المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب
المؤلف : بكر بن عبد الله أبو زيد بن محمد بن عبد الله بن بكر بن عثمان بن يحيى بن غيهب بن محمد (المتوفى : 1429هـ)
عدد الأجزاء : 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نَحْمَدُكَ اللهم أن جَعَلْتَ مِنْ وَحْيِكَ المُقَدَّس هدى وموعظة وتبياناً لِكُلِّ شيء، وَحَمَلْتَ عبادك المؤمنين على عبادتك حق العبادة بإقامة وجوههم للدين القيم، فطرتك التي فطرت الناس عليها، وفرضت عليهم فروضاً كثيرة، أجلُّها الإيمان تطهيراً لهم من الشرك، والصلاة تنزيها لهم عن الكِبر، والزكاة تسبيبا للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحج تقوية للدين، والجهاد عزا للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، والنهي عن المنكر ردعاً للفساد، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم، كما شرعت لهم السلام أماناً من المخاوف، والأَمانات نظاما للأمَّة.
ونصلي ونسلم على عبدك ونبيك خاتم رسلك الأمين محمد بن عبد الله الذي بلغَ الدعوة وأَدَّى الرسالة، وكان حريصا على المؤمنين رؤوفا بهم ورحيما، يدعوهم إلى الخير، ويهديهم إلى صراط الله المستقيم، ويحثهم على التفقه في الدِّين استكمالا للمعرفة، والتزاما بالإسلام، ووقوفا عند حدوده، كما محض لهم النصيحة بحملهم على التمسك بالمصدرين الأساسيين للشريعة الباقية الخالدة في قوله: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي". فاللهم اجزِ عنا إمامنا وحبيبنا ورسولنا خير خلقك أفضل الجزاء وأَكمله وأتمه، واجعلنا له
(المقدمة/3)
 
 
- ب -
 
من التابعين، وبه من المهتدين، ولسنته من الحافظين، ولمنهج الله منهجه من المقيمين والمتمسكين به إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد شرفنا الله بخدمة دينه، وإقامة شرعه، وحفظ ملته، حين هيأ لنا أسباب الاجتهاد الجماعي في هذا العصر عن طريق المؤسسات الدينية الفقهية مثل: مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وهيئة كبار العلماء بالرياض، ومجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة بوابة الحرمين الشريفين.
وقد التقت في هذا المجمع الكبير أَكثر المذاهب الفقهية الإسلامية الباقية إلى اليوم، ممثلة في المنتسبين إليها والقائمين عليها من علماء الدول الإسلامية جميعها، كما انضم إليه خبراء وأخصائيون من فقهاء، وأصوليين، واقتصاديين، وأطباء، وفلكيين، وحكماء، وغيرهم، من أَهل النظر البعيد، والفكر الإسلامي القويم.
وقد عنَى المجمع فيما عنى به بالتراث الفقهي فأَصدر كتابه الأَول: "عقد الجواهر الثمينة فى مذهب عالم المدينة" لجلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس. وهو من أمهات الكتب الفقهية في المذهب المالكي، معدود من بين المصادر الخمسة لكتاب "الذخيرة" للقرافي يعتمده وينقل كثيراً منه، وكان الناس في مسيس الحاجة إليه حتى مَنّ الله علينا بنشره وإصداره برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، أجزل الله مثوبته.
(المقدمة/4)
 
 
- جـ -
 
واليوم يسعد مجمع الفقه الإسلامي الدولي أن يقدم لحفظة المذهب الحنبلي، والمجتهدين، وللعلماء، والدارسين، وللباحثين، وطلاب الفقه، كتابه الثاني: "المدخل المفصَّل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب" وهو تصنيف وتأليف لا تحقيق ونشر تراث، صنعةُ العلاَّمة الفقيه الأصولي النظار أَبي عبد الله الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي. وهو كتاب يضم ثمانية مداخل: يخدم في الخمسة الأولى منها المذهب، يُعرِّف بأصوله، ويفسِّر مصطلحاته، ويضبط للدارسين طرق معرفته، ومسالك الترجيح فيه، كما يفرد المداخل الثلاثة الباقية بالترجمة للإمام أحمد بن حنبل شيخ السنة وصاحب المنة على الأمة، والتعريف بعلماء المذهب، وكتبه.
وهو من أَجلّ ما كتب من المداخل في هذا العصر جمعا، وإتقانا، وتحليلاً، وعمقا، ونظرا، وتفصيلاً، تسنده المعرفة الواسعة، والفهم الصائب، والتتبع الدقيق لأَعمال النظار والباحثين وتصرفاتهم وما وضعوه من كتب، وصنفوه من دراسات وبحوث ومؤلفات، فجاء كما يؤمل صاحبه جامعا للفوائد، مقيدا للشوارد، حافلاً بالمسائل العلمية النادرة المستجادة، والاستنباطات الفقهية المؤيدة بأدلتها، والمطايبات المختلفة، واللطائف المتعددة المجانسة لها.
وقد رأيته منوهاً بتهذيب الأجوبة لأبي عبد الله الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي ت 403، المتميز في تفسير مصطلحات الإمام أحمد، كما ألفيته مقارنا له بكتاب "الرسالة" للإمام الشافعي في التأصيل
(المقدمة/5)
 
 
- د -
 
والتقعيد، وحلو العبارة، ودقة الإشارة، وتحليلاته اللغوية، ووجدته في نفس المكان يشيد بالمدخل إلى مذهب أحمد بن حنبل للعلامة عبد القادر ابن بدران الدومي الدمشقي ت 1346، الذي ضمنه صاحبه جُل ما يحتاج إليه المشتغل بالمذهب. فعُدَّ بذلك عملا فريدا، ومصنفا عجيباً؛ لما حواه من مقاصد، وجمعه من مسائل، وفوائد.
وهو يشير إلى ما بين هذين الكتابين المتباعدين زمانا، نحواً من تسعة قرون ونصف، من رصيد كبير وتأسيس متين للفقه الحنبلي، فيعد من ذلك كتب الفقهاء، والأصوليين، وكتب التراجم، والطبقات، ومباحث الاجتهاد والتقليد ونحوها. وهو حين يذكرني بقول ابن بدران في مقدمة مدخله: "وسلكت به مسلكا لم أجد غيري سلكه حتى صار بحيث يستحق أن يكون مدخلا لسائر المذاهب، وليس على المخترع أن يستوفي جميع الأقسام بل عليه أن يفتح الباب": يردد على سمعي قول الآخر: "كم ترك الأول للآخَر"، مؤكدا عليه ببيت أبي العلاء:
وإنِّي وإن كنتُ الأخيرَ زمانُه ... لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
ويحمله ذلك كله على الائتساء بالمتقدمين المقدّمين، بالسير على نهجهم، والاستدراك عليهم بالتتبع والاستقراء لكتب المذهب في الفقه وعلومه من حين تأسيسه وتدوينه إلى اليوم، وبالترجمة والتعريف بعلماء المذهب بحسب أوطانهم، وأعصارهم، وبيوتاتهم، وطبقاتهم، وبإعجام مصطلحات المذهب، والكشف عن معانيها، وتغير المراد منها، اتفاقاً، أو اختلافا، وبيان روايات المذهب وطرائق علمائه في التخريج ومسالك
(المقدمة/6)
 
 
- هـ -
 
الترجيح لديهم. ويتضح ذلك لمن يقارن بين كتاب ابن بدران، وعقوده الثمانية وبين المدخل المفصَّل وأقسامه التي تضمنت هي الأخرى عدداً كبيراً من الفصول والمباحث، ازدادت بها أهميته، وفاقت بها منزلته، ويفصل المؤلف القول في ذلك في ثمانية مداخل يستحق كل واحد منها أن يكون تأليفا مستوفى مستقلا بما وضع له.
فالأول: ذو ستة مباحث تناول فيها تعريف "المذهب" و"الفقه" تعريفا دقيقا، ذاكرا الأنواع الخمسة للفقه المدوّن، وباسطا القول في تاريخ التمذهب بالفقه الحنبلي، وواقفا عند موضوع الاجتهاد وأثره في الفقه، ومنبها إلى شروط نقل المذهب ووجوب الحرص على التوقي من الخطأ في نقله مع الكشف عن أسباب الخطأ.
والثاني: معارف عامة عن المذهب أبرزَ خلالها الأدوار الخمسة للمذهب الحنبلي، منوها بمزاياه، وموردا جملة ما كتب عن التعريف بالمذهب.
الثالث: بيان لأصول المذهب، يلتقي فيه مع العقد الثالث من مدخل ابن بدران.
الرابع: في مصطلحات المذهب التي جَمَعَ قَدْراً منها، ابن بدران في العقد السادس، وهو يتكون من تمهيد وفصول ثلاثة، خص الأول منها بألفاظ الإمام أحمد، والثاني بمصطلحات الأصحاب العامة في نقل المذهب وحكايته والترجيح فيه وهو خمسة أقسام، والثالث بمصطلحات الأصحاب في نقل بعضهم عن بعض.
(المقدمة/7)
 
 
- و -
 
الخامس: في التعريف بطرق معرفة المذهب ومسالك الترجيح فيه وهو جد مفيد، وهو صنو العقد الرابع عند ابن بدران، افتتحه الشيخ المؤلف بتمهيدات ثلاثة تدور حول ماهية المذهب، وعناية الأصحاب به، ومعرفة طرقه، وتحديد مراتب الناس في ذلك.
وعقب ذلك بالحديث عن جملة تلك الطرق وهي: القول، والفعل والسكوت، والتوقف. وفصَّل الحديث عن ذلك في ثلاثة فصول: الأول منها في بيان طرق معرفة المذهب من خط الإمام وأقواله ونحوها ومن كتب الرواية عنه. وقسم أقوال الإمام من جهة القبول والرد إلى خمسة أقسام، ومن جهة إفادتها مرتبة الحكم التكليفي في منطوقها إلى أربعة أَقسام. وأَتبع ذلك بالحديث عن الطريقين الثاني والثالث وهما: الفعل والسكوت، أَما الطريق الرابع وهو التوقف فقد جعله على قسمين: الأَول: توقف الإِمام أَحمد في الجواب لتعارض الأَدلة وتعادلها عنده، والثاني: توقفات الأَصحاب في المذهب.
الفصل الثاني من المدخل الخاص في طرق معرفة المذهب من تصرفات الأصحاب في التخريج على المذهب ولازمه. وبحث في ذلك الاستدلال وتخريج الفروع على الفروع، وتوقفات الأصحاب في المذهب.
والفصل الثالث من هذا المدخل في بيان مسالك الترجيح عند الاختلاف في المذهب عامة، عاقدا لهذا الغرض المهم مباحث خمسة تناول فيها أنواع الاختلاف في المذهب، ومسالك الترجيح عند الاختلاف، ومعرفة المرجحات، وتحديد من له حق الاختيار والترجيح في
(المقدمة/8)
 
 
- ز -
 
المذهب، وبيان مصطلحات العلماء في حكاية الخلاف والترجيح.
السادس: قصره على ترجمة الإمام أحمد بن حنبل، وفيه مباحث خمسة: تعرض في الأول منها إلى عيون المعارف في ترجمة الإمام، وفي الثاني إِلى بيان منزلته محدثا وفقيها، وفي الثالث إلى تحديد العلاقة بين مذهبه ومذهب الإمام الشافعي، وفي الرابع إلى قضية القول بخلق القرآن وما كان فيه من محنة الإمام التي تطورت على مدى ثلاثة وعشرين عاما من فتنة إِلى محنة ومن محنة إِلى نصرة، وفي الخامس إِلى مناقب الإمام وخصاله رحمه الله. ولهذا المدخل علاقة بما ورد عند ابن بدران في العقد الأول.
السابع: في علماء المذهب وهو ذو فصول ثلاثة: الأول في معرفة التآليف المفردة عن الإمام وعن الآخذين عنه وعن علماء المذهب، والثاني في معرفة طبقات الأصحاب، والثالث في معارف عامة وفيه سبعة مباحث مهمة منها تقريب عددهم استمدادا من طبقاتهم المطبوعة، وآفاق الحنابلة وأوطانهم وبيوتاتهم في مختلف البلاد، وآخر عن التحول المذهبي وما يندرج فيه من أصناف، مع ضبط دقيق لمشتبه الأسماء والكنى والألقاب والمبهمات وهو تكميل لما ورد في العقد الثاني من مدخل ابن بدران.
الثامن: في التعريف بكتب المذهب. وهو ما خصص له ابن بدران العقدين السابع والثامن من مدخله.
وفي هذا المدخل من الشمول والتنوع والتفصيل ما لا يدرك مثله.
(المقدمة/9)
 
