القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير
المؤلف: عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف
عدد الأجزاء: 2
 
مقدمة
...
رابط ظاهر سوى كونها من أصول الفقه1 فيكون في جمع ما يتغلق منها بموضوع معين سد لبعض الفراغ في هذا الجانب وتيسير على من يبحث في موضوع محدد منها.
ثم إن أبرز سمات هذا الشرع المطهر هو اليسر الذي نص الله تعالى عليه في غير ما موضع في كتابه العزيز، وصرح به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فوقع في نفسي أن أجمع الضوابط والقواعد المعبرة عنه والدالة عليه والمتضمنة له لتكون موضوعا لهذه الرسالة.
فتكونت لدي بذلك - الفكرة - الأولى بأن يكون موضوع الرسالة: (القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير) ، ثم عرضت الأمر على أساتذتي الكرام فوجد منهم قبولا، ولله الحمد، فعزز ذلك منهم
__________
1 يرتب بعض من كتب في القواعد الفقهية كتبهم حسب أهمية تلك القواعد وشمولها، فيذكرون القواعد الكبرى، ثم ماهو أقل منها شمولا مما يندرج تحته مسائل غير منحصرة، ثم ماهو في درجة الضوابط مما يتعلق بباب معين، وقد يضمنون كتبهم فوائد وأبوابا أخرى غير القواعد، ويسرد بعضهم القواعد دون ترتيب معين، وقد يرتب البعض حسب أبواب الفقه إلا أن هذا قد يكون متأتيا في الضوابط أكثر من تأتيه في القواعد. انظر القواعد الفقهية للندوي ص 121، 138، 184، ومقدمة تحقيق القواعد للمقري 1/140 - 141.
(1/8)
 
 
الرغبة لدي وشجعني على الإقدام على الكتابة فيه فعزمت على جعل عنوان هذه الرسالة [قواعد وضوابط التيسير في الشريعة] ثم بدأت الكتابة فيها مستعينا بربي - تبارك وتعالى -.
ثم بدا لي - عند إعداد هذه الرسالة للطبع - أن أجعل العنوان [القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير] ؛ لأنه أوضح دلالة على مضمون الكتاب.
المطلب الثاني: مضمون الكتاب إجمالا:
يتضمن هذا الكتاب ذكر جملة من القواعد والضوابط الفقهية التي صاغها الفقهاء بناء على استقراء وتتبع الفروع الفقهية مما مما يتضمن معنى التيسير على المكلفين بوجه من الوجوه في العبادات والمعاملات ودراستها وفق منهج محدد1.
ودفعا لما قد يرد من أن الشرع كله يسر، وأن تحديد قواعد التيسير قد يؤخذ منه مفهوم مخالفة بأن في الشرع قواعد، أو أحكاما لا تتضمن التيسير أقول:
إن الأصل في التكليف من حيث هو تكليف أن لا يخلو عن قدر من المشقة كما قال - عز وجل -: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
__________
1 سيأتي بيانه قريبا - إن شاء الله-
(1/9)
 
 
وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ... } 1، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره ... "2، وقد عرف علماء اللغة التكليف، بأنه الأمر بما يشق3، وعرفه علماء الأصول بأنه إلزام مقتضى خطاب الشرع4؛ ولأن هذا هو محك الامتحان والابتلاء والتمحيص.
لكن الله - عز وجل - بلطفه ومنه وحكمته وعلمه بضعف عباده جعل هذا التكليف في حدود ما يستطيعه الإنسان من غير حرج أو عسر.
والمراد من بحث هذا الموضوع عرض القواعد والضوابط التي تتضمن معنى التيسير في الأصل والابتداء وتفيد بأن الله تعالى وإن كان قد كلف عباده بأمور فقد جعلها في حدود ما يستطيعونه،
__________
1 الأحزاب (72)
2 أخرجه الإمام مسلم - بهذا اللفظ - من حديث أنس - رضي الله عنه - صحيح مسلم مع النووي: 17/165 (الجنة وصفة نعيمها وأهلها) ، وأخرجه البخاري نحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، صحيح البخاري مع الفتح: 11/327 (الرقاق / باب حجبت النار بالشهوات.
3 انظر: الصحاح: 4/424، والقاموس المحيط: 3/198 (كلف)
4 انظر: شرح الكوكب المنير: 1/483
(1/10)
 
 
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، خلق فقدر، وشرع فيسر، ولم يجعل على الناس في الدين من حرج، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن مأثما، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
وبعد: فهذه مقدمة بين يدي هذا الكتاب أوضح فيها ما تجدر الإشارة إليه قبل الخلوص إلى الموضوع وتشمل هذه المقدمة المطالب التالية:
1) سبب اختيار الموضوع.
2) مضمون الكتاب إجمالا.
3) منهج جمع مادته.
4) منهج عرض مادته.
5) تقسيمه وبيان ما يتضمنه.
6) الإشارة إلى أبرز ما واجهني من صعوبات في هذا البحث.
(1/12)
 
 
المطلب الأول: سبب اختيار الموضوع:
أصل هذا الكتاب رسالة علمية1 ذلك أني لما رغبت في مواصلة دراستي العليا لمرحلة الدكتوراه في شعبة أصول الفقه كان علي أن أختار موضوعا للرسالة التي أعدها لهذا الغرض.
ولقد وجدت أن أكثر موضوعات أصول الفقه قد طرق بالبحث، وكانت مادة القواعد الفقهية قد أنيطت بقسم أصول الفقه وأسند تدريسها إلى أعضائه ومنسوبيه وهي مادة حديثة العهد في الجامعة الإسلاميةفرأيت أن من المناسب أن يكون موضوع رسالتي في نطاق هذا النوع من علوم الشريعة الغراء.
ولما أن توجهت هذا التوجه من حيث الإجمال بدأت البحث التفصيلي عن موضوع مناسب من موضوعات القواعد الفقهية، فرأيت أن جمع متفرقها مما يكون متعلقا بموضوع واحد هو من الأمور التي تصلح لتكون موضوعا للرسالة؛ لأن كتب القواعد الفقهية، وكتب الأشباه والنظائر قد انتظمت كثيرا من قواعد الفقه وضوابطه في موضوعات شتى - وفي كثير من الأحيان - لا يربط بين تلك القواعد
__________
1 نوقشت في الجامعة الإسلامية بتاريخ 2/8/1415هـ
(1/13)
 
 
والقواعد والضوابط التي تتضمن زيادة تيسير بخروجها عن الأصل العام في بعض الأحوال التي يكون تطبيقه فيها مؤديا إلى المشقة والحرج.
ومن المعلوم أن القواعد الفقهية ليست جميعها على هذه الشاكلة، فهناك من القواعد ماهو موضوع لبيان الحقوق وضبطها فهذه لا تدخل في قواعد التيسير إلا من باب أنها من الشرع والشرع كله يسر.
المطلب الثالث: منهج جمع مادة الكتاب:
لقد سلكت في جمع مادة هذا الكتاب سبيل الاستعراض لأشهر كتب القواعد الفقهية فاستعرضت جملة منها وحرصت على أن تكون هذه الكتب شاملة للمذاهب الأربعة.
وسأعرض فيما يلي أسماء أهم الكتب التي استعرضتها لجمع هذه القواعد والضوابط مصنفة حسب المذاهب الأربعة ومرتبة حسب وفيات مؤلفيها.
أ) المذهب الحنفي:
1) الأصول التي مدار كتب الحنفية للكرخي1.
__________
1 ستأتي ترجمة هذا العلم ومن بعده عند أول ورود لذكرهم بعد هذه المقدمة - إن شاء الله -
(1/14)
 
 
2) القواعد والضوابط المستخلصة من كتاب التحرير للحصيري استخلصها على أحمد الندوي.
3) الأشباه والنظائر لابن النجيم.
4) شرح القواعد الفقهية (شرح لقواعد مجلة الأحكام العدلية) تأليف الشيخ أحمد الزرقاء.
ب) المذهب المالكي:
1) الفروق للقرافي.
2) القواعد للمقري (القسم المطبوع منه) .
3) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي.
ج) المذهب الشافعي:
1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام. للعز بن عبد السلام.
2) المجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي (القسم المحقق منه)
3) الأشباه والنظائر السبكي.
4) المنثور للزركشي.
__________
1 رسالة دكتوراه مكتوبة بالآلة الكاتبة.
(1/15)
 
 
5) مختصر من قواعد العلائي وكلام الأسنوي لإبن خطيب الدهشه.
6) الأشباه والنظائر السيوطي.
د) : في المذهب الحنبلي:
1) القواعد النورانية الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
2) القواعد لابن رجب
3) خاتمة مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام لابن عبد الهادي
4) القواعد والأصول الجامعة لابن سعدي
لإضافة على مراجعة عدد آخر من كتب القواعد الفقهية الأخرى واكتفيت - في جمع القواعد والضوابط - باستقراء هذه المجموعة من كتب القواعد عن غيرها مماهو اختصار لها، أو شرح، أو تنقيح أو نحو ذلك مع الاستفادة من تلك الشروح، أو المختصرات، أو التنقيحات.
ولا شك أن عرض هذه المجموعة من القواعد والضوابط لا يعد استقصاء لكل القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة لمبدأ للتيسير بحيث لا يكون غيرها معدودا من قواعد التيسير وذلك لسببين رئيسين:
(1/16)
 
 
أحدهما: أن هذه هي طبيعة البحوث المبنية على استعراض مؤلفات العلماء، فإنه لا يمكن الاستقصاء إلا بقراءة واستعراض كل ما كتب. وفي هذا من الصعوبة ما لا يخفى.
الثاني: أن الحكم على قاعدة معينة بأنها من قواعد التيسير أة على ضابط بمثل هذا الحكم أمر قد تختلف فيه وجهات النظر، فإن القاعدة الواحدة قد تعتبر من بعض الوجوه داخلة ضمن موضوع هذا العنوان ومن وجه آخر غير داخلة.
المطلب الرابع منهج عرض المادة العلمية:
نهجت في عرض مادة الكتاب الطريقة التالية:
أولا: أذكر نص القاعدة، أو الضابط باللفظ الذي ذكره الفقهاء، وقد أتصرف في صياغتها إذا اقتضى الأمر شيئا من ذلك، وأنبه عليه، بأن أجعل كلمة ((صياغة)) بعدها، وذلك لأن بعض العلماء قد يذكر القاعدة مفصلة فأتصرف في استخلاص ما يدخل تحت موضوع الرسالة منها، كما أن بعض القواعد والضوابط قد تمر عرضا في ثنايا كلام بعض الفقهاء دون النص على كونها قاعدة أو ضابطا.
ثانيا: أذكر من أورد القاعدة أو الضابط ممن اطلعت على إيرادهم
(1/17)
 
 
لها فأبدأ بمن صرح بذكر القاعدة أو الضابط، وأعقبه بمن ألمح إليها ممن كتب في القواعد الفقهية، ثم أذكر من علل بها من الفقهاء، ثم من ذكرها أو أشار إليها من الأصوايين - إن وجد -.
ثالثا: أبين معاني مفردات القاعدة أو الضابط، إن كان من مفردات ما يحتاج إلى بيان.
رابعا: أشرح القاعدة أو الضابط شرحا إجماليا.
خامسا: أعرض الأدلة الدالة على صحة القاعد أو الضابط مقدما الدليل الصريح في دلالته على غيره، وأبين وجه الاستدلال منها حيث يلزم ذلك. وأقرن ذلك بأقوال العلماء في الاستدلال به على حكم القاعدة. وإذا كانت القاعدة أو الضابط محل خلاف فإني أعرض أدلة المخالفين الذين لا يرون صحة القاعدة أة الضابط حينما يكون الخلاف في ذلك ظاهرا ومشهورا.
وقد سلكت في لإيراد الأدلة مسلك ذكر نماذج من الأدلة التي يكون وجه الدلالة منها على القاعدة أو الضابط متفقا دون استقصاء تلك الأدلة حيث رأيت أن أذكر وجه الدلالة من تلك النماذج يغني عن سرد الأدلة المتفقة معها في وجه الدلالة.
(1/18)
 
 
سادسا: أبين من يعمل بتلك القاعدة، أو ذلك الضابط من الفقهاء ومن يخالف ويكون ذلك - في الغالب - مبنيا على أقوالهم في المسائل الفقهية المندرجة تحت تلك القاعدة، وأنقل - في الغالب - شيئا من تلك الأقوال لإثبات العمل بالقاعدة أو الضابط، أو العكس.
سابعا: أمثل للقاعدة الفقهية أو الضابط بعدد من الفروع الفقهية وأراعي في صياغة الفرع الفقهي موافقته لمقتضى القاعدة - وإن كانت المسألة خلافية - وقد أذكر الفرع الفقهي ببيان صورته دون الحكم أو أذكره على صيغة الاستفهام إذا كان في الحكم تفصيل يطول وأحيل في تفصيل ذلك على كتب الفقه، وقد أحيل على بعض شروح الحديث أو كتب القواعد الفقهية.
ثامنا: أبين وجه التيسير في القاعدة أو الضابط.
وقد راعيت - أثناء ذلك - ما تستلزمه المنهجية في البحث:
1) فعزوت الآيات إلى مواضعها من سور القرآن الكريم
2) وعزوت1 الأحاديث النبوية، وآثار الصحابة - رضوان الله
__________
1 العزو أخحص من التخريج إذ التخريج يتضمن دراسة السند. انظر: المدخل إلى تخريج الأحاديث والآثار والحكم عليها /13.
(1/19)
 
 
عليهم- إلى مواضعها من الدواوين؛ وكتب الآثار على النحو التالي:
أعزو الحديث إلى الصحيحين، أو أحدهما إن كان فيهما أو في أحدهما، فإن لم يكن فيهما أو في أحدهما عزوت إلى كتب السنن الأربعة، فإن لم يكن فيها عزوت إلى موطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، وهكذا إلى ما اقتضى الأمر فيه مخالفة هذا المنهج وإذا تكرر الحديث في شيء من كتب السنة فإني لا ألتزم بيان تلك المواضع بل أكتفي بذكر موضع واحد من ذلك الكتاب، ثم أثبت حكم علماء الفن على الحديث - موجزا - إذا لم يكن الحديث في الصحيحين أو أحدهما.
أما الآثار فاكتفيت بعزوها إلى مواضعها من كتب السنة، أو كتب الآثار ولم ألتزم بيان الحكم عليها من حيث الصحة أو عدمه، لعدم تيسر ذلك؛ لأن الآثار لم تحظ - بعد - بما حظيت به السنة من خدمة وعناية.
3) وبينت معاني الألفاظ الغريبة الت تحتاج - في رأيي - إلى بيان، وكذلك ما كان من المصطلحات العلمية محتاجا إلى ذلك.
4) وترجمت للأعلام - ما عدا الأنبياء والملائكة عليهم السلام،
(1/20)
 
 
والخلفاء الراشدين، والأئمة الأربعة - ترجمة موجزة ضمنتها ذكر اسم المترجم له، وتاريخ ولادته - إن وقفت عليه - وتاريخ وفاته، وذكر بعض مؤلفاته، وأحرص على أن تكون من كتب الفقه، أو الأصول، أو القواعد الفقهية، كما أراعي أن تكون الكتب المذكورة غير ما أحيل إليه من كتب العلَمَ المترجم زيادة للفائدة.
5) عند ورود الفروع الفقهية فإن كانت معرفة آراء الفقهاء فيها مقصودة بينت ذلك وأحلت إلى كتب الفقهاء، أو أكتفي بالإحالة إلى المراجع إذا كان التفصيل فيها كثيرا. وإن كان ورود الفرع الفقهي عرضا لم ألتزم ذلك.
وأعقبت ذلك بخاتمة مختصرة ضمنتها شكر الله تعالى على ما منَّ به من إكمال هذا البحث، وأهمَّ ما ظهر لي من نتائج خلاله، ثم ختمت الرسالة بوضع قائمة بمراجع البحث، وعدد من الفهارس التي تسهل على الباحث الوصول إلى غايته وهذه الفهارس هي كما يلي:
1) فهرس الآيات القرآنية مرتبة حسب السور
2) فهرس الأحاديث النبوية مرتبة حسب حروف المعجم مراعيا في ذلك الحرف الأول من نص الحديث، أو من الجزء المستدل به
(1/21)
 
 
الوارد في الكتاب إذا لم أورد الحديث كاملا.
3) فهرس الآثار المروية عن الصحابة - رضي الله عنهم - على نهج فهرس الأحاديث.
4) فهرس الألفاظ المفسرة والمصطلحات سواء كان ذلك من مفردات القاعدة أم غيرها ورتبت تلك الألفاظ والمصطلحات على حروف المعجم مكتفيا في ذلك بالموضع الذي ورد فيه بيان معنى اللفظ، أو تعريف المصطلح.
5) فهرس القواعد والضوابط الواردة في الكتاب مرتبة على حروف المعجم.
6) فهرس المسائل الفقهية مرتبة على أبواب الفقه وحددت مواضع ورود تلك المسائل (برقم القاعدة أو الضابط) ، وعدلت عن الإشارة إلى رقم الصفحة تفاديا للتكرار؛ لأن المسألة الواحدة قد ترلد فب القاعدة الواحدة عدة مرات فترد مجملة، ثم ترد مفصلة وقد تتكرر بذكر قيودها وكل ذلك إيراد لمسألة واحدة.
7) فهرس الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب وقد رتبتهم على حسب شهرة كل منهم وأتبعت الشهرة بذكر الاسم، وميزت رقم الصفحة التي ترجم فيها للعلم بجعله بين قوسين، وإذا كان للعلم أكثر من شهرة أوردته في كل شهرة له وأحلت إلى الموضع
(1/22)
 
 
رالأول مع عدم اعتبار ((أل)) التعريف، أو كلمة ((أبو)) ، أو ((أم)) ، أو ((ابن)) ، أو نحوها في الترتيب. وأشير في كل ما تقدم إلى ما يكون من ذلك في الحاشية بحرف (ح) ما عدا الأعلام فإني لا أذكر من ورد منهم في الحاشية؛ لأنه تكرار - غالبا - وإذا تكرر شيء من ذلك في صفحة واحدة أشرت إلى ذلك بحرف (ك) ما عدا المسائل الفقهية على ما تقدم إيضاحه.
8) فهرس الموضوعات.
المطلب الخامس: تقسيم الكتاب، وترتيبه، وعملي فيه:
بعد جمع مادة الموضوع وجدت أن المناسب لتقسيم الكتاب أن يكون في مقدمة، وتمهيد، وقسمين، وخاتمة. إضافة إلى ما يلزم من إعداد قائمة بمراجع البحث، وفهارس.
فأما المقدمة فقد بيان ما تضمنته.
وأما التمهيد: فقد قسمته إلى ثلاث مباحث
المبحث الأول: في تعريف القاعدة الفقهية، والضابط الفقهي والفرق بينهما.
والمبحث الثاني: في عرض موجز لبعض ما كتب في موضوع التيسير، ومقارنة مضمونه بمضمون هذا الكتاب.
(1/23)
 
 
وأما القسمان الأول والثاني فهما صلب الموضوع.
أفردت الأول منهما لعرض القواعد، وأفردت الثاني لعرض الضوابط على النحو الذي تقدم بيانه. وسلكت في ترتيب تلك القواعد والضوابط الترتيب الهجائي؛ لأنه كان من المعتذر ترتيبها - خاصة القواعد - على حسب الموضوعات الفقهية - مثلا - لدخول القاعدة في أبواب الفقهه1؛ ولأن هذا المنهج قد سبقت إليه2.
المطلب السادس: أبرز الصعوبات التي واجهتني في إعداد هذه الرسالة:
إذا كان من طبيعة كل بحث أو تأليف أن لا يخلو من قدر من الصعوبة وحاجة إلى بذل المجهود، فإن لكل موضوع سماته التي
__________
1 انظر: مقدمة تحقيق قواعد المقري: 1/181.
2 فهو منهج الزركشي في كتابه المنثور، والخادمي في خاتمة مجامع الحقائق. أنظر: المنثور: 1/67، ومقدمة تحقيقه: 1/45، ومقدمة تحقيق القواعد للمقري: 1/140.
(1/24)
 
 
يتميز بها وعوارصه الخاصة التي يمكن أن تتعرض الباحث فيه.
وأشير هنا إلى أبرز ما واجهني من صعوبات مما يتميز به هذا الموضوع بيانا للواقع، والتماسا للعذر عما عساه أن يقع من نقص، فمن ذلك:
1) تحيح القاعدة التي تعد من قواعد التيسير، وكذلك الضوابط، إذ أن هذا من الأمور التي تختلف فيها وجهات النظر.
2) الوصول إلى حكم عام بكون القاعدة أو الضابط معمولا بهما في هذا المذهب أو ذلاك إذا لم ينص على العمل بتلك القاعدة في مذهب معين؛ لأن استقراء الفروع قد لا يوصل إلى حكم قاطع بذلك، لاختلاف الأحكام فيها باختلاف الملابسات والقرائن ومثال ذلك قاعدة ((المتولد من مأذون فيه لا أثر له)) .
كما أنه قد يروى عن الإمام في مسألة واحدة عدة روايات ومن هنا يصعب الحكم من خلال ذلك بكون تلك القاعدة معمولا بها في هذا المذهب، أو لا. والمقارنة والترجيح بين تلك الروايات
(1/25)
 
 
أو الأقوال في المذهب يطيل البحث وينحى به إلى المنحى الفقهي مما قد يخرجه عن المقصود الأصلي له من بيان القواعد والضوابط.
3) تداخل بعض القواعد مع بعضها وتعدد صيغها - مما لا يكاد يسلم منه من كتب في فنّ القواعد - بحيث كان التخلّص من هذا التكرار أشبه ما يكون بالمتعذر؛ فإن بعض العلماء قد أرجع الفقه كلّه إلى خمس قواعد بل منهم من أرجعه إلى قاعدة واحدة هي جلب المصالح ودفع المفاسد1.
4) أن بعض القواعد تشتمل على تفاصيل كثيرة والباحث - هنا - يحتاج إلى أن يكتب خلاصة لهذه التفاصيل بما لا يخرج بالبحث عن مقصوده الأصلي وهو عرض القواعد وذلك يكلف جهدا ذهبيا غير يسير وربمالم يسلم الباحث فيه من التقصير، ومثال ذلك قاعدة: ((الإكراه يسقط أثر التصرف)) 2.
5) إيراد الفقهاء لكثير من القواعد مجردة عن الدليل وذلك
__________
1 انظر: قواعد الأحكام: 1/11، الأشباه والنظائر للسبكي: 1/12، والأشباه والنظائر للسيوطي ص7-8، ومقدمة تحقيق المنثور: 1/17 - 18، ومقدمة تحقيق إيضاح المسالك ص104-105.
2 راجع هذه القاعدة ص179-194.
(1/26)
 
 
بسبب الاعتماد في استنباطها على الاستقراء والتتبع للمسائل الفقهية الجزئية1، فكان البحث عن دليل القاعدة أمرا عسيرا وكثيرا ما اعتمدت فيه على الأدلة التفصيلية في القضايا المتشابهة.
ثم إن من الواجب الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم فقد كان وراء هذا العمل جهود مشكورة من قبل المشرف على الرسالة صاحب الفضيلة الدكتور: [أحمد بن محمود عبد الوهاب] فجزاه الله عني وعن كل من اكتسب منه علما أو خلقا خير الجزاء، وأسأل الله تعالى لكل من أعانني على إنجاز هذا العمل التوفيق والسداد.
وأسأله سبحانه أن يحسن لنا النية وأن يجعل عملنا في رضاه وأن يجعل ما تعلمناه عونا على طاعته خالصا لوجهه سبحانه إنه على كل شيء قدير.
__________
1 انظر: المدخل الفقهي العام 2/952، ومقدمة المنثور 1/48، ومقدمة القواعد للمقري 1/118.
(1/27)
 
 
التمهيد:
لقد دأب غالب المحدثين الذين حققوا كتبا في القواعد الفقهية على أن يقدموا بين يدي تحقيقاتهم دراسات عن تعريف القاعدة الفقهية، وبيان الفرق بينها وبين ما يشترك معها في بعض مدلولها كالضابط الفقهي، والنظرية الفقهية، وعن نشأة هذا العلم وتطوره، والمراحل التي مرّ بها، ومصنفات العلماء في هذا الفن، وأهمية هذه القواعد ونحو ذلك1.
كما قدم بعض المؤلفين المتقدمين لكتبهم بشيء من هذا2، فنتج من ذلك دراسات وافية شاملة لهذا الموضوع.
هذا بالإضافة إلى الدراسة المستفيضة التي قدمها الدكتور علي بن أحمد الندوي3 في هذا الباب بعنوان [القواعد الفقهية.
__________
1 من ذلك - على سبيل المثال - مقدمة تحقيق المنثور 1/9-39، ومقدمة تحقيق قواعد المقري 1/103-144، ومقدمة تحقيق أيضاح المسالك ص109-126، ومقدمة تحقيق الأشباه والنظائر لابن الوكيل 1/13-24.
2 من ذلك - على سبيل المثال - الأشباه والنظائر للسبكي 1/3-11.
3 هو: الدكتور علي بن أحمد الندوي باحث معاصر. من مؤلفاته كتابين مطبوعان هما في الأصل رسالتاه للماجستير، وللدكتوراه اللتان حصل عليهما من جامعة أم القرى بمكة المكرمة [القواعد الفقهية مفهومها ونشأتها ... ] ، و [القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير] . راجع دليل الرسائل الجامعية في المملكة ص349 (رقم 5399) ، وص350 (رقم5407) ، ومقدمة كتابه القواعد الفقهية ص11.
(1/31)
 
 
مفهومها، نشأتها، تطورها، دراسة مؤلفاتها، أدلتها، مهمتها، تطبيقاتها] .
لهذا رأيت أن الكتابة في هذا الموضوع قد تكون من باب التكرار، وتحصيل الحاصل وأني قد كُفيت الكتابة فيه.
إلا أنني رأيت أن لا أخلي هذا الكتاب وعنوانه [القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير]- عن تعريف القاعدة الفقهية، والضابط الفقهي وبيان لما فرق به العلماء بينهما، وعن بيان للمراد بالتيسير.
كما رأيت أنه من المناسب أن أقدم -بين يدي الموضوع - موجزا لبعض ما كتب في موضوع التيسير لأخلص من ذلك إلى بيان الفرق بين مضمون تلك الكتب، ومضمون هذا الكتاب.
فضمنت هذا التمهيد ثلاث مباحث:
المبحث الأول: في تعريف القاعدة الفقهية، والضابط الفقهي وبيان الفرق بينهما.
(1/32)
 
 
والمبحث الثاني: في بيان معنى التيسير والمراد به في الشريعة.
والمبحث الثالث: في عرض موجز لبعض ما كتب في موضوع التيسير ومقارنة مضمونها بمضمون هذا الكتاب.
المبحث الأول: أولا: تعريف القاعدة الفقهية:
القاعدة الفقهية مصطلح مركب - تركيبا وصفيا -- من كلمتين ((القواعد)) ، و ((الفقهية)) ، وتعريف القاعدة الفقهية ينبني على تعريف كل من جزأي المركب على حده.
فالقاعدة لغة: وزن فاعله من قعد، والقعود يضاهي الجلوس وهو نقيض القيام. على أن بعض أهل اللغة يفرقون بين الجلوس، والقعود من حيث أن القعود يكون من القيام، والجلوس من الضجعة، ومن السجود.
وذكر بعض أهل اللغة أن القعود من ألفاظ الأضداد. يقال: قعد
(1/33)
 
 
إذا قام، ويقال: قعد إذا جلس.
والقاعدة أصل الأسّ، وقواعد البيت أساسه، وتجمع القاعدة على قواعد، وتطلق على القواعد الحسية كما في قوله تعلى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ... } 1، وقوله عز وجل: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ ... } 2، وتطلق القاعدة - مجازا - على غير الحسية كقولك: قواعد الشرع ونحوه3.
وأما في الاصطلاح فالقاعدة: ((قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها)) . وتسمى جزئياتها فروعا4.
والفقهية: نسبة إلى الفقه. والفقه لغة: فهم الشيء والعلم به5.
__________
1 البقرة (127) .
2 النحل (26) .
3 انظر: مقاييس اللغة 8/108-109، والصحاح 2/525، ولسان العرب 11/236، والقاموس المحيط 1/328 (قعد) .
4 الكليات ص728.
5 الصحاح 6/2243، والقاموس المحيط 4/289، (فقه) .
(1/34)
 
 
وفي الاصطلاح هو: "العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسب من أدلتها التفصيلية"1، وعرّف بتعريفات أخرى2.
أما تعريف القاعدة الفقهية باعتبارها علما على هذا النوع من القواعد فقد اختلفت عبارات العلماء في التعبير عنها، وإن المتأمل لتعريفات الفقهاء ليجد أن الغالب أنهم يعرفون القاعدة من حيث هي قاعدة لا من حيث اختصاصها بهذا الوصف - أعني الفقهية - فقد قال السبكي3: "فالقاعدة: الأمر الكلي4 الذي ينطبق
__________
1 التعريفات ص168.
2 انظر: شرح الكوكب المنير 1/40، وأنيس الفقهاء ص308.
3 هو: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي الأنصاري السبكي (تاج الدين) ولد في القاهرة سنة 727هـ، وتوفى سنة 771هـ. له مؤلفات عديدة منها: [جمع الجوامع] في أصول الفقه، و [طبقات الشافعية الكبرى] . انظر الدرر الكامنة 3/39-41، وحسن المحاضرة 1/328.
4 الكلي لغة: نسبة إلى الكل و"الكل" لفظ واحد ومعناه جمع، ويدل على ضم أجزاء الشيء.
وفي الاصطلاح عرف، بأنه ىما لا يمنع تعقل معناه من وقوع الشركة فيه كالإنسان والحيوان ونحو ذلك، وعرف بأنه المفرد الذي لا يمنع تعقل مدلوله من حمله حمل مواطأة على أفراد كثيرة. انظر: الصحاح 5/1812 ((كلل) ، والمفردات ص437 (كل) ، ,آداب البحث والمناظرة 1/16.
(1/35)
 
 
عليه جزئيات1 كثيرة يفهم أحكامها منها"2
وقال ابن خطيب الدهشة3: "القاعدة حكم كليّ ينطبق على جميع جزيئاته لتعرف أحكامها منه"4.
__________
1 الجزئيات: جمع جزئي وهو لغة منسوب إلى الجزء. يقال: جزأت الشيء جزءا قسمته وجعلته أجزاء، وجزء الشيء ما يتقوم به جملته كأجزاء السفينة.
وفي الاصطلاح: هو ما يمنع تعقل معناه من وقوع الشركة فيه، وهو نوعان: جزئي حقيقي وجزئي إيضافي، فالحقيقي هو العلم بنوعيه علم الجنس، وعلم الشخص. والإضافي هو كل كلي يندرج في كلي أعم منه كالإنسان بالنسبة إلى الحيوان. انظر: الصحاح 1/17-18 والمرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص58-60.
2 الأشباه والنظائر للسبكي 1/11.
3 هو: أبو الثناء محمود بن أحمد بن محمد الهمذاني الشافعي وشهرته (ابن خطيب الدهشة) ؛ لأن والده كان خطيبا لجامع الدهشة..، ولد سنة 750هـ وتوفى سنة 834هـ. من مؤلفاته [إغاثة المحتاج] في الفقه، و [تحفة ذوي الأرب في مشكل الأسماء والنسب] وهو في ضبط رجال الصحيحين والموطأ. انظر: الضوء اللامع 10/129-131، وإنباء الغمر 3/468، وانظر: مقدمة كتاب المصباح المنير للفيومي (وهو والد المترجم) بتحقيق عبد العظيم الشناوي /ح.
4 مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي 1/64.
(1/36)
 
 
وقال الخامدي1: "القاعدة في اصطلاح: حكم كلي ينطبق على جميع جزيئاته ليُتَعرَّف به أحكام الجزئيات والتي تندرج تحتها من الحكم الكلي"2.
وقد اعتبر بعض الباحثين هذه التعريفات للقاعدة الفقهية فاعترضوا عليها من جهتين:
الأولى: أن القاعدة الفقهية أغلبية وليست كلية، لأن القاعدة الفقهية كثيرا ما يند عنها بعض فروعها وتستثنى منها.
والثانية: أن هذه التعريفات ليست فيها ما يحدد نوع الجزئيات الداخلة تحتها، فهي تعريفات للقاعدة عموما لا للقاعدة الفقهية خاصة3.
__________
1 هو: أبو سعيد محمد بن محمد بن مصطفى الخامدي، أورده عمر رضا كحالة مرة بهذا الاسم، ومرة باسم، محمد بن مصطفى، ولد سنة 1113هـ. من مؤلفاته: [مجامع الحقائق وشرحه منافع الدقائق] في أصول الفقه، و [حاشية على درر الحكام] . انظر: الأعلام 7/68، ومجمع المؤلفين 11/301، 12/31.
2 هكذا لفظه. خاتمة مجامع الحقائق ص305.
3 انظر: القواعد الفقهية للندوي ص41-45، ومقدمة تحقيق قواعد المقري لابن حميد 1/105-106.
(1/37)
 
 
والذي يظهر لي أن من عرَّف القاعدة بما تقدم من تعريفات لم يرد تعريف القاعدة الفقهية خاصة، وإنما أراد تعريف القاعدة بعمومها، ثم يتعين المراد منها بما تضاف إليه أو توصف به.
ويدل على هذا تمثيل الخادمي للقاعدة - بعد ذكره التعريف السابق - بقاعدة ((الأمر للوجوب)) وهي قاعدة أصولية، وقوله - بعد ذلك -:"قيل: هذا غير الفقهاء، وأما عندهم فحكم أكثري ينطبق على أكثر جزئياته. لكن المختار كون القواعد أعم من أن تكون كلية أو أكثرية"1.
وحينئذ فإنه لا اعتراض على تلك التعريفات من جهة عدم انطباقها على القاعدة الفقهية. وإنما يكون الاعتراض من جهة عدم تعريفهم للقاعدة الفقهية.
كما أنه يمكن - من جهة أخرى - أن يقال: إنه لا يمتنع أن يطلق على القاعدة الفقهية وصف الكلية2 وإن كانت في واقعها أغلبية من حيث أنها كلية بالقوة. أي أنها من حيث الصيغة صالحة لشمول
__________
1 انظر: خاتمة مجامع الحقائق ص305.
2 الكلية: لغة نسبة إلى الكل وقد تقدم معناه قريبا. وفي الاصطلاح: هي الحكم على كل فرد من أفراد الموضوع الداخلة تحت العنوان كقولك كل إنسان حيوان. انظر: آداب البحث والناظرة 1/21.
(1/38)
 
 
جميع جزئياتها، وإنما يستثنى منها ما دل الدليل على خروجه عن حكمها ليدخل في قاعدة أخرى غالبا1.
وعلى كل فقد عرف بعض المعاصرين القاعدة ببعض التعريفات التي حاولوا بها تفادي تلك الاعتراضات ومن ذلك:
تعريف الدكتور أحمد بن حميد2 لها بأنها: "حكم أغلبي يتعرف منه حكم الجزيئات الفقهية مباشرة"3
وتعريف الدكتور الندوي لها بأنها: "أصل فقهي كلي يتضمن أحكاما تشريعية عامة من أبواب متعددة في القضايا التي تدخل
__________
1 انظر: مقدمة الأشباه والنظائر لابن الوكيل 1/18-19، والكليات ص728.
2 هو الدكتور أحمد بن (الشيخ) عبد الله بن حميد عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ومن كتبه المطبوعة: [تحقيق ودراسة القواعد للمقري (قسم العبادات) ] وأصله رسالة دكتوراه، ورسالته في الماجستير بعنوان (مرض الموت وأثره في التصرفات في الفقه الإسلامي) . راجع دليل الرسائل الجامعية في المملكة ص349 (رقم 5405) ، 375 (رقم 5808) وقد جاء فيه أن جهة عمله الجامعة الإسلامية وهو خطأ.
3 مقدمة تحقيق القواعد للمقري 1/106-107.
(1/39)
 
 
تحت موضوعه"1.
وهذا التعريف الأخير - كماهو ظاهر - لم يتحاش وصف القاعدة الفقهية بالكلية؛ لأنه يرى أن الكلية نسبية لا شمولية2.
ثانيا: تعريف الضابط الفقهي:
الضابط لغة: اسم فاعل من ضَبَطَ، والضبط لزوم الشيء وحسبه، وضَبْطُ الشيء حفظه بالحزم، والرجل ضابط أي حازم3.
وأما في الاصطلاح: فيمكن تعريفه بأنه حكم أغلبي يتعرف منه أحكام الجزئيان الفقهية المتعلقة بباب واحد من أبواب الفقه مباشرة4، فهو يشترك - في معناه الصطلاحي - مع القاعدة الفقهية في أن كلا منهما يجمع جزئيات متعددة يربط بينها رابط فقهي5.
__________
1 القواعد الفقهية للندوي ص45.
2 انظر: المرجع السابق.
3 انظرالصحاح 3/1139، ولسان العرب 8/15-16 (ضبط)
4 هذا التعريف مستقى من تعريف الدكتور أحمد بن حميد السابق للقاعدة راجع ص39
5انظر: القواعد الفقهية للندوي ص46، ومقدمة تحقيق قواعد المقري 1/108
(1/40)
 
