القطعية من الأدلة الأربعة

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: القطعية من الأدلة الأربعة
المؤلف: محمد دمبي دكوري
عدد الأجزاء: 1
 
مقدمة
إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يأَيُهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ} 1. {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 2.
{يَأَيهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفرْ لَكُمْ ذنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولُهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3.
أما بعد:
فقد كان الناس في جاهليةٍ انطمست فيها معالِمُ السبيل، يتخبطون ولا يُرشِدُهم إلى الصراطِ المستقيمِ دليل، حَيَّرَتْهم السبلُ المتفرقة بأماراتها الكاذبةِ ومعالمِها الخادعة، وإن فقدانَ الدليلِ المرشد، واختلاطَ الأمارات، وانطماسَ المعالم لمن أخطرِ ما يلقاه سالكُ الطريق.
__________
1 سورة آل عمران (102) .
2 النساء (1) .
3 سورة الأحزاب (70،71) .
(1/5)
 
 
ثم أنعم الله على عبادِه بالهدايةِ إلى الإسلام، فأنار به سبيلاً ذاتِ معالمَ واضحة، وبدَّد به ما أَطْبَق من الظلمات، وأنزل عليهم كتابَه العزيز دليلا مرشدا، وقد حذّر به من اتباعِ السبلِ المتفرقة بما أقام من الحجةِ البالغة، فمن اعتصم به ظَفِر بعلم اليقين، ومن زاغ عنه فقد قطع على نفسه سبيلَ المعذرة إذ عرَّضها للمهانةِ والمذَمَّة.
فكان من أعظم النعم - بعد نعمة الهداية - ما منحَ الله تعالى من نَصْبِ الأدلة والأمارات التي بها يطمئن سالك الطريق، ويرجع بها الضالُّ والتائِهُ إلى جادة السبيل.
وكان أهمَّ ما هدى الله به إلى أحكامِ شريعتِه واتباعِ سبيلِه كتابُه العزيز الذي هو مرجع الأدلة ومعينها الذي لا ينضب، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي بينت الكتاب وأوضحته، ثم سبيل المؤمنين التي عليها أمرهم جميعا، فهي عصمة الشريعة وحصنُها المنيع، ثم رحم الله عبادَه بما فتح لهم من أبوابِ الاجتهادِ في الأدلة، وإن أوسعَ ما وقع من ذلك الاجتهادُ في الملماتِ النوازل بالنظر في ميزان القياس والاعتبار.
فالكتابُ والسنة والإجماعُ والقياس أهمُّ معالمِ السبيلِ وأحقُّ منارات الشريعة، وقد اهتم العلماء - رحمهم الله- بالأدلة الأربعةِ وغيرِها، فكانت مدارَ البحث في أصول الفقه وغيرِه من علوم الشريعة.
وأصلُ ما يبحث في الأدلة إثباتُها أدلةً يجب العملُ بها، وطُرُقاً يلزمُ
(1/6)
 
 
سلوكُها إلى الأحكامِ الشرعية، وذلك البحث في حجيتها.
ثم فرّع أهلُ العلمِ على هذا الأصلِ مباحثَ كثيرة، بيَّنوا فيها حقيقةَ الأدلة، وطرقَ العملِ بها، وكيف يستنبط الناظرُ فيها أحكامَ الشريعة.
ومن فروع البحثِ في الأدلة الشرعية النظرُ في الاختلاف الواقعِ بينها من حيث القوة في الثبوتِ أو الدلالة، حتى يكونَ منها ما ينتهي في القوة إلى حيث يَفصِلُ كلَّ احتمال، فيلزم عالِمَه العملُ به ولا تجوز مخالفتُه بما يَقطع من العذر ويَدفع من الشبهة.
وقوةُ الدليلِ ووضوحُهُ في المراد من الاحتجاج أو المحاجَّة من أعظم الأسبابِ التي تورث الطمأنينةَ في القلب وتُوجِبُ - لمن حصَّلها - مزيدَ إقبالٍ على العمل، لما تُضْفِي على الحكم من أمن الخطأ، وتُقْصِي عنه من احتمال الزَّلَل، فمن ظَفِر على مطالبه بقواطع الأدلة، وكان طريقَه إلى الأحكامِ سواطعُ الحجج كان على يقين من أمره بسلوك الطريق الصحيحِ الموصلِ إلى ما يصبو إليه، وذلك من أسبابِ الرسوخِ في العلم والإمامةِ في الدين.
القطعية في الأدلةِ الشرعية من المباحث الأصيلةِ في أصول الفقه، لتعلقِه بصفةٍ من صفات الأدلة، وتفرُّعِه عن مبحث الحجية، وإن لعلماء أصول الفقه فيه تصريحات وإشارات.
وإن الوصول في البحث العلمي إلى اليقين المُستَنِد إلى الدليل القطعي يظل مطلبا مهما في غير العلومِ الشرعية أيضا، فكثيرا ما بقيت نتائجُ
(1/7)
 
 
المطلب الثاني: جهة الدلالة.
المطلب الثالث: مسائل في جهة القطعية.
المبحث الثاني: فيما يفيد القطعيةَ في الدليل، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إفادة الإجماعِ القطعيةَ في الدليل.
المطلب الثاني: أثر القرائنِ في إفادة القطعية.
المبحث الثالث: فيما يمنع القطعيةَ عن الدليل، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أثر الخلافِ في منعِ القطعية.
المطلب الثاني: الاحتمالُ وأثرُه في منع القطعية.
الفصل الثاني: أثر قطعيةِ الدليل، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أثر القطعية في الاصطلاح، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الدليلِ والأَمارة.
المطلب الثاني: في الفرضِ والواجب.
المبحث الثاني: أثرُ القطعيةِ في الاجتهادِ والتَّخْطِئَة.
المبحث الثالث: أثر القطعية في التعارض والترجيح.
الباب الثاني: أحكامُ القطعيةِ في الأدلة الأربعة، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: أحكام القطعيةِ في الكتاب والسنة، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الكتاب والسنة أصلُ الأدلةِ القطعية.
(1/8)
 
 
المبحث الثاني: أحكام القطعيةِ في السنةِ من جهة الثبوت، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: قطعيةُ الخبرِ المتواتر.
المطلب الثاني: قطعيةُ خبرِ الواحد.
المبحث الثالث: أحكامُ القطعيةِ في الكتاب والسنة من جهة الدلالة وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: قطعية النص.
المطلب الثاني: قطعية العموم.
المطلب الثالث: قطعية المفهوم.
الفصل الثاني: أحكام القطعية في الإجماع، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: قطعية الإجماع.
المبحث الثاني: الإجماع القطعي.
الفصل الثالث: أحكام القطعية في القياس، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: قطعية القياس.
المبحث الثاني: القياس القطعي.
المبحث الثالث: القطعي من مَسالِكِ العلة.
ثم أَرْدَفْتُ بِخاتِمةٍ ذكرتُ فيها أهمَّ النتائج وبعضَ مَجالِ البحث في القطعية.
(1/9)
 
 
ثم ذكرتُ من الفهارس العلمية:
- فهرسَ الآيات القرآنية.
- وفهرسَ الأحاديثِ النبوية.
- وفهرسَ الآثار.
- وفهرسَ الأعلام.
- وفهرسَ المراجع.
- وفهرسَ الموضوعات.
منهجي في البحث:
ويتبين المنهجُ الذي سرت عليه في البحث بما يلي:
أ - في الوصول إلى مادةِ الموضوع جَمَعْتُ ما ذكره أهلُ العلمِ من المصادر الأصوليةِ الأصيلة وما ذكره العلماء من غير الأصوليين بما أَقْدَرَ اللهُ من الجُهدِ في البحث والتنقيب، ثم وَزَّعْتُ ذلك على الجُزَيْئاتِ السابقةِ من خطة البحث.
ب - ذكرت أقوالَ أهلِ العِلمِ حَسَبَ التَّسَلْسُلِ الزَّمَنِيِّ لوفاتهم رحمهم الله، إلا أن يكونَ قولُ بعضِهم أوضحَ للفقرة فأقدمُه ثم أنقلُ من أشار إلى ذلك.
ج - للقطعية سوابقُ ولواحقُ من البحث تتَّصِلُ بها أحيانا وليس من صَمِيمِها، مثلُ بحثِ حجيةِ الدليل السابقِ لقطعيته، ومثلُ بحثِ الضروريةِ أو النظريةِ في الدليل اللاحقِ لبحث القطعيةِ فيه، واقْتَصَرْتُ على البحث في
(1/10)
 
 
الدراساتِ في العلوم الكونية قضايا قابلةً للنقضِ لأدنى شبهةِ احتمال، بل قد تَكشفُ بحوثٌ جديدةٌ ما يُبْطِل نظرياتٍ كانت تُعَدُّ من الحقائق العلمية!
لكن الأحكامَ الشرعيةَ المُسْتَنِدةَ إلى أدلتِها الصحيحة تختلف عن تلك العلوم من حيث المصدر وطرق الوصول، فإن مصدرَ علومِ الشرع - على اختلافها وتنوعها - الوحيُ من السماء، وأصلها الإيمان بالله الحكيمِ العليم، وأنه أنزل كتابا فيه ذِكْرٌ تكفَّل - سبحانه وتعالى - بحفظه، وكلَّف رسولَه صلى الله عليه وسلم التبيين، وهو الناصحُ الأمين، الحريصُ على حَسْمِ مواردِ اللبسِ وقطعِ موجباتِ الخطأِ ومواردِ الضلال.
فكان الفرضُ في الابتداء - من أجل هذا المُسَلَّمِ الإيمانيِّ - أن قضية القطعِ في العلوم الشرعية لا يجوز بحثها معزولةً عن مصدرها، وأنها مختلفة عن بحث القطعيةِ في العلومِ الكونية والمعارفِ الإنسانيةِ الأخرى.
ولما عرَض لي بحثُ موضوعٍ في أصول الفقه لمرحلة العالمية (الماجستير) - وبعد أن استشرت بعضَ أساتذتي - وفَّقني الله إلى اختيار هذا البحث موضوعا في هذه المرحلة.
أسباب اختيار الموضوع:
كان لاختيار الموضوع دوافع:
منها: ما تقدم من أهمية اليقين وأن القطعَ بأدلةِ الأحكام يورث الطمأنينةَ وأمنَ الزلل.
(1/11)
 
 
ومنها: أنه موضوعٌ في صميم الأدلة الأربعة التي هي أهم موضوعات علمِ أصولِ الفقه.
ومنها: أنه موضوعٌ يدخلُ في كثيرٍ من أبوابِ أصولِ الفقه، فيقف الطالب على كثيرٍ من مسائلِ هذا العلم.
والبحث في (القطعية) متفرقٌ في ثنايا كلامِ أهلِ العلمِ في أصول الفقه لا يجمعه باب، ولا تُرشِد إلى الوقوف عليه مظان، وإنما يُلفَى من خلال إشاراتِ العلماءِ في مواضعَ غير مطردةٍ، وعند استطرادِ البحثِ والتأصيل، أو إيرادِ الأسئلةِ والأجوبةِ في المناقشات، على أن بعضَ موادِّ هذا الموضوع توجد كذلك متفرقة في غير المشهورِ من كتبِ أصول الفقه الخاصة، مثل مؤلفاتِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية، وكتبِ شمس الدين ابنِ القيم، وفي تحقيقات الشيخِ أبي إسحاق الشاطبي وغيرِهم من العلماء رحمة الله عليهم أجمعين.
فلما بدا من ذلك ما بدا ولاح أنّ مما يمكنُ فيه البحث جمعَ ما تفرق في ذلك من كلام أهل العلم -رحمهم الله- وتأليفَ بعضِه إلى بعض في مكان واحد، استعنت بالله مُقدِما على ذلك، عسى أن تَخْرُجَ صورةٌ قريبةٌ لموضوع القطعية في الأدلة الأربعة. والله المستعان.
وقد شدّ من عزمي على اختياره ما أشار به بعضُ الأساتذةِ الفضلاء من جِدَّةِ الموضوعِ في بابه وأن الكتابةَ في مثلِه صالحةٌ في هذه المرحلةِ المُبَكِّرةِ.
(1/12)
 