 
- حـ -
 
افتتحه المؤلف بتمهيد عن الثروة الفقهية في مذهب الإمام مفصلا القول فيما لإمام المذهب من الكتب، وفيما روي عنه من ذلك في المسائل، وفي الكتب الجامعة للرواية عنه، ثم مستعرضا للمتون وما تبعها من شروح أو تعليقات أو حواشي وهي أَربعة وعشرون كتابا، وللمتون المفردة التي لم يشتغل بها، كما تعرض للمؤلفات المفردة في بعض الموضوعات الفقهية، وللكتب الجوامع وذكر من ذلك تصانيف في الخلاف، وفي المفردات، والاختيارات، وفي الفتاوى، وفي الأَلغاز وفي لغة الفقهاء، وفي الفروق، والقواعد الفقهية والأصولية والضوابط، كما تحدث عن كتب أصول الفقه، وعما نشر من الأبحاث العلمية حول كتب المذهب.
جهد عظيم، وعمل جليل، وقدرة فائقة على التتبع والمراجعة، وسعة نظر، ودقة فهم: تلك سمات هذه المداخل الثمانية. أَغنَت بما جمعت، وأفادت بما وسعت، ووجهت بما صنعت، فلكأن صاحبها، وهو ينظمها نظما بديعا ويعدها هذا الإعداد الكامل المحكم، ليتردد في خاطره قول ابن نُباته:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصراً ... عن غاية فيها الطلاب سباق
ولكأنه وهو ماض في بحثه وتنقيبه، وضبطه وتحقيقه، وبذله وعطائه؛ ليعيد على أسماعنا قول حسَّان:
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
(المقدمة/10)
 
 
- ط -
 
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي أرب في القول جدًّا ولا هزلا
هذا وإن الواقف على "المدخل المفصَّل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب" للدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ليعد الظفر بهذا الكتاب نعيما، والنظر فيه فتحا عظيما، كيف وهو في هذا العصر الركيزة في معرفة مذهب الإمام أحمد، الجامعُ لما تفرق في غيره من علوم وفوائد، المرشدُ بأقسامه وفصوله وبحوثه وتنبيهاته، وبما احتوت عليه فهارسه إلى كل المراجع والمصادر المتعلقة بفقه السلف، فقه الإمام ومحاور مذهبه، في أصوله وجذوره، وبتراجم أصحابه ورجاله، وتخريجاتهم واجتهاداتهم فيه، وهو بقدر ما يركز على هذه الجوانب الضرورية لمعرفة المذهب الحنبلي، ينبه على الروايات الغريبة والتخاريج الضعيفة المبثوثة في تضاعيف بعض التصانيف، قصد تنقية المذهب منها، والحيلولة دون قصيري النظر من غير المتمكنين في الفقه وأصوله، من تسليك المناهي في سلك الإباحة المطلقة، فيحيدوا بذلك عن الحق، وينابذوا الدليل، ويخرجوا عن المذهب، ويفتوا الناس بغير علم.
وتزداد الحاجة اليوم إلى هذا الأَمر أمام القضايا المستجدة المتولدة عن التطورات الحضارية والعلمية، وما نجم وينجم عنها من تغيرات فكرية ومذهبية، اقتصادية وطبية ونحوها، فيتأكد العمل وبذل الوسع في ترقية المدرسة الفقهية والنهوض بها، ودعوة المتفقهين إلى اعتماد الأصلين الأساسيين مصدري شريعتنا المطهرة، ومعرفة طرائق الأسلاف
(المقدمة/11)
 
 
- ي -
 
في تصرفاتهم واستنباطاتهم، ومناهجهم في استدلالاتهم، ومراعاة مقاصد الشريعة في الأحكام، ومَن سلك الجَدَد أَمِن العثار.
ولتقرير هذا الأَمر في نفوس الناشئة وتمكينهم من الوقوف على الموثوق به من المصنفات والكتب عقد المؤلف مبحثا في إسناد كتب المذهب متحدثا فيه عن الكتب الأم الموثقة، وعن أنواع التوثيق الثلاثة: بإسناد المرويات، وبإسناد الكتب، ويذكر ما وضع من توقيفات ومقابلات على بعض الكتب الموثقة بخطوط العلماء، كما تحدث عن جملة من الأَسانيد عدّ منها الإسناد الشامي، والإسناد المسلسل بالحنابلة المصريين، والإسناد المسلسل بالحنابلة النجديين والأحسائيين، وحرصا منه على الاندراج في رعيل الرواة الموثّقين المأمونين وحفظة المذهب من الفقهاء؛ ذكر المؤلف أسانيده التي تصله بأثبات ومسلسلات ومشيخات الفقه الحنبلي، مثبتا مع ذلك أسانيدهم وطرق رواياتهم العديدة إلى كتب الإِمام، وكتب الرواية عنه، وكتب علماء المذهب، أمثال الخلال، وأَبي بكر عبد العزيز، والخرقي، والحسن بن حامد، وآل أَبي يعلى، وآل قدامة، وآل بني عبد الهادي، وآل مفلح، وآل تيمية، وآل بني قيم الجوزية، وآل عبد الباقي، والحجاوي، والبهوتي، وأضرابهم.
ومثل هذا التخريج الدقيق في المذاهب الفقهية قمين بالبلوغ بصاحبه إلى درجة الاجتهاد في هذا العصر، كما أنه كفيل بأن يكون له الأَثر الكبير في اتساع الأنظار الاجتهادية وتنمية الثروة الفقهية في كل مذهب. وهكذا يمكن لمن بلغت بهم مداركهم ومعارفهم، وسمت بهم
(المقدمة/12)
 
 
- ك -
 
قدراتهم ومواهبهم إِلى مراتب العلماء المحققين والفقهاء المتمرسين بالأَحكام الشرعية علما وعملا، أن ينتصبوا إلى إِعمال الفكر وإِجالة النظر في الواقعات المستجدة، والحوادث والنوازل العارضة، بحُسن تفهمهم، وعميق تفقههم، وكمال تدبرهم في فهم النصوص وتطبيقها، وباستخراجهم الأدلة لها من الكتاب والسنة، وبإِعمال القياس فيما لا نص فيه منها على ما وردت به النصوص، وبالاستناد إلى الاستحسان والاستصلاح والعرف وسد الذرائع والقواعد الكلية والمقاصد الشرعية ونحو ذلك، طلبا للحكم الشرعي وتوصلا إلى معرفته.
ولضبط ذلك كله عقد المؤلف مبحثا خاصا بالاجتهاد، وهو المبحث الخامس من المدخل الأَول من كتابه، فصل فيه القول في بيان ماهية الاجتهاد، والتعريف بالمجتهد ومراتبه، ومجالات الاجتهاد وأسبابه وأنواعه وحُكمه وحكمته، ومن العلامات على طريق الاجتهاد التي نصبها المؤلف: تفريقه بين الفقه والشرع، وتقريره شمولية الشرع المطهر وصلاحيته لكل زمان ومكان، واعتباره الجسر الممتد في الإسلام معلنا خلوده ونفاذه، واعتداده بقول ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعليكم بالأمر العتيق". وتقسيمه الأَحكام الشرعية إلى قطعيات لا تقبل الخلاف وظنيات في الفقهيات العملية المكتسبة وبعض المصادر التبعية يجوز فيها ذلك، وتفصيله القول في فهوم المجتهدين وفي اختلاف المِذاهب، وتأكيده أن الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب على العباد، وتنبيهه إلى ما وقع الناس
(المقدمة/13)
 
 
- ل -
 
فيه من الخلط ببن تاريخ التشريع الإسلامي الذي اكتمل في عصر الرسالة بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين تاريخ الفقه الإسلامي، وتعريضه بمن اختلَّتْ أذواقهم وساورتهم الأهواء ومجاراة الأغراض، وتحذيره من الفتاوى المغتصبة والفتاوى الطائرة والفتاوى الشاذة الفاسدة، وكل تلك مسائل مهمة تعمق الشيخ بكر درسها بكمال دين، وثبات يقين، وقوة فحص، وعميق نقد:
خدم العلى فخدمته وهي التي ... لا تخدم الأَقوام ما لم تُخدَم
أَجزل الله مثوبته، وأتم عليه نعمته، جزاء من أحسن عملا وبذل نصحا.
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
 
محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي - جدة
(المقدمة/14)
 
 
المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب
 
ولد الإمام في 20/3/164 وتوفي في 12/3/241
عن " 77 " عاما و " 11 " شهرا و " 22 " يوما
رحمه الله تعالى
 
تأليف
بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس المجمع
 
تقديم
معالي الأمين العام للمجمع
د. محمد الحبيب ابن الخوجة
 
الجزء الأول
دار العاصمة
للنشر والتوزيع
(1/3)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
(1/4)
 
 
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةِ من الرسل بقايا من أَهل العلم؛ يَدْعُون من ضل إِلى الهدى، ويَصْبرون منهم على الأَذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بِنُوْرِ الله أَهْلَ العَمَى، فكَمْ مِنْ قَتِيْلٍ لِإبليس قَد أَحيوه، وكم من ضال تائهِ قد هَدَوْه، فما أحسن أَثرهم على الناس، وما أَقبح أَثر الناس عليهم، يَنْفُون عن كتاب الله تعالى تحريفا الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الَّذين عقدوا ألوية البدعة، وأَطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، يَقُوْلون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، وَيَتكَلَمُون بالمتشابه من الكلام، ويَخْدعون جهال الناس بما يُشَبِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة المضلين (1) .
__________
(1) هذه الخطبة اقتباس من الخطبة التي افتتح بها الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - كتابه: " الرد على الزنادقة والجهمية " وقد طبعَ مرارا وانظرها في: إعلام الموقعين ": (1/ 9) ، و " اجتماع الجيوش الإسلامية ": (ص81) ، و " الصواعق المرسلة ": (1/ 107- 108) ، وكتاب الفوائد ": (ص 105) ، و " جلاء الأفهام ": (ص 249) . و " طريق الهجرتين ": (ص. 62) وفيها ذكر أن ابن وضاح في كتابه " البدع والنهي عنها " أسندها بنحوه عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهي في كتاب ابن وضّاح برقم/ 3 ص/ 32.
(1/5)
 
 
وأَشهد أَن لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريك له في ربوبيَّته، ولا في ألوهيته، ولا في أَسمائه وصفاته، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، وعلمه بكلِّ شيء محيط. وأَشهد أَنَّ محمدًا عبده ورسوله المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله، وملائكته، وأَنبياؤه، ورسُلُه، والصَّالحون من عباده عليه، وعلى آله، وعلى أَصحابه، وعلى التَّابعين لهم بإحسان إِلى يوم الدِّين وسلَّم تسليما كثيرا
- أَما بعد: فإِنَ التأسي (1) ، والمُتَابَعَةَ، والاقْتِدَاءَ، بِصَاحِبِ هَذه الشَريْعَةِ الإسلامية المُبَارَكَةِ الغَرَّاء، خَاتَمِ الأَنبياء والمرسلين، وسَيِّد وَلَدِ آدم أجمعين، نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: هو رَأْسُ مَالِ المسلم، اعتقادا، وقولاً، وعملاً، في مَدَارِجِ الشرع المُطَهَّر، الكَامِنِ في الوحيين الشريفين.
- وهذا- وايم الله- عنوان محبة العبد لربه، كما قال- سبحانه -: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [آل عمران/31]
- ولُبَابُهُ عِبَادَةُ اللهِ وتوحيده - سبحانه - وهو المقصود من خلق الله للثقلين، كما قال - تعالى -: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [الذاريات/ 56]
- وهذا مدار دعوة كل نبي ورسول، كما ذكر الله في القرآن عن دعوة: هود، وصالح، وشعيب: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ " [الأعراف/ 65، 73، 85]
__________
(1) انظر عن: التأسي، والمتابعة: " شرح الكوكب المنير " 2/ 196، و " المسودة " ص/ 186.
(1/6)
 
