مختصر التحرير شرح الكوكب المنير 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: شرح الكوكب المنير
المؤلف: تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المعروف بابن النجار الحنبلي (المتوفى: 972هـ)
عدد الأجزاء: 4
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهده مقدمة موجزة، وعاجلة مختصرة، تنظم تعريفاً بالشيخ العلامة تقي الدين ابن النجار الحنبلي وكتابه "شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير" في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كما تناول بياناً لعملنا ومنهجنا في تحقيقه.
المؤلف: أما المؤلف فهو الفقيه الحنبلي الثبت، والأصولي اللغوي المتقن، العلامة، قاضي القضاة تقي الدين، أبو البقاء، محمد بن شهاب الدين أحمد بن عبد العزيز بن على الفتوحي المصري الحنبلي، الشهير بابن النجار.
ولد بمصر سنة 898هـ ونشأ بها وأخذ العلم عن والده شيخ الإسلام وقاضي القضاة، وعن كبار علماء عصره.. وقد تبحر في العلوم الشرعية وما يتعلق بها، وبرع في فَنّي الفقه والأصول، وانتهت إليه الرياسة في مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل، حتى قال عنه ابن بدران: "كان منفرداً في علم المذهب".
وقد كان صالحاً تقياً عفيفاً زاهداً معرضاً عن الدنيا وزينتها. مهتماً بالآخرة وصالح الأعمال، لا يشغل شيئاً من وقته في غير طاعة.. ومن هنا كانت حياته كلها تعَلُّمٌ وتعليم وإفتاء وتصنيف، مع جلوسه في إيوان الحنابلة للقضاء وفصل الخصومات.. ويحكى عنه أنه لم يقبل ولاية القضاء إلا بعد أن أشارَ عليه كثير من علماء عصره بوجوب قبولها وتعَيُّنِهِ عليه، وبعدما سأله الناس إياها وألحّوا عليها في قبولها، وقد كان خلفاً لوالده في الإفتاء والقضاء بالديار المصرية. وحج قبل بلوغه عندما كان بصحبة والده في الحج، ثم حج حجة الفريضة في عام 955هـ على غاية من التقشف والتقليل من زينة الدنيا، وعاد مكبَاً على ما هو بصدده من الفتيا والتدريس لانفراده بذلك.
(1/5)
 
 
قال الشعراني: "صحبته أربعين سنة، فما رأيت عليه ما يشينه في دينه، بل نشأ في عفة وصيانة وعلم وأدب وديانة، وما رأيت أحداً أحلى منطقاً منه، ولا أكثر أدباً مع جليسه منه، حتى يودّ أنه لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً".
وبالجملة، فلم يكن هناك من يضاهيه في زمانه في مذهبه، ولا من يماثله في منصبه، وهو الإمام البارع في الفقه الحنبلي وأصوله، وصاحب اليد الطولى والباع الكبير في تحرير الفتاوى وتهذيب الأحكام، وقد ظل مكبّاً على العلم، ينهل من معينه، ويدرس ويصنف ويفتي مذهب الإمام أحمد ويحرره إلى أن أتاه المرض الأخير الذي وافته المنية فيه، وذلك عصْر يوم الجمعة الثامن عشر من صفر سنة 972هـ، فصلى عليه ولده موفق الدين بالجامع الأزهر، ودفنه بقرافة المجاورين.
أما مصنفاته، فأشهرها كتاب "منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح والزيادات" في فروع الفقه الحنبلي، وهو عمدة المتأخرين في المذهب، وعليه الفتوى فيما بينهم، إذ حرر مسائله على الراجح والمعتمد من المذهب، وفد اشتغل به عامة طلبة الحنابلة في عصره، واقتصروا عليه.. ثم شرحه شرحا مفيداً يقع في ثلاثة مجلدات، أحسن فيه وأجاد، وكان غالب استمداده فيه من كتاب "الفروع" لابن مفلح، وقد طبع هذا الكتاب طبعة علمية مدققة بتحقيق الأستاذ الشيخ عبد الغني محمد بن عبد الخالق جزاه الله خير، ومن أبرز شروح المنتهى وأجودها شرح العلامة منصور بن يونس البهوتي المتوفى سنة 1051هـ، شيخ الحنابلة في عصره، وذلك في ثلاث مجلدات كبار، وهو مطبوع مشهور متداول.
وأما في أصول الفقه، فله كتاب "الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير" ذكر أنه اختصره من كتاب "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" للقاضي علاء الدين على بن سليمان بن أحمد المرداوي المقدسي المتوفى سنة 885هـ، محرر أصول المذهب وفروعه، قال الفتوحي: "وإنما وقع اختياري على اختصار هذا الكتاب دون بقية كتب هذا الفن، لأنه جامع لأكثر أحكامه، حاو لقواعده وضوابطه وأقسامه، قد اجتهد مؤلفه في تحرير نقوله وتهذيب أصوله".
وقد ضمَّ هذا المختصر مسائل أصله، مما قدَّمه المرداوي من الأقوال، أو كان
(1/6)
 
 
عليه الأكثر من الأصحاب، دون ذكر لبقية الأقوال إلا لفائدة تقتضي ذلك وتدعو إليه، وكان اصطلاحه فيه أنه متى قال "في وجه" فإنما يعني ان القول المقدم والمعتمد هو غيره، ومتى قال "في قول" أو "على قول" فمعناه أن الخلاف قد قوي في المسألة، أو اختلف الترجيح دون مصرح بالتصحيح لأحد القولين أو الأقوال.
ثم شرح ابن النجار مختصره شرحا قيماً نفيساً مساه بـ "المختبر المبتكر شرح المختصر" وهو الكتاب الذي بين يديكم.
أما الكتب التي ترجمت لهذا الإمام الجليل، فهي قليلة جداً، إذ لم يترجم له العيدروس في "النور السافر في أعيان القرن العاشر" ولا الغزي في "الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة" ولا الشوكاني في "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" ولا ابن العماد في "شذرات الذهب في أخبار من ذهب".. وإننا لم نعثر على ترجمة له إلا في كتاب "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" لابن حميد وكتاب "مختصر طبقات الحنابلة" للشيخ جميل الشطي، وقد وجدنا نتفاً من ترجمته في "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" لعبد القادر بدران وفي "الأعلام" لخير الدين الزركلي، وفي "معجم المؤلفين" لعمر رضا كحالة، ولكنها في غاية الاختصار.
الكتاب: وكتاب "شرح الكوكب المنير" الذي نقدمه اليوم كتاب علمي قيم نفيس، حوى قواعد علم الأصول ومسائله ومعاقد فصوله بأسلوب سلس رصين، لا تعقيد فيه ولا غموض في الجملة.. وقد جمع المصنف مادته ونقوله من مئات المجلدات والأسفار، كما يتبين لمطالِعِهِ ودارسه..
وعلى العموم، فالكتاب زاخر بالقواعد والفوائد الأصولية، والمسائل والفروع الفقهية واللغوية والبلاغية والمنطقية، ومادته العلمية غزيرة جداً، إذ اطّلع مصنفه قبل تأليفه على أكثر كتب هذا الفن وما يتعلق به، وأفاد منها، ونقل عن كثير منها.
أما سلاسة الكتاب وحلاوة أسلوبه وجلاء عرضه. فإن كل بحث من بحوثه لينطق بها، حتى أن المتن قد اندمج بالشرح، فلا تكاد تحس بينهما فرقاً، وإنك لا تجد بينهما إلا التواصل التآلف.. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن صاحب المتن
(1/7)
 
 
هو نفس الشارح لا غيره.. ومن هنا انضم الشرح إلى المتن وانسجما وسارا في طريق واحد وعلى نسق واحدة وبروح واحدة، حتى إننا حذفنا الأقواس التي تميز الشرح عن متنه، لما شعرنا أنَّ هناك شرحاً ومتناً. كما هي عادة الشروح مع المتون ... ولجزمنا أنَّ الكتاب كله قطعة واحدة، نُسجت نسجاً دقيقاً، وأحْكمت إحكاما فائقاً، ولا يخفى ما في ذلك من دلالة على تمكن مؤلفه في العلم، وعلو شأنه فيه، وبراعته في التصنيف، وإطلاعه الواسع على أكثر الكتابات السابقة له في هذا الفن، واستفادته منها استفادة الناقد البصير الواعي.. وربما ساعده على بلوغ هذا المقام تأخر زمانه، حيث كانت العلوم ناضجة في عصره وقبل عصره، بالإضافة إلى ما وفقه الله إليه من العلم، وما منحه إياه من الفهم والتحقيق.
وهذا الكتاب الذي نذكره قد سبق إلى نشره الأول مرة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله تعالى حيث قام بطبعه بمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1372هـ/ 1953م عن نسخة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية الأسبق رحمه الله تعالى، ولكن هذه النسخة كانت مخرومة خرماً كبيراً يبلغ ثلث الكتاب، فطبعت على حالها، ثم قُدِّرَ الشيخ الفقي أن يطلع على نسخة مخطوطة أخرى للكتاب في المكتبة الأزهرية بالقاهرة، فطبع القدر الناقص عنها، أكمل الكتاب، فجزاه الله كل خير.
وبعد الاطلاع على الطبعة المذكورة ودراستها تبين لنا أنها مشحونة بالأخطاء والتصحيفات والخروم في أكثر من خمسة آلاف موضع، مما يجعل الاستفادة منها وهي بهذه الحالة غير ممكنة.. لهذا كان لابد من تحقيق الكتاب تحقيقاً علمياً على أصوله المخطوطة، حيث إن تلك الطبعة لا تغني عن ذلك شيئاً.. وقد يظن بعض الناس أنَّ في كلامنا هذا شيئاً من المبالغة، ولكنهم لو قارنوا بين تلك الطبعة وبين طبعتنا، أو نظروا في هوامش كتابنا –حيث أشرنا فيها إلى فروق وخروم الطبعة الأولى- لعلموا مبلغ الدقة في هذا الكلام.
ومن طريف ما يذكر أن الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري قد اطلع على طبعة الشيخ الفقي كما اطلع على نسخة مخطوطة للكتاب وقعت تحت يده في مكتبة خاصة بخط عبد الحي بن عبد الرحيم الحنبلي الكرمي نسخت سنة 1137هـ، وكتب
(1/8)
 
 
عليها أنها مقابلة على نسخة مصححة على خط المؤلف، فقابل المطبوعة عليها، فعثر على 2758 غلط في المطبوعة، فطبع بياناً بهذه الأغلاط وتصويبها على الآلة الطابعة، وقد راجعنا ذلك البيان وصورناه من مكتبة الشيخ عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى جزاه الله خيراً، ثم أشرنا في هوامش طبعتنا إلى تلك التصويبات..
من أجل ذلك كانت الحاجة ملحّة إلى تحقيق الكتاب ونشره بصورة علمية أمينة، فضلاً عن احتياج طلبة كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة إليه باعتباره أحد الكتب الدراسية المقررة.
وهذا ما دعا العالمين الغيورين، الدكتور محمد بن سعد الرشيد عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية والدكتور ناصر بن سعد الرشيد رئيس مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة أن يهتما بتحقيق الكتاب ونشره، فنهضا –جزاهما الله خيراً- لجلب أصوله المخطوطة بكل جدّ وإخلاص، ثم كلفانا بتحقيقه ظناً منه أننا من فرسان هذا الميدان، وأصّر علينا بلزوم القيام بهذا العمل، خدمة للعلم وأهله، وحرصاً على الفقه الحنبلي الثمين وأصوله، مع اعتذارنا بضيق الوقت وخطورة العمل وقلة البضاعة..
فشرعنا بتحقيقه مستعينين بالله، معتمدين عليه وحده أن يعيننا على هذه المهمة الكبيرة والأمر الجلل، وسرنا في هذا الطريق حتى أذن الله بكرمه وفضله أن ينتهي إلى صورة قريبة من القبول، بعيدة عن لوم العذول.
أما النسخ التي اعتمد عليها في التحقيق فهي:
1- نسخة مكتبة الأوقاف العامة ببغداد، وتقع في مجلد كبير، كتب بخط معتاد مقروء، ومجموع أوراقها [262] ورقة، ومسطرتها 27 سطراً، وقد تمَّ نسخها يوم الأحد في 6 شوال سنة 1137هـ. على يد إبراهيم بن يحي النابلسي الحنبلي، وهي نسخة جيدة عليها تصحيحات وتصويبات تدل على أنها مقروءة مقابلة مصححة. وهي موجودة في مكتبة أوقاف بغداد برقم 1422/ 4087، وقد رمزنا لها بـ"ب".
2- نسخة المكتبة الأزهرية بالقاهرة، وهي تقع في مجلد كبير، كتب بخط
(1/9)
 