 
خطة البحث:
جاء البحث في مقدمة، وفصل تمهيدي، وبابين، ثم خاتمة.
المقدمة في الخطبة، وبيان أهمية الموضوع، ودوافع اختياره، وخطة البحث، ومنهج الباحث فيه.
أما الفصل التمهيدي: ففيه خمسةُ مباحث:
المبحث الأول: ماهية القطع، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف القطعِ لغة.
المطلب الثاني: القطعُ عند الأصوليين.
المطلب الثالث: معنى القطعية في الدليل.
المبحث الثاني: الأدلة الشرعية من حيث القطعيةُ وعدمُها.
المبحث الثالث: وجوب العملِ بالأدلة الشرعية القطعيةِ وغيرِ القطعية.
المبحث الرابع: أهميةُ الدليلِ القطعي.
المبحث الخامس: قطعية أصول الفقه.
والباب الأول: قطعية الدليل وأثرُها: وفيه فصلان:
الفصل الأول: قطعية الدليل، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: جهة القطعيةِ في الدليل، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: جهة الثبوت.
(1/13)
 
 
مستوى القطعيةِ نفسِه منعاً لانتشارِ البحث ووفاءً لِحَدِّ الموضوع.
د- فَرَّقْتُ - عند الإحالةِ إلى المراجعِ الأصولية - بين كتبِ الحنفيةِ وكتبِ غيرِهم من الأصوليين، ثم رتَّبْتها حسب تقدمِ وَفاةِ مُؤَلِّفيها، إلا أن يكونَ من المراجع ما يكون أساسَ الإحالة فأقدمه، ثم أذكرُ المراجعَ الأخرى التي أشارت إلى الفقرة.
وأحيل على المرجع ب (انظر) إلا إذا كان النقلُ منه نصا فأجعل النصَّ المنقول بين قوسين مزدوجين ""ثم أحيل بذكرِ اسمِ المرجعِ مباشرة.
هـ- بينت مواضعَ الآياتِ من المصحف بذكر رقمِ الآية واسمِ السورةِ.
و خرّجت الأحاديث: فإن كان الحديثُ في الصحيحين أو أحدِهما اكتفيت بالإحالة على موضعِه من ذلك، وإلا خرَّجتُه من السُّنَنِ الأربعة ومسندِ الإمام أحمد، أو خرَّجته - عند الحاجة - من مصادرِ السنةِ الأخرى مُبَيِّناً ما وقفتُ عليه من حكم العلماء عليه صحة أو ضعفا.
ز - ترجمت لمن وَرَدَ في البحث من الأعلام إلا الرسلَ عليهم الصلاة والسلام، وذلك باختصارٍ واطِّراد.
ح - عرَّفت من المصطلحات، وبينت من الغريب ما دَعَتِ الحاجةُ إلى تعريفِه وبيانِه.
شكر وتقدير:
هذا، والحمد لله من قبلُ ومن بعد على فضلِه ومنّه، وله الشكر أبدا
(1/14)
 
 
شكراً أرجو به ما وعد الشاكرين من مزيدِ نعمِه، وسوابغِ آلائِه.
وجدير في هذا المقام بأن أُقَدِّم جزيلَ الشكرِ وخالصَ العرفانِ لهذه المؤسسةِ العلميةِ المباركة إن شاء الله تعالى، الجامعةَ الإسلاميةَ بالمدينةِ النبوية، لما تقدمه من خدمة جليلة للإسلام والمسلمين في تعليم أبنائهم وإعدادهم للدعوة الصحيحة إلى الله تعالى، فجزى الله جميعَ القائمين عليها خير الجزاء، وأجزل لهم المثوبةَ في الدنيا والآخرة!
كما لا يفوتني أن أشكر الوالد الشيخ أحمدِ بنِ محمود بن عبد الوهاب لما بذل في متابعة هذا العمل، ودأب في تقويمه من لدن بدأ حتى جاء في هذه الصورة، فكان نِعْمَ الناصحُ المرشد يُمسك بِرِفْقٍ عند بوادر الاندفاع ثم يَسوق بيُسْرٍ عند أوائل الكلل والسآمة، فجزاه الله عني خيرا وبارك في علمه وعمله!
كما لا يفوتني أن أقدم جزيلَ الشكر، وخالصَ العرفان لشيخيّ الفاضلين: الدكتور محمدِ بنِ صالح بنِ عبيد النامي الحازمي، والدكتور سلامة بنِ ضويعن الأحمدي! على قبولهما مناقشةَ هذه الرسالةِ وتقويمها، فجزاهما الله خيرا وأجزل لهما المثوبة!
وجزى الله خيرا جميعَ الأساتذة والمعلمين، وكلَّ من تعلَّم طالبٌ على يديه علما نافعا.
وشَكَر الله لجميع من ساعد في هذا العمل بفكرةٍ صواب، أو إعارةِ كتاب، أو تنبيهٍ على وجه خلل، فجزى الله الجميع خيرا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
(1/15)
 
 
تمهيد
...
المطلب الأول: تعريف القطع لغة.
قال ابن سِيدَه1: "القطع: إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلا، قطعه يقطعه قطعاً وقَطيعةً وقُطوعاً"2.
والفصل يكون في الأمور المحسوسة كقطع الحبل.
ويكون في الأمور المعقولة كقطيعة الرحم ومن ذلك قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَولَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا في الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} 3، وكالقطع في الحكم على أمر ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَتْ يَأَيهَا الْمَلأُ أَفْتُوني في أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} 4 5، وكالقطع أو قطع الدابر: بمعنى الإهلاك أو استئصال النوع، ومن ذلك قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ
__________
1 هو علي بن إسماعيل، أبو الحسن بن سِيدَه المرسي الأندلسي، من أئمة اللغة والأدب، وكان ضريرا، من تصانيفه: المحكم والمحيط الأعظم، الأنيق في شرح حماسة أبي تمام، وغيرها. توفي سنة (458) هـ. انظر سير أعلام النبلاء 18/144-146 الأعلام5/69 ومقدمة محققَي (المحكم لابن سيده) 1/5.
2 المحكم في اللغة لإسماعيل بن سيده 1/88، وما ذكره موجود بحرفه في لسان العرب لابن منظور 1/276-278 وانظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/101.
3 سورة محمد (22) .
4 سورة النمل (32) .
5 انظر المفردات للراغب ص615-616.
(1/19)
 
 
طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} 1 أي: ليهلك أمة منهم2، وقوله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} 3.
وفي اللغة استعمالات كثيرة للقطع منها:
- قولهم: قطع زيد لسان عمرو: إذا أسكته بعطائه وإحسانه إليه.
- وقولهم: انقطع لسانه: إذا ذهبت سلاطته.
- وقولهم: أَقطع الرجلُ: إذا انقطعت حجته وبُكِّت بالحق فلم يجب، فهو مُقطع.
- وقولهم: قطع زيد عمرا بالحجة: إذا بكّته.
- وقولهم - على سبيل المثل -: كلام قاطع: أي نافذ4.
__________
1 سورة آل عمران (127) .
2 انظر تفسير ابن كثير1/411 والمفردات/616.
3 سورة الحجر (66) .
4 انظر تهذيب اللغة للأزهري 1/195-196 والمحكم في اللغة لابن سيده 1/88-91 والصحاح للجوهري 3/1268 ولسان العرب 8/279 والقاموس المحيط للفيروزابادي 3/73 وانظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزري 4/83.
(1/20)
 
 
المطلب الثاني: القطع عند الأصوليين
قبل ذكر استعمال الأصوليين للقطع يحسن هنا التعرض لبعض الاصطلاحات المتعلقة بالقطع في علوم أخرى غير أصول الفقه.
1- فمن ذلك: (القطع) في علم قراءة القرآن.
وهو مرادف للوقف والسكت عند بعض العلماء، وجعل بعضهم القطع: "قطع القراءة رأسا، فهو كالانتهاء، فالقارئ به كالمُعرِض عن القراءة والمنتقل منها إلى حالة أخرى سوى القراءة كالذي يقطع على حزب ... أو في ركعة ثم يركع، أو نحو ذلك مما يؤذن بانقضاء القراءة والانتقال منها إلى حالة أخرى ... ولا يكون إلا على رأس آية لأن رؤوس الآي في نفسها مقاطع "1.
2- ومن ذلك: (الحديث المقطوع) في اصطلاح المحدثين.
وهو المتن المنتهي إلى التابعي فمن دونه من قول أو فعل أو تقرير، حكما أو تصريحا، ويجمع على (المقاطيع) و (المقاطع) 2.
__________
1 النشر في القراءات العشر للحافظ ابن الجزري1/240 وانظر الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي1/88-89.
2 انظر مقدمة ابن الصلاح ص125 والتقريب للنووي مع تدريب الراوي للسيوطي 1/194 ونزهة النظر لابن حجر العسقلاني ص140-145.
(1/21)
 
 
3- ومنه (النعت المقطوع) عند علماء النحو.
وهو النعت الذي خرج من حالة التبعية للمنعوت في الإعراب إلى حالة الاستقلال بالإعراب لأغراض بلاغية، كقولك: جاء الرجلُ العدلَ، ورأيت الرجلَ العدلُ.
وحقيقة القطع في ذلك أن يُجعل النعت خبرا لمبتدأ، أو مفعولا لفعل.
وقد يطلق القطع في النحو على قطع الاسم عن الإضافة أي: كونه غير مضاف، فالاسم على ذلك (مقطوع عن الإضافة) 1.
4- ومن ذلك (القطع) في بعض بحور الشعر عند علماء العروض.
وهو: أن يحذف آخر وتده المجموع ويسكن ما قبله، ويسمى البحر بذلك (مقطوعا) لأنه قطعت حركة وتده.
والوتد المجموع: حرفان متحركان بعدهما حرف ساكن، والوتد المفروق: حرفان متحركان بينهما حرف ساكن2.
5- ومنه (همزة القطع) أو (ألف القطع) عند علماء التصريف.
__________
1 انظر كتاب الكافية في النحو لابن الحاجب مع شرح الرضى 1/315-317 وص296 وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام 3/318 وص111 والنحو الوافي لعباس حسن 3/468 وما بعدها.
2 انظر الكافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي ص33 وص144 والثريا المضية في الدروس العروضية للشيخ مصطفى الغلاييني ص5 والكامل في العروض والقوافي لمحمد قناوي ص63 والتعريفات للشريف الجرجاني ص178.
(1/22)
 
 
وهي: الهمزة التي تثبت في الابتداء بالكلمة ولا تسقط في دَرَج الكلام، أي: عند وصل الكلمة بغيرها، ومثالها: الهمزة في (إبراهيم وإخراج وأَعطى وأحمد وأحمال وأقِمْ) ، وهذه الهمزة في مقابلة همزة الوصل التي تثبت في الابتداء دون الوصل1.
6- وقد يطلق في كتب الفقه (القطع) و (قاطع) و (مقطوع) على قطع الطَرَف جناية أو قصاصا وما يتعلق به2، وربما أطلق ذلك على قطع الطريق3.
ومن الاستعمال المعاصر للقطع في معناه الأصولي: عبارة (ممنوع الوقوف والانتظار قطعيا) في إشارات تنظيم المرور والسَّير، والمقصود منها سلب العذر عن الواقف والمنتظر في المحل المشار إليه بذلك مهما كان احتمال وقوفه وانتظاره4.
__________
1 انظر كتاب الألفات لابن خالويه ص69 والقول الفصل في التصغير والنسب والوقف وهمزة الوصل لعبد الحميد عنتر ص206.
2 انظر مثلا: نهاية المحتاج 7/283، 284، 285، 439 فما بعدها.
3 انظر مثلا: الفقه الإسلامي وأدلته 6/129-135، 141.
4 انظر في معنى إشارة (ممنوع الوقوف والانتظار) في دراسة إدخال تعليم سلامة المرور في مقررات المرحلة المتوسطة للتعليم العام لمجموعة من الدارسين ص65، وتوجد هذه العبارة كثيرا بإضافة (قطعيا) في الواقع المشاهد.
(1/23)
 