 
وقال سبحانه- عن دعوة جميعهم: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " [النحل/ 36]
- وهذا مقتضى الشهادتين في الإسلام: أَن لا يعبد إِلاَّ الله، وأَن لا يُعبد الله إلاَّ بما شرع.
وعلى هذا تدور رَحَى التشريع، ولهذا صارت سورة الفاتحة جامعة لمعاني القرآن الكريم. ثم هذه في آية واحدة منها: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ".
- وهذا مقتضى أَول أَمر في كتابا الله في أَوائل سورة البقرة: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [البقرة/ 21]
وفي هذه الآية والآيتين بعدها مضمون الشهادتين.
- وهذا مقتضى ما أَمر الله به، وقضى وأَوجب، وأَلزم وحكم وهو خير الحاكمين، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. قال - تعالى -: " مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " [يوسف/40]
وقال- سبحانه-: " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
(1/7)
 
 
إِحْسَانًا " [الإسراء/23]
- وهذا الأَمر العظيم، هو فاتحة كتاب الله، وخاتمته، لِإشعار المسلمين، بأَن ما بين الدفتين من آيات القرآن وسُوره، هو لتحقيق عبودية العبد لربه، وتوحيده له، ذلك أَن الله- سبحانه- افتتح كتابه بتوحيده في ألوهيته، وربوبيته، في قوله -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وبتوحيده- تعالى- في أَسمائه وصفاته في قوله- عَز َشأنه-: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، وختم كتابه بذلك في " سورة الناس ": قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (*) مَلِكِ النَّاسِ (*) إِلَهِ النَّاسِ) . ومعلوم أن توحيد الله في أَسمائه، وصفاته في هذه السورة على طريق التضمن والالتزام في نوعي التوحيد المذكورين نصًّا.
وهذا الاتباع والتأسي للشرع المطهر في أَبواب الدين كافة هو الطريق الموصل للعبد إِلى رضوان الله، ونعيم جنته.
قال الله- تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء/19] .
وَمَنْ تتبَع أَسْرَارَ التنزيل، وجَدَ فِيْهِ مِنْ تعظيم أَمر هذا الدِّين عجبا.
فمن تعظيم الله لدينه أَن من أَخلَّ بتوحيده - سبحانه - مشركا معه غيره، فإِن الله لا يغفر له شركه، قال- تعالى-: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا " [النساء/ 48]
(1/8)
 
 
وقال- سبحانه- على لسان عيسى بن مريم- عليه السلام-: " إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ " [المائدة/ من الآية 72] .
- ومن تعظيمه- سبحانه- لِشَرِيْعَتِهِ: أَنَّ من خَرَجَ على نِظَامِها الفطري الصافي من الدَّخل، ولم يُحَكِّمْها، فَقَدْ حَكَمَ الله عليه، بأَنه: كافر ظالم. فاسق. في ثلاث آيات من: [سورة المائدة/ 44، 45،47]
وانظر إِلى هذه الآيات من سورة محمد، كأَنما أنزلت الساعة - والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- قال الله- تعالى-:
" إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (*) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (*) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (*) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " [الآيات: 25، 26، 27، 28] .
فليحذر المسلم من: " سنطيعكم في بعض الأمر ".
وليلتفت المسلم إِلى هذا العقاب الكبير ((إحباط الأَعمال)) لمن اتبع ما يُسْخِطُ الله، مثل: طاعة الكافرين، في تحكيم القوانين الوضعية، فإِنه محبط للأَعمال!
إلى غير ذلك من: نواقض الإسلام، ونواقض الإيمان، وكل هذا من تعظيم هذا الدِّين، وتعظيم شعائره، ورعاية حرمته، وحفظه من العاديات عليه. ونحن نشهد بالله، وكل مسلم يشهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بَلغَ هذا
(1/9)
 
 
الأمر، حق البلاغ، في القرآن العظيم، والسُنَّةِ المشرفة، والسُنَّة قطرة من بحر القرآن الزاخر كما في قوله- تعالى-: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " [من الآية/7 من سورة الحشر] .
فدليل التأسي، والمتابعة، والاقتداء، بلغنا كاملا غير منقوص، وافيا غير مبخوس، على لسان المُبَلِّغ به لأمته صلى الله عليه وسلم
قال الله - تعالى -: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " [المائدة/ من الآية 3]
وبوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى " تاريخ التشريع الِإسلامي ".
حاوياً: أَحكام الاعتقاد والفضائل والآداب، والأَحكام الفروعية، تفصيلاً أو تأصيلاً ببيان الأصول والقواعد العامة، التي تتناول مالا يتناهى من واقعات الأَحكام الفروعية، مهما تباعدت الأَوطان، واختلفت الأَزمان، والأَجيال وهذا ينسجم تماما مع عموم الرسالة، كما قال الله- سبحانه-: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " [سبأ/28]
وفي ظل هذه: " الأصول العامة " دخلَ: دور (1) " تاريخ الفقه
__________
(1) إطلاق الدور هنا استعمال عربي فصيح، لأنه بمعنى الحقبة الزمنية، وهذا واضح في تصاريف هذه المادة: " دَوَرَ " من كتب اللغة، إلا أن بعض المعاصرين يرى استعمال كلمة: " الطور "، ابتعاداَ عن الاشتراك اللفظي لكلمة: " الدور " لدى المناطقة، إذ الدور في اصطلاحهم: " هو توقف كل من الشيئين على الآخر " وهذا ممتنع لأنه يؤدي إلى تقدم الشيء على نفسه.
وغير خافي أن المشترك اللفظي من محاسن لغة العرب، فلا ضير إذا في استعمال كلمة: " الدور " هنا، ما دام إطلاقها يصح لغة. والله أعلم.
(1/10)
 
 
الِإسلامي " على يد علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم من لدن الصحابة- رضي الله عنهم- مروراً بالتابعين لهم، فَمَنْ بَعْدَهُم إِلى الآخر بما أمرت به هذه الشريعة من واجب " التحمل " و " البلاغ "، على علماء هذه الأُمة المرحومة، وفيما منحته لهم من " فقه الاستدلال وحق الاستنباط ". من هُنا بقي المجال لعلماء أُمته صلى الله عليه وسلم في وظائفهم العلمية، الثلاث: التحمل. والتبليغ. والاستنباط.
قال الله- تعالى-: " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ " [التوبة/ 122]
وفي " الفقيه والمتفقه " للخطيب: (2/ 44- 46) : و " الطَّبقات " لابن أبي يعلى: عن الإمام أَحمد بن محمد بن حنبل ت سنة (241 هـ) - رحمه الله تعالى- أَنه قال: " أصول الِإيمان ثلاثة: دَال، وَدلِيْل، ومستدل.
الدَّالُّ هو الله. والدليل: القرآن. والمبلِّغ: رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمستدلون: هم العلماء فمن طعن على الله وعلى كتابه وعلى رسوله فقد كفر".
أَمام هذه المنحة الشرعية للعلماء وهي: " مرتبة الاستدلال وحق الاستنباط " لقاء واقعات الناس، ونوازلهم، يبذل الفقيه الوسع لاستخراج الأحكام العملية الاجتهادية من أَدلتها التفصيلية.
وهذه المنحة مستمرة باقية لعلماء الأمة، فلا تلتفت إِلى دعوى سَدّ باب الاجتهاد ووجوب التقليد، كما قاله- أول من قاله-: ابن الصلاح الشافعي، المتوفى سنة (643 هـ) - رحمه الله تعالى- ولا تلتفت إلى ما صنفه اللَّقاني، المتوفى سنة (1041 هـ) - رحمه الله تعالى- من إدخال
(1/11)
 
 
وجوب التقليد في قضايا الاعتقاد، بقوله نظماً:
فواجب تقليد حَبْر منهم ... كذا حكى القوم بلفظ يُفهم
ورحم الله الشوكاني، المتوفى سنة (1250 هـ (1)) ، إِذ قال في رَدِّه دَعْوى سَد بَابِ الاجتهاد، ووجوب التقليد، إِنَّها: " رفع للشريعة بأَسرها ونسخ لها ".
إِنَّهُ بهذه المنحة - السلطة الفقهية - اجتهد، أوْلاءِ الهُدَاة المصلحون، أولو البصائر، في الاعتناء بالفقه في دين الله، والتمكن من إِتقان الاستنباط، وَرَصْد النوازل، والواقعات، وعرضها على الدليل، وساروا في ذلك سَيْراً حثيثاَ، واسْتَمَرَّ بهم دُوْلاَبُ الحَيَاة إِلى الإمام قُدُماَ، في الاستدلال، والاستنباط، والتعليل، والتدليل، وإِرجاع الأَقاويل إِلى القسطاس المستقيم، والِإذعان للدليل، فكانوا في دَأَبِهِم كما قيل.
" سير السَوَاني سفر لا ينقطع "
فحازوا على إِرث عظيم، كُلٌّ حَسْبَ القَرَائح والفُهوم، ومَاَ أؤتي من عبقرية، ونبوغ في العلم، والفقه، ونبوغٍ في صناعة التأليف:
__________
(1) شَرَفٌ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وحدتهم في التاريخ عن مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة- حرسها الله تعالى- إلى المدينة- حرسها الله تعالى- ولهذه الوحْدَة التاريخية فإن العلماء المتقدمين لم يكونوا يضعون حرف: " هـ " بعد التاريخ، رمزا للتاريخ الهجري؛ لوحدة التاريخ لديهم، وعلمهم به، ولأنه ليس قسيماَ لغيره كالتاريخ الميلادي، وكان في آخر من قفَى عمل المسلمين بعدم وضع الرمز " هـ " وعدم مقابلته بالتاريخ الميلادي هو الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله تعالى- ولهذا لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما وضعت هذا الرمز، لأنه ليس لدينا- معشر المسلمين- تاريخ سواه.
(1/12)
 
 
فِتْيَةٌ لَمْ تَلِدْ سِوَاها المَعَالِي ... والمعالي قليلة الأَوْلاَد
وخَلفوا - أحسن الله إِليهم - هذه الثروة العظيمة: ألوف المؤلفات، فيها آلاف مؤلفة مِن المسائل، والنوازل، والأقضيات، في أصول الشريعة، وأَحكامها الفقهية الاجتهادية، العائدة إِلى حفظ الدِّين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال، حتى إِن الناظر في مآثرهم، وسِيَرِهم، وآثارهم؛ ليعجب مما آتاهم الله، من علم، وعمل، وبصيرة، وفَهْم، بما يَقْطع معه بعدم وجود نظير لهم على مَسْرح العَالَم؛ ولذا طار لهم دَوِيٌّ في أَكناف البسيطة، وَعَكَفَ الهُداة على دراسة شخصياتهم وفقههم، وحسن أَثرهم على الناس، وكانوا شرفا لأَمة محمد صلى الله عليه وسلم تباهي بهم الأمم. وكانت هذه المنحة الإسلامية لهم، من أَسباب سعة هذا الدِّين، وانتشاره، وقبوله، واستقباله ما يرد عليه من قضايا، ومستجدات.
وما أَجْمَلَ ما قاله ابن قتيبة، المتوفى سنة (276 هـ) - رحمه الله تعالى - في وصف حالة صدر هذه الأمة، وسلفها، في طلب العلم، إِذ قال (1) : " كان طالب العلم فيما مضى، يَسمع لِيعلم، ويَعلم لِيعمل، ويَتفقه في دين الله لينتفع وينفع وقد صار الآن: يَسمع ليجمع، ويجمع؛ لِيُذكر، ويحفظ؛ لِيغلِب ويفخر " انتهى
وكان من هؤلاء الأئمة الهُداة، والأثبات الثقات، الذين تبوَّؤا مكان
__________
(1) اختلاف اللفظ ص 18
(1/13)
 
 
الصَّدارة، والإمامة في الأُمة، وَتَطَوَّرَتْ مَرَاحِلُ الفقه عَلَى يَدَيْه، بالابتكار والافْتراع: شيخ الِإسلام والمسلمين- في زمانه- أَبو عبد الله أَحمد بن محمد بن حنبل الشيباني البغدادي المولود في 20/3/164، والمتوفى بها ضحوة: 12/ 3/ 241 هـ.- رحمه الله تعالى-؛ إِذْ صَرَفَ وَجْهَ عِنَايَتهِ إِلَى فِقْهِ الدَّليل، وقَفْوِ السُّنن، واتِّباع الأَثر فاستحق هذا الإمام الحُجَّة، أن يُسَمَّى: " إِمام أَهل السنة "؛ وَلذَا سمى الأثرم كتابه في فقه أحمد: " السُّنن "، ورُزق تلامذة يَحْتَذُوْنَ حَذْوَه، وَيقْتَفُوْنَ قَفْوه، فَدَوَّنوا فقهه، وأَسندوه، وتناقلوه، ونشروه، حتى تم تكَوَّن فقهه في خاتمة الفقهاء الأَربعة المشهورين، عَلَى مَشَارِفِ القرن الرابع الهجري، وصار من أَتباعه: فقهاء مبرزون، وقضاة، ومُفْتون، ومن تلاميذ مدرسته: فقهاء محققون على طريقته، ومؤلفون في فقهه ومذهبه، فاشتغلوا في إِرجاع فروعه إِلى أصولها، وفَسْر مصطلحاته، وتهذيبها، ومَدُّوا فقهه بالتخريج عليه، والتنقيب عن مفهومه، ولازمه، والقياس عليه، وما يتبع ذلك من التخاريج، والنقل والتخريج، والوجه، والاحتمال، والتوجيه.
وقد بلغ المُتَرْجَمُ لَهُم منهم نحو أربعة آلاف عالم موزعين على الأَمصار في قاعدته الأولى: " بغداد " ثم في قاعدته الثانية: " الشام " ثم في مصر وما وراء النهر ثم في قاعدته الثالثة: " جزيرة العرب "، وغيرها من الممالك الإسلامية.
وبلغت آثار نحو خمسمائة عالم منهم في: الفقه، وأصوله، وقواعدهما، وضوابطهما، نحو أربعمائة وألف " 1400 " كتاب، بدءاً مِنْ
(1/14)
 
 
كُتُبِ الإمام، ثم كُتُب مسائل تلامذته في الرواية عنه، ثم الكتب الجامعة لها، والتي قُدّرَت مسائلها بنحو ستين أَلف مسألة، ومن اشتغال الأَصحاب عليها في متن مختصر، فمتوسط، فمطولٍ، وما يلحق ذلك، من شروح، وحواشٍ، وتفسيرِ غريب، وتخريج أَحاديث، وما يداخل ذلك من تخريجات للأَصحاب في الفرعيات، وفق ضوابط التخريج الفقهي المذهبي.
وقد حصل في طائفة منها: اختلاف في الروايات عن الإمام، واختلاف عن الأَصحاب في التخريجات.
فكانت الحال في هذا المذهب، كالشأن في أي مذهب: من وجود روايتين، أَو قولين، فأَكثر، لِإمام واحد في مسألة واحدة، لكن في وقتين مختلفين أَو أَوقات. وهذا لا إنكار فيه، ولا اعتراض عليه، أَما في وقت واحد فلا يَقَع.
ففي المذهب الحنفي، قال أَبو يوسف، المتوفى سنة (182 هـ) - رحمه الله تعالى- (1) : " ما قلت قولاً خالفت فيه أَبا حنيفة، إلا وهو قول قد قاله أَبو حنيفة، ثم رغب عنه "
وَتعدد الأَقوال والآراء في: " المذهب الحنفي " طبيعة له، يقتضيها الجُنوح إلى الرأي وعن الاختلاف في المذهب المالكي، حَكَى البقاعي، عن شرف الدين يحيى الكندي، أنه سُئِلَ: مَا لمَذهبكم كثير الخلاف؟ قال: " لِكَثْرة
__________
(1) رد المحتار 1/ 67. المذهب عند الحنفية: ص/10
(1/15)
 
 
نُظَّاره في زمن إِمامه " (1) .
ولا عجب فقد نُقِلَ عن الإمام مالك- رحمه الله تعالى- إِلى العراق نحو سبعين أَلف مسألة فاختلف الناس في مذهبه لاختلاف نشرها في الآفاق (2) . وعن الاختلاف في المذهب الشافعي، فمعلوم ما للِإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - من القول القديم، ثم القول الجديد، بعد نزوحه إِلى مصر، وقد أَلَّف محمد بن إبراهيم المناوي الشافعي ت سنة (746 هـ) - رحمه الله تعالى- كتابه في ذلك: " فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد ".
وأَشار النووي، المتوفى سنة (676 هـ) - رحمه الله تعالى- في مقدمة: " المجموع: 1/ 4- 5 " إلى ما في كتب المذهب الشافعي من الاختلاف الشديد بين الأَصحاب، وطريق تَعيِينِ المذهب.
فهذه الثروة الفقهية المباركة تكونت من " فروع اجتهادية " على رواية واحدة عن الفقيه الواحد، أَو فيها اختلاف في المذهب على روايتين فأكثر أَو مخالفة التلاميذ لشيخهم، والأَصحاب لإمام المذهب.
أَو خلاف عالٍ مع الأَئمة المجتهدين أَو بعضهم.
أَو فرع اجتهادي مخرج من أَصحاب ذلك الإمام على أصول مذهبه، وقواعده، اتفاقا بين الأَصحاب، أَو اختلافاً في التخريج وكل هذه الأنماط مشمولة باسم: " الاختلاف الفقهي بمعناه العام
__________
(1) نيل الابتهاج: ص/ 358. نظم العقبات: ص/ 177 الاختلاف الفقهي: ص/ 6-7
(2) المعيار 1/ 211. الاختلاف الفقهي: ص/ 6-7
(1/16)
 
 
أمام هذه الثروة الفقهية، حصلت حركة تدوينية، قام بها عدد من الأَصحاب - كالشأن في أتباع كل مذهب متبوع - بعمل مداخل فقهية لكل مذهب، تَضْبِطُهُ أصلاً، وفرعاً، وَتَرْسمُ طريقهُ، روايةً وتخريجاً، وتُعرِّف بكتبه، ومراتبها، وعلمائه، ومراتبهم، وطبقاتهم فيه، اجتهادا، وتقليداً ... إلى آخر ما هنالك من معارف، ومعالم، تَعْنِي المتفقه، وَتَرْسِمُ طريقه فيه؛ حتى يعرف المذهب المعتمد على التحقيق، ومسالك الترجيح فيه، وتخطو به خطوات سريعة إلى الدُّربة على التفقّه في السنة والتنزيل، والنقلة إلى فقه الدَّليل. ويكون في مأمن من الاخْتلال والغلط، وجُنوح الفكر واضطراب الفكر وموقف الحائر العاثر المجازف بِالْعَزْو وحكاية المذاهب.
فلا يقول قَائِلٌ هذا المذهب، وعليه الأَصحاب، أَو هذا الراجح فيه رواية، أَو تخريجاً، إلا عن علم وبصيرة، وإدارة لفروعه على أصوله، وأَحكامه على محكماته، قد قَبَضَ على زِمَامِ الأصول، واستعد للجلوس على مِنَصَّة التَّقرِيرِ للفروع.
وكان أَول من عرفته أَفرد كتاباً في تفسير مصطلحات الإمام أَحمد في أَجوبته، هو شيخ المذهب في زمانه، ومحققه، وخاتمة طبقته الأولى (طبقه المتقدمين) الحسن بن حامد ت سنة (403 هـ) - رحمه الله تعالى- في كتابه الفَذِّ: " تهذيب الأَجوبة " وعندي أنه يُشبِهُ إلى حد بَعيْدِ كتاب: " الرسالة " للإمام الشافعي المطلبي- رحمه الله تعالى- في التأصيل، والتقعيد، وحُلو العبارة، ودقة الإشارة وتحليلاته اللغوية، فلله
(1/17)
 
 
دَرُّه ما أبهى دُرَره، ثم قَفَاه الناس بعد ذلك، فَمَنْ بَعْدَهُ عيال عليه، إلى الآخر، وكان من آخر من كتب في أبواب التعريف بهذا المذهب: العلاَّمة عبد القادر ابن بدران الدومي، ثم الدمشقي ت سنة (1346 هـ) في كتابه: " المدخل إلى مذهب الإمام أَحمد بن حنبل "
ومن هذين الكتابين، وما بينهما من كتب الفقهاء والأصوليين، وأَبحاث، في كتب التراجم، والطِّباق، ومُقَدِّمَاتِ، وخَوَاتِيْمِ الكتب الفقهية، وما يجري في مباحث الاجتهاد والتقليد من الكتب الأصولية، وغير ذلك، تكون منها رصيد كبير، وتأسيس متين لِمَن أراد أَن يجمع بين فوائِتِها، وَيَضُمَّ إِليها مَا فَاتَها، مثل:
- التتبع والاستقراء لكتب المذهب في الفقه، وعلومه، من لدن الإمام أحمد إلى الآخر وتشخيص المعلومات البيانية عنها
- وعمل دراسة لعلماء المذهب، حسب أَوطانهم، وأَزمانهم، وبيوتاتهم، وطبقاتهم في الاجتهاد والتقليد.
- وإعجام مصطلحات المذهب من أَلفاظ الإمام، أَو الأَصحاب في نقل المذهب، أَو نقل بعضهم عن بعض، وكشف معانيها، وفَسْر المراد منها اتفاقا، أَو اختلافا.
- ورسم الطريق الآمن إلى الطرق التي يُعرف بها المذهب رواية، أَو تخريجاً، ومسالك الترجيح فيه.
إلى آخر ما هنالك من معارف، تشتد حاجة الفقيه إليها.
- إلى غير ذلك من دقائق التعريف بالمذهب، مما بقي عَانِساً في
(1/18)
 
 
تفاريق الكتب، فهي بحاجة إلى من يأخذ بيدها وَيَمْسَحُ عن مُحَيَّا وَجْهِها مَا عَلِقَ بِها من جَرَّاء هَجْرِها، ويَضُمُّ هذه المعارف المذهبية، والمداخل التأصيلية، إلى ما مضى، ويجعلها منتظمة في سلك واحد، مجموعة بين دَفَّتَيْن، مُرَتَّبَةً بين لَوْحَتَيْن.
من هذه التصورات، حصلت عندي رغبة ملحة، لم أَستطع الهروب من أَقْطَارِها، ولا النفوذ من سُلْطَانِها، فانتدبت لها نفسي، مع قصوري وعجزي، وقلت كما قال شيخ المعرة:
" وَيَا نَفْسُ جِدِّي إِنَّ دَهْرَكِ هَازِلُ "
حتى لا يظل هذا الجانب مهملاَ غير مطروق بِكُلِّيَّتهِ، ومبعثرًا غير مرتب ولا منظوم في قضاياه، ومسائله، فَربطت الجوَاد خَلْفَ المَرْكَبِ، وَلسَانُ حَالِيْ يَقُوْلُ لِطَالبِيْ فِقْه هذا المذهب: " امكثوا إِنِّي آنست ناراً " فَطَفِقْتُ أقْتَبِسُ منها كُلَّ طَرِيْفٍ وتَالِد، وأَستَدِرُّ لهذا المشروع الخيري الفوائد، مِن بُطُونِ الأَسفار للحاضر والعابر، مقيداً ما سقطت عليه من الشوارد، في مَطَاوِي المطالعة، ورحلة النظر (1) إلى كُلِّ طَرِيْفَة وتَالِدَة، فَظفَرْتُ- ولله الحمد- بفوائد علمية، نَادِرَة، مُسْتَجَادة، لا يستهان بأَمثالها، واستنباطات مؤيدة بأَدلتها، ومُطَايَبَات شَتَّى تَسِيْرُ على منوالها، وَكُلُّ نَفْسٍ تُجْزى بِأَعمالها.
__________
(1) قال الكرماني- رحمه الله تعالى-: " النظر إذا استعمل بفي فهو بمعنى التفكر وباللام بمعنى الرأفة، وبإلى بمعنى الرؤية، وبدون الصلة بمعنى الانتظار نحو " انظرونا نقتبس من نوركم " انتهى من: " شرح الأذكار " لابن علان: (6/ 65)
(1/19)
 
 
حينئذ أخذت في جمعها، وتنقيحها، وتحريرها، وترتيبها، وعزوها، وتوثيقها، مَعَ مَا ألممت به من جَوَانِبَ أخْرَى بطريق النظر فيها، واستجلاء حقائقها حتى جمعت لها هذا الكتاب المستطاب: " المدخل المفصل إلى فقه (1) الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب (2) "
وعقدت مُحَصَّلَه في مَدَاخِلَ ثمانية هي:
المدخل الأول: معارف عامة عن التمذهب
المدخل الثاني " معارف عامة عن المذهب الحنبلي.
المدخل الثالث: التعريف بأصول المذهب.
المدخل الرابع: التعريف بمصطلحات المذهب
المدخل الخامس: التعريف بطرق كيفية معرفة المذهب، ومسالك الترجيح فيه
المدخل السادس: التعريف بالإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -.
المدخل السابع: التعريف بعلماء المذهب.
المدخل الثامن: التعريف بكتب المذهب
__________
(1) " فقه الإمام ": هو المذهب حقيقة، لكن لم أعَبِّر بلفظ: " المذهب " توَقِّيا مما حَف بالتمذهب من العصبية، وإنما التعصب للدليل
(2) " تخريج الأصحاب على فقه الإمام ": هو " المذهب اصطلاحا "، والتخريج في كل مذهب يكون على فقه الإمام، ويكون على غيره، ومعلوم أن المخرج على غير فقه الإمام لا يكون مذهبًا له اصطلاحياً فضلا عن: المذهب حقيقة، لهذا قلت: " وتخريجات الأصحاب " ولم أقل: " وتخريجات الأصحاب عليه " فليتنبه
(1/20)
 
 
وفي هذا العمل المبارك- إن شاء الله تعالى-: فوائد، منها:
1- مَعْرِفَةُ مَحَاوِرِ المذهب في أصوله، وجذوره، ومصطلحاته في صعيد واحد.
2- الوقوف على الطرق التي يُعرف بها المذهب المنصوص عن الإمام أَحمد- رحمه الله تعالى-.
3- الوقوف على معرفة الطرق التي يصل بها المتفقه إلى التخريج في المذهب، وفق أصول التخريج وضوابطه.
4- مسالك الترجيح عند اختلاف الأَنظار فيه.
5- دلالة الحائر على كتب المذهب حسب تسلسلها الزمني وتقويمها ببيان المعتمد من المنتقد
6- العمل على إِزالة ما اكتنف هذه المضامين من الغموض، وغشيها من خفاء الرؤية، مما له تأثير عَلَى سَدَادِ النتيجة، وسلامة الموقف من القضايا الفقهية
7- الوصول إلى تنقية المذهب من الروايات الغريبة، والتخاريج الضعيفة، التي يقع فيها من لا أُنسَ له بالمذهب، أَو يُمسك بها المستضعفون بأَيديهم؛ لينفذوا إلى تسليك المناهي في: سِلْك الِإباحة المطلقة، تحت سلطان التخريج المذهبي، وفي حقيقتها خُرُوْجٌ على المذهب، ومُنَابَذَة للدليل وكانوا في شهوتهم لِضَعِيْفِ الرأي، وشَاذِّه، كما قيل:
(1/21)
 
 
وكل المطايا قد ركبنا فَلَمْ نجد ... أَلَذَّ وأَشْهَى مِن رُكُوْب الأَرانب
والولوج في هذه: مَعَرَّة لا يغسلها الماء، ولو عُفِّرت السابعة بِالتُّرَاب. وهذه - وايم اللهّ - من تناقص العلم وظواهر رفعه وفشو الجهل وتَرَدِّي الهمم، وفَسَاد الذِّمم، وكم يتوارى خلفها من ويلات تؤذِنُ بالاختلال، والاضطراب.
واتل- رحمك الله تعالى- آية الأَعراف هذه: " فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " [الأعراف: 169]
واستمسك بالعمل بالآية بعدها: " وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ " [الأعراف: 170]
والمسلم راع على جوارحه (1) ، وقواه، وحَوَاسه، فِعْلاً، ونطقاً، واعتقاداً فليتقِّ الله، وليقم بمسؤليته عليها، وفق شرع الله المطهر.
8- إِنَّا ونحن في عصر اشتبكت فيه الحضارات، وتلاحمت وتعددت فيه المهارات: الطبية، والاقتصادية، وغيرها، وتباينت، قَدْ جَرَّتْ معها: قضايا، ومُسْتَجَدَّات، ونوازل، وواقعات، تَنتظِرُ مِنَ الفقيه أَن يقتبس حكماً موافقاً لها من أحكام التكليف. وكثير منها أعيا الفقهاء، وأتعب
__________
(1) انظر فتح الباري: 13/113
(1/22)
 
 
العلماء؛ لهذا كان لابد من الِإسهام في ترقية المدرسة الفقهية، وبعث نشاط المتفقهين، والعمل على بذل الأَسباب لفتح ما انغلق أَمامهم من فقه أسلافهم ليعرفوه وردا وإصدارا واستنباطاً واستدلالا والتوقي من الفُهوم المغلوطة، والبُعْد عن الأَسباب الموصلة إِليه؛ حتى يكون هذا: " المدخل " عَوْنَاً لهم على مهمتهم، في مواجهة قضاياهم الفقهية المعاصرة.
وأخيرا، فَلاَ أَدَّعِي أَنًّني أَخذتُ بمجامِع هذه المَداخِل، ولا بلغت بها حدًّا أَقصى، يُخْتَمُ به التأليف في هذا الباب، لا وَأَلْفُ لا ولكن بَذلْت من الجهد ما وسعني، وقد بلغ مني الجَهد؛ حتى لقيت عَرَقَ القِرْبَةِ، والجَهْدَ الجاهد.
وأَدعُ الناظر فيه، لتناجيه مَدَاخِلُ هذا الكتاب، وفُصوله، وأَبحاثه؛ رجاء دعوة صالحة إِن وَجَدَ مَا يُفِيْده، وتقييد ما يلاحظه، وإضافة فائته. آملاً المعاملة بعين الِإنصاف، لا بعين الرضا، أَو السُّخط والاعتساف.
قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أَبي طالب، المتوفى سنة (129 هـ) - رحمه الله تعالى-:
وَعَيْنُ الرِّضَا عَن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَة ... كَمَا أَنًّ عَيْنَ السُّخْطِ تبدِي المَسَاوِيَا
والله من وراء كل عبد وقصده، وما توفيقي إِلاَّ بالله عليه توكلت، وإِليه أنيب.
المؤلف
بكر بن عبد الله أبو زيد
في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم
(1/23)
 
 
مداخل الكتاب
المدخل الأَول: معارف عامة عن التمذهب
المدخل الثاني: معارف عامة عن المذهب الحنبلي
المدخل الثالث: التعريف بأصول المذهب
المدخل الرابع: التعريف بمصطلحات المذهب.
المدخل الخامس: التعريف بطرق كيفية معرفة المذهب، ومسالك الترجيح فيه.
المدخل السادس: التعريف بالِإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -
المدخل السابع: التعريف بعلماء المذهب.
المدخل الثامن: التعريف بكتب المذهب.
(1/25)
 
 
المدخل الأول: معارف عامة عن التمذهب
أَبحاث هذا المدخل، صالحة لدراسة كل مذهب فقهي، وإِنَّما تُفرغ المعلومات المناسبة لكل مذهب، في بعض جوانب مباحثه.
(1/27)
 
 
المدخل الأول: معارف عامة عن التمذهب
وفيه ستة أَبحاث:
المبحث الأَول: التعريف بلفظ: " المذهب " لغة واصطلاحا.
المبحث الثاني: التعريف بلفظ: " الفقه ": لغة، وشرعاً، واصطلاحاً.
المبحث الثالث: أنواع الفقه المدون في كل مذهب.
المبحث الرابع: تاريخ التمذهب والحث على فقه الدليل وأن الانتساب لمذهبٍ يعني الوفاق، لا العصبية والشقاق.
المبحث الخامس: الاجتهاد في الفقه الإسلامي، وأَثره في الثروة الفقهية في كل مذهب.
المبحث السادس: شروط نقل المذهب، وأسباب الغلط فيه.
(1/29)
 
 
المبحث الأَول: التعريف بلفظ: " المذهب "
قبل الدخول في تعريف لفظ: " المذهب " لابد من الِإشارة إلى قاعدة تفسير اللفظ، وبيان معناه على ما يأتي، وهو: إن كان المراد بيان معنى اللفظ " لغة " فيؤخذ المفهوم والمعنى حسب قواعد اللغة وأصولها وإن كان المراد مفهومه وفَسْرَه في حقيقته الشرعية، فيؤخذ معناه حسب المراد شرعا لما يحف به من حال التشريع وإن كان المراد بيان مفهومه اصطلاحاً، فيبين معناه حسب مراد المتكلم به، صاحب الاصطلاح لذا فالتعريف بلفظ: " المذهب " في المراحل الآتية:
1- ماهية " المذهب " وحقيقته لغة (1) :
" المذهب ": اسم مصدر أَصل مادته: " ذَهَبَ " على وزن: " فَعَلَ " فِعْلٌ ثلاثي صحيح غير معتل وكل معانيه، وما تصرف منه تدور على معنيين: " الحسن و " الذهاب إلى الشيء والمضي إلى طريقه "
__________
(1) انظر مادة " ذهب " من كتُبِ اللغة. خاصة: معجم ابن فارس، والقاموس، واللسان
(1/31)
 
 
وأسماء المصدر له ثلاثة: " ذَهَاباَ " و " ذُهُوْباً "، و " مذْهَبًا " والذي يعنينا هنا: مَصْدَرُه: " المذهب " على وَزْن: " مَفْعَل " من: " الذهاب إلى الشيء والمُضي إِليه "
2- حقيقته العرفية:
ولفظ: " المذهب " هنا، يُعْنَى به: المذهب الفروعي ينتقل إِليه الِإنسان، وطريقة فقيه يسلكها المتابع المتمذهب له.
ويُقال: ذهب فلان إلى قول أبي حنيفة، أَو مالك، أَو الشافعي، أو أحمد، أَي: أخذ بمذهبه وسلك طريقه في فقهه، رواية، واستنباطًا، وتخريجاً على مذهبه فآل إٍلى " حقيقة عرفية " بجامع سلوك الطريقين بين الحقيقة اللغوية، والعرفية الاصطلاحية
ولهذا تجدهم في المذهب يقولون: طريق أَحمد في كذا، أَي مذهبه، كما يُقال: مذهب أَحمد ويقولون: " المذهب كذا " حقيقة اصطلاحية عرفية في الأحكام الفروعية الاجتهادية، من باب إِطلاق الشيء على جزئه الأَهمِّ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة ".
وأَما ما كانت أَحكامه بنص صريح من كتاب أو سنة، فهذا لا يختص بالتمذهب به إمام دون آخر وإنَّما هو لكل المسلمين، منسوباً إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم (1) فلا اجتهاد فيه، ولا تقليد فيه
__________
(1) الأحكام للقرافي: ص/ 99، مواهب الجليل: 1/ 24، الشرح الكبير للدردير 1/ 19، وعنها: المذهب المالكي للمامي: ص/ 2، وأضواء البيان: 7/ 485
(1/32)
 
 
لِإمام دون آخر، بل هو سنة وطريقة ماضية لكل مسلم.
وهذا المولود الاصطلاحي عرفاً: " المذهب " لَحِقَ الأئمة الأَربعة: أبا حنيفة. ت سنة (150هـ) ، ومالكا. ت سنة (179 هـ) ، والشافعي. ت سنة (204 هـ) ، وأَحمد. ت سنة (241 هـ) ، بعد وفاتهم- رحمهم الله تعالى- وذلك فيما ذهب إِليه كُل واحد منهم. وَلاَ عِلْمَ لِوَاحِدٍ منهم بهذا الاصطلاح فضلاً عن أَن يكون قال به، أَو دلَّ عليه، أَو دعا إِليه.
وذلك امتداد لما كان عليه المسلمون من الصحابة- رضي الله عنهم- فَمَن بعدهم، من التابعين، وتابعي التابعين، من نشر الكتاب والسنة، والائتمام برسول الله صلى الله عليه وسلم
" ولذا قيل: إن نِسْبةَ المذهب إلى صاحبه، لا يخلو من تسامح، فما كان مالك ولا غيره من أَئمة المذاهب، يدعون أحدا إلى التمسك بمنهجهم في الاجتهاد، ولا كان عندهم منهاج محدد في اجتهادهم، إنما كانوا يتبعون في ذلك منهج من سبقهم من علماء التابعين، وهؤلاء عن الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يحدث هذا إلَّا في القرن الرابع الهجري، عندما دعت الظروف إلى هذا النوع من الالتزام بمنهاج معين في الفقه ... ولم تكن المذاهب قد استقرت على رأس المائة الثالثة، رغم ما قيل من أنه في هذا التاريخ كان قد بطل نحو خمسمائة مذهب (1) وإن كانت
__________
(1) حجة الله البالغة: 1/ 126
(1/33)
 
 
بذرة المذاهب قد بدأت قبل هذا العصر بزمان؛ إذْ كان أَهل المدينة يعتمدون على فتاوى ابن عمر، وأَهل مكة على فتاوى ابن عباس، وأَهل الكوفة على فتاوى ابن مسعود، فكان هذا أَول غرس لأَصل التمذهب بالمذاهب (1) .
3- ماهية " المذهب " وحقيقته اصطلاحًا (2) :
تقدَّم بيان حقيقته لغة، والنقل إلى: الحقيقة العرفية وتاريخ انتقالها في التمذهب الفقهي الفروعي، فما هو الحد لها في الاصطلاح؟
دارت كلمة الأَصحاب في بيان حقيقة مذهب الإنسان، على أَمرين:
على: " الاعتقاد " أَو على " القول " وما في حكمه.
أَما اعتماد حقيقة مذهب الِإنسان على الاعتقاد (2) ، فقال القاضي نجم الدِّين أَبو عبد الله أَحمد بن حمدان الحنبلي. المتوفى سنة (695 هـ) : " وقيل: مذهب كل أَحد- عرفاَ وعادة- ما اعتقده جزماَ أَو ظناَ " انتهى.
ومن القائلين به: أَبو الحسين البصري: محمد بن علي بن الطيب الشافعي المعتزلي، المتوفى سنة (436 هـ) قال (3) :
__________
(1) محاضرات في تاريخ المذهب المالكي. لعمر الجيدي: ص/ 7- 8
(2) المسودة: ص: 524، 533، الإنصاف: 12/ 241، المدخل ص/ 48، 52
(3) المعتمد في أصول الفقه: 2/ 313
(1/34)
 
 
" مذهب الإنسان هو اعتقاده، فمتى ظننا اعتقاد الإنسان أَو عرفناه ضرورة، أَو بدليل مجمل أَو مفصل، قلنا: إنَّه مذهبه ... " انتهى.
وأَما اعتماده على " القول ولوازمه " فقال أَبو الخطَّاب الكلوذاني الحنبلي. ت سنة (510 هـ) ، وابن حمدان الحنبلي، المتوفى سنة (695 هـ) ، والشمس ابن مفلح الحنبلي، المتوفى سنة (763 هـ) - بعبارات متقاربة- واللفظ لأَبي الخطاب (1) :
" مذهب الِإنسان: ما قاله، أَوْ دَلَّ عليه بما يجري مجرى القول من تنبيه أَو غيره، فإِن عدم ذلك لم تجز إضافته إِليه " انتهى.
وقال أَبو الخطاب أَيضا (1) : " مذهبه ما نص عليه، أَوْ نبَه عليه، أَو شملته علته التي عَلَّل بها " انتهى.
وقال ابن حمدان (2) : " مذهبه: ما قاله بدليل ومات قائلاً به " انتهى.
وقال ابن مفلح (3) : " مذهب الِإنسان ما قاله، أَو جرى مجراه من تنبيه أَو غيره " انتهى.
وَلاَ تبَاعُدَ- بحمد الله- فالخلاف الحاصل في العِبَارات لا في الاعْتِبَارَات فالاعتقاد هو الباعث على القول، والقول وما في معناه هو
__________
(1) المسودة: ص/ 524
(2) المسودة: ص/ 533، ولم يعزه له. الإنصاف: 12/241
(3) الإنصاف: 12/ 241
(1/35)
 
 
المنبعث عنه، فيمكن أن يُقال: حقيقة مذهب الإنسان: " ما قاله معتقداً له بدليله ومات عليه، أوما جرى مجرى قوله أو شملته علته " والله أعلم.
فقولنا: " ما قاله معتقدا له بدليله ومات عليه ".
هذا هو القدر المتفق عليه فيما تصح نسبته للمجتهد وهو " المذهب حقيقة "، وما بقي فهو " المذهب اصطلاحًا " وهو من ناحية إضافة المذهب إليه من جهة القياس، ولازم المذهب، وفعله، وما إلى ذلك مما نراه في طرق معرفة المذهب ومما صار للأًصحاب من مسالك وطرق في فهم كلامه، وتنزيل رواياته، والتخريج عليها، فهي محل خلاف في نسبتها لمذهب إمام المذهب، ثم إن الأصحاب- أحسن الله إليهم- رسموا لكلا الوجهين معالم، وأثبتوا لها أصولاً، ورسموا لها طرقاً، يتفرع منها اجتهادهم في الاختيار والترجيح، والتحقيق، والتنقيح للمعتمد من المذهب، ثم التخريج من محققي المذهب؛ فآلت الكيفية التي يُعْرَفُ بها المذهب المعتمد في طريقين: الطريق الأول: أخذ المذهب ومعرفته من كتب الإمام، وكتب الرواية عنه.
الطريق الثاني: أخذ المذهب ومعرفته من طريقة الأصحاب في كتبهم المعتمدة في المذهب والحديث عنها بتفصيل في الفصلين الآتيين في " المدخل السابع " فصار- مثلاً- مذهب الإمام أحمد، هو:
(1/36)
 
 
" ما ذهب إِليه في كتبه، أَو المروي عنه " هذا بالِإجماع، " أَو المخرج على قوله في المسائل الاجتهادية " على الخلاف وهذه حقيقة: " المذهب الحنبلي "، وهي لكل واحد من المذاهب الثلاثة المتبوعة.
(1/37)
 
 
المبحث الثاني: التعريف بلفظ: " الفقه "
*وفيه:
1- ماهية: " الفقه " لغة (1) :
أَصل مادته: " فَقُه " على وزن: " فَعَُِلَ ": فِعْلٌ ثلاثي صحيح غير معتل. مثلث العيني لفعله الماضي، وكسر العين، وضمها، مذكوران عند أهل اللغة.
أما " فَقَهَ " بفتحها، فقد ذَكرَها الحافظ ابن حجر (2) في: " فتح الباري: 1/ 165 " لُغَةً ثالثة، ويظهر أَنها من فائت المعاجم اللسانية المنتشرة في أَيدي الناس اليوم.
أَما عين المضارع: " يفقُهُ " فعينه مُثَنَّاةٌ بالفتح، والضم، فقط ومصدره: " الفقه " سماعي غير مقيس وتدور معانيه، وما تصرف منه على معنيين اثنين: " العلم "
__________
(1) انظر مادة " فقه " من كتب اللغة: معجم ابن فارس، واللسان، والقاموس.
(2) ابن حجر العسقلاني، المتوفى سنة (852 هـ) - رحمه الله تعالى - نسبة إلى " حجر قوم تسكن الجنوب " بخلاف: ابن حجر الهيتمي، فهو نسبة على ما قيل إلى جد من أجداده، كان ملازماَ للصمت تشبيها له بالحجر هكذا في: " جلاء العينين: 5127 وانظره مبسوطا في كتاب: " ابن حجر العسقلاني ": ص/ 7- 72 لشاكر عبد المنعم وفهرس الفهارس: 1/ 321
وابن حجر " أيضاَ تقرأ طردا أو عكساَ وفي قولهم: " رجح نبأ ابن حجر أي: " رجح بنا ابن حجر " كقول الله تعالى: (كل في فلك)
(1/38)
 
 
و " الفهم "، وجانب " الفهم " فيه أَخص من جانب " العلم ".
زاد الزمخشري معنىً ثالثاً هو الشق والفتح (1) ، وتبِعه ابن الأَثير (2) ، وهذا مطرد في قواعد اللسان العربي والقاعدة هنا: أَن كل لفظ في العربية، صارت فاؤه فاءً، وعينه قافاً، فإنه يَدُلُّ على هذا المعنى، مثل: " فقه " و " فقا " و " فقح " و " فقز " و " فقس " و " فقع " وغيرها.
ويكون إطلاق الفقيه على العالم بهذا المعنى، باعتبار أَنه يشق الأَحكام، ويفتح المستغلق منها.
2- ماهية: " الفقه " شرعاً:
وإذا وقفت على حقيقة هذه المادة في لسان العرب: " الفقه " فاعلم أَنه بمعناه الشرعي من الأَلفاظ الإسلامية التي لا يعرف إِطلاقها قبل الإسلام، بمعنى: " أَن لفظ فقيه، وعالم: لمن فقه وفهم في دين الإسلام وأَحكامه " ونظائره كثيرة من " تطور الدلالات " في: الأَسباب الإسلامية، والحقائق الشرعية، لأَلْفَاظٍ جَمَّةٍ، لم يعهد إِطلاقها على تلك المعاني قبل مجيء الإسلام، منها هذا اللفظ، ولفظ: " الأَدب، والمنافق، والفاسق، والعقيدة " ونحوها كثير وبخاصة في الألفاظ التي تطلق على الشعائر الدينية
__________
(1) الفائق: 3/ 134
(2) النهاية في غريب الحديث
(1/39)
 
 
ثم تطورت تلك الأَلفاظ، ونحوها منذ ظهور الإسلام، بل كان اللفظ الواحد يمر بعدة مراحل ودلالات، منها: لفظ: " التأويل " فهو في لسان المتقدمين بمعنى: " التفسير " وعند كثير من المتأخرين، يرادف معنى: " التحريف " (1)
ومنها لفظ الفقه مع استمرار ارتباطه بأصل معناه اللغوي واشتقاقه، وإليك البيان:
جاءت هذه الكلمة وما تصرف منها في عشرين آية من كتاب الله- تعالى-.
منها قول الله- تعالى-: " فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ " [التوبة/ 122] .
أَي ليكونوا علماء بالدِّين، وأَما في السنة النبوية، فقد كثرت النصوص التي تعني بالفقه: " الفقه في الدّين " كما في الحديث الصحيح في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس- رضي الله عنهما-: " اللهم علِّمه التأويل وفقهه في الدين " وأصله في الصحيحين
أَي: علمه وفهمه تأويله، وقد صار- رضي الله عنه- كذلك؛ لذا لقب: " بِحَبْرِ الأمة " و " تُرْجُمَانِ القرآن "
__________
(1) الفتاوى: 3/165 - 166، 4/ 68 - 75، وفي مواضع أخرى وانظر الصواعق المرسلة لابن القيم
(1/40)
 
 
من هنا غلبَ هذا اللفظ: " الفقه " على: " عِلم الدِّين " ويُقال: " الفقه في الشريعة " ويُقال: " علم الشريعة " وذلك؛ لشرفه.
وهذا كما غَلَب اسم: " النجم " على: " الثُّرَيا ".
ولهذا فإِذا رأيت في كلام الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين هذه الكلمة: " فِقْه " و " فقيه " و " فقه في الدِّين " و " أَهل الفقه "، و " فقهاء المسلمين " و " فقهاء أَهل الأَرض " و " الشريعة " و " علماء الشريعة " و " الدين " و " علماء الدِّين " بمعنى " علماء الإسلام " فجميعها على هذا المعنى العام الشامل الذي ينتظم: العلم والفهم في دين الإسلام، في أيٍّ مِنْ أَحكامه: في الاعتقاد، والآداب، والأَحكام لأَفعال العبيد.
وهذه الحقيقة الشرعية لكلمة: " فِقْه " و " فقيه " مرتبطة بالحقيقة اللغوية لها بجامعِ: العلم والفهم.
3- الفقه الأكبر (1) :
ومما يدل على شمولية لفظ: " الفقه " لِعِلْم الدين في هذه الحقبة الزمنية المباركة، إِطلاق أَبي حنيفة. ت سنة (150هـ) - رحمه الله تعالى- على: " التوحيد ": " الفقه الأَكبر " وهو أَول من أَطلقَ ذلك في الإسلام؛ إِذ جعله عنوان كتابه فيه، وقد طُبعَ بهذا الاسم، وله عدة شروح، وتكلم الناس في نسبته إِليه، والذي عليه الأَكثر صحة نسبته إليه ثم تلاه كتاب للإمام الشافعي. ت سنة (204 هـ) - رحمه الله
__________
(1) هذا البحث مبسوط في كتاب: " مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للشيخ عثمان جمعة. ص/ 75- 84
(1/41)
 
