍ تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ، لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْقَوْلُ (بِهِ) ، إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْإِثْبَاتِ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ أَجَزْتُمْ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ؟ جَازَ أَنْ تَقُولَ:
(3/390)
 
 
لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ النِّكَاحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فَمَنْ ادَّعَى حَظْرَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِخْرَاجَهُ مِنْ الْعُمُومِ، احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ، وَإِلَّا فَأَنَا مُعْتَصِمٌ بِالظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ خَصْمَهُ يَقُولُ (لَهُ) : فَدَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ. فَتَسَاوَيَا جَمِيعًا فِيهِ، وَيَحْتَاجُ الْمَسْئُولُ حِينَئِذٍ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَصِحُّ لِلْقَائِلِ فِيهِ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَسَادُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ صِحَّتُهُ؛ إذْ عَلَّقَهُ بِأَصْلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَيَكُونُ الْأَصْلُ الَّذِي بَنَاهُ عَلَيْهِ، هُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ، وَإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ.
(وَ) مَنْ رَامَ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ، احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ، وَمَنْ اعْتَصَمَ بِالْأَصْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أَكْثَرَ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِمَّا يُضَاهِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بِعَيْنِهِ: إثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ، فَجَائِزٌ عِنْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ لِمَنْ أَثْبَتَ مِقْدَارًا قَدْ دَخَلَ فِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ، أَنْ يَقُولَ: أَثْبَتْنَا هَذَا الْقَدْرَ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَائِلُ عَلَى إثْبَاتِ مَا سِوَاهُ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، إذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ تَوْقِيفًا، وَلَا اتِّفَاقًا، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ.
نَظِيرُ ذَلِكَ: إنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ. (فَقِيلَ لَنَا لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ؟) جَازَ لَنَا أَنْ نَعْتَصِمَ فِيهِ بِمَوْضِعِ الِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمِقْدَارَيْنِ يَكُونَانِ حَيْضًا.
(3/391)
 
 
وَنَقُولُ: إنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ اتِّفَاقٌ وَلَا تَوْقِيفٌ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ فَتَسُومُنَا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَيَقُولُ لَك خَصْمُك: قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ تَرَى فِيهِ الدَّمَ، فَلَا أَزُولُ عَنْ هَذَا الِاتِّفَاقِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ مِثْلِهِ. فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمًا وَأَحَدًا، حَسْبَمَا ذَكَرْته مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ.
قِيلَ لَهُ: لَمْ تُؤْمَرْ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى جِهَةِ الْقَطْعِ مِنَّا بِكَوْنِ ذَلِكَ الدَّمِ حَيْضًا، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهَا أَمْرًا مُرَاعًا، وَالثَّلَاثَةُ وَالْعَشَرَةُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهَا حَيْضٌ، لَا عَلَى جِهَةِ الْمُرَاعَاةِ وَالتَّرَقُّبِ بِحَالٍ ثَانِيَةٍ.
أَلَا تَرَى: إنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرْكِ أَوَّلِ صَلَاةِ حَضَرَ وَقْتُهَا بَعْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُؤْيَةُ الدَّمِ) هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوَقْتِ حَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ أَمْرُنَا إيَّاهَا بِذَلِكَ مُرَاعًا وَمُتَرَقَّبًا بِهِ حَالًا ثَانِيَةً عِنْدَ مُخَالِفِينَا، كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي رُؤْيَةِ الدَّمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا صَارَتْ ثَلَاثَةً، فَقَدْ حَصَلَ الْيَقِينُ بِوُجُودِ الْحَيْضِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَلِذَلِكَ جَازَ لَنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ، وَنَنْفِيَ مَا سِوَاهُ، مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوْقِيفٌ وَلَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقٌ.
وَمِنْ نَظَائِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَيْضِ: مُدَّةُ أَقَلِّ السَّفَرِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَنَّ أَقَلَّ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، مِنْ بَابِ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْإِفْطَارِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ، وَهَاتَانِ الْمُدَّتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، فَجَازَ لَنَا الْوُقُوفُ عِنْدَهُمَا، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى اعْتِبَارِهِمَا وَنَفْيِ
(3/392)
 