 
عبارات القطع في أصول الفقه:
القطع معنى يصف به علماء أصول الفقه رحمهم الله، أمورا كثيرة:
فيصفون به الدليل كقولهم: (دليل قطعي) ونحو ذلك1.
ويصفون به الحكم مثل قولهم: (حكم قطعي) و (حكم مقطوع به) 2.
ويصفون به المسألة كقولهم: (مسألة قطعية) أو (مسألة مقطوع بها) 3.
بل ويصفون به الجواب عن الاعتراض ومن ذلك قولهم: (جواب قطعي) أو (جواب قاطع) 4.
ويصفون بالقطع أمورا أخرى غير ذلك5.
غير أن مدار كل ذلك على قطعية الدليل لأن قطعية الحكم بحسب الدليل القطعي عليه، والمسألة تكون قطعية لأن الدليل المستدل به فيها
__________
1 سيأتي الكلام على ذلك مفصلا - قريبا - إن شاء الله تعالى.
2 انظر مثلا: المستصفى للغزالي (بولاق) 2/231،257 والمحصول لفخر الدين الرازي 1/83 والتحرير مع التقرير والتحبير1/18.
3 انظر مثلا: المستصفى2/20-21.
4 انظر مثلا: المحصول5/86-87.
5 مثل: الوجه القاطع والرأي القاطع (انظر البرهان 1/405، 2/485) ، والبيان القاطع (انظر المستصفى 2/15) ، والعلامة القاطعة (انظر الموافقات 4/83) ، والتصديق القاطع (انظر شرح الكوكب المنير 1/63-64) ، والقرينة القاطعة (انظر مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/214-215) ، والدلالة القاطعة (انظر تلخيص التقريب للجويني 1/167-170) .
(1/24)
 
 
قطعي، والجواب قاطع إذا أُتي فيه بما يفيد القطع، فوصف هذه الأمور بالقطع يدور على قطعية الدليل وينتهي إليها.
وأما القطع في الدليل فإنهم رحمهم الله يعبرون عنه بعبارات متنوعة، وقفت منها على أربع:
العبارة الأولى: صوغ اسم الفاعل من القطع: (الدليل القاطع) 1.
العبارة الثانية: صوغ اسم المفعول من القطع: (الدليل المقطوع به) 2.
العبارة الثالثة: صوغ الاسم المنسوب من القطع: (الدليل القطعي) 3.
العبارة الرابعة: وصف الدليل باقتضاء القطع، أو إيجابه، أو إفادته،
__________
1 انظر هذه العبارة في: الأم للإمام الشافعي4/181 والتقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر الباقلاني1/72، 308 والبرهان لإمام الحرمين1/168 والغياثى له أيضا ص/60 والمستصفى للغزالي2/179-180 (بولاق) 2/365 والإحكام للآمدي1/168 وإحكام الفصول للباجي ص717 والموافقات للشاطبي4/183 وشرح مختصر الروضة لنجم الدين الطوفي3/29-30 وميزان الأصول في نتائج العقول لعلاء الدين السمرقندي ص434،545،548، 639 وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر2/33.
2 انظر هذه العبارة في: التقريب والإرشاد1/295-296 والعدة لأبي يعلى الفراء2/555، 556، 557 والمستصفى 2/210-211، 402-403 والإحكام للآمدي1/238-239 والبحر المحيط للزركشي 5/73.
3 انظر هذه العبارة في: الوصول لابن برهان1/94، 2/88 والبحر المحيط للزركشي4/498 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/312-314 والصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية 3/797 والموافقات3/15-16 وانظر أصول الشاشي/379 وميزان الأصول للسمرقندي ص319، 320،529، 545، 637، 754، 757.
(1/25)
 
 
أو نحو ذلك، مثل: (الدليل المقتضي، أو الموجب، أو المفيد القطع) 1.
أما العبارة الأولى وهي قولهم: (الدليل القاطع) فيجمع على (أدلة قاطعة) أو (أدلة قواطع) وقد يقدّم الوصف ويضاف إلى الموصوف فيقال: (قواطع الأدلة) 2 وقد يحذف الموصوف فيقال (القواطع) .
والقطع في هذه العبارة صفة للدليل حقيقة بإسناده إليه، فالدليل هو الذي يَقطع، أما الذي يقطعه الدليل فالعلماء يذكرون أمورا كثيرة، إذ يقولون في الدليل: إنه قاطع أو يقطع (العذر) 3 أو (الاحتمال) 4 أو نحو ذلك مما يضعف الدليل ويوهن قوته ثبوتا أو دلالة، كالتردد والشك فيه أو
__________
1 انظر هذه العبارة ونحوها في: التقريب والإرشاد للباقلاني1/221 وإحكام الفصول للباجي ص 263،264،265،502 وشرح اللمع الشيرازي1/498 والتمهيد لأبي الخطاب 3/177 وشرح تنقيح الفصول للقرافي/339 وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب2/169 والإبهاج لابن السبكي 1/202، 3/277 وأصول السرخسي1/277-278 وكتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 1/167.
2 وهذا عنوان كتاب في أصول الفقه لأبي المظفر السمعاني، ولأبي المعالي الجويني كتاب "الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد"انظر مقدمته ص23.
3 انظر: الرسالة للإمام الشافعي/460-461 والتقريب والإرشاد للباقلاني1/281 والعدة لأبي يعلى 3/843،875، 4/1316 وإحكام الفصول للباجي ص292،481 وشرح اللمع للشيرازي 1/498،505، 2/600،654 وأصول السرخسي1/277-278 الموافقات 4/183 وتفسير ابن جرير الطبري 8/58-59 وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/33،40 ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية1/28.
4 انظر: البرهان للجويني1/232 والمستصفى2/15 وتقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي2/433.
(1/26)
 
 
الشبهة1 أو الخلاف2.
وأما العبارة الثانية وهي قولهم: "الدليل المقطوع به" فيجمع على (أدلة مقطوع بها) ، والدليل فيها موصوف بالقطع لكنه - في الحقيقة - الأمر الذي حصل به القطع كأنه آلة القطع وليس القاطع نفسه، فيكون تقدير هذه العبارة: (يَقطع موردُ الدليل أو المستدلُ به العذرَ أو الاحتمال بالدليل) ، فالقاطع مورد الدليل أو المستدل به، والعذر أو الاحتمال مقطوع، والدليل مقطوع به.
وقد يحذف الجار في هذه العبارة - وهو الباء من (به) - فيستتر الضمير بعد حذف الجار فيقال: (دليل مقطوع) توسعا بالتعدية إلى الضمير بدون توسط حرف الجر3.
وقد يُعبّر بالقاطع عن المقطوع به فيقال: (دليل قاطع) ويراد (دليل مقطوع به) من باب إسناد ما للفاعل إلى المفعول، لأن القاطع حقيقة - كما سبق - هو مورد الدليل أو المستدل به، لكن يسند فعله (وهو القطع)
__________
1 انظر استعمال الشبهة في معنى قريب من الاحتمال في الأم للإمام الشافعي4/181 وأصول الشاشي379.
2 انظر إطلاق أن الدليل يقطع حكم الخلاف أو نحو ذلك في شرح العمد لأبي الحسين البصري 1/219،244، وهذا يكون في القطعي المطلق الذي يستوي فيه الناظرون، انظر أثر الخلاف في منع القطعية صخطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة. من هذا البحث.
3 انظر الإبهاج للسبكي1/40.
(1/27)
 
 
إلى الدليل (وهو المفعول به) لملابسة فاعل القطع والمفعول به كليهما لفعل القطع، كما ورد مثل ذلك في قوله تعالى: {فَهُوَ فيِ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 1 أي: مرضية2.
ويعدّي أهل العلم - رحمهم الله تعالى - القطع بالباء كما في الأمثلة السابقة، وقد تكون تعدية القطع في هذه العبارة ب (على) ، فيقال: (دليل مقطوع عليه) أو (دليل مقطوع على مُغَيَّبِه) 3 أو نحو ذلك، وذلك محمول - والله أعلم - على أحد أمرين:
الأول: أن ذلك من باب تعدية القطع إلى مدلول الدليل دون ضميره كما في أصل العبارة، فيكون تقدير العبارة - على هذا -: (يُقطع بالدليل على مغيبه) ، فالدليل مقطوع به على مغيبه4.
__________
1 سورة القارعة (7) .
2 انظر شرح المحلي على جمع الجوامع1/22 وقال البغوي في تفسير الآية: " {رَاضِيَة} : مرضية في الجنة، قال الزجاج: ذات رضا، يرضاها صاحبها "تفسير البغوي4/519 وانظر تفسير الخازن 7/237.
3 انظر المعتمد لأبي الحسين البصري 2/113-115، و1/377،2/43،54،58، 68 وشرح العمد للمؤلف السابق 1/122، 143،274،338،346 والعدة لأبي يعلى 2/497،568، 781، 3/881،999،1162 وإحكام الفصول للباجي/502، والتمهيد لأبي الخطاب 2/12، 3/93.
4 ومعنى هذه العبارة (خبر مقطوع على مغيبه) أي: على مدلوله الغائب عن المبلَّغ، فيقطع بهذا المغيب كأنه شاهده أو سمعه، وانظر خصوص هذه العبارة في المعتمد2/113-115 وإحكام الأحكام لابن حزم1/116-117.
(1/28)
 
 
الأمر الثاني: أن تكون تعدية القطع ب (على) والباء في الاستعمال بمعنى، فيقال: جوازا (دليل مقطوع به) أو (مقطوع عليه) .
وهو استعمالٌ كثير عند أبي الحسين البصري1 في المعتمد وشرح العُمَد2.
وموافقة (على) للباء في المعنى استعمال سائغ في اللغة، ومن ذلك قوله تعالى - عن موسى عليه السلام -: {حَقِيقٌ عَلَىَّ أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} 3 قال النحاس رحمه الله4: في بيان معنى {حَقِيقٌ} : " ... بمعنى جدير وخليق، يقال: فلان خليق بأن يفعل وجدير بأن يفعل وعلى أن يفعل
__________
1 هو محمد بن علي بن الطيب، أبو الحسين البصري، من أئمة المعتزلة، أصولي متكلم، من تصانيفه: المعتمد في أصول الفقه، وشرح الأصول الخمسة، توفي سنة (436) هـ. انظر سير أعلام النبلاء 17/587-588 وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي3/259 والفتح المبين في طبقات الأصوليين1/237.
2 فهو يقول مثلا: "النص المقطوع عليه "شرح العمد1/346، ويقول: "الكتاب والسنة المقطوع عليها "شرح العمد1/143، ويقول: "يقطعون على لزوم الحكم "المعتمد2/64. وقد سبقت - قريبا - الإشارة إلى مواضع أخرى من ذلك.
3 سورة الأعراف (105) .
4 هو أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو جعفر النَّحَّاس، نحوي أديب مفسر، من تصانيفه: إعراب القرآن، تفسير أبيات سيبويه، الناسخ والمنسوخ، توفي سنة (338) هـ. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان1/99-100 وسير أعلام النبلاء15/401-402 والأعلام للزركلي 1/208.
(1/29)
 
 
بمعنى واحد "1.
ومن ذلك ورود (على) في المعاوضات المحضة، كالنكاح والبيع والإجارة2، ومنه قوله تعالى - عن شعيب عليه السلام -: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} 3، وتقول: "بعتك هذا الثوب على درهم " ونحو ذلك: أي بدرهم، وذلك من باب تناوب حروف الجر4.
وأما العبارة الثالثة وهي قولهم: (الدليل القطعي) فيجمع على (أدلة قطعية) ، وقد يحذف الموصوف فيقال (قطعيات) .
والدليل في هذه العبارة موصوف بالقطع لكن النسبة هنا مطلقة لا
__________
1 إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس1/628، وانظر موافقة الباء (على) في الاستعمال في حروف المعاني لأبي القاسم الزجاجي ص86 وحروف المعاني لعبد الحي حسن كمال ص179، ويدل على ذلك ما ذكر القرطبي من أن الآية في قراءة أُبيّ والأعمش: (حقيق بأن لا أقول) بالباء بدل (على) انظر تفسير القرطبي7/256.
2 النكاح في الشرع: عقد يرد على تمليك منفعة البضع قصدا. والبيع: مبادلة المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكا وتملكا. أما الإجارة: فهي عبارة عن العقد على المنافع بعوض هو مال. انظر التعريفات للجرجاني: ص246،48،10.
3 سورة القصص (27) وانظر تفسير القرطبي13/373.
4 انظر أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار2/173 والبحر المحيط للزركشي2/306. وانظر مسألة تناوب حروف الجر وما يشترط فيه ومذاهب علماء العربية فيها في النحو الوافي لعباس حسن 2/496-501.
(1/30)
 
 
تشعر بكون الدليل هو القاطع كما في العبارة الأولى، أو بكونه المقطوع به كما في العبارة الثانية.
وأما العبارة الرابعة وهي نحو قولهم: "الدليل المقتضي أو الموجب أو المفيد القطع" فيجمع على (أدلة مقتضية أو موجبة أو مفيدة القطع) .
وهي قريبة من العبارة الأولى (الدليل القاطع) ، لأن اقتضاء الدليل القطع وإيجابه له ظاهره أنه يُلزم من ينظر فيه القطع ويلجئه إليه، وذلك يخرج الدليل عن كونه مثل الآلة المجردة في القطع كما هو ظاهر العبارة الثانية (الدليل المقطوع به) . والله تعالى أعلم.
ألفاظ بمعنى القطع في استعمال الأصوليين:
1- العلم:
وقد اختلف استعمال العلماء للعلم والقطع:
- فالعلم عند بعضهم مرادف للقطع واليقين مرادفة مطلقة، فلا يستعمل لما دون القطع واليقين إلا على سبيل التجوز في الاستعمال، بل ذلك عند
بعضهم ضرب من التناقض في القول وعدم التحقيق فيه1، وعلى
__________
1 انظر تلخيص التقريب للجويني1/167-170، 2/236 وإحكام الأحكام لابن حزم1/142-143 وإحكام الفصول للباجي ص324 والمستصفى2/179-180 والبحر المحيط للزركشي 4/263 وشرح الكوكب المنير1/63-64 وتقويم الأدلة للدبوسي 3/1051-1053 وفواتح الرحموت مع مسلم الثبوت 1/12-13.
(1/31)
 
 
هذا جاء تعريفهم للعلم كقولهم: "هو عبارة عن أمر جازم لا تردد فيه ولا تجويز "1، أو أنه "عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق المعاني الكلية حصولا لا يتطرق إليه احتمال نقيضه"2.
- والعلم عند بعض آخر من العلماء أعم إطلاقا من القطع، فالظاهر الراجح عند هؤلاء علم وإن لم يكن علما مقطوعا به3، فالعلم على هذا يطلق على القطع، وعلى ما دونه، وهو العلم الظاهر أو علم غالب الرأي.
وعلى هذا ظاهر استعمال الشافعي4 - رحمه الله - للعلم في كتابه (الرسالة) ، يدل على ذلك قوله: "العلم من وجوه: منه إحاطة في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر "5، ومثّل للأول باستقبال الكعبة إذا
__________
1 المستصفى1/76-77.
2 الإحكام للآمدي1/13 وانظر المحصول1/83 وشرح مختصر الروضة1/156 والتحرير مع التيسير 1/25.
3 انظر التمهيد لأبي الخطاب3/52 ومجموع فتاوى ابن تيمية4/370-371 والبحر المحيط 1/21-82 وانظر أصول السرخسي 1/326-327 2/129 وميزان الأصول للسمرقندي ص437،568،730 والتحرير مع التيسير1/25 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت1/12-13 والثبات والشمول في الشريعة لعابد بن محمد السفياني ص74-75.
4 هو محمد بن إدريس بن العباس أبو عبد الله الشافعي، من الأئمة المتبعين في الفقه وأصوله، وإليه ينسب المذهب الشافعي، واشتهر بأنه أول من صنف في أصول الفقه مؤلفا مستقلا، صنف فيه الرسالة، ومن تصانيفه: الأم، توفي سنة (204) هـ. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان4/63-169 وسير أعلام النبلاء10/5-99 والفتح المبين للمراغي1/127-135.
5 الرسالة ص478-479.
(1/32)
 
 
كان المصلي في المسجد الحرام، وبفرضية الصلاة والزكاة والحج، ومثّل للثاني باستقبال القبلة إذا كان المستقبل بعيدا عن المسجد الحرام حيث لا يقطع بإصابة البيت، وبقبول عدالة المسلم بما ظهر من إسلامه فيناكح ويوارث، وقد يكون غير عدل في الباطن فلا يقطع من ظاهر حاله أن باطنه كذلك1!
وهو -رحمه الله- إذا أراد العلم القطعي قيد مطلق العلم ب (الإحاطة) كقوله: "والعلم يحيط "2 وقوله: "أحاط العلم"3 وقوله: "يعلم بإحاطة"4، فالدال على القطع في عبارته كلمة: (إحاطة) المقيِّدة لمطلق العلم، ومعناها: إحاطة العلم بظاهر الدليل وباطنه، كقوله فيما سبق: "علم
إحاطة في الظاهر والباطن "وقوله: "حق في الظاهر والباطن "5،
__________
1 انظر الرسالة ص480.
2 الرسالة ص59، 61،300،323،400،488،491.
3 الرسالة ص63،399.
4 الرسالة ص489.
5 الرسالة ص478،485،486. يقول الشاطبي: "المراد بالظاهر هو المفهوم العربي، والباطن هو مراد الله من كلامه وخطابه "الموافقات3/383-384 وانظر3/386، 388، وقال محمد أديب صالح في كتابه: تفسير النصوص1/373 حاشية رقم (2) : " (الظاهر) في كلام الشافعي والطبري وغيرهما - كما يبدو من مواطن - يراد به: ما تعرفه العرب من كلامها في مخاطبتها، أما (الباطن) : فهو ما يدركه العلماء من طريق الفقه والاستنباط، وليس (الباطن) الذي يتسلح به أهل الضلالة والأهواء عند تفسيرهم للنصوص، فيؤولون تلك التأويلات الباطلة التي لا يصلها بالعربية نسب، ولا تتفق مع مفهومات الشريعة في قليل ولا كثير "وانظر كتاب منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة للشيخ عثمان علي حسن1/402-405.
(1/33)
 
 
وقد يستثني - رحمه الله - بالمشيئة فيقول: "فالعلم - إن شاء الله - يحيط"1 أو "فالعلم يحيط إن شاء الله"2.
وتقييد العلم بالإحاطة أوتمييزه بها أسلوب ورد في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {وَلاَ يحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} 3 وقوله: {وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 4 وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 5 وقوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُّ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} 6، وقد ذكر العلماء - رحمهم الله - في تفسير هذه الآيات معنى مقاربا لما سبق من استعمال الشافعي رحمه الله تعالى7، كما ذكر أهل اللغة أن معنى (أحاط بالشيء علما) : أنه بلغ أقصى العلم به ظاهرا وباطنا8.
__________
1 الرسالة ص400.
2 الرسالة ص61، ولعل هذا من باب الاستثناء في الأمور المجزوم بها، مثل الاستثناء في الإيمان عند السلف كقولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ومن هذا الباب قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ إِنْ شَاءَ اللهُءَامِنِينَ} الآية (27) من سورة الفتح. انظر مجموع الفتاوى 3/289-290.
3 سورة البقرة (255) .
4 الطلاق (12) .
5 طه (110) .
6 النمل (22) ، وفي هذا استعمال الإحاطة نفسها بمعنى العلم.
7 انظر البحر المحيط لأبي حيان2/279 وفتح القدير للشوكاني1/48،4/132 وانظر قريبا من ذلك في تفسير الطبري19/91 وتفسير القرطبي18/176.
8 انظر الصحاح 3/1121 ولسان العرب7/280 والقاموس المحيط4/368-369 والمصباح المنير للفيومي ص 57.
(1/34)
 
 
والعبارة ورد استعمالها في المعنى نفسه عند بعض من جاء بعد الشافعي من الأصوليين كالسرخسي1 2.
وكل ما سبق يجعل تقييد العلم بالإحاطة - للدلالة على قوته - أسلوبا أصيلا في اللغة وفي أصول الفقه، كما أن في ذلك إشارة إلى جواز استعمال مطلق العلم في ما دون القطع.
ويؤيد قول من جعل العلم أعم إطلاقا من القطع ما ورد من استعمال العلم في ذلك في النصوص نحو قوله عز وجل: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 3 ومعرفة إيمانهن هي بحسب ما ظهر مع احتمال خلاف ذلك، ونحو قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 4 ويجب اتباع ما لا يفيد القطع من الأدلة وغيرها إذا أفاد ظنا غالبا وكان ظاهرا راجحا.
وهذا وأمثاله على رأي الفريق الأول من باب التوسع والتجوز مثل: استعمال الظن بمعنى العلم5، أو يجعلون العلم في الآية الأولى بمعنى العلم
__________
1 هو محمد بن أحمد بن أبي سهل، شمسُ الأئمة، أبو بكر السرخسي، من أئمة الحنفية في الفقه وأصوله، من تصانيفه: المبسوط في الفقه، وكتاب في أصول الفقه (أصول السرخسي) ، توفي سنة (438) هـ. انظر الفوائد البهية في تراجم الحنفية لأبي الحسنات اللكنوي/158-159 والأعلام للزركلي6/208 والفتح المبين في طبقات الأصوليين1/264-265.
2 انظر استعمال السرخسي للعبارة في أصول السرخسي1/374.
3 الممتحنة (10) .
4 الإسراء (36) .
5 انظر تلخيص التقريب2/236.
(1/35)
 
 
بالتلفظ بالشهادة وذلك عندهم ظاهر الإيمان1، وفي الآية الثانية أن وجوب اتباع ما ليس بقطعي هو فيما دل الدليل القطعي على وجوب اتباعه2.
- وجمع بعض العلماء بين الرأيين بأن للعلم إطلاقين هو في أحدهما خاص بالقطعي، وفي الآخر للقدر المشترك بين القطع وما دونه من الرجحان3.
__________
1 الحق أن الإيمان في الشرع: قول وعمل واعتقاد، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانكم} سورة البقرة (143) أي صلاتكم، وحديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي وهو حديث صحيح. انظر سنن أبي داود مع عون المعبود12/432-433 وسنن النسائي8/110 وسنن ابن ماجه1/22، وصحيح سنن النسائي للألباني3/1030. وانظر تفصيل المسألة في كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص162-163، 211 فما بعدها، ومعارج القبول بشرح سلم الوصول للشيخ حافظ الحكمي 2/587-595.
2 انظر المستصفى2/179-180.
هذا، وقد فرّق الآسنوي بين العلم والقطع من وجه آخر، وهو: أنهما يشتركان في كونهما لليقين، لكن العلم خاص بيقين مستند إلى دليل، والقطع عام فيما استند إلى دليل وما لم يستند إلى دليل كقطع المقلِّد. انظر نهاية السول1/44. وهذا التفريق لا يخرج العلم عن كونه مثل القطع في اليقينية، فهو مثل القول الأول بالنظر إلى أصل القطعية، والفرق بينه وبين القول الأول أن القطع هنا قد يكون لغير دليل بخلاف العلم. والله أعلم.
وفرق الحافظ ابن حجر بين (العلم النظري) و (العلم القطعي) وجعل الثاني أقوى من الأول، بأن الأول يقبل الترجيح أما الثاني فلا يبقى فيه للترجيح مسلك. انظر النكت على ابن الصلاح 1/379 ونزهة النظر ص73. وهذا مثل قول من جعل القطع أخص من العلم.
3 انظر المحصل للفخر الرازي/132 وبيان المختصر1/18،23،48 والإبهاج للسبكي1/30، 2/5 والتوضيح على التنقيح1/18.
(1/36)
 