 
تعالى- بهذا الاسم: " الفقه الأَكبر " وهو في مسائل الاعتقاد والتوحيد وقد طبع عام 1900م وقد تكلَّم الناس في نسبته إِليه؟
ولم يحصل لي التحرير عن نسبة الكتابين، ولعلّي أَتمكن من ذلك في كتاب: " معجم المؤلفات المنحولة ".
4- لقب: " القُرَّاء ":
قال ابن خلدون. ت سنة (808 هـ) في: " الفصل الثالث عشر " من: " الباب السادس " في: " المقدمة: 2/ 128 ":
" ثم إِن الصحابة كلهم لم يكونوا أَهل فتيا، ولا كان الدِّين يؤخذ من جميعهم، وإنما كان ذلك مختصًّا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه، ومحكمه، وسائر دلالته، بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم أَو ممن سمعه منهم من عِلْيتهم، وكانوا يسمون لذلك: " القرَّاء " أَي: الذين يقرؤون الكتاب؛ لأَن العرب كانوا أمة أُميّة، فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم؛ لغرابته يومئذٍ، وبقي الأَمر كذلك صدر الملة " انتهى.
فهذا من ابن خلدون، يفيد تلقيب العلماء بالقراء، وواضح من سياقه أَمران:
الأَول: أَنه يطلق على الذين يقرؤون القرآن، ويفقهون معانيه، ويعرفون أَحكامه، ودلالاته، حتى تأهلوا للفتيا.
الثاني: أنه لقب شريف يطلق عليهم، لا أنهم لا يُعْرَفُوْنَ إلا بهذا اللقب
(1/42)
 
 
وقد تُعُقِّب (1) في جعله: " اسم القُرَّاء مقابلاً لاسم الفقهاء؛ محتجاً عليه بأَثر ابن مسعود- رضي الله عنه-: " إنَّك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه ... إلى أَن قال: وسيأتي على الناس زمان: قليل فقهاؤه، كثير قراؤه ... " رواه مالك في " الموطأ " برقم/ 91 ص/ 124.
وهذا مِمَّا لا يوافق عليه، للأمرين المذكورين؛ ولأَن القرَّاء في الِإطلاق المذكور هم الذين جمعوا بين قراءة القرآن وفقهه، وسيأتي زمان يكثر فيه: " القراء " الذين لا فقه لهم، فيكون اسم: " القراء " من المشترك اللفظي، وهذا كثير في اللغة والاصطلاح.
والأَصل: أن الكلام إذا قاله صاحب الاستقراء، فإنَّه يُسلم له بدليله، وإِن أَطلقه بلا دليل صار في دائرة الإمكان ولا نبادره بالإنكار، كيف وحمل كلامه على الصحة ظاهر كما رأيَت؟ والله أَعلم.
5- ماهية: " الفقه " اصطلاحًا:
مضت الحال والناس على تبادل لفظ " الفقه " ولواحقه على:
" الحقيقة الشرعية " المتقدمة، ومن المؤكَّدِ أَن الأَئمة الأَربعة، مضوا لسبيلهم، وهم لا يعرفون غير هذا، وأَن الاصطلاح الحادث بِقَصْرِ مَعْنى الفقه على: " أَحكام المكلفين " لم يتكون إلَّا بعد أَن أَخذت اجتهاداتهم في النمو وأَخَذَ أَتباع كل مذهب بِتَطْويْرها، والعِنَاية بها، ونشرها، فصارت اجتهادات كل إمام في " مذهب فقهي فروعي " وماهيته الشرعية التي اصطلحوا عليها، وقصروا معناه عند الإطلاق
__________
(1) تاريخ التشريع الإسلامي للأشقر ص/140
(1/43)
 
 
عليها، هي:
كما روى الخطيب البغدادي. ت سنة (463 هـ) عن أَبي إِسحاق إِبراهيم بن علي الفقيه الفيروزآبادي يقول:
" الفقه: معرفة الأَحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد " والأَحكام الشرعية هي:
الواجب، والمندوب، والمباح، والمحظور والمكروه، والصحيح، والباطل ... " انتهى.
والتعريف الجامع له بهذا الاعتبار أن يقال الفقه هو " العلم بالأَحكام الشرعية العملية من أَدلتها التفصيلية ".
وصار إِذا أطلق لفظ: " الفقه " و " الفقيه " و " علم الفقه " من هذه المرحلة من أَواخر القرن الرابع فما بعد إلى يومنا هذا إِنما تعني الفقه بحقيقته الاصطلاحية الخاصة هذه، لا بحقيقته الشرعية النصية العامة، والله أَعلم.
(1/44)
 
 
المبحث الثالث: أنواع الفقه المدوَّن في كل مذهب
هذا مبحث نفيس في غاية الأهمية، تَمَّ لِي- بعد توفيق الله تعالى- بالتأمل، والتتبع والاستقراء؛ ذلك أن الفقه المدوَّن في كل مذهب يدور في خمسه أنواع:
النوع الأَول: أَحكام التوحيد، وأصول هذا الدِّين العَقدية في توحيد الله في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته. والإيمان الجامع بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، إلى آخر قضايا الاعتقاد، وأصول الدين والملة.
فهذا النوع لا يصح أن يُقال فيه: مذهب فلان كذا، ولا الأخذ به مقلداً له فيه؛ لأنها أحكام قطعية لعموم الأمة، معلومة منه بالضرورة (1)
__________
(1) غَلِطَ من ألَّفَ في: " التوحيد " من نصوص الكتاب والسنة، بما جرى عليه الصحابة - رضي الله عنهم- فمن بعدهم من سَلَفِ هذه الأمة، ثم سَمى مؤلفه في: " العقيدة الإسلامية " و " التوحيد " بقوله: " عقيدتنا " أو " عقيدة فلان " لأنه لا اختصاص لأحد فيها، بل هي " العقيدة الإسلامية " التي أجمع عليها سلف الأمة وصالحها، وفلان من الأئمة مبلغ لها. نَعَمْ إذا ألف مخالف لها، صَحَّ أن يقصرها على نفسه من تابع أو متبوع، لأنها ليست " العقيدة الإسلامية " بصفائها، بَلْ لَوْ سَمَّاها: " العقيدة الإسلامية " وفيها ما فيها من مخالفات، لكانت تسمية ينازع فيها؛ لما فيها من التدليس واللبس. وانظر " الفتاوى: 3/ 169، 219،415 " وأما من كتب في: " العقيدة الإسلامية " وسَماها: " مفاهيم " فهو غلط من وجهين، الوجه المذكور والثاني: أن أسس العقيدة ليست مفاهيم، بل هي نصوص قطعية الدلالة كقطعيتها في الثبوت. والله أعلم
(1/45)
 
 
وله أَلقاب منها: " التوحيد " " الاعتقاد " " السنة ". " الشريعة ". " الأصول ". " الأَصل ". " أصول الدِّين ". " الفقه الأَكبر ".
وهو علم قائم بنفسه، أفردت فيه المؤلفات الكثيرة. وربما أدرجت أصوله في بعض كتب الفقه الفروعية، كما عمل ابن أَبي زيد القيرواني المالكي في: " الرسالة ". والهاشمي الحنبلي. ت سنة (428 هـ) في: " الِإرشاد ".
ولم يختلف المسلمون- ولله الحمد- من الصحابة- رضي الله عنهم- فمن سار على نهجهم في شيء من أمور العقيدة إلاَّ في " مسألة واحدة " هي: " مسألة اللفظ " كما استقرأه ابن قتيبة- رحمه الله تعالى- وَبينه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- في مواضع (1) وهم لا يختلفون بأن كلام الله غير مخلوق وأنهم بريئون من الأَقوال المبتدعة.
ولم يختلف المسلمون - ولله الحمد - في تفسير آية من آيات الصفات إلا في آية الساق، ثم اتفقوا على تفسيرها بما فَسَّرها به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ثم يكشف ربنا عن ساقه " (2) .
وأَمَّا غلط بعض العلماء في تفسير بعض الآيات إِضافة إلى نصوص إِثبات بعض الصفات، فقد حصل هذا في مواضع، كما في تفسير قول الله- تعالى-: "وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ" [البقرة/115] إذ جعلوها من آيات الصفات، وليس كذلك،
__________
(1) الفتاوى: 7/ 660، 12/ 333 - 334
(2) انظر التحذير لراقمه ففيه خلاصة ما قيل في تفسير هذه الآية الكريمة.
(1/46)
 
 
فمعناها كما قال مجاهد، والشافعي: " فَثَم قبلة الله " وصفة الوجه ثابتة لله- سبحانه- في آيات، وأَحاديث أُخر (1) والله أَعلم.
النوع الثاني: أَحكام فقهية (2) قطعية، بِنَصّ من كتاب، أَو سنة، أَو إجماع سالم من معارض مثل وجوب أَركان الإسلام، وتحريم الربا، والزنا، والخمر، والسرقة. وهكذا.
فهذه أَحكام شرعية عامة لجميع الأمة، معلومة من الدين بالضرورة، فلا يختص بها مذهب دون آخر، ولا فقيه دون فقيه، ولا يوصف الحكم فيها بأَنه مذهب فلان، ولا أَن الآخذ بها مقلد له فيها.
ألا ترى أَنه لو قال قائل: مذهب فلان وجوب الصلاة، أو الزكاة، ونحو ذلك، لكان قولاً يمجه السمع، وينفر منه الطبع، ويأباه الله، ورسوله، والمؤمنون؛ لأَنه حكم شرعي عام، معلوم من دين الله بالضرورة.
النوع الثالث: أَحكام فقهية اجتهادية عن إمام المذهب، بطريق: " الروايات المطلقة " أَو " التنبيهات " وما في ذلك من تقاسيم باعتبارات مبينة في
__________
(1) الفتاوى: 6/ 15- 23، 3/ 229 - 230
(2) بينت في: " معجم المناهي اللفظية الغلط في تقسيم الأحكام إلى أصول وفروع، وأن هذه نفثة اعتزالية، وأنه ليس هناك حد فاصل لدى من قال بالتقسيم، فليراجع.
(1/47)
 
 
" الفصل الأول " من " المدخل الخامس ".
فهذه الأَحكام التي توصل إِليها هذا الإمام مستنبطاً لها من نصوص الوحيين الشريفين، باذلاً وسعه، موظفاَ ما منحه الله من مدارك الاجتهاد والنظر هي: " مذهبه " وهي " اختياره " وهي: " قوله ورأيه ".
وهذا هو النوع الأم الذي يُوصف بأَنه المذهب، من غير تجوز، فصح إطلاقنا عليه: " المذهب حقيقة " وقد حوى مذهب الإمام أَحمد من فقهه هذا عددا غير قليل من كتب المسائل والرواية المسندة عنه التي حوت نحو ستين أَلف مسألة.
وله في المسألة رواية واحدة، وقد يكون له روايتان، وقد يكون له ثلاث روايات فأكثر.
وعند التعدد، يكون نظر الأصحاب في مسالك الترجيح والاختيار، كما ستراه- إِن شاء الله- في: " الفصل الثالث " من " المدخل السابع "
النوع الرابع: أَحكام فقهية اجتهادية، من عمل الأصحاب تخريجاً على المذهب، وهي: " التخريجات ". وهي ما صح أن نطلق عليه: " المذهب اصطلاحًا". وهذه: " التخاريج " وقع فيها الاختلاف بين الأصحاب، فهذا
(1/48)
 
 
يخرج الحكم بالجواز وآخر يخرجه بالكراهة، أَو التحريم، وهكذا، ثم اختلفوا: هل اجتهادات الأَصحاب هذه، الجارية على أصول وقواعد مذهب الإمام، تلحق بمذهبه، فتنسب إِليه، أَو لا؟
هذا النوع بمسائله مبين في: " الفصل الثاني " من " المدخل السابع "
النوع الخامس: أَحكام فقهية اجتهادية من عمل الأَصحاب من باب اجتهاداتهم في استنباط الأَحكام دون الارتباط بالتخريج على المذهب.
وهذه موجودة في كل مذهب، يدرجها الفقيه في كتاب المذهب بحكم ما يرد في عصره من واقعات، قد لا يجد لها تخريجاً في المذهب، فيجتهد في استنباط الحكم من أصول الشريعة، أو مقايسته بما هو أشبه به من فروع الشريعة، فيدرجه في مؤلفه من كتب ذلك المذهب ومنه ما يكون غلطا مضاعفاَ؛ إِذ يغلط المستفيد فيلحقه بالمذهب رواية، أو تخريجاً، ويغلط المستنبط فلا يصح له ما استنبطه.
ولذا عقد الشيخ ابن قاسم- رحمه الله تعالى- في مقدمة حاشيته على: " الروض المربع " فائدةً هذا نصها:
" كتب المتأخرين: " وقال مجدد الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: أكثر ما في الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه، فضلاً عن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرف ذلك من- عرفه،
(1/49)
 
