المنثور في القواعد الفقهية 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: المنثور في القواعد الفقهية
المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794هـ)
عدد الأجزاء: 3
 
أُصُولِ النَّخْلِ وَالْغَرْسِ أَمَّا مُجَرَّدُ الذَّوْقِ " لِاسْتِكْشَافِهِ " عِنْدَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ وَنَحْوُهُ فَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ " مِنْهُ "؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ بَقِيَ طَعْمٌ لَمْ يَظْهَرْ، "؛ لِأَنَّهُ سَهْلُ الْإِزَالَةِ " قَالَ: وَيَظْهَرُ تَصْوِيرُهُ بِمَا إذَا دَمِيَتْ لِثَتُهُ أَوْ تَنَجَّسَ " فَمُهُ " بِنَجَاسَةٍ أُخْرَى فَغَسَلَهُ فَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ مَا دَامَ يَجِدُ طَعْمَهُ فِيهِ انْتَهَى.
وَهَذَا التَّصْوِيرُ يُشْعِرُ بِامْتِنَاعِ اخْتِبَارِ " مَحَلِّ " النَّجَاسَةِ بِالذَّوْقِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ صَاحِبَ الْبَيَانِ قَالَ فِي الْمُجْتَهِدِ فِي الْأَوَانِي: يَجُوزُ الِاخْتِبَارُ بِالذَّوْقِ. " وَالْجَوَابُ " أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ هُنَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى " الظَّنِّ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ فَلِهَذَا يَمْتَنِعُ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ زَوَالُهَا لَا يَمْتَنِعُ اخْتِبَارُ الْمَحَلِّ لِوُجُودِ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَيُنَزَّلُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ فَمَهُ النَّجِسَ فَلْيُبَالِغْ فِي الْغَرْغَرَةِ لِيَغْسِلَ " كُلَّ مَا " هُوَ فِي حَدِّ الظَّاهِرِ وَلَا " يَبْتَلِعَ " طَعَامًا وَلَا شَرَابًا قَبْلَ غَسْلِهِ لِئَلَّا يَكُونَ أَكَلَ نَجِسًا أَوْ شَرِبَ نَجِسًا. انْتَهَى.
وَهُوَ فَرْعٌ حَسَنٌ يُغْفَلُ عَنْهُ.
 
" الثَّامِنُ ": إنْ تَنَاوَلَهُ فَعَلَيْهِ إلْقَاؤُهُ نَصَّ عَلَيْهِ " الْإِمَامُ " الشَّافِعِيُّ " - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " فَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ فِي بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ: فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مُحَرَّمٍ فَعَلَيْهِ إلْقَاؤُهُ
(3/253)
 
 
بِأَنْ يَتَقَيَّأَهُ، " وَقَالَ الْإِمَامُ " وَإِنْ أُسِرَ رَجُلٌ فَحُمِلَ عَلَى شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ أَكْلِ مُحَرَّمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّأَهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْوُجُوبُ فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَقِفْ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى نَصِّهِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ فَقَالَ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " " عَلَى " أَنَّ مَنْ شَرِبَ خَمْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّأَهَا " فَيُحْتَمَلُ " أَنَّهُ إنَّمَا " أَوْجَبَ " الِاسْتِقَاءَةَ لِخَوْفِ السُّكْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِلنَّجَاسَةِ وَبَنَى عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ مَا لَوْ أَكَلَ نَجِسًا هَلْ يَجِبُ قَذْفُهُ إنْ " عَلَّلْنَا " بِالنَّجَاسَةِ وَجَبَ أَوْ بِالْإِسْكَارِ فَلَا، وَهَذَا الْبَحْثُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي مَحَلِّهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ فِي الْمَطْلَبِ فِي وُجُوبِ التَّقَيُّؤِ وَجْهَانِ صَحَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الِاسْتِحْبَابَ، وَالْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ الْوُجُوبُ وَعَلَى مُقْتَضَاهُ جَرَى الْأَصْحَابُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْذُورِ فِي الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ وَغَيْرُ الْمَعْذُورِ يَلْزَمُهُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
قُلْت: نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمِنْهَاجِ عَدَمَ الْوُجُوبِ عَنْ " صَاحِبِ الْإِيضَاحِ "؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ حَصَلَتْ فِي " مَعْدِنِهَا " فَأَشْبَهَ الطَّعَامَ الَّذِي فِي الْمَعِدَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا " بِخِلَافِ " النَّصِّ وَلِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَا " قَالَ " الشَّافِعِيُّ فِي
(3/254)
 
 
الْأُمِّ أَنَّهُ إذَا أَدْخَلَ دَمًا تَحْتَ الْجِلْدِ وَثَبَتَ يَجِبُ إخْرَاجُهُ مَعَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْجِلْدِ مَوْضِعُ الدَّمِ وَمَعْدِنُ النَّجَاسَةِ انْتَهَى، وَنَقَلَ فِي التَّتِمَّةِ الْوُجُوبَ عَنْ النَّصِّ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ التَّعَدِّيَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِدَامَةِ فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ تَنَاوُلِهِ مُحَرَّمًا كَانَ اسْتِدَامَتُهُ لِتَكَامُلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ أَيْضًا " مُحَرَّمًا " وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ أَمَّا الْخَمْرُ فَيَجِبُ قَذْفُهَا بِلَا خِلَافٍ إنْ خِيفَ مِنْهَا السُّكْرُ لَوْ تَرَكَهَا فِي جَوْفِهِ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهَا قَدْرًا لَا يُسْكِرُ " فَهَذَا " هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْخِلَافُ. وَيُحْمَلُ " أَيْضًا كَلَامُ " الشَّافِعِيِّ فِي الشُّرْبِ عَلَى مَا إذَا " كَانَ " السُّكْرُ يَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ صَلَاةٍ أَوْ صَلَوَاتٍ كَمَا إذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ شَخْصٍ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ بُكْرَةً لَا يَصْحُو " إلَّا " إلَى عَشِيَّةٍ وَصَارَ نَظِيرُ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّهَادَاتِ أَنَّ مَنْ عَادَتُهُ " إذَا لَعِبَ " بِالشِّطْرَنْجِ يَنْسَى الصَّلَاةَ أَنَّهُ يَعْصِي بِالنِّسْيَانِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَوْ شَرِبَهُ زَالَ عَنْهُ " قَبْلَ فَوَاتِ الصَّلَاةِ فَلَا يَجِبُ "؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ حَقًّا وَيُحْمَلُ كَلَامُ مَنْ اسْتَحَبَّهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ مَنْ أَكَلَ حَرَامًا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَقَيَّأَهُ، وَأَجَابَ عَنْ تَقَيُّؤِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قِيلَ " لَهُ ": إنَّ " اللَّبَنَ " مِنْ الصَّدَقَةِ لِيُعْلِمَ النَّاسَ تَحْرِيمَهَا عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَغْصُوبٍ وَغَيْرِهِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ " وَكَيْلَا " يَسْتَدِيمَ " الِاغْتِذَاءُ " وَالِانْتِفَاعُ بِالْحَرَامِ.
(3/255)
 
 
التَّاسِعُ ": النَّجَاسَةُ مَا دَامَتْ فِي الْبَاطِنِ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِحُكْمِ النَّجَاسَةِ فِي إبْطَالِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَوْ حَمَلَ الْمُصَلِّي حَيَوَانًا طَاهِرًا حَيًّا وَصَلَّى صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ لَا حُكْمَ لَهَا فِي تَنْجِيسِ مَا لَاقَتْهُ وَتَنْجِيسُهَا بِمَا لَاقَاهَا مِنْ نَجَاسَةٍ هِيَ أَغْلَظُ مِنْهَا، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَكَلَ لَحْمَ كَلْبٍ أَنْ يَغْسِلَ دُبُرَهُ كُلَّمَا تَغَوَّطَ أَوْ بَالَ وَلَمْ " يَتَنَجَّسْ " اللَّبَنُ الْمُلَاقِي " لِلْفَرْثِ " فِي الْبَطْنِ.
وَلَمْ يَنْجُسْ " الْمَنِيُّ " وَإِنْ مَرَّ فِي مَجْرَى الْبَوْلِ، وَلَمْ تَنْجُسْ " النُّخَامَةُ " " النَّازِلَةُ " مِنْ الرَّأْسِ بِجَرَيَانِهَا فِي قَصَبَةِ الْأَنْفِ بَعْدَ مَا جَرَى فِيهَا دَمُ الرُّعَافِ وَغَسْلُ ظَاهِرِ " الْأَرْضِ " "، وَمِنْ " هَذَا قَالَ فِي الْبَسِيطِ تَبَعًا لِلْإِمَامِ مَعْنَى الْخِلَافِ فِي نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ أَنَّ تِلْكَ الرُّطُوبَةَ هَلْ يَثْبُتُ لَهَا حُكْمٌ وَهَلْ يُقَدَّرُ خُرُوجُهَا فَإِنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَثْبُتُ مَا " دَامَتْ " الْفَضْلَةُ فِي الْبَاطِنِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ قِيلَ: لِمَ قَطَعْتُمْ بِجَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَةِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا بُدَّ مِنْهَا قُلْنَا مَا " يَحْوِيهِ " الْبَاطِنُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ وَلَكِنَّ تَحْرِيمَ النَّجَاسَةِ مِنْ قَبِيلِ " الِاجْتِنَابِ " فَلَا يَبْعُدُ سُقُوطُهُ " بِالضَّرُورَاتِ "، وَلِهَذَا نَقَلَ " الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ النَّسَوِيُّ " فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّرِيعَةُ
(3/256)
 
 
تَقْضِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَاطِنِ " الْإِنْسَانِ " نَجَاسَةٌ وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهِ مِمَّا " خَلَقَهُ " اللَّهُ " تَعَالَى " أَمَّا نَجِسٌ أَدْخَلَهُ الْإِنْسَانُ تَعَدِّيًا إلَى بَاطِنِهِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَجِسًا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ فَلَاقَى الْبَاطِنَ فَنَجَّسَهُ " ثُمَّ تَطْهِيرُهُ " مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ يَنْتَهِي إلَيْهِ " تَنَجَّسَ " بِمُلَاقَاتِهِ لِنَجِسٍ فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ.
قُلْت: وَهُوَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ بَلْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ أَشَارَ " الْإِمَامُ " الشَّافِعِيُّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " فِي الْأُمِّ إلَى أَنَّ مُلَاقَاةَ النَّجَاسَةِ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، فَقَالَ: لَوْ وُجِدَ حُوتٌ فِي بَطْنِ سَبُعٍ أَوْ طَائِرٍ أَوْ حُوتٍ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَطْهِيرِ ظَاهِرِهِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَيْضًا فِي طَهَارَةِ الْمَنِيِّ مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْوَلَدِ وَالْبَيْضَةِ حَيْثُ قَالَ: لَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِهَا، وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ الْمِنْهَاجِ فِي الْخِلَافِ فَمَنَعَ قَوْلَهُمْ أَنَّ نَجَاسَةَ الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا بِدَلِيلِ " أَنَّ " مَنْ أَكَلَ شَيْئًا ثُمَّ قَذَفَهُ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ وَلَمْ تُنَجِّسْهُ إلَّا مُلَاقَاةُ مَا فِي الْمَعِدَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي الْأَصَحِّ.
(3/257)
 
 
وَمِثْلُهُ مَا حَكَاهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ لَوْ أَلْقَتْ الْبَهِيمَةُ حَبًّا عَلَى هَيْئَتِهِ بِحَيْثُ لَوْ زُرِعَ لَنَبَتَ وَجَبَ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَوْ حَمَلَ الْبَيْضَةَ الْمَذِرَةَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَصِحَّ " صَلَاتُهُ " فِي الْأَصَحِّ نَعَمْ لَا بُدَّ فِي " هَذَا " الْأَصْلِ السَّابِقِ مِنْ قَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَأَمَّا الْمَوْتُ فَيَنْجُسُ. وَلِهَذَا لَوْ مَاتَتْ بَهِيمَةٌ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ " تَنَجَّسَ " " بِمُلَاقَاتِهِ " النَّجَاسَةَ فِي الْبَاطِنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - ": لَا يَنْجُسُ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِنَجَاسَةِ الْبَاطِنِ، وَقَالَ: إنَّ الْإِنْفَحَةَ إذَا أُخِذَتْ مِنْ الْمَيْتَةِ كَانَتْ طَاهِرَةً وَإِذَا قُلْنَا بِطَهَارَةِ لَبَنِ الْمَأْكُولِ فَأَكَلَ نَجَاسَةً فَيُحْتَمَلُ الْقَطْعُ بِنَجَاسَتِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْأَقْرَبُ خِلَافُهُ لِمَا سَبَقَ فِي لَحْمِ الْكَلْبِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّذْكِرَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا بِدَلِيلِ مَا لَوْ ابْتَلَعَ شَيْئًا ثُمَّ تُقَيَّأهُ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ قَالَ: وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّبَنَ يُلَاقِي الْفَرْثَ وَالدَّمَ بَلْ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ فِي الْبَاطِنِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَّصِلَ بِنَجَاسَةِ الْبَاطِنِ ظَاهِرٌ فَإِنْ اتَّصَلَ بِهَا كَمَا لَوْ بَلَعَ خَيْطًا فَوَصَلَ طَرْفُهُ إلَى مَعِدَتِهِ وَطَرْفُهُ الْآخَرُ " خَارِجٌ أَوْ أُدْخِلَ " فِي دُبُرِهِ عُودًا وَبَقِيَ بَعْضُهُ خَارِجًا وَصَلَّى فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا تَبْطُلُ.
وَلَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا وَفِي فِيهِ خَيْطٌ بَعْضُهُ مُتَّصِلٌ بِبَاطِنِهِ فَهَذَا إنْ نَزَعَهُ بَطَلَ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ " اسْتَقَاءَ " عَمْدًا وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَنْزِعَهُ غَيْرُهُ
(3/258)
 
 
بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ جَذَبَهُ وَغَسَلَ فَمَهُ وَصَلَّى مُرَاعَاةً " لِمَحَلِّ " الصَّلَاةِ وَيَقْضِي الصَّوْمَ وَهَذَا مِنْهُمْ تَقْدِيمٌ لِلصَّلَاةِ، وَعَكَسُوا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَسَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي فَصْلِ التَّعَارُضِ " بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ ".
 
فُرُوعٌ لَوْ أَدْخَلَتْ عُودًا فِي فَرْجِهَا وَتَرَكَتْ بَعْضَهُ خَارِجًا " وَصَلَّتْ " صَحَّتْ صَلَاتُهَا إنْ قُلْنَا بِطَهَارَةِ بَاطِنِ فَرْجِهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَلَوْ أَدْخَلَ عُودًا فِي ذَكَرِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ خَارِجًا وَصَلَّى صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِنَاءً عَلَى طَهَارَةِ بَاطِنِ ذَكَرِهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَذَكَرَ فِي التَّحْقِيقِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ الْأَصَحَّ بُطْلَانُ صَلَاةِ مَنْ أَدْخَلَ عُودًا فِي ذَكَرِهِ أَوْ " فِي " فَرْجِهَا وَهَذَا لَا يَظْهَرُ تَوْجِيهُهُ وَلَعَلَّ الْمُصَحِّحَ لِذَلِكَ يَرَى نَجَاسَةَ بَاطِنِ الْفَرْجِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْعِجْلِيُّ أَنَّهُ لَوْ غَيَّبَ قُطْنَةً فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يَبْطُلْ وُضُوءُهُ وَصَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ " كَانَ " يَرَى الْقُطْنَ فِي الْإِحْلِيلِ فَلَوْ كَانَ بَاطِنُ الذَّكَرِ نَجِسًا لَمَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ " لِحَمْلِهِ " النَّجَاسَةَ.
وَلَوْ أَدْخَلَ عُودًا فِي دُبُرِهِ وَصَلَّى لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِاتِّصَالِهِ بِالنَّجَاسَةِ.
وَلَوْ غَرَزَ إبْرَةً فِي لَحْمِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهَا خَارِجًا وَصَلَّى فَكَمَا لَوْ أَدْخَلَ عُودًا فِي دُبُرِهِ لِاتِّصَالِ الْإِبْرَةِ بِالدَّمِ فِي بَاطِنِ اللَّحْمِ.
وَمِمَّا يَلْحَقُ بِالظَّاهِرِ مِنْ الْبَاطِنِ مَا لَوْ شَقَّ مَوْضِعًا مِنْ بَدَنِهِ " وَحَصَلَ مِنْهُ دَمٌ " وَبَنَى عَلَيْهِ اللَّحْمَ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَشْفُهُ وَإِخْرَاجُهُ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ قَطَعَ ذَكَرَهُ مِنْ
(3/259)
 
 
أَصْلِهِ " وَاسْتَتَرَ " أَصْلُهُ بِالْجِلْدِ وَمَسَّهُ فَإِنَّ الْوُضُوءَ يُنْتَقَضُ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا لَوْ وَشَمَ يَدَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَشْطُهُ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَلَا يَصِحُّ وُضُوءُهُ وَلَا غُسْلُهُ مَا دَامَ الْوَشْمُ بَاقِيًا.
 
تَنْبِيهٌ " هَذَا " لَا يَخْتَصُّ " بِالْحَيَوَانِ ".
وَلِهَذَا قَالَ " الْإِمَامُ " الشَّافِعِيُّ فِيمَا لَوْ سُقِيَتْ سِكِّينُ مَاءً نَجِسًا ثُمَّ غُسِلَتْ بِالْمَاءِ طَهُرَتْ؛ لِأَنَّ " الطِّهَارَاتِ " كُلَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ عَلَى مَا يَظْهَرُ لَا عَلَى الْأَجْوَافِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَنُقِلَ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ أَنَّهُ قَالَ هَذَا خِلَافُ أُصُولِهِ؛ لِأَنَّهُ " يَقُولُ " فِي الْآجُرِّ إذَا عُجِنَ بِبَوْلٍ وَطُبِخَ: إنَّهُ لَا يَطْهُرُ بَاطِنُهُ بِالْغُسْلِ. انْتَهَى.
وَهَذَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ السِّكِّينَ لَا يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ " فِي " بَاطِنِهَا فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ " الْوُسْعِ " فَاكْتَفَى بِغَسْلِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْآجُرَّ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِهِ بِأَنْ يُدَقَّ وَيُصَبَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مَا يَغْمُرُهُ وَهَذَا كَمَا نَقُولُ فِي الْجِلْدِ إذَا دُبِغَ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَإِنْ كَانَ الدِّبَاغُ لَا يُبَاشِرُهُ وَلَا يُمْكِنُ إيرَادُ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا نَعَمْ قَدْ يُشْكَلُ عَلَى النَّصِّ مَسْأَلَةُ إدْخَالِ الدَّمِ تَحْتَ جِلْدِهِ إنَّهُ يَجِبُ إخْرَاجُهُ مَعَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْجِلْدِ مَوْضِعُ الدَّمِ وَمَعْدِنُ النَّجَاسَةِ، " وَلِذَلِكَ " لَوْ حَمَلَ بَيْضَةً صَارَ بَاطِنُهَا
(3/260)
 
 
دَمًا وَظَاهِرُهَا طَاهِرٌ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي الْأَصَحِّ، كَالنَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ إذَا حَمَلَهَا بِخِلَافِ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ " لِلْحَيَاةِ أَثَرًا " فِي دَرْءِ النَّجَاسَةِ وَأَمَّا الْبَيْضَةُ فَجَمَادٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ عُنْقُودًا اسْتَحَالَ بَاطِنُ حَبَّاتِهِ خَمْرًا وَلَا رَشْحَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ " وَجْهًا " أَنَّ " بَوَاطِنَ " حَبَّاتِ الْعُنْقُودِ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ خَمْرًا لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا تَشْبِيهًا لَهُ بِمَا فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ فِي الْعَنَاقِيدِ إذَا اسْتَحَالَ بَاطِنُهَا وَاشْتَدَّ وَجْهَيْنِ فِي بَيْعِهَا وَطَرْدُهُ فِي الْبَيْضَةِ الْمَذِرَةِ، ثُمَّ رُوجِعَ الْقَاضِي فِي نَجَاسَتِهَا فَتَوَقَّفَ قَالَ الْإِمَامُ لَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ " انْفَصَلَ " مَا فِي الْبَاطِنِ لَحَكَمْنَا بِنَجَاسَتِهِ، وَالِانْفِصَالُ لَا يُوجِبُ وُرُودَ " نَجَاسَةٍ " فَلَا يَلِيقُ بِالْمَذْهَبِ إلَّا نَجَاسَتُهَا، وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْقَاضِي فَهُوَ يُضَاهِي مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ حَكَمَ بