المحصول لابن العربي

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: المحصول في أصول الفقه
المؤلف: القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (المتوفى: 543هـ)
عدد الأجزاء: 1
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله وَسلم
قَالَ الْفَقِيه الإِمَام الْحَافِظ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن الْعَرَبِيّ رَضِي الله عَنهُ
القَوْل فِي أصُول الْفِقْه
 
أما الْفِقْه فَهُوَ معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
وَأما أُصُوله فَهِيَ أدلته
وَقد قيل معرفَة أَحْكَام أَفعَال الْمُكَلّفين الشَّرْعِيَّة دون الْعَقْلِيَّة وَهِي تَكْمِلَة للْأولِ وَقَرِيب مِنْهُ
فَأَما الدَّلِيل فَهُوَ: الْموصل بِصَحِيح النّظر إِلَى الْمَدْلُول
وأفعال الْمُكَلّفين هِيَ حركاتهم الَّتِي يتَعَلَّق بهَا التكاليف من الْأَوَامِر والنواهي وَهِي على خَمْسَة أضْرب
وَاجِب وَفِي مُقَابلَته مَحْظُور
ومندوب وَفِي مُقَابلَته مَكْرُوه
وواسطة بَينهمَا وَهُوَ الْمُبَاح
(1/21)
 
 
وَاخْتلف فِيهِ هَل هُوَ من الشَّرْع أم لَا على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فَأَما الْوَاجِب فَقَالَ بعض عُلَمَائِنَا هُوَ الَّذِي فِي فعله ثَوَاب وَفِي تَركه عِقَاب وَزَاد بَعضهم من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ
والمحظور عَكسه وَهُوَ الَّذِي فِي فعله عِقَاب وَفِي تَركه ثَوَاب
وَالْمَنْدُوب هُوَ الَّذِي فِي فعله ثَوَاب وَلَيْسَ فِي تَركه عِقَاب
وَالْمَكْرُوه هُوَ الَّذِي فِي تَركه ثَوَاب وَلَيْسَ فِي فعله عِقَاب
والمباح هُوَ الَّذِي يَسْتَوِي تَركه وَفعله وَكَذَلِكَ قيل فِي هَذِه الْحُدُود كلهَا من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ
وَهَذِه الْحُدُود كلهَا بَاطِلَة
وَالصَّحِيح
أَن الْوَاجِب هُوَ الَّذِي يذم تَاركه والمحظور هُوَ الَّذِي يذم فَاعله وَالْمَنْدُوب هُوَ الَّذِي يحمد فَاعله وَلَا يذم تَاركه وَالْمَكْرُوه عَكسه والمباح هُوَ مَا لَيْسَ لَهُ مُتَعَلق فِي الشَّرْع على قَول وَقيل مَا وَقع عَلَيْهِ الْعَفو مَا أذن فِيهِ
وَتَحْقِيق ذَلِك وَبَيَانه يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(1/22)
 
 
وَالْأَحْكَام لَيست من التَّكْلِيف وَلَا من صِفَات الْأَفْعَال وَإِنَّمَا الحكم هُوَ قَول الله سُبْحَانَهُ وَدَلِيله الَّذِي نَصبه علما على الْفِعْل أَو التَّكْلِيف وَهَذِه الْكَلِمَة الَّتِي صدرنا بهَا هِيَ على رسم الْحُدُود
فَأَما الْحَد فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ على قَوْلَيْنِ
فَمنهمْ من يَجعله القَوْل الْمُفَسّر وَمِنْهُم من يَجعله حَقِيقَة الشَّيْء وخاصيته الَّتِي تتَمَيَّز بهَا من عَن غَيره
فَأَما الحكم فَلَيْسَ بِصفة للأفعال وَإِنَّمَا هُوَ عبارَة عَن خطاب الله فِيهَا كَمَا أَن النُّبُوَّة لَيست بِصفة للنَّبِي وَإِنَّمَا هِيَ عبارَة عَن مطالعة الله تَعَالَى لَهُ بِالْغَيْبِ واتخاذه وَاسِطَة بَينه وَبَين خلقه
وَأما الْمُكَلف وَهُوَ الْبَالِغ المتدارك الْعقل
وَالْبُلُوغ يكون بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا السن وَالثَّانِي الِاحْتِلَام وَهَذَا يبين فِي بَابه من فروع الْفِقْه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما المتدارك الْعقل فَهُوَ الْمُمَيز الَّذِي لَا يطرقه فِي عقله خلل من ضد يطْرَأ عَلَيْهِ خلا الذهول وَالنِّسْيَان
(1/23)
 
 
فَأَما الْعقل فقد اخْتلف النَّاس فِيهِ واضطربوا فِيهِ اضطرابا شَدِيدا وَالصَّحِيح إِنَّه الْعلم وَهُوَ مَذْهَب شَيخنَا أبي الْحسن رَضِي الله عَنهُ فرق عِنْده بَين قَوْلنَا عقلت الشَّيْء وَبَين قَوْلنَا علمت وَذَلِكَ مستقصى فِي الْحُدُود إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما الْعلم فقد تبَاين النَّاس فِيهِ مَعَ إِنَّه أصل كل قَول ومنتهى كل مطلب وَقَيَّدنَا فِيهِ عشْرين عبارَة أمثلها قَول القَاضِي رَحمَه الله معرفَة الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ وَهَذَا لفظ يأباه النُّحَاة لِأَن الْمعرفَة عِنْدهم خلاف الْعلم إِذْ الْمعرفَة عِنْدهم علم وَاحِد وَالْعلم لَا يكون إِلَّا معرفتين وَهَذَا الْمَعْنى يستقصى فِي الْحُدُود إِن شَاءَ الله
وَالصَّحِيح أَن الْعلم لَا يقتنص بشبكة الْحَد وَإِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ على سَبِيل الرَّسْم المقرب للمعنى
والتكليف هُوَ إلزم الْمُكَلف مَا فِي فعله كلفة وَهِي النصب وَالْمَشَقَّة ومسائلة كَثِيرَة ومتعلقاته طَوِيلَة وجماع أُصُولهَا خمس مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى
 
فِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق
وَقد اخْتلف النَّاس فِيهِ وَاخْتلف فِيهِ عُلَمَاؤُنَا كاختلافهم فَمنهمْ من مَنعه وَمِنْهُم من جوزه
(1/24)
 
 
وَاحْتج عُلَمَاؤُنَا على ذَلِك بقول الله تَعَالَى (رَبنَا وَلَا تحملنا مَالا طَاقَة لنا بِهِ) وَلَوْلَا حسن وُقُوعه مَا سَأَلُوا دَفعه
وَالصَّحِيح أَن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جَائِز عقلا وَاقع شرعا فَإِن الله تَعَالَى كلف الْعباد الْعِبَادَات والوظائف كلهَا قبل أَن يقدروا عَلَيْهَا لِأَن الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل
فَأَما تَكْلِيف الْمحَال فَلَا يجوز عقلا لَكِن إِذا وَردت بِهِ الصِّيغَة شرعا حمل على التكوين والتعجيز كَقَوْلِه تَعَالَى (كونُوا حِجَارَة أَو حديداً) وَكَقَوْلِه تَعَالَى (كونُوا قردة خسئين)
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة
 
اتّفق أهل السّنة على جَوَاز تَكْلِيف الْمُكْره وَخَالف فِي ذَلِك جمَاعَة من المبتدعة وَاحْتج عَلَيْهِم القَاضِي بنهي الْمُكْره على الْقَتْل عَن الْقَتْل مَعَ وجود الْإِكْرَاه وَهَذِه هفوة من القَاضِي لِأَن الْمَنْع من الْفِعْل مَعَ إِلْزَام الْإِقْدَام أعظم فِي الِابْتِلَاء وَالْقَوْم لَا يُنكرُونَ مثل هَذَا وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْخلاف فِي الْأَمر بِفعل الشَّيْء مَعَ الْإِكْرَاه على فعله فَهَذَا مَا جوزناه ومنعوه وَهُوَ فرع من فروع التحسين والتقبيح يَأْتِي فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(1/25)
 
 
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة
 
فِي تَكْلِيف السَّكْرَان
وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ منتش وملتج فَأَما الملتج وَهُوَ لَاحق الْمَجْنُون والناشيء وَسَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله
وَأما المنتشي فَلَا خلاف فِيهِ وَفِي مثله نزلت (يَا أَيهَا الَّذين أمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ)
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة
 
اخْتلف الْعلمَاء رَحمَه الله عَلَيْهِم فِي الْمَجْنُون والناشي والملتج والنائم هَل هم مخاطبون بالتكليف فِي حَال الْجُنُون والسهو وَالسكر وَالنَّوْم أم لَا
وَلَا يظنّ بِمن جوز ذَلِك من عُلَمَائِنَا الْتزم معرفَة الْأَوَامِر والتكليفات مَعَ قيام هَذِه الْمَوَانِع وَإِنَّمَا يتَصَوَّر الْخلاف بَينهم إِذا ارْتَفَعت الْمَوَانِع وَقد ذهبت عبادات مُؤَقَّتَة أَو وَقعت أَسبَاب فَائِتَة فَمنهمْ من ألزم الْأَحْكَام كلهَا بعد الزَّوَال لهَذِهِ الْمَوَانِع وَمِنْهُم من ردهَا وَمِنْهُم من قسم الْحَال وَفرق الْأَحْكَام بِحَسب النَّوَازِل على مَا انْتهى إِلَيْهِ اجْتِهَاد كل فريق فِي طلب الْأَدِلَّة وتتبع مدارك الْأَحْكَام على مَا يَأْتِي بَيَانه فِي مسَائِل الْفِقْه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(1/26)
 
 
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي تَكْلِيف الْكفَّار بِفُرُوع الشَّرِيعَة
 
وَقد اخْتلف فِي ذَلِك عُلَمَاؤُنَا وَغَيرهم على قَوْلَيْنِ فَمنهمْ من قَالَ لَا تصح مخاطبتهم بِأَمْر لِاسْتِحَالَة وُقُوع الْفِعْل مِنْهُم حَال كفرهم
وَمِنْهُم من قَالَ هم مخاطبون بذلك وتلوا فِي ذَلِك قُرْآنًا وسطروا فِيهِ آيَات مِنْهَا مَا يتَطَرَّق غليه الِاحْتِمَال الْقوي وَمِنْهَا الضَّعِيف
وَالطَّرِيق فِي الْمَسْأَلَة الْكَلَام على فصليها جَمِيعًا من جَوَاز تكليفهم وَمن وجود تكليفهم
فَأَما الْجَوَاز فَظَاهر لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يُقَال للْكَافِرِ صل ويتضمن الْأَمر بِالصَّلَاةِ الْأَمر بشرطها فِي الْإِيمَان إِذْ لَا يتَوَصَّل إِلَى فعلهَا إِلَّا بِهِ كَمَا يُؤمر الْمُحدث الْقَارِي الْمُدبر بِالصَّلَاةِ وَلَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا إِلَّا بعد هَذِه الشُّرُوط الثَّلَاثَة فَإِذا ثَبت فصل الْجَوَاز بِهَذِهِ النُّكْتَة
فالدليل على وجود ذَلِك فِي الشَّرْع ظواهر الْكتاب وأمثلها فِي التَّعْلِيق قَوْله تَعَالَى (مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين) فَإِن قيل أَرَادَ تَعَالَى لم تَكُ على اعْتِقَاد الْمُصَلِّين قُلْنَا إِنَّمَا يعدل علن الظَّاهِر لضَرُورَة دَاعِيَة وَلَا ضَرُورَة هَا هُنَا لما تقدم من الْجَوَاز وَالله أعلم
(1/27)
 
 
فَائِدَة
 
حق كل من يحاول الْخَوْض فِي فن من الْعُلُوم إِذا علم مَقْصُوده مِنْهُ أَن يحاول بدءا الْإِحَاطَة بسواقه الَّتِي لَا بُد لَهُ مِنْهَا فِي مَعْرفَته وشروطه الَّتِي هِيَ مَعُونَة عَلَيْهِ
وَلِهَذَا الْبَاب الَّذِي تصدينا لَهُ وأشرعنا مَقَاصِد القَوْل فِيهِ عشرَة سوابق هِيَ المبينة لَهُ والمعينة عَلَيْهِ
السَّابِقَة الأولى فِي وَجه بَيَان الْحَاجة إِلَى الْعبارَة الَّتِي بهَا يَقع الْبَيَان
 
فَنَقُول لما كَانَ الْإِنْسَان مدنيا بالجبلة مفتقراً إِلَى الصُّحْبَة بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ خلق خلقا لَا ستقل بمعاشه وَلَا يستبد بمنافعه بل هُوَ مفتقر فِي ذَلِك إِلَى غَيره وَكَانَ ذَلِك الْغَيْر إِمَّا مجتمعنا مَعَه وَإِمَّا مبايناً عَنهُ وَالْمَنْفَعَة الَّتِي يفْتَقر إِلَيْهَا إِمَّا حَاضِرَة وَإِمَّا غَائِبَة وَكَانَت الْإِشَارَة مَوْضُوعَة لاخْتِلَاف الْمَنْفَعَة وسد الْخلَّة فِي الْحَاضِر وَوضعت الْعبارَة لتقوم مقَام ذَلِك فِي الْغَائِب فَهَذِهِ حِكْمَة الله تَعَالَى فِي وضع الْعبارَات الدَّالَّة على الْمعَانِي
فَإِذا فهمت هَذَا فقد فرض عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة الله عَلَيْهِم مَسْأَلَة وَهِي أَن اللُّغَات هَل هِيَ تَوْقِيف من الْمعلم الْأَعْظَم وَهُوَ الْبَارِي تَعَالَى أَو هِيَ متواضعة مُتَّفق عَلَيْهَا بَين النَّاس فَمنهمْ من قَالَ بالقولين الْمَذْكُورين وَمِنْهُم من قَالَ أما مَا بِهِ يكون الِاتِّفَاق وَمنع التَّوَاضُع فَلَا بُد فِيهِ من التَّوْقِيف وَأما مَا وَرَاء ذَلِك فَجَائِز أَن يكون تَوْفِيقًا وَجَائِز أَن يكون تواضعا
(1/28)
 
 
وَتعلق الألوان بقوله تَعَالَى (وَعلم أَدَم الْأَسْمَاء كلهَا) قَالُوا هَذَا نَص على أَن الْبَارِي وَتَعَالَى قد فاتح آدم صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ بِالْبَيَانِ فَهَذِهِ بالعبارة وَهَذِه اية لَا مُتَعَلق فِيهَا لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَنَّهَا مَبْنِيَّة على القَوْل بِالْعُمُومِ وَسَيَأْتِي الْخلاف فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالثَّانِي أَن الْمُعْتَرض قَالَ لَا إِشْكَال فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى علم آدم الْأَسْمَاء كلهَا وَهل علمه مَا كَانَ قبل مَعْلُوما متواضعاً أم ابتدأه مفاتحة بِمَا لم يكن قبل هَذَا هُوَ مَوضِع الْخلاف وَلَا تتناوله الْآيَة بِبَيَان
وَالصَّحِيح أَن الْأَمر مُحْتَمل فَجَائِز أم يكون بتوقيف وَتَعْلِيم وَجَائِز أَن يكون بمواضعه واتفاق
وَالدَّلِيل الْقَاطِع عَلَيْهِ مَا نشاهد من لقن الطِّفْل عَن أَبَوَيْهِ مَا لم يتواضعا مَعَه عَلَيْهِ فَمن الْجَائِز إِذا بعد ثُبُوت هَذِه الْمُشَاهدَة التَّعْلِيم والتواضع فِي أصل اللُّغَة كلهَا وَفِي بَعْضهَا وَهَذَانِ الجائزان لَيْسَ فِي الشَّرْع قَاطع يتَعَيَّن وَاحِد مِنْهُمَا بِهِ
السَّابِقَة الثَّانِيَة
 
قسم عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله الْعبارَة إِلَى قسمَيْنِ
أَحدهمَا الْحَقِيقَة وَالْأُخْرَى الْمجَاز
فالحقيقة كل مَا دلّ بموضوعه على المُرَاد بِهِ أصلا
(1/29)
 
 
وَأما الْمجَاز فترددت عبارتهم فِيهِ تردداً يدل على تَقْصِير الْمعرفَة بِهِ وَأقرب عبارَة فِيهِ أَن يُقَال إِنَّه على وَجْهَيْن
أَحدهمَا التَّشْبِيه كَقَوْلِك فِي الشجاع أَسد وَفِي البليد حمَار تَشْبِيها للعاقل بِغَيْر الْعَاقِل
وَالثَّانِي التسبيب وَهُوَ على وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن يعبر عَن الشَّيْء بمقدمته السَّابِقَة لَهُ
وَالثَّانِي أَن يعبر عَنهُ بفائدته
قَالَ ذُو الرمة
(حَتَّى ذَوي الْعود فِي الثرى ... وكف الثريا فِي ملاله الهجر)
فَهَذَا قسم
وَقَالَ ابْن أَحْمد
(كثور الْعَذَاب الْفَرد يضْربهُ الندى ... وتجلى الندى فِي مَتنه وتحددا)
وَقَالَ رويشد الطَّائِي
(وَقل لَهُم بالعدب والتمسوا قولا يبريكم إِنِّي أَنا الْمَوْت وَهُوَ كثير فِي الِاسْتِعَارَة مَوْجُود فِي الْقُرْآن
(1/30)
 
 
السَّابِقَة الثَّالِثَة
 
اخْتلف النَّاس هَل فِي كتاب الله تَعَالَى مجَاز أم لَا؟
فَمَنعه الْأَقَل وَجوزهُ الْأَكْثَر وَمن أجل من مَنعه قدرا الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ رَحمَه الله
فَأَما تَحْقِيق هَذِه الْمَسْأَلَة فبابها الْأُصُول الدِّينِيَّة لَكِن مَعَ هَذَا نشِير إِلَى نبذة كَافِيَة فِي غرضنا فَنَقُول
إِن عَنى الْأُسْتَاذ بِنَفْي الْمجَاز نفي الِاسْتِعَارَة فكثير من الْقُرْآن ترد عَلَيْهِ لَا سِيمَا فِي سُورَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن فِيهَا استعارات عَظِيمَة
وَإِن عَنى بالمجاز أمرا تجوز بِهِ وَلم يجر مجْرى الْحَقِيقَة فَلَيْسَ من الشَّرِيعَة
السَّابِقَة الرَّابِعَة
 
قسم بعض النَّاس الْأَسْمَاء إِلَى قسمَيْنِ لغوية وشرعية
وَقسمهَا بَعضهم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام لغوية ودينية وشرعية
فاللغوية كالألفاظ الَّتِي انْفَرَدت اللُّغَة بهَا لم يجر لَهَا فِي الشَّرِيعَة ذكر
(1/31)
 
 
وَأما الدِّينِيَّة فكالإيمان وَالْكفْر وَالْفِسْق
وَأما الشَّرْعِيَّة فكالصلاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم
وَفَائِدَة هَذَا الْخلاف أَن الْأَلْفَاظ هَل جَاءَت فِي الشَّرِيعَة على مَعَانِيهَا فِي اللُّغَة أم جَاءَت مُغيرَة
فَمن النَّاس من قَالَ أَنَّهَا مبقاة على اصلها فَإِن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق لُغَة وَشرعا وَالصَّلَاة هِيَ الدُّعَاء لُغَة وَشرعا وَالصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك لُغَة وَشرعا وَالْفِسْق هُوَ الْخُرُوج عَن شَيْء لُغَة وَشرعا
وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّهَا منقولة مُغيرَة فَإِن الْإِيمَان وَإِن كَانَ فِي اللُّغَة التَّصْدِيق فَإِنَّهُ مَوْضُوع فِي الشَّرِيعَة على تَصْدِيق مَا على وَجه مَا وَكَذَلِكَ الصَّلَاة فِي الشَّرِيعَة هِيَ عبارَة عَن دُعَاء مقترن بِأَفْعَال كالركوع وَالسُّجُود
وَالصَّحِيح لَا يتَبَيَّن إِلَّا ببسط مُقَدّمَة تغني عَن كثير من التَّطْوِيل وَهِي أننا نقُول بِأَن الشَّرِيعَة تصرفت فِي ألفاظها تصرف أهل اللُّغَة فِي ألفاظهم وَأهل اللُّغَة لما سموا الْمُسَمّى على اللَّفْظ الْجَارِي وقصروه أَيْضا عَلَيْهِ
وَاللَّفْظ الْجَارِي تَارَة عمموه وَتارَة خصصوه
فَالْأول كَقَوْلِنَا دَابَّة فَإِنَّهَا وَإِن كَانَت جَارِيَة فِي كل مَا يدب لَكِنَّهَا مَخْصُوصَة بِبَعْض الْجَارِي عِنْدهم
وكقولهم قَارُورَة فَإِنَّهَا مَقْصُورَة على بعض مَا يسْتَقرّ فِيهِ فَإِن الدَّار لَا تسمى قَارُورَة.
وَالثَّانِي كتسميتهم الْأَذَى غائطا لِأَنَّهُ مَحل لَهُ فتصرفت الشَّرِيعَة على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ
(1/32)
 
 
فالإيمان وَإِن كَانَ تَصْدِيقًا مُطلقًا فِي اللُّغَة لكنه مَقْصُور كقصر الدَّابَّة وَالْحج وَإِن كَانَ الْقَصْد الْعَام فَهُوَ مَخْصُوص ببقعة كتخصيص القارورة
وَأما الثَّانِي فَقَوله عزوجل (حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم) فَإِنَّهُ لما كَانَ مَوضِع التَّحْرِيم الْأُم سميت الْأُم سميت بِهِ كَمَا أَنه لما الْغَائِط مَوضِع الْأَذَى سمي بِهِ
السَّابِقَة الْخَامِسَة
 
اخْتلف النَّاس فِي جَرَيَان الْقيَاس فِي اللُّغَة فمنعم من جوزه وَمِنْهُم من مَنعه وَمن الْوَاجِب تَنْقِيح مَحل النزاع حَتَّى يتَبَيَّن النزاع فَنَقُول أما جَرَيَان الْأَفْعَال بِحَسب وُرُود المصادر أَو جَرَيَان المصادر بِحَسب وُرُود الْأَفْعَال على اخْتِلَاف عُلَمَاء النَّحْو فِي هَذَا الأَصْل فَلَا خلاف بِأَنَّهُ جَائِز
وَأما تَسْمِيَة الدَّار فرسا وَنَحْوه فَلَا خلاف فِي أَنه لَا يجوز فَأَما كل لفظ مُشْتَقّ تُوجد الْإِشَارَة إِلَى اشتقاقه فَهَذَا مَا اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ وعينوا فِيهِ
مَسْأَلَة
وَهِي أَن النَّبِيذ المعتصر من غير الْعِنَب أَو النَّبِيذ المعتصر من الْعِنَب إِذا طبخ هَل يُسمى خمرًا اعْتِبَار أَن فِيهِ معنى الخمرية
فَمن أجل من جوزه الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الاسفرايني اعْتِبَارا بِالْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
وَهَذِه وهلة فَإِن الْقيَاس فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا جَازَ لقِيَام الدَّلِيل عَلَيْهِ وَلم يقم هَا هُنَا دَلِيل على جَوَازه بل قَامَ على خلَافَة لأَنا نعلم أَن
(1/33)
 
 
القارورة من الِاسْتِقْرَار وَهِي مَخْصُوصَة بذلك وَالدَّار من الدوران وَهِي مَخْصُوصَة بِهِ فِي أَشْيَاء كَثِيرَة لَا سِيمَا وَالْعرب قد استغرقت بِالْبَيَانِ جَمِيع الْمعَانِي بالألفاظ حَتَّى مَا قيل مسكوتا عَنهُ مِنْهُمَا
وَالْقِيَاس قيل فَالْقِيَاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ فِي حكم الشَّرْعِيّ وَهُوَ حمل النَّبِيذ فِي التَّحْرِيم على الْخمر
فَالْجَوَاب إِن هَذِه غَفلَة فَإِن حمل النَّبِيذ على الْخمر فِي التَّحْرِيم إِنَّمَا يَنْبَغِي على حمل النَّبِيذ على الْخمر فِي الِاسْم وَالْأول وَإِن كَانَ قِيَاسا شَرْعِيًّا فَالثَّانِي قِيَاس لغَوِيّ وَفِيه اخْتَلَفْنَا وَقد بَينا إِنَّه لَا يجوز وَالله أعلم
السَّابِقَة السَّادِسَة
 
صِيغَة النَّفْي وَهِي لَا إِذا اتَّصَلت باسم كَقَوْلِك لَا رجل فِي الدَّار مِمَّا اخْتلفت النَّاس فِيهِ فَصَارَ صائرون إِلَى أَنَّهَا مجملة لَا يسوغ الِاحْتِجَاج بهَا وَمِنْهُم من صَار إِلَى أَنَّهَا عَامَّة وَمِنْهُم من صَار إِلَى أَنَّهَا ظَاهِرَة يجوز التَّمَسُّك بهَا فِي الْأَحْكَام وَالْمَسْأَلَة تتَصَوَّر فِي كثير من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة بيد أَنا نضرب مِنْهَا مِثَالا وَاحِدًا فَنَقُول
قَالَ النَّبِي لَا صِيَام لمن لم يبيت من اللَّيْل ويروي لمن لم يؤرض فَتعلق بذلك عُلَمَاؤُنَا رَضِي الله عَنْهُم على أَصْحَاب أبي
(1/34)
 
 
حنيفَة فِي قَوْلهم أَن صَوْم رَمَضَان بنية من النَّهَار جَائِز فَقَالُوا لَا حجَّة فِي ذها الحَدِيث فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يُرِيد لَا صِيَام مَوْجُود أَو يحْتَمل أَن يُرِيد لَا صِيَام مجزيا فَيسْقط الِاحْتِجَاج بِهِ لاحْتِمَاله فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله لَا يَصح أَن يكون المُرَاد بِهَذَا النَّفْي نفي الْوُجُود لِأَن النَّبِي لم يبْعَث لبَيَان الحسيات فيتصرف فِيهَا بِنَفْي أَو إِثْبَات وَإِنَّمَا بعث لبَيَان الشرعيات فَإِذا أثبت شَيْئا فمنعاه ثُبُوته فِي الشَّرْع وَإِذا نفى شَيْئا فمنعاه نَفْيه فِي الشَّرْع فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا صِيَام شَرْعِيًّا لمن لم يبيت من اللَّيْل فَإِذا نَفَاهُ شرعا فَلم يبْق للْقَوْم حجَّة وَلَكِن مَال حبر من أحبارنا إِلَى أَن الْإِجْمَال يبْقى فِيهِ وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ لَا صِيَام شَرْعِيًّا لِأَنَّهُ يتَرَدَّد بَين نفي الْأَجْزَاء وَبَين نفي الْفَضِيلَة وسنستقصي ذَلِك فِي كتاب التَّأْوِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِنَّمَا جعلنَا هَذَا الدستور فِي السوابق حَتَّى يرد على مَا يتَّصل بِهِ من اللواحق بِمَشِيئَة الله تَعَالَى
السَّابِقَة السَّابِعَة
 
صِيغَة الْإِثْبَات اتَّصَلت بالنكرات أَو المعارف فَهِيَ للخصوص كَقَوْلِك كرم رجلا وَلَا خلاف فِي هَذَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّهَا إِذا تناولت الِاسْم فِي هَذَا الْبَاب فَهِيَ على قسمَيْنِ
أَحدهمَا أَن يتَعَلَّق الحكم باسم جامد أَو يتَعَلَّق الحكم باسم مُشْتَقّ فَإِذا تعلق باسم جامد كَقَوْلِك أكْرم هَذَا
وَإِذا تعلق باسم مُشْتَقّ كَقَوْلِك أكْرم الْعَالم واحترم الشَّيْخ فَهَذَا يُفِيد مَعْنيين أَحدهمَا يُفِيد بَيَان الحكم وَهُوَ الْإِكْرَام وَالثَّانِي بَيَان الْعلَّة وَهِي
(1/35)
 
 
الْعلم والشيخوخة فَيُفِيد بِلَفْظِهِ الحكم ويفيد بِمَعْنَاهُ التَّعَدِّي إِلَى كل عَالم وَشَيخ ومثاله فِي الشَّرِيعَة قَوْله تَعَالَى (وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا) مَعْنَاهُ لسرقتهما (والزانية وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة) مَعْنَاهُ لزناهما وَسَيَأْتِي بمستقصى فِي كتاب التَّأْوِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى
السَّابِقَة الثَّامِنَة
 
انقسمت الْأَسْمَاء فِي اللُّغَة فِي دلالتها على الْمعَانِي إِلَى قسمَيْنِ
حد أأحدهما أأأأاتليبت لط أأأأايبتلاتنسي بالتنيباتنلا يتلاتيبال يبتنللا يبت أَحدهمَا مَا يدل على معنى وَاحِد لَا يشْتَرك مَعَه فِيهِ سواهُ وَذَلِكَ كثير فِي اللُّغَة
وَالثَّانِي مَا يدل على مَعْنيين وَهُوَ على قسمَيْنِ
أَحدهمَا أَن يكون المعنيان حقيقيين كَقَوْلِك عين فَإِنَّهُ يدل بِحكم الِاشْتِرَاك على أَكثر من ثَمَانِيَة أَشْيَاء
وكقولنا قرء فَإِنَّهُ يدل على مَعْنيين مُخْتَلفين هما الْحيض وَالطُّهْر
وَالثَّانِي أَن يكون أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَازًا كَقَوْلِنَا لمس وَنِكَاح فَإِنَّهُ حَقِيقَة فِي اللَّمْس بِالْيَدِ كِنَايَة عَن الْجِمَاع وَالنِّكَاح حَقِيقَة فِي الْوَطْء كِنَايَة عَن العقد فَهَذَا مِمَّا اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ
(1/36)
 
 
فَمنهمْ من صَار إِلَى حمله على الْجَمِيع وَقَالَ إِنَّه يجوز أَن يُرِيد الْمعبر بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ جَمِيع مَا تتناوله من الْمعَانِي على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا أَو اتقانها
وَمِنْهُم من قَالَ ذَا كَانَت الماني متمائلة فَكَذَلِك جَائِز وَأما إِذا كَانَت مُخْتَلفَة كالقرء وَالنِّكَاح فَإِنَّهُ لَا يجوز للمعبر أَن يُرِيدهُمَا مَعًا فِي عبارَة وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَلَا يجوز أَن يقْصد الْمعبر بهما مَعَانِيهَا الْمُخْتَلفَة كَمَا لَا يجوز أَن يُرِيد بِصِيغَة افْعَل الْوَعيد وَالْوُجُوب لاختلافها وَهَذَا ضَعِيف وسنشبع القَوْل فِيهِ فِي كتاب التَّأْوِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَلَكِن نشِير إِلَى نكنة تكسر المتشوف إِلَى معرفَة الصَّحِيح فِي هَذَا فَنَقُول لَا يَصح للنَّاظِر أَن يَدعِي اسْتِحَالَة فِي قصد الْمعبر بِالِاسْمِ الْوَاحِد عَن جَمِيع مَعَانِيه على اخْتِلَافهمَا ويعمها الحكم كُله جَازَ أَن يقصدهما فِي الْإِثْبَات فَهَذَا ظَاهر
وَأما تعلقهم بِأَن الصِّيغَة هِيَ فعل لَا يَصح أَن يُرِيد بهَا الْوُجُوب والتهديد فَإِنَّمَا امْتنع ذَلِك لِاسْتِحَالَة تعلق الْقَصْد بهما فِي حَالَة وَاحِدَة من جِهَة وَاحِدَة بِخِلَاف مَسْأَلَتنَا فَإِنَّهُ يَصح أَن يجتمعا فِي اللَّفْظ وَالْقَصْد فَلذَلِك جَازَ وَالله أعلم
السَّابِقَة التَّاسِعَة
 
وَهِي اللَّفْظ الصَّرِيح إِذا احْتمل الشَّيْء وضده فَلَا يَخْلُو أَن يكون احتمالهما سَوَاء أَو يكون فِي أحد المحتملين أظهر فَإِن كَانَ فِي أحد المحتملين أظهر فَهُوَ الظَّاهِر فَلَا خلاف فِي صِحَة التَّعْلِيق بِهِ فِي الْأَحْكَام وَإِن كَانَ الِاحْتِمَال وَاحِدًا فَهُوَ الْعُمُوم وَسَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ إِن كَانَ خلافين
(1/37)
 
 
السَّابِقَة الْعَاشِرَة
 
الْكَلَام فِي اللُّغَة يَنْقَسِم إِلَى اللَّفْظ وَإِلَى الْمَعْنى
أما اللَّفْظ فَهُوَ الْمعبر عَن الْمَعْنى فَلَا غنى عَنهُ على سبق بَيَانه وَأما الْمَعْنى فَهُوَ المُرَاد بِاللَّفْظِ وسنبرم فيهمَا عقدين يظْهر الْمَقْصُود بهما إِن شَاءَ الله تَعَالَى
العقد الأول
 
فِي شرح اللَّفْظ فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْكَلم يقسم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام اسْم وَفعل وحرف وَلم يقل الْكَلَام ن الْكَلَام هُوَ الْمُفْهم وَلَا يَقع الإفهام إِلَّا بِالْجُمْلَةِ وَالْجُمْلَة تتركب من اسْمَيْنِ وتتركب من اسْم وَفعل وتتركب من شَرط وَجَزَاء كَقَوْلِك إِن جئتني أكرمتك وَلَيْسَ تتركب من حرف وَاسم وَإِن وجدت فلنيابة الْحَرْف عَن الْفِعْل ودلالته وَاحِد وَذَلِكَ فِي بَاب وَاحِد وَهُوَ النداء خَاصَّة وَقد يُقيد الْكَلَام باسم وَاحِد وَذَلِكَ فِي جَوَاب الِاسْتِفْهَام الْمُحَقق الْمُقدر
فالاسم الْكَلَام باسم وَاحِد على معنى غير مشْعر بِزَمَان يخْتَص بِهِ
وَالْفِعْل كل مَا دلّ على معنى وزمان مَعًا وَهُوَ يَنْقَسِم بانقسام الزَّمَان مَاض تقضي وحاضر أَنْت فِيهِ ومستقبل تستأنفه
فالماضي مَا لم يكن فِي أَوله حرف زَائِد والآخران مَا كَانَ فِي أَولهمَا إِحْدَى الزَّوَائِد وَهِي حرف الْمَدّ اللين أَصْلهَا الْيَاء تَقول يقوم زيد وَثَانِيها التَّاء وَهِي بدل من الْوَاو فِي قَوْلك تقوم أَنْت والإبدال فِي مثل هَذَا كثير شَائِع والهمزة فِي قَوْلك أقوم بدل من الإلف لِأَنَّهَا جعلت سَاكِنة لَا يُمكن النُّطْق بهَا وَالنُّون فِي قَوْلك نقوم نَحن ملتحقة بهَا لِأَن فِيهِ غنة فألحقوها بأختها وينفصل الْحَاضِر من الْمُسْتَقْبل باقتران
(1/38)
 
 
قَوْلك الْآن لِأَنَّك تَقول أقوم يحْتَمل الْحَاضِر والمستقبل فَإِذا قلت الْآن حصلته للحضور
وَأما الْحَرْف فَهُوَ مَا يُفِيد معنى فِي غَيره والأسماء على ضَرْبَيْنِ مَبْنِيَّة ومعربة فالمبنية كَقَوْلِك من وَكَيف وَإِنَّمَا سمي مَبْنِيا لثُبُوته على حَرَكَة وَاحِدَة تَشْبِيها بِالْبِنَاءِ لَا غير
والمعرب على ضَرْبَيْنِ مُتَمَكن وَأمكن فالمتمكن كعمرو والأمكن كزيد
وَأما الْحَرْف فَهُوَ مَا يُرَاد لغيره وَيدل على الْمَعْنى فِيهِ وَهُوَ على قسمَيْنِ مَقْطُوع وموصول
فَأَما الْمَقْطُوع فَهُوَ حُرُوف المعجم السالمة عبارَة ووصفا عَنْهَا المثبتة معنى كَمَا تقدم فِيهَا وأمهاتها فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهَا خَمْسَة
أَولهمَا الْبَاء وَقد غلط فِيهَا كثير من الْعلمَاء وظنوها للتبغيض وَذَلِكَ خطأ بَين أما أَنَّهَا قد تكون صلَة للأفعال فِي قَوْلك خذت وَنَصَحْت وشكرت وَنَحْوه وَالَّذِي أوجب ذَلِك قَوْله سُبْحَانَهُ (وأمسحوا برؤؤسكم) فزعموا أَنَّهَا تفِيد التبغيض هَا هُنَا بَينا فِي كتاب الْأَحْكَام أَنَّهَا من بَاب الْمَفْهُوم عكساً كَقَوْل الشَّاعِر
(وعصفت بالكثتين عصف الأئمد ... وَذَلِكَ لحكمة بديعة بَيَانهَا فِي موضعهَا)
(1/39)
 
 
الثَّانِي الْوَاو وَقد غلط فِيهَا جمَاعَة من الْعلمَاء حَتَّى اعتقدوها للتَّرْتِيب وَهِي لَا تَقْتَضِي جمعا وَلَا ترتيبا
وَالدَّلِيل على صِحَة ذَلِك دُخُولهَا حَيْثُ يَسْتَحِيل التَّرْتِيب وَهُوَ بَاب المفاعلة بيد أَنَّهَا فِي بَاب الْعَطف تدل على تقدم الأهم فالأهم وَلذَلِك قَالَ وَقد وقف على الصَّفَا نبدأ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ
وَأما الْفَاء فَهِيَ للتعقيب وَمن ضرورتها التَّرْتِيب وَمن روابطها التسبيب وَهِي ثَلَاثَة مرتبطة
وَمَا ثمَّ فقد غلط فِيهَا بعض عُلَمَائِنَا فَقَالَ إِن ثمَّ تَقْتَضِي المهلة فِي موضعهَا وَقد تَأتي لغير ذَلِك كَقَوْل الشَّاعِر
(كهز الرديني تَحت العجاج ... جرى فِي الأنابيب ثمَّ اضْطربَ)
فَجعل الِاضْطِرَاب بعد الهز وَهُوَ هُوَ وَمَعَهُ وَأبْعد من هَذِه قَول الشَّاعِر
(إِن من سَاد ثمَّ سَاد أَبوهُ ... ثمَّ قد سَاد بعد ذَلِك جده)
وَالصَّحِيح من القَوْل الَّذِي يبين الْمَعْنى ويكشف جَوَاب السُّؤَال ثمَّ لَا تكون أبدا إِلَّا التَّرْتِيب والمهلة على بَابهَا فِي كل مَوضِع إِلَّا أَنَّهَا تذكر لترتيب الْمعَانِي وَقد تذكر لترتيب الْكَلَام
وَأما الْخَامِس فَهُوَ الْكَاف وَهُوَ أَن كَانَ مُفردا مَقْطُوعًا فَإِنَّهُ مَوْصُول الْمَعْنى لِأَنَّهُ مَوْضُوع للتبيخ وَهُوَ معنى مستقيل بيد أَن بَعضهم قد رام أَن
(1/40)
 
 
يكون حرفا مَقْطُوعًا وَزعم إِنَّه قد جَاءَ زَائِدا لذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى (لَيْسَ كمثله شيئ) وَفِي قَول الشَّاعِر
(وصاليات ككما يوبقين)
وَالْكَاف فِي هذاين المثالين حرف معنى مُسْتَقل مُفِيد وَقد بَينا ذَلِك فِي كتاب المشكلين
وَأما الْحُرُوف الموصولة فَهِيَ كَثِيرَة جدا لَكنا نذْكر أمهاتها خَمْسَة عشر حرفا لابتغاء الْأَحْكَام عَلَيْهَا وَتعلق الْفَتْوَى بهَا
أَولهَا أما
 
وَهُوَ حرف وضع لتجريد عَنهُ من توقع الِاشْتِرَاك فِي الْخَبَر وَهُوَ مركب من حرفين أَن وَمَا
وجعلوه فِي الإفادة نَائِبا وناب حرف الشَّرْط وَالْفِعْل الْمُتَّصِل بِهِ وَلذَلِك دخلت فِي جَوَابه الْفَاء تَقول أما زيد فمنطلق التَّقْدِير مهما يكن من شَيْء فزيد منطلق وَوجه تركيبها وتفصيلها وَاسْتِيفَاء الْكَلَام عَلَيْهَا وعَلى أخواتها اللَّاتِي يَأْتِين بعْدهَا مُبين فِي ملجئة المتفقهين
الثَّانِي إِنَّمَا
 
وَهِي كلمة مفيدة للنَّفْي وَالْإِثْبَات مركبة من إِن وَمَا وَعبارَة أهل سَمَرْقَنْد فِيهَا إِنَّهَا حرف مَوْضُوع لتحقيق الْمُتَّصِل وتلحيق الْمُنْفَصِل
(1/41)
 
 
وَعبارَة أهل الْعرَاق إِنَّهَا مَوْضُوعَة لتخصيص الْمخبر عَنهُ بالْخبر قَالَ تَعَالَى (إِنَّمَا الله إِلَه وحد) وَقَالَ إِنَّمَا الْكَرِيم يُوسُف وَقَالَت الْعَرَب إِنَّمَا الشجاع عنترة
الثَّالِث مَا
 
وَلها أحد عشر موضعا أَصْلهَا النَّفْي وَالْإِثْبَات فَمن فروع الْإِثْبَات أَنَّهَا تكون بِمَعْنى من قَالَه أَبُو عبد الله المغربي وَاحْتج بقوله تَعَالَى (وَالسَّمَاء وَمَا بناها) وَأنكر بَعضهم إِنْكَاره وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنى الَّذِي بِمَعْنى من فأسقط أَبُو عبد الله الْوَاسِطَة وَهِي الَّذِي وَقَالَ إِنَّهَا بِمَعْنى من ذَلِك فَاسد للقانون اللّغَوِيّ
الْحَرْف الرَّابِع أَو
 
وَقد عد أَصْحَابنَا لَهَا مَوَاضِع سَبْعَة أَو ثَمَانِيَة أمهاتها موضعان أَحدهمَا التَّرَدُّد وَالْآخر التَّفْصِيل وَيدخل تَحت قَوْلنَا التَّرَدُّد التَّخْيِير
وللتخيير خَمْسَة شُرُوط تَأتي فِي بَاب الْأَمر بِالْوَاحِدِ من أَشْيَاء على التَّخْيِير إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(1/42)
 
 
الْحَرْف الْخَامِس حرف من
 
قَالَ عُلَمَاؤُنَا هِيَ لابتداء الْغَايَة تَارَة وللتبغيض أُخْرَى وَرَأَيْت أَبُو بكر بن السراج رَحمَه الله قَالَ فِي شَرحه لكتاب سِيبَوَيْهٍ رَحمَه الله إِنَّهَا لَا تكون إِلَّا لابتداء الْغَايَة وَأَنَّهَا لَا تكون للتبغيض بِحَال وَهَذَا الَّذِي قَالَه صَحِيح المَال فَإِن كَانَ تبغيض ابْتِدَاء غَايَة وَلَيْسَ كل ابْتِدَاء غَايَة تبغيض
الْحَرْف السَّادِس هَل
 