 
معتاد، وعدد أوراقها [147] ورقة، ومسطرتها 40 سطراً تقريباً، ويوجد على هوامشها ما يدل على أنها مقروءة مقابلة مصححة، وقد كتب على صفحة العنوان وعلى آخر صفحات النسخة أنها بخط القاضي برهان مفلح، وليس هذا بصواب لأن القاضي برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح توفى سنة 884هـ، أي قبل ولادة ابن النجار الفتوحي بأربعة عشر عاماً، حيث إنه ولد سنة 898هـ، كما سبق أن أشرنا في ترجمتة، وهذه النسخة محفوظة في المكتبة الأزهرية تحت رقم 387/ 10634، وقد رمزنا لها بـ"ز".
3- نسخة في مكتبة الرياض العامة، ختم عليها "وقف الشيخ محمد بن عبد اللطيف سنة 1381هـ" وتقع في 337 ورقة مسطرتها 26 سطراً، وهي مقابلة مصححة، وقد كتب في آخر صفحاتها أنها نسخت بخط عبد الله الرشيد الفرج سنة 1346هـ، وهي محفوظة في مكتبة الرياض العامة بدخنة تحت رقم 529/ 86، وقد رمزنا لها بـ"ع".
4- نسخة في مكتبة الرياض العامة أيضاً، وتقع في 225 ورقة، مسطرتها 27 سطراً، وقد تم نسخها في يوم الأربعاء 16 من ربيع الثاني سنة 1271هـ، على يد عبد الرحمن بن عبد العزيز بن محمد بن فوزان، وكتب في آخرها: نقل الأصل من خط عبد الحي بن عبد الرحيم الحنبلي وذكر أنه كتبها سنة 1137هـ، وهي نسخة جيدة مصححة أيضاً، ورقمها في مكتبة الرياض العامة 87/ 86، وقد رمزنا لها "ص".
ومما يؤسف له أن كل واحدة من هذه النسخ الأربعة لم تخل من سقط في الكلام وتصحيفات وتحريفات وأخطاء كثيرة، ومن أجل ذلك لم نتمكن من الاعتماد على واحدة منها بعينها واعتبارها أصلاً، ثم مقابلة باقي النسخ عليها كما هو متبع لدى كثير من المحققين، وآثرنا أن نقوم بتحقيق الكتاب على نسخه الأربع معاً على طريقة النص المختار، كما هو منهج فريق من المحققين، بحيث نثبت الصواب من الكلمات والعبارات عن أي نسخة أو نُسَخِ وجد فيها الصواب، ثم نشير في الهامش إلى ما جاء في بقية النسخ..
وقد أفدنا من تصحيحات الشيخ عبد الرحمن الدوسري الآنفة الذكر عن النسخة
(1/10)
 
 
المخطوطة التي وقعت تحت يده من الكتاب، وهي تعتبر الأصل الذي نقلت عنه النسخة "ص"، ولمزيد الفائدة أثبتنا كل ما جاء فيها في هوامش كتابنا عند مخالفتها للنص الموثَّق، ورمزنا لها بـ"د".
ونظراً لعدم عثورنا –مع بذل الوسع والجهد- على النسخة المخطوطة التي طبع عنها الشيخ محمد حامد الفقي، فقد اعتبرنا طبعته نسخة عنها، فقابلناها على نصنا، وذكرنا فروقها وتصحيفاتها وما وقع فيها من الخروم في الهوامش إتماماً للفائدة، ورمزنا لها بـ"ش".
منهاج التحقيق: يتلخص عملنا في تحقيق هذا الكتاب في الأمور التالية:
1- عرض نص الكتاب مصححا مقوماً مقابلاً على النسخ الأربع المخطوطة وعلى تصحيحات الشيخ الدوسري وعلى طبعة الشيخ الفقي. والإشارة في الهوامش إلى فروق النسخ.
2- تخريج الآيات القرآنية.
3- تخريج الأحاديث النبوية.
4- تخريج الشواهد الشعرية.
5- الترجمة للأعلام الوارد ذكرها في الكتاب، بحيث يُترجم للعَلَم عند ذكره أول مرة.
6- تخريج النصوص التي نقلها المؤلف عن غيره من أصولها المطبوعة، والإشارة إلى مكان وجودها فيها مع إثبات الفروق بين ما جاء في كتابنا وبين ما ورد في أصولها إن وجد.
7- الإشارة عند كل مسألة أو قضية أو بحث من بحوث الكتاب إلى المراجع التي استفاد منها المصنف أو استقى، والمراجع التي فيها تفصيل تلك المسائل، ولو لم يطّلع عليها المؤلف، مع بيان أجزائها وأرقام صفحاتها، ليسهل على القارئ أو الباحث التوسع والتعمق فيها إن رغب.
8- التعليق على كل كلمةٍ أو عبارةٍ أو قضية تقتضي شرحاً أو تحتاج إلى إيضاح وبيان، بما يُزيل غموضها، ويُوضح المراد بها، ويكشف عمّا فيها من لَبْس، وقد
(1/11)
 
 
تضمنت بعض هذه التعليقات مناقشة للمصنف فيما اعتمده من آراء أو ساقه من أفكار أو حكاه من أقوال العلماء.. وكان منهجنا في تعليقاتنا على النص –عند النقل عن أي مرجع أو الاستفادة منه- أن تشير إليه مع بيان جزئه ورقم صفحته، ابتغاء الأمانة في النقل، والدقة في العزو، وليتمكن المطالع من مراجعته دون عناء كلما أراد..
9- وقد اقتضى سياق الكلام في بعض المواطن من الكتاب إضافة كلمة أو عبارة لا يتمّ المعنى إلا بها، فأضفناها ووضعناها بين قوسين مربعين [] تمييزاً لها عن نصّ الكتاب، وإشارة إلى أنها قد أضيفت لاقتضاء المقام وداعي الحاجة.
وعلى الرغم مما بذلنا في هذا التحقيق من جهد، وما أفرغنا من وسع، ومحاولين بذلك أن يصل هذا العمل إلى الكمال أو يقرب منه، فلسنا نعرض لما صنعنا بتزكية أو ثناء، اقتداء بسنة السلف الصالح، وتأسياً بقول أبي سليمان الخطابي في ختام مقدمته لـ"تفسير غريب الحديث" حيث يقول:
"فأما سائر ما تكلمنا عليه، فإنّا أحقّاء بألاّ نزكيه وألاّ نؤكد الثقة به، وكل عن عثر منه على حرف أو معنى يجب تغييره، فنحن نناشده الله في إصلاحه وأداء حق النصيحة فيه، فإنَّ الإنسان ضعيف لا يسلم من الخطأ إلا أن يعصمه الله بتوفيقه، ونحن نسأل الله ذلك، ونرغب إليه في دركه، إنه جواد وهوب".
ختاماً نقدم شكرنا إلى كل من أسدى إلينا عوناً خلال عملنا في تحقيق هذا الكتاب، وعلى الخصوص سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، لتكرمه بإعارتنا النسختين المخطوطتين المحفوظتين في المكتبة العامة بالرياض، وفضيلة الدكتور عبد الله التركي، وفضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، لتفضلهما بتقديم النسخة المصورة عن المكتبة الأزهرية بالقاهرة، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن الدوسري لإفادتنا من تصحيحاته وتصويباته.
والله نسأل أن يتقبل عملنا هذا بحسن الجزاء، إنه نعم المولى ونعم الوكيل.
مكة المكرمة في غرة رجب سنة 1398هـ المحققان
(1/12)
 
 
خطبة الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم وَبِهِ نَسْتَعِينُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَعْطَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ عَطَاءً جَمًّا، الْقَدِيمِ الْحَكِيمِ، الَّذِي شَرَعَ الأَحْكَامَ، وَجَعَلَ لَهَا قَوَاعِدَ، وَهَدَى مَنْ شَاءَ لِحِفْظِهَا، وَفَتَحَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ مَا أَغْلَقَ مِنْ الأَدِلَّةِ، وَوَفَّقَهُ لِفَهْمِهَا. وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، الْمُبَيِّنِ لأُمَّتِهِ طُرُقَ الاسْتِدْلالِ، الْمُقْتَدَى بِهِ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ وَفِيمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ مِنْ أَفْعَالٍ وَأَقْوَالٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ نَقَلَةِ الشَّرْعِ، وَتَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ مِنْ حَرَامٍ وَحَلالٍ.
أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ تَعْلِيقَةٌ عَلَى مَا اخْتَصَرْتُهُ مِنْ كِتَابِ "التَّحْرِيرِ" فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ الرَّبَّانِيِّ، وَالصِّدِّيقِ الثَّانِي: أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيِّ1 رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، تَصْنِيفِ الإِمَامِ الْعَلاَّمَةِ عَلاءِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمِرْدَاوِيِّ الْحَنْبَلِيِّ2، عَفَا اللَّهُ تَعَالَى
__________
1 هو الإمام الجليل أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الوائلي، أحد الأئمة الأربعة الأعلام، ولد ببغداد، ونشأ بها، وطلب العلم وسمع الحديث فيها، وسافر في سبيل العلم أسفاراُ كثيرة. فضائله ومناقبه وخصاله لا تكاد تعد. من كتبه "المسند" و "التاريخ" و "الناسخ والمنسوخ" و "المناسك" و "الزهد" و "علل الحديث". توفي سنة 241هـ[انظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/ 413، وفيات الأعيان 1/ 47، حلية الأولياء 9/ 161، المنهج الأحمد 1/ 5 وما بعدها] .
2 هو الإمام على بن سليمان بن أحمد الدمشقي الصالحي الحنبلي، المعروف بالمرادوي. ولد في مراد، قرب نابلس، ونشأ بها، وحفظ القرآن، وتعلم الفقه، ثم تحوَل إلى دمشق، وقرأ على علمائها فنون، وتصدى للإقراء والإفتاء. من كتبه "الأصناف في معرفة الراجح من الخلاف" في الفقه و "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" في أصول الفقه. وقد شرحه في............................=
(1/21)
 
 
عَنِّي وَعَنْهُ آمِينَ. أَرْجُو أَنْ يَكُونَ حَجْمُهَا بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، وَأَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَى إتْمَامِهَا. وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. [وَسَمَّيْتهَا "بِالْمُخْتَبَرِ1 الْمُبْتَكَرِ، شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ" وَعَلَى اللَّهِ أَعْتَمِدُ، وَمِنْهُ الْمَعُونَةَ أَسْتَمِدُّ"2.
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُونَ كُتُبَهُمْ بِالْبَسْمَلَةِ تَبَرُّكًا بِهَا، وَتَأَسِّيًا بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ ابْتَدَأَ بِهَا فِي كُتُبِهِ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَمَلاً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَهُوَ أَبْتَرُ" 3.
"الْحَمْدُ" الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْمَحَامِدِ مُسْتَحَقٌّ "لِلَّهِ" جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَثَنَّوْا بِالْحَمْدِ: لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ4 فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، فَهُوَ
__________
= مجلدين وسماه "التحبير في شرح التحرير" توفي سنة 885هـ. [انظر ترجمته في الضوء اللامع 5/ 225، البدر الطالع 1/ 446] .
1 في ش: بالمختصر.
2 ساقطة من ض ز ب.
3 أخرجه أبو داود في سننه والراهاوي في الأربعين والخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي هريرة. قال النووي: وهو حديث حسن، وقد روى موصلاً ومرسلاً. ورواية الموصل جيدة الإسناد، وإذا روي الحديث موصلاً ومرسلاً فالحكم الاتصال عند الجمهور. وذكر العجلوني أنه ورد بلفظ فهو أبتر، وبلفظ فهو أقطع، وبلفظ فهو أجذم. [انظر كشف الخفا 2/ 119، فيض القدير للمناوي 5/ 14] .
4 هو محمد بن حبان بن أحمد، أبو حاتم البستي التميمي. قال الحاكم: "كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال". ألف التصانيف النافعة كـ "المسند الصحيح" و "الجرح والتعديل" و "الثقات" وغيرها. توفي سنة 354هـ. [انظر ترجمته في طبقات الشافعية لابن السبكي 3/ 131. شذرات الذهب 3/ 16] .
(1/22)
 
 
أَقْطَعُ" 1، وَمَعْنَى "أَقْطَعُ" نَاقِصُ الْبَرَكَةِ، أَوْ قَلِيلُهَا.
وَفِي ذِكْرِ الْحَمْدِ عَقِبَ الْبَسْمَلَةِ اقْتِدَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا.
وَلَهُمْ فِي حَدِّ الْحَمْدِ لُغَةً عِبَارَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ، عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ. وَالأُخْرَى: أَنَّهُ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ الاخْتِيَارِيِّ2، عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ3. سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِالْفَضَائِلِ4 أَوْ بِالْفَوَاضِلِ5.
وَ"الشُّكْرُ" لُغَةً: فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ لِكَوْنِهِ مُنْعِمًا عَلَى الشَّاكِرِ6، يَعْنِي7 بِسَبَبِ إنْعَامِهِ. وَيَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ.
__________
1 أخرجه أبو داود وابن ماجة والبيهقي في السنن وأبو عوانة الاسفراييني في مسنده عن أبي هريرة. وألّف الحافظ السخاوي جزءاً فيه. قال النووي: يستحب البداءة بالحمد لكل مصنف ودارس ومدرس وخطيب وخاطب وبين يدي جميع الأمور المهمة. "انظر كشف الخفا 2/ 119، فيض القدير 5/ 13".
2 أي الحاصل باختيار المحمود. وقد خرج بقيد "الاختياري" الوصف بجميل غير اختياري للمحمود، كطول قامته وجماله وشرف نسبه. "انظر حاشية عليش على شرح إيساغوجي ص10".
3 خرج بهذا القيد الوصف بالجميل الاختياري على جهة التهكم والسخرية. "حاشية عليش ص10".
4 الفضائل: جمع فضيلة، وهي الصفة التي لايتوقف اثباتها للمتصف بها على ظهور أثرها في غيره، كالعلم والتقوى. "حاشية عليش ص11".
5 الفواضل: جمع فاضلة، وهي الصفة التي يتوقف إثباتها لموصوفها على ظهور أثرها في غيره، كالشجاعة والكرم والعفو والحلم. "حاشية عليش ص11" والتعريف الأول للحمد أكثر ملاءمة في حق الباري جل وعلا، والثاني أكثر مناسبة في حق العباد.
6 في ض ز ب، الشاكر أو غيره.
7 ساقطة من ز.
(1/23)
 
 
فَالْقَلْبُ لِلْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَاللِّسَانُ لِلثَّنَاءِ؛ لأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَالْجَوَارِحُ لاسْتِعْمَالِهَا فِي طَاعَةِ الْمَشْكُورِ، وَكَفِّهَا عَنْ مَعَاصِيهِ1.
وَقِيلَ: إنَّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ2.
ثُمَّ إنَّ مَعْنَى الْحَمْدِ فِي الاصْطِلاحِ هُوَ مَعْنَى الشُّكْرِ فِي اللُّغَةِ3.
وَمَعْنَى الشُّكْرِ فِي الاصْطِلاحِ: هُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ إلَى مَا خُلِقَ لأَجْلِهِ، مِنْ جَمِيعِ الْحَوَاسِّ وَالآلاتِ وَالْقُوَى4.
وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيَّيْنِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ5، فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَلَّقِ؛ "لأَنَّهُ لا يُعْتَبَرُ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ"6، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةٍ الْمَوْرِد، الَّذِي هُوَ اللِّسَانُ، وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ الْمَوْرِدِ، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَلَّقِ، وَهُوَ النِّعْمَةُ عَلَى الشَّاكِرِ7.
َفِي قَرْنِ الْحَمْدِ بِالْجَلالَةِ الْكَرِيمَةِ - دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى- فَائِدَتَانِ:
__________
1 انظر لسان العرب 4/ 423 وما بعدها. الفائق 1/ 291، معترك الأقران 2/ 63.
2 قاله اللحياني "لسان العرب 3/ 155".
3 وذلك لأن الحمد في الصطلاح: فعل يُشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً. أعم من أن يكون فعل اللسان أو الأركان "تعريفات الجرجاني ص98".
4 التعريفات للشريف الجرجاني ص133.
5 انظر معنى العموم والخصوص من وجه في ص71. 72 من الكتاب.
6 ساقطة من ض ز ب.
7 انظر لسان العرب 4/ 424، معترك الأقران 2/ 63، الأخضري على السلم ص21.
(1/24)
 
 
الأُولَى: أَنَّ اسْمَ "اللَّهِ" عَلَمٌ1 لِلذَّاتِ2، وَمُخْتَصٌّ بِهِ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ "مُتَّصِفٌ بِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ"3
"كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ" تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ.
وَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ الْوَصْفِ مُتَوَقِّفَةً عَلَى إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِالْمَوْصُوفِ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} 4 صَحَّ قَوْلُنَا "فَالْعَبْدُ لا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَى رَبِّهِ" لأَنَّ وَصْفَ الْوَاصِفِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهُ مِنْ الْمَوْصُوفِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ تُدْرَكَ حَقَائِقُ صِفَاتِهِ كَمَا هِيَ، جَلَّ رَبُّنَا وَعَزَّ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5.
وَ"الصَّلاةُ" الَّتِي هِيَ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ، وَالثَّنَاءُ عَلَى نَبِيِّهِ عِنْدَ الْمَلائِكَةِ وَمِنْ الْمَلائِكَةِ الاسْتِغْفَارُ وَالدُّعَاءُ، وَمِنْ الآدَمِيِّ وَالْجِنِّيِّ التَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ،
"وَالسَّلامُ" الَّذِي هُوَ تَسْلِيمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، "وَأَمَرَنَا بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى:6
__________
1 في ش، علم جامع.
2 في ض ب، على الذات.
3 ساقطة من ز.
4 الآية 110 من طه.
5 الآية 11 من الشورى.
6 الأية 56 من الأحزاب.
(1/25)
 
 
{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1 "عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ" بِلا تَرَدُّدٍ؛ لأَحَادِيثَ دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ.
"فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ" 2 وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا: كَوْنُهُ بُعِثَ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنْ الأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فُضِّلْت عَلَى مَنْ قَبْلِي بِسِتٍّ وَلا فَخْرَ" 3 وَفِي الآخِرَةِ: اخْتِصَاصُهُ بِالشَّفَاعَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ تَحْتَ لِوَائِهِ، سَيِّدُنَا وَمَوْلانَا"4 وَخَاتَمُ رُسُلِهِ "مُحَمَّدٌ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَهُ أَنْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ، لَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ، وَهُوَ عَلَمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَمْدُ5، مَنْقُولٌ مِنْ التَّحْمِيدِ، الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْحَمْدِ.
__________
1 ساقطة من ع ز ب.
2 أخرجه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري. "انظر كشف الخفا 1/ 203".
3 ورد الحديث بلفظ "فُضَّلْتُ على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون". وقد أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة، ورواه أبو يعلى وغيره. "انظر فيض القدير 4/ 438".
4 ساقطة من ع ض ز ب.
5 في ع ب، الحميد.
(1/26)
 
 
"وَ" عَلَى "آلِهِ" وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ عَلَى دَيْنِهِ1، وَأَنَّهُ تَجُوزُ إضَافَتُهُ لِلضَّمِيرِ. وَالآلُ: اسْمُ2 جَمْعٍ، لا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.
"وَ" عَلَى "صَحْبِهِ" وَهُمْ الَّذِينَ لَقَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنِينَ، وَمَاتُوا مُؤْمِنِينَ3.
وَعَطْفُ الصَّحْبِ عَلَى الآلِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الآلِ وَالصَّحْبِ مُخَالَفَةٌ لِلْمُبْتَدِعَةِ، لأَنَّهُمْ يُوَالُونَ الآلُ دُونَ الصَّحْبِ.
"أَمَّا" أَيْ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ "بَعْدُ" هُوَ مِنْ الظُّرُوفِ الْمَبْنِيَّةِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ الإِضَافَةِ. أَيْ: بَعْدَ الْحَمْدِ وَالصَّلاةِ وَالسَّلامِ4. وَالْعَامِلُ فِي "بَعْدُ"
__________
1 قال الدمنهوري: آل النبي في مقام الدعاء كل مؤمن تقي. "إيضاح المبهم ص4". وقال شمس الدين البعلي: "والآل يطلق بالاشتراك اللفظي علي ثلاثة معان. أحدها: الجند والأتباع. كقوله تعالى {آلَ فِرْعَوْن} "البقرة: من الآية50" أي: أجناده وأتباعه. والثاني: النفس. كقوله تعالى {آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُون} "البقرة: من الآية248" بمعنى: نفسهما. والثالث: أهل البيت خاصة، واله: أتباعه على دينه. وقيل: بنو هاشم وبنو المطلب. وهو اختيار الشافعي. وقيل آله أهله". "المطلع على أبواب المقنع ص3".
2ساقطة من ش ز. وفي ع: جمع اسم.
3 انظر تعريف الصحابي وما يتعلق به في "التقييد والإيضاح للعراقي ص391 وما بعده. تدريب الراوي للسيوطي ص394 وما بعدها".
4 قال الشيخ زكريا الأنصاري: "أما بعد" يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بها في خطبه. والتقدير: مهما يكن من شيء بعد البسملة وما بعدها. "فتح الرحمن ص8".
(1/27)
 
 
"أَمَّا" لِنِيَابَتِهَا عَنْ الْفِعْلِ. وَالْمَشْهُورُ ضَمُّ دَالِ بَعْدُ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ1 نَصْبَهَا وَرَفْعَهَا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا.
وَحِينَ تَضَمَّنَتْ "أَمَّا" مَعْنَى الابْتِدَاءِ2 "لَزِمَهَا لُصُوقُ الاسْمِ وَلِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى"3 الشَّرْطِ، لَزِمَتْهَا الْفَاءُ، فَلأَجْلِ4 ذَلِكَ قُلْت:
"فَهَذَا" الْمَشْرُوحُ "مُخْتَصَرٌ" أَيْ كِتَابٌ مُخْتَصَرُ اللَّفْظِ، تَامُّ الْمَعْنَى "مُحْتَوٍ" أَيْ مُشْتَمِلٌ وَمُحِيطٌ "عَلَى مَسَائِلِ" الْكِتَابِ الْمُسَمَّى "تَحْرِيرَ الْمَنْقُولِ، وَتَهْذِيبَ عِلْمِ الأُصُولِ5 فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. جَمْعُ الشَّيْخِ الْعَلاَّمَةِ عَلاءِ الدِّينِ الْمِرْدَاوِيِّ6 الْحَنْبَلِيِّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ" مُنْتَقَى "مِمَّا قَدَّمَهُ" مِنْ الأَقْوَالِ الَّتِي فِي الْمَسْأَلَةِ "أَوْ كَانَ" الْقَوْلُ "عَلَيْهِ الأَكْثَرُ مِنْ
__________
1 هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي المعروف بالفراء. قال ابن خلكان: كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب. من كتبه "معاني القرآن" و "البهاء فيما تلحن في العامة" و "المصادر في القرآن" و "الحدود" توفي سنة 207هـ. "انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/ 333، وفيات الأعيان 5/ 225، طبقات المفسرين للداودي 2/ 366".
2 في ب ع: الابتداء والشرط.
3 ساقطة من ش ز.
4 في ش: فلذلك. وفي ع: ولأجل ذلك.
5 كتاب "تحرير المنقول" للمرداوي أكثره مستمد من كتاب العلامة محمد بن مفح الحنبلي المتوفي سنة 763هـ في أصول الفقه، حيث يقول المرداوي عن كتاب ابن مفلح: وهو أصل كتابنا –يعني تحرير المنقول- فإن غالب استمدادنا منه. "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لبدران ص241".
6 في ش، المرداوي السعدي.
(1/28)
 
 
أَصْحَابِنَا، دُونَ" ذِكْرِ بَقِيَّةِ "الأَقْوَالِ، خَالٍ" هَذَا الْمُخْتَصَرُ "مِنْ قَوْلٍ ثَانٍ" أَذْكُرُهُ فِيهِ "إلاَّ" مِنْ قَوْلٍ أَذْكُرُهُ1 "لِفَائِدَةٍ تَزِيدُ" أَيْ زَائِدَةٍ "عَلَى مَعْرِفَةِ الْخِلافِ" لا لِيُعْلَمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلافًا فَقَطْ.
"وَ" خَالٍ هَذَا الْمُخْتَصَرُ أَيْضًا "مِنْ عَزْوِ مَقَالٍ" أَيْ قَوْلٍ مَنْسُوبٍ "إلَى مَنْ" أَيْ شَخْصٍ "إيَّاهُ" أَيْ إيَّا الْمَقَالِ "قَالَ" أَيْ قَالَهُ.
"وَمَتَى قُلْت" فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ بَعْدَ ذِكْرِ2 حُكْمِ مَسْأَلَةٍ أَوْ قَبْلَهُ هُوَ كَذَا3 "فِي وَجْهٍ، فَالْمُقَدَّمُ" أَيْ فَالْمُعْتَمَدُ "غَيْرُهُ" أَيْ غَيْرُ مَا قُلْت إنَّهُ كَذَا فِي وَجْهٍ "وَ" مَتَى قُلْت: هُوَ كَذَا، أوَلَيْسَ بِكَذَا "فِي"4 قَوْلٍ "أَوْ عَلَى قَوْلٍ، فَإِذَا قَوِيَ الْخِلافُ" فِي الْمَسْأَلَةِ "أَوْ اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ، أَوْ" يَكُونُ ذَلِكَ "مَعَ5 إطْلاقِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ الأَقْوَالِ، إذْ لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى مُصَرِّحٍ بِالتَّصْحِيحِ" لأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ الأَقْوَالِ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَى اخْتِصَارِ هَذَا الْكِتَابِ، دُونَ بَقِيَّةِ كُتُبِ هَذَا الْفَنِّ، لأَنَّهُ جَامِعٌ لأَكْثَرِ أَحْكَامِهِ، حَاوٍ لِقَوَاعِدِهِ وَضَوَابِطِهِ وَأَقْسَامِهِ، قَدْ اجْتَهَدَ مُؤَلِّفُهُ فِي تَحْرِيرِ نُقُولِهِ، وَتَهْذِيبِ أُصُولِهِ.
__________
1 في ش: أذكره فيه.
2 ساقطة من ش.
3 في ش: هكذا.
4 في ش: في قوله.
5 في ش: من.
(1/29)
 
 
ثُمَّ الْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ "أَمْرٌ كُلِّيٌّ يَنْطَبِقُ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ تُفْهَمُ أَحْكَامُهَا مِنْهَا". فَمِنْهَا: مَا لا يَخْتَصُّ بِبَابٍ. كَقَوْلِنَا "الْيَقِينُ لا يُرْفَعُ بِالشَّكِّ"1، وَمِنْهَا: مَا يَخْتَصُّ، كَقَوْلِنَا "كُلُّ كَفَّارَةٍ سَبَبُهَا مَعْصِيَةٌ، فَهِيَ عَلَى الْفَوْرِ".
وَالْغَالِبُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِبَابٍ، وَقُصِدَ بِهِ نَظْمُ صُوَرٍ مُتَشَابِهَةٍ يُسَمَّى "ضَابِطًا"، وَإِنْ شِئْت قُلْت: مَا عَمَّ صُوَرًا. فَإِنْ كَانَ2 الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الَّذِي بِهِ اشْتَرَكَتْ الصُّوَرُ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ "الْمُدْرَكُ"، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ ضَبْطَ تِلْكَ الصُّوَرِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّبْطِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مَأْخَذِهَا، فَهُوَ "الضَّابِطُ"، وَإِلاَّ فَهُوَ "الْقَاعِدَةُ"3.
وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الأُصُولِيَّةِ قَوْلُهُمْ "الأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْفَوْرِ". وَ"دَلِيلُ الْخِطَابِ حُجَّةٌ"، "وَقِيَاسُ الشَّبَهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ". "وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ يُحْتَجُّ بِهِ" وَنَحْوُ ذَلِكَ
"وَ" أَنَا "أَرْجُو" مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "أَنْ يَكُونَ" هَذَا الْمُخْتَصَرُ "مُغْنِيًا لِحُفَّاظِهِ" عَنْ غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ هَذَا4 الْفَنِّ "عَلَى" مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ "وَجَازَةِ أَلْفَاظِهِ" أَيْ تَقْلِيلِهَا.
__________
1 قال السيوطي: هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر. "الأشباه والنظائر للسيوطي ص51، وانظر الأشياه والنظائر لابن نجيم ص56".
2 ساقطة من ش.
3 قال ابن نجيم: "والفرق بين الضابط والقاعدة، أن القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى، والضابط يجمعها من باب واحد. وهذا هو الأصل". "الأشباه والنظائر ص166".
4 ساقطة من ش.
(1/30)
 
 
وَإِيجَازُ اللَّفْظِ: اخْتِصَارُهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلامُ1 اخْتِصَارًا" 2.
وَإِنَّمَا اخْتَصَرْته3 لِمَعَانٍ. مِنْهَا: أَنْ لا يَحْصُلَ الْمَلَلُ بِإِطَالَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَسْهُلَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُهُ مِنْ قِلَّةِ حَجْمِهِ.
"وَأَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَعْصِمَنِي" وَيَعْصِمَ "مَنْ قَرَأَهُ مِنْ الزَّلَلِ" أَيْ مِنْ السَّقْطَةِ4 فِي الْمَنْطِقِ وَالْخَطِيئَةِ5 "وَأَنْ يُوَفِّقَنَا" أَيْ يُوَفِّقَنِي وَمَنْ قَرَأَهُ "وَالْمُسْلِمِينَ لِمَا يُرْضِيهِ" أَيْ يُرْضِي اللَّهَ عَنَّا6 "مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ" إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَبِالإِجَابَةِ جَدِيرٌ.
وَرَتَّبْته - كَأَصْلِهِ- عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَابًا، لا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ عَدَدِ الْفُصُولِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. كَالتَّنَابِيهِ وَالتَّذَانِيبِ.
__________
1 في ع ب: الكلم.
2 أخرجه البيهقي في الشعب وأبو يعلى في مسنده عن عمر بن الخطاب، وأخرجه الدارقطني عن ابن عباس. وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، فأخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة بلفظ "بعثت بجوامع الكلم" وأخرجه أحمد عن عمرو بن العاص بلفظ "أوتيت فوتح الكلم وخواتمه وجوامعه". "انظر كشف الخفا 1/ 15، فيض القدير 1/ 563، جامع العلوم والحكم ص2".
قال المناوي: ومعنى أعطيت جوامع الكلم، أي ملكة أقتدر بها على إيجاز اللفظ مع سعة المعنى، بنظم لطيف لاتعقيد فيه يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار الذهن في فهمه. واختصر لي الكلام اختصاراً: أي صار ما أتكلم به كثير المعاني قليل الألفاظ. "فيض القدير 1/ 563".
3 في ع ب: اختصرت ذلك.
4 في ض: السقط.
5 في ض: الخبط. وفي ع: الخبطه.
6 ساقطة من ز.
(1/31)
 
 
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ، فَتَشْتَمِلُ عَلَى تَعْرِيفِ هَذَا الْعِلْمِ وَفَائِدَتِهِ، وَاسْتِمْدَادِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَلَوَاحِقَ، كَالدَّلِيلِ، وَالنَّظَرِ، وَالإِدْرَاكِ. وَالْعِلْمِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحَدِّ، وَاللُّغَةِ وَمَسَائِلِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَأَحْكَامِ خِطَابِ الشَّرْعِ، وَخِطَابِ الْوَضْعِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَأَقُولُ وَمِنْ اللَّهِ أَسْتَمِدُّ الْمَعُونَةَ:
"مُقَدِّمَةٌ"
الْمُقَدِّمَةُ فِي الأَصْلِ صِفَةٌ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا اسْمًا لِكُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ التَّقْدِيمُ، كَمُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ وَالْكِتَابِ، وَمُقَدِّمَةِ الدَّلِيلِ وَالْقِيَاسِ؛ وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي1 تُنْتِجُ ذَلِكَ مَعَ قَضِيَّةٍ أُخْرَى، نَحْوُ "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ"، وَ "كُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ" وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَ "الْعَالِمُ مُؤَلِّفٌ" وَ "كُلُّ مُؤَلِّفٍ مُحَدِّثٌ"، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
ثُمَّ إنَّ مُقَدِّمَةَ الْعِلْمِ هِيَ2 اسْمٌ3 لِمَا4 تَقَدَّمَ أَمَامَهُ، وَلِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ كَمَعْرِفَةِ حُدُودِهِ وَغَايَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ. وَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ لِطَائِفَةٍ مِنْ كَلامِهِ تُقَدَّمُ أَمَامَ الْمَقْصُودِ، لارْتِبَاطٍ لَهُ بِهَا، وَانْتِفَاعٍ بِهَا فِيهِ. سَوَاءٌ تَوَقَّفَ عَلَيْهَا الْعِلْمُ أَوْ لا5.
وَهِيَ - بِكَسْرِ الدَّالِ-: مِنْ قَدَّمَ بِمَعْنَى6 تَقَدَّمَ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
__________
1 ساقطة من ش.
2 ساقطة من ش.
3 ساقطة من ع ز.
4 في ع: ما وعبارة "لما تقدم أمامه" ساقطة من ز.
5 انظر معنى المقدمة في "تعريفات الجرجاني ص242، شرح الروضة لبدران 1/ 23، تحرير القواعد المنطقية للرازي ص4 وما بعدها".
6 في ب، يعني.
(1/32)
 
 
{لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 أَيْ: لا تَتَقَدَّمُوا. وَبِفَتْحِهَا، لأَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ أَوْ أَمِيرَ الْجَيْشِ قَدَّمَهَا، وَمَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْكَسْرَ. وَبَعْضُهُمْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ كُلُّ عِلْمٍ لا يَتَمَيَّزُ فِي نَفْسِهِ عَنْ بَقِيَّةِ الْعُلُومِ إلاَّ بِتَمييزِ2 مَوْضُوعِهِ. وَكَانَ مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ: أَخَصَّ مِنْ مُطْلَقِ الْمَوْضُوعِ. وَكَانَ الْعِلْمُ بِالْخَاصِّ مَسْبُوقًا بِالْعِلْمِ بالْعَامِّ3، بَدَأَ بِتَعْرِيفِ مُطْلَقِ الْمَوْضُوعِ بِقَوْلِهِ:
"مَوْضُوعُ كُلِّ عِلْمٍ" شَرْعِيًّا كَانَ أَوْ عَقْلِيًّا "مَا" أَيْ الشَّيْءُ الَّذِي "يُبْحَثُ فِيهِ" أَيْ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ "عَنْ عَوَارِضِهِ" أَيْ عَوَارِضِ مَوْضُوعِهِ "الذَّاتِيَّةِ" أَيْ الأَحْوَالِ4 الْعَارِضَةِ لِلذَّاتِ، دُونَ الْعَوَارِضِ اللاَّحِقَةِ لأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الذَّاتِ5.
وَمَسَائِلُ كُلِّ عِلْمٍ مَعْرِفَةُ الأَحْوَالِ4 الْعَارِضَةِ لِذَاتِ مَوْضُوعِ ذَلِكَ الْعِلْمِ6.
فَمَوْضُوعُ عِلْمِ الطِّبِّ مَثَلاً: هُوَ بَدَنُ الإِنْسَانِ، لأَنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ الأَمْرَاضِ اللاَّحِقَةِ لَهُ، وَمَسَائِلُهُ: هِيَ مَعْرِفَةُ تِلْكَ الأَمْرَاضِ.
__________
1 الآية 1 من الحجرات.
2 في ش ز ب: بتميز.
3 في ش: العام.
4 في ز: الأصول.
5 انظر في موضوعات العلوم "تعريفات الجرجاني ص256، إرشاد الفحول ص5، فواتح الرحموت 1/ 8، تحرير القواعد المنطقية ص23".
6 انظر في مسائل العلوم التعريفات للجرجاني ص225.
(1/33)
 
