المعتصر من شرح مختصر الأصول من علم الأصول

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: المعتصر من شرح مختصر الأصول من علم الأصول
المؤلف: أبو المنذر محمود بن محمد بن مصطفى بن عبد اللطيف المنياوي
عدد الأجزاء: 1
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
أما بعد ...
فبعد أن أنهيت - بفضل الله ومنته - شرحي لما اختصرته من رسالة "الأصول من علم الأصول" للشيخ العثيمين - رحمه الله - طلب مني بعض الإخوة أن اختصر هذا الشرح وذلك نظرا لأنه قد طال بعض الشيء، وخاصة على المبتدئين في دراسة هذا العلم، مما قد تتقاصر همم بعضهم عن إتمامه، فطلبوا مني أن اختصر الشرح اختصارا غير مخل ويكون كالتوطئة بين يدي دراسة الشرح الأصلي، فاستخرت الله العظيم في ذلك، فانشرح صدري، وشرعت في التلخيص مراعيا الآتي:
1 - الاكتفاء بما تم شرحه من مسائل الكتاب الأصلي دون الزيادة عليها، بل قد أحذف بعض المسائل والتي لا أراها مناسبة لهذا المختصر - كمسألة: ما يمتنع نسخه، وذلك لطول النقاش فيها وكثرة فروعها -، وذلك بما لا يؤثر على تسلسل وترابط مواضيع المختصر.
2 - الاقتصار على النقاط الرئيسة دون الفرعية.
3 - المحافظة على ترتيب الرسالة الأصل.
4 - الاقتصار على القول الراجح سواء أكان في التعاريف، أو المسائل دون
الدخول في عرض الخلاف إلا نادرا فيما يشتهر فيه الخلاف ويحسن عدم السكوت
(1/3)
 
 
عن الجواب على شبه المخالف.
5 - الاكتفاء بذكر ما انتهيت إليه من تعاريف، أو ترجيحات مع عدم التقيد بذكر عبارات الشيخ العثيمين - رحمه الله - في غالب الأحيان، مما قد لا يلحظ به البعض وجه التشابه بين هذا المختصر وبين رسالة الشيخ العثيمين - رحمه الله - اللهم إلا في الترتيب وعناوين المواضيع، مع الأخذ في الاعتبار أنني قد أزيد، أو أحذف بعض العناوين أحيانا، وقد أعدل فيها بما يخدم موضوع المختصر ويحافظ على تسلسل مواضيعه.
وسميته المعتصر من شرح مختصر الأصول من علم الأصول.
منهجي:
والناظر في رسالة الشيخ العثيمين - رحمه الله - يجد أن صياغتها كانت حنبلية يخرج فيها الشيخ عما يراه مخالفا للأدلة، وقد سلكت نفس مسلك الشيخ - رحمه الله - فكنت اهتم بذكر مذهب الحنابلة وأحرره في غالب المسائل، إلا أنني عند الترجيح لا أتقيد بمذهب؛ بل أرجح ما يرجحه الدليل.
 
وهذا أوان الشروع في المقصود، سائلا المولى - عز وجل - أن ينفع بهذا المختصر وبأصله، وأن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يدخر لي أجره يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
 
المؤلف
غفر الله له ولوالديه
(1/4)
 
 
أصُولُ الفِقْه
تعريف أصول الفقه كمركب إضافي:
تعريف الأصول لغة:
الأصول جمع أصل واختلفت عبارات الأصوليين في حد الأصل لغة قال السمعاني في " قواطع الأدلة" (1/ 21): (ويقال في حد الأصل ما ابتنى عليه غيره والفرع ما ابتنى على غيره. وقيل الأصل ما يقع التوصل به إلى معرفة ما وراءه، والعبارتان مدخولتان؛ لأن من أصول الشرع ما هو عقيم لا يقبل الفرع، ولا يقع به التوصل إلى ما وراءه بحال مثل: ما ورد به الشرع من دية الجنين والقسامة (1) وتحمل العقل (2) فهذه أصول ليست لها فروع، فالأولى أن يقال: إن الأصل: كل ما يثبت دليلا في إيجاد حكم من أحكام الدين. وإذا حد هذا فيتناول ما جلب فرعا، أو لم يجلبه) ونقله عنه الزركشي في البحر المحيط (1/ 11) فقال: (كل ما ثبت دليلا في إيجاب حكم من الأحكام) فعممه، وهو أولى طالما أننا نتكلم عن التعريف اللغوي.
ولما كان الأصل يستعمل في الاصطلاح بمعنى الدليل، وبمعنى القاعدة، والراجح، وغير ذلك كان الأصل كالجنس والدليل كأحد أنواعه، وعليه فتعريف الأصل بالدليل فيه نوع دور، والأولى عندي في تعريف الأصل لغة أنه: (ما كان سببا في إيجاد حكم من الأحكام)، والأحكام هنا عامة تشمل الأحكام الشرعية، والعادية، والعقلية.
__________
(1) بالفتح الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم، مع أنهم لم يشاهدوا، ولها شروط ليس هذا محل الكلام عليها، ولهذا فالقسامة أصل في الشرع مستقل بنفسه. وورد فيها الحديث الذي رواه البخاري عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال (كبر كبر). وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال (تحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم). قالوا وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال (فتبرئكم يهود بخمسين). فقالوا كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده).
(2) أي أداء دية القتيل، والعاقلة وهم العصبة وهم القرابة من قبل الأب الذين يشتركون في دفع ديته.
(1/5)
 
 
ويدخل في هذا التعريف ما له فرع، كالشجرة فهي أصل لفروعها؛ لأنها سببا في إيجادها، وكالأب فهو أصل لابنه؛ لأنه كان سببا في إيجاده.
ويشمل أيضا ما ليس له فرع، كالقسامة فهي أصل للأيمان التي تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم، وذلك لأنها سبب في إيجاد الأيمان.
ويدخل فيه ما يبنى عليه غيره، كالأساس فهو أصل للجدار؛ لأنه كان سببا في إيجاده.
ويدخل فيه ما لا يبني عليه غيره، كالأب أصل لابنه، ولا يقال: إن الولد يبنى على الوالد، والوالد سبب في إيجاد ابنه، وهكذا.
 
تعريف الفقه
لغة:
الفقه لغة: الفهم. سواء أكان لما ظهر وبان، أو لما دق وخفي، والدليل على ذلك مجيئه في الشرع مرادا به مطلق الفهم كما في قوله تعالى: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه: 27، 28] فقوله: (قَوْلِي) معرف بالإضافة فيشمل ما ظهر وما خفي من قوله (1)، وقوله الله تعالى: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء: 78]، (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44]، (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) [هود: 91]، أي: لا يكادون يفهمون، ولكن لا تفهمون، وما نفهم كثيراً مما تقول. وأما من قيده بالفهم الدقيق، وعلله بأنه يقال: فقهت معنى الكلام وفهمته، ولا يقال: فقهت السماء والأرض، وهذا مردود بما قاله أئمة اللغة: إن الفقه هو مطلق الفهم، وامتناع قولهم فقهت السماء والأرض إنما هو من ناحية أن الفقه يتعلق بالمعاني
لا بالمحسوسات، والسماء والأرض من قبيل المحسوسات (2).
 
تعريف الفقه اصطلاحا:
الفقه اصطلاحا هو: (الأحكام الشرعية العملية المكتسبة بأدلتها التفصيلية).
والمراد بقولنا:" الأحكام الشرعية " الأحكام المتلقاة من الشرع كالوجوب والتحريم
__________
(1) انظر: شرح الشيخ أحمد الحازمي على قواعد الأصول.
(2) انظر: التقرير والتحبير (1/ 27).
(1/6)
 
 
، فخرج به الأحكام العقلية كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء والأحكام العادية كمعرفة نزول الطل في الليلية الشاتية إذا كان الجو صحواً، والأحكام الوضعية كمعرفة أن كان وأخواتها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، ويخرج أيضا الأحكام الحسية كالعلم أن النار محرقة، وأيضا يخرج الأحكام التجريبية (الثابتة بالتجربة) كالعلم بأن السم قاتل وقد تتداخل هذه الأحكام إلا أن الغرض بيان معنى الشرعية وهو خلاف كل ما سبق.
والمراد بقولنا: " العملية " المتعلقة بعمل المكلف كالصلاة والزكاة، والصوم، والبيع فخرج به ما يتعلق بالاعتقاد (وتسمى العلمية) كتوحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته فلا يسمى ذلك فقهًا في الاصطلاح، ويخرج أيضا علم التصوف أو السلوك كحرمة الكذب والغيبة ووجوب الصدق، وهكذا فهذا في الاصطلاح لا يدخل في الفقه، ولم يدونه غالب الفقهاء في كتب الفقه.
والمراد بقولنا: "المكتسبة" أي: المستنبطة عن طريق النظر والاستدلال ليخرج علم الله عزوجل فهو علم لازم لذاته لم يكتسبه.
وليخرج علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو علم مستفاد من الوحي غير مكتسب عن طريق النظر والاستدلال.
ويخرج علم الملائكة فهو علم مستفاد من وحي الله إليهم، أو عن طريق النظر في اللوح المحفوظ، أو غير ذلك، فهو غير مكتسب عن طريق النظر والاستدلال.
ويخرج أيضا علم المقلد؛ لأنه لم يكتسبه عن طريق النظر والاستدلال.
والمراد بقولنا: "بأدلتها التفصيلية " أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية
فخرج به أصول الفقه لأن البحث فيه إنما يكون في أدلة الفقه الإجمالية. والأدلة التفصيلية وهي الجزئية كقوله تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) [الإسراء: 32] فهذا دليل جزئي يخص مسألة واحدة معينة وهي الزني ويبين حكمها وهو تحريم الزنى.
وأما الأدلة الإجمالية فهي كالقواعد الكلية ويندرج تحت كل واحدة منها أحكاما كثيرة وسوف يأتي بإذن الله الكلام عنها قريبا.
تنبيه - الفقه هو نفس الأحكام لا معرفتها ولا العلم بها:
عرف البعض الفقه بأنه: معرفة، والبعض بأنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية
(1/7)
 
 
المكتسبة بأدلتها التفصيلية. والصواب تعريف الفقه بأنه نفس الأحكام لا معرفتها ولا العلم بها؛ لأن الأحكام الثابتة في نفسها تسمى فقها سواء وجد من يعرفها أو لم يوجد فالمعرفة ليست هي الفقه.
قال المرداوي في "التحبير" (1/ 163) وهو يستعرض الأقوال في تعرف الفقه: (القول الثاني -: إنه نفس الأحكام الشرعية الفرعية، وهو أظهر، واختاره ابن مفلح، وابن قاضي الجبل، والعسقلاني شارح ' الطوفي '، وجمع كثير، لا معرفتها ولا العلم بها، إذ العلم أو المعرفة بالفقه غير الفقه، فلا يكون داخلاً في ماهيته (1)، وما ليس داخلاً في الماهية لا يكون جنساً في حده).
 
تعريف أصول الفقه كلقب
أصول الفقه هو: (أدلة الفقه الإجمالية وطرق استفادة جزئياتها وحال مستفيدها) (2).
قال المرداوي في "التحبير" (1/ 177): (الأصح أن أصول الفقه: الأدلة، لا معرفتها). وقال أيضا: (إذ العلم والمعرفة بأصول الفقه غير أصول الفقه، فلا يكون
داخلاً في ماهيتها) (3).
وخرج بقولنا: "أدلة الفقه": أدلة غير الفقه، كأدلة الكلام.
ومعنى قولنا: " الإجمالية " أي غير المعينة، تسمى أيضا الكلية وهي كالقواعد العامة مثل قولهم: الأمر للوجوب والنهي للتحريم، وكالعام والخاص، والمطلق والمقيد، وكالكتاب والسنة، ونحو ذلك، والأدلة الإجمالية خلاف التفصيلية التي سبق وأن تكلمنا عنها في تعريف الفقه.
__________
(1) أي حقيقته.
(2) هذا التعريف ذكره الأنصاري في "غاية الأصول" (ص/4).
(3) انظر "نهاية السول" (1/ 16) وحاشية المطيعي عليه.
(1/8)
 
 
فعلم الأصول إنما يبحث في هذه الأدلة الإجمالية، كمطلق الأمر، وكالإجماع والقياس فيبحث عن الأول بأنه للوجوب حقيقة أم للاستحباب، وعن الأخيرين بأنهما حجة أم لا، ويبين أقسامهما.
ومعنى قولنا: " طرق استفادة " طرق أي مرجحات. قال البناني في "حاشيته على جمع الجوامع" (1/ 35): "حقيقة الطرق هي المسالك وقد أريد بها المرجحات تشبيها لها بالمسالك بجامع التوصل بكل إلى المقصود ". والمقصود معرفة الترجيح عند التعارض مثلا.
ومعنى قولنا: " وحال مستفيدها " معرفة حال المستفيد وهو المجتهد سمى مستفيداً لأنه يستفيد بنفسه الأحكام من أدلتها دون المقلد لبلوغه مرتبة الاجتهاد فمعرفة المجتهد وشروط الاجتهاد وحكمه ونحو ذلك يبحث في أصول الفقه.
 
فائدة أصول الفقه
ذكر الأصوليون له من الفوائدِ ما لا يستطيع أحد إحصاءه ومن ذلك:
- أنه السبيل القويم للاجتهاد وذلك أن الاجتهاد في الإسلام محكوم بموازين دقيقة يجب اتباعها وإلا كان الاجتهاد بلا ضوابط لوناً من العبث.
- ومن فوائده أنه أظهر مزايا التشريع الإسلامي وحيويته ومرونته وبه حفظ الله القرآن العظيم من العبث والتأول وحفظ الأحكام من الفوضى.
- ومن فوائده أنه يظهر مناهج الأئمة في استنباط الأحكام وبذلك ترتفع الشحناء من النفوس ويعذر المسلم إخوانه من المسلمين فيما اختاروه من مذاهب فقهية.
- إن القواعد التي أَصَّلها العلماء للاستنباط هي أيضا منهج دقيق للتفكير السليم حيث توضع العبارات في موازين دقيقة تستنبط منها الأحكام الشرعية وهكذا فإنَّ علم الأصول يكسب الطالب ملكة التفكير الصحيح السليم.
- فالقواعدُ الأصولية وحدها هي الكفيلة باستنباط أحكام شرعية لكل ما يستجد من القضايا خلال تطور الحياة وتنوع العقود والمعاملات والاكتشافات.
- إن علم أصول الفقه يضبط الفروع الفقهية ويردها إلى أصولها ويجمع المبادئ
(1/9)
 
 
المشتركة ويبين أسباب التباين بينها ويظهر مبررات الاختلاف وهكذا فإنه يكون فيصلاً واضحاً يعتمده الفقيه والمجتهد في تقرير الأحكام.
- ومن فوائده أنه يعتبر العماد الرئيس لمن يدرس المذاهب الإسلامية بقصد المقارنة والإفادة من اجتهاد الجميع.
- وثامن هذه الفوائد هي أن يستبصر طالب العلم في اختلاف الأئمة في الفروع وما يعود به هذا الاختلاف على الفقه الإسلامي من ثراء ووفرة.
 
أول من صنف فيه
المشهور أن أول من جمع أصول الفقه كفن مستقل هو الإمام الشافعي (204 هـ) رحمه الله. وقد صنف عدة رسائل في ذلك، فصنف الرسالة قال الحبش: وهو عبارة عن محاولة أولى لتحديد طرق الاستنباط ومصادر التشريع وقد كتبه الإمام الشافعي أساساً رداً على جماعة منكري السنة الذين ظهروا في عصره فأثبت فيه حجية السنة ثم توسع فبين مصادر التشريع تفصيلاً ومناهج الاستدلال بها.
وكذلك صنف الشافعي كتباً أخرى في الأصول منها: جماع العلم وهو كتاب قصد منه إثبات وجوب إتباع خبر الآحاد الصحيح وأقام الأدلة على ذلك.
ثم كتب الإمام الشافعيُّ كتابين آخرين وهما: إبطال الاستحسان وكتاب اختلاف الحديث وكلاهما من الكتب المبكرة في علم أصول الفقه).
- وقيل إن أبا يوسف (182 هـ) صاحب أبي حنيفة سبق الشافعي في ذلك فقال ابن خلكان في "وفيات الأعيان": " وقال طلحة بن محمد بن جعفر: أبو يوسف مشهور الأمر ظاهر الفضل، وهو صاحب أبي حنيفة، وأفقه أهل عصره، ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهاية في العلم والحكم والرياسة والقدر، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض".
- وقيل أن أول من صنف هو محمد بن الحسن الشيباني (189 هـ) وقد صرح
ابن النديم في «الفهرست» بان للشيباني من مؤلفاته الكثيرة تأليف يسمى ب‍ «أصول
(1/10)
 
 
الفقه» وتأليف سماه «كتاب الاستحسان» وتأليف «كتاب اجتهاد الرأي».
- وقيل أن أول من صنف هشام بن الحكم الرافضي توفي (179، وقيل 187، وقيل 198 - 199 هـ) وينسب إليه كتاب الألفاظ.
ومن الملاحظ أن الشافعي تتلمذ على الشيباني والشيباني تتلمذ على أبي يوسف.
(1/11)
 
 
الأحكام
تعريف الحكم لغة:
الأحكام: جمع حكم وهو لغة القضاء.
قال الفيومي: (الْحُكْمُ الْقَضَاءُ وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ يُقَالُ حَكَمْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا إذَا مَنَعْته مِنْ خِلَافِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَحَكَمْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ فَصَلْتُ بَيْنَهُمْ فَأَنَا حَاكِمٌ وَحَكَمٌ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْجَمْعُ حُكَّامٌ وَيَجُوزُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ ... ) (1).
قال المرداوي في "التحبير" (2/ 789): (اعلم أن الحكم مصدر قولك: حكم بينهم يحكم حكماً، إذا قضى، ومعناه في اللغة: المنع، وإليه ترجع تراكيب مادة: ح، ك، م، أو أكثرها، فمن ذلك: حكمت الرجل تحكيماً، إذا منعته مما أراد. وحكمت السفيه بالتخفيف -، وأحكمت، إذا أخذت على يده. وسمي القاضي: حاكماً؛ لمنعه الخصوم من التظالم).
 
تعريف الحكم اصطلاحاً:
الحكم اصطلاحاً هو: (خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء، أو التخيير).
شرح التعريف:
قولنا: "خطاب الله" إما أن يكون مباشرا، أو غير مباشر، فالأول الكتاب والثاني السنة.
وقولنا: "فعل" أي عمل سواء أكان قولا أم فعلا أم إيجادا أم تركا، فخرج به ما تعلق بالاعتقاد فلا يسمى حكماً بهذا الاصطلاح.
وقولنا: "المكلف" أولى مما عبر به البعض بصيغة الجمع، حتى يدخل فيه بعض الأفعال الخاصة بمكلف واحد كشهادة خزيمة وخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك.
قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (1/ 337): (وقلنا: "المكلف" بالإفراد ليشمل ما يتعلق بفعل الواحد، كخصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وكالحكم بشهادة
__________
(1) المصباح المنير، وانظر أيضا: تهذيب اللغة، مختار الصحاح، لسان العرب، تاج العروس: مادة (ح ك م).
(1/12)
 
 
خزيمة، وإجزاء العناق في الأضحية لأبي بردة ... ).
وقال أيضا في (1/ 335): " وخرج بقوله: "المتعلق بفعل المكلف" خمسة أشياء: الخطاب المتعلق بذات الله وصفته وفعله. وبذات المكلفين والجماد.
فالأول: ما تعلق بذاته، نحو قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران: 18].
والثاني: ما تعلق بصفته، نحو قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 255].
الثالث: ما تعلق بفعله، نحو قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد: 16].
الرابع: ما تعلق بذات المكلفين، نحو قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) [الأعراف: 11]، وقوله تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [النساء: 1].
الخامس: ما تعلق بالجماد. نحو قوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) [الكهف: 47]، ونحوها".
وقولنا: (بالاقتضاء) أي الطلب، قال المرداوي في "التحبير" (2/ 798): (الاقتضاء: هو الطلب للفعل جزماً، أو غير جزم، أو الترك جزماً، أو غير جزم)
وقولنا: "أو التخيير" يعني أن المكلف مخير بين الفعل والترك.
والمدقق في الأقسام الخمسة السابقة المذكورة في التعريف يلاحظ أن الأول هو الواجب إذ أن طلبه من للشارع للمكلف على سبيل الإلزام، والثاني هو المندوب، والثالث هو المحرم، والرابع هو المكروه، والخامس هو المباح، وهذه تسمى الأحكام الطلبية أو التكليفية.
 
تنبيه:
ينبغي التفريق بين طريقة جمهور الأصوليين وطريقة الفقهاء وبعض الأصوليين في تعريف الحكم الشرعي.
قال الشيخ عياض السلمي في " أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله" (ص/24): (الحكم في اصطلاح جمهور الأصوليين: «خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع». وعند الفقهاء: هو مقتضى خطاب الله المتعلق
(1/13)
 
 
بأفعال المكلفين الخ، أو مدلول خطاب الله الخ. ومال بعض الأصوليين إلى اختيار هذا التعريف ... ).
وقال صاحب "البيان المأمول": (الفقهاء وعلماء الفروع يعنون بالحكم الشرعي في لغتهم الأثر الذي يترتب على الدليل كالوجوب والحرمة والإباحة، وأما علماء الأصول فيعنون دليل الحكم الذي هو الآية أو الحديث أو نص الإجماع وهكذا، فمثلاً قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (البقرة:43) هذا هو الحكم نفسه عند الأصوليين، وأما عند الفقهاء فيعنون ما يترتب على هذا النص وهو وجوب الصلاة).
وقال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (1/ 333): ("الحكم الشرعي" في اصطلاح الفقهاء: "مدلول خطاب الشرع". قال الإمام أحمد رضي الله عنه: الحكم الشرعي خطاب الشرع وقوله. قال في "شرح التحرير": والظاهر أن الإمام أحمد أراد بزيادة: "وقوله" على خطاب الشرع: التأكيد، من باب عطف العام على الخاص؛ لأن كل خطاب قول، وليس كل قول خطابا. انتهى).
وسبب الاختلاف بين الطريقتين أن الأصولي يبحث في الأدلة ذاتها - التي هي موضوع علم الأصول - فيكون نظره لذات الدليل، وأما الفقيه فيبحث في متعلق الأدلة - إذ أن موضوع الفقه أفعال المكلف - فيكون نظره لمتعلق الأدلة ومدلول الخطاب وأثره المترتب عليه.
والأولى اعتماد طريقة جمهور الأصوليين، إذ أننا نتكلم في علم الأصول لا فروعها.
(1/14)
 
 
أقسام الأحكام الشرعية
تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين: تكليفية ووضعية.
 
فالتكليفية خمسة: الإيجاب، والتحريم، والاستحباب (الندب)، والكراهة، والإباحة، والوضعية هي: السبب، والشرط، والمانع، والصحيح، والفاسد، ...
الإيجاب
 
الإيجاب لغة:
الإيجاب لغة: السقوط واللزوم.
سقوط الشيء لازما محله، ومنه قوله تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) [الحج: 36] أي سقطت ميتة لازمة محلها، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الميت: (فإذا وجب فلا تبكين باكية) (1).
ومنه قول قيس بن الخطيم
أَطاعَتْ بنُو عَوْفٍ أَمِيراً نَهَاهُمُ ... عن السِّلْمِ، حَتَّى كانَ أَوّلَ وَاجِبِ (2)
واللزوم، قال الفيومي: وَجَبَ الْبَيْعُ وَالْحَقُّ يَجِبُ وُجُوبًا وَجِبَةً لَزِمَ وَثَبَتَ (3).
 