وَهِي أم حُرُوف الِاسْتِفْهَام وَمَا وَرَاءَهَا من حُرُوف الِاسْتِفْهَام تال لَهَا وَقد ظن بعض النَّاس إِنَّهَا بِمَعْنى قد فِي قَوْله تَعَالَى (هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر) وَالصَّحِيح إِنَّهَا على بَابهَا فِي هَذَا الْموضع وسواه وَلَكِن قد تكون بِمَعْنى التَّقْرِير لِأَنَّهُ اسْتِفْهَام مُقَرر فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمُحَقق
الْحَرْف السَّابِع الْألف وَاللَّام
 
قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِنَّهَا ترد للحصر فِي قَوْله تَعَالَى المَال الْإِبِل وَالنَّاس الْعَرَب وَالَّذِي يَعْتَقِدهُ أَرْبَاب الصِّنَاعَة إِنَّهَا تَارَة تكون لبَيَان الْجِنْس وَتارَة لبَيَان الْعَهْد والحصر من مقتضيات الْجِنْس وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي إِنَّه سُئِلَ عَن أكْرم النَّاس فَقَالَ الْكَرِيم بن الْكَرِيم بن الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالُوا لَيْسَ عَن هَذَا نَسْأَلك قَالَ
(1/43)
 
 
فَعَن معادن الْعَرَب تسئلوني قَالُوا نعم قَالَ خيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي الْإِسْلَام إِذا فقهوا
الْحَرْف الثَّامِن لَو
 
وَهُوَ حرف يرد فِي لِسَان الْعَرَب لِامْتِنَاع الشَّيْء لِامْتِنَاع غَيره وَلَا معنى لَهُ سواهُ وَقد ظن إِنَّه يرد بِمَعْنى إِن فِي قَوْله تَعَالَى (وَلَو أَعجبتكُم) قَالُوا الْمَعْنى هُنَا وَإِن أعجبكم وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح بل هُوَ على بَابهَا وَقد بَينا ذَلِك فِي كتاب الْأَحْكَام
الْحَرْف التَّاسِع لَوْلَا
 
وَهُوَ حرف يدل على امْتنَاع الشَّيْء لثُبُوت غَيره وَقد اخْتلف النَّاس فِي لَو لَوْلَا هَل يفتقران إِلَى جَوَاب أم لَا
وَالصَّحِيح افتقارهما إِلَيْهِ وَقد تخرج لَوْلَا عَن هَذَا الْبَاب الَّذِي حددناه بِهِ فَتكون بِمَعْنى التَّرْغِيب وَلَا تفْتَقر حِينَئِذٍ إِلَى جَوَاب اتِّفَاقًا
الْحَرْف الْعَاشِر إِلَى
 
وَهُوَ مَوْضُوع لبَيَان الْغَايَة وَهِي إِذا اتَّصَلت بِمن وانتظم الْكَلَام بهَا كَانَت حدا فَلَا يَخْلُو أَن تكون من جنس الْمَحْدُود أَو من غير جنسه فَإِن كَانَت من جنسه دخل فِيهِ وَإِن كَانَ من غير جنسه وقف عِنْده وَقد ظن بَعضهم أَنَّهَا تكون بِمَعْنى مَعَ وَهُوَ غلط بَين لَا تَقْتَضِيه اللُّغَة وَلَا تدل عَلَيْهِ الشَّرِيعَة وَغسل الْمرَافِق لم يكن بِمُقْتَضى إِلَى وَإِنَّمَا كَانَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي بَيناهُ فِي كتاب الْإِنْصَاف
(1/44)
 
 
الْحَرْف الْحَادِي عشر بلَى
 
وَهِي لاستدراك الْمَنْفِيّ بِجَوَاب نفي يقْتَرن بِهِ اسْتِفْهَام وَهِي بديلة نعم وَلَا يَصح أَن تكون مَعهَا حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا لَو قَالَ بَنو آدم فِي جَوَاب قَول رَبهم (أَلَسْت بربكم) نعم لكفروا لِأَنَّهُ كَانَ يكون إِثْبَاتًا لما سئلوا عَنهُ وَهِي نفي الربوبية
الْحَرْف الثَّانِي عشر على
 
وَهِي تكون على ثَلَاثَة أنحاء
وَالْأول الِاسْم تَقول أَخَذته من على الدَّابَّة
وَتَكون فعلا فَتَقول أَخَذته من على الدَّابَّة
وَتَكون حرفا فِي قَوْلك عَلَوْت عَلَيْهِ
قَالَ لنا الطوسي رَحمَه الله قَالَ لنا الإِمَام أَبُو عبد الله المغربي رَحمَه الله لَا تكون على فعلا أبدا وَإِن أُرِيد بهَا الْفِعْل فَلَيْسَتْ تِلْكَ وَإِن شابهتها فِي الصُّورَة
والمقدر الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ الْفِقْه فِي ابتناء الْأَحْكَام فقد بَيناهُ وَمَا تقدم من وَقَول أبي عبد الله المغربي بحث نحوي لسنا الْآن لَهُ
الْحَرْف الثَّالِث عشر حَتَّى
 
وَهِي حرف مَوْضُوع للغاية الْمَحْضَة لكنه قد يكون عطفا وخاصيتها إِذا كَانَت عطفا أَلا تعطف إِلَّا بَين الجنسين وَقد تكون للاستئناف فيتضمن
(1/45)
 
 
عطف الْجمل معنى وَلَا يَصح أَن يتَوَهَّم لَهَا معنى من رفع أَو إِزَالَة سوى الْغَايَة
الْحَرْف الرَّابِع عشر مذ
 
وَهُوَ مَوْضُوع للإيصال بِالزَّمَانِ أَو مَا يكون فِي حكم الزَّمَان لَيْسَ للمكان فِيهِ مدْخل وَإِن اتَّصل بِمَا يتَوَهَّم عَن هَذَا فَهِيَ رَاجِعَة إِلَيْهِ عِنْد التَّحْقِيق وَذَلِكَ بَين فِي مَوْضِعه
الْحَرْف الْخَامِس عشر إِلَّا
 
وَهِي أم حُرُوف الِاسْتِثْنَاء وَهِي عندنَا لبَيَان مُرَاد الْمخبر فِيمَا سبق قبلهَا من الْخَبَر وَذَلِكَ نوع من الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَله أَبْوَاب ومسائل يكثر تعدادها سَيَأْتِي بَيَانهَا فِي موَاضعهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَا أ / اأم أما القَوْل فِي الْمَعْنى
 
وَهُوَ الْمَقْصُود الْأَكْبَر من غرضنا وَعَلِيهِ يَنْبَغِي الْكتاب كُله
فَنَقُول إِن الْكَلَام فِي اللُّغَة على ضَرْبَيْنِ مهمل ومستعمل
فالمهمل كل قَول نظم من حُرُوف المعجم نظما لَا يُفِيد فِي لُغَة الْعَرَب شَيْئا
والمستعمل على ضَرْبَيْنِ مِنْهُ مَا يُفِيد فِي غير مَا وضع لَهُ كالألقاب وَمِنْه مَا يُفِيد فِيمَا وضع لَهُ وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ مجَاز وَحَقِيقَة وَقد تقدم بيانهما وكل كَلَام يُفِيد مَا وضع لَهُ بَين المتخاطبين لَا بُد لَهُ من شُرُوط كثير عَددهَا مِنْهَا أصلان كبيران
(1/46)
 
 
أَحدهمَا إِنَّه لَا بُد من إِرَادَة الْمُخَاطب إِفَادَة الْمُخَاطب معنى مَا فَإِن لم يرد ذَلِك كَانَ القَوْل عَبَثا إِلَّا على وَجه بَيناهُ فِي مَوْضِعه
الثَّانِي أَن يُرِيد إفادته مَقْصُور الْخطاب وَالْمرَاد بِهِ بِمَا يَصح فهمه لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْبَيَان وَله حَقِيقَة ومراتب تجمعهما مسَائِل خمس
الْمَسْأَلَة الأولى فِي حَقِيقَة الْبَيَان
 
قَالَ الصَّيْرَفِي وَكَانَ من عُلَمَاء الْأُصُول
وَهُوَ إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال إِلَى حيّز التجلي
وَهَذَا ضَعِيف فَإِن الحيز والتجلي لفظان مشكلان فَكيف يتَبَيَّن بهما وَقَالَ آخَرُونَ
الْبَيَان هُوَ الْعلم وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ لَو اطرد لانعكس وَلَا يَصح أَن يُقَال الْعلم هُوَ الْبَيَان فَإِنَّهُ لَا يَصح ذَلِك فِيهِ إِذْ الْبَيَان والتبين يَقْتَضِي سبق استبهام فَيخرج عَنهُ علم الله تَعَالَى
وَقَالَ قَائِلُونَ الْبَيَان هُوَ الظُّهُور يُقَال بَان لي أَمر كَذَا وَبَانَتْ الْمَرْأَة من زَوجهَا وَالصديق من صديقه وَهُوَ ظُهُور على وَجه مَا فرقت بَين ذَلِك كُله المصادر وَهَذَا الْحَد وَإِن كَانَ يحوم على الْحَقِيقَة لكنه مُشْتَرك بَين الْأَجْسَام والمعاني
وَالصَّحِيح مَا حد بِهِ أَبُو الباقلاني رَحمَه الله لِسَان الْأمة قَالَ الْبَيَان هُوَ الدَّلِيل وَهَذَا صَحِيح لفظا وَمعنى طردا وعكسا
(1/47)
 
 
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي مراتبه
 
أول من رتبها الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ هُوَ على خمس مَرَاتِب
أَولهَا مَا يُدْرِكهُ الْعَوام الجفلى كَقَوْلِه تَعَالَى (فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة)
الثَّانِي مَا يُدْرِكهُ الْخَواص من أولى الحجى كآية الْوضُوء فَإِنَّهَا تحْتَاج لى معارف كَثِيرَة مِنْهَا الْوَاو وَالْفَاء وَغير ذَلِك
الثَّالِث مَا تولى الله تَعَالَى تَنْزِيله وَوَقعت الإحالة على النَّبِي فِي بَيَانه كَقَوْلِه تَعَالَى (وَأقِيمُوا الصَّلَاة وءاتوا الزَّكَاة) وَكَقَوْلِه سُبْحَانَهُ (وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا) فِي أحد الْقَوْلَيْنِ
الرَّابِع مَا تولى النَّبِي بَيَان أَصله وَوَصفه كَحَدِيث عبَادَة لَا تَبِيعُوا الذَّهَب إِلَى آخِره
الْخَامِس الْقيَاس
 
وَقد رد عَلَيْهِ جمَاعَة من الْعلمَاء هَذَا التَّرْتِيب بِتَرْكِهِ للْإِجْمَاع وَهُوَ من أعظم الْأُصُول وَذكروا ترتيبها على وَجه يطول وَالَّذِي يفتقرون إِلَيْهِ الْآن
(1/48)
 
 
فِي هَذِه العجالة أَنا قدمنَا أَن الْبَيَان هُوَ الدَّلِيل فمراتب الْبَيَان كمراتب الْأَدِلَّة وأصل الْأَدِلَّة فِي غرضنا هَذَا كتاب الله تَعَالَى ثمَّ بعد ذَلِك تتنوع إِلَى مَا تنشأ عَنهُ فمرتبته بِحَسب قربه مِنْهُ كَقَوْلِه النَّبِي فَإِنَّهُ يَلِيهِ وَإِجْمَاع الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم فَإِنَّهُ يَلِيهِ وَإِجْمَاع الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم فَإِنَّهُ تالية وَكَلَام الله تَعَالَى الْمنزل علينا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيّ يخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف اللِّسَان الَّذِي نزل بِهِ فالنص أَعْلَاهُ وَالظَّاهِر تلوه وَهَكَذَا كلما تَبَاعَدت فِي الْأَمريْنِ جَمِيعًا تفاوتت ومدركها لَا يتَبَيَّن إِلَّا بمباشرتها
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة
 
وَقد اتّفق الجفلى على أَن ذَلِك لَا يجوز لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَالا يُطَاق وَلما تكَرر ذكر ذَلِك فِي الْكتب اتّفق عَلَيْهِ الْعلمَاء قَدِيما وحديثا وَلم يعرف فِيهِ نزاع من موالف وَلَا مُخَالف لاحظته مرّة فَظهر لي إِن ذَلِك جَائِز وَلَا يكون من بَاب تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق بل يكون رفعا للْحكم واسقاطا لَهُ
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة
 
زعمت طَائِفَة أَنه لَا يجوز معظمهم من الْمُعْتَزلَة وباقيهم من سَائِر المبتدعة وَالدَّلِيل على جَوَازه أَنه لَا اسْتِحَالَة فِي أَن يَقُول السَّيِّد لعَبْدِهِ خطّ لي هَذَا الثَّوْب غَدا فَإِذا من الْغَد يبين لَهُ الْكَيْفِيَّة وتعسا للمعتزلة فَإِنَّهُم قَالُوا إِن النّسخ بَيَان لانقضاء مُدَّة الْعِبَادَة فَكيف أَنْكَرُوا مَا جوزوا
وَأما الدَّلِيل على وُقُوعه فكثير نذْكر مِنْهَا ثَلَاثَة أُمُور
الأول إِن الله تبَارك وَتَعَالَى أَمر بني إِسْرَائِيل بِذبح الْبَقَرَة فِي وَقت ثمَّ بَين لَهُم صفتهَا فِي آخر
(1/49)
 
 
الثَّانِي إِن الله عز وَجل فرض الصَّلَاة على رَسُول الله لَيْلًا فِي السَّمَاء وَبَينهَا فِي صَلَاة الظهرة على التواني عِنْد الْحَاجة إِلَيْهَا
الثَّالِث إِن النَّبِي سَأَلَهُ سَائل عَن وَقت الصَّلَاة فَقَالَ صل مَعنا هذَيْن الْيَوْمَيْنِ
وَهَذِه الثَّلَاثَة الْأَدِلَّة يعْتَمد فِيهَا على الْأَوْسَط لِأَن الأول وَالثَّانِي مِنْهُمَا معترضان
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي جَوَاز تَأْخِير التَّخْصِيص
 
وَهُوَ مثل مَا تقدم وَأبين مِنْهُ وَالْقَوْل فِيهِ كالقول فِيهِ
(1/50)
 