 
ثالثا: الفرق بينهما:
من أشهر وأضهر ما فُرّق به بين القاعدة الفقهية، والضابط الفقهي، أن القاعدة تشمل فروعا من أبواب متعددة من أبواب الفقه.
أما الضابط فيشمل فروعا من باب واحد من أبواب الفقه1 على أن من العلماء من يطلق على الضابط قاعدة، وقد يطلق العكس2؛ لتقارب معنييهما؛ ولأنه ليس لإطلاق مصطلح ((القاعدة)) ، أو ((الضابط)) على صيغة ما تأثير في قوة استنباط الحكم منها أو ضعفه، والتفرقة بينهما إنما هي تفرقة اصطلاحية.
المبحث الثاني: أولا: بيان معنى التيسير:
التيسير في اللغة: مصدر يسّر ومادته (ي - س - ر) ، واليُسْر هو اللين والنقياد وهو ضد العُسْر3.
__________
1 انظر: الأشباه والنظائر لابن النجيم ص166، وشرحه غمز عيون البصائر 1/38، وحاشية البناني 2/290، والقواعد الفقهية للندوي ص46، ومقدمة تحقيق قواعد المقري 1/108
2 انظر: القواعد الفقهية للندوي ص50-51
3 انظر: الصحاح 6/857، ولسان العرب 15/445 (يسر)
(1/41)
 
 
وقد ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية - في مواضع لا تكاد تنحصر - ما يدل على يسر هذا الدين وسهولته. فيُعَبّر عن هذا المعنى - أحيانا - باليسر كما في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ... } 1.وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ... "2.
ويعبر عنه - تارة - برفع الحرج كما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ... } 3، وروي عن ابن عباس4 - رضي الله عنهما - أنه قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير
__________
1 البقرة (185) .
2 أخرجه الإمام البخاري. صحيح البخاري مع الفتح 1/116 (الإيمان / الدين يسر ... ) .
3 الحج (78) .
4 هو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي (أبو العباس) ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: بخمس سنين، وتوفى - على الراجح - سنة 68هـ. انظر: أسد الغابة 3/192-195، والإصابة 4/141/152.
(1/42)
 
 
خوف ولا مطر قال - أي الراوي - لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته"1
كما يعبر عنه - في مواضع لأخرى - بالوسع كما في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ... } 2، وكما في الرواية الأخرى للحديث السابق " ... قالوا: يا أبا عباس ما أراد بذلك؟ قال: التوسع على أمته"3.
وقد يعبر عنه برفع المشقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة"4.
ثانيا: المراد بالتيسير في الشريعة:
قبل بيان ما يراد بالتيسير في الشريعة لا بد من القول: إن
__________
1 أخرجه الإمام مسلم. صحيح مسلم مع النووي 5/216-217 (صلاة المسافرين / جواز الجمع بين الصلاتين في السفر) .
2 البقرة (286) .
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/346، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. انظر: مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر 5/81.
4 متفق عليه، واللفظ للبخاري. صحيح البخاري مع الفتح 2/435 (الإيمان / الجمعة) وصحيح مسلم مع النووي 3/143، (الطهارة / السواك) .
(1/43)
 
 
اليسر (أو التيسير) أمر نسبي فقد يطلق على ماهو في حدود طاقة الإنسان وإن كان فيه حرج وعنت، وقد يطلق على ماهو في وسع الإنسان بحيث يتمكن من امتثال التكليف دون حرج أو عنت. والذي يظهر من النظر في الرخصة الشرعية بل وفي كل التكاليف أن المراد بالتيسير في الشريعة - غالبا - هو كون الأمر بحيث يمكن امتثاله دون حرج أو مشقة، فإن المكلف يطيق أكثر مما كلف به من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج وغيرها، والرخصة لم تُعَلَّق بعدم القدرة على امتثال الأصل - غالبا - كرخصة قصر الصلاة في السفر، وإباحة الفطر، والمسح على الخفين وغير ذلك، وهذا ما يدل عليه تفسير العلماء لليسر في القرآن الكريم1.
على أننا نجد من المفسرين من يفسر الوسع في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 2 بالطاقة والجهد فيقول: إن معنى الآية: أن الله تعلى لم يكلف بما يخرج عن طاقة المكلف3 ومنهم من يفسر ذلك بأن الله تعالى لم يكلف الإنسان
__________
1 انظر: تفسير القرآن العظيم 1/223، والجامع لأحكام القرآن 2/301، وتفسير القاسمي 3/427، وفتح القدير 1/183.
2 البقرة (286) .
3 انظر: تفسير القرآن العظيم 1/350، والجامع لأحكام القرآن 3/429.
(1/44)
 
 
بما يشق عليه وإن كان في طاقته1.
ولا تعارض بين التفسيرين، فإن الله تعالى لم يكلف بما لا يطاق، ولم يكلف بما يشق ويعسر وما يظهر في بعض التكاليف من مشقة ظاهره فإن تلك المشقة تُغْمَرُ في مقابل ما يترتب عليها من أجر.
المبحث الثالث: ذكر بعض المؤلفات في موضوع التيسير في الشريعة، وبيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين مضمونها ومضمون هذا الكتاب
إن الداعي لهذه المقارنة هو التشابه، بين مدلول عنوان هذا الكتاب وعناوين تلك الكتب، وتقارب معانيها مما قد يُظن معه تطابق محتواها.
ثم إن الكتب التي رأيت أن أعرض مجمل موضوعاتها وأشير إلى الفرق بين مضمونها ومضمون هذا الكتاب هي:
1) كتاب (رفع الحرج، ضوابطه وتطبيقاته) للدكتور صالح بن
__________
1 انظر: جامع البيان 2/497، وفتح القدير 1/307، وانظر: كتاب المشقة تجلب التيسير ص57-60.
(1/45)
 
 
عبد الله بن حميد1.
2) وكتاب (رفع الحرج في الشريعة الإسلامية) للدكتور يعقوب ابن عبد الوهاب الباحسين2. وهما في الأصل رسالتان قدمتا لنيل درجة الدكتوراه.
__________
1 هو الدكتور صالح بن ((الشيخ)) عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن حميد حاصل على الماجستير والدكتوراه في الشريعة الإسلامية / فرع الفقه والأصول من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وهو إمام وخطيب المسجد الحرام، شغل عدة وظائف علمية بجامعة أم القرى، ثم عين نائبا للرئيس العام لشئون المسجد الحرام، والمسجد النبوي للشئون الإدارية، وهو الأن عضو في مجلس الشورى بالمملكة، وعين أخيرا رئيسا للرئاسة العامة لشئون المجسد الحرام والمسجد النبوي. من مؤلفاته [أدب الخلاف] ، و [من خطب المسجد الحرام] ، كتاب [رفع الحرج] ، وهو رسالته في الماجستير، ورسالته في الدكتوراه بعنوان: [القيود الواردة على الملكية] ، انظر: نشر الرباحين في تاريخ البلد الأمين 1/226-231، ودليل الرسائل الجامعية ص 267 (رقم 4114) ، 353 (رقم 5455) .
2 هو الدكتور يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ولد في الزبير عام 1347هـ، تعليمه الجامعي والعالي في كلية الشريعة بالأزهر متخصص في أصول الفقه، حصل على الدكتوراه عام 1394هـ، عمل في البصرة مدرسا في المرحلة الثانوية عام 1371هـ، ودرس في جامعة البصرة عام 1388هـ، ثم عمل في جامعة الإمام أستاذا مساعدا، ثم مشاركا، شارك في بعض المؤتمرات والحلقات الدراسية. من مؤلفاته [أصول الفقه الحد والموضوع والغاية] ، و [التخريجح عند الفقهاء والأصوليين] . انظر: موسوعة أسبار للعلماء والمتخصصين في الشريعة الإسلامية 3/1204-1205.
(1/46)
 
 
3) وكتاب (المشقة تجلب التيسير دراسة نظرية وتطبيقية) للدكتور صالح بن سليمان اليوسف1. وهو في أصله رسالة ماجستير، وسأعرض أولا مجمل مباحث كتابي: رفع الحرج للدكتور/ صالح بن حميد، وللدكنور يعقوب الباحسين مبينا أوجه الاتفاق والاختلاف بينهما، ثم أحاول أن أخلص من خلال ذلك إلى بيان الفرق بين مضمونهما ومضمون هذا الكتاب، ثم
__________
1 هو الدكتور صالح بن سليمان بن محمد اليوسف عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ولد في البكيرية عام 1374هـ، حصل على الماجستير والدكتوراه من قسم أصول الفقه بجامعة الإمام، عمل رئيسا لقسم أصول الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام عام 1415هـ، رسالته للماجستير بعنوان: [المشقة تجلب التيسير] ، ورسالته للدكتوراه بعنوان [نهاية الوصول إلى علم الأصول لصفي الدين الهندي الجزء الأول تحقيق ودراسة] ، انظر: موسوعة أسبار للعلماء والمتخصصين في الشريعة الإسلامية ص388 (رقم 6002) ، ص442 (رقم 6854) .
(1/47)
 
 
أورد مجمل موضوعات كتاب: المشقة تجلب التيسير، وأقارن بين مضمونه ومضمون هذا الكتاب.
أولا: كتاب رفع الحرج للدكتور ابن حميد، والدكتور الباحسين: لقد اختلفت طريقة الباحثين في عرض مادة كتابيهما، واختلفت وجهة نظريهما في إدراج بعض المباحث والفروع تحت أبوابها.
لذا فإنني سأعرض مجمل مباحثهما بصرف النظر عن اندراجها تحت أي باب من أبواب الكتاب.
يشترك الكتابان:
1) في بحث معنى الحرج ورفعه في الشريعة، والتوسع في ذلك1.
2) كما يشتركان في عرض الأدلة الدالة على رفع الحرج نصوصا كانت أو إجماعا، أو معقولا2.
3) وفي بحث علاقة قاعدة ومبدأ رفع الحرج مع الأدلة وتعارضهما3.
__________
1 انظر: رفع الحرج للباحسين ص8-48، ولابن حميد ص42-50.
2 انظر: رفع الحرج للباحسين ص 61-،110 ولابن حميد ص59-93.
3 انظر: رفع الحرج للباحسين ص 121-136، ولابن حميد ص 277-326.
(1/48)
 
 
4) وفي مناقشة العلاقة بين رفع الحرج ومبدأ الاحتياط1.
5) وفي بيان مدى العلاقة بين الأجر والمشقة2.
6) وفي بيان أسباب التخفيف وعوارض الأهلية3.
وانفرد الدكتور ابن حميد بإفراد باب في مظاهر التيسير في الأحكام بيّن فيه أوجها من التيسير في العبادات، والمعاملات، والعقوبات، وضمّنه ذكر أقسام الرخصة وأنواع التخفيف، وذكر ضمن هذا الباب قاعدتين فقهيتين هما: ((الأصل في المنافع الإباحة)) ، و ((الأصل في المضار التحريم)) 4.
وانفرد الدكتور الباحسين بذكر باب في الأدلة، والقواعد الأصولية المنبنية على رفع الحرج فعدّ في ذلك المصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف والعادة، وجعل فيه فصلا للترجيح برفع الحرج5.
__________
1 انظر: رفع الحرج للباحسين ص137-161، ولابن حميد ص 327-345.
2 انظر: رفع الحرج للباحسين ص164-179، ولابن حميد ص347-358.
3 انظر: رفع الحرج للباحسين ص241-316، ولابن حميد ص167-275.
4 انظر: رفع الحرج لابن حميد ص95-165.
5 انظر: رفع الحرج للباحسين ص317-530.
(1/49)
 
 
كما انفرد بذكر باب في القواعد الفقهية المنبنية على رفع الحرج ذكر فيه خمسا من القواعد المشهورة هي:
1) ((الأصل في المنافع الإباحة)) .
2) ((الأصل في المضار التحريم)) .
3) ((المشقة تجلب التيسير)) .
4) ((الضرورات تبيح المحضورات)) .
5) ((الإسلام يجب ما قبله)) .
وأضاف إلى ذلك ثلاث مباحث أحدها في الرخصة، والثاني في التوبة، والثالث في الكفارات1.
وغني عن القول - بعد هذا - أن ما اشترك فيه الكتابان عنوانا قد يختلفان فيه في بعض المضمون، وما انفرد به كلّ منهما عنوانا قد يتضمن نقاط اشتراك.
ومما تقدم يمكن القول: إن الكتابين بحثا في موضوع رفع الحرج من الوجهة الأصولية، أو على سبيل الإجمال ولم يكن من مقصودهما
__________
1 انظر: رفع الحرج للباحسين ص531-669.
وقد عدّ المؤلف هذه المباحث الثلاثة الأخيرة ضمن القواعد المبنية على رفع الحرج، والأقرب اعتبارها نظريات فقهية على ماهو المصطلح في ذلك. راجع: القواعد الفقهية للندوي ص53-57.
(1/50)
 
 
حصر القواعد الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع والكلام عليها تفصيلا.
وبهذا يتبين الفرق بين موضوع ذينك الكتابين، وموضوع هذا الكتاب؛ لأن المقصود هنا بحث التيسير أو رفع الحرج بالكلام على كل قاعدة أفادت هذا المعنى تفصيلا.
ثانيا: كتاب المشقة تجلب التيسير:
وهذا الكتاب عنوانه ظاهر في أن موضوعه هو هذه القاعدة الكبرى حيث فصّل المؤلف القول في هذه القاعدة من خلال بابي الكتاب فبحث معنى القاعدة1، وأدلتها2، وأقسام المشقة3، وأسباب التخفيف4، وتقسيماته5، وأنواعه6، ثم عرض لبعض أحكام المشقة من حيث قصد المكلف لها والأجر عليها7، ثم أفرد فصلا لذكر القواعد الدالة على التيسير فذكر
__________
1 انظر: المشقة تجلب التيسير ص39-60.
2 انظر: المرجع السابق ص61-103.
3 المرجع السابق ص105-120.
4 المرجع السابق ص121-302.
5 المرجع الساب ق ص303-330.
6 المرجع السابق ص333-338.
7 المرجع السابق ص339-369.
(1/51)
 
 
من ذلك ((إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق)) ، و ((الضرورات تبيح المحضورات)) ، و ((الضرورة تقدر بقدرها)) ، و ((الحاجة تنزل منزلة الضرورة)) ، كما ذكر القاعدتين الدالتين على التخفيف من حيث الأصل قاعدة ((الأصل في المنافع الإباحة)) ، وقاعدة ((الأصل في المضار التحريم)) ، وبيّن أثر هذه القواعد في الفروع1.
ومن خلال هذا العرض لمحتوى الكتاب (المشقة تجلب التيسير) يتبيّن الفرق بين مضمونه ومضمون هذا الكتاب.
يضاف إلى هذا، أن هذه الكتب الثلاثة ركزت على التيسير بمعنى رفع المشقة وهذا إنما يكون - في الغالب - فيما هو مطلوب للشرع جزما، ثم يرد التخفيف فيه للعذر الطارئ، وأما التيسير المراد هنا فهو أعم من هذا المعنى، فإن التمكين من زيادة الأجر وتحصيل الثواب ونحو ذلك، والله أعلم.
__________
1 انظر: المشقة تجلب التيسير ص371-580.
(1/52)
 
 
القسم الأول: القواعد
القاعدة الأولى: الاجتهاد لاينقض بالاجتهاد
...
القاعدة الأولى: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
يورد العلماء هذه القاعدة بهذا اللفظ، أو نحوه ضمن القواعد الفقهية، وضمن القواعد الأصولية، فهي إذن قاعدة فقهية أصولية1.
فممن عدها في القواعد الفقهية من الحنفية الكرخي2، والحصيري3،
__________
1 انظر: مجلة الأحكام العدلية مع شرح سليم رستم: 1/26-27، والقواعد الفقهية ص402.
2 انظر: أصول الكرخي المطبوع مع تأسيس النظر للدبوسي ص171.
والكرخي هو: أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال الكرخي، ولد سنة 260هـ، وتوفي سنة 340هـ. من مؤلفاته: [شرح الجامع الكبير] ، و [شرح الجامع الصغير] وكلاهمالمحمد بن الحسن الشيباني. انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2/493-494, والفوائد البهية ص108-109.
3 انظر: القواعد والضوابط المستخلصة من كتاب التحرير ص479، والقاعدة رقم (1) من القواعد الملحقة بآخر الكتاب.
والحصيري هو: أبو المحامد محمود بن أحمد البخاري (جمال الدين) ، ولد سنة 546هـ، وتوفي سنة 636هـ. من مؤلفاته: [التحرير شرح الجامع الكبير] ، و [شرح السير الكبير] وهما لمحمد بن الحسن الشيباني. انظر: تاج التراجم ص69، والفوائد البهية ص205.
(1/55)
 
 
وابن النجيم1، وغيرهم2.
ومن المالكية الونشريسي3، ولفظه: ((الظن هل يُنْقَض بالظن
__________
1 انظر: الأشباه والنظائر له ص105.
هو: زين الدين بن إبراهيم بن محمد المصري الشهير بابن نجيم الحنفي، ولد بالقاهرة سنة 926هـ، وتوفي سنة 970هـ، وقيل سنة 969هـ. من مؤلفاته: [البحر الرائق في شرح كنز الدقائق] في الفقه، و [شرح المنار] في أصول الفقه، انظر: الكواكب السائرة 3/154، والتعليقات السنية على الفوائد البهية (بهامش الفوائد) ص134-135.
2 انظر: المجلة مع شرحها لسليم رستم 1/26، وشرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقاء ص103.
3 هو: أحمد بن يحي بن عبد الواحد الونشريسي، أو (الوانشريسي) ، ولد في حدود سنة 834هـ في قرية (ونشريس) من بلاد المغرب، وتوفي بفاس سنة 914هـ.
من مؤلفاته: [عدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق] ، و [المعيار المعرب عن فتاوى علماء إفريقي والأندلس والمغرب] . انظر: توشيح الديباج ص65، وشجرة النور الزكية ص274-275، وانظر: مقدمة المحقق لكتابه (إيضاح المسالك) ص42-73.
(1/56)
 
 
أو لا)) 1 والتواتي2، وأشار إليها القرافي3.
__________
1 إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص149.
2 انظر: الاسعاف بالطلب ص32.
والتواتي: هو أبو القاسم محمد بن أحمد التواتي من علماء المالكية المعاصرين ولد، في واحة الكفرة بصحراء ليبيا، ونشأ بها، ثم رحل إلى السودان الشرقي لإتمام دراسته وأخذ عن عدد من أهل العلم، له كتاب [مرجع المشكلات] ، و [رفع الالتباس] انظر: كتابه الاسعاف بالطلب مختصر شرح المنهج المنتخب ص ما قبل المقدمة.
3 انظر: الفروق 2/103.
والقرافي هو: أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي المصري، توفي سنة 684هـ. من مؤلفاته: [تنقيح الفصول وشرحه] ، انظر: الديباج المذهب 1/236-239، وحسن المحاضرة 1/316.
(1/57)
 
 
ومن الشافعية العلائي1، والزركشي2، والسيوطي3.
__________
1 انظر: المجموع المذهب في قواعد المذهب (خ) 196/أ.
والعلائي هو: أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الشافعي، ولد سنة 694هـ، وتوفي سنة 760هـ، أو 761هـ. من مؤلفاته [تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم] ، انظر: طبقات الشافعية الكبرى 10/35-38، والدرر الكامنة 2/179-182.
2 انظر المنثور: 1/93، ومختصر قواعد الزركشي للشعراني (رسالة ماجستير) 1/150.
والزركشي هو: أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي (بدر الدين) ، ولد بالقاهرة سنة 745هـ، وتوفي سنة 794هـ. له عدة مؤلفات منها: [البحر المحيط] في أصول الفقه، و [خبايا الزوايا] في الفقه. انظر: الدرر الكامنة 4/17-18، وشذرات الذهب 6/335.
3 انظر: الأشباه والنظائر له ص101.
والسيوطي هو: عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيري الأسيوطي الشافعي، ولد سنة 849هـ، وتوفي سنة 911هـ. له مصنفات كثيرة في فنون شتى منها [الدر المنثور في التفسير بالمأثور] ، و [الحاوي في الفتاوى] في الفقه وعلوم أخرى. انظر: حسن المحاضرة 1/335-344، والكواكب السائرة 1/221-231.
(1/58)
 
 
أما الحنابلة فلم أقف على من يذكرها منهم ضمن القواعد الفقهية لإلا أن فقهاءهم عللوا بها في بعض المواطن من كتب الفروع1 وأوردها الأوصليون منهم2 كما ذكرها عدد من الأصوليين من غيرهم3.
معاني المفردات:
الاجتهاد لغة: افتعال من الجَهد، أو الجُهد وهو الطاقة والجَهد: المشقة، والجُهد: بلوغ الغاية وهو - أي الاجتهاد - في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أمر من الأمور4.
وفي الاصطلاح: له عدة تعريفات منها: أنه استفراغ الفقيه وسعه لدرك حكم شرعي5.
__________
1 انظر: المغني 2/107.
2 انظر: التمهيد 4/348، وشرح الكوكب المنير 4/503، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص383.
3 انظر: المستصفى 2/382، والإحكام للآمدي 2/176، وشرح تنقيح الفصول ص441، وتيسير التحرير 2/234، وفواتح الرحموت 2/395.
4 انظر: الصحاح 2/460، والقاموس المحيط 1/286 (جهد) .
5 شرح الكوكب المنير 4/458، وانظر: مراجع المحقق لمعرفة مزيد من تعريفات الاجتهاد.
(1/59)
 
 
يُنْقَض: النقض ضد الإبرام1 والمراد - هنا - إبطال الحكم الثابت بالاجتهاد الأول ويشمل ذلك ما كان من باب بذل الوسع في استنباط أحكام المسائل التي لم يرد فيها نص، وما كان من باب تحقيق المناط كالتحري في القبلة الذي يراد به العلم بالموضوع على ماهو عليه، وما كان من باب حكم القاضي المبني على البيّنات2.
المعنى الإجمالي:
يريد الفقهاء بهذه القاعدة أن من غلب على ظنه - بالاجتهاد - حكم فعمل به أو أفتى به، ثم اجتهد ثانية - لوقوع ما يستدعي الاجتهاد الثاني -، أو اجتهد غيره فأدى الاجتهاد الثاني إلى خلاف ما أدى إليه الاجتهاد الأول فإن ما ثبت بالاجتهاد الأول لا ينتقض بسبب الاجتهاد الثاني، ولا يلزم من عمل بموجب الاجتهاد الأول أن يعيد - إذا كان مما تتصور فيه الإعادة -، ويتأكد هذا المعنى فيما
__________
1 القاموس المحيط 2/347 (نقض) .
2 انظر: الإحكام للآمدي 4/141، 176-177، والبحر المحيط 5/11، والموافقات 4/165، وإيضاح المسالك ص149، والمغني 2/102، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص333، والقواعد الفقهية للندوي ص415.
(1/60)
 
 
إذا حكم بمقتضى الاجتهاد الأول حاكم. لكن لو كان الاجتهاد الثاني في واقعة ثانية مثل الأولى واختلف الاجتهاد فإنه يلزمه في الواقعة الثانية ما أدّاه إليه اجتهاده الثاني ولا يستمر على حكم الاجتهاد الأول ولا يعدّ هذا نقضا للاجتهاد الأول1.
الأدلة:
يستدل العلماء على صحة هذه القاعدة بعدة أدلة من أهمها:
__________
1) إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك أن جميع القضايا التي اجتهد فيها أبو بكر - رضي الله عنه - ثم اجتهد فيها عمر - رضي الله عنه - فأداه اجتهاده إلى غير ما أداه اجتهاد أبي بكر لم ينقضها عمر بعد توليه الخلافة، وهكذا سائر الخلفاء الراشدين من بعدهما.
ومما يدل على اجماعهم أيضا ما ورد من الآثار عنهم في هذا المعنى ومن ذلك ما روي "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى في امرأة توفيت وتركت زوجها، وأمها، وإخوتها لأمها، وإخوتها لأبيها وأمها فأشرك عمر بين الإخوة لأم، والإخوة
1 انظر: المنثور 1/93، ومختصر قواعد الزركشي (رسالة) 1/150، وشرح القواعد الفقهية ص103، والمدخل الفقهي العام 2/1011، والوجيز ص332-333، والقواعد الفقهية للندوي ص403-408.
(1/61)
 