 
وَمَوْضُوعُ عِلْمِ النَّحْوِ: الْكَلِمَاتُ، فَإِنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِهَا مِنْ حَيْثُ الإِعْرَابُ وَالْبِنَاءُ. وَمَسَائِلُهُ: هِيَ مَعْرِفَةُ الإِعْرَابِ وَالْبِنَاءِ1.
وَمَوْضُوعُ عِلْمِ الْفَرَائِضِ: التَّرِكَاتُ، فَإِنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ2 مِنْ حَيْثُ قِسْمَتُهَا، وَمَسَائِلُهُ: هِيَ مَعْرِفَةُ حُكْمِ قِسْمَتِهَا.
وَالْعِلْمُ بِمَوْضُوعِ عِلْمٍ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْعِلْمِ كَمَا قُلْنَا فِي بَدَنِ الإِنْسَانِ وَالْكَلِمَاتِ وَالتَّرِكَاتِ.
إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ: فَالْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُلْحِقُ الشَّيْءَ لِمَا هُوَ هُوَ - أَيْ لِذَاتِهِ- كَالتَّعَجُّبِ اللاَّحِقِ لِذَاتِ الإِنْسَانِ، أَوْ تَلْحَقُ الشَّيْءَ لِجُزْئِهِ، كَالْحَرَكَةِ بِالإِرَادَةِ اللاَّحِقَةِ لِلإِنْسَانِ "بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ، أَوْ تَلْحَقُهُ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الْمَعْرُوضِ مُسَاوٍ لِلْمَعْرُوضِ، كَالضَّحِكِ الْعَارِضِ لِلإِنْسَانِ"3 بِوَاسِطَةِ التَّعَجُّبِ4.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَارِضَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِذَاتِ الشَّيْءِ، أَوْ لِجُزْئِهِ، أَوْ لأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ5. وَالأَمْرُ الْخَارِجُ: إمَّا مُسَاوٍ لِلْمَعْرُوضِ، أَوْ أَعَمُّ مِنْهُ، أَوْ أَخَصُّ، أَوْ مُبَايِنٌ.
أَمَّا الثَّلاثَةُ الأُوَلُ - وَهِيَ الْعَارِضُ لِذَاتِ الْمَعْرُوضِ، وَالْعَارِضُ لِجُزْئِهِ،
__________
1 ساقطة من ش.
2 في ش ز د ع ض ب: فيها.
3 ساقطة من ز.
4 قاله الشريف الجرجاني. "التعريفات ص164".
5 في ب: عنه مساو.
(1/34)
 
 
وَالْعَارِضُ الْمُسَاوِي1- فَتُسَمَّى2 "أَعْرَاضًا ذَاتِيَّةً"، لاسْتِنَادِهَا إلَى ذَاتِ3 الْمَعْرُوضِ.
أَمَّا الْعَارِضُ لِلذَّاتِ: فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْعَارِضُ لِلْجُزْءِ: فَلأَنَّ الْجُزْءَ دَاخِلٌ فِي الذَّاتِ، وَالْمُسْتَنِدُ إلَى مَا فِي الذَّاتِ مُسْتَنِدٌ إلَى الذَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ4.
وَأَمَّا الْعَارِضُ لِلأَمْرِ5 الْمُسَاوِي: "فَلأَنَّ الْمُسَاوِيَ"6 يَكُونُ مُسْتَنِدًا إلَى ذَاتِ الْمَعْرُوضِ، وَالْعَارِضُ مُسْتَنِدٌ7 إلَى الْمُسَاوِي، وَالْمُسْتَنِدُ إلَى الْمُسْتَنِدِ إلَى الشَّيْءِ مُسْتَنِدٌ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ الْعَارِضُ أَيْضًا مُسْتَنِدًا إلَى الذَّاتِ.
وَالثَّلاثَةُ الأَخِيرَةُ الْعَارِضَةُ لأَمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ مُسَاوٍ لِلْمَعْرُوضِ تُسَمَّى "أَعْرَاضًا غَرِيبَةً" لِمَا فِيهَا مِنْ الْغَرَابَةِ بِالْقِيَاسِ إلَى ذَاتِ الْمَعْرُوضِ.
ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ الأَمْرُ الْخَارِجُ8 أَعَمَّ مِنْ الْمَعْرُوضِ، كَالْحَرَكَةِ اللاَّحِقَةِ لِلأَبْيَضِ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ جِسْمٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ. وَتَارَةً يَكُونُ أَخَصَّ، كَالضَّحِكِ الْعَارِضِ لِلْحَيَوَانِ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ إنْسَانٌ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ
__________
1 أي العارض للأمر الخارج المساوي.
2 في ع ز ض ب: تسمى.
3 في ش: ذاتية.
4 في ش: جملة.
5 أي للأمر الخارج المساوي.
6 ساقطة من ز.
7 في ش ز: مستنداً.
8 المراد العارض لأمر خارج.
(1/35)
 
 
الْحَيَوَانِ. وَتَارَةً يَكُونُ مُبَايِنًا لِلْمَعْرُوضِ كَالْحَرَارَةِ الْعَارِضَةِ لِلْمَاءِ بِوَاسِطَةِ النَّارِ1.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ:
"فَمَوْضُوعُ ذَا" أَيْ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ أُصُول الْفِقْهُ "الأَدِلَّةُ2 الْمُوَصِّلَةُ إلَى الْفِقْهِ" مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وَنَحْوِهَا؛ لأَنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ3 عَنْ الْعَوَارِضِ اللاَّحِقَةِ لَهَا، مِنْ كَوْنِهَا عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً، أَوْ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً، أَوْ مُجْمَلَةً، أَوْ مُبَيِّنَةً، أَوْ ظَاهِرَةً أَوْ نَصًّا، أَوْ مَنْطُوقَةً، أَوْ مَفْهُومَةً، وَكَوْنُ اللَّفْظِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ اخْتِلافِ مَرَاتِبِهَا، وَكَيْفِيَّةِ الاسْتِدْلالِ بِهَا4، وَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ هِيَ5 مَسَائِلُ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَمَوْضُوعُ عِلْمِ الْفِقْهِ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَا. وَمَسَائِلُهُ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهَا مِنْ وَاجِبٍ وَحَرَامٍ، وَمُسْتَحَبٍّ وَمَكْرُوهٍ وَمُبَاحٍ.
"وَلا بُدَّ" أَيْ لا فِرَاقَ "لِمَنْ طَلَبَ عِلْمًا" أَيْ6 حَاوَلَ أَنْ يَعْرِفَهُ مِنْ ثَلاثَةِ أُمُورٍ:
__________
1 وهي مباينة للماء. وانظر الكلام على العوارض الذاتية والغريبة في تحرير القواعد المنطقية وحاشية الجرجاني عليه ص23.
2 في ب: الدلالة.
3 في د ع ض ز ب: فيها.
4 انظر الإحكام للآمدي 1/ 7. ويقول الشوكاني: "وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات أعراض ذاتية للأدلة والأحكام، من حيث إثبات الأدلة للأحكام، ثبوت الأحكام بالأدلة. بمعنى أن جميع مسائل هذا الفن هي لاإثبات والثبوت". "ارشاد الفحول ص5".
5 ساقطة من ب.
6 ساقطة من ب.
(1/36)
 
 
أَحَدُهَا: "أَنْ يَتَصَوَّرَهُ بِوَجْهٍ مَا" أَيْ بِوَجْهٍ مِنْ الإِجْمَالِ؛ لأَنَّ طَلَبَ الإِنْسَانِ مَا لا يَتَصَوَّرُهُ مُحَالٌ بِبَدِيهَةِ1 الْعَقْلِ، وَطَلَبُ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِهِ مُحَالٌ أَيْضًا؛ لأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.
"وَ" الأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ "يَعْرِفَ غَايَتَهُ" لِئَلاَّ يَكُونَ "سَعْيُهُ فِي طَلَبِهِ عَابِثًا"2.
"وَ" الأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْرِفَ "مَادَّتَهُ" أَيْ مَا يَسْتَمِدُّ ذَلِكَ الْعِلْمُ مِنْهُ؛ لِيَرْجِعَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ إلَى مَحَلِّهَا.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ كُلَّ مَعْدُومٍ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى أَرْبَعِ عِلَلٍ3:
- صُورِيَّةٍ: وَهِيَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا صُورَتُهُ. فَتَصَوُّرُ الْمُرَكَّبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَصَوُّرِ أَرْكَانِهِ. وَانْتِظَامِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْصُودِ.
- وَغَائِيَّةٍ: وَهِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى4 إيجَادِهِ. وَهِيَ الأُولَى فِي الْفِكْرِ، وَإِنْ كَانَتْ آخِرًا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ. وَلِهَذَا يُقَالُ: "مَبْدَأُ الْعِلْمِ مُنْتَهَى الْعَمَلِ".
- وَمَادِّيَّةٍ5: وَهِيَ الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْمُرَكَّبَاتُ، أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا.
__________
1 في ب: ببديه.
2 في ش: في طلبه عابثاً.
3 جاء في لقطة العجلان وشرحها الأنصاري: كل موجود ممكن لا بدّ له من أسباب –أي علل- أربعة؛ المادة: وهي ما يكون الشيء موجوداً به بالقوة. وتسميتها مادة باعتبار توارد الصور المختلفة عليها. والصورة: هي ما يكون الشيء موجوداً به بالفعل. والفاعلية: وهي ما يؤثر في وجود الشيء. والغائية: وهي ما يصير الفاعل لأجله فاعلاً. ويقال هي الداعي للفعل. كالسرير: مادته الخشب، وصورته الانسطاح –أن انسطاحه-. أي هيئته التي هو عليها، وفاعليته النجّار، وغايته الاضطجاع عليه. "فتح الرحمن ص39 وما بعدها".
4 في ب: إلى.
5 في ش: ومادته. وفي د ض ب: وماديته.
(1/37)
 
 
- وَفَاعِلِيَّةٍ: وَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي إيجَادِ ذَلِكَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ "أُصُولِ الْفِقْهِ" مُرَكَّبٌ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إلَيْهِ، ثُمَّ صَارَ لِكَثْرَةِ1 الاسْتِعْمَالِ فِي عُرْفِ الأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ لَهُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ الْعِلْمِيَّةُ. فَيَنْبَغِي تَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ الإِضَافِيُّ، وَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عِلْمًا. فَبَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ بَدَأَ "بِتَعْرِيفِ كَوْنِهِ"2 مُرَكَّبًا، وَبَعْضُهُمْ بَدَأَ "بِتَعْرِيفِ كَوْنِهِ"2 مُضَافًا، كَمَا فِي الْمَتْنِ.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ:
"فَأُصُولٌ: جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ" أَيْ الأَصْلُ "لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ "مَا يُبْنَى عَلَيْهِ" أَيْ عَلَى الأَصْلِ "غَيْرُهُ" قَالَهُ الأَكْثَرُ3.
وَقِيلَ: أَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ4. وَقِيلَ: مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ5. وَقِيلَ: مَنْشَأُ الشَّيْءِ. وَقِيلَ: مَا يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ إلَيْهِ6.
"وَ" الأَصْلُ "اصْطِلاحًا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ الْعُلَمَاءِ "مَا لَهُ فَرْعٌ" لأَنَّ الْفَرْعَ لا يَنْشَأُ إلاَّ عَنْ أَصْلٍ.
__________
1 في ش ز ع: بكثرة.
2 في ش: بتعريفه.
3 كالجويني والمحلي والشريف الجرجاني والعضد والشوكاني وابن عبد الشكور وأبي الحسين البصري. "انظر المحلي على الورقات ص9، فواتح الرحموت 1/ 8، إرشاد الفحول ص3، العضد على ابن الحاجب 1/ 25، المعتمد للبصري 1/ 9، التعريفات للجرجاني ص28".
4 قاله الطوفي "مختصر الروضة ص7".
5 في ش: غيره. وقيل ما يحتاج إليه.
6 قاله الآمدي "الإحكام 1/ 7".
(1/38)
 