 
كتاب الْأَقْسَام
 
لما سلف من القَوْل فِي مُقَدمَات أُصُوله الْفِقْه مَا يُغني فِيمَا يسْتَأْنف وَجب الْأَخْذ فِي بَيَان أصُول الْفِقْه المختصة بِهِ المضافة لَهُ
وَذَلِكَ القَوْل فِي الْأَوَامِر النواهي وَالْبَيَان للْعُمُوم وَالْخُصُوص وَالنَّظَر فِي الْمُحكم والمتشابه وَاتِّبَاع ذَلِك الْمَفْهُوم وفصله عَن الْمَنْطُوق فِي الْخطاب خَاصَّة وَاتِّبَاع ذَلِك بالأفعال وَبَيَان الْأَخْبَار وإيضاح منَازِل التَّنْزِيل للتأويل وَالْكَلَام على الْإِجْمَاع وَكَيْفِيَّة وجوهه وإتباع ذَلِك بالْقَوْل فِي الْقيَاس وأقسامه وَبَيَان وُجُوه الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ وإتمام الْكتاب بالْقَوْل فِي الْقيَاس وأقسامه وَبَيَان وُجُوه الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ وإتمام الْكتاب بالْقَوْل فِي النَّاسِخ والمنسوخ وإيضاح ذَلِك بِبَيَان التَّرْجِيح الَّذِي هُوَ معضلة الْأُصُول وخاتمة الْفُصُول وَلَا بُد من ذكر مَرَاتِب الِاجْتِهَاد وَكَيْفِيَّة مَرَاتِب الْفَتْوَى وَبِذَلِك يتم الْعرض المصمود وَتَحْصِيل الْفَائِدَة وَالْمَقْصُود
القَوْل فِي الْأَوَامِر
 
وفيهَا خمس عشرَة مَسْأَلَة
الْمَسْأَلَة الأولى فِي حَقِيقَة الْأَمر
 
وَقد جرت عَادَة عُلَمَائِنَا رَضِي الله عَنْهُم بتصدير هَذَا الْبَاب بالْقَوْل فِي أَقسَام الْكَلَام وأنواعه وَقد طَال بَينهم فِي ذَلِك القراع وَكثر النزاع وَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَن أقسامه خَمْسَة وَالصَّحِيح إِنَّهَا قِسْمَانِ حسب مَا كشفه التمحيص فِي كتَابنَا وهما الطّلب وَالْخَبَر
(1/51)
 
 
فَأَما الْكَلَام فقد جَهله أَكثر النَّاس وَهُوَ عندنَا الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ فَأَما الْعبارَات فَاخْتلف عُلَمَاؤُنَا فِيهَا فَقَالَ شَيخنَا أَبُو الْحسن رَحمَه الله إِنَّهَا كَلَام حَقِيقَة وَجعل حَقِيقَة الْكَلَام جِنْسَيْنِ وَسَائِر الْأَصْحَاب رَحِمهم
(1/52)
 
 
الله يَقُولُونَ إِن الْعبارَة تسمى كلَاما مجَازًا وَبِه أَقُول وَقَالَت الْمُعْتَزلَة وَجَمَاعَة من المبتدعة إِن الْكَلَام فعل من الْأَفْعَال كالحركة والسكون وَأَنه ضرب من اصطكاك الْأَجْسَام وَقد دللنا على فَسَاده فِي كتاب المقسط والمتوسط وَالَّذِي يهدم قاعدتهم إِنَّه يعلم الْمُتَكَلّم متكلما من لَا يدْرِي كَونه فَاعِلا للْكَلَام وَلَو كَانَ حَقِيقَة الْمُتَكَلّم من فعل الْكَلَام مَا علمه متكلما إِلَّا من علمه فَاعِلا وَلَا جَوَاب لَهُم عَنهُ
إِذا ثَبت هَذَا وفهمتم أَن الْكَلَام معنى قَائِم بِالنَّفسِ يجده الْمَرْء ويحس بِهِ الْعَاقِل فينبني على هَذَا
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وَهِي أَن الْأَمر لَا صِيغَة لَهُ
 
وَقد اخْتلف فِي ذَلِك أهل الْأُصُول فَصَارَ الْفُقَهَاء مِمَّن تكلم فِيهَا إِلَى أَن لَهُ صِيغَة وَإِلَى ذَلِك مَالَتْ الْمُعْتَزلَة بأسرها لاعتقادهم الْفَاسِد
فَأَما الْفُقَهَاء فَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك جهل بِحَقِيقَة الْأَمر لَا عَن اقتحام الْبِدْعَة
وَأما الْمُعْتَزلَة فَإِنَّمَا صَارُوا إِلَى ذَلِك لاعتقادهم الْفَاسِد أَن الْكَلَام أصوات مقطعَة وحروف مؤلفة وَقد بَينا فَسَاده من قبل
(1/53)
 
 
وَاتفقَ أهل الْحق من أَرْبَاب الْكَلَام على أَن الْأَمر لَا صِيغَة لَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْكَلَام معنى الشُّبُهَات قَائِم بِالنَّفسِ من الْإِرَادَة وَالْعلم والمعاني النفسية لَا صِيغَة لَهَا وَهَذَا أبين من الشُّبُهَات فِيهِ
وَمَعَ هَذَا فَنَقُول إِن وَرَاء هَذَا تَحْقِيقا لَا بُد من شَرحه وَهُوَ إِن الْأَمر الَّذِي هُوَ أحد أَقسَام الْكَلَام الَّذِي هُوَ معنى قَائِم بِالنَّفسِ هَل وضعت لَهُ الْعَرَب صِيغَة تدل عَلَيْهِ على اخْتِصَاص أم لَا فالفقهاء يرَوْنَ أَن لَهُ صِيغَة دَالَّة عَلَيْهِ على الِاخْتِصَاص وَهُوَ قَوْلك افْعَل
وَأما أهل الْحق من الْمُتَكَلِّمين فصاروا إِلَى أَن لَفظه افْعَل مُحْتَملَة لِلْأَمْرِ وضده وَهُوَ النَّهْي ولخلافة وَقد وَردت فِي الشَّرِيعَة على نَحْو من خَمْسَة عشر وَجها فَإِذا جَاءَت مُطلقَة وَجب التَّوَقُّف فِيهَا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على تعْيين معنى من مَعَانِيهَا
وَاحْتج الْفُقَهَاء بِأَن الله تَعَالَى أَمر أبليس بِالسُّجُود فَلَمَّا توقف وَاعْترض اسْتحق الذَّم وَقَالَ تَعَالَى (فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن نصِيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب اليم)
وَأجَاب عَن ذَلِك أَصْحَابنَا بِأَن هَذَا وَأَمْثَاله لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ أما قصَّة إِبْلِيس فَإِن الله تَعَالَى قرن أمره بِالسُّجُود لآدَم بِقَرِينَة فهمتها جَمِيع الْمَلَائِكَة وَلذَلِك سجدت وَهِي فضل الْعلم على المتعلم وَاعْترض فِيهَا إِبْلِيس لَا من الْوَجْه الْمُخْتَلف فِيهِ وَلَكِن من جِهَة تسفيه الْأَمر وَذَلِكَ كفر
(1/54)
 
 
وَأما قَوْله تَعَالَى (فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره) فَلم يخْتَلف أحد فِي أَن مُخَالفَة الْأَمر لَا يحل وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي أَمريْن
أَحدهمَا إِن الْأَمر يحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى الْفِعْل وَيحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى القَوْل خَاصّا أَو عَاما
الثَّانِي أَنهم أَنما اخْتلفُوا فِي الصِّيغَة الَّتِي تنبئ عَن الْأَمر وَلَيْسَ فِي ذَلِك ظَاهر وَلَا نَص لما يحاولون فِيهَا
وَالْمُخْتَار أَن الْأَعْلَى إِذا قَالَ للأدنى افْعَل فالمفهوم مِنْهُ طلب جازم لَا مثنوية فِيهِ وَلَا تردد
فَإِن قيل فَالْأَمْر من الْمثل للمثل هَل يتَصَوَّر
قُلْنَا يتَصَوَّر بِوَجْهَيْنِ إِمَّا بِبَقَاء الْمسَاوِي فَيكون على الْمُكَافَأَة وَإِمَّا بِالْحَاجةِ فَيكون طلبا فتذهب الْمُمَاثلَة
فَأَما التَّعَرُّض للعقاب عِنْد التّرْك فَلَيْسَ لِلْأَمْرِ فِيهِ حَظّ سَوَاء كَانَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ أَو الْعبارَة الدَّالَّة عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُوجد الْعقَاب على التّرْك من دَلِيل آخر
فَإِن قيل اقتحمتم عَظِيما فَإِنَّكُم جعلتم الْأَمر فِي اللُّغَة عريا عَن عبارَة تدل عَلَيْهِ
قُلْنَا عَن هَذَا جوابان أَحدهمَا أننا نقُول إِن فعلنَا ذَلِك فَإِن لَهَا لأخوات
الثَّانِي إِن الْعبارَة المختصة بِهِ أوجبت وألزمت وفرضت وَنَحْو ذَلِك إِن صَحَّ ايضا ذَلِك على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(1/55)
 
 
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي مُطلق لَفْظَة افْعَل
 
قَالَ بعض النَّاس هِيَ مَحْمُولَة على الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ مُتَيَقن وَغير ذَلِك مَشْكُوك
وَقَالَ آخَرُونَ محملها الْوُجُوب لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِر مِنْهُ
وَقَالَ أهل الْحق يتَوَقَّف فِيهِ أَو لَا يَصح دَعْوَى بِشَيْء فِيهِ لِأَن من تعلق بِالْإِبَاحَةِ فَهُوَ من فرع الِاسْتِصْحَاب الفقهي هُوَ من أصعب الْأَدِلَّة وَلِأَنَّهُ ادّعى الْأَقَل وَلَا أقل فِي مَسْأَلَتنَا بل كل معنى مِنْهَا مُسْتَقل
وَأما من تعلق بِالْوُجُوب فَلَا يَخْلُو أَن يَدعِي ذَلِك نظرا أَو خَبرا وَالنَّظَر لَا طَريقَة لَهُ فِي مَسْأَلَتنَا لِأَن النّظر الْعقلِيّ لَا مجَال لَهُ فِيهِ وَالنَّظَر الشَّرْعِيّ وَهُوَ الْقيَاس لَا يسوغ إثْبَاته
وَأما الْخَبَر فَلَا يَخْلُو أَن يَدْعُو ذَلِك أَو شرعا أَو آحاداً أَو تواتراً وَشَيْء من الْقسمَيْنِ لم يُوجد فِي وَاحِد من الْقسمَيْنِ وَلَو وجد فِيهِ الْآحَاد لم تستقل بإثباتها فَوَجَبَ التَّوَقُّف وَآل الْأَمر إِلَى العقد الَّذِي عَقدنَا فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا وَالْمُخْتَار فِيهَا
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة
 
فِي اشْتِرَاط الْعلم بالتمكن من الْأَمر قبل الْفِعْل قَالَ أَبُو هَاشم من الْمُعْتَزلَة لَا يجوز وَقَالَ القَاضِي رَحمَه الله يجوز وَالْمَسْأَلَة مترددة من عبارتهم وعَلى كل حَال هِيَ رَاجِعَة إِلَى الأَصْل السَّابِق وَهُوَ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق
(1/56)
 
 
وَالْقَاضِي رَحمَه إِنَّمَا صَار عدم اشْتِرَاطه خوفًا من التكاسل والتواني فِي تَحْصِيل الْعلم لَهُ فيؤول ذَلِك إِلَى اخترام الْمنية للمكلف قبل الْفِعْل فَإِذا قَدرنَا بذل المجهود فِي تَحْصِيل الْعلم وتوقي الْأَسْبَاب المعرضة للذهول عَنهُ فيكاد يرْتَفع هَذَا الْخلاف وَيبقى الْخلاف فِي
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة
 
وَهِي أَن التَّمَكُّن من الْفِعْل هَل هُوَ شَرط فِي إلزم الْأَمر أم لَا
فَذهب أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله إِلَى أَن الْمَأْمُور بِهِ يثبت فِي ذمَّة الْمُكَلف قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل وَقد فاوضت فِي ذَلِك علماءه فَقَالَ لي الشَّيْخ من أهل مذْهبه فِي وقتنا أَبُو الْوَفَاء بن عقيل وَأَبُو سعد الفرذاني إِن هَذِه الْمَسْأَلَة صَحِيحَة من مَذْهَبنَا وَلكنهَا غير مَذْكُورَة الدَّلِيل لِأَنَّهَا لَا تجْرِي عندنَا فِي سنَن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَإِنَّمَا هِيَ من بَاب إِلْزَام الْمغمى عَلَيْهِ قَضَاء مَا فَاتَهُ م الصَّلَوَات فِي حَال إغمائه فَمَا لم يدْرك شَيْئا من وقته فترجع الْمَسْأَلَة فقهية وَهِي فِي مسَائِل الْخلاف مَذْكُورَة
(1/57)
 
 
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة
 
إِذا ثَبت من مُطلق الْأَمر الْوُجُوب والإلزام فَهَل يحمل ذَلِك على التّكْرَار أم تلغى مِنْهُ فعلة وَاحِدَة
اخْتلف فِي ذَلِك أَرْبَاب الْأُصُول على قَوْلَيْنِ
فَمنهمْ من قَالَ إِنَّه يَقْتَضِي التّكْرَار وأجلهم الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق رَحمَه الله بمسلكين
أَحدهمَا أَن قَالَ إِن النَّهْي مَحْمُول على التّكْرَار فَكَذَلِك الْأَمر وعضد هَذَا بِأَن قَالَ الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه فَوَجَبَ أَن يكون حكمه حكم النَّهْي
المسلك الثَّانِي قَالَ إِن الْمُكَلف إِذا علم بِالْأَمر تَوَجَّهت عَلَيْهِ ثَلَاثَة فروض
الأول اعْتِقَاد الْوُجُوب
وَالثَّانِي الْعَزْم على الِامْتِثَال
وَالثَّالِث فعل الْمَأْمُور بِهِ
وَقد ثَبت وتقرر أَن اعْتِقَاد الْوُجُوب والعزم على فعل فرضان متكرران فَكَذَلِك يجب أَن يكون وَهُوَ فعل الْمَأْمُور بِهِ متكرراً ايضا
الْجَواب
 
إِن هَذَا مَا لَا يَصح التَّمَسُّك بِهِ فِي مَسْأَلَتنَا لِأَنَّهُ قِيَاس وَلَا يثبت مثلهَا بِالْقِيَاسِ
(1/58)
 
 
وَأما قَوْله إِن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه فَبَاطِل على مَا يَأْتِي بَيَانه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما المسلك الثَّانِي فالتعلق بِهِ ضعف لِأَنَّهُ قِيَاس أَيْضا وَالْقِيَاس قدمنَا فرع لَا يثبت بِهِ اصل
جَوَاب آخر
 
وَذَلِكَ أَن اعْتِقَاد الْوُجُوب إِنَّمَا وَجب فِيهِ الدَّوَام لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على صدق الرَّسُول الَّذِي يجب أَن نعتقد دَائِما
وَأما الْعَزْم على الِامْتِثَال فَلَا نسلم أَن التّكْرَار فِيهِ وَاجِب بِدَلِيل أَنه لَو ذهل لم يَأْثَم وَالْمُخْتَار أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي فعله يَقِينا فِي الْوُجُوب وَبهَا تَحْصِيل الِامْتِثَال وَسَائِر الْأَفْعَال مُحْتَمل شَأْنهَا مَوْقُوف على الدَّلِيل بَيَانهَا
المسالة السَّابِعَة
 
مُطلق الْأَمر مَحْمُول على الْفَوْر عِنْد جمَاعَة من النَّاس
وَقَالَ آخَرُونَ إِن التَّرَاخِي فِيهَا جَائِز وَغلط آخَرُونَ فَقَالُوا إِنَّه يَقْتَضِي التَّرَاخِي
وَوجه الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَنه من قَالَ يَقْتَضِي التَّرَاخِي فَوجه غلطه بَين لِأَن مَعْنَاهُ إِن من بَادر الِامْتِثَال لَا يُجزئهُ وَذَلِكَ محَال شرعا
وَإِمَّا من قَالَ إِنَّه مَحْمُول على التّكْرَار أبدا حَتَّى يثبت التَّعْيِين فَلَا يتَصَوَّر مَعَه الْمَسْأَلَة
وَأما من قَالَ يَقْتَضِي فعلة وَاحِدَة فها هُنَا يتَصَوَّر الْخلاف
فَقَالَت طَائِفَة إِن الْمُبَادرَة إِلَى الِامْتِثَال وَاجِب لوَجْهَيْنِ
(1/59)
 
 
أَحدهمَا إِن فِي التَّأْخِير تهاونا بِالْحُرْمَةِ
وَالثَّانِي إِن فِي التَّأْخِير تغريراً بِالْعبَادَة لِأَنَّهُ رُبمَا فاجأته الْمنية أمد التَّأْخِير وَهُوَ لم يمتثل فيتعرض للعقاب بترك الْفِعْل وعضدوا ذَلِك بظواهر كَثِيرَة كَقَوْلِه تَعَالَى جده (وسارعوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم) وكقول النَّبِي بَادرُوا بِالْأَعْمَالِ فِي نَظَائِر يكثر تعدادها وَالَّذِي نعتقده إِن التَّأْخِير جَائِز وَإِن الْمُبَادرَة حزم لِأَن الْأَمر ورد مُطلقًا بإلزام الامثتال وَنسبَة الزَّمَان إِلَيْهِ كنسبة الْمَكَان وَالتَّعْيِين فيهمَا مفتقر إِلَى دَلِيل
فَأَما مَا تعلقوا بِهِ من إِن فِيهِ تركا للْحرَّة فيعارضه إِن فِيهِ أخذا بِالرُّخْصَةِ وَعَملا بِالدَّلِيلِ لَا سِيمَا وَالْحُرْمَة إِنَّمَا تثبت بالاعتقاد أَولا فَإِن اعْتقد الفوركان التَّأْخِير تهاونا بِالْحُرْمَةِ وَإِن اعْتقد التَّأْخِير فَمَا تهاون بهل بل امتثل الْوَاجِب
وَأما قَوْلهم إِن فِيهِ تعرضا للعقاب وتسيبا إِلَى التعصية فَهُوَ فصل حاد اخْتلف فِيهِ جَوَاب الْقَائِلين بالتراخي فَكَانَ شَيخنَا أَبُو حَامِد وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ يَقُولَانِ إِن التَّرَاخِي إِنَّمَا جَازَ بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة كالرامي إِلَى الهدف وَإِذا فرض رمي الْجمار وَهَذَا مِمَّا لَا نرضاه فَإِن إِلْزَام الْمُكَلف الْفِعْل مُؤَخرا بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة وَهُوَ لَا يعلمهَا وَلَا يقدر عَلَيْهَا هدم لركن التَّكْلِيف فِي بَاب الْإِضَافَة وَالْعلم وعَلى هَذَا الأَصْل يخرج مَا ألزموا ونظائره
(1/60)
 
 
وَأما الرَّمْي إِلَى الهدف فمباح لَيْسَ بتكليف وَأما الرَّمْي إِلَى الصَّفّ أَو فِي الْجمار فَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِيهِ وَالْحكم بِهِ لَا يفْتَقر إِلَى الْقَصْد وَلَا يشْتَرط فِيهِ الْعلم
وَأما الظَّوَاهِر الَّتِي ذكروها فَلَا حجَّة لَهُم فِيهَا من وَجْهَيْن
أَحدهمَا إِن هَذِه الْمَسْأَلَة فِي أَمْثَالهَا لَا يثبت إِلَّا بالأدلة القطعية لَا بالظواهر الشَّرْعِيَّة
الثَّانِي إِنَّهَا مقترنة بقرائن اقْتَضَت حملهَا على الْبَدْر لِأَن الْمَغْفِرَة تحصل باجتناب الْمعاصِي وَاجْتنَاب الْمعاصِي يكون على الْفَوْر
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة
 
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة الله عَلَيْهِم الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت وجوبا موسعا يَمْتَد إِلَى آخِره
وَقَالَ أهل الْعرَاق تجب الصَّلَاة فِي آخر الْوَقْت
وَهَذِه الْمَسْأَلَة فرع من فروع الَّتِي قبلهَا وَقد عظم الْخطب بَين الْعلمَاء فِيهَا وتشعب القَوْل فِي مَعَانِيهَا وَالضَّابِط لنشر رِوَايَة كَلَامهم إِن الْعِبَادَات الْمَأْمُور بهَا على ثَلَاثَة أَقسَام فِي تعلقهَا بِالْوَقْتِ
وَقد تستغرق الْعِبَادَة جَمِيع الْوَقْت لَهَا وَكَأَنَّهُ جعل حدا فِيهَا وَذَلِكَ كَالصَّوْمِ
وَالثَّانِي عبَادَة ربطت بِوَقْت يَتَقَرَّر بامتثالها ويسع أعدادا لَهَا وَذَلِكَ كَالصَّلَاةِ
وَالثَّالِث عبَادَة لم ترتبط بِوَقْت وَلَا نيطت بِمدَّة فِي مُطلق الْأَمر كالكفارات وَقَضَاء الصَّلَوَات وَالْحج على اخْتِلَاف فِي هذَيْن
(1/61)
 
 
فَأَما الصَّوْم فَلَا كَلَام فِيهِ لِأَن طَرفَيْهِ مضبوطان بوقته
وَأما الصَّلَاة فَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة لَا تجب إِلَّا فِي آخر الْوَقْت لِأَن جَوَاز التَّأْخِير مَعَ خيرة الْمُكَلف بَين الْفِعْل وَالتّرْك يضاد الْوُجُوب
أجَاب عَن ذَلِك عُلَمَاؤُنَا بجوابين
أَحدهمَا أَن قَالُوا إِنَّمَا جَازَ التَّأْخِير بِشَرْط الْعَزْم على الْفِعْل وَبِهَذَا فَارق النَّوَافِل
الثَّانِي إِن جَوَاز التَّأْخِير إِنَّمَا يضاد وجوب الضّيق فَأَما الْوُجُوب الموسع فَلَا
وصوروا لَهُ مَسْأَلَة عقلية وَهِي لَو قَالَ لعَبْدِهِ ألزمتك خياطَة هَذَا الثَّوْب فِي هَذَا الشَّهْر وَهُوَ شغل يَوْم فَإِن الْوُجُوب ثَابت فِي الذِّمَّة والأمد أَضْعَاف الْوَظِيفَة وَهَذَا الَّذِي قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْجَواب فِيهِ نظر
أما قَوْلهم إِن الزم بدل عَنهُ فَفِيهِ أَرْبَعَة أجوبة لَهُم أقواها أَنهم لَا يسلمُونَ أَن الْعَزْم بدل بِدَلِيل تصور الذهول وَوُقُوع الْغَفْلَة وَلَا يُقَال إِن ذَلِك إخلال بِفَرْض وَأما مَا صوروه نم ضرب الْمثل بخياطة الثَّوْب فَالْخِلَاف أَيْضا فِيهِ مُتَصَوّر لأَنهم يَقُولُونَ الْوُجُوب لَا يتَحَقَّق فِي الْخياطَة إِلَّا فِي آخر الْمدَّة
وَبِالْجُمْلَةِ إِن الْمَسْأَلَة مَعَ تبَاعد أكتافها عسرة علينا جدا وَلَا عُمْدَة لنا فِيهَا إِلَّا جَوَاز الْفِعْل فِي أول الْوَقْت وَيكون ممتثلاً إِجْمَاعًا وَلَوْلَا تحقق الْوُجُوب فِي أول الْوَقْت وَيكون ممثلاً إِجْمَاعًا وَلَوْلَا تحقق الْوُجُوب فِي أول الْوَقْت لما كَانَ الِامْتِثَال فِيهِ مجزيا فدارت الْمَسْأَلَة على حرفين:
(1/62)
 
 
أَحدهمَا جَوَاز الْفِعْل وَهُوَ لنا ويعتضد ويتضح بامتناعه قبل الْوُجُوب وَوُجُوب إِعَادَته أَن وَقع حِينَئِذٍ غَلطا أَو قصدا وَلَهُم جَوَاز التَّأْخِير وينقضها الْحَج عِنْدهم وَالْكَفَّارَات إِجْمَاعًا فَصَارَت عمدتنا معتضدة بنظائر وَصَارَت عمدتهم بنظائر أَيْضا فَكَانَ التَّرْجِيح لنا
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة
 
الْأَمر بالشَّيْء لَا يكون نهيا عَن ضِدّه وَالنَّهْي عَن الشَّيْء لَا يكون أمرا بِأحد أضداده من غير تعْيين عِنْد الْجُمْهُور ومعظم عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله
وَمن النَّاس من قَالَ إِن الْأَمر عَن بالشَّيْء يكون نهيا عَن ضِدّه وَالنَّهْي عَن الشَّيْء يكون أمرا بِأحد أضداده من غَيره تعْيين وأجلهم الْأُسْتَاذ أ [وَإِسْحَاق رَحمَه الله
وعمدتنا فِي الْمَسْأَلَة إِن الْآمِر بالشَّيْء قد يذهل عَن الأضداد حَتَّى لَا يتَعَلَّق قَصده بِوَاحِد مِنْهَا وَإِنَّمَا مَقْصُوده مُتَعَلق بِالْأَمر
فالقائل قُم إِنَّمَا مَطْلُوبَة الْقيام وَمَا ضاده قد لَا يشْعر بِهِ حَالَة الْأَمر فَلَا يصلح ان يُقَال إِنَّه دخل تَحت قَصده وَلَا يتَعَلَّق بِهِ أمره
وَالدَّلِيل الْقَاطِع على ذَلِك أَن التَّصْوِير وَالتَّقْدِير لَو تعلق بِالْجمعِ بَين الْقيام فَجمع بَينهمَا مَا كَانَ ذَلِك قدحاً فِي الْأَمر وَهَذَا قَاطع مُقْتَض للْعلم وَتمسك الْأُسْتَاذ بِأَن الْأَمر بِالْقيامِ لَا يتَصَوَّر إِلَّا مَعَ ترك الْقعُود فَلَمَّا تلازما تضمن الْخطاب ظتهراً ومضمراً
(1/63)
 
 
أما الظَّاهِر فَهُوَ الْقيام وَأما الْمُضمر فَهُوَ ترك الْقعُود فَلَمَّا تلازما اتحدا وعضد ذَلِك بأمرين
أَحدهمَا الْعلم بِالسَّوَادِ مَعَ الْعلم بِالْعلمِ بِهِ فَإِنَّهُ لما تلازما اتحدا
الثَّانِي علم الله الْمُتَعَلّق بِكُل مَعْلُوم إِلَى غير نِهَايَة لما لازمها اتَّحد فَكَانَ علمه وَاحِدًا
أجَاب علمؤنا رَحِمهم الله عَن ذَلِك بِأَن قَالُوا
أما قَوْله بِأَن ترك الْعُقُود مُضْمر فِي الْأَمر ملازم لَهُ فقد بَينا فَسَاده من قبل جَوَاز تَقْدِير الذهول أَو غَيره وَأما مَا اعتضد بِهِ من اتِّحَاد الْعلم بِالسَّوَادِ مَعَ الْعلم بِالْعلمِ بِهِ فقد مَنعه عُلَمَاؤُنَا
وَأما مَا تعلق بِهِ من اتِّحَاد علم الله فَلَيْسَ كَمَا زعم إِذْ لَو كَانَ ذَلِك للملازمة لاتحد علم الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَقدرته لتلازمهما
والمعمول فِي اتِّحَاد علم الْبَارِي تَعَالَى عِنْد القَاضِي على الشَّرْع
وَبعد فَإِن الْمَسْأَلَة دَائِرَة عِنْدِي على حرف وَهُوَ أَن الْأَمر بالشَّيْء هَل هُوَ أَمر بِمَا لَا يتم إِلَّا بِهِ أم لَا وَهِي
الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة
 
وَجَرت عَادَة عُلَمَاؤُنَا بِذكر هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالُوا إِن الْأَمر بالشَّيْء هَل هُوَ أَمر بِمَا لَا يتم إِلَّا بِهِ أم لَا
وَلَيْسَ لَهَا عِنْدِي معنى لِأَن مَا لَا يتم بِهِ لَا يَخْلُو أَن يكون شرعا أَو ضَرُورَة فِي الْفِعْل عقلا فَإِن كَانَ شرعا كَالصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَة فَإِنَّهَا وَجَبت بِأَمْر آخر بِالْأَمر بِالصَّلَاةِ وَإِن كَانَ ضَرُورِيًّا فِي الْفِعْل عقلا فَهُوَ من فن
(1/64)
 
 
الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا فَلَا تَقول إِن الْأَمر تنَاوله لَكِن لما كَانَ الْمُكَلف لَا يُؤمر إِلَّا بِمَا يَسْتَطِيع وَكَانَت الِاسْتِطَاعَة فِي الْمَأْمُور لَا تتحصل إِلَّا بِهِ قيل لَهُ امتثل كَيفَ قدرت
الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشر
 