 
مَا عَدَاهُمَا، مِمَّا يُوجِبُ خِلَافًا، لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فِيهِ، وَامْتِنَاعِ جَوَازِ الْقَوْلِ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ مُدَّةُ الْحَمْلِ قَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهَا تَكُونُ سَنَتَيْنِ، وَمَا زَادَ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَوَقُّفٌ، وَلَا حَصَلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقٌ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ.
وَمِثْلُهُ: مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ، أَنَّ الْعَشَرَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِيهَا، وَمَا دُونَهَا، فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ (إلَّا بِتَوْقِيفٍ) فَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالِاجْتِهَادِ.
وَمِثْلُهُ: أَنَّ نَصْبَ الْأَمْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ لِإِيجَابِ الزَّكَوَاتِ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، أَوْ الِاتِّفَاقِ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي مِلْكٍ إذَا انْفَرَدَ عَنْ الْيَدِ، هَلْ يَكُونُ نِصَابًا صَحِيحًا، أَوْ لَا يَكُونُ النِّصَابُ الصَّحِيحُ إلَّا بِانْضِمَامِ الْيَدِ إلَى الْمِلْكِ، جَازَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، فِي كَوْنِهِمَا جَمِيعًا شَرْطًا فِي ثُبُوتِ النِّصَابِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ بِانْفِرَادِ الْمِلْكِ عَنْ الْيَدِ، نَحْوُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ مَنْ وَرِثَ دَيْنًا، أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إذَا قَبَضَهُ فِيمَا مَضَى، حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ حَوْلٌ بَعْدَ الْقَبْضِ، إذْ كَانَ اجْتِمَاعُ الْيَدِ وَالْمِلْكِ (عِنْدَ الْجَمِيعِ) نِصَابًا صَحِيحًا.
وَاخْتَلَفُوا عِنْدَ انْفِرَادِ الْمِلْكِ عَنْ الْيَدِ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، وَنَفْيُ مَا عَدَاهُ، إذْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ.
وَمِثْلُهُ مَا قَالَ فِي السِّخَالِ: إنَّهُ لَا صَدَقَةَ فِيهَا، لِأَنَّ النِّصَابَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، وُجُودُ السِّنِّ وَالْمِقْدَارِ، وَانْفِرَادُ الْمِقْدَارِ عَنْ السِّنِّ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ نِصَابًا، فَلَمْ يَثْبُتْ
(3/393)
 
 
مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ. وَأَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، مِنْ إيجَابِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السِّخَالِ وَالْمَسَانِّ إذَا اجْتَمَعَا، هَلْ يَكْمُلُ بِهِمَا نِصَابٌ؟ وَقَدْ أَثْبَتَ نِصَابًا مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ.
قِيلَ لَهُ: لَا نَأْبَى (إثْبَاتَهُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ إذَا كَانَ هُنَاكَ تَوْقِيفٌ يَقْتَضِي إثْبَاتَهُ، وَإِنَّمَا أَبَيْنَا) إثْبَاتَهُ مِنْ غَيْرِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: تَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ، وَمَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ لِلْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ.
وَالتَّوْقِيفُ الْمُوجِبُ لِمَا وَصَفْنَا: مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: فِي صَدَقَةِ الْمَوَاشِي وَيُعَدُّ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا» وَلِأَنَّ أَسْمَاءَ الْمِقْدَارِ الَّذِي عَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوُجُوبَ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَأَمَّا إذَا انْفَرَدَتْ السِّخَالُ عَنْ الْمَسَانِّ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهَا هَذَا الِاسْمُ، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ فَلَمْ يَثْبُتْ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: أَنْ تَجْعَلَ الْجَمْعَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَرْبَعِينَ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى صِحَّةِ انْعِقَادِهَا بِأَرْبَعِينَ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا دُونَهَا، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ.
وَهَذَا أَيْضًا مَا لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاتِّفَاقِ أَوْ التَّوْقِيفِ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الثَّلَاثَةِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهَا. فَأَثْبَتْنَاهَا، وَمَا زَادَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ، فَلَمْ نُثْبِتْهُ.
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا التَّوْقِيفُ فِي جَوَازِهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ
(3/394)
 
 
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ فَنَفَرَ النَّاسُ إلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا اثْنَا عَشَرَ» وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتْرُكْ الْجُمَعَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ. وَلَوْ كَانُوا قَدْ عَادُوا إلَى الصَّلَاةِ لَذَكَرَ. فَدَلَّ أَنَّهُ صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَإِذَا جَازَتْ بِاثْنَيْ عَشَرَ جَازَتْ بِثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّهُ قَدْ رُوِيَ: أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهَا، صَلَّاهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَثَبَتَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جَوَازُهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ.
(3/395)
 