 
"وَيُطْلَقُ" الأَصْلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ 1.
الأَوَّلِ2: "عَلَى الدَّلِيلِ غَالِبًا" أَيْ فِي الْغَالِبِ، كَقَوْلِهِمْ "أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ". أَيْ دَلِيلُهَا، "وَ" هَذَا الإِطْلاقُ "هُوَ الْمُرَادُ هُنَا" أَيْ فِي عِلْمِ3 الأُصُولِ.
"وَ" الإِطْلاقُ الثَّانِي: "عَلَى الرُّجْحَانِ" أَيْ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ الأَمْرَيْنِ. كَقَوْلِهِمْ: "الأَصْلُ فِي الْكَلامِ الْحَقِيقَةُ دُونَ الْمَجَازِ"4 وَ "الأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ"5 وَ "الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ"6.
"وَ" الإِطْلاقُ الثَّالِثُ: عَلَى "الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ" كَقَوْلِهِمْ "أَكْلُ الْمَيْتَةِ عَلَى7 خِلافِ الأَصْلِ" أَيْ عَلَى خِلافِ الْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ.
__________
1 انظر معنى الأصل في الصطلاح في "فواتح الرحموت 1/ 8، إرشاد الفحول ص3".
2 ساقطة من ش.
3 ساقطة من ش.
4 انظر الكلام على هذه القاعدة وفروعها في "الأشباه والنظائر للسيوطي ص63، المدخل الفقهي للزرقاء ص1003".
5 انظر تفسير هذه القاعدة وما يتفرع عليها من المسائل في "الأشباه والنظائر للسيوطي ص53، المدخل الفقهي للزرقاء ص 970".
6 انظر في الكلام على هذا الأصل وما يتفرع عنه من المسائل التمهيد الأسنوي ص149. وهذا الأصل يسمى في الاصطلاح بالاستصحاب، وهو اعتبار الحالة الثابتة في وقت ما مستمرة في سائر الأوقات حتى يثبت انقطاعها أو تبدلها. "انظر المدخل الفقهي للزرقاء ص968".
7 ساقطة من ض ب.
(1/39)
 
 
"وَ" الإِطْلاقُ الرَّابِعُ: عَلَى "الْمَقِيسِ عَلَيْهِ" وَهُوَ1 مَا يُقَابِلُ الْفَرْعَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ2.
"وَالْفِقْهُ لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ: "الْفَهْمُ" عِنْدَ الأَكْثَرِ3، لأَنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ عَنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} 4.
"وَهُوَ" أَيْ الْفَهْمُ: "إدْرَاكُ مَعْنَى الْكَلامِ" لِجَوْدَةِ5 الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهَيُّئِهِ لاقْتِبَاسِ6 مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَطَالِبِ.
وَالذِّهْنُ: قُوَّةُ النَّفْسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لاكْتِسَابِ الْعُلُومِ7 وَالآرَاءِ8.
__________
1 في ش: صورة وهو.
2 وعلى هذا عرف الباجي الأصل بقوله: "ما قيس عليه الفرع بعلة مسنتبطة منه". أي من الأصل. "الحدود للباجي ص70".
3 قاله الآمدي وابن قدامة والطوفي والجويني والشوكاني وغيرهم. "انظر الإحكام للآمدي 1/ 6، روضة الناضر ص4، إرشاد الفحول ص3، شرح المحلي على الورقات ص12، مختصر الروضة ض7".
4 الآية 78 من النساء.
5 في ش ز ع ض ب: لا جودة، وهو خطأ. انظر الإحكام للآمدي 1/ 6.
6 كذا في ش ز ع ض ب. وفي الإحكام للآمدي: لاقتناص.
7 في ش ز ع ض ب: الحدود.
8 وقد عرف الشريف الجرجاني الذهن بأنه: قوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة والباطنة، معدة لاكتساب العلوم. ثم أورد له تعريفاً آخر بأنه: الاستعداد التام لإدراك العلوم والمعارف بالفكر. "التعريفات ص113 وما بعدها".
(1/40)
 
 
وَقِيلَ: إنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ1. وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ2. وَقِيلَ: فَهْمُ مَا يَدِقُّ. وَقِيلَ: اسْتِخْرَاجُ الْغَوَامِضِ وَالاطِّلاعُ عَلَيْهَا.
"وَ" الْفِقْهُ "شَرْعًا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ فُقَهَاءِ الشَّرْعِ "مَعْرِفَةُ3 الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ" دُونَ الْعَقْلِيَّةِ "الْفَرْعِيَّةِ" لا الأُصُولِيَّةِ4، وَمَعْرِفَتُهَا إمَّا "بِالْفِعْلِ" أَيْ بِالاسْتِدْلالِ "أَوْ" بِ"الْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ" مِنْ الْفِعْلِ، أَيْ بِالتَّهَيُّؤِ لِمَعْرِفَتِهَا بِالاسْتِدْلالِ. وَهَذَا الْحَدُّ لأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ الشَّرْعِيَّةِ - دُونَ الْعَقْلِيَّةِ- مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ5. وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنْ الأَحْكَامِ عُرْفًا.
وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ6 جُمَلٍ كَثِيرَةٍ عُرْفًا مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْحَاصِلَةِ بِهَا. وَقِيلَ: الْعِلْمُ بِهَا عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالاسْتِدْلالِ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْحُدُودِ لا تَخْلُو عَنْ مُؤَاخَذَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ7.
__________
1انظر الاحكام للآمدي 1/ 6، المستصفي 1/ 4، لسان العرب 13/ 522.
2 قاله الشريف الجرجاني وأبو الحسين البصري. "التعريفات ص157، المعتمد 1/ 8".
3 في ش: "معرفة" المجتهد جميع.
4 كأصول الدين وأصول الفقه. "القواعد والفوائد الأصولية ص4".
5 قاله الباجي "انظر الحدود ص35 وما بعدها".
6 ساقطة من ش.
7 انظر تعريف الفقه في الاصطلاح الشرعي في "الإحكام للآمدي 1/ 6، الروضة وشرحها لبدران 1/ 19، التمهيد للأسنوي ص5 وما بعدها، إرشاد الفحول ص3، العبادي على شرح الورقات ص12 وما بعدها، القواعد والفوائد الأصولية ص4، الحدود للباجي ص35 وما بعدها، المستصفى 1/ 4 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 10 وما بعدها، للمعتمد للبصري 1/ 8، العضد على ابن الحاجب 1/ 25، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 42 وما بعدها، مختصر الروضة للطوفي ص7 وما بعدها، التعريفات للجرجاني ص175".
(1/41)
 
 
ثُمَّ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الْفَرْعِيُّ: هُوَ الَّذِي لا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَإِ فِي اعْتِقَادِ مُقْتَضَاهُ، وَلا فِي الْعَمَلِ بِهِ قَدْحٌ فِي الدِّينِ، وَلا وَعِيدٌ فِي الآخِرَةِ، كَالنِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالنِّكَاحِ بِلا وَلِيٍّ وَنَحْوِهِمَا.
"وَالْفَقِيهُ" فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ: "مَنْ عَرَفَ جُمْلَةً غَالِبَةً" أَيْ كَثِيرَةً "مِنْهَا" أَيْ مِنْ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ1 الْفَرْعِيَّةِ "كَذَلِكَ" أَيْ بِالْفِعْلِ، أَوْ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْفِعْلِ، - وَهِيَ التَّهَيُّؤُ لِمَعْرِفَتِهَا- عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ. فَلا يُطْلَقُ الْفَقِيهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهَا عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، كَمَا لا يُطْلَقُ الْفَقِيهُ عَلَى مُحَدِّثٍ وَلا مُفَسِّرٍ، وَلا مُتَكَلِّمٍ وَلا نَحْوِيٍّ وَنَحْوِهِمْ.
وَقِيلَ: الْفَقِيهُ2 مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ تَامَّةٌ، يَعْرِفُ الْحُكْمَ بِهَا إذَا شَاءَ، مَعَ مَعْرِفَتِهِ3 جُمَلاً كَثِيرَةً مِنْ الأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، وَحُضُورِهَا عِنْدَهُ بِأَدِلَّتِهَا الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ4.
فَخَرَجَ بِقَيْدِ "الأَحْكَامِ" الذَّوَاتُ وَالصِّفَاتُ وَالأَفْعَالُ5.
__________
1 فخرج بقيد "الشرعية" الأحكام العقلية: ككون الواحد نصف الاثنين، والحسية: ككون النار محرقة، واللغوية: ككون الفاعل مرفوعاً، وكذلك نسبة الشيء إلى غيره إيجاباً: كقام زيد، أو سالباً: نحو لم يقم. فلا يسمى شيء من ذلك فقهاً. "انظر التمهيد للأسنوي ص5، العبادي على شرح الورقات ص15".
2 ساقطة من ب.
3 في ش: معرفة جمل.
4 انظر المسودة ص571، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص14.
5 مراده احترز "بالأحكام" عن العلم بالذوات: كزيد، وبالصفات: كسواده، وبالأفعال: كقيامه. "التمهيد للأسنوي ص5".
(1/42)
 
 
وَالْحُكْمُ هُوَ النِّسْبَةُ بَيْنَ الأَفْعَالِ وَالذَّوَاتِ؛ إذْ كُلُّ مَعْلُومٍ إمَّا أَلاَّ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ، فَهُوَ الْجَوْهَرُ، كَجَمِيعِ الأَجْسَامِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا. فَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلتَّأْثِيرِ فِي غَيْرِهِ، فَهُوَ الْفِعْلُ، كَالضَّرْبِ مَثَلاً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا. فَإِنْ كَانَ لِنِسْبَةٍ بَيْنَ الأَفْعَالِ وَالذَّوَاتِ، فَهُوَ الْحُكْمُ، وَإِلاَّ فَهُوَ الصِّفَةُ، كَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ.
وَخَرَجَ بِقَيْدٍ "الْفِعْلُ" الَّذِي هُوَ الاسْتِدْلال: عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرُسُلِهِ فِيمَا لَيْسَ عَنْ اجْتِهَادِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ1؛ لِجَوَازِ اجْتِهَادِهِمْ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِ الاجْتِهَادِ.
وَخَرَجَ بِقَيْدِ "الْفَرْعِيَّةِ" الأَدِلَّةُ الأُصُولِيَّةُ الإِجْمَالِيَّةُ، الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي فَنِّ الْخِلافِ، نَحْوُ: "ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْمُقْتَضَى، وَانْتَفَى بِوُجُودِ النَّافِي". فَإِنَّ هَذِهِ قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ إجْمَالِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي غَالِبِ الأَحْكَامِ؛ إذْ يُقَالُ مَثَلاً: وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضَى، وَهُوَ تَمْيِيزُ2 الْعِبَادَةِ عَنْ الْعَادَةِ، وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: عَدَمُ وُجُوبِهَا، وَالاقْتِصَارُ عَلَى مَسْنُونِيَّتِهَا: حُكْمٌ3 ثَبَتَ بِالْمُقْتَضَيْ. وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ مِفْتَاحُ الصَّلاةِ. وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي فَنِّ الْخِلافِ4: إمَّا إثْبَاتُ الْحُكْمِ، فَهُوَ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ نَفْيُهُ فَهُوَ بِالدَّلِيلِ النَّافِي. أَوْ بِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ بِوُجُودِ الْمَانِعِ، أَوْ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ. فَهَذِهِ أَرْبَعُ قَوَاعِدَ ضَابِطَةٌ لِمَجَارِي الْكَلامِ عَلَى تَعَدُّدِ جَرَيَانِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا.
__________
1 كما خرج بهذا القيد علم الملائكة، لكونه غير حاصل بالاستدلال.
2 في ع: تمييزه.
3 ساقطة من ب.
4 قال ابن بدران: أما فن الخلاف، فهو علم يُعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية، ودفع الشُبَه وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية. وهو الجدل الذي هو قسم من أقسام المنطق، إلا أنه خُصّ بالمقاصد الدينية. "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص231".
(1/43)
 