الإيجاب اصطلاحا:
الإيجاب اصطلاحا هو: (أمر الشارع على وجه اللزوم).
شرح التعريف:
وهو واضح بحمد الله، (أمر) ليخرج غير المأمور به كالمحرم والمكروه، والمباح لذاته، بقي المندوب يشمله التعريف ولذلك قيده بقوله (على وجه اللزوم)؛ لأن
المندوب وإن كان مأمورا به إلا أنه ليس على وجه اللزوم بل الأفضلية.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وغيرهم من حديث جابر بن عَتِيك - رضي الله عنه - وصححه الشيخ الألباني.
(2) انظر المذكرة للشنقيطي (ص/9).
(3) المصباح المنير مادة (وج ب).
(1/15)
 
 
تنبيه:
الشارع المقصود به الله - عزو جل - ولكن الحنابلة تطلق لفظ الشارع أيضا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم يقولون بمسألة التفويض ويرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يحكم بما شاء فيما شاء، ولا يكون رأيه إلا موافقا للصواب في حكم الله.
قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 519): (يجوز أن يقال لنبي أو مجتهد: احكم بما شئت فهو صواب ويكون) ذلك (مدركا شرعيا ويسمى: التفويض) عند الأكثر؛ لأن طريق معرفة الأحكام الشرعية:
إما التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - بإخبار رسله عنه بها، وهو ما سبق من كتاب الله سبحانه وتعالى وثبت بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما تفرع عن ذلك، من إجماع وقياس وغيرهما من الاستدلالات، وطرقها بالاجتهاد، ولو من النبي صلى الله عليه وسلم.
وإما أن يكون طريق معرفة الحكم: التفويض إلى رأي نبي أو عالم، فيجوز أن يقال لنبي أو لمجتهد غير نبي: احكم بما شئت فهو صواب عند بعض العلماء، ويؤخذ ذلك من كلام القاضي وابن عقيل، وصرحا بجوازه للنبي صلى الله عليه وسلم، وقاله الشافعي وأكثر أصحابه، وجمهور أهل الحديث، فيكون حكمه من جملة المدارك الشرعية ... وتردد الشافعي، أي في جوازه، كما قال إمام الحرمين، وقال: الجمهور في وقوعه، ولكنه قاطع بجوازه. والمنع: إنما هو منقول عن جمهور المعتزلة، قاله ابن مفلح، ومنعه السرخسي وجماعة من المعتزلة؛ واختاره أبو الخطاب، وذكره عن أكثر الفقهاء، وأنه أشبه بمذهبنا؛ لأن الحق عليه أمارة، فكيف يحكم بغير طلبها؟
وقيل: يجوز ذلك في النبي دون غيره.
(و) على القول بالجواز (لم يقع) في الأصح، قال ابن الحاجب: المختار أنه لم يقع، واحتج القاضي وابن عقيل وغيرهما للقول الأول: بقوله - سبحانه وتعالى -: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) [آل عمران: 93] لأنه لا يمكن أن يحرم على نفسه
(1/16)
 
 
إلا بتفويض الله سبحانه وتعالى الأمر إليه لا أنه بإبلاغه ذلك الحكم؛ لتخصيص هذا التحريم بنسبته إليه، وإلا فكل محرم فهو بتحريم الله سبحانه وتعالى، إما بالتبليغ، وإما
بالتفويض (1).
واستدل له أيضا بما في مسلم (فرض عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل: أكل عام؟ فقال: لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم) (2) ... ).
والصواب أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس مُشرِّعاً بل هو مبلغ ومطبق وناقل ومبيِّن للتشريع، وأنه كان يجتهد (3) فإن اخطأ نزل الوحي بتصويبه (4)، كما في أسارى بدر (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال: 67] وكما عوتب في ابن أم مكتوم وتحريمه - صلى الله عليه وسلم - العسل ومارية القبطية على نفسه، ولما رجع عن قوله في مسألة التأبير، ونحو ذلك (5).
 
الواجب يثاب فاعله امتثالًا، ويستحق العقاب تاركه.
امتثالًا أي يفعله على وجه الطاعة والقربة، فمن نوى التبرد فغسل أعضاء الوضوء لا يعد متوضئا وهكذا.
وأما قولنا (ويستحق) فهو أولى من قول: (ويعاقب تاركه)؛ لأنه من الجائز أن الله
__________
(1) قال المرداوي في "التحبير" (8/ 3998): (رد: محتمل وللمفسرين قولان، هل باجتهاد، أو بإذن الله تعالى. قال البرماوي: " قلت: وعلى كل حال فالمحرم هو الله تعالى، فالاحتمال قائم ولا دليل فيه لذلك ").
(2) قال ابن مفلح في "أصوله" (4/ 1523): (رد: يجوز أن الله خيره في ذلك بعينه. ويجوز أن قوله- عليه السلام- بوحي).
(3) ذكر الشيخ عبد الجليل بو النصر في رسالته" اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمثلة كثيرة وشواهد تدل على ما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من اجتهاد سواء بالقول أم بالفعل أم بإقراره الصحابة أم بعدم إقرارهم، وذلك في شتى الأمور الدينية والدنيوية.
(4) قال ابن مفلح في "أصوله" (4/ 1525): (لا يقر عليه السلام على خطأ في اجتهاده إجماعا).
(5) انظر: التمهيد (4/ 373)، أصول ابن مفلح (4/ 1520)، التحبير (8/ 3995)، جمع الجوامع (2/ 391 - البناني)، البحر المحيط (4/ 354)، الإبهاج (3/ 196)، تيسير التحرير (4/ 236)، رفع الحاجب (4/ 567) روح المعاني (18/ 224)، أفعال الرسول للأشقر (1/ 126).
(1/17)
 
 
قد يعفو عنه، فهو مستحق للعقاب، لكن قد يعاقب وقد لا يعاقب.
 
نكتة:
يجزم بإثابة فاعل الثواب، وكذا تارك الحرام؛ لأنه وعد كما قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160]، ولكن لابد من تقييده بالامتثال. وذلك بخلاف الوعيد على ترك الواجب، وفعل الحرام فلا يجزم بلحوق العقاب؛ لأنه من الجائز أن الله قد يعفو عنه، فهو مستحق للعقاب، لكن قد يعاقب وقد لا يعاقب.
 
أسماؤه:
ويسمى: فرضاً على قول، وفريضة، وحتماً، ولازماً.
القول بعدم التفريق بين الفرض والواجب عند الحنابلة هو أحد الأقوال الثلاثة المنقولة عن الإمام أحمد في هذه المسألة.
قال مجد الدين في "المسودة" (ص/ 44): مسألة: الفرض والواجب سواء وهو الذي ذكره في مقدمة المجرد وبه قالت الشافعية وعنه الفرض آكد ونصرها الحلواني وبه قالت الحنفية وهو على قولهم وروايتنا هذه ما ثبت بدليل مقطوع به وقيل هو ما لا يسقط في عمد ولا سهو وحكى ابن عقيل رواية ثالثة أن الفرض ما لزم بالقرآن والواجب ما كان بالسنة وهذه هي ظاهر كلام أحمد في أكثر نصوصه وقد حكاها ابن شاقلا وهذا القول في الجملة اختيار القاضي وغيره).
 
ومن النتائج المترتبة على هذا الخلاف في ترادف، أو تباين الفرض والواجب:
1 - مسائل عقدية وهو أن من أنكر الفرض كفر ومن أنكر الواجب لا يكفر وهذا
على رأي الحنفية (1) ومن وافقهم والصحيح أن من أنكر حجية ما ثبت من السنة فهو كافر، وإن كانت خبر آحاد.
__________
(1) قال صدر الشريعة في "التوضيح في حل غوامض التنقيح" (2/ 258): (فالفرض لازم علما وعملا حتى يكفر جاحده والواجب لازم عملا لا علما فلا يكفر جاحده بل يفسق إن استخف بأخبار الآحاد الغير المؤولة وأما مؤولا فلا ويعاقب تاركهما أي تارك الفرض والواجب إلا أن يعفو الله)، وانظر أيضا: أصول السرخسي (1/ 112)، التقرير والتحبير (2/ 107)، غمز عيون البصائر (2/ 354)، كشف الأسرار (2/ 436).
(1/18)
 
 
قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في "القول المفيد" (1/ 82): (أن القرآن ثبت
بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفا أجمع القراء عليه، لكان كافرا، بخلاف الأحاديث القدسية، فإنه لو أنكر شيئا منها مدعيا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، لكان كافرا لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم).
قال السيوطي في "مفتاح الجنة" (ص/ 5): (اعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة).
2 - ترتب أيضًا على الخلاف فيها مسائل أصولية منها أن الزيادة على النص نسخ وهذا لا يجوز عند الحنفية، ويعنون بالنص الكتاب والسنة المتواترة، والزيادة ما ثبت بخبر الآحاد إلا أنهم لم يلتزموا ذلك بل خالفوه في مسائل كثيرة جدا في أكثر من ثلاثمائة موضع كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين، ومنها على سبيل التمثيل: قولهم بفرضية الوتر، وجواز الوضوء بنبيذ التمر، وكذلك إنهم اشترطوا في الصداق أن يكون أقله عشرة دراهم.
3 - كما ترتب على الخلاف في هذه المسألة الأصولية مسائل فقهية كثيرة جدًا ومن تتبع مذهب الحنابلة وجد أنهم تبعا لاختلاف الروايات والأقوال في هذه المسألة اختلفت التطبيقات عليها في المسائل الفقهية فأحيانا لا يفرقون بين الفرض والواجب وأحيانا يفرقون تبعا للمسلك المختار، وتتبع هذا يطول ويخرجنا عن المقصود، وقد ذكر طائفة من ذلك مجد الدين في المسودة (1).
__________
(1) ينظر بحث "الاختلاف في تباين أو ترادف الفرض والواجب سببه - ثمرته" للشيخ ترحيب بن ربيعان الدوسري، وقد نشر في العدد الثلاثين من مجلة جامعة أم القرى.
(1/19)
 
 
الاستحباب (الندب)
تعريف الندب لغة:
الندب لغة: الدعاء لمهم، ويطلق أيضا على الطلب، والتأثير.
قال المرداوي في التحبير (2/ 976): {المندوب لغة: المدعو لمهم، من الندب وهو: الدعاء. قال الشاعر:
لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وهو الطلب، ومنه الحديث ' ' انتدب الله لمن يخرج في سبيله '، أي: أجاب له طلب مغفرة ذنوبه.
ويطلق أيضاً على التأثير، ومنه حديث موسى عليه السلام -: ' وإن بالحجر ندَباً بفتح الدال ستة أو سبعة ضرب موسى ' وأصله: الجرح).
 
تعريف الندب اصطلاحاً:
الندب هو: (أمر الشارع لا على وجه الإلزام).
شرح التعريف:
(أمر) ليخرج غير المأمور به كالمحرم والمكروه، والمباح لذاته، بقي الواجب يشمله التعريف ولذلك قيده بقوله (لا على وجه الإلزام) لأن الواجب مأمور به على وجه الإلزام.
وسوف يأتي في باب الأمر بإذن الله كيفية معرفة أنواع الأوامر ومتى يكون هذا الأمر لازما ومتى يكون على سبيل الفضيلة.
 
تنبيه: المندوب مأمور به حقيقة:
قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 405): ("وهو" أي المندوب "مأمور به حقيقة" عند أحمد والشافعي وأكثر أصحابهما. وحكاه ابن عقيل عن علماء الأصول والفقهاء، لدخوله في حد الأمر، لانقسام الأمر إليهما. وهو مستدعى ومطلوب. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90]، وإطلاق الأمر عليه في الكتاب والسنة. والأصل: الحقيقة، ولأنه طاعة لامتثال الأمر).
(1/20)
 
 
قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/14): (والتحقيق أن المندوب مأمور به؛ لأن الأمر قسمان: أمر جازم أي في تركه العقاب وهو الواجب. وأمر غير جازم، أي لا عقاب في تركه وهو المندوب.
والدليل على شمول الأمر للمندوب قوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) [الحج: 77] أي ومنه المندوب، (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) [لقمان: 17]، أي ومنه المندوب: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) [النحل: 90]، أي ومن الإحسان وإيتاء ذي القربى ما هو مندوب، واحتج من قال أن الندب غير مأمور به بقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] قالوا في الآية التوعد على مخالفة الأمر بالفتنة والعذاب الأليم، والندب لا يستلزم تركه شيئا من ذلك، والحديث: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) مع أنه ندبهم إلى السواك قالوا فدل ذلك على أن الندب غبر مأمور به والجواب أن الأمر في الآية والحديث المذكورين يراد به الأمر الواجب، فلا ينافى أن يطلق الأمر أيضا على غير الواجب، فلا ينافى أن يطلق الأمر أيضا على غير الواجب، وقد قدمنا أن الأمر يطلق على هذا وهذا وزعم من قال أن الندب تخيير بدليل جواز تركه والأمر استدعاء وطلب. والتخيير والطلب متنافيان، زعم غير صحيح، لان الندب ليس تخييرا مطلقا بدليل أن الفعل فيه أرجح من الترك للثواب في فعله وعدم الثواب في تركه، ولان المندوب أيضا مطلوب الا أن طلبه غير جازم والندب في اللغة الدعاء إلى الفعل ... ).
 
المندوب يثاب فاعله امتثالاً ولا يعاقب تاركه.
ولا يعاقب تاركه في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن أفاد الشيخ العثيمين- رحمه الله - في "شرح الأصول" أن الإنسان قد يوبخ ويلام على ترك المستحب إذا كان هذا الترك يدل على زهده في الخير ورغبته عنه.
قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 420): (وذكر القاضي وابن عقيل: يأثم بترك السنن أكثر عمره، لقوله عليه الصلاة والسلام (من رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه، ولأنه متهم أن يعتقده غير سنة، واحتجا بقول أحمد رضي الله عنه -
(1/21)
 
 
فيمن ترك الوتر -: رجل سوء، مع أنه سنة. قال في شرح التحرير: والذي يظهر: أن إطلاق الإمام أحمد: أنه رجل سوء، إنما مراده من اعتقد أنه غير سنة، وتركه لذلك. فيبقى كأنه اعتقد السنة التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم غير سنة، فهو مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم ومعاند لما سنه، أو أنه تركه بالكلية، وتركه له كذلك يدل على أن في قلبه ما لا يريده الرسول صلى الله عليه وسلم).
 
أسماؤه:
يسمى: سنة، وفضيلة، ونفلاً.
قال ابن النجار في شرح الكوكب (1/ 404): ("وأعلاه" أي أعلا المندوب "سنة، ثم فضيلة، ثم نافلة".
قال الشيخ أبو طالب - مدرس المستنصرية، من أئمة أصحابنا في "حاويه الكبير"-: إن المندوب ينقسم ثلاثة أقسام.
أحدها: ما يعظم أجره، فيسمى سنة.
والثاني: ما يقل أجره، فيسمى نافلة.
والثالث: ما يتوسط في الأجر بين هذين"، فيسمى فضيلة ورغيبة).
 
السنة في لسان الشرع أعم من السنة في اصطلاح الفقهاء:
قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - "في شرح الأصول" (ص/53): (عند الأصوليين إذا قال: هذا سنة: يعني ليس بواجب، وكذلك مسنونا وكذلك مستحبا، وكذلك نفلا ... لكن السنة في لسان الشارع أعم من المندوب، إذ قد تطلق على الشيء الواجب، ومنه قول ابن عباس حين قرأ الفاتحة وجهر بها في صلاة الجنازة قال: (لتعلموا أنها سنة) ... فالسنة في لسان الشرع أعم من السنة في اصطلاح الفقهاء لأنها تشمل الواجب والمستحب).
(1/22)
 
 
التحريم
تعريف التحريم لغة:
التحريم لغة: المنع.
قال الجوهري في الصحاح مادة (ح ر م): "حَرَمَهُ الشَّيءَ يَحْرِمُهُ حَرِماً وحِرْمَةً وحَريمة وحِرْماناً، وأَحْرَمَهُ أيضاً، إذا منعَه إيَّاه".اهـ
ومن ذلك قوله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي منعناه منهن، وقال: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)، وقال: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قال ابن عقيل في "الواضح" (1/ 28): (والحظر منع الشيء، فالمحظور: ما منع منه الشرع، وأصله المنع، ومنه سمى المُحتَظِر مُحتظرا؛ إذ جعل حول إبله أو متاعه - في الجملة - مانعا من العَوْسَج - (شجر من شجر الشوك) -. وسميت الحظيرة بذلك من المنع).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما ورواه الشيخان من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - (وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه) معناه أن ملوك العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم حمى يحميه عن الناس ويمنعهم دخوله فمن دخله أوقع به العقوبة ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفا من الوقوع فيه ولله تعالى أيضا حمى وهي محارمه أي المعاصي التي حرمها الله كالقتل والزنى والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة وأكل المال بالباطل وأشباه ذلك فكل هذا حمى الله تعالى من دخله بارتكابه شيئا من المعاصي استحق العقوبة ومن قاربه يوشك أن يقع فيه فمن احتاط لنفسه لم يقاربه ولم يتعلق بشيء يقربه من المعصية فلا يدخل في شيء من الشبهات.
 
تعريف التحريم اصطلاحاً:
التحريم هو: (نهي الشارع على وجه الإلزام).
قولنا: (نهي) خرج ما أمر به كالمندوب والواجب، وما لا يتعلق به أمر ولا نهي
لذاته كالمباح.
(1/23)
 
 
وقولنا: (على وجه الإلزام) أخرج المكروه؛ لأن النهي عنه ليس على سبيل الحتم واللزوم كما سيأتي.
 
المحرم يثاب تاركه امتثالاً ويستحق العقاب فاعله.
التحريم لا يثاب تاركه مطلقا ولكن يثاب إن تركه امتثالا. ولا نجزم بعقاب فاعله فقد لا يعاقب ويغفر الله له إن شاء (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48، 117].
 
فائدة.
قد يترك المكلف فعل المحرم ويعاقب، وقد يتركه ولا يثاب ولا يعاقب، وقد يتركه ويثاب:
أما الأول - فإن تركه عجزا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه وأحمد وغيرهما من حديث أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - (مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل به في ماله فينفقه في حقه ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول لو كان لي مثل ما لهذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو كان لي مال مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الوزر سواء) (1) وأيضا كمن سعي في طريق المعصية ولكنه حال بينه وبين فعلها حائل وهكذا.
وأما الثاني - كمن ترك فعله غافلا فلم يطرأ على باله مطلقا كرجل مشغول في دنياه فما فكر في يوم أن يشرب الخمر، أو إنه ما يعرف شيئا عن هذه المعصية فلم تطرأ على باله فهذا لا يثاب ولا يعاقب.
وأما الثالث فهي الحالة العامة ويشترط أن يتركه امتثالا.
__________
(1) قال الأرناؤوط: (حديث حسن).
(1/24)
 
 
أسماؤه:
قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 386): ("ويسمى" الحرام "محظورا وممنوعا ومزجورا ومعصية وذنبا وقبيحا وسيئة وفاحشة وإثما وحرجا وتحريجا وعقوبة". فتسميته محظورا من الحظر. وهو المنع. فيسمى الفعل بالحكم المتعلق به، وتسميته معصية للنهي عنه، وذنبا لتوقع المؤاخذة عليه، وباقي ذلك لترتبها على فعله).
وسوف يأتي - بإذن الله - في باب الفاسد، وباب النهي متعلقات كثيرة وهامة للمحرم.
(1/25)
 
 
الكراهة
تعريف الكراهة لغة:
الكراهة لغة: البغض.
قال الشيخ الشنقيطي في " المذكرة" (ص / 18): (والمكروه في اللغة اسم مفعول كرهه إذا أبغضه ولم يحبه، فكل بغيض إلى النفوس فهو مكروه في اللغة، ومنه قوله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) [الإسراء: 38] وقول عمرو بن الأطانبة:
واقدامى على المكروه نفسى ... وضربى هامة البطل المشيح).
قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في شرح الأصول (ص/61): (المكروه اسم مفعول من كره بمعنى أبغض، ومنه قوله تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) يعني: أبغضهم، فهو إذا في اللغة: المبغض سواء كان عينا أو وصفا أو عملا، فأي شيء تبغضه فهو مكروه عندك).
 
تعريف الكراهة اصطلاحاً:
الكراهة هي: (نهي الشارع لا على وجه الإلزام).
قولنا: (نهي) خرج ما أمر به كالمندوب والواجب، وما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته كالمباح.
وقولنا: (لا على وجه الإلزام) أخرج المحرم؛ لأن النهي عنه على سبيل الحتم واللزوم.
 
المكروه يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله.
قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 420) ما مختصره: ((ويقال لفاعله) أي فاعل المكروه (مخالف، ومسيء، وغير ممتثل) مع أنه لا يذم فاعله، ولا يأثم على الأصح. وظاهر كلام بعضهم: تختص الإساءة بالحرام. فلا يقال: أساء إلا لفعل محرم).
(1/26)
 
 
فائدة:
قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 418) ما مختصره: ((وهو) أي المكروه (في عرف المتأخرين: للتنزيه) يعني أن المتأخرين اصطلحوا على أنهم إذا أطلقوا الكراهة، فمرادهم التنزيه، لا التحريم، وإن كان عندهم لا يمتنع أن يطلق على الحرام، لكن قد جرت عادتهم وعرفهم: أنهم إذا أطلقوه أرادوا التنزيه لا التحريم. وهذا مصطلح لا مشاحة فيه.
(ويطلق) المكروه (على الحرام) وهو كثير في كلام الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وغيره من المتقدمين. - (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) [النحل: 116]-.
ومن كلامه " أكره المتعة، والصلاة في المقابر " وهما محرمان، لكن لو ورد عن الإمام أحمد الكراهة في شيء من غير أن يدل دليل من خارج على التحريم ولا على التنزيه: فللأصحاب فيها وجهان.
أحدهما - واختاره الخلال وصاحبه عبد العزيز وابن حامد وغيرهم - أن المراد التحريم.
والثاني - واختاره جماعة من الأصحاب - أن المراد التنزيه.
ومن كلام أحمد " أكره النفخ في الطعام، وإدمان اللحم والخبز الكبار " وكراهة ذلك للتنزيه.
وقد ورد المكروه بمعنى الحرام في قوله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) [الإسراء: 38].
(1/27)
 
 
الإباحة
تعريف الإباحة لغة:
الإباحة لغة: الإعلان والإذن.
قال المرداوي في "التحبير" (3/ 1019): ({المباح لغة: المعلن والمأذون}. والإباحة مأخوذة من مادة (الاتساع)، ومنه: باحة الدار، أي: ساحتها. قال ابن قاضي الجبل: (المباح لغة: المعن والمأذون، أخذا من الإباحة، وهي الإظهار والإعلان، ومنه: باح بسره) انتهى. ومنه: أبحت له الشيء، أي: أطلقه له. وقال الطوفي في ' شرحه ': (هو مشتق من الإباحة، وهي: الإظهار، وقيل: من باحة الدار، وهي: ساحتها، وفيه معنى السعة وانتفاء العائق) انتهى) (1).
 