 
لأب والأم في الثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا"1.
وكان هذا بمرأى ومسمع من الصحابة - رضي الله عنهم - فلم ينكروا عليه.
2) ما رواه عامر بن ربيعة2 - رضي الله عنه - قال: "كنا مع
__________
1 أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه 10/249، والبيهقي في السنن الكبرى 6/255 (الفرائض / المشركة) .
وتسمى هذه المسألة المشركة وتسمى بغير ذلك، وصورتها هي الواردة في هذا الأثر، وكذلك لو كان بدل الأم جدة فإن للزوج النصف، والأم أو الجدة السدس، ثم من العلماء من قال: الثلث للأخوة لأم فرضهم، ويسقط الأشقاء، لأنهم عصبة، ومنهم من شركهم في الثلث بالسوية.
وأورد البيهقي اباب المذكور عددا من الآثار في هذا المعنى. انظر: المغني 9/24، 14/35-36، والعذب الفائض شرح عمدة الفارض 1/101-102، وفرائد الفوائد في اختلاف القولين عن مجتهد واحد ص33، والقواعد الفقهية للندوي ص406-407.
2 هو عامر بن ربيعة بن كعب العنزي - رضي الله عنه - أسلم قديما، وشهد بدرا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة، ثم هاجر منها إلى المدينة، توفي زمن فتنة عثمان - رضي الله عنه - وقيل: بعد قتل عثمان بأيام، انظر: أسد الغابة 3/80-81، والإصابة 3/579.
(1/62)
 
 
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فتغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وأعْلَمْنا1 فلما طلعت الشمس إذا نحن قد صلينا لغير القبلة فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 2"3
ووجه الاستدلال منه أنه لم ينقض اجتهادهم الأول ولم يأمرهم بالإعادة مع تيقنهم الخطأ فيما سبق من اجتهاد، فعدم النقض بالاجتهاد المؤدي إلى الظن أولى4.
3) أن كلا الأمرين - في القاعدة - اجتهاد فليس أحدهما بأولى من الآخر فلا يَنْقضُ المتأخرُ منهما المتقدم.
4) أن نقض الاجتهاد بمثله يؤدي إلى التسلسل واضطراب الأحكام.
5) أن الله تعلى جعل للمجتهد أن ينشئ الحكم في مواضع
__________
1 أعْلَمْنا: أي جعلنا علامة على الجهة التي صلينا إليها. انظر: تفسير القرآن العظيم 1/163-164.
2 البقرة (115) .
3 أخرجه ابن ماجه بهذا اللفظ، وحسنه الألباني. سنن ابن ماجه 1/326 (إقامة الصلاة / من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم) ، انظر: صحيح ابن ماجه للألباني 1/168.
4 انظر: تحفة الأحوذي 2/322، وسبل السلام 1/132-133.
(1/63)
 
 
الاجتهاد بحسب ما يقتضيه الدليل عنده فإذا أدّاه اجتهاده إلى حكم كان هو الواجب عليه، وعمله به عملٌ بما وجب عليه فلا يصح نقضه1.
العمل بالقاعدة:
هذه القاعدة مفروضة في حالتين:
الأولى: أن يتعلق بالاجتهاد حكم حاكم.
الثانية: أن لا يتعلق به حكم حاكم كمالو اجتهد المكلف لنفسه، أو كان الاجتهاد مما لا يتصور فيه ذلك كالتحري في القبلة ونحوه.
فأما الحالة الأولى: فقد نقل عدد من علماء الأصول، وغيرهم الاتفاق عل عدم نقض الاجتهاد فيها باجتهاد آخر سواء كان المجتهد هو الحاكم أم غيره.2.
__________
1 انظر: مجموع هذه الأدلة في الفروق 2/104، والأشباه والنظائر للسيوطي ص101، ولابن النجيم ص105، ومختصر قواعد الزركشي (رسالة ماجستير (1/150، وشرح القواعد الفقهية ص103، والوجيز ص332، والقواعد الفقهية للندوي ص403-407، وشرح الكوكب المنير 4/503.
2 انظر: منتهى السول والأمل /216، والإحكام للآمدي 4/176، وتيسير التحرير 4/234، والوجيز ص23، والقواعد الفقهية للندوي ص406.
(1/64)
 
 
ولم يرتض بعضهم هذا النقل. بل نسبوا القول بعدم نقض الاجتهاد الذي تعلق به حكم الحاكم إلى الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة، وأشاروا إلى وجود من يخالف في ذلك1.
وأكثر ما نُقل هذا عن بعض المالكية2. لذا فقد ساق الونشريسي وغيره القاعدة بصيغة الاستفهام للدلالة على الخلاف فيها3، وصرح التواتي بأن للمالكية فيها قولين4.
أما الحالة الثانية: فإن الأكثرين على عدم نقض الاجتهاد فيها بالاجتهاد كذلك5.
__________
1 انظر: شرح الكوكب المنير 4/503، وإعلام الموقعين 1/111، والفروق 2/103، وإيضاح المسالك ص150. ومن كتب الفقه: حاشية رد المحتار 7/28، والقوانين الفقهية ص253، والتنبيه ص257، والمغني 14/34.
2.انظر: شرح تنقيح الفصول /441، ونشر البنود 2/324-325، والفروق 2/106، وإيضاح المسالك ص150، والإسعاف بالطلب ص32-33.
3 انظر: إيضاح المسالك ص149، والإسعاف بالطلب ص32.
4 انظر المرجع الأخير ص33.
5 انظر: المراجع المتقدمة في الحالة الأولى.
(1/65)
 
 
وقال بعض الحنفية، والحنابلة: يُنْقض على تفصيل في ذلك1.
وكذلك قال ينقضه من يقول بالنقض مع حكم الحاكم من باب أولى2.
من أمثلة هذا النوع مسألة التحري في القبلة3.
ولا يخلو الأمر من مزيد تفصيل حيث فرّق بعضهم بين ما يترتب على تغير الاجتهاد ديانةً4، وما يترتب عليه قضاء5، وليس من
__________
1 انظر: شرح الكوكب المنير 4/509-510، والقواعد الفقهية للندوي ص410-411.
2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص441، ونشر البنود 2/324، والفروق 2/106، وإيضاح المسالك ص149، والإسعاف بالطلب ص32.
3 انظر: حاشية رد المحتار 1/423، شرح الخرشي 1/257، والتنبيه ص29، والمغني 2/111.
4 الديانة لغة من الدين وهو الملة والشريعة، ويطلق بمعنى المجازاة، والمراد به هنا حكم الشيء فيما بين العبد وربه أي قبل رفعه إلى القضاء، ويطلق عليه البعض الحكم في الباطن. انظر: القاموس المحيط 4/365، والمنفردات ص175 (دين) ، وأدب القاضي لابن القاص 2/365، وفيض الباري على صحيح البخاري 1/187.
5 القضاء لغة: الحكم وهو مصدر قضى، والمراد - هنا - حكم الشيء بعد رفعه للقضاء، ويطلق عليه الحكم في الظاهر. انظر: الصحاح 6/2463 (قضى) ، والمرجعين الأخيرين.
(1/66)
 
 
غرضنا بحث تفصيل ذلك1.
ومما تقدم من تفصيل يتبين أن هذه القاعدة معمول بها - من حيث الجملة - في المذاهب الأربعة وعند أكثر الفقهاء وقد نص الفقهاء على بعض الصور التي خرجت عن هذه القاعدة وهي في غالبها غير داخلة أصلا لكون الناقض للاجتهاد نصا أو إجماعا2.
من فروع القاعدة:
يتفرع من هذه القاعدة مسائل منها:
1- مالو كان عنده إناءان بهما ماء أحدهما نجس فاجتهد فظن طهارة أحدهما فاستعمله، ثم تجدد اجتهاده لصلاة أخرى فتغير
__________
1 أشار إلى سيئ من هذا التفصيل الندوي في القواعد الفقهية ص408-412.
2 انظر: المنثور 1/95-96، والأشباه والنظائر للسيوطي ص102، والأشباه والنظائر لابن النجيم ص106، ومختصر قواعد الزركشي (رسالة ماجستير) 1/151، والإسعاف بالطلب ص32-34، والقواعد الفقهية للندوي ص412-415، والإحكام للآمدي 4/176، وأدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح ص109، وتبيين الحقائق 4/88، والقوانين الفقهية ص353، والتنبيه ص257، والمغني 14/34.
(1/67)
 
 
ظنه، فإنه لا ينتقض اجتهاده الأول باجتهاده الثاني1.
2- ومنها مالو اجتهد في تحري القبلة فصلى، ثم اجتهد للصلاة التالية وتغير اجتهاده فإنه يصلي التالية على حسب اجتهاده الثاني ولا إعادة عليه لما مضى2.
3- ومنها مالو اجتهد الحاكم أو القاضي في حادثة فحكم فيها، ثم حدث مثلها فأعاد الاجتهاد وتغير اجتهاده فإنه يعمل في الحادثة الثانية باجتهاده الثاني ولا ينقض حكمه الأول.3.
__________
1 هذا على القول بجواز التحري في هذه الحال وهو رأي الشافعية، ووافقهم بعض فقهاء المذاهب. انظر: تفصيل ذلك في البناية في شرح الهداية 1/547-548، والكافي لابن عبد البر 1/158-159، والمهذب 1/91، والمنثور 1/94، والمغني 1/82، 6/34.
2 انظر: الاختيار 1/47، والمعونة على مذهب عالم المدينة 1/90، والمجموع 3/188، والمغني 1/82، 6/34.
3 انظر: الهداية 3/119، والأشباه والنظائر لابن النجيم ص105، وسراج السالك 2/200-201، والأم 6/204، والمنثور 1/93، والمغني 1/107، القضاء ونظامه ص653.
(1/68)
 
 
وجه التيسير:
أشار العلماء عند تعليلهم لصحة هذه القاعدة إلى ما فيها من تيسير فهي تحسم باب الخلاف وتسد ذريعة الاختلاف بعد استقراء الحكم الاجتهادي وذلك أن نقض الاجتهاد بالاجتهاد يؤدي إلى عدم استقرار الأحكام، واستمرار النزاعات بين الناس، ولا يخفى ما في هذا من حرج. هذا فيما إذا تعلق بالاجتهاد حكم الحاكم، وأما إذا لم يكن كذلك فإن التيسير فيه من حيث أن المكلف لا تلزمه إعادة ما أداه بالاجتهاد الأول؛ لأنه هو الواجب عليه وقد أدّاه فأجزاه1.
__________
1 أشار إلى هذا المعنى كثير ممن أورد القاعدة. انظر: - على سبيل المثال - الفروق 2/104، والأشباه والنظائر ص101، والمغني 2/112-113، وشرح الكوكب المنير 4/503.
(1/69)
 
 
القاعدة الثانية: اختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأعيان
أورد هذه القاعدة الخادمي1، كما أورد صيغة أخرى قريبة المعنى منها وهي قوله: "تبدّل سبب الملك القائم قائم مقام تبدّل الذات"2.
وبهذا اللفظ وردت في مجلة الأحكام العدلية3.
وقد أورد المقري4 قاعدة لفظها: "إذا اختلف حكم الشيء بالنظر إلى أصله وحاله، فقد اختلف المالكية بماذا يعتبر منهما"5.
__________
1 انظر: خاتمة مجامع الحقائق ص310.
2 خاتمة مجامع الحقائق ص315
3 مجلة الأحكام العدلية مع شرح سليم رستم 1/26، وانظر: شرح القواعد الفقهية ص399، والمدخل الفقهي 2/1027.
4 هو: أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد القرشي المقّري، وقيل محمد بن أحمد، ولد بين سنتي 707هـ-718هـ، وقيل في وفاته عدة أقوال، قال محقق كتابه [القواعد] : "إن أقربها إلى الصواب أنه توفي في أواخر عام 758هـ. من كتبه: [عمل من طبّ لمن حبّ] في الفقه وأدلته، و [المحاضرات] في فوائد متنوعة. انظر نيل الابتهاج ص249-254، وشجرة النور الزكية ص232، ومقدمة محقق كتابه القواعد 1/53-99.؟
5 القواعد للمقّري 1/256.
(1/71)
 
 
وهي بمعنى القاعدتين المذكورتين وأورد ابن رجب قاعدة تتعلق بالأعيان بالنسبة إلى تبدل الأملاك، وبيّن أن هذا على نوعين:
أحدهما: ما يتعلق الحكم فيه بملك واحد فإذا زال ذلك الملك سقط الحكم ولو رجع الملك مرة أخرى.
والثاني: ما يتعلق الحكم فيه بنفس العين من حيث هي تعلقا لازما لا يختص تعلقه بملك دون ملك، وذكر للنوعين صورا1. ولم أقف على هذه القاعدة في غير ما تقدم من كتب القواعد، لكن كتب الفقه لم تخل من ذكرها على سبيل التعليل كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
معاني المفردات:
الأسباب: جمع سبب وهو في اللغة: ما يتوصل به لغيره2.
وفي اصطلاح أهل الشرع: ما يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم لذاته، وعُرّف بغير ذلك3.
الأعيان: جمع عَيْنٍ والعين لفظ مشترك بين عدة معان، والمراد هنا
__________
1 انظر: قواعد ابن رجب ص51-52.
2 الصحاح 1/145 (سبب) .
3 شرح الكوكب المنير 1/445، وانظر للتعريفات الأخرى مراجع المحقق في الموضع المذكور، وانظر: السبب عند الأصوليين 1/165-188.
(1/72)
 
 
الشيء نفسه وذاته1.
المعنى الإجمالي:
إذا تغير السبب المقتضي لحكم ما في ذات معيّنة كان ذلك بمثابة اختلاف العين ووجود عين أخرى أو شيء آخر قد يختلف حكمه عن حكمه المبني على السبب الأول وإن كانت الذات المعينه لم تتغير حقيقة كما لو اختلف سبب الملك فإنه يجعل المملوك بالسبب الأول كعين أخرى لها حكمها الخاص2.
وقد وردن الصيغة الأولى للقاعدة بصورة التعميم في اختلاف كل سبب وجاءت الثانية بالنص على تغيّر سبب الملك.
ولعل السبب في هذا أن الصيغة الثانية روعي فيها أصل هذه القاعدة والحديث الدال عليها وهو في تغيّر سبب الملك كما سيأتي نصه قريبا، والصيغة الأولى روعي فيها كون ما ورد في الحديث اختلاف سبب وإن كان واردا في سبب خاص.
الأدلة:
1) ذكر العلماء أن أصل هذه القاعدة هو ما روي "أنه صلى الله عليه وسلم أتي
__________
1 انظر: الصحاح 6/2170، والقاموس المحيط 4/261 (عين) .
2 انظر: شرح القواعد الفقهية ص399، والوجيز ص290.
(1/73)
 
 
بلحم تُصُدّق به على بريرة1 فقال: "هو عليها صدقة وهو لنا هدية"2 فقد بوّب الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: باب إذا تحولت الصدقة3.
وقال الحافظ ابن حجر4 - في شرح هذا الحديث - "بل أخبرهم صلى الله عليه وسلم أن تلك الهدية بعينها خرجت عن كونها صدقة بتصرف المتصّدق عليه فيها"5.
__________
1 هي مولاة عائشة بنت أبي بكر الصديق رض الله عنهم وكانت مولاة لبعض بني هلال، أو لغيرهم فباعوها من عائشة رضي الله عنها فأعتقتها. انظر: أسد الغابة 5/409.
2 أخرجه البخاري ومسلم، صحيح البخاري مع الفتح 3/417 (الزكاة /إذا تحولت الصدقة) ، وصحيح مسلم مع شرح النووي 7/182 (الزكاة. إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله) .
3 صحيح البخاري / الباب المذكور آنفا.
4 هو أبو الفضل أحمد نب علي بن محمد الكناني العسقلاني الشافعي الشهير بابن حجر وهو لقب لبعض آبائه، ولد سنة 773هـ، وتوفي سنة 852هـ. من مؤلفاته الكثيرة: [الإصابة في تمييز الصحابة] ، و [وبلوغ المرام من أدلة الأحكام] انظر: حسن المحاضرة 1/363-366، والضوء الللامع 2/36-40
5 انظر: فتح الباري 3/418، وشرح النووي لصحيح مسلم 7/181.
(1/74)
 
 
2) ومن الأدلة أيضا ما روي أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني تصدقت ‘لى أمي بجارية وإنها ماتت فقال صلى الله عليه وسلم: "وجب أجرك وردّها عليك الميراث" 1 ... الحديث.
فقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة أن تأخذ ما تصدقت به مع أن الرجوع في الصدقة منهي عنه، وذلك عن طريق الإرث2.
3) ومنها - أيضا - حديث: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لجار اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتُصُدّق على المسكين فأهداها المسكين للغني"3.
ووجه الدلالة من هذا الحديث كوجه الدلالة من الحديثين السابقين فالأصل أن الصدقة لا تحل لغني واستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض
__________
1 أخرجه الإمام مسلم، صحيح مسلم مع النووي 8/25 (الصيام / قضاء الصوم عن الميت) .
2 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 8/27، ونيل الأوطار 4/246.
3 أخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وصححه الألباني، سنن أبي داود مع عون المعبود 5/30 (الزكاة / من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني) ، وسنن ابن ماجه 1/590 (الزكاة / من تحل له الصدقة، وانظر: صحيح ابن ماجه للأباني 1/308
(1/75)
 
 
الصور من ذلك ومنها: أن يكون سبب أخذه لها طريقا آخر غير الصدقة كشرائها أو إهداء المتصدق عليه منها فتكون بذلك قد خرجت عن كونها صدقة1.
ومع هذا فإنه لابد من عرض بعض الأدلة التي يدل ظاهرها على عكس ما تقتضيه هذه القاعدة والأدلة الدالة عليها، ومن ذلك: ما رواه عبد الله بن عمر2 رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع فأراد أن يشتريه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأمره، فقال: "لا تعد في صدقتك ... " 3الحديث.
وفي لفظ آخر فقال: "لا تشتر ولا تعد في صدقتك وإن
__________
1 انظر: عون المعبود 5/31.
2 هو الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي رضي الله عنهما ولد سنة ثلاث من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهاجر وهو ابن عشرين سنة، وتوفي سنة 72هـ، وقيل: سنة 73هـ. انظر: أسد الغابة 3/227-231، والإصابة 4/181-188.
3 متفق عليه واللفظ للبخاري، صحيح البخاري مع الفتح 3/413 (الزكاة / باب هل يشتري صدقته؟ ... ) ، وصحيح مسلم مع النووي 11/62-63 (الهبات / كراهة شراء الإنسان ما تصدق به) .
(1/76)
 
 
أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه"1.
وقد جمع بعض العلماء بين مقتضى هذه الأحاديث بأوجه:
منها: أن المنع من تملكها حينما يكون هناك شبهة في الرجوع في الصدقة، وذلك يتحقق في صدقة التطوع ولا يتحقق في الفرض ولا يتحقق - كذلك - في الرجوع بطريقة الميراث.
ومنها: أن المنع من شراء الصدقة لكونه ذريعة لإخراج القيمة في الزكاة. ولا يوجد هذا المحذور في الإرث،
ومنها: أن النهي إنما هو للتنزيه2.
العمل بالقاعدة:
نصت كتب الحنفية على ذكر هذه القاعدة، ودلت فروعهم وتعليلاتهم الفقهية على اعتبارها.
جاء في تحفة الفقهاء: ومن الأسباب المانعة للرجوع في الهبة3 خروج الموهوب عن ملك الموهوب له بأن باع أو وهب؛ لأن اختلاف
__________
1 أخرجه البخاري بهذا اللفظ، ومسلم بنحوه. المرجعين المتقدمين.
2 انظر: المغني 4/102، وفتح الباري 3/413-1414، ونيل الأوطار 4/445.
3 ذلك أن حكم الرجوع في الهبة عندهم هو الجواز مع الكراهة.
(1/77)
 
 
الملكين كاختلاف العينين1.
وأجاز المالكية أن تعود الصدقة إلى من تصدق بها ببيع أو هبة أو صدقة وكرهوه، وأجازوا من غير كراهة رجوعها بالميراث وكذلك رجوع الهبة مطلقا بأي سبب2.
وأجاز الشافعية شراء الزكاة ممن صارت إليه مع الكراهة3، ومنع الحنابلة مخْرِجَ الزكاة من شرائها ممن صارت إليه وبينوا شبهة ذلك، وأجازوا رجوعها بالميراث4.
وحكى ابن قدامة5 عن ابن عبد البر6 قوله: "كل العلماء
__________
1 انظر: المرجع المذكور 3/166-168.
2 انظر: شرح الخرشي مع حاشية العدوي 7/115.
3 انظر: المجموع 6/193.
4 انظر: المغني 4/102-105.
5 هو: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الجمّاعيلي الحنبلي (موفق الدين) ، ولد بجمّاعيل (قرية في نابلس من أرض فلسطين) سنة 541هـ، وتوفي 620هـ. له مؤلفات عديدة من أشهرها [المغني] في الفقه، و [روضة الناظر] في أصول الفقه. انظر: المقصد الأرشد 2/15-20، وشذرات الذهب 5/88-92، ومعجم البلدلن 2/185.
6 هو الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي ولد بقرطبة سنة 368هـ، وتوفي بشاطبة سنة 466هـ. من مؤلفاته: [التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد] ، و [الاستعاب في معرفة الأصحاب] ، انظر: بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس ص489-491.
(1/78)
 
 
يقولون: إذا رجعت عليه بالميراث طابت"1.
فالذي يظهر أن هذه القاعدة معتبرة - من حيث الجملة - في المذاهب الأربعة، واستثني منها بعض الصور لعللٍ وأسباب خاصة.
من فروع القاعدة:
1- ما تقدم ذكره من حكم رجوع الهبة إلى واهبها بالميراث ونحوه، وكذا حكم رجوع الصدقة إلى المتصدق بالشراء أو الميراث2.
2- إذا خرج الموهوب عن ملك الموهوب له ببيع، أو هبة لم يجز للواهب الأول الرجوع فيها لأنها - بانتقالها إلى ملك المشتري
__________
1 المغني 4/105، وانظر: بداية المجتهد 2/250.
2 هذا على القول بتحريم الرجوع في الهبة، وهناك تفصيل في حكم رجوع الهبة والصدقة إلى صاحبها بالميراث أو الشراء أو نحوهما، انظر: تفصيل ذلك في: تبيين الحقائق 5/97 وما بعدها، وشرح الخرشي 7/114-115، والمجموع 6/193، وروضة الطالبين 5/366، والمغني 4/104، 8/264، وراجع ص77.
(1/79)
 
 
أو الموهوب له الثاني - صارت بمثابة عين أخرى كما تقدم1.
وجه التيسير:
يظهر التيسير في هذه القاعدة من جهة أن ما يمتنع على المكلف من جهة يجوز له من جهة أخرى. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا تحل له الصدقة، لكن جاز له الأكل مما أصله صدقة بطريق الإهداء إليه صلى الله عليه وسلم. والإنسان الذي يُخْرجُ ماله من ملكه ببيع أو هبة أو صدقة وتتعلق به نفسه أو يحتاج إليه في وقت آخر يمكنه الحصول عليه بطريق الشراء، أو أن يوهب له، أو نحو ذلك، وفي هذا من التيسير ما لا يخفى على متأمل, وللقاعدة تطبيقات أخرى في غير هذا المعنى2.
__________
1 راجع ص:77-78 وانظر: تحفة الفقهاء 3/166، وشرح الخرشي 7/114، والتنبيه ص139، والمغني 8/264.
2انظر: شرح القواعد الفقهية ص399.
(1/80)
 
 
القاعدة الثالثة إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر غالباً.
وردت هذه القاعدة بعدة صيغ من أشملها هذه الصيغة المذكورة، وهي لفظ السيوطي1، وابن النجيم2، وذكرها السبكي بنحو هذا اللفظ3.
وخصها ابن رجب4 بالعبادات، فقال: "إذا اجتمعت عبادتان من جنس في وقت واحد ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت تداخلت أفعالهما واكتفى فيهما بفعل واحد"5.
__________
1 انظر: الأشباه والنظائر له ص126.
2 انظر: الأشباه والنظائر له ص32.
3 انظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/95.
4 هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي الحنبلي (زين الدين) ولد سنة 736هـ، وتوفي سنة 795هـ. انظر: الدرر الكامنة 2/428-429، وشذرات الذهب 6/339.
5 القواعد لابن رجب ص236.
(1/81)
 
 
وبهذا المعنى ذكرها ابن سَعْدي1 أيضا.
وقد أشار إليها الزركشي تحت عنوان: التداخل يدخل في ضروب2.
وأشار إليها القرافي لدى تفريقه بين تداخل الأسباب وتساقطها3.
ووردت عند غير ما تقدم ذكرهم بصيغ أخرى مقاربة4.
معاني المفردات:
أمران: الأمر في اللغة: مصدر أمر يأمر، وهو هنا بمعنى الشأن أو الشيء، ويأتي لعدة معان منها، أنه ضد النهي5.
__________
1 انظر: القواعد والأصول الجامعة ص90، ورسالة القواعد الفقهية ص48.
وابن سَعْدي هو: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي من علماء الحنابلة، ولد بعنيزة – من بلاد القصيم – سنة 1307هـ، وتوفي بها سنة 1376هـ. من مؤلفاته: [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان] ، و [الإرشاد إلى معرفة الأحكام] . انظر: علماء نجد خلال ستة قرون 2/422-431، وكتاب [الشيخ بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة] ص13 فما بعدها.
2 انظر المنثور: 1/269.
3 انظر: الفروق 2/29-31.
4 انظر: القواعد والفوائد للعاملي 1/43، 2/223، والقواعد للمقري 2/595، 612.
5 انظر: مقاييس اللغة 1/137، والمفردات ص24 (أمر) ، والمحصول ج1 ق2/22،45.
(1/82)
 
 
جنس: الجنس في اللغة: الضَّرب من الشيء وهو أعم من النوع1.
وفي الاصطلاح: عرّف بأنه كلي مقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب ماهو2.
المعنى الإجمالي:
يقصد بهذه القاعدة، أنه إذا تعلق بذمة المكلف واجبان أو أكثر، أو لزمه حدّان أو أكثر، أو اجتمع في وقت واحد واجب ومندوب أو أكثر أو نحو ذلك3، وكانت هذه الواجبات، أو الحدود ونحنها من جنس واحد، ومقصودها والمراد منها واحدًا فإن أحدهما يدخل في الآخر غالبا، فإن كانت رُتَبُها مختلفة دخل الأدنى منها في الأعلى وأغنى فعله عن فعل الأدنى، وإن كانت متساوية أغنى فعل أحدها عن غيره.
فمثال اجتماع الواجبين، أن يجب على المرأة غسل الجنابة وغسل الحيض، أو أن يجب على المكلف الغسل والوضوء، ومثال اجتماع الحدين، أن يتكرر الزنا، أو القذف أو نحوهما من المكلف
__________
1 الصحاح 3/915 (جنس) .
2 التعريفات ص78.
3 يمكن تصوّر التداخل في صور أخرى وليس المراد استقصاء صور التداخل. انظر: المنثور 1/269-277، والقواعد لابن رجب ص24.
(1/83)
 
 
قبل إيقاع الحد عليه.
ومثال اجتماع الواجب مع المندوب، أن يدخل الإنسان المسجد وقد أقيمت الصلاة، فإنه يدخل في الصلاة وتغنيه عن تحية المسجد1.
الأدلة:
يذكر كثير من الفقهاء هذه القاعدة - وغيرها - مجردة عن دليل شرعي صريح فيها. ويمكن الاستدلال لها.
أولا: بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة2 رضي الله عنها- وقد أحرمت قارنة-: "يَسَعُك طوافك لحجك وعمرتك"3، وما ورد بمعناه4، حيث أقام
__________
1 بناءً على رأي الجمهور أن تحية المسجد سنة، وقد ذهب البعض إلى وجوبها استنادا إلى ظاهر الأمر. انظر: نيل الأوطار 3/82-84.
2 هي: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ولدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت سبع أو بنت ست، ودخل بها وهي بنت تسع، توفيت سنة 58هـ. انظر: اسد الغابة 5/501-504، والإصابة 8/16-21.
3 رواه مسلم. صحيح مسلم مع النووي 8/156 (الحج، باب وجوه الإحرام) .
4 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 3/577 (الحج / طواف القارن) ، والمرجع السابق، والمغني 5/347-348.
(1/84)
 
 
أحد الطوافين مقام الآخر، وكذلك السعي1.
ثانيا: النظر إلى التعليل؛ فإن الناظر فيما قيّد به الفقهاء حكم هذه القاعدة يَلْمَحُ مبناها، فقد قيدوا الأفعال التي تتداخل بأن تكون من جنس واحد، وأن يكون مقصودها واحدًا. وهذا يدل على أن سبب إغناء أحد الفعلين عن الآخر هو تحقق المصلحة المرادة بفعل أحدهما، وذلك أقرب إلى مقصود الشريعة وهو التيسير. ولذا فقد علل ابن قدامة دخول طواف العمرة في طواف الحج - بالنسبة للقارن - بأنه ناسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد2، وبأنهما عبادتان من جنس واحد فإذا اجتمعت دخلت الصغرى في الكبرى3. وهذا يشعر بأن سبب التداخل هو حصول المقصود بفعل أحدهما4، والله أعلم.
العمل بالقاعدة:
لقد ذهب عامة الفقهاء من المذاهب الأربعة إلى العمل بهذه القاعدة
__________
1 انظر: فتح الباري 3/577، وشرح النويي على صحيح مسلم 8/156.
2 من المعلوم أنه لا رمي في العمرة فيصح كلام ابن قدامة باعتبار أنه نظر إلى الواقع من المكلف، لا على أنه وجب عليه رميان فتداخلا.
3 انظر: المغني 5/348.
4 انظر: في هذا المعنى: القواعد للمقري 2/595، والمنثور 1/269.
(1/85)
 
 
وإن اختلفوا في تطبيقها على بعض لبفروع، فقد تقدم تصريح فقهاء المذاهب بها، ونقل ابن المنذر1 الإجماع على أنه إذا سرق السارق عدة مرات وقدم إلى الحاكم في آخر السرقات فإن قطع يده يجزئ عن ذلك كله2.
وقد استثنى بعض الفقهاء من حكم هذه القاعدة صورا، وسبب ذلك - في الغالب - عدم انطباق شروط وقيود القاعدة على تلك الصور3.
من فروع القاعدة:
1- إذا اجتمع حدث أصغر وجنابة كفى الغسل4.
__________
1 هو: أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، ولد في حدود وفاة الإمام أحمد ابن حنبل (أي في حدود سنة 204هـ) ، وتوفي بمكة سنة 309هـ، أو 310هـ. من مؤلفاته: [الإشراف في اختلاف العلماء] ، و [الأوسط في السنن، والإجماع، والاختلاف] . انظر: سير أعلام النبلاء 14/490، وطبقات الشافعية الكبرى 3/102-108.
2 انظر: الإجماع لابن المنذر ص68.
3 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص126، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص132-134.
4 انظر: المبسوط 1/44، وشرح الخرشي 1/168، ونهاية المحتاج 1/230، وزاد المستقنع مع الشرح الممتع 1/308-309.
(1/86)
 
 
2- إذا اجتمع موجبان للغسل فنواهما أجزأه عنهما1.
3- لو صلى عقب الطواف فريضة أجزأت عن ركعتي الطواف على خلاف في ذلك2.
وجه التيسير:
التيسير في هذه القاعدة ظاهر وذلك أنه يسقط عن المكلف بعض ما لزمه، ويحصل له ثواب المندوب عند تداخل الأسباب مراعاة من الشارع الحكيم لمقصود هذه التكاليف الذي يحصل بفعل أحدها، ومراعاة لمبدأ التيسير على العباد ودفع المشقة عنهم.
__________
1 انظر: المبسوط 1/44، والخرشي 1/168، ونهاية المحتاج 1/230، والمغني 1/292، وزاد المستقنع مع الشرح الممتع 1/308-309.
2 انظر تفصيل المسألة في: رد المحتار 1/499، والفواكه الدواني 1/*370، والمجموع 8/56، والمغني 5/233.
(1/87)
 
 
القاعدة الرابعة: إذا تزاحمت المصالح أو المفاسد روعي أعلاها بتححصيل أعلى المصالح وردء أعلى المفاسد
...
القاعدة الرابعة: إذا تزاحمت المصالح أو المفاسد روعي أعلاها بتحصيل أعلى المصالح ودرء أعلى المفاسد. ((صياغة))
هذه القاعدة مكونة من شقين - كما هو ظاهر - يتضمن كل منهما قاعدة وقد أفرد بعض العلماء كل واحد من شقي القاعدة بقاعدة مستقلة كما فعل العز بن عبد السلام1، وابن سعدي2. واكتفى بعضهم بإيراد القاعدة في المصالح دون المفاسد كما فعل ابن تيمية3، واكتفى بعضهم بإيرادها في جانب المفاسد دون المصالح،
__________
1 انظر: قواعد الأحكام 1/60، 62، 93.
وابن عبد السلام هو غز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السُّلمي، ولد بدمشق سنة 577هـ، أو 578هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 660هـ. من مؤلفاته: [الإمام في أدلة الأحكام] ، و [مختصر صحيح مسلم] . انظر: طبقات الشافعية الكبرى 8/209-255، وطبقات الإسنوي 2/197-199.
2 انظر: رسالته في القواعد الفقهية ص16-18.
3 انظر: القواعد النورانية ص101.
وابن تيمية هو: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (شيخ الإسلام) ولد سنة 661هـ، وتوفي سنة 727هـ. من مؤلفاته الشهيرة [الإيمان] ، و [مجموع الفتاوى] ز انظر: الذيل على طبقات الحنابلة 2/387-408، والمقصد الأرشد 1/132-139.
(1/89)
 
 
ومن أولئك السبكي1، وابن رجب2، والسيوطي3، وابن نجيم4، والونشريسي5، وغيرهم. كل ذلك بعبارات مختلفة مع اتفاق أو تقارب في المعنى6.
وهي عند عدد من العلماء ناشئة عن قاعدة: ((الضرر يزال)) ، أو مستثناة منها7.
وقد رأيت أن أدمج القاعدتين في قاعدة واحدة؛ للارتباط الوثيق
__________
1 انظر: الأشباه والنظائر له 1/45-47، والأشباه والنظائر لابن الوكيل مع حاشية المحقق 2/50.
2 انظر: القواعد له ص246.
3 انظر: الأشباه والنظائر له ص87.
4 انظر: الأشباه والنظائر له ص89.
5 انظر: إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص370.
6 انظر: الفروق للقرافي 2/126-127، والقواعد للمقري 1/294، و2/456، وإيضاح المسالك ص234، والمجلة وشرحها 1/31-32، والقواعد الفقهية للندوي ص276-277.
7 انظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/45-47، والأشباه والنظائر للسيوطي ص87، والأشباه والنظائر لابن النجيم ص89.
(1/90)
 
 
بينهما، فإن في كل تحصيلٍ لمصلحة دفعًا لمفسدة، وفي كل دفعٍ لمفسدة تحصيلاً لمصلحة.
ولعل تلك هي وجهة من ذكرها في المصالح دون المفاسد، أو العكس، ولقد أفرد بعض العلماء مسائل المصالح، والمفاسد بالتأليف، ومن أولئك ابن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام1، والشاطبي2 في كتابه الموافقات3.
معاني المفردات:
تزاحمت: تضايقت، مِنْ زحمه زَحْمًا وزحاَمًا ضايقها أي ضايق بعضها بعضا، والزاي، والحاء، والميم أصل يدل على انضمام في شدّه4.
المصالح لغة: جمع مصلحة مَفْعَلَةٌ من صَلَح والصلاح ضد الفساد،
__________
1 انظر: قواعد الأحكام 1/10-11.
2 هو: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي، توفي سنة 790هـ. من مؤلفاته [الاعتصام] ، و [المجالس] شرح فيه كتاب البيوعمن صحيح البخاري. انظر: نيل الابتهاج بهامش الديباج المذهب ص46-50، وشجرة النور الزكية ص231.
3 انظر: الموافقات في خطبته 1/23، وانظر: مقدمة الشارح 1/6.
4 انظر: مقاييس اللغة 3/49، والقاموس المحيط 4/124 (زحم) .
(1/91)
 
 
والفساد يطلق بمعنى بطلان الشيء وبمعنى تغيّره1.
ويرد بها في اصطلاح الأصوليين: المحافظة على مقصود الشارع وهو خمسة، أن يحفظ على الخلق دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم.
و