 
وَخَرَجَ بِقَيْدِ "الأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ" عِلْمُ الْمُقَلِّدِ؛ لأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِبَعْضِ الأَحْكَامِ لَيْسَتْ عَنْ دَلِيلٍ أَصْلاً، لا إجْمَالِيٍّ وَلا تَفْصِيلِيٍّ1.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلامِ عَلَى تَعْرِيفِ "أُصُولِ الْفِقْهِ" مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ الإِضَافِيُّ: شَرَعَ فِي تَعْرِيفِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عِلْمًا، فَقَالَ: "وَأُصُولُ الْفِقْهِ عِلْمًا" أَيْ: مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا صَارَتْ2 لَقَبًا لِهَذَا الْعِلْمِ: "الْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ" أَيْ يُقْصَدُ الْوُصُولُ "بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ"3.
وَقِيلَ: مَجْمُوعُ طُرُقِ الْفِقْهِ إجْمَالاً، وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، وَحَالُ الْمُسْتَفِيدِ. وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ دَلائِلِ الْفِقْهِ إجْمَالاً، وَكَيْفِيَّةُ الاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، وَحَالُ الْمُسْتَفِيدِ. وَقِيلَ: مَا تُبْنَى4 عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْفِقْهِ، وَتُعْلَمُ أَحْكَامُهَا بِهِ. وَقِيلَ: هِيَ أَدِلَّتُهُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تُفِيدُهُ بِالنَّظَرِ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ:
فَالْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدَةٍ. وَهِيَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ صُوَرٍ5 كُلِّيَّةٍ تَنْطَبِقُ
__________
1 ذكر في فوتح الرحموت "1/ 11" أنه يخرج بقيد "الأدلة التفصيلية" علم المقلد وعلم جبريل وعلم الله عز وجل، حتى أنه لا يحتاج لزيادة قيد "الاستدلال" إلا لزيادة الكشف والإيضاح.
2 ساقطة من ش.
3 انظر تعريف أصول الفقه بمعناه اللقبي في "المستصفى 1/ 4، اللمع ص4، فواتح الرحموت 1/ 14، الحدود للباجي ص36 وما بعدها، روضة الناظر وشرحها لبدران 1/ 20، إرشاد الفحول ص3، مختصر الروضة ص6، الإحكام للآمدي 1/ 7، التعريفات للجرجاني ص28، المعتمد 1/ 9، المحلي على جمع الجوامع 1/ 32 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 1/ 19".
4 في ش: ما تنبني.
5 صور: جمع صورة. والمراد بها في هذا المقام "القضية" أو "الأمر". "انظر إيضاح المبهم ص4، التعريفات ص177".
(1/44)
 
 
كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي تَحْتَهَا. وَلِذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إلَى تَقْيِيدِهَا1 بِالْكُلِّيَّةِ؛ لأَنَّهَا لا تَكُونُ إلاَّ كَذَلِكَ. وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا: "حُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ" وَكَقَوْلِنَا: "الْحِيَلُ فِي الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ". فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ يُتَعَرَّفُ بِالنَّظَرِ فِيهَا قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٌ.
فَمِمَّا يُتَعَرَّفُ بِالنَّظَرِ فِي الْقَضِيَّةِ الأُولَى: أَنَّ عُهْدَةَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ: حَنِثَ. وَأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ: لَمْ يَصِحَّ.
وَمِمَّا يُتَعَرَّفُ بِالنَّظَرِ2 فِي الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ: عَدَمُ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَبَيْعِ الْعِينَةِ، وَعَدَمُ سُقُوطِ الشُّفْعَةِ بِالْحِيلَةِ عَلَى إبْطَالِهَا، وَعَدَمُ حِلِّ الْخَمْرِ3 بِتَخْلِيلِهَا عِلاجًا4.
وَكَذَا قَوْلُنَا - وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا-: "الأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْفَوْرِ5" وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ "إلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ" عَنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ غَيْرِ6 الأَحْكَامِ، مِنْ الصَّنَائِعِ وَالْعِلْمِ بِالْهَيْئَاتِ وَالصِّفَاتِ.
__________
1 أي تقييد كلمة "القواعد" التي جاءت في التعريف.
2 ساقطة من ش.
3 في ب: الخمرة.
4 أي بمعالجة الخمر حتى تصير خلاً.
5 في ش: للفور.
6 ساقطة من ب.
(1/45)
 
 
وَ "بِالشَّرْعِيَّةِ" عَنْ الاصْطِلاحِيَّةِ1، وَالْعَقْلِيَّةِ: كَقَوَاعِدِ عِلْمِ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ.
وَ "بِالْفَرْعِيَّةِ" عَنْ الأَحْكَامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الأُصُولِ، كَمَعْرِفَةِ وُجُوبِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ} 2.
"وَالأُصُولِيُّ" فِي عُرْفِ أَهْلِ3 هَذَا الْفَنِّ: "مَنْ عَرَفَهَا" أَيْ عَرَفَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ. لأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى الأُصُولِ، كَنِسْبَةِ الأَنْصَارِيِّ إلَى الأَنْصَارِ وَنَحْوِهِ؛ وَلا تَصِحُّ النِّسْبَةُ إلاَّ مَعَ قِيَامِ مَعْرِفَتِهِ4 بِهَا وَإِتْقَانِهِ لَهَا، كَمَا أَنَّ مَنْ أَتْقَنَ الْفِقْهَ يُسَمَّى فَقِيهًا، وَمَنْ أَتْقَنَ الطِّبَّ يُسَمَّى طَبِيبًا وَنَحْوُ ذَلِكَ5.
"وَغَايَتُهَا" أَيْ غَايَةُ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، إذَا صَارَ الْمُشْتَغِلُ بِهَا قَادِرًا عَلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا: "مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَمَلُ بِهَا" أَيْ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ6؛ لأَنَّ ذَلِكَ مُوَصِّلٌ إلَى الْعِلْمِ، وَبِالْعِلْمِ يَتَمَكَّنُ الْمُتَّصِفُ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ الْمُوَصِّلِ إلَى خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ7.
__________
1 ككون الفاعل مرفوعاً.
2 الآية 19 من محمد.
3 ساقطة من ش ز.
4 في ب ز د: معرفتها به.
5 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 34 وما بعدها.
6 في ش: الشرعية قال.
7 انظر الإحكام للآمدي 1/ 7، إرشاد الفحول ص5.
(1/46)
 
 
"وَمَعْرِفَتُهَا" أَيْ: مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ "فَرْضُ كِفَايَةٍ1، كَالْفِقْهِ" قَالَ فِي "شَرْحِ التَّحْرِيرِ2": وَهَذَا3 الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ. قَالَ فِي "آدَابِ الْمُفْتِي"4: "وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالْفِقْهِ"5 اهـ.
وَقِيلَ: فَرْضُ عَيْنٍ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ6 فِي "أُصُولِهِ" - لَمَّا حَكَى هَذَا الْقَوْلَ-: وَالْمُرَادُ لِلاجْتِهَادِ. فَعَلَى هَذَا الْمُرَادِ يَكُونُ الْخِلافُ لَفْظِيًّا.
"وَالأَوْلَى" وَقِيلَ: يَجِبُ "تَقْدِيمُهَا" أَيْ تَقْدِيمُ تَعَلُّمِ أُصُولِ الْفِقْهِ
__________
1 وهو ما اختاره العلامة تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. "انظر المسودة ص571".
2 المراد به كتاب "التحبير في شرح التحرير" للإمام علي بن سليمان المرداوي الحنبلي المتوفي سنة 885هـ. شرح فيه كتابه "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول". "انظر الضوء اللامع 5/ 225، البدر الطالع 1/ 446، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص239".
3 في ش: وهذا هو.
4 كتاب "آداب المفتي" للعلامة أحمد بن حمدان الحرني الحنبلي المتوفي سنة 695هـ. وتذكره كتب الفقه والتراجم بهذا الاسم وباسم "صفة المفتي المستفتي". وقد طبع بدمشق سنة 1380هـ، باسم "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي".
5 صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص14.
6 هو محمد بن مفلح بن مفرج المقدسي الحنبلي، شمس الدين، أبو عبد الله، شيخ الإسلام، وأحد الأئمة الأعلام. قال ابن كثير: "كام بارعاً فاضلاً متقناً في علوم كثيرة" وقال ابن القيم: "ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح". وهو صاحب التصانيف النافعة كـ"الفروع" في الفقه و "الآداب الشرعية" و "شرح المقنع" الذي بلغ ثلاثين مجلداً. وله كتاب قيم في الأصول ذكره ابن العماد فقال: "وله كتاب جليل في أصول الفقه، حذا فيه حذو ابن الحاجب في مختصره". وقد اعتمد عليه المرادي. وجعله أصلاً لكتابه "التحرير". توفي سنة 763هـ. "انظر ترجمته في الدرر الكامنة 5/ 30، شذرات الذهب 6/ 199، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص223، 237، 241".
(1/47)
 
 
"عَلَيْهِ" أَيْ عَلَى تَعَلُّمِ الْفِقْهِ، لِيُتَمَكَّنَ بِمَعْرِفَةِ1 الأُصُولِ إلَى اسْتِفَادَةِ مَعْرِفَةِ الْفُرُوعِ2.
قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ3: "أَبْلَغُ4 مَا يُتَوَصَّلُ5 بِهِ إلَى إحْكَامِ الأَحْكَامِ: إتْقَانُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَطَرَفٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ"6.
"وَيُسْتَمَدُّ" عِلْمُ أُصُول الْفِقْهِ مِنْ ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ: "مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَ" مِنْ "الْعَرَبِيَّةِ، وَ" مِنْ "تَصَوُّرِ الأَحْكَامِ". وَوَجْهُ الْحَصْرِ: الاسْتِقْرَاءُ7.
وَأَيْضًا: فَالتَّوَقُّفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ الأَدِلَّةِ8. فَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ مِنْ جِهَةِ دَلالَةِ الأَلْفَاظِ عَلَى الأَحْكَامِ، فَهُوَ الْعَرَبِيَّةُ بِأَنْوَاعِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ مِنْ جِهَةِ تَصَوُّرِ مَا يَدُلُّ بِهِ
__________
1 في ش: من معرفة.
2 قال تقي الدين بن تيمية: "وتقديم معرفته –أي أصول الفقه- أولى عند ابن عقيل وغيره؛ لبناء الفروع عليها. وعند القاضي –إي أبي يعلى-: تقديم الفروع أولى؛ لأنها الثمرة المرادة من الأصول". "المسودة ص571، وانظر صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص14 وما بعدها".
3 هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري البغدادي الحنبلي، كان فقيهاً مفسراً فرضياً نحوياً لغوياً. قال الداودي: "كان صدوقاً، غزير الفضل، كامل الأوصاف، كثير المحفوظ ... وكان لا تمضي عليه ساعة من نهار أو ليل إلا في العلم". ألف كتباً كثيرة منها "تفسير القرآن" و "البيان في إعراب القرآن" و "التعليق في مسائل الخلاف في الفقه" و "المرام في نهاية الأحكام" و "مذاهب الفقهاء" توفي سنة 616هـ. "انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 109 وما بعدها، وفيات الأعيان 2/ 286، بغية الوعاة 2/ 38، طبقات المفسرين للداودي 1/ 224 وما بعدها".
4 في ب: اكبر.
5 في ش ز ع: توصل.
6 انظر صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص14.
7 انظر الإحكام للآمدي 1/ 7، إرشاد الفحول ص6.
8 في ش: الأدلة وهو علم الكلام.
(1/48)
 
 
عَلَيْهِ، فَهُوَ1 تَصَوُّرُ الأَحْكَامِ.
أَمَّا تَوَقُّفُهُ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ الأَدِلَّةِ: فَلِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ كَوْنِ الأَدِلَّةِ2 الْكُلِّيَّةِ حُجَّةً شَرْعًا عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ3، وَصِدْقِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْهُ4 وَيَتَوَقَّفُ صِدْقُهُ عَلَى دَلالَةِ الْمُعْجِزَةِ.
أَمَّا تَوَقُّفُهُ مِنْ جِهَةِ دَلالَةِ الأَلْفَاظِ عَلَى الأَحْكَامِ: فَلِتَوَقُّفِ5 فَهْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَدْلُولُ: فَهُوَ عِلْمُ اللُّغَةِ6، أَوْ مِنْ أَحْكَامِ تَرْكِيبِهَا7: فَعِلْمُ النَّحْوِ8، أَوْ مِنْ أَحْكَامِ أَفْرَادِهَا: فَعِلْمُ التَّصْرِيفِ9، أَوْ مِنْ جِهَةِ مُطَابِقَتِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ،
__________
1 في ش ز: وهو.
2 في ب. أدلة.
3 ساقطة من ب.
4 ساقطة من ش.
5 في ش ز: فلتعلق.
6 علم اللعة: هو علم باحث عن مدلولات جواهر المفردات وهيئاتها الجزيئية التي وضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصي. وعماً حصل من تركيب لكل جوهر. وهيئاتها الجزئية على وجه جزئي، وعن معانيها الموضوعة لها بالوضع الشخصي. "مفتاح السعادة 1/ 100".
7 في ز: تركبها.
8 النحو: هو علم بقوانين يعرف بها التراكيب العربية، من الاعراب والبناء وغيرهما وقيل: هو علم بأصول يعرف بها صحيح الكلام وفاسده. "التعريفات للجرجاني ص259 وما بعدها".
9 قال ابن الحاجب: التصريف علم بأصول تعرف بها أحوال أبنية الكلم التي ليست بإعراب. "انظر الشافية وشرحها للاستراباذي 1/ 1 وما بعدها، مفتاح السعادة 1/ 131، تسهيل الفوائد ص290، الطراز 1/ 21".
(1/49)
 