 
وقال نحو ذلك في كتب المتأخرين من أهل المذاهب. ولشيخ الإسلام عن أهل عصره نحو ذلك. فكيف بكتب عصرنا "
" وقال ابن القيم: المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة، ويبنونها على ما لم يكن لأَصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثم يلزمهم من طرد لوازم لا يقول بها الأَئمة، فمنهم من يطردها ويلزم القول بها، ويضيف ذلك إلى الأَئمة، وهم لا يقولون به؛ فيروج بين الناس بجاه الأَئمة، ويفتى به، ويحكم به والإمام لم يقله قط بل يكون نص على خلافه.
وقال: لا يحل أن ينسب إلى إمامه القول، ويطلق عليه أنه قول، بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها، أو طالعها من كلام المنتسبين إليه، فإنه قد اختلطت أقوال الأَئمة وفتاويهم، بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم منصوصاً عن الأَئمة، بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منه لا نص لهم فيه، وكثير منهم يخرج على فتاويهم، وكثير منهم أفتوا به بلفظه، أو بمعناه، فلا يحل لأَحد أن يقول: هذا قول فلان ومذهبه، إلا أن يعلم يقيناَ أنه قوله ومذهبه. ا. هـ
وإذا تتبع المنصف تلك الكتب، واستقرأ حال تلك الأتباع، وعرضها على الكتاب والسنة، وعلى أصول الأَئمة، وما صح عنهم، وجدها كما قالوا رحمهم الله. وقد يؤصِّل أتباعهم ويفصِّلون على ما هو عن مذاهب أئمتهم الصحيحة بمعزل، يعرف ذلك من كان خبيراً
(1/50)
 
 
بأصولهم ونصوصهم، ومع ذلك، عند بعضهم: كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، لا يلتفت إلى ما سواه، ولو جاءته الحجة كالشمس في رابعة النهار " انتهى.
ومن أَمثلته في كتب الحنابلة: تقرير بعض الحنابلة للتأذين الجماعي في المسجد الواحد، كما في: " الِإنصاف " ولا سلف له في الرواية عن الإمام.
وتقرير كثير من الحنابلة: للذِّكْر عند كل عضو من أعضاء الوضوء، مع أنه لا يصح فيه حديث، ولا يثبت عن أحد من الأَئمة الأَربعة. كما في: " الِإنصاف: 1/ 137- 138 ".
وفيه تقرير بعض الأصحاب مسح العنق في الوضوء، ولا يصح فيه حديث، ولم تثبت به الرواية عن الإمام أحمد.
وفيه: 1/413 استحباب بعض الأَصحاب أَن يقول في آخر القنوت: " وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ... " الآية. ولا دليل عليه. ولم يكن في الرواية عن أحمد.
وتقرير بعض الأَصحاب مشروعية شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر " كتاب الحج " فلا رواية في هذا عن الإمام أحمد، ولا يخرج على مذهبه، وإنما هو تفقه الصاحب، وهو غلط، يرده حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إِلا إلى ثلاثة مساجده ... " الحديث
ومنه قولهم في: " كتاب الوقف " بنفوذ الوقف على بعض الأمور المبتدعة، مثل الوقف على بناء القباب وتشييد المشاهد عليها وهذا
(1/51)
 
 
لا رواية فيه عن أحمد، ولا يُخَرَّجُ على شيء من مذهبه، وهو ترك للسنة الصحيحة في النهي عن البناء على القبور وتشريفها ولابن القيم- رحمه الله تعالى- في: " إِعلام الموقعين " بحث نفيس مطول في إبطال شروط الواقفين غير الشرعية، وأَنها تصرف في الأَقرب لمقصد الواقف من المصارف الشرعية.
ومن أمثلته: تلك المسألة التي عُدَّت من مفردات الحنابلة، وطالت فيها مطارحات العلماء، وبلغت المؤلفات فيها مبلغاً، كما تراها في: " كتب الصيام " من: " المدخل الثامن " هي مسألة: " وجوب صيام يوم الشك " فليس الوجوب رواية عن أحمد، ولا هو قياس مذهبه وإنما هو من فقه بعض متقدمي الأَصحاب، ومع كثرة القائلين به منهم، وشهرتهم، وتطاول الزمن، عُدَّ مذهباً لأَحمد، وصوابه: أنه من فقه بعض الأَصحاب، كما نبَه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- وغيره.
ولهذا فعليك أيها الفقيه: التثبت والتورع عند نِسْبةِ الأقوال في المذاهب المتبوعة، فتأمل متى تقول في مَسْألة ما: هي مذهب أحمد، أو الرواية عن أحمد، أو رواية في مذهبه، أو تخريج عليه، أو من تخريج فلان وفلان على مذهبه، أو قياس المذهب، أو مذهب الحنابلة، وهكذا من الأَلفاظ المصطلح عليها، مراداً بها ما تعنيه من عزو وتخريج. والله أعلم.
(1/52)
 
 
المبحث الرابع: تاريخ التمذهب، والحث على فقه الدليل
وأَن الانتساب لمذهب يعني الوفاق، لا العصبية، والشقاق
كان أَمر الناس جارياً على السَّلامة والسَّداد، من الإسلام والسنة، في صدر هذه الأمة، من عصر الصحابة- رضي الله عنهم- إلى غاية القرون المشهود لها بالفضل، والخيرية: الشريعة ظاهرة، والسنة قائمة، والبدع مقموعة، والأَلسن عن الباطل مكفوفة، والعلماء عاملون، ولعلمهم ناشرون، والعامي يستفتي من يثق به وتطمئن إِليه نفسه ممن لقيه من علماء المسلمين، لم يتخذوا من دون الله وَليْجَةَ، ولا إماماً من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا كتاباً غير كتاب الله- تعالى- ولا سنة سوى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، مع كثرة فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم- ومنهم الخلفاء الأَربعة الراشدون، ومع وفرة علماء التابعين، وتابعيهم، وتابعي تابعيهم، وفي العصر الواحد نحو خمسمائة عالم يصلح كل واحد منهم أَن يكون إِماماً يُتمذهب له، ويُقَلَّدُ في قوله ورأيه، لكن يأَبى الله ورسوله، والمؤمنون، أَن يتخذ من شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل والخيرية إماما دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصبونه حاكماَ على السنة والدَّليل، وينزلونه منزلة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم
(1/53)
 
 
وكانت الحال جارية على السَّداد في أَعقاب تلك القرون، وفيها الأَئمة الأَربعة المشهورون، جرت أَحوالهم في ركاب سلفهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم على الخير والهدى، والبِر والتقوى، والعلم ونشره، والفقه وتبليغه، وتنقيح مسائله؛ ولعنايتهم الفائقة، وظهور فضلهم، احتوشهم الطلاَّب، وكثر حولهم الأصحاب، وتنافسوا في جمع أقوالهم، وتصنيفها، وتأصيلها، والتقعيد لها، حتى بلغ أَثَرُ كل منهم مبلغاً، واتُّخِذ مَذْهَبَاً، وَصَاحِبَهُ إماماً
وكان الأصحاب في كَل مذهب مقتصرون على ذلك، ثم أخذ هذا يتقوَّى شيئاً، فشيئاً، حتى تمكنت من النفوس عوامل العصبية، والانتصار والحمية، والتنافس في المذهبية، وَمِن هُنَا انعقدت آصرة التعصب المذهبي، وبلغت إلى بلاط الولاة، وقام سوقها في الدروس والِإجازات، وتطوير المذهب بالتخريج إلى إمام الواقعات، والمستجدات، فصار أهل السنة إلى هذه المذاهب الأَربعة المشهورة، درساً، وتدريساً، وقراءة، وإقراء، وكتابة، وتأليفاً، وقضاء، وفتياً، وعلماً، وعملاً، وصار لها من القبول والانتشار، ما بلغ مبلغ الليل والنهار، وانصرف الناس إِليها كالعنق الواحد، فآلَ جُلّ الخليقة من المسلمين إلى قسمين اثنين:
القسم الأَول: منتسب إلى ذلك الإمام، اتَّخذه مستدلا واقتنى كتب مذهبه، لمعرفة استدلاله، ثم عرضها على الوحيين الشريفين، فما كان مؤيداً بالدليل، أخذ به، ومَا لاَ فَلاَ، مع الولاء لكل عالم من علماء أهل السنة، والاستفادة من فقههم، وحسن أثرهم، ودَعَا إلى
(1/54)
 
 
الوفاق، ونبذ أَسباب الشقاق، وعقد لاختلافهم " مجلس المناظرة والشورى " إلى الأَدلة الشرعية، وفي عُقْدَةِ رأيه: التَّسْلِيْمُ لِلدَّليل، وَلمَا قَامَ على ترجيحه الدليل
القسم الثاني: متَعَصِّبٌ ذَمِيم أَخْلَدَ إلى حضيض التقليد، ولم يَدْرِ ما يُبدئ في الفقه، وما يعيد، هَجَرَ القرآن، والسُّنة، والقدوة بصاحب هذه الرسالة صلى الله عليه وسلم، وَنَصَبَ إِمَامَهُ غير المعصوم مَحِلَّ النبي المعصوم، فجعله الواسطة بينه، وبين رَبّه، فلا يدين بدليل، ولا تعليل سليم، وجعل: " المتن في المذهب " له قرآنًا، وشُروحه " له سنة وَتِبْيَانًا، فالحق عنده ما قاله، أَو استروحه هو من مذهب إمامه، وإن خالف الدليل، لقد هجر هذا الفريق القرآن، واتخذوه لِلرّقي والسلوان وعدلوا عن السنة وجعلوها للتبرك وقضاء الأَزمان، وأَوجدوا الشقاق! وتشقيق الأمة حتى بلغ الحال إِلى أَن الحنفي المتعصب لا يصلي خلف الشافعي، ولا يزوجه، وأَنه بمنزلة الذمي. وبهذا يظهر فساد قول أَبي الحسن الكرخي من الحنفية:
(كل آية تخالف ما عليه أَصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ) .
وبطلان قول من أَبصر أَنوار الدليل فلم تنفتح لها بصيرته لتعصبه المذهبي فقال:
(لم أخالفه حيُّا فلا أخالفه ميتاً)
وقول بعضهم:
فلعنة ربنا أعداد رمل ... على من رد قول أبي حنيفة
(1/55)
 
 
وقول قاضي دمشق محمد بن موسى الباساغوني الحنفي. ت سنة (506) هـ: " لو كانِ لي أمر لأَخذتُ الجزية من الشافعية " انتهى من ترجمته في. " ميزان الاعتدال ".
وقول القاضي عياض- رحمه الله تعالى- مع جلالته:
ومالك المرتضى لا شك أَفضلهم ... إِمام دار الهدى والوحي والسنن
وقول محمد بن إبراهيم البوشنجي- رحمه الله تعالى:
وإنِّي حياتي شافعي فإِن أَمت ... فتوصيتي بعدي بأَن يتشفعوا
وقول أبي إسماعيل الأنصَاري الهروي- رحمه الله تعالى -:
أَنا حنبليٌّ ما حييت واِن أَمت ... فوصيتي للناس أَن يتحنبلوا (1)
والمنصف يلتزم قول الإمام مالك- رحمه الله تعالى-: (ما منا إلَّا مَن رَدَّ أَوْ رُدَّ عليه إلَّا صاحب هذا القبر) وأَشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم
وقال الصاوي في " حاشيته على الجلالين " عند قول الله- تعالى-: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الآية: الكهف/ 23، 24] .
(ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأَربعة، ولو وافق قول الصحابة، والحديث الصحيح، والآية، فالخارج عن المذاهب الأَربعة، ضال مضل، وربما أَدَّاه ذلك للكفر، لأَن الأَخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر) انتهى بلفظه.
__________
(1) السير للذهبي 18/ 507 والظاهر من قول الهروي أنه يريد من حيث نصرة السُّنة ومكاسرة الإمام أحمد - رحمه الله - للمبتدعة، فيكون إذاً واقعا موقعه.
(1/56)
 
 
وهذا القول الشنيع، قد نقله شيخنا الأَمين- رحمه الله تعالى- في: (أَضواء