تعريف الإباحة اصطلاحاً:
الإباحة اصطلاحاً هي: (خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك من غير بدل).
شرح التعريف:
صدرت التعريف بأنه خطاب الشارع لأمرين:
الأول- مشيا على طريقة الأصوليين في تعريف الحكم الشرعي بأنه نفس الخطاب.
الثاني - لإخراج الإباحة العقلية، فإنها غير منسوبة للشرع، والإباحة العقلية هي البراءة الأصلية، وهي الحكم قبل ورود الشرع، ورفعها لا يكون نسخا، فتحريم الربا لم يكن ناسخا لإباحته في أول الإسلام؛ لأنه إباحته كانت عقلية لا شرعية.
وقولنا: (من غير بدل) ليخرج الواجب الموسع (2) في أول الوقت، والواجب المخير (3).
__________
(1) انظر أيضا: أصول الفقه لابن مفلح (1/ 241)، وشرح الكوكب المنير (1/ 422).
(2) الواجب الموسع هو الذي حدد له الشرع وقتا يتسع له ولغيره من جنسه معه. ومثاله: الصلاة، فإن الوقت المحدد لصلاة الفجر مثلا يبدأ من طلوع الفجر الصادق ويمتد إلى طلوع الشمس. فهذا الوقت يتسع لصلاة الفرض ولصلاة أخرى غير فرض الفجر.
(3) الواجب المخير هو: الواجب الذي خُيِّر فيه المكلف بين أشياء محصورة. مثل كفارة اليمين
فإنها واجبة، ولكن المكلف مخير بين ثلاثة أشياء: العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين.
(1/28)
 
 
الإباحة حكم شرعي:
قال الآمدي في "إحكامه" (1/ 168): (اتفق المسلمون على أن الإباحة من الأحكام الشرعية خلافا لبعض المعتزلة مصيرا منه إلى أن المباح لا معنى له سوى ما انتفى الحرج عن فعله وتركه، وذلك ثابت قبل ورود الشرع وهو مستمر بعده فلا يكون حكما شرعيا، ونحن لا ننكر أن انتفاء الحرج عن الفعل والترك ليس بإباحة شرعية وإنما الإباحة الشرعية خطاب الشارع بالتخيير على ما قررناه، وذلك غير ثابت قبل ورود الشرع، ولا يخفى الفرق بين القسمين، فإذا ما أثبتناه من الإباحة الشرعية لم يتعرض لنفيها وما نفي غير ما أثبتناه).
 
هل تدخل الإباحة في الأحكام التكليفية؟
قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/8): (وحده - أي التكليف - في الاصطلاح قيل: إلزام ما فيه مشقة، وقيل طلب ما فيه مشقة، فعلى الأول لا يدخل في حده الا الواجب والحرام إذ لا إلزام بغيرهما وعلى الثاني يدخل معهما المندوب والمكروه لأن الأربعة مطلوبة، وأما الجائز فلا يدخل في تعريف من تعاريف التكليف إذ لا طلب به أصلا، فعلا ولا تركا، وإنما أدخلوه في أقسام التكليف مسامحة وتكميلا للقسمة المشار إليها بقول المؤلف (وجه هذه القسمة أن خطاب الشرع أما أن يرد باقتضاء الفعل أو الترك أو التخير بينهما فالذي يرد باقتضاء الفعل أمر فأن اقترن به إشعار بعدم العقاب على الترك فهو ندب وإلا فيكون إيجابا والذي يرد باقتضاء الترك نهى فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة وإلا فحظر) كلامه واضح). يعني وتتمة القسمة فإن ورد بالتخيير فهو مباح.
وقال الشيخ النملة في "إتحاف ذوي البصائر في شرح روضة الناظر" (2/ 53): (الإباحة ليست تكليفا ولا تدخل تحت الأحكام التكليفية، وهذا مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح؛ لأن التكليف هو: طلب ما فيه كلفة ومشقة بصيغة الأمر أو النهي، والإباحة ليس فيها مشقة ... ).
(1/29)
 
 
والأليق بتعريف التكليف وبحسب القواعد أن المباح لا يدخل في الأحكام التكليفية، وإنما هو قسم خاص يسمي بالأحكام التخييرية، إلا أن الأمر فيه تساهل، ولا يترتب عليه كبير فائدة من جهة تخطئة هذا القائل، أو ذاك، والخطب يسير ولا مشاحة في الاصطلاح.
 
اطلاقاته:
قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 427): ((ويطلق) مباح (وحلال على غير الحرام) فيعم الواجب والمندوب والمكروه والمباح، لكن المباح يطلق على الثلاثة، والحلال على الأربعة.
فيقال للواجب والمندوب والمكروه: مباح.
ويقال لهذه الثلاثة، وللمباح حلال، لكن إطلاق المباح على ما استوى طرفاه هو الأصل).
(1/30)
 
 
الأحكام الوضعية
سبب تسميتها بالحكم الوضعي:
قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (1/ 411): (ويسمى هذا النوع: خطاب الوضع والإخبار.
أما معنى الوضع، فهو أن الشرع وضع، أي: شرع أمورا سميت أسبابا وشروطا وموانع تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي، فالأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط، وتنتفي لوجود الموانع وانتفاء الأسباب والشروط.
وأما معنى الإخبار، فهو أن الشرع بوضع هذه الأمور أخبرنا بوجود أحكامه أو انتفائها عند وجود تلك الأمور أو انتفائها، فكأنه قال مثلا: إذا وجد النصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة، والحول الذي هو شرطه، فاعلموا أني أوجبت عليكم أداء الزكاة، وإن وجد الدين الذي هو مانع من وجوبها، أو انتفى السوم الذي هو شرط لوجوبها في السائمة، فاعلموا أني لم أوجب عليكم الزكاة.
وكذا الكلام في القصاص، والسرقة، والزنى، وكثير من الأحكام، بالنظر إلى وجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها، وعكس ذلك ...
التكليف بالشريعة لما كان دائما إلى انقضاء الوجود بقيام الساعة، كما أجمع عليه المسلمون، وكان خطاب الشارع مما يتعذر على المكلفين سماعه ومعرفته في كل حال على تعاقب الأعصار وتعدد الأمم والقرون؛ لأن الشارع إما الله سبحانه وتعالى، وخطابه لا يعرفه المكلفون إلا بواسطة الرسل عليهم السلام الملائكة إلى الأنبياء، أو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وهو غير مخلد في الدنيا حتى يعرف خطاب الله تعالى وأحكامه في الحوادث بواسطته في كل وقت، بل هو بشر عاش بين الناس زمانا حتى عرفهم أحكام معاشهم ومعادهم، ثم صار إلى رحمة الله وكرامته، اقتضت حكمة الشرع نصب أشياء تكون أعلاما على حكمه ومعرفات له، فكان ذلك كالقاعدة الكلية في الشريعة، تحصيلا لدوام حكمها وأحكامها مدة بقاء المكلفين في دار التكليف، وتلك الأشياء التي نصبت معرفات لحكم الشرع هي الأسباب والشروط والموانع ... ) (1).
__________
(1) انظر: التحبير (3/ 1048)، شرح الكوكب (1/ 435)، المدخل (ص/158).
(1/31)
 
 
تعريف الأحكام الوضعية:
الحكم الوضعي هو: (خطاب الله المتعلق بما نصب عَلَمًا معرفًا لحكمه) (1).
وللعلَم المنصوب أصناف منها: العلة، والسبب، والشرط وعكسه المانع، والصحة والفساد، ونحو ذلك مما يدخل في الخطاب الوضعي.
 
العلاقة بين الخطاب الوضعي والطلبي:
قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (1/ 439): (خطاب الوضع والطلب قد يجتمعان، وقد ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه، أما اجتماعهما فكالزنى هو من جهة كونه سببا للحد خطاب وضعي، ومن جهة كونه حراما خطاب طلبي، وكذا نظائره.
وأما انفراد خطاب الوضع، فكزوال الشمس وسائر أوقات الصلوات أسباب لوجوبها، وطلوع الهلال سبب وجوب رمضان، وصلاة العيدين والشك والحيض مانع من الصلاة والصوم، والبلوغ شرط لوجوبها، وحؤول الحول شرط لوجوب الزكاة، فكل هذه متجردة عن خطاب الطلب، ليس هو فيها أنفسها، بل في غيرها، كالوجوب مثلا متعلق بالصلاة لا بالزوال، وبصوم رمضان لا بطلوع الهلال. وأما انفراد خطاب الطلب، فقال القرافي في "الفروق": هو كأداء الواجبات واجتناب المحرمات، وإن كان صاحب الشرع قد جعلها سببا لبراءة الذمة، وترتيب الثواب، ودرء العقاب، غير أن هذه ليست أفعالا للمكلف، ولا نعني بكون الشيء سببا إلا كونه وضع سببا لفعل من قبل المكلف.
وقال في "شرح التنقيح": لا يتصور انفراد خطاب التكليف، إذ لا تكليف إلا وله سبب أو شرط أو مانع. قلت وهذا أشبه بالصواب).
__________
(1) التعريف المشهور عند الحنابلة هو: (ما استفيد من نصب الشارع علَما معرفا لحكمه)، وهذا التعريف يسير على طريقة الفقهاء فقد عرفوا الحكم الوضعي بأنه الأثر المستفاد من خطاب الشرع، والتعريف الذي ذكرناه يسير على طريقة الأصوليين. وانظر: مختصر الطرفي (ص/30)، المختصر (ص/65)، التحبير (3/ 1047)، شرح الكوكب (1/ 434)، المدخل (ص/158).
(1/32)
 
 
الفرق بين الخطاب الوضعي والتكليفي من حيث الحكم:
وقال الطوفي أيضا في "شرح مختصر الروضة" (1/ 416): (أما الفرق بينهما من حيث الحكم، فهو أن خطاب اللفظ الذي يعبر عنه بخطاب التكليف، يشترط فيه علم المكلف وقدرته على الفعل وكونه من كسبه، كالصلاة، والصيام، والحج، ونحوها على ما سبق في شروط التكليف.
أما خطاب الوضع، فلا يشترط فيه شيء من ذلك إلا ما يستثنى بعد إن شاء الله تعالى.
أما عدم اشتراط العلم، فكالنائم يتلف شيئا حال نومه، والرامي إلى صيد في ظلمة أو وراء حائل يقتل إنسانا، فإنهما يضمنان ما أتلفا، وإن لم يعلما، وكالمرأة تحل بعقد وليها عليها، وتحرم بطلاق زوجها، وإن كانت غائبة لا تعلم.
وأما عدم اشتراط القدرة والكسب، فكالدابة تتلف شيئا، والصبي أو البالغ يقتل خطأ، فيضمن صاحب الدابة والعاقلة، وإن لم يكن الإتلاف والقتل مقدورا ولا مكتسبا لهم، وطلاق المكره عند موقعه وهو غير مقدور له بمطلق الإكراه أو مع الإلجاء.
أما المستثنى من عدم اشتراط العلم والقدرة فهو قاعدتان:
إحداهما: أسباب العقوبات، كالقصاص لا يجب على مخطئ في القتل لعدم العلم، وحد الزنى لا يجب على من وطئ أجنبية يظنها زوجته، لعدم العلم أيضا، ولا على من أكره على الزنى لعدم القدرة على الامتناع، إذ العقوبات تستدعي وجود الجنايات التي تنتهك بها حرمة الشرع زجرا عنها وردعا، والانتهاك إنما يتحقق مع العلم والقدرة والاختيار، والقادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك، والجاهل والمكره قد انتفى ذلك فيه، وهو شرط تحقق الانتهاك، فينتفي الانتهاك لانتفاء شرطه، فتنتفي العقوبة لانتفاء سببها.
القاعدة الثانية: الأسباب الناقلة للأملاك، كالبيع، والهبة، والصدقة، والوصية، ونحوها: يشترط فيها العلم والقدرة، فلو تلفظ ناقل للملك، وهو لا يعلم مقتضاه لكونه أعجميا بين العرب، أو عربيا بين العجم، أو طارئا على بلد الإسلام، أو أكره على ذلك، لم يلزمه مقتضاه، لقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)، وقوله سبحانه وتعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء: 29]، ولا يحصل الرضى إلا مع العلم والاختيار).
(1/33)
 
 
الصحيح
تعريف الصحيح لغة:
الصحيح لغة: السليم من العيوب والأمراض.
قال ابن منظور في لسان العرب مادة (ص ح ح): الصُّحُّ والصِّحَّةُ والصَّحاحُ: خلافُ السُّقْمِ، وذهابُ المرض؛ وقد صَحَّ فلان من علته واسْتَصَحَّ).
 