 
والذي تطمئن إليه النفس هو الرأي الثاني، وهو أن العلم أعم من القطع، لقوة ما يدل على ذلك كما سبق، والله أعلم.
2- اليقين1:
إلا أن أبا الوليد الباجي2 - رحمه الله - فرق بين العلم واليقين، بأن اليقين أعم من العلم، قال: "لأن العلم يتضمن التيقن ومن علم شيئا تيقنه وقد يتيقن بغير علم.. "3، ونقل عن الإمام مالك4 - رحمه الله - عبارة تشير إلى ذلك، وهي قوله: "إن لغو اليمين هو: أن يحلف الرجل على الشيء يتيقنه وهو على خلاف ما حلف عليه "5.
__________
1 انظر المستصفى1/135 والإحكام للآمدي1/68 وبيان المختصر1/18 والإبهاج لابن السبكي 1/323-324 وميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي ص9،450.
2 هو سليمان بن خلف بن سعد، أبو الوليد الباجي، فقيه أصولي، من تصانيفه: إحكام الفصول في أحكام الأصول، في أصول الفقه، وكتاب الحدود، والمنتقى شرح الموطأ، توفي سنة (474) هـ. انظر الديباج المذهب 1/377-385 سير أعلام النبلاء 18/535-545.
3 الحدود للباجي ص28.
4 هو مالك بن أنس بن مالك، أبو عبد الله الأَصبحي الحميري ثم المدني، إمام دار الهجرة وأحد أعلام الأئمة، ينسب إليه المذهب المالكي، أشهر مصنفاته: الموطأ، وذُكر له رسالة في القدَر، وأخرى في الأقضية، ورَوى عنه أصحابه مسائل كثيرة تضَمّن منها كتابُ (المدونة) ، توفي سنة (179) هـ. انظر الديباج المذهب 1/55 فما بعدها، حلية الأولياء6/316-355 ووفيات الأعيان 4/135-138 وسير أعلام النبلاء8/43-121.
5 الحدود ص 28.
(1/37)
 
 
وفُرِّق بينهما - أيضا - بأن اليقين خاص بالعلم الحاصل عن نظر واستدلال، ولذلك لا يوصف به علم الله تعالى1، ولعل من هذا تعريف علماء اللغة اليقين: بأنه العلم وزوال الشك2.
ويجعل بعض العلماء لليقين ثلاث درجات في القطعية، هي: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، ويمثل في التفريق بين تلك الدرجات بأن كل من عقل الموت فهو يعلمه علم اليقين! فإذا احتُضر وعاين مقدمات الموت وأخذته سكراته ورأى الملائكة ... فقد رأى الموت عين اليقين! فإذا انقضى روحه وذاق الموت فقد تحققه حق اليقين3!
3- الجزم:
ومن الألفاظ المرادفة للقطع في استعمال بعض الأصوليين: الجزم4.
__________
1 انظر مصباح المنير ص681 والكليات لأبي البقاء 5/116.
2 انظر المحكم لابن سيده6/315 والصحاح6/2219 ومعجم مقاييس اللغة6/157 ولسان العرب 13/457.
3 انظر التعريفات للشريف الجرجاني ص386 والكليات لأبي البقاء5/116-117 وذكرها الراغب في المفردات ص848 وأشار إلى تفريق بعضهم بينها.
وانظر التفريق بين علم اليقين وعين اليقين في عبارةٍ للقرطبي في تفسيره 3/300، ونَقَل الزركشي التفريق عن بعض العلماء انظر البحر المحيط1/56.
4 انظر الإبهاج لابن السبكي1/323-234.
(1/38)
 
 
معنى القطع في اصطلاح الأصوليين:
والقطع في اصطلاح الأصوليين يطلق على معنيين:
الأول: الحكم الجازم مع عدم احتمال النقيض مطلقا1.
الثاني: الحكم الجازم مع عدم احتمال النقيض احتمالا ناشئا عن دليل.
والقطع بالمعنى الأول أخص منه بالمعنى الثاني، لأنه على المعنى الثاني لا يمنع من القطع الاحتمالُ البعيد الذي لا ينشأ عن دليل فيكون الحكم قطعيا مع مثل هذا الاحتمال2.
وفرق بعض العلماء بين المعنيين في التعبير، وذكر أن المعنى الأول الأخص يسمى: علم اليقين، والمعنى الثاني الأعم يسمى: علم الطمأنينة3.
__________
1 تعريف القطع على هذا المعنى هو تعريف العلم تماما عند من رأى أنهما مترادفان.
واحتمال النقيض هنا يشمل كل ما يضعف الدليل ثبوتا أو دلالة، كالتردد والشك فيه، وكذا الاختلاف فيه عند من يرى أن الاختلاف يزيل القطعيةكما سبق قريبا، وسيأتي - إن شاء الله - تعالى التفصيل في هل الاختلاف يمنع القطعية ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
2 انظر التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة1/129 وفواتح الرحموت مع مسلم الثبوت 2/19، 214-215،377،379 وحاشية المطيعي على نهاية السول 4/15 والمعدول به عن سنن القياس للدكتور عمر بن عبد العزيز محمد ص48 وحاشية رقم (2) ، وتفسير النصوص لمحمد أديب صالح 1/155، 168-169.
وذكر الأمير باد شاه أن القطع بالمعنى الأول الأخص يكون في العقائد وهو بالمعنى الأعم مصطلح الفقهاء. انظر تيسير التحرير1/267.
3 انظر التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة 1/129، 2/3.
(1/39)
 
 
ورُدَّ بأن الطمأنينة تطلق على المعنيين، إذ تطمئن النفس إلى كليهما، فيكون معنى علم الطمأنينة على المعنى الأخص للقطع: سكون النفس بكمال اليقين، وإطلاق علم الطمأنينة في المعنى الأعم حيث قارب غيرُ القطع حدَّ اليقين1.
ويتفرع على هذا الاختلاف في معنى القطع الاختلاف في الاعتداد بالاحتمال في رفع القطعية عن الدليل، أيعتد بمطلق الاحتمال أم لا يعتد منه إلا بما كان قريبا له ما يؤيده2.
__________
1 انظر المرجع السابق.
2 انظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
(1/40)
 
 
المطلب الثالث: معنى القطعية في الدليل
اشتقاق القطعية من القطع عند الأصوليين:
يصاغ من القطع مصدر مصنوع1 فيقال: (القطعية) أو (قطعية الدليل) للدلالة على السمات والخصائص التي يشتمل عليها القطع في الدليل من القوة الفاصلة في الثبوت والدلالة، واليقين بما دل عليه من الأحكام، وعدم جواز مخالفته، وعدم احتماله التعارض، ونحو ذلك2.
ومن استعمال القطعية بهذا المعنى قول السبكي3 رحمه الله تعالى:
__________
1 المصدر المصنوع: كل لفظ زيد في آخره ياء مشددة بعدها تاء تأنيث مربوطة ليصير اسما دالا على الخصائص والسمات التي يشتمل عليها ذلك اللفظ، مثل: جاهلية ورهبانية وإنسانية وأنانية. انظر النحو الوافي لعباس حسن3/182-183 والواضح في علم الصرف لمحمد خير الحلواني/171-173 وشذا العَرف في فنّ الصرف للشيخ أحمد الحملاوي ص73 وكتاب الصرف العربي لفتحي عبد الفتاح الدجني ص162-163.
2 هذا مأخوذ من التعريف السابق للمصدر المصنوع.
3 هو علي بن عبد الكافي بن علي أبو الحسين تقي الدين السبكي، فقيه أصولي، من تصانيفه: جزء من الإبهاج في شرح المنهاج في أصول الفقه، وله رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، وهو غير شرح ابنه، توفي سنة 756 هـ. انظر طبقات الشافعية لابن السبكي 10/139-338 والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر 3/134-142 والفتح المبين 2/168-169.
(1/41)
 
 
" ... ومنع بعضهم قطعية هذا الدليل"1.
ول (القطعية) نظائر في أصول الفقه، منها: (الحجية) أو (حجية
__________
1 الإبهاج للسبكي1/40 وانظر التحرير مع التيسير1/12،39،95،142،143 وحاشية المطيعي على نهاية السول1/34،35.
هذا هو المراد بلفظ (القطعية) الوارد في عنوان البحث.
والمراد بأحكام القطعية في الأدلة الأربعة - وهي موضوع الباب الثاني - مسائل الأدلة الأربعة التي تكون القطعية أو ما في معناها أحدَ طرفي الإسناد، ويكون الطرف الآخر دليلا من الأدلة الأربعة، وذلك بنسبة أحد تلك الأدلة إلى القطعية ثبوتا أو دلالة إيجابا، أو سلبا، وفاقا أو خلافا، كقول أهل العلم رحمهم الله تعالى: كتاب الله عز وجل قطعي الثبوت وفاقا، وقولهم: خبر الواحد قطعي أو خبر الواحد ليس قطعيا والخلاف في ذلك، وقولهم: دلالة العموم قطعية أو ليست قطعية والخلاف في ذلك.
والدليل في الاصطلاح: ما يمكن أن يتوصل بالنظر الصحيح فيه إلى القطع أو الظن، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام على الدليل بشيء من التفصيل عند الكلام على التفريق بينه وبين الأمارة ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) ، وانظر تعريف الدليل في: إحكام الفصول للباجي/171 والحدود للباجي ص37 وشرح اللمع للشيرازي1/155-156 والمحصول للرازي1/88 والبحر المحيط 1/34-36.
أما الأدلة الأربعة في العنوان فهي كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع هذه الأمة والقياس على ما ثبت بدليل، وقد اختصت هذه الأدلة بأنها مما اتفق عليه العلماء المحققون والأئمة الأعلام ومن يعتد بخلافهم، اتفقوا على أنها أدلة وطرق منصوبة للوصول إلى الأحكام الشرعية، وهي التي يقصدها كثير من العلماء إذا أطلقوا (الأدلة الأربعة) أو (الأصول الأربعة) عند بيان أدلة الفقه وأصوله. انظر قواطع الأدلة لابن السمعاني ورقة2/أ-ب، ونهاية السول للآسنوي 1/46 والموافقات3/5 وشرح الكوكب المنير2/5-6 وأصول الشاشي ص13 وأصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار1/20 والتلويح على التوضيح 1/19.
(1/42)
 
 
الدليل) أي كونه حجة يجب العمل به، ومنها: (العلية) أو (علية الوصف) بمعنى كونه علة.
معنى القطعية في الدليل:
من معنيي القطع عند الأصوليين يكون معنى القطعية في الدليل عندهم، فعلى المعنى الأول الأخص للقطع يكون معنى القطعية في الدليل: كون الدليل بحيث لا يكون في ثبوته ولا في دلالته1 احتمال مطلقا، وعلى المعنى الثاني الأعم يكون معنى القطعية في الدليل: كون الدليل بحيث لا يكون في ثبوته ولا في دلالته احتمال ناشئ عن دليل.
فالقطعية في الدليل الشرعي معناها: بلوغ الدليل أقصى القوة في ثبوته وإضافته إلى مصدره، وأقصى القوة في دلالته على المراد منه ولا يبقى فيه شك ولا احتمال، فيُسكت هذا النوع من الدليل المعاندَ اللدود، ويذهب سلاطة لسانه وحدّته، وسلاقة منطقه ولحن قوله، ويبكّته بالحق المبين وفصل الخطاب، ويبيّن زيف شبهه ويبطلها، وينقطع عذر من خالفه بعد الوقوف عليه، ويتوجه إليه الذم والمؤاخذة، إذ خالف ما ليس له في مخالفته حق ولا عذر.
وذلك مثل الدليل على توحيد الله، فقد بلغ من القوة أقصاها حتى
__________
1 سيأتي مبحث خاص في جهتي القطعية في الدليل (الثبوت والدلالة) ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
وقد يقيد القطعية في الدليل بإحدى الجهتين فيقال: دليل قطعي الثبوت، أو نص قطعي الدلالة. انظر - بشيء من التصرف - البحر المحيط للزركشي 2/29.
(1/43)
 