 
[بَابُ الْكَلَامِ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ] [فَصْلٌ فِي مَعْنَى الدَّلِيلِ]
ِ فَصْلٌ: فِي مَعْنَى الدَّلِيلِ، الْعِلَّةِ، وَالْقِيَاسِ، وَالِاجْتِهَادِ.
الدَّلِيلُ: هُوَ الَّذِي إذَا تَأَمَّلَهُ النَّاظِرُ الْمُسْتَدِلُّ أَوْصَلَهُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، وَسُمِّيَ دَلِيلًا لِأَنَّهُ كَالْمُنَبِّهِ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْمُشِيرِ لَهُ إلَيْهِ، وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهَادِي الْقَوْمِ وَدَلِيلِهِمْ الَّذِي يُرْشِدُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ، فَإِذَا تَأَمَّلُوهُ وَاتَّبَعُوهُ أَوْصَلَهُمْ إلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَؤُمُّونَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: إنَّ (فِي) السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلَائِلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا تُوصِلُ الْمُتَأَمِّلَ بِحَالِهَا إلَى الْعِلْمِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الدَّلِيلُ هُوَ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْمِ هُوَ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ، فَيَقُولُونَ عَلَى هَذَا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُطْلِقُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَلِيلٌ، وَلَا يَدْعُوهُ بِأَنْ يَقُولَ: يَا دَلِيلُ، إلَّا أَنْ يُقَيِّدُوهُ، فَيُرِيدُوا بِهِ الْمُنَجِّيَ مِنْ الْهَلَكَةِ، عَلَى مَعْنَى الدَّلِيلِ الَّذِي يُنَجِّيهِمْ بِهِدَايَتِهِ.
(4/7)
 
 
فَيَقُولُونَ: يَا دَلِيلَ الْمُتَحَيِّرِينَ، يَا هَادِيَ الْمُضَلِّينَ.
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54] يَعْنِي يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ دَلَّنَا عَلَى نَفْسِهِ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ. فَيُقَيِّدُونَ اسْمَ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، إذَا وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ (بِهِ) . الْمُنَجِّي وَالْمُبَيِّنُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ، لِأَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الدَّلِيلِ مَوْجُودٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَقَدْ يَقُولُ النَّاسُ لِلْأَعْلَامِ الْمَنْصُوبَةِ لِمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ - نَحْوُ الْأَمْيَالِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْبَادِيَةِ -: إنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى الطَّرِيقِ. وَلَا يُسَمُّونَ الَّذِي بَنَاهَا هُنَاكَ دَلِيلًا، وَإِنَّمَا يُسَمُّونَ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْمُتَأَمِّلُ لَهَا دَلِيلًا، دُونَ الْوَاضِعِ لَهَا. وَيَدُلُّ عَلَى (صِحَّةِ) مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِي: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ الدَّلَالَةَ، وَالْأَعْلَامُ الْمَنْصُوبَةُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَيَقُولُ السَّائِلُ لِلْمُجِيبِ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِك؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَنْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِك؟ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا: أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ الْمُتَأَمِّلَ لَهُ وَالنَّاظِرَ فِيهِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ: أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ عِلْمُك بِالشَّيْءِ وَوُجُودُك لَهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا؟ جَازَ أَنْ يُقَالَ عِلْمِي بِكَذَا، وَوُجُودِي لِكَذَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ وَصْفِ الدَّلِيلِ شَيْءٌ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا، وَلَا أَضْعَفُ، لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِ الْأَجْسَامِ؟ لَمْ يَصِحَّ (أَنْ يَقُولَ) : عِلْمِي بِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ الْحَوَادِثِ. بَلْ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِهَا أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنْ الْحَوَادِثِ. وَيُوجِبُ هَذَا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمَحْسُوسَاتُ مَعْلُومَةً مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، لِعِلْمِنَا بِهَا وَوُجُودِنَا إيَّاهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ (هَذَا) الْقَائِلِ هُوَ الدَّلِيلُ.
(4/8)
 
 
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ الدَّلِيلُ مُوجِبًا لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَلَا سَبَبًا لِوُجُودِهِ، وَكَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْمِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ وَيُرْشِدُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ، لَيْسَ هُوَ سَبَبًا لِوُجُودِ الْمَوْضِعِ الْمَقْصُودِ الَّذِي يُوصَلُ إلَى عِلْمِهِ بِدَلَالَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ.
 