 
وَسَلامَتِهِ مِنْ التَّعْقِيدِ، وَوُجُوهِ الْحُسْنِ: فَعِلْمُ الْبَيَانِ1 بِأَنْوَاعِهِ الثَّلاثَةِ2.
وَأَمَّا تَوَقُّفُهُ مِنْ جِهَةِ تَصَوُّرِ مَا يَدُلُّ بِهِ عَلَيْهِ، مِنْ تَصَوُّرِ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ3: فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إثْبَاتِهَا، وَلا مِنْ نَفْيِهَا4. لأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لا بُدَّ لِكُلِّ مَنْ طَلَبَ عِلْمًا أَنْ يَتَصَوَّرَهُ بِوَجْهٍ مَا، وَيَعْرِفَ غَايَتَهُ وَمَادَّتَهُ: ذَكَرَ فِي أَوَّلِ5 هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ حَدَّ6 أُصُولَ الْفِقْهِ، مِنْ حَيْثُ إضَافَتُهُ، وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عِلْمًا. وَحَدُّ الْمُتَّصِفَ بِمَعْرِفَتِهِ. لِيَتَصَوَّرَهُ طَالِبُهُ، مِنْ جِهَةِ تَعْرِيفِهِ بِحَدِّهِ، لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي طَلَبِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ غَايَتَهُ؛ لِئَلاَّ يَكُونَ سَعْيُهُ فِي طَلَبِهِ عَبَثًا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُسْتَمَدُّ مِنْهُ؛ لِيُرْجَعَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ إلَى مَحَلِّهَا "وَبِهِ خُتِمَ هَذَا الْفَصْلُ"7.
__________
1 علم البيان: هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراتيب مختلفة في وضوح الدلالة على المقصود. بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض. "كشف الظنون 1/ 259، الإيضاح للقزويني ص150".
2 وهي التشبه والمجاز والكناية "الإضاح ص151".
3 ذكر الأصوليون أن استمداد أصول الفقه من ثلاثة أشياء: علم الكلام، واللغة العربية، وتصور الأحكام الشرعية بالمعنى الذي يعم الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية، لا الأحكام التكليفية وحدها كما اقتصر المصنف. "انظر الإحكام للآمدي 1/ 8، إرشاد الفحول ص6".
4 لأن المقصود إثباتها أو نفيها، كقولنا: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصلاة واجبة، والربا حرام، وما إلى ذلك. "إرشاد الفحول ص6".
5 ساقطة من ش ب، وفي ز: في هذا الفصل.
6 ساقطة من ش.
7 ساقطة من ش.
(1/50)
 
 
"فَصْلٌ"
الْفَصْلُ لُغَةً: الْحَجْزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وَمِنْهُ فَصْلُ الرَّبِيعِ؛ لأَنَّهُ يَحْجِزُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَهُوَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ؛ لأَنَّهُ يَحْجِزُ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْمَسَائِلِ وَأَنْوَاعِهَا1.
وَلَمَّا كَانَ مَوْضُوعُ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ: الأَدِلَّةَ الْمُوَصِّلَةَ إلَى الْفِقْهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الدَّلِيلِ، وَلا عَلَى نَاصِبِهِ، أَخَذَ فِي تَعْرِيفِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
"الدَّالُّ: النَّاصِبُ لِلدَّلِيلِ"2 وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. قَالَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَأَنَّ الدَّلِيلَ الْقُرْآنُ3.
وَقِيلَ: إنَّ الدَّالَّ وَالدَّلِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَإِنَّ "دَلِيلَ" فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، كَعَلِيمٍ وَسَمِيعٍ، بِمَعْنَى عَالِمٍ وَسَامِعٍ4.
"وَهُوَ" أَيْ وَالدَّلِيلُ "لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ: "الْمُرْشِدُ" يَعْنِي أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُرْشِدِ حَقِيقَةً "وَ" عَلَى "مَا" يَحْصُلُ "بِهِ الإِرْشَادُ" مَجَازًا. فَالْمُرْشِدُ: هُوَ النَّاصِبُ لِلْعَلامَةِ أَوْ الذَّاكِرُ لَهَا. وَاَلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الإِرْشَادُ هُوَ الْعَلامَةُ الَّتِي نُصِبَتْ لِلتَّعْرِيفِ5.
__________
1 انظر المطلع للبعلي ص7.
2 قاله الآمدي والشيرازي والباجي والباقلاني وغيرهم "انظر الإحكام للآمدي 1/ 9، اللمع ص3، الحدود ص39، الإنصاف ص15".
3 في ش: هو القرآن.
4 حكاه الشيرازي والآمدي. "انظر الإحكام للآمدي 1/ 9، اللمع ص3".
5 انظر تفصيل الموضوع في "العبادي على شرح الورقات ص47، اللمع ص3، العضد على ابن الحاجب 1/ 39، الحدود ص37، التعريفات ص109".
(1/51)
 
 
"وَ" الدَّلِيلُ "شَرْعًا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ عُلَمَاءِ1 الشَّرِيعَةِ: "مَا" أَيْ الشَّيْءُ الَّذِي "يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ" - مُتَعَلِّقٌ بِالتَّوَصُّلِ- أَيْ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ؛ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ "فِيهِ" أَيْ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ "إلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ"2 مُتَعَلِّقٌ بِالتَّوَصُّلِ.
وَقَوْلُهُ "خَبَرِيٍّ" أَيْ تَصْدِيقِيٍّ.
وَإِنَّمَا قَالُوا "مَا يُمْكِنُ" وَلَمْ يَقُولُوا مَا "يُتَوَصَّلُ"، لِلإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّوَصُّلُ بِالْقُوَّةِ، لأَنَّهُ يَكُونُ دَلِيلاً، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ3.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: "مَا يُمْكِنُ" مَا لا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى الْمَطْلُوبِ، كَالْمَطْلُوبِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ [بِهِ] إلَيْهِ، أَوْ4 يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ "بِهِ" إلَى الْمَطْلُوبِ، لَكِنْ لا بِالنَّظَرِ كَسُلُوكِ طَرِيقٍ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهَا إلَى مَطْلُوبِهِ.
__________
1 في ش: أهل.
2 هذا التعريف الاصطلاحي للدليل حكاه الآمدي وابن الحاجب والسبكي والعبادي وزكريا الأنصاري والشوكاني وغيرهم "انظر الإحكام 1/ 9، العبادي على شرح الورقات ص48، المحلي على جمع الجوامع 1/ 124، العضد على ابن الحاجب 1/ 36، إرشاد الفحول ص5، فتح الرحمن ص33" وحدّه الباجي بأنه "ماصح أن يرشد إلى المطلوب الغائب عن الحواس" "الحدود ص38" وعرفه الباقلاني بأنه "ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطراره" "الإنصاف ص5" وقال الزركشي: "هو ما يتوقف عليه العلم أو الظن بثبوت الحكم بالنظر الصحيح" "لقطة العجلان ص33" وقال الشريف الجرجاني: "هو الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر". "التعريفات ص109".
3 قال الباجي: "إن الدليل هو الذي يصح أن يُستدل به ويسترشد ويتوصل به إلى المطلوب، وإن لم يكن استدلالٌ ولا توصَّل به أحد. ولو كان الباري جل وعلا خلق جماداً، ولم يخلق مَنْ يستدل به على أن له محدثاً، لكان دليلاً على ذلك وإن لم يستدل به أحد. فالدليل دليل لنفسه، وإن لم يُستدل به". "الحدود ص38".
4 في ش: و.
(1/52)
 
 
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ "بِصَحِيحِ النَّظَرِ" فَاسِدُهُ1، كَكَاذِبِ الْمَادَّةِ فِي اعْتِقَادِ النَّاظِرِ.
وَخَرَجَ بِوَصْفِ "الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ" الْمَطْلُوبُ التَّصَوُّرِيُّ، كَالْحَدِّ وَالرَّسْمِ2.
وَيَدْخُلُ فِي "الْمَطْلُوبِ الْخَبَرِيِّ" مَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَالظَّنَّ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ3.
وَالْقَوْلُ الأول: أَنَّ4 مَا5 أَفَادَ الْقَطْعَ يُسَمَّى دَلِيلاً، وَمَا6 أَفَادَ الظَّنَّ يُسَمَّى أَمَارَةً7.
__________
1 لأن النظر الفاسد لا يمكن التوصل به إلى المطلوب، لانتفاء وجه الدلالة عنه. "المحلي على جمع الجوامع 1/ 128" وفي ش: فاسد.
2 بعد أن ذكر الآمدي حد الدليل في الاصطلاح الشرعي وَشَرَحَه قال: وهو منقسم إلى عقلي محض، وسمعي محض، ومركب من الأمرين. فالأول: كقولنا في الدلالة على حدوث العالم: العالم مؤلف، وكل مؤلف حادث، فيلزم عنه: العالم حادث. والثاني: كالنصوص من الكتاب والسنة والإجماع والقياس كما يأتي تحقيقه. الثالث: كقولنا في الدلالة على تحريم النبيذ: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام". فيلزم عنه: النبيذ حرام. "الإحكام للآمدي 1/ 9 وما بعدها".
3 حكاه الآمدي عن الفقهاء "الإحكام 1/ 9" واختاره الزركشي ومجد الدين بن تيمية. "انظر فتح الرحمن ص33، المسودة ص573".
4 ساقطة من ع ز.
5 ساقطة من ش.
6 في ش: وإن.
7 قاله أبو الحسين البصري "المعتمد 1/ 10" وحكاه المجد بن تيمية عن بعض المتكلمين، ثم أضاف ولده شهاب الدين بن تيمية فقال: إنه ظاهر كلام القاضي في "الكفاية" أيضاً "المسودة ص573 وما بعدها" وحكاه الآمدي عن الأصوليين وأطلق "الإحكام 1/ 9" وحكاه الباجي عن بعض المالكية وردّه "الحدود ص38" وحكاه الشيرازي عن أكثر المتكلمين ثم قال: وهذا خطأ، لأن العرب لا تفرق في تسميةٍ بين ما يؤدي إلى العلم أو الظن، فلم يكن لهذا الفرق وجه. "اللمع ص3".
(1/53)
 
 
وَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ الْمُكْتَسَبُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي الدَّلِيلِ "عَقِبَهُ" أَيْ عَقِبَ النَّظَرِ "عَادَةً" أَيْ فِي الْعَادَةِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ؛ لأَنَّهُ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَفِيضَ1 عَلَى نَفْسِ الْمُسْتَدِلِّ بَعْدَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ مَادَّةُ مَطْلُوبِهِ، وَصُورَةُ مَطْلُوبِهِ الَّذِي تَوَجَّهَ بِنَظَرِهِ إلَى تَحْصِيلِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْصُلُ عَقِبَ النَّظَرِ ضَرُورَةً2. لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ تَرْكُهُ3.
"وَالْمُسْتَدِلُّ": هُوَ "الطَّالِبُ لَهُ" أَيْ لِلدَّلِيلِ4 "مِنْ سَائِلٍ وَمَسْئُولٍ"، قَالَهُ الْقَاضِي5 فِي "الْعُدَّةِ"6، وَأَبُو الْخَطَّابِ7 فِي "التَّمْهِيدِ"، وَابْنُ
__________
1 في ش: يفيد.
2 أي من دون اختياره وقصده. ولا قدرة له على دفعه أو الانفكاك عنه.
3 انظر تحقيق الموضوع وآراء العلماء فيه في "المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 1/ 129 وما بعدها، فواتح الرحموت 1/ 23 وما بعدها، فتح الرحمن ص21".
4 في ش: الدليل.
5 هو القاضي محمد بن الحسين بن محمد، أبو يعلى الفراء الحنبلي، كان عالم زمانه وفريد عصره، إماماً في الأصول والفروع. عارفاً بالقرآن وعلومه والحديث وفنونه والفتاوى والجدل، مع الزهد والورع والعفة والقناعة. ألف التصانيف الكثيرة في فنون شتى، فمما ألفه في أصول الفقه "العدة" و "مختصر العدة" و "الكفاية" و "مختصر الكفاية" و "وال