 
سماه المولى - سبحانه وتعالى - الحجةَ البالغة، فقال عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تُخْرِصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ البَالِغَةُ} الآية1.
وفي كلام علماء التفسير ما يدل على أن المراد بالحجة البالغة هنا الدليل القطعي بالاصطلاح السابق، قال ابن جرير الطبري2: "ويعني بالبالغة: أنها تبلغ مراده في ثبوتها على من احتج بها عليه من خلقه وقطع عذره إذا انتهت إليه"3، وقال القرطبي4 في تفسير الحجة البالغة: "أي التي تقطع عذر المحجوج وتزيل الشك عمن نظر فيها"5.
__________
1 الأنعام (148،149) .
2 هو محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبري، الإمام المفسر المؤرخ المجتهد، من تصانيفه: أخبار الرسل والملوك (تأريخ الطبري) ، وجامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري) ، واختلاف الفقهاء. توفي سنة (310) . انظر سير أعلام النبلاء 14/268-282 وطبقات المفسرين للداودي 2/106-114 وطبقات الشافعية 3/120-128 والأعلام 6/294.
3 تفسير الطبري8/58-59.
4 هو محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري، أبو عبد الله القرطبي، مفسر فقيه، من تصانيفه: جامع أحكام القرآن في التفسير، وشرح الأسماء الحسنى، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، توفي سنة (671) هـ انظر الديباج المذهب لابن فرحون2/308-309 وطبقات المفسرين للداودي2/65-66.
5 تفسير القرطبي7/128.
(1/44)
 
 
المبحث الثاني: الأدلة الشرعية من حيث القطعية وعدمها
مذهب جماهير أهل العلم أن الأدلة الشرعية السمعية1 منها ما يفيد العلم القطعي واليقين، بحيث لا يبقى عند من نظر فيه في ثبوته ولا في دلالته على المراد منه احتمال ولا تردد ولا اشتباه، وتثبت به أحكام قطعية، وأن منها - دون ذلك - أدلة ظاهرة عرضة للاحتمال وقابلة للتردد في ثبوتها ودلالتها أو أحدهما، ويثبت بها أحكام ظاهرة وراجحة محتملة، وهي مع
__________
1 التحقيق أن الأدلة الشرعية إذا أطلقت شملت الأدلة السمعية (النقلية) والأدلة العقلية التي أقرها الشرع أو استدل بها أو أذن فيها، فالأمثال المضروبة في القرآن الكريم على التوحيد والمعاد وصدق الرسل وغيرها أدلة شرعية، وإن كانت عقلية بمعنى أن العقل يعلمه، لأن نسبة الدليل إلى الشرع معناه أنه نصبه دليلا باستدلاله به أو إذنه في ذلك ولو كان عقليا، لكن أكثر العلماء لا يعني مثل هذه الأدلة العقلية عند كلامه على الأدلة الشرعية وتقسيماتها، بل يقصد بالدليل الشرعي ما يقابل العقلي مطلقا، فيكون الدليل السمعي على اصطلاح أكثر العلماء مرادفا للدليل للشرعي ومغايرا للدليل العقلي مطلقا، وعلى التحقيق السابق يكون الدليل العقلي يقابل السمعي (النقلي) أي الذي لا يعلمه العقل ابتداء وإنما يعلم من خبر الصادق المصدوق والنقل عنه. انظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/198-199 وبيان المختصر للأصفهاني1/454 والبحر المحيط للزركشي 1/36.
لكن المقصود من ذلك هنا في البحث الدليل الشرعي السمعي (النقلي) وهو الذي تثبت به الأحكام العملية (الفقه) ، لأن النافي للقطعية في الأدلة الشرعية أو المثبت لها بقيود لا يلزم أن ينفي أو يقيد كون الأدلة الشرعية العقلية على التوحيد والمعاد وصدق الرسل ... قطعية، والله تعالى أعلم.
(1/45)
 
 
ذلك واجب العمل بها على من ثبتت عنده حجيتها.
فمن أقوال العلماء في ذلك ما يلي:
- قال الإمام الشافعي رحمه الله: "العلم علمان: علم عامّةٍ لا يَسَعُ بالغا غيرَ مغلوبٍ على عقله جَهْلُه ... مثل: الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهر رمضان، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرّم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر ... وهذا الصنف كله من العلم موجود نصا في كتاب الله، وموجود عاما عند أهل الإسلام، ينقله عوامُّهم عمَّن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم، وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع"1.
وقال في الوجه الآخر من العلم: هو "ما ينوب العباد من فروع الفرائض وما يُخَص به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب ولا في أكثره نص سنة وإن كانت في شيء منه سنة فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة، وما كان منه يحتمل التأويل ويدرك قياسا"2.
__________
1 الرسالة/357-359، وفيه إشارة إلى القطعية من الجهتين: (جهة الثبوت) وهي ما ذكره من ثبوت نقله بلا خلاف عند العامة، و (جهة الدلالة) وهي ما ذكره من أنه لا يمكن فيه الغلط ولا التأويل.
2 الرسالة/359، وفيه إشارة إلى أن نفي القطعية قد يكون من جهة الثبوت، وذلك ما ذكره من كون الدليل غير نص من كتاب أو من سنة بل من أخبار الخاصة، وقد يكون من جهة الدلالة، وذلك ما ذكره من كون الدليل بحيث يحتمل التأويل ويستدرك قياسا.
(1/46)
 
 
- وقال القاضي أبو بكر الباقلاني1 رحمه الله: "إن جميع ما يستدل به على الأحكام على ضربين: فضرب منها أدلة يوصل صحيح النظر فيها إلى العلم بحقيقة المنظور فيه ... والضرب الثاني: أمر يوصل صحيح النظر فيها إلى الظن2 وغالب الظن "3.
- وقسم أبو بكر الجصاص4 - رحمه الله - الأحكام إلى قسمين: "أحدهما: ما كان لله تعالى عليه دليل قاطع يوصل إلى العلم ... والثاني:
__________
1 هو محمد بن الطيب بن محمد القاضي، أبو بكر الباقلاني، من أئمة الأشاعرة، فقيه أصولي متكلم، من تصانيفه: التقريب والإرشاد في أصول الفقه، والتمهيد في أصول الدين، والتبصرة بدقائق الحقائق، توفي سنة (403) هـ. انظر الديباج المذهب لابن فرحون2/228 وسير أعلام النبلاء 17/190-193 والفتح المبين1/221-223.
2 الظن: "عبارة عن ترجح أحد الاحتمالين في النفس على الآخر من غير قطع" (إحكام الأحكام للآمدي1/13) ، "وغلبة الظن زيادة قوة أحد المجوزات على سائرها" (إحكام الفصول للباجي ص171) . وانظر تعريف الظن في اللمع ص4 والمحصول1/85 والمختصر مع بيان المختصر 1/51-54. فالدليل الظني هو الموصل إلى الظن وغالب الظن.
3 التقريب والإرشاد1/221-222 ولم يسَمّ الضرب الثاني دليلا لأن مصطلح الدليل عنده خاص بما يوصل إلى اليقين.
4 هو أحمد بن على الرازي، أبو بكر الجصاص، فقيه أصولي حنفي، من تصانيفه: كتاب في أصول الفقه قدم به كتابه: أحكام القرآن، وشرح مختصر الكرخي، وشرح الجامع الصغير والكبير لمحمد بن الحسن، توفي سنة (370) هـ. انظر الفوائد البهية ص27-28 شذرات الذهب لابن العماد 3/71. والفتح المبين1/203-205.
(1/47)
 
 
ما كان طريق الاجتهاد وغالب الظن ليس عليه دليل قاطع يوصل إلى العلم بالمطلوب ... "1.
- وقسّم أبو زيد الدبوسي2 - رحمه الله - الأدلة إلى "موجبة للعلم قطعا "، وإلى أخرى "لا توجب إلا غالب الرأي "3.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله4: "والصحيح أن المسائل تنقسم قسمين: إلى ما يقطع فيه بالإصابة وإلى ما لا ندري أصاب الحق أم أخطأ، بحسب الأدلة وظهور الحكم للناظر" قال: "ولا أظن يخالف في هذا من فهمه"5.
وقال في موضع آخر: "والعلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة:
__________
1 أصول الجصاص ص161-162.
2 هو عبيد الله بن عمر بن عيسى القاضي، أبو زيد الدبوسي، فقيه أصولي حنفي، من تصانيفه: تأسيس النظر فيما اختلف فيه أبو حنيفة وصاحباه ومالك والشافعي، وتقويم الأدلة في أصول الفقه، وكتاب الأسرار في الأصول والفروع، توفي سنة (430) هـ. انظر الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي ص109 وسير أعلام النبلاء17/521 والفتح المبين1/236.
3 تقويم الأدلة1/234-235.
4 هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام أبو العباس تقي الدين بن تيمية الحراني، من الأئمة المتبحرين في علوم كثيرة نقلية وعقلية، له تصانيف كثيرة منها: منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، درء تعارض العقل والنقل، توفي سنة (728) هـ. انظر كتاب الذيل على طبقات الحنابلة2/387-408 والدر الكامنة للحافظ ابن حجر1/145-170 والفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/130-133.
5 المسودة لآل تيمية/504.
(1/48)
 
 
حسية وعقلية، وكشفية1 وسمعية، ضرورية ونظرية2 وغير ذلك، وينقسم إلى قطعي وظني وغير ذلك "3.
وقال ابن القيم رحمه الله4: "إن ألفاظ القرآن والسنة ثلاثة أقسام: نصوص لا تحتمل إلا معنى واحدا، وظواهر تحتمل غير معناها احتمالا مرجوحا، وألفاظ تحتاج إلى بيان فهي بدون البيان عرضة الاحتمال ... فالأول يفيد اليقين بنفسه، والثاني يفيده باطراده في موارد استعماله،
__________
1 قال الجرجاني في التعريفات ص184: الكشف في اللغة: رفع الحجاب، وفي الاصطلاح هو: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية، والأمور الحقيقية وجودا أو شهودا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن عاقبة الإعراض عن الأدلة الشرعية يؤدي إلى الأخذ بأحد طريقين: إما طريق النُظَّار وهي الأدلة القياسية العقلية وإما طريق الصوفية وهي الطريقة العبادية الكشفية ... انظر درء تعارض العقل والنقل5/345-346.
2 الضروري هو: ما لا يحتاج إدراكه إلى تأمل، والنظري: ما يحتاج إدراكه إلى تأمل، ويوصف بالضروري والنظري التصور والتصديق، أي: إدراك الأمر مجردا عن نسبته إلى أمر آخر أو إدراكه مع نسبته إلى أمر آخر. انظر آداب البحث والمناظرة للشيخ محمد الأمين 1/8-11. وذلك كإدراك الدليل مجردا، وإدراكه مع نسبته إلى القطع، أي أنه قطعي.
3 مجموع الفتاوى11/335 وانظر13/118.
4 هو محمد بن أبي بكر بن أيوب، أبو عبد الله شمس الدين ابن قيم الجوزية، فقيه أصولي محدث، لازم شيخ الإسلام ابن تيمية وأخذ عنه، من تصانيفه: اعلام الموقعين عن رب العالمين، زاد المعاد في هدي خير العباد، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، توفي سنة (751) هـ. انظر كتاب الذيل على طبقات الحنابلة2/447-452 والدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 4/21-23 والفتح المبين في طبقات الأصوليين2/161-162.
(1/49)
 