تعريف الصحيح اصطلاحاً:
الصحيح هو: (ما ترتبت آثار فعله عليه).
تتحقق الصحة عند الفقهاء عند استيفاء العمل للشروط والأركان، وخلوه من الموانع، والمقصود بالآثار المترتبة على صحة العبادة هي براءة الذمة وسقوط الطلب، فمن أدى الصلاة فقد برئت بها الذمة وسقط بها الطلب.
وأما المعاملة فتختلف باختلاف نوعها، فإن كانت بيعا فهي دخول الثمن في ملك البائع والمبيع في ملك المشتري، وإن كانت إجارة فالمقصود منها تمكين المستأجر من العين المستأجرة لينتفع بها، وتمكين المؤجر من تملك الأجرة لينتفع بها، وهكذا.
 
تنبيه - تعريف الصحيح عند الفقهاء وعند المتكلمين (1):
الصحيح عند المتكلمين يختلف عنه عند الفقهاء، فهو عند المتكلمين: موافقة الشرع وإن أوجب القضاء كصلاة من ظن أنه متطهر، وعند الفقهاء يفرقون بين العبادات، والمعاملات، ففي العبادة: ما أجزأ وأسقط القضاء، وفي المعاملات: ترتب ثمرة العقد عليه.
قال ابن قدامة في "روضة الناظر" (ص/58): (فالصحيح من العبادات - أي عند الفقهاء - ما أجزأ وأسقط القضاء والمتكلمون يطلقونه بإزاء ما وافق الأمر وإن وجب القضاء كصلاة من ظن أنه متطهر، وأما العقود فكل ما كان سببا لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه فهو صحيح وإلا فهو باطل فالباطل هو الذي لم يثمر والصحيح الذي أثمر).
__________
(1) انظر: شرح مختصر الروضة (ص/1/ 441)، التحبير (3/ 1082)، المختصر لابن اللحام (ص/67)، شرح الكوكب (1/ 465)، المدخل (ص/164).
(1/34)
 
 
قال ابن بدران في "نزهة الخاطر العاطر" (1/ 111): (ثمرة الخلاف بين الفقهاء والمتكلمين تظهر في صلاة من ظن أنه متطهر ثم تبين له خلاف ظنه فعلى اصطلاح المتكلمين صلاته صحيحه؛ لأنه وافق الأمر المتوجه عليه في الحال، وأما القضاء فوجوبه بأمر مجدد فلا يشتق منه اسم الصحة، وهذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء؛
لأنها غير مجزئة ... ).
 
فائدة - الفرق بين الصحة والقبول:
ذكر ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 469) الأقوال في ذلك ثم قال: (قال ابن العراقي - وهو ولي الدين أبو زرعة ابن الحافظ العراقي الشافعي -: ظهر لي في الأحاديث التي نفي فيها القبول ولم تنتف معه الصحة - كصلاة شارب الخمر ونحوه- أنا ننظر فيما نفي، فإن قارنت ذلك الفعل معصية، - كحديث شارب الخمر ونحوه-انتفى القبول. أي الثواب؛ لأن إثم المعصية أحبطه، وإن لم تقارنه معصية. كحديث: "لا صلاة إلا بطهور" ونحوه، فانتفاء القبول سببه انتفاء الشرط، وهو الطهارة ونحوها، ويلزم من عدم الشرط عدم المشروط. انتهى) (1). وهو الراجح عندي من الأقوال في المسألة.
 
الشرط والسبب والمانع:
الشرط عرفه ابن النجار بقوله: (ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته) ويزاد عليه قيد (وكان خارجا عن حقيقة الشيء).فمثلا الوضوء شرط لصحة الصلاة عدم وجوده يلزم منه عدم صحة الصلاة ووجوده لا يلزم منه صحة ولا فساد للصلاة لاحتمال وجود مانع من الصحة غيره.
وأما القيد الأخير فللتفرقة بين الشرط والركن فالركن داخل ماهية الشيء فقراءة الفاتحة ركن من الصلاة بخلاف الوضوء فهو شرط لصحتها.
__________
(1) انظر التحبير (3/ 1104).
(1/35)
 
 
والسبب عرفه ابن النجار بقوله: (ما يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم لذاته).
ومثاله السفر لإباحة الفطر والإسكار لتحريم الخمر والصغر للحجر والولاية عليه، وكالهلال لصيام رمضان والزوال لوجوب الظهر.
والقيد الأخير احترازا مما لو قارن السبب فقدان الشرط، أو وجود المانع
كالنصاب قبل تمام الحول، أو مع وجود الدين. فإنه لا" يلزم من وجوده الوجود، لكن لا لذاته، بل لأمر خارج عنه، وهو انتفاء الشرط ووجود المانع.
والمانع: عرفه ابن النجار بقوله: (ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم) ويضاف قيد: (لذاته) احترازا من عدم وجود السبب.
والمنع ينقسم لمانع دوام كالطلاق للنكاح، ومانع ابتداء كالإحرام للنكاح، ومانع دوام وابتداء كالرضاعة للنكاح.
(1/36)
 
 
الفاسد
تعريف الفاسد لغة:
الفاسد لغة هو التالف والمعطوب، والفساد نقيض الصلاح (1).
قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في "شرح الأصول" (ص/79): (كل شيء لا يستفاد منه فإنه يسمى في اللغة فاسدا، لو تغير طعم التمر قيل: هذا تمر فاسد؛ لأنه ضاع وخسره الإنسان).
 
تعريف الفاسد اصطلاحاً:
الفاسد هو: (ما لا تترتب آثار فعله عليه).
ومن فهم الصحيح ظهر له وجه هذا التعريف وهو واضح فكل مالا يترتب عليه آثاره فهو فاسد سواء كان من العبادات كمن صلى بغير وضوء، أو في المعاملات كمن باع ما لا يملك ونحو ذلك.
ومعنى عدم ترتب الآثار عليه (بيع المجهول مثلا) عدم انتقال الملك إلى المشتري، ولا يباح له انتفاعه بالمبيع، ولا يتصرف فيه، ولا يتملك البائع الثمن وهكذا.
 
الفاسد والباطل.
قال العلائي في "تحقيق المراد" (ص / 72): (والجمهور في عدم التفرقة بين الباطل والفاسد وأنهما مترادفان يطلق كل منهما في مقابلة الصحيح.
وأما الحنفية فإنهم فرقوا بينهما وخصصوا اسم الباطل بما لا ينعقد بأصله كبيع الخمر والحر، والفاسد بما ينعقد عندهم بأصله دون وصفه كعقد الربا فإنه مشروع من حيث انه بيع وممنوع من حيث انه عقد ربا فالبيع الفاسد عندهم يشارك الصحيح في إفادة الملك إذا اتصل بالقبض.
وحاصل هذا أن قاعدتهم انه لا يلزم من كون الشيء ممنوعا بوصفه أن يكون ممنوعا بأصله فجعلوا ذلك منزلة متوسطة بين الصحيح والباطل وقالوا الصحيح هو
__________
(1) انظر مادة (ف س د) في: المحكم، العين، تهذيب اللغة، المحيط، لسان العرب.
(1/37)
 
 
المشروع بأصله ووصفه وهو العقد المستجمع لكل شرائطه والباطل هو الممنوع بهما جميعا والفاسد المشروع بأصله الممنوع بوصفه
ومذهب الشافعي وأحمد وأصحابهما أن كل ممنوع بوصفه فإنه ممنوع بأصله).
 
بيان مذهب الحنابلة:
قال المرداوي في "التحبير" (3/ 1110) بعد أن ذكر مذهب الأحناف بالتفريق بين الفاسد والباطل: (وفائدة التفصيل عندهم: أن الفاسد يفيد الملك إذا اتصل به القبض، دون الباطل، والله أعلم. والأصح - دليلا -: أن البطلان يرادف الفساد، وهما يقابلان الصحة، كما هو مذهبنا ومذهب الشافعي ... قوله: {مع تفريقهما في الفقه بينهما في مسائل} كثيرة. قد فرق أصحابنا وأصحاب الشافعي بين الفاسد والباطل في مسائل كثيرة. قال بعض أصحابنا: (قد ذكر أصحابنا مسائل فرقوا فيها بين الفاسد والباطل، ظن بعض المتأخرين أنها مخالفة للقاعدة. والذي يظهر - والله أعلم - أن ذلك ليس بمخالف للقاعدة. وبيانه: أن الأصحاب إنما قالوا: البطلان والفساد مترادفان، في مقابلة قول أبي حنيفة، حيث قال: ما لم يشرع بالكلية هو الباطل، وما شرع أصله وامتنع لاشتماله على وصف محرم هو الفاسد، فعندنا كل ما كان منهيا إما لعينه أو لوصفه ففاسد وباطل، ولم يفرق الأصحاب في صورة من الصور بين الفاسد والباطل في المنهي عنه، وإنما فرقوا بينهما في مسائل لدليل) انتهى (1). قلت: غالب المسائل التي حكموا عليها بالفساد، إذا كانت مختلفا فيها بين العلماء، والتي حكموا عليها بالبطلان إذا كانت مجمعا عليها، أو الخلاف فيها شاذ. ثم وجدت بعض أصحابنا قال: (الفاسد من النكاح: ما يسوغ فيه الاجتهاد، والباطل: ما كان مجمعا على بطلانه. وعبر طائفة من أصحابنا بالباطل عن النكاح الذي يسوغ فيه الاجتهاد أيضا). إذا علم ذلك؛ فقد ذكر أصحابنا مسائل الفاسد غير مسائل الباطل في أبواب منها: باب الكتابة، والنكاح، والحج، وغيرها، وقد ذكر
__________
(1) قال الكلوذاني في التمهيد (1/ 380): إنما لم يحكموا بفساده - يعني تلقي الركبان - لأنه ورد فيه دليل يدل على أنه لا يفسد وهو قوله عليه السلام: (فمن تلقى الركبان فهو بالخيار إذا دخل السوق) فدل على أن البيع صحيح. اهـ
(1/38)
 
 
القاضي علاء الدين في قواعده لذلك قاعدة وذكر مسائل كثيرة فليعاودها من أرادها).
 
كلام ابن رجب في المسألة:
قال ابن رجب في "القواعد" (ص/12) ما ملخصه: ((القاعدة التاسعة): في العبادات الواقعة على وجه محرم , إن كان التحريم عائدا إلى ذات العبادة على وجه يختص بها لم يصح , وإن كان عائدا إلى شرطها فإن كان على وجه يختص بها فكذلك أيضا , وإن كان - أي الشرط - لا يختص بها ففي الصحة روايتان أشهرهما عدمها (1) , وإن عاد إلى ما ليس بشرط فيها ففي الصحة وجهان واختار أبو بكر عدم
__________
(1) والقول بالبطلان في هذه الحالة هو الصحيح من مذهب أحمد إلا أن الأقوى أنه يقتضي الفساد لا البطلان، وهذا هو ما اختاره الطوفي وغيره، قال الطوفي في مختصره بعد أن استعرض الأقوال في المسألة: (والمختار أن النهي عن الشيء لذاته، أو وصف لازم له مبطل، ولخارج عنه غير مبطل، وفيه لوصف غير لازم تردد، والأولى الصحة). وانتصر لذلك في شرحه فقال (2/ 440): (- وإن كان النهي عن الفعل لوصف له، لكنه غير لازم؛ ففيه تردد، إذ بالنظر إلى كونه وصفًا للفعل يقتضي البطلان، كما لو نهي عنه لذاته، أو لوصف لازم، وبالنظر إلى كونه غير لازم لا يقتضي البطلان، كما لو نهي عنه لأمر خارج، وهو أولى تغليبًا لجانب العرضية على جانب الوصفية، إذ بكونه عارضًا يضعف كونه وصفًا؛ فلا يلحق بالوصف اللازم؛ لأن لزومه يؤكد وصفيته ويقويها.
ومما يصلح مثالًا لهذا القسم النهي عن البيع وما في معناه من العقود وقت النداء، وإنما نهي عنه، لكونه بالجملة متصفًا بكونه مفوتًا للجمعة، أو مفضيًا إلى التفويت بالتشاغل بالبيع، لكن هذا الوصف غير لازم للبيع لجواز أن يعقد مائة عقد ما بين النداء إلى الصلاة، ثم يدركها؛ فلا تفوت؛ فالأولى في هذا العقد الصحة لوجوه:
أحدها: ضعف المانع لصحته، وهو هذا الوصف الضعيف العرضي.
الثاني: معارضته بأن الأصل صحة تصرفات المكلفين، خصوصًا في معاملاتهم التي راعى الشرع مصالحهم فيها؛ فلا يترك هذا الأصل إلا لدليل قوي سالم عن معارض ...
الثالث: أن ضعف المانع، وقوة المعارض المذكورين، تعاضدا على تخصيص النص المقتضي للمنع، وهو قوله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، إذ ذلك يدل على أن المنهي عنه بيع خاص، وهو المفوت للصلاة، مثل أن يشرع في مساومة بيع تتطاول مدته عند تكبير الإمام للجمعة، أو قريبًا منه، وصحة البيع عند النداء تكره ولا تفسد عند أبي حنيفة وغيره، وهو وجه مخرج عندنا، وهو قوي لما ذكرنا.
والصحيح من مذهب أحمد أنه لا يصح لظاهر النهي، وما ذكرناه في تضعيف اقتضائه البطلان وارد عليه، والله تعالى أعلم بالصواب). وانظر أيضا التحبير (5/ 2297).
(1/39)
 