وَأَمَّا الْعِلَّةُ، فَهِيَ الْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَ حُدُوثِهِ يَحْدُثُ الْحُكْمُ. فَيَكُونُ وُجُودُ الْحُكْمِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِهَا، وَمَتَى لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ، هَذِهِ قَضِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَأَصْلُهُ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ، لَمَّا كَانَ بِحُدُوثِهَا يَتَغَيَّرُ حَالُ الْمَرِيضِ، سُمِّيَتْ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْدُثُ بِحُدُوثِهَا الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ عِلَلًا، لِأَنَّ حُدُوثَهَا يُوجِبُ حُدُوثَ أَوْصَافٍ وَأَحْكَامٍ، لَوْلَاهَا لَمْ تَكُنْ. نَحْوُ قَوْلِنَا: حُدُوثُ السَّوَادِ فِي الْجِسْمِ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ، وَحُدُوثُ الْحَرَكَةِ فِيهِ عِلَّةٌ لِكَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا. وَنَقُولُ فِي الدَّلِيلِ: إنَّ اسْتِحَالَةَ تَعَرِّي الْجِسْمِ مِنْ الْحَوَادِثِ دَلَالَةٌ عَلَى حُدُوثِهِ، وَلَيْسَ هُوَ عِلَّةً لِحُدُوثِهِ، فَإِنَّ الْحَدَثَ دَلَالَةٌ عَلَى مُحْدِثِهِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّهَا عِلَّةٌ لِمُحْدِثِهِ. فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا حَظُّهُ إيصَالُ النَّاظِرِ فِيهِ وَالْمُتَأَمِّلِ لَهُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْسِ الْمَدْلُولِ. وَأَنَّ الْعِلَّةَ سَبَبٌ لِوُجُودِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. فَقَدْ تُسَمَّى الْعِلَّةُ دَلِيلًا عَلَى مَا هِيَ (عِلَّةٌ) لَهُ، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَأَمُّلُهَا مُوصِلًا إلَى الْعِلْمِ بِمَا هُوَ عِلَّةٌ لَهُ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ دَلِيلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ عِلَّةً. وَالِاسْتِدْلَالُ: هُوَ طَلَبُ الدَّلَالَةِ وَالنَّظَرُ فِيهَا، لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ.
 
(وَالْقِيَاسُ: أَنْ يُحْكَمَ لِلشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي عِلَّتِهِ الْمُوجِبَةِ لِحُكْمِهِ) . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ
(4/9)
 
 
أَحَدُهُمَا: يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ. وَهُوَ النَّظَرُ فِي دَلَائِلِ الْعَقْلِيَّاتِ، إذَا نَظَرَ فِيهَا مِنْ وَجْهِ النَّظَرِ. وَكَثِيرٌ مِنْ دَلَائِلِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ، قَدْ كُلِّفْنَا فِيهَا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يُوجِبُ غَلَبَةَ الرَّأْيِ وَأَكْبَرَ الظَّنِّ، وَلَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ. وَذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ، وَلَمْ يُكَلَّفْ فِيهَا إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ، إذْ لَمْ يَنْصِبْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا قَاطِعًا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ (بِهِ) ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، تَشْبِيهًا لَهُ بِدَلَائِلِ الْعَقْلِيَّاتِ وَدَلَائِلِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ. وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقِيَاسُ عَلَى عِلَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ الْمَقِيسِ، وَهِيَ عِلَلُ الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا.
وَالثَّانِي: قِيَاسُ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى أُصُولِهَا مِنْ النُّصُوصِ، وَمَوَاضِعِ الِاتِّفَاقِ، وَغَيْرِهَا. فَمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ، فَلَيْسَ بِعِلَّةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلَّةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، هِيَ مَا كَانَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ، يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا. وَعِلَلُ الشَّرْعِ الَّتِي يَقَعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا عَارِيَّةً مِنْ أَحْكَامِهَا. أَلَا تَرَى: أَنَّ سَائِرَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقِيسُ بِهَا أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ، قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، إذْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَلُ هِيَ بَعْضَ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ حُدُوثِ الْحُكْمِ، غَيْرَ مُوجِبَةٍ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ سِمَاتُ وَأَمَارَاتُ الْأَحْكَامِ، يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهَا، كَدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِهَا، فَلَا تَكُونُ مُوجِبَةً لَهَا، لِوُجُودِنَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ. وَإِنَّمَا هِيَ سِمَةٌ وَعَلَامَةٌ