 
والثالث يفيده إحسان رده إلى القسمين قبله"1. اهـ.
وهذا التقسيم ظاهر في مؤلفات أهل العلم من الأصوليين وغيرهم2 حتى حكى أبو إسحاق الشاطبي3 الاتفاق على أن أدلة الشرع ليست كلها قطعية4.
ومن هذا الباب التقسيمات المذكورة في أصول الفقه للدليل الواحد بحسب القطعية وعدمها، كتقسيم الإجماع إلى قطعي وغير قطعي، وكذلك تقسيم القياس والعموم والمفهوم ومسالك التعليل5 ونحوها.
ويشير إلى ما سبق من تقسيم الأدلة قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابَ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية6، قال
__________
1 الصواعق المرسلة2/670-672.
2 انظر التمهيد لأبي الخطاب 3/332،339-342 والبحر المحيط للزركشي1/38-39، 6/108 والموافقات للشاطبي 3/15-16 وشرح الكوكب المنير 1/292-293 وأصول السرخسي 1/279 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت1/58.
3 هو إبراهيم بن موسى بن محمد، أبو إسحاق الشاطبي، من العلماء المخترعين في التصنيف، من تصانيفه: عنوان التعريف بأصول التكليف وهو (الموافقات) ، والاعتصام وهو في البدع، توفي سنة (790) هـ. انظر شجرة النور الزكية ص231 والفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/204-205 ومقدمة "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي"لأحمد الريسوني/89-122.
4 انظر الموافقات2/49-50، وانظر نحو ذلك في شرح مختصر الروضة للطوفي1/276.
5 بحث القطعية في ذلك موضوع الباب الثاني من هذا البحث.
6 آل عمران (7) .
(1/50)
 
 
القرطبي في تفسيرها: "المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال ... والمراد بالمحكم في مقابلة هذا وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا "1، وقال ابن كثير2: "يخبر الله تعالى أن في القرآن {ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه على كثير من الناس أو بعضهم ... {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي: تحتمل دلالتها موافقة الحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد"3.
وقد نقل العلماء مذاهب أخرى في قطعية الأدلة الشرعية تخالف ما سبق من مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله:
- فذهب بعض العلماء إلى أن جميع الأدلة الشرعية قطعية، وما لا يفيد العلم القطعي منها فهو مطروح غير معدود فيها، وعلى هذا المذهب تكون جميع الأحكام الشرعية قطعية، وهذا القول منسوب لبشر المريسي4
__________
1 تفسير القرطبي4/10.
2 هو إسماعيل بن عمر بن كثير، أبو الفداء عماد الدين القرشي الدمشقي، مفسر مؤرخ محدث، من تصانيفه: البداية والنهاية في التأريخ، وتفسير القرآن العظيم، واختصار علوم الحديث، توفي سنة (774) هـ. انظر طبقات المفسرين للداودي1/110-112 والدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/399-400 وشذرات الذهب6/231-232.
3 تفسير ابن كثير1/352. وفي المحكم والمتشابه أقوال غير ما ذكر، ينظر تفسير القرطبي وتفسير ابن كثير كما سبقا.
4 هو بشر بن غياث بن أبي كريمة، أبو عبد الرحمن المَرِّيسي، فقيه متكلم، إليه ينسب طائفة (المريسية) من المرجئة، كان يقول بخلق القرآن، من تصانيفه: الرد على الخوارج، الرد على الرافضة، كتاب الإرجاء، توفي سنة (218) هـ انظر سير أعلام النبلاء1/199-202 الفوائد البهية في تراجم الحنفية ص54 والفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/136-138.
(1/51)
 
 
وابن علية1 وأبي بكر الأصم2 ونفاة القياس من الإمامية3 والظاهرية4.
يدل على مذهب الظاهرية قول ابن حزم5: "والله تعالى يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 6 فصح أن من لا برهان له على صحة قوله
__________
1 هو إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم، أبو بِشْر ابن عُلَيَّة، فقيه محدث، توفي سنة (193) هـ. انظر سير أعلام النبلاء 9/107 وتذكرة الحفاظ 1/322-323 وشذرات الذهب1/333.
2 هو عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم، المعتزلي، من تصانيفه خلق القرآن وغيره، وله مقالات في الأصول، توفي سنة (210) هـ انظر سير أعلام النبلاء 9/402 لسان الميزان لابن حجر 3/427.
3 هم طائفة من الشيعة يقولون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالنص الظاهر والتعيين، ويطعنون في الصحابة، وهم فرق كثيرة منها: الجعفرية والإسماعلية. انظر مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري1/88 وما بعدها، والملل والنحل للشهرستاني 1/162-173 والفَرق بين الفِرق للبغدادي ص38-54 والتعريفات للجرجاني ص37.
4 انظر المستصفى (بولاق) 2/361 والإحكام للآمدي4/143 وشرح مختصر الروضة3/603 والبحر المحيط للزركشي6/640 وميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي ص754 ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت 2/379.
5 هو علي بن أحمد بن سعيد، أبو محمد بن حزم الظاهري، فقيه أصولي متكلم، من تصانيفه: (الإحكام لأصول الأحكام) في أصول الفقه، (المحلى بالآثار) في الفقه، والتقريب في حدود المنطق، توفي سنة (456) هـ. انظر سير أعلام النبلاء18/184-212 وتذكرة الحفاظ للذهبي3/1147-1155 الفتح المبين1/243-233.
6 البقرة (111) .
(1/52)
 
 
فليس صادقا فيه أصلا! وصح بهذا النص أن جميع دين الله تعالى فإن البرهان قائم ظاهر فيه، وحرم القول بما عدا هذا لأنه ظن من قائله بإقراره على نفسه وقد حرم الله تعالى القول بالظن وأخبر أنه خلاف الحق1 وأنه أكذب الحديث2، فوجب القطع على كذب الظن في الدين كله ... وهذا أيضا برهان واضح في إبطال القول بالقياس والتعليل والاستحسان3 في جميع الجزئيات"4.
__________
وذكر في موضع آخر انحصار وجوه الاجتهاد فيما قد وضح برهانه من القرآن، أو من الخبر المسند بنقل الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما نصا على الاسم، وإما دليلا من النص لا يحتمل إلا معنى واحدا، وذكر أن ما عدا ذلك من الوجوه فهي ساقطة5.
1 إشارة منه إلى نحو قوله تعالى: {وإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} سورة يونس (36) .
2 لعله إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث "، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. انظر الصحيح مع فتح الباري 10/481 وصحيح مسلم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي4/1985.
3 مما ذكر في تعريفه أنه: العدول عن الحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول، وفي المراد به وحجيته اختلاف بين العلماء، انظر الحدود للباجي ص65-67 وشرح مختصر الروضة3/190 فما بعد، ونهاية السول4/398 فما بعد، وكشف الأسرار4/2-4 وذكر التعريف المذكور عن الكرخي، وانظر المعدول به عن سنن القياس للدكتور عمر بن عبد العزيز ص31 فما بعدها.
4 إحكام الأحكام لابن حزم2/200-201.
5 إحكام الأحكام لابن حزم8/1479-1482.
(1/53)
 
 
وهذا الدليل الذي ذكر انحصار الأدلة في مثله وطرح غيره دليل قطعي من الجهتين، أما من جهة الثبوت فلكونه من القرآن وهو قطعي، أو بنقل الثقات متصلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قطعي مطلقا عند ابن حزم رحمه الله1، وأما من جهة الدلالة فلكونه نصا على الحكم أو دليلا من النص لا يحتمل إلا معنى واحدا.
ومما استُدِل به لهذا المذهب: "أن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الأحكام إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع، فما أثبته قاطع سمعي فهو ثابت بدليل قاطع، وما لم يثبته فهو باقٍ على النفي الأصلي قطعا، ولا مجال للظن فيه"2.
وعلى هذا القول تكون سائر الأدلة غير القطعية خارجة من جملة الأدلة الشرعية، كالقياس والعموم وجميع مدارك غلبات الظنون وظهور الرجحان3.
أما الإمامية فوجه القول بقطعية جميع الأدلة الشرعية عندهم أنه لا يخلو عصر من العصور من إمام معصوم من الخطأ! وقول المعصوم دليل قطعي في الدين كقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسقط بقوله سائر الأدلة الظنية إذ لا تعارض
__________
1 انظر ص (33) من هذا البحث.
2 المستصفى (بولاق) 2/361.
3 انظر المراجع السابقة التي ذكرت هذا المذهب.
(1/54)
 
 
بين قطعي وظني1.
وهذا المذهب يتبين ضعفه بواقع الشريعة ضرورة، يجده الناظرون في الأدلة الشرعية عند الاستدلال على الأحكام الشرعية، وعند الاجتهاد في طلب الأدلة على أحكام الحوادث والنوازل، فليس كل ما يستدلون به على أحكام تلك النوازل يقطعون به وبأن ما أثبتوا هو حكم الله قطعا2، وأما مذهب الإمامية فهو مفرع على مسألة الإمامة عندهم، وهو قول باطل فما فرع عليه كذلك3.
- وذهب بعض العلماء إلى أن الأدلة الشرعية السمعية ليس شيء منها يفيد القطع مطلقا، وأن أقوى ما يمكن أن تصل إليه هو غالب الظن4.
ولم أجد من نسب هذا المذهب بهذا الإطلاق إلى قائل معين5.
أما السوفسطائية6 فهم ينكرون اليقين مطلقا، ولا يرون العلوم
__________
1 انظر مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت2/379.
2 والمباحث الآتية - إن شاء الله تعالى - في البابين من هذا المبحث تبين ذلك، مثل أثر الاحتمال في إزالة القطعية، وقطعية خبر الواحد، والعموم، والقياس، والإجماع.
3 انظر المسألة بالتفصيل في منهاج السنة لابن تيمية 1/75 فما بعدها.
4 انظر الكاشف عن المحصول للأصفهاني القسم الثاني3/968 والبحر المحيط 21/38-39 وشرح الكوكب المنير 1/292-293 وحاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1/234.
5 وسيأتي - قريبا إن شاء الله تعالى عند ذكر مذهب فخر الدين الرازي - أن من العلماء من نسب مثل هذا الإطلاق إليه في جهة الدلالة، وأنه ربما دل على ذلك كلامه في مواضع من كتبه.
6 هم فرقة يبطلون الحقائق مطلقا، إما بنفيها أو الشك فيها، وإما بجعلها نسبية أي حقا عند مَن هي عنده كذلك باطلة عند مَن هي عنده كذلك، والسفسطة قياس عقلي مركب من الوهميات لتغليط الخصم وإسكاته. انظر الفصل في الملل والنحل لابن حزم1/43-45 والتعريفات للجرجاني ص118-119.
(1/55)
 
 
القطعية أصلا1! لكنهم من غير فرق المسلمين.
ويلتحق بهذا المذهب قول من أنكر وجود النص القطعي، لأنه نفي لوجود القطعي من جهة الدلالة، وكمال القطعية في الدليل أن يكون قطعيا من جهتي الثبوت والدلالة، وقد نسب هذا القول - أي إنكار وجود النص مطلقا - إلى أبي محمد ابن اللبان2،3.
واستُدل لهذا المذهب بأن الدليل لا يكون قطعيا إلا إذا علمت سلامته من المعارض، والعلم بعدم المعارض مستحيل لأن غاية الأمر فيه ألا يعلم بالمعارض وعدم العلم بالمعارض ليس علما بعدم المعارض، وهو المشترط في القطع4.
ويبين ضعف هذا الدليل أن العلم بعدم المعارض مستفاد من الإيمان
__________
1 انظر البرهان للجويني1/96-97.
2 هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، أبو محمد ابن اللَّبَّان الأصفهاني، فقيه أصولي، من تصانيفه: تهذيب أدب القاضي للخصاف، درر الغواص في علوم الخواص، توفي سنة (446) هـ.
انظر سير أعلام النبلاء 17/653 وطبقات الشافعية لابن السبكي 5/72-73 ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة6/125.
3 انظر إحكام الفصول للباجي/189-190 والبحر المحيط للزركشي1/463.
4 انظر شرح الكوكب المنير1/292-293 وحاشية البناني على شرح جمع الجوامع1/234.
(1/56)
 