 
الصحة وخالفه الأكثرون (1) فللأول أمثلة كثيرة: (منها) صوم يوم العيد فلا يصح بحال على المذهب ... وللثاني أمثلة كثيرة: (منها) الصلاة بالنجاسة وبغير سترة وأشباه ذلك وللثالث أمثلة كثيرة: (منها) الوضوء بالماء المغصوب (ومنها) الصلاة في الثوب المغصوب والحرير وفي الصحة روايتان ... ومنها الصلاة في البقعة المغصوبة وفيها الخلاف ... وللرابع أمثلة منها الوضوء من الإناء المحرم ومنها صلاة من عليه عمامة غصب أو حرير أو في يده خاتم ذهب وفي ذلك كله وجهان ... ).
 
بيان أن الخلاف لفظي بين الأحناف والجمهور:
من دقق النظر فيما سبق تبين له أن الخلاف الواقع بين الحنفية والجمهور هو خلاف لفظي، فالحنابلة وإن لم يفرقوا بين الفاسد والباطل من ناحية الأصول فقد
فرقوا بينهما في الفروع لدليل اقتضى ذلك.
قال الشيخ النملة في "إتحاف ذوي البصائر " (2/ 246): (هل الخلاف بين الحنفية والجمهور لفظي أو معنوي؟
أقول - في الجواب عن ذلك أن الجمهور قالوا: لا فرق بين الباطل والفاسد فهما اسمان لمسمى واحد، وأما الحنفية فقد فرقوا بينهما، والخلاف بينهما خلاف لفظي.
قال المحلى في "شرح جمع الجوامع ": وفات المصنف - يعني ابن السبكي - أن
يقول: والخلاف لفظي كما قال في الفرض والواجب إذ حاصله أن مخالفة ذي
الوجهين (2) للشرع بالنهي عنه لأصله كما تسمى بطلانا هل تسمى فسادا؟ أو لوصفه
__________
(1) وقد وافق الشيخ العثيمين - رحمه الله - قول الأكثرين في هذه الحالة، فقال في باب النهي: (صيغة النهي عند الإطلاق تقتضي تحريم المنهي عنه وفساده. وقاعدة المذهب في المنهي عنه هل يكون باطلاً أو صحيحاً مع التحريم كما يلي:
1 - أن يكون النهي عائداً إلى ذات المنهي عنه أو شرطه فيكون باطلاً.
2 - أن يكون النهي عائداً إلى أمر خارج لا يتعلق بذات المنهي عنه ولا شرطه فلا يكون باطلاً).
(2) والوجهان موافقة الشرع ومخالفته أي الفعل الذي يقع تارة موافقا للشرع، وتارة مخالفا له عبادة
كان كصلاة أو غيرها كبيع صحته موافقته الشرع، بخلاف ما لا يقع إلا موافقا له كمعرفة الله تعالى، إذ لو وقعت مخالفة له أيضا لكان الواقع جهلاً لا معرفة.
(1/40)
 
 
كما تسمى فسادا هل تسمى بطلانا؟ فعندهم لا، وعندنا نعم ".
وقال الزنجاني في "تخريج الفروع على الأصول": "واعلم أن هذا أصل عظيم فيه اختلاف الفئتين وطال فيه نظر الفريقين، وهو على التحقيق نزاع لفظي، ومراء جدلي".
بيان ذلك أن الحنفية وإن فرقوا بين الباطل والفاسد في بعض المسائل حيث أثبتوا للفاسد وجودا معترفا به عندهم، ورتبوا عليه بعض الأحكام الشرعية في حالة تنفيذ العقد والقبض، إلا أن وجوده هذا وجود ناقص في الحقيقة، ولذلك فلا حكم له قبل القبض: أي أنه لم يرتب عليه بذاته أثره الشرعي، وإنما ترتبت عليه بعض الآثار نظرا لتنفيذ العقد فكان التنفيذ محل رعاية عندهم؛ لوجود الشبهة القائمة بسبب العقد، ولما قد يترتب في حق الغير بعد التنفيذ فكان الاعتراف ببعض هذه الآثار مراعاة لذلك الحق مع وجود الحرمة والإثم في جميع صوره.
كما أن الجمهور قد يفرقون بين الفاسد والباطل أحيانا ويخرجون عما قرروه من قاعدة الترادف بينهما إذا قام لهم دليل على ذلك من الفروع.
قال ابن اللحام في "القواعد والفوائد الأصولية": " ... إذا تقرر هذا فقد ذكر أصحابنا مسائل فرقوا فيها بين الفاسد والباطل " إلى أن قال: " والذي يظهر أن ذلك ليس مخالفا لقاعدة الترادف وإنما وقع التفريق في مسائل لدليل"، وقال مثل ذلك الإسنوي في "نهاية السول"، والزركشي في "البحر المحيط".
بذلك تبين أن الفرق بين الفاسد والباطل قد عمل به الجمهور والحنفية في مسائل لدليل.
فالحنفية لم يفرقوا بين الفاسد والباطل إلا لما قام عندهم من الدليل الذي فهموا منه هذه التفرقة، وجعلهم يعتدون بالفاسد في بعض عقود المعاملات.
فيمكن أن يعتبر اعتدادهم بالفاسد - خلافا للجمهور - في كثير من المسائل خلافا
فقهيا لا أصوليا، وهذا لم ينشأ عن التسمية، وإنما نشأ عن دليل خاص لدى المجتهد، فنتج من ذلك أن الخلاف لفظي بين الجميع).
(1/41)
 
 
العلم
تعريف العلم:
العلم هو: (حكم الذهن بأمر على أمر حكما جازما مطابقا لموجب).
قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة " (1/ 171): (والذي فهم من كلام فخر الدين في أثناء تقسيم ذكره: أن العلم هو الحكم الجازم المطابق لموجب.
فالحكم، هو إسناد الذهن أمرا إلى آخر بإيجاب أو سلب، كقولنا: العالم محدث أو ليس بقديم، والجازم: القاطع الذي لا تردد فيه، وبه يخرج الظن والشك والوهم، والمطابق: الموافق لما في نفس الأمر، وهو معنى قول غيره: والأمر في نفسه كذلك، وبه يخرج الجهل المركب، وهو الحكم الجازم غير المطابق، كقول القائل: زيد في الدار، وليس فيها.
وقوله: (لموجب) أي: لمدرك، استند الحكم إليه من عقل، أو حس، أو ما تركب منهما، وهو احتراز عن اعتقاد المقلد المطابق، فإنه حكم جازم مطابق وليس بعلم؛ لأنه ليس لموجب) (1).
 
أقسام العلم:
ينقسم العلم الحادث إلى تصور وتصديق، وكل منهما إما ضروري، وإما نظري.
قال الشنقيطي في "آداب البحث والمناظرة" (ص/8): (اعلم أن العلم الحادث ينقسم أربعة أقسام، لأنه إما علم تصور، وإما علم تصديق، وكل واحد منهما إما ضروري، وإما نظري، فالمجموع أربعة من ضرب اثنين في اثنين.
الأول: علم تصور ضروري.
الثاني: علم تصور نظري.
والثالث: علم تصديق ضروري.
والرابع: علم تصديق نظري.
واعلم أن علم التصور في الاصطلاح هو إدراك معنى المفرد من غير تعرض
لإِثبات شيء له، ولا لنفيه عنه كإدراك معنى اللذة، والألم، ومعنى المرارة، ومعنى
__________
(1) انظر الإبهاج (1/ 30).
(1/42)
 
 
الحلاوة، وإدراك معنى الإِنسان، ومعنى الكاتب، فإدراك كل مفرد مما ذكرنا ونحوه أي فهم المعنى المراد به ذلك المفرد من غير تعرض لإثبات شيء، وأما علم التصديق فهو إثبات أمر لأمر بالفعل، أو نفيه عنه بالفعل، وتقريبه للذهن. فلو قلت مثلاً، الكاتب إنسان، فإدراكك معنى الكاتب فقط علم تصور وإدراكك معنى الإِنسان فقط علم تصور، وإدراكك كون الإِنسان كاتباً بالفعل، أو ليس كاتباً بالفعل، هو المسمى بالتصديق. وإنما سمي تصديقاً لأنه خبر، والخبر بالنظر إلى مجرد ذاته يحتمل التصديق والتكذيب فسموه تصديقاً، تسمية بأشرف الاحتمالين).
والضروري ما يكون إدراك المعلوم به ضروريا بحيث لا يحتاج إلى نظر واستدلال فيجد الإنسان نفسه مضطرا إليه بحيث لا يمكن دفعه.
وأما العلم النظري هو ما يحتاج لنظر واستدلال نظر في الأدلة الشرعية أو في المقدمات ليصل إلى العلم به.
قال الشنقيطي في "آداب البحث والمناظرة" (ص/10): (فاعلم أن الضروري في الاصطلاح هو ما لا يحتاج إدراكه إلى تأمل.
والنظري في الاصطلاح هو ما يحتاج إدراكه إلى التأمل. فالتصور الضروري كتصور معنى الواحد ومعنى الاثنين.
والتصديق الضروري كإدراك أن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء.
والتصور النظري مثل له بتصور الملائكة، والجنة، فإنه نظري (1) ومن أمثلته
تشخيص الطبيب لعين المرض (2) فهو تصور له بعد بحث وتأمل ونظر. والتصديق النظري كقولك: الواحد نصف سدس الاثنى عشر وربع عشر الأربعين).
__________
(1) في المطبوع: (ضروري)، وما أثبته هو الموافق للسياق.
(2) في المطبوع: (المريض)، وما أثبته هو الموافق للسياق، كذا قال محقق طبعة دار عالم الفوائد.
(1/43)
 
 
الكلام
سبب ذكر هذا الفصل في علم الأصول:
قال المرداوي في "التحبير" (1/ 280): (قد سبق أن أصول الفقه يستمد من اللغة، وذلك لما كان الاستدلال من الكتاب والسنة اللذين هما أصل الإجماع بل وأصل القياس محتاجاً إلى معرفة اللغة - التي لا تعرف دلالتهما إلا بمعرفتها؛ لأنهما عربيان، وفهم معانيهما متوقف على معرفة لغة العرب، بل هما أفصح الكلام العربي - احتيج إلى معرفتها. قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [يوسف: 2]، (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل: 103]، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم: 4]، وغير ذلك من الآيات).
قال الجويني في "البرهان في أصول الفقه" (1/ 78): (ومن مواد أصول الفقه العربية فإنه يتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ ولن يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققا مستقلا باللغة والعربية).
وعليه فالاستدلال بالكتاب والسنة مبني على معرفة طرق العرب في الإفهام والفهم، ومن جملة أصول الفقه طرق دلالة الألفاظ على المعاني من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، واشتراك وإجمال، ومنطوق ومفهوم، وحقيقة ومجاز، وهذه كلها إنما يتبع فيها ما جرى عليه عرف أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم وتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بها.
 