اتّفق الْعلمَاء على انقسام أَحْكَام أَفعَال الْمُكَلّفين إِلَى الْأَقْسَام الْخَمْسَة الَّتِي مِنْهَا الْمُبَاح حَتَّى جَاءَ الكعبي فَقَالَ لَا مُبَاح فِي الشَّرِيعَة وَإِنَّمَا هِيَ كلهَا فروض قَالَ لِأَنَّهُ مَا من مُبَاح يسْتَعْمل إِلَّا وَفِيه ترك الْمحرم
وَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن
أَحدهمَا إِن فِيهِ قولا بافتراض النَّوَافِل وَذَلِكَ يهتك حجاب الْإِجْمَاع فِيهَا
الثَّانِي إِنَّه يلْزمه القَوْل بِوُجُوب الزِّنَى من جِهَة إِنَّه ترك لمعصية أُخْرَى فَيصير مِنْهُ وصف الزِّنَى بِأَنَّهُ وَاجِب محرم وَذَلِكَ محَال
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشر
 
لَا خلاف بَين المحصلين أَن الْأَمر بِالْفِعْلِ الْمُؤَقت إِذا فَاتَ لَيْسَ فِيهِ تعرض لقضائه بعد ذَلِك خلا أَن الْفُقَهَاء شغفوا بِأَن يَقُولُوا إِن الْقَضَاء بعد فَوَات الْوَقْت يجب الْأَمر الأول
وَهَذَا لَا تشهد لَهُ اللُّغَة وَلَا تَقْتَضِيه أَدِلَّة الْعُقُول
فَأَما الشَّرِيعَة فَإِن جَاءَت بِهِ لزم وَإِن سكت عَنهُ سقط وكل مَا يتَعَلَّق بِهِ فِي ذَلِك من الظَّوَاهِر فَهُوَ حجَّة لنا لِأَنَّهُ أَمر ثَانِي
(1/65)
 
 
فَأَما ثُبُوت الْإِثْم مَعَ سُقُوط الْفِعْل فثابت إِجْمَاعًا الْفرْقَان بَينهمَا لِأَن الْأمة أَجمعت على وجوب التأثيم وانحتام التعصية
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشر
 
إِذا ورد الْأَمر بِوُجُوب وَاحِد من الْآحَاد على غير التَّعْيِين وفوض التَّعْيِين فِيهَا إِلَى خيرة الْمُكَلف فَإِن الْوَاجِب مِنْهَا وَاحِد غير معِين
وَنقل أَصْحَاب المقالات عَن أبي هَاشم أَنه قَالَ إِن جَمِيعهَا وَاجِب وَالظَّن بِهِ أَنه خلاف فِي عبارَة لأَنا اتفقنا على أَنه إِذا تَركهَا أَثم بترك وَاحِد وَإِذا فعلهَا كلهَا سقط الْفَرْض بِوَاحِد وَالْبَاقِي تطوع فَلَا يبْقى لتعيين الْخلاف مَوضِع
ونكتة الْبَاب أَن الْخطاب الْوَارِد بالتخيير بَين الْأَشْيَاء لَا يَخْلُو من قسمَيْنِ
أَحدهمَا أَن يكون خطاب تَكْلِيف اَوْ خطاب إِبَاحَة وَإِذا كَانَ خطاب تَكْلِيف فَلَا يَخْلُو من قسمَيْنِ
أَحدهمَا أَن يكون خطاب أَمر
وَالثَّانِي أَن يكون خطاب نهي
وَفِي الْأَقْسَام خطاب طَوِيل وتفصيل لبابه عِنْد عُلَمَائِنَا أَن الْخطاب على ذها الْوَجْه يَنْتَظِم بِخَمْسَة شُرُوط
الأول أَن يتَعَلَّق بِمَا يَصح اكتسابه
الثَّانِي أَن تتسوى الْأَشْيَاء فِي وجهة التَّخْيِير وَلَا يبالى بعد ذَلِك كَانَت مُتَّصِلَة أَو مُخْتَلفَة
(1/66)
 
 
الثَّالِث أَن تكون متميزة وَذَلِكَ يَنْفِي تساويها من كل وَجه إِذْ لَا يَصح التَّخْيِير بَين متساويين من جَمِيع الْوُجُوه
الرَّابِع أَن تكون مَعْلُومَة للمخاطب
الْخَامِس أَن يكون وَقتهَا وَاحِدًا
وَالصَّحِيح أَن الشَّرْط الْمُخْتَص بِوَجْه التَّخْيِير وَاحِد وَهُوَ أَن يتساوى الْأَشْيَاء الْمُخَير فِيهَا كواجبين أَو ندبين أَو مباحين فَإِن سَائِر الشُّرُوط لَا تخْتَص بخطاب التَّخْيِير وَإِنَّمَا هِيَ مُشْتَركَة فِي جِهَة الْخطاب
فَأَما فصل اتِّحَاد الْأَوْقَات فَفِيهِ نظر عِنْدِي فَإِن الحكم لَو قَالَ قُم الْيَوْم أَو غَدا كَانَ تخييراً وَقد ورد الشَّرْع بِهِ فِي الصَّوْم فِي السّفر مَا يَنْفِي أَن يكون هَذَا شرطا فِيهِ واتحد شَرط التَّخْيِير كَمَا قدمْنَاهُ
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشر الْمَنْدُوب
 
قَالَ القَاضِي رَحمَه الله إِنَّه مَأْمُور بِهِ قَالَ لِأَنَّهُ مَطْلُوب مُقْتَضى
وَالصَّحِيح أَنه غير مَأْمُور بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمطلوب طلبا جَازِمًا حسب مَا هِيَ حَقِيقَة الْأَمر
وَإِنَّمَا حَقِيقَته التحريض والتحضيض كَأَنَّهُ يَقُول إِن فعلت أثبتك وَإِن تركت لم أعاقبك وَهَذَا يَنْفِي حَقِيقَة الْأَمر بِهِ
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشر
 
إِذا ورد الْأَمر باجتناب شَيْء من أَشْيَاء فَلَا يَخْلُو أَن يكون فِي اجْتِنَاب الْجَمِيع مشقة أَو لَا يكون فِيهِ مشقة
(1/67)
 
 
فَإِن لم تكن فِيهِ مشقة فَلَا يَخْلُو أَن يكون مختلطاً أَو مُمَيّزا فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَقسَام
مِثَال الأول اخْتِلَاط اخته بِنسَب أَو رضَاع وتشبهها بنساء مصر من الْأَمْصَار فهاهنا لَا يجب عَلَيْهِ اجْتِنَاب الْجَمِيع اتِّفَاقًا
مِثَال الثَّانِي حَظه من الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة فهاهنا يجب عَلَيْهِ الاجتناب اتِّفَاقًا
وَمِثَال الثَّالِث اخْتِلَاط إِنَاء وَقعت فِيهِ نَجَاسَة بِمَاء طَاهِر وَهَذَانِ أَيْضا قِسْمَانِ أَحدهمَا أَن يخْتَلط الطَّاهِر بِالنَّجسِ الْمُبَاح الأَصْل أَو يخْتَلط بِالنَّجسِ الْحَرَام الأَصْل
فمثال الأول من الْأَخير هُوَ مِثَال الثَّالِث فِيهِ بِعَيْنِه وَهُوَ إِذا اخْتلطت آنِية مَاء بآنية بَوْل فَأَما إِنَاء مَاء طَاهِر بِإِنَاء مَاء وَقعت فِيهِ نَجَاسَة فَلَا يَخْلُو أَن يكون عدد الْأَوَانِي الطاهرة أَكثر أَو عدد الْأَوَانِي النَّجِسَة فَلَا يَخْلُو أَن يكون الْأَوَانِي الطاهرة كثر فَلَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي وجوب الِاجْتِهَاد فِيهَا وَالْعَمَل بِمُوجب الِاجْتِهَاد وَإِن كَانَ عدد الْأَوَانِي النَّجِسَة أَكثر فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَمنهمْ من قَالَ يطْرَح الْكل وَمِنْهُم من قَالَ المسألتان الصَّوَاب وَهُوَ أصل من أصُول الدّين
وَالْمَسْأَلَة كَثِيرَة الْفُرُوع عَظِيمَة التشعيب والتركيب وَقد اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كتاب الْإِنْصَاف بَينا وتفصيلا ومهدناه فِي كتاب أُمَّهَات الْمسَائِل تَفْرِيعا وتفصيلا
وَقد نجز الْوَعْد السَّابِق فِي كتاب الْأَوَامِر وَهَذَا
(1/68)
 
 
= كتاب النَّهْي =
ومسائلة كمسائله كفة كفة وزنا بِوَزْن غير أَنا وَإِن تَيَقنا اكْتِفَاء المنتهي بالتركيب لَهَا مَنْهَج سَبيله للمبتدي فَنَقُول
الْمَسْأَلَة الأولى
 
مَسْأَلَة حَقِيقَة النَّهْي اقْتِضَاء التّرْك كَمَا سبق فِي حَقِيقَة الْأَمر اقْتِضَاء الْفِعْل وَطَلَبه الْجَازِم
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة
 
وَلَيْسَ لَهُ صِيغَة من أَقسَام الْكَلَام الَّذِي هُوَ معنى قَائِم بِالنَّفسِ كَمَا بَيناهُ وَهِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة
 
وكما اخْتلفُوا فِي اقْتِضَاء الْوُجُوب اخْتلفُوا فِي اقْتِضَاء النَّهْي التَّحْرِيم كَمَا بَينا أَن الْأَمر طلب جازم للْفِعْل لَيْسَ فِيهِ تعرض للعقاب على التّرْك وَإِنَّمَا يُوجد الْعقَاب على التّرْك من دَلِيل آخر كَذَلِك النَّهْي إِنَّمَا هُوَ قَول جازم فِي استدعاء التّرْك وَلَيْسَ فِيهِ تعرض للعقاب على الْفِعْل وَإِنَّمَا يُؤْخَذ الْعقَاب من ذليل آخر وَهِي مَسْأَلَة الثَّالِثَة
(1/69)
 
 
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة
 
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحمَه الله عَلَيْهِم
فِي كتاب ألأمر ن الْأَمر بالشَّيْء لَا يدل على إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ ووقوعه موقع الِامْتِثَال
وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين لَا يدل على الْإِجْزَاء إِلَّا بِقَرِينَة وَهَذَا كَلَام لَا معنى لَهُ لِأَن من نفس الْأَمر نعلم قطعا ويقينا وُقُوع الْإِجْزَاء عِنْد الِامْتِثَال لِأَنَّهُ لَيْسَ الْأَمر معنى سواهُ وَلَا فَائِدَة غَيره
وَإِنَّمَا الَّذِي أوقعهم فِي ذَلِك وغرهم بِهِ مَسْأَلَة الْحَج الْفَاسِد فَإِنَّهُ لما أجمع الْعلمَاء على الْمُضِيّ فِيهِ مَعَ عدم الِاعْتِدَاد بِهِ ركبُوا مِنْهَا مَسْأَلَة إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ
وَهَذَا خرق لَا يرقع لِأَن الْمُضِيّ فِي الْحَج الْفَاسِد فِيهِ مَعْنيانِ يقْطَعَانِ بِهِ عَن هَذِه الْمَسْأَلَة
أَحدهمَا ان الْأَمر بالمضي فِيهِ إِنَّمَا هُوَ بعد التَّلَبُّس بِهِ وَالْخلاف إِنَّمَا يجب أَن يكون فِي الْأَمر الْمُبْتَدَأ
الثَّانِي أَن الْأَمر بالمضي فِي الْحجَّة الْفَاسِدَة إِنَّمَا هُوَ عُقُوبَة لَا عبَادَة
فَأَما إِذا تبين هَذَا فَالْأَمْر الْمُبْتَدَأ بالتعبد الْمَحْض إِذا وَقع فِيهِ امْتِثَال فَلَا يتَصَوَّر فِي إجزائه خلاف
وَلَو قدر طريان امْر مثله بعده لَكَانَ أمرا مستأنفاً لعبادة ثَانِيَة وَهَذَا مَا لَا يُنَازع فِيهِ منصف
(1/70)
 
 
فَأَما النَّهْي عَن الشَّيْء فَهَل يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ فَهِيَ مَسْأَلَة حَسَنَة اخْتلف الْعلمَاء فِيهَا فَقَالَ قَائِلُونَ النَّهْي عَن الشَّيْء يدل على فَسَاده وَعدم الِاعْتِدَاد بِهِ شرعا وَقَالَ آخَرُونَ لَا يدل على فَسَاده
وأرباب الْأُصُول من الْمَالِكِيَّة جهلوا مَالك رَحمَه الله فَقَالُوا إِن لَهُ قَوْلَيْنِ حَسْبَمَا تقدم تَفْسِيره
وَالصَّحِيح من مذْهبه أَن النَّهْي على قسمَيْنِ
نهي يكون لِمَعْنى فِي المنتهي عَنهُ وَنهي يكون لِمَعْنى فِي غَيره فَإِن كَانَ لِمَعْنى فِي الْمنْهِي عَنهُ دلّ على فَسَاده وَإِن كَانَ لِمَعْنى فِي غير الْمنْهِي عَنهُ فَذَلِك يخْتَلف إِلَّا أَن الْأَغْلَب فِيهِ أَنه لَا يدل على الْفساد
فَأَما اقْتِضَاء النَّهْي الْمُحَقق للتَّحْرِيم الْمُتَيَقن فَهِيَ مَسْأَلَة أصولية وَالدَّلِيل فِيهَا كالدليل على الْوُجُوب فِي الْأَمر بِعَيْنِه
وَأما القَوْل فِي الْفساد فَذَلِك من فروع الْفِقْه وَقد بَيناهُ فِي مسَائِل الْخلاف
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة
 
كَمَا أَن الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ عَن ضِدّه كَذَلِك النَّهْي عَن الشَّيْء لَيْسَ بِأَمْر بِأحد أضداده لما بَيناهُ وَهِي الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة
 
قد قدمنَا القَوْل فِي التَّمْكِين مَقْرُونا بِالْعلمِ وَالْفِعْل فِي فصل لأمر فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا
(1/71)
 
 
فَأَما النَّهْي فَلَا يَخْلُو أَن يكون عَن ترك أَو عَن فعل فَإِن كَانَ النَّهْي عَن ترك رَجَعَ القَوْل إِلَى الْأَمر وَإِن كَانَ النَّهْي عَن الْفِعْل لم يكن لاشْتِرَاط التَّمْكِين وَجه ن التّرْك لَا يفْتَقر لى التَّمْكِين وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أشارة النَّبِي بقوله إِذا أَمرتكُم بامر فَأتوا مِنْهُ مَا فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم وَإِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَاجْتَنبُوا فَشرط الِاسْتِطَاعَة فِي الْأَمر وَأطلق القَوْل فِي النَّهْي تنبياً على هَذَا الْمَعْنى
وَإِن قُلْنَا إِن الْأَمر على التّكْرَار أَو يَقْتَضِي مرّة فَلَا خَافَ أَن النَّهْي على الدَّوَام حَتَّى يرفعهُ الدَّلِيل وَكَذَلِكَ النَّهْي على الْفَوْر غير خلاف
فإمَّا إِذا نهى عَن شَيْء من الْأَشْيَاء فقد تقدم القَوْل فِيهِ فِي مَا إِذا اخْتَلَط الْمُبَاح بالمحذور وَبينا اقسامه وَأَحْكَامه
وَكَانَت عَادَة عُلَمَائِنَا قد جرت بِذكر مسالة فِي فصل الْأَمر وَهِي أَمر الْمَعْدُوم وَكَذَلِكَ أَيْضا القَوْل فِي نَهْيه
وَعند الِانْتِهَاء إِلَى هَذَا القَوْل فيتلوه كتاب الْعُمُوم
(1/72)
 
 
= كتاب الْعُمُوم =
وَفِيه اثْنَا عشر مَسْأَلَة
الْمَسْأَلَة الأولى القَوْل فِي حَقِيقَة الْعُمُوم
 
وَقد قدمنَا فِي الْكَلَام وَبينا أَنه معنى قَائِم بِالنَّفسِ والعموم قسم من اقسامه وَهُوَ كل قَول فِي النَّفس شَمل اثْنَيْنِ فَصَاعِدا وَدَلِيل هَذِه الْمَسْأَلَة دَلِيل الْمَسْأَلَة السَّابِقَة
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة القَوْل فِي صِيغَة الْعُمُوم
 
كَمَا اخْتلف عُلَمَاؤُنَا فِي صِيغَة الْأَمر كَذَلِك اخْتلفُوا فِي صِيغَة الْعُمُوم وَكَانَ الَّذِي مَال بعلمائنا الْأُصُولِيِّينَ رَحِمهم الله إِلَى نفي القَوْل بِالْعُمُومِ وحداهم إِلَى إِنْكَار صِيغَة إلحاح الْوَعيد بِهِ عَلَيْهِم بِكُل آيَة عَامَّة وَحَدِيث مُطلق يقتضيان معاقبة العصاة وَجَزَاء المذنبين
(1/73)
 
 
وَالَّذِي ندين الله بِهِ أَن الْعُمُوم لَهَا صِيغ مَعْلُومَة وألفاظ مَعْرُوفَة وَمَا تعلق بِهِ الوعيدية سَاقِط لَهُم مَعَ مساعدتهم لَهُم مَعَ مساعدتهم على أَلْفَاظ الْعُمُوم بالأدلة الْمَعْلُومَة فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة
وَصِيغَة الْعُمُوم على ضَرْبَيْنِ
أَحدهمَا ادوات الشَّرْط وَهِي من وَمَتى وَمَا فَإِذا ربط بهَا الْعَرَبِيّ حكما اقْتضى الِاسْتِغْرَاق وَكَذَلِكَ الظروف المتضمنة لِمَعْنى الشَّرْط كَقَوْلِك حَيْثُ وَأَيْنَ وَمَا أشبه وَكَذَلِكَ أَلْفَاظ الجموع وَهِي على قسمَيْنِ جمع سَلامَة وَهُوَ مَا سلم فِيهِ بِنَاء الْوَاحِد
وَجمع تكسير وَهُوَ مَا يتَغَيَّر فِيهِ بِنَاء الْوَاحِد وَهُوَ على قسمَيْنِ فِي اللُّغَة
أَحدهمَا جمع الْقلَّة وَالثَّانِي جمع الْكَثْرَة كَقَوْلِهِم فلس وأفلس وَوقت وأوقات فَإِذا أَرَادوا جمع الْكَثْرَة قَالُوا فلوس ووقوت فَهَذِهِ مُقَدمَات تمهد لَك صِيغ الْعُمُوم
قَالَ عُلَمَاء الْكَلَام على مَا بَينا هِيَ مَوْقُوفَة على مَا يقْتَرن بهَا من الْقَرَائِن وَقَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ هِيَ نَص
(1/74)
 
 
فَأَما التَّوْقِيف بهَا فَلَا لظُهُور الحكم بالاستغراق فِيهَا فَإِن من قَالَ من دخل الدَّار فأعطه ( {وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يدْخلهُ جنَّات} وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا) (فأينما توَلّوا فثم وَجه الله) فَلَا إِشْكَال فِي إدارة الْعُمُوم فِيهَا لُغَة وَشرعا وإنكار ذَلِك قريب من البهت والوعيدية لَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء من ذَلِك كَمَا تقدم بَيَانه
وَأما قَول الشَّافِعِي إِنَّه نَص فَهُوَ ضَعِيف لِأَن النَّص هُوَ مَا وَقع الْبَيَان فِيهِ إِلَى غَايَته والعموم لم يرْتَفع فِيهِ الْبَيَان إِلَى الْغَايَة وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَو كَانَ الْعُمُوم نصا لَكَانَ التَّخْصِيص نسخا وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ
أما كَونهَا نصا فِي الْمُسْتَقْبل فَلِأَن رفع الْكل رفع لفائدة اللَّفْظ وَذَلِكَ لَا يجوز وَأما كَونهَا ظَاهرا فِيمَا فَوْقه فلغلبة الِاسْتِعْمَال فِيهِ حَتَّى يخص الدَّلِيل بأخص مِنْهُ وَقد بَينا ذَلِك كُله فِي التحميص
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة النِّسَاء يندرجن تَحت خطاب الرِّجَال بِحكم الْعُمُوم
خلافًا لمن قَالَ أَنَّهُنَّ لَا يدخلن تَحْتَهُ إِلَّا بِدَلِيل لِأَنَّهُ إِذا ثَبت القَوْل بِالْعُمُومِ وَثَبت صَلَاح اللَّفْظ للذكور وَالْإِنَاث لم يكن لِامْتِنَاع تنَاول اللَّفْظ لَهُم وَجه وَكَذَلِكَ
(1/75)
 
 
القَوْل فِي العبيد وَهِي الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة
 
وَإِنَّمَا أخرج العبيد من هَذَا اللَّفْظ رُؤْيَة بعض النَّاس لَهُم يشذون عَن أَحْكَام كَالْحَجِّ وَيخرجُونَ عَن معَان كالحد وَلَيْسَ لَهُم فِي آيَة الْحَج لِأَن اللَّفْظ لَا يحْتَمل العبيد وَكَذَلِكَ آيَة الْحَد أخرجتهم عَنْهَا آيَة أُخْرَى وَهِي قَوْله تَعَالَى (فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب)
المسالة الْخَامِسَة
 
اللَّفْظ الْمُشْتَرك الَّذِي قدمنَا بَيَانه إِذا ورد مُطلقًا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله يعمم على جَمِيع متناولاته وَكَذَلِكَ الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
وَقَالَ القَاضِي وَأَبُو الْمَعَالِي لَا يَصح حمله على أَنْوَاع الْمُشْتَرك وَلَا على الْحَقِيقَة وَالْمجَاز لِأَن الْحَقِيقَة ضد الْمجَاز واللون مُشْتَرك من الضدين أَيْضا فَلَا يجوز الْجمع بَينهمَا وَهَذَا لَا يَصح لِأَن الضدين إِنَّمَا يتضادان فِي مَحل وَاحِد فَأَما فِي اللَّفْظ أَو فِي قصد الْقَائِل فَلَا يَسْتَحِيل اجْتِمَاعهمَا فضعف مَا قَالَه القَاضِي رَحمَه الله
وَمَا قَالَه الشَّافِعِي لَا يَصح لِأَن الْعَرَبِيّ إِذا أخبر عَن اللَّفْظ الْمُشْتَرك بقضية تخص بعض متناولاته أَو تحْتَمل لم يقْصد عُمُوم الْإِرَادَة فِي الْكل وَكَذَلِكَ الْعَرَب لَا تطلق لفظ الْأسد وَهِي تُرِيدُ الشجاع والبهيمة إِلَّا أَن يَأْتِي بِلَفْظ يدل على إرادتهما مَعًا وَقد بَينا أَن هَذَا الأَصْل إِنَّمَا أنشأه خلافًا فِي فروع كَقَوْل الْعلمَاء عَن اللَّمْس ينقص الطُّهْر كَمَا ينقصهُ الْجِمَاع
(1/76)
 
 
لقَوْله الله عز وَجل (أولمستم) وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يَصح أَن يُرَاد بقوله (أولمستم النِّسَاء) الْجِمَاع وَالْمُلَامَسَة لِأَنَّهُ جمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة وأشباهها أنشأت هَذَا الأَصْل وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يُرِيد الشَّارِع باللمس الْوَطْء والقبلة وجس الْيَد وَقد بَينا ذَلِك فِي مسَائِل الْخلاف ونكتته فِي كتاب أَحْكَام الْقُرْآن وَلَو كَانَ ذَلِك عِنْد الْعَرَب أمرا منكوراً لما قَالَ سادتها من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم إِن قبْلَة الرجل امْرَأَته وجسها بِيَدِهِ من الْمُلَامسَة
المسالة السَّادِسَة
 
اخْتلف النَّاس قَدِيما وحديثا فِي أقل الْجمع وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي التمحيص وَبينا مَا وَقع من الْخلاف بَين ابْن عَبَّاس وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا وهما رُؤَسَاء الشَّرِيعَة واللغة والمحصول من ذَلِك أَنَّك إِذا نظرت إِلَى لفظ الْجمع فالاشتقاق يُعْطي أَن الْإِثْنَيْنِ جمع وَإِذا نظرت إِلَى إِفْرَاد الْعَرَب كل وَاحِد بِلَفْظِهِ علمت أَن أَقَله ثَلَاثَة وَلم يبْق بعد هَذَا إِلَّا قَول الله سُبْحَانَهُ (فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمة) وَالأُم محجوبة بالاثنين
فَالْجَوَاب عَن هَذِه الْآيَة وأمثالها أَن حجب الثَّلَاثَة وأمثالها كَانَ قُرْآنًا وحجب الِاثْنَيْنِ كَانَ سنة بِدَلِيل خلاف ابْن عَبَّاس فِيهِ رَضِي الله عَنهُ
فَالْوَاجِب عَنْهَا فِي التمحيص مَوْجُود وَلَكِن مَعَ أَن للْجمع لفظا يخْتَص بِهِ وللواحد لفظا يخْتَص بِهِ فالمختار عندنَا أَن جمع الْإِنَاث مُخْتَصّ بهم
(1/77)
 
 
لَا يدْخل فِيهِ الذُّكُور بِحَال وَجمع الذُّكُور تدخل فِيهِ الْإِنَاث وَبينا ذَلِك إِذا كَانَ الْخطاب صَالحا لَهُنَّ وَهَذَا أَمر ثَابت فِي اللُّغَة والشريعة قطعا فِي أَمْثِلَة الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا قطعا ويقينا
وَأما اللَّفْظ الْمُشْتَرك إِن ورد كَمَا قدمنَا مُعَلّقا بِحكم يحْتَمل المتناولات كلهَا أَو بَعْضهَا فَهُوَ عندنَا مُجمل وَقد بَينا ذَلِك كُله فِي التمحيص
الْمَسْأَلَة السَّابِعَة ترك الاستفصال فِي حكايات الْأَحْوَال مَعَ الِاحْتِمَال تتنزل منزلَة الْعُمُوم فِي الْمقَال
 
لحَدِيث غيلَان أسلم وَتَحْته عشر نسْوَة فَقَالَ لَهُ النَّبِي أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن وَلم يستفصله عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْأَوَائِل والأواخرة بل أطلق الْأَمر بِالِاخْتِيَارِ إطلاقا فَكَانَ ذَلِك قولا بِالْعُمُومِ ونصا فِيهِ خلافًا لأبي حنيفَة حَيْثُ يَقُول إِن لَا يختارهن إِلَّا على تَرْتِيب نِكَاحهنَّ وَسَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة إِذا ورد خطاب على سَبَب
 
اخْتلف النَّاس فِيهِ فَمنهمْ من قَالَ يقصره عَلَيْهِ وَلَا يتعجى بِهِ غَيره وَقَالَ بَعضهم يحمل اللَّفْظ على عُمُومه من غير اعْتِبَار بِالسَّبَبِ
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَب مَالك أَن الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة على الْأَسْبَاب على ضَرْبَيْنِ
(1/78)
 
 
الأول أَن يكون اللَّفْظ مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ لَا يحْتَاج إِلَى معرفَة المُرَاد مِنْهُ إِلَى سَببه
الثَّانِي لَا يعرف المُرَاد مِنْهُ إِلَّا بعد معرفَة سَببه
فَأَما الأول فَيحمل على عُمُومه وَأما الثَّانِي فيقصر على سَببه وَلَا يعم بِدَلِيل وَهَذَا التَّقْسِيم صَحِيح وَالظَّن فِيهِ أَنه لَو عرض على سَائِر الْمُخَالفين لم يأبوه لِأَن ذكره كَاد أَن يكون دَلِيله من غير افتقار إِلَى عضده بِدَلِيل
وَمِثَال ذَلِك أَن النَّبِي سُئِلَ عَن بِئْر بضَاعَة قيل لَهُ يَا رَسُول الله إِن بِئْر بضَاعَة تلقى فِيهَا الْحيض والجيف وَمَا يُنجي النَّاس فَقَالَ النَّبِي خلق الله المَاء طهُورا لَا يُنجسهُ شَيْء وَفِي رِوَايَة إِلَّا مَا غير لَونه أَو طعمه فَهَذَا لفظ مُسْتَقل بِنَفسِهِ مَفْهُوم من ذَاته نَشأ بِسَبَب لَا يفْتَقر فِي بَيَانه إِلَيْهِ فَهَذَا مَحْمُول على عُمُومه
وَمِثَال الثَّانِي مَا روى أَن النَّبِي سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ فَقَالَ أينقص الرطب إِذا يبس قَالُوا نعم قَالَ فَلَا إِذا فَهَذَا الْجَواب لَا يفهم المُرَاد بِهِ من لَفظه حَتَّى يعرض على سَببه ويناط بِهِ
الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة
 
عزي إِلَى أبي حنيفَة أَنه قَالَ
(1/79)
 
 
السَّبَب الَّذِي وَردت الْآيَة أَو الْخ