 
بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم والعلم بأنه صادق فيما أخبر وبلّغ، ولا يجتمع مع اليقين بذلك احتمال مغمور أو تجويز مظلم من العقل المجرد عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ووراثة النبوة، فعدم المعارض يعلمه العلماء الذين ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم1، وإذا انتفى المعارض المزعوم لم يبق لهذا المذهب وجود، لأنه قائم على أنه يحتمل كل دليل أن يكون له معارض لا يعلم، ووجه الرد أن عدم المعارض معلوم من دين الله ضرورة للعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق ما أخبر به، وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل.
مذهب الرازي في قطعية الأدلة الشرعية:
ومذاهب آخر: أن الأدلة الشرعية السمعية لا تفيد اليقين، لما يتطرق إليها من الاحتمالات التي تزيل القطع عن الدليل عند ورودها عليه، إلا أن يكون هناك ما يقطع تلك الاحتمالات من القرائن المشاهدة، أو المنقولة نقلا متواترا، وهذه الاحتمالات هي على سبيل الإجمال والتفصيل كما يأتي:
1- احتمال عدم الوضع: وذلك إذا لم يرو عدد يفيد خبرهم العلم القطعي من نقلة اللغة والنحو والصرف: أن العرب وضعت لفظا معينا لمعنى معين، فيكون اللفظ على هذا محتملا عدم دلالته على معناه الظاهر
__________
1 انظر حاشية البناني على شرح جمع الجوامع1/235. وسيأتي قريبا إن شاء الله عند الكلام على مذهب الرازي ما ذُكر من منع معارضة العقل الصحيح للنقل الصريح.
(1/57)
 
 
لعدم القطع بصدق النقل.
2- احتمال إرادة المتكلم معنى غير ما ظهر من كلامه، فيكون اللفظ مع ظهوره فيما وضع له أولا محتملا للمجاز1 والنقل2 الشرعي أو العرفي.
ومع ظهوره في أنه لمعنى واحد محتملا للاشتراك3.
ومع ظهور اللفظ في أنه للعموم4 أو الإطلاق5 يكون محتملا
__________
1 المجاز: "اسم لما أريد به غير ما وضع له لمناسبة بينهما مع قرينة مانعة عن إرادته، مثل تسمية الشجاع أسدا". انظر تعريف المجاز في العدة 1/172 والمحصول 1/286 ومختصر ابن الحاجب مع بيان المختصر 1/186 ومفتاح الوصول ص59 والبحر المحيط 2/178 وتعليقات الدكتور محمد المختار على سلاسل الذهب (ونص التعريف منها) ص173 حاشية رقم (1) .
2 يؤخذ من المحصول 1/228-229: أنه نقل اللفظ من معناه الموضوع له أولا إلى معنى آخر لمناسبة بينهما، مع كون اللفظ في المنقول إليه أقوى منه في المعنى المنقول منه، ثم إن كان الناقل له هو الشارع كان منقولا شرعيا، وإن كان الناقل أهل العرف كان منقولا عرفيا.
3 الاشتراك: وضع اللفظ لكل واحد من معنيين فأكثر، كالعين. انظر تحقيق سلاسل الذهب ص175، وانظر تعريف المشترك في المحصول 1/261 ومختصر ابن الحاجب مع بيان المختصر 1/163 وشرح مختصر الروضة 2/647 وجمع الجوامع 1/275 والتعريفات للجرجاني ص215 والبحر المحيط 2/122.
4 سيأتي تعريف العام في موضعه ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
5 الإطلاق: تناول اللفظ لواحد غير معين باعتبار حقيقة شاملة لجنسه، نحو (رقبة) من قوله تعالى: {فتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} المجادلة (3) . انظر شرح مختصر الروضة للطوفي2/63، وانظر تعريف المطلق في الحدود للباجي ص47 وإحكام الأحكام للآمدي3/5 والتعريفات/218 وتعليقات سلاسل الذهب ص280.
(1/58)
 
 
للتخصيص1 والتقييد2.
ومع ظهوره أنه للأبد محتملا للنسخ3.
ومع ظهوره في أن ليس فيه شيء مضمر محتملا لذلك.
ومع ظهوره في أنه على ما ظهر من الترتيب محتملا للتقديم والتأخير.
فمع ظهور الدليل في عدم ذلك كله فإن تلك الاحتمالات تمنع من القطع والتيقن بمعنى الدليل لأنها تؤثر في إضعاف الجزم بمعناه الظاهر 4.
3- احتمال معارضة الدليل العقلي للدليل السمعي، والعقلي مقدم على السمعي على هذا المذهب، لأنه أصله الذي به ثبت والأصل مقدم على
__________
1 التخصيص: قصر العام على بعض أفراده بدليل يدل على ذلك. انظر مذكرة الشيخ محمد الأمين/218، وانظر تعريفه في العدة1/155 وشرح اللمع 1/341 والمحصول3/7 وإحكام الأحكام للآمدي2/486 والمختصر مع بيان المختصر2/235 وشرح مختصر الروضة2/505 والبحر المحيط3/241 والتعريفات ص53.
2 التقييد: تناول اللفظ معينا أو موصوفا بأمر زائد على حقيقة جنسه، أو هو إخراج بعض من شائع كذلك، مثل (شهرين) في قوله تعالى: {فَصِيِامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَيْنِ} المجادلة (4) . انظر مختصر ابن الحاجب مع بيان المختصر2/250 وشرح مختصر الروضة2/630، وانظر تعريف المقيد في إحكام الأحكام للآمدي3/5.
3 النسخ: "رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر". مختصر ابن الحاجب مع بيان المختصر 2/489، وانظر تعريف النسخ في العدة لأبي يعلى1/155 والحدود للباجي/49 وشرح اللمع1/481 والمحصول2/282 وإحكام الأحكام للآمدي 3/101 وشرح مختصر الروضة2/251 وجمع الجوامع2/75 والبحر المحيط4/64.
4 راجع أثر الاحتمال في القطعية ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) .
(1/59)
 
 
الفرع عند المعارضة.
وكذلك احتمال أن يعارض الدليل السمعي دليل سمعي آخر فيصار إلى التراجيح الظنية، وكل ذلك مفيد للظن مانع من القطع.
وتكون جملة الاحتمالات: احتمال الخطأ في اللغة أو النحو أو الصرف، واحتمال المجاز، والنقل، والاشتراك، والتخصيص، والتقييد، والنسخ، والإضمار، والتقديم والتأخير، واحتمال المعارض العقلي أوالنقلي.
هذا هو المذهب الذي صرح به فخر الدين الرازي1 في المحصول، فقد ذكر ورود هذه الاحتمالات على الأدلة اللفظية (السمعية) وأخذ في ذلك وردّ ثم خلص قائلا:"واعلم أن الإنصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين من هذه الدلائل اللفظية إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين سواء كانت قرائن مشاهدة أو كانت منقولة إلينا تواترا"2.
__________
1 هو محمد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله فخر الدين الرازي، ويقال له: ابن خطيب الري وابن الخطيب، من أئمة المتكلمين، أصولي مفسر، ولد سنة 453، من تصانيفه: المحصول في علم أصول الفقه، (مفاتيح الغيب) في التفسير، المحصل في أصول الدين، نهاية العقول في أصول الدين أيضا، توفي سنة 606 هـ. انظر طبقات الشافعية لابن السبكي8/81-91 وسير أعلام النبلاء 21/500-501 والفتح المبين2/47-49.
2 انظر المحصول للرازي1/408 وانظر 1/215-217، 3/214، وانظر المحصل للرازي ص142 والمواقف لعضد الدين الإيجي ص40.
هذا وتوجد قاعدة آخرى تتعلق بالأدلة الشرعية، وهي قاعدة التوفيق بين الدليل العقلي=
(1/60)
 
 
..............................................................................
__________
= والسمعي النقلي عند تعارضهما، وهو أنه يقدم الدليل العقلي على الدليل النقلي السمعي مطلقا لأن العقل أصل السمع والدليل عليه، وتقديم الفرع على أصله قدح في الفرع فلزم تقديم العقلي عند تعذر العمل بهما أو تركهما.
وهذه القاعدة حرّرها الرازي وهي عنده ومن تبعه (قانون كلي) فيما يستدل به من الأدلة النقلية في المطالب القطعية من الأصول، ويوجد ما يشير إلى مثل ذلك في كلام بعض من سبقه من أئمة المتكلمين، كالغزالي والجويني والباقلاني. انظر درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام 1/4-7، وكذلك في كلام علاء الدين السمرقندي انظر ميزان الأصول ص433.
ووجه الفرق بين القاعدتين أن إحداهما في بيان أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين مطلقا أو عند عدم انتفاء الاحتمالات العشرة المذكورة، وأما القاعدة الأخرى ففي إثبات جواز معارضة الدليل العقلي للدليل السمعي، ثم تقديم العقلي على السمعي عند تحقق المعارضة، قال شيخ الإسلام إشارة إلى القاعدتين وإلى وجه الفرق في الجواب عنهما في كتابه درء تعارض العقل والنقل1/22 -: "فذاك كلام في تقرير الأدلة السمعية وبيان أنها قد تفيد اليقين والقطع، وفي هذا الكتاب كلام في بيان انتفاء المعارض العقلي وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقا".
والقاعدتان متلازمتان، لأن قاعدة التوفيق عند تعارض العقل والنقل تنتهي إلى أن الدليل النقلي المعارض للدليل العقلي لا يفيد القطع واليقين، إذ إن الدليلين القطعيين لا يتعارضان في واقع الأمر. المرجع السابق1/79-80، 86-87،6/3.
ثم إن من الاحتمالات العشرة المذكورة في القاعدة الأولى احتمالَ المعارض العقلي، وهو أقوى الاحتمالات العشرة لكون القطع بعدمها لا يسهل عند أصحاب هذه القاعدة، وهذا الاحتمال بعينه أساس القاعدة الثانية، كما أن القول إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين يلزم منه تقديم الدليل العقلي القطعي عليها، وسيأتي الجواب عن خصوص قاعدة التوفيق هذه عند الكلام على وجه الرد على خصوص احتمال المعارض العقلي من العشرة الاحتمالات.
والظاهر أن القاعدة الأولى التي في أصل البحث هنا أعم في نفي القطعية عن الأدلة السمعية، لأن القاعدة الثانية (قانون التوفيق) في خصوص نفي القطعية عن الأدلة السمعية عند معارضتها للأدلة العقلية. والله أعلم.
(1/61)
 
 
ووافقه الأصفهاني1 في شرحه للمحصول، وقرر ورود الاحتمالات بالبيان والتفصيل، ثم قال بعد أن ذكر اختيار الرازي كما سبق: "وهذا الذي اختاره المصنف هو الحق "2.
وهذا المذهب يجعل وجود الدليل القطعي السمعي عزيزا، بل إنه ربما استنبط من كتب الرازي ما يجعله قريبا من النفي المطلق لوجود القطعي في الأدلة السمعية.
ومما يبين ذلك أمور:
- أنه ذكر أن كل سمعي يحتمل أن يعارضه دليل عقلي أو أحد الاحتمالات الأخرى، وأن ذلك مخرج له عن القطعية! مع أنه لا يمكن العلم بنفيها بعدم الوجدان لأن الاستدلال بعدم الوجدان لا يفيد إلا الظن3.
- أنه نفى أن يكون غرض المتكلم أن يَفهم السامع من خطابه القطع واليقين، وأنما غرضه الإفهام مطلقا، بمعنى إفادة الاعتقاد الراجح والظن الغالب، مع تجويز نقيضه في الواقع.
__________
1 هو محمد بن محمود بن محمد، أبو عبد الله شمس الدين الأصفهاني، فقيه أصولي متكلم، من تصانيفه: الكاشف في شرح المحصول، و (القواعد) في أصول الفقه وأصول الدين والمنطق والجدل، وغاية المطلب في المنطق، توفي سنة 688 هـ. انظر طبقات الشافعية لابن السبكي 8/100-103 وشذرات الذهب5/406-407 والأعلام 7/308-309.
2 الكاشف عن المحصول القسم الثاني3/982 وما قبلها.
3 انظر المحصول1/406-407.
(1/62)
 
 
واستدل على أن ذلك هو الغرض من الخطاب بأن الأدلة اللفظية متوقفة على تلك الاحتمالات العشرة المذكورة وأنها ظنية وأن ما توقف على الظني فهو أولى أن يكون ظنيا1.
- أنه أطلق القول بعدم إفادة الأدلة اللفظية القطع في مواضع كثيرة، بل ورتب على ذلك القول بظنية بعض الأحكام والمسائل مخالفا فيه الجمهور، مثل القول بظنية كثير من المسائل الأصولية التي يرى الأكثرون أن عليها أدلة قطعية، ك