تعريف الكلام عند النحويين:
الكلام عند النحويين هو: (اللفظ المركب المفيد بالوضع) (1).
اختلفت اصطلاحات اللغويين والنحويين في تعريف الكلام، فهو عند اللغويين يشمل المفيد وغير المفيد بخلاف النحويين فلا يدخل عندهم فيه غير المفيد.
قولنا: (اللفظ) خرج به الإشارة، ولو أفادت معنى فلا تسمى كلامًا، والكتابة لو أفادت معنى لا تسمى كلامًا.
__________
(1) ذكر هذا التعريف ابن آجروم في "متن الآجرومية"، ونسبه الطوفي في شرح مختصر الروضة (1/ 548) لابن معطي في الفصول وغيره.
(1/44)
 
 
قولنا: (المركب) قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في "شرحه على الأجرومية" (ص/56): (المركب: يعني الذي يتركب من كلمتين فأكثر، تحقيقا أو تقديرًا.
فإذا قلت: هل. فهذا لفظ لكنه ليس مركبًا، فلا يسمى كلامًا عند النحويين ...
لا بدّ أن يتركب من كلمتين فأكثر تحقيقًا أو تقديرًا.
فمثلاً تحقيقًا إذا قلت: قام زيد. هذا مركب من "قام" و "زيد" تحقيقا.
ومثال تقديرًا إذا قلت: قُم. فهذا لم يتركب من كلمتين تحقيقا، لكن تقديرا؛ لأن قُم فيها ضمير مستتر في قوة البارز فهي مركبة من كلمتين).
وقولنا: (المفيد) أي الفائدة التامة، وهي التي يحسن السكوت عليها من المتكلم، بحيث لا يصير السامع منتظرا لشيء آخر انتظارا تاما، فإن وجد التركيب الإسنادى من الفعل مع فاعله، والمبتدأ مع خبره وجد أصل الكلام، وما زاد على ذلك فليس داخلا في حد الكلام من حيث الوجود.
قال الشيخ الحازمي في "شرح الألفية" (الشريط الثالث) ما محصله: المفيد مقصود به مصطلح خاص عند النحاة فإذا أطلقت الإفادة فالمراد بها الفائدة التي يحسن السكوت عليها من المتكلم، وقيل: من السامع، وقيل منهما، والأول أصح؛ لأن الكلام صفة له ثم إذا سكت وحصلت الفائدة لا يسكت السامع، ولكن يسكت المتكلم، فهو أدرى بما يقول، فكما أن الكلام صفة له فكذلك السكوت يكون صفة له.
هذه الفائدة إذا أطلقت عند النحاة انصرفت إلى هذا المعنى، فإذا قيل لفظ مفيد فالمراد بها الفائدة التامة بحيث يحسن السكوت عليها من المتكلم، بحيث لا يصير السامع منتظرا لشيء آخر انتظارا تاما، بمعنى أنه يوجد التركيب الإسنادي الفعل مع فاعله، والمبتدأ مع خبره، فإذا وجد الفعل مع فاعله، والمبتدأ مع خبره وجد أصل الكلام، وما زاد على ذلك من الفضلات، والمفعولات، والأحوال، والتمييز هذا ليس داخلا في حد الكلام من حيث الوجود، ولذلك قيل: انتظارا تاما، احترازا عن الانتظار الناقص ليشمل الفعل المتعدي إذا ذكر فاعله، ولم يذكر مفعوله، فإذا قلت: ضَرَب زيد، علمت أن الضرب قد وقع من زيد، وأنه فاعل الضرب وأن هذا الضرب قد وقع في الزمن الماضي، ولكن قد وقع على من؟ هل هناك انتظار أم لا؟ نعم هناك انتظار، ولكنه انتظار ناقص.
(1/45)
 
 
هل عدم ذكر المفعول به يكون نقضا لأصل الكلام؟ لا، فالفائدة التامة حصلت بقولنا: ضرب زيد؛ لأن الفائدة التامة المراد بها وجود المسند، والمسند إليه بقطع النظر عن المتعلقات، فلو كان هذا الفعل يتعلق به ظرف زمان، أو ظرف مكان، أو جار ومجرور حينئذ نقول: هذه لا أثر لها في الحكم على اللفظ، وعلى التركيب لأنه مفيد فائدة تامة.
إذن المراد بالمركب الإسنادي هو المقصود لذاته، وهذا إنما يحصل بوجود المسند والمسند إليه بقطع النظر عن المتعلقات التي تتعلق بالمسند، أو بالمسند إليه) (1).
قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في "شرح الأصول" (ص/99): (وخرج بقوله: "المفيد": ما لم يفد، كقولك: قام، أكل، شرب، وقولك: زيد، عمرو، خالد، وقولك: في، إلى، عن، كلا، فكل هذا لا يسمى- اصطلاحًا- كلامًا ...
وخرج به على رأي بعض العلماء: "السماء فوقنا، والأرض تحتنا"؛ فهذا غير مفيد؛ فكلنا يعرف هذا.
لكن هذا غير صحيح، لأنا لو قلنا بهذا لقلنا: كل ما كان معلومًا إذا وقع خبرًا فإنه ليس بكلام.
فعلى هذا إذا قلت: من أكل شبع، ومن شرب روي، ومن نام استراح، ومن استظل بالسقف سلم من حرارة الشمس، لا يعد هذا كلامًا، لأن هذا معلوم، وعلى رأيهم يكون قول الشاعر:
كأننا والماء من حولنا ... قومٌ جلوس حولهم ماء
فهذا على قولهم ليس كلامًا، فإذا كنت جالسًا والماء من حولك، ومعك ناس فأنتم قوم جلوس حولكم ماء.
فالصحيح أنه لا يُشترط أن تكون الفائدة متجددة، وأنه يجوز أن يكون الكلام كلامًا ولو كانت فيه فائدة غير متجددة).
قولنا: (بالوضع) قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في "شرحه على الأجرومية" (ص/58): (قوله (بالوضع) مراده بالوضع أحد أمرين:
__________
(1) انظر همع الهوامع (1/ 48).
(1/46)
 
 
الأول - أن يكون الواضع له قاصدًا وضعه، فخرج بذلك كلام السكران والمجنون والنائم والهاذي. فهذا لا يسمى كلامًا؛ لأن واضعه غير قاصدًا له.
الثاني - بالوضع. أي بالوضع العربي، بمعنى أنه مطابق للغة العربية، فلو جاءنا كلام يفيد فائدة لا يتشوف السامع بعدها إلى شيء، لكن العرب لا يفهمونه؛ فإنه لا يسمى كلامًا عند النحويين).
وقد اختار الشيخ أحمد الحازمي أن المقصود بالوضع المعنى الثاني فقال (1) ما محصله: بالوضع، وهذا لم يذكره ابن مالك، قيل المفيد يستلزمه؛ لأنه لا يحسن السكوت من المتكلم على كلام إلا إذا كان قاصدا له، وهذا إذا فسرنا الوضع بمعنى القصد وهو ضعيف.
وقالوا حتى يخرج كلام النائم والساهي والمجنون، ونحوهم، فمن طلق زوجته وهو نائم لا تطلق باتفاق.
وأجيب بأن كلام النائم يسمى كلاما وإن لم يقصده، وإنما لم يقع الطلاق لرفع التكليف عنه حال نومه لا لأن ما قاله لم يسم كلاما.
والصواب أن يفسر الوضع في حد الكلام بالوضع العربي يعني أن يكون منظوما بلفظ عربي احترازا عن غيره من اللغات الأجنبية، فإن تكلم بلغة غير عربية فليس بكلام عند النحاة، وإذا اشترطنا القصد دخل معنا كلام البربري ونحوه، وخرج عن الحد كلام الساهي، والنائم، والمجنون، ومن جرى على لسانهم ما لا يقصدون.
 
اللغة نوعان: مفرد ومركب:
اللغة نوعان مفرد ومركب، هذا قدر متفق عليه بين النحاة والأصوليين ومعهم المناطقة، ولكنهم اختلفوا في تعريف المفرد والمركب.
قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 108): (اللغة نوعان: مفرد، ومركب. المفرد في اصطلاح النحاة: هو الكلمة الواحدة كزيد. وعند المناطقة والأصوليين: لفظ وضع لمعنى، ولا جزء لذلك اللفظ يدل على جزء المعنى الموضوع له.
__________
(1) الشريط الثالث من "شرح الألفية".
(1/47)
 
 
فشمل ذلك أربعة أقسام.
الأول: ما لا جزء له ألبتة، كباء الجر.
الثاني: ما له جزء، ولكن لا يدل مطلقا، كالزاي من زيد.
الثالث: ما له جزء يدل، لكن لا على جزء المعنى. كإن من حروف إنسان. فإنها لا تدل على بعض الإنسان، وإن كانت بانفرادها تدل على الشرط أو النفي.
الرابع: ما له جزء يدل على جزء المعنى، لكن في غير ذلك الوضع كقولنا: حيوان ناطق، علما على شخص.
والمركب عند النحاة: ما كان أكثر من كلمة، فشمل التركيب المزجي، كبَعْلَبَكّ (1)، ونحوها، والمضاف، ولو علما، كعبد الله. وعند المناطقة والأصوليين: ما دل جزؤه على جزء معناه الذي وضع له، فشمل الإسنادي، كقام زيد، والإضافي: كغلام زيد، والتقييدي، كزيد العالم).اهـ بتصرف يسير.
 
أقسام الكلمة:
الكلمة إما اسم، أو فعل، أو حرف.
 
1 - الاسم:
قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في "شرح الأصول" (ص/103): (الاسم: ما دل على معنى في نفسه من غير إشعار بزمن):
"ما دلَّ على معنى" وهذا جنس يدخل فيه الفعل والحرف.
"ما دلَّ على معنى في نفسه " نقول: هذا لا يشمل الحرف؛ لأنه دل على معنى في غيره.
وقولنا: "من غير إشعار بزمن " هذا فصل يخرج الفعل لأنه- أي الفعل- دل على معنى في نفسه مع إشعار بزمن.
وقوله: (وهو ثلاثة أنواع:
__________
(1) وهو اسم مركب من بعل اسم صنم وبك أصله من بك عُنُقَه أي دقها وتَباك القومُ أي ازدحموا فإما أن يكون نُسب الصنم إلى بك وهو اسم رجل أو جعلوه يبك الأعناق هذا إن كان عربياً وإن كان عجمياً فلا اشتقاق.
(1/48)
 
 
الأول: ما يفيد العموم كالأسماء الموصولة.
الثاني: ما يفيد الإطلاق، كالنكرة في سياق الإثبات.
الثالث: ما يفيد الخصوص كالأعلام)
وقوله: (منها ما يفيد العموم): يعني الشمول لجميع أفراد ما دل عليه.
وقوله: (كالأسماء الموصولة):الاسم الموصول: اسم دال على العموم، والمحلى بأل غير العهدية دال أيضًا على العموم ({وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ) [العصر: 1، 2] الإِنسان " أي: كل إنسان ...
وقوله: (ما يفيد الإطلاق كالنكرة في سياق الإثبات):إذا قلت: أكرم رجلاً: فهذه لا تعم كل رجل، إنما يراد بها رجلاً واحدًا، فهي لا تعم جميع الرجال. لكن النكرة فيها شمول بدلي، وليس شمولاً عموميًا ...
وقوله: (ما يفيد الخصوص، كالأعلام): "الأعلام "يعني الأسماء التي وضعت علمًا على مسماها، مثل: محمد، عمر، خالد، زيد، بكر ... إلى آخره. نقول: هذه أسماء تفيد الخصوص، ولهذا تعين مسماها. و"اسم الإشارة" يُعيِّن مسماه، إذًا فهو دال على الخصوص).
 
2 - الفعل:
وقال أيضا (ص/105): (والفعل: ما دل على معنى في نفسه وأشعر بهيئته بأحد الأزمنة الثلاثة: وهو إما ماضٍ: كفهم، أو مضارع: كيفهم، أو أمر: كافهم، والفعل بأقسامه يفيد الإطلاق، فلا عموم له.
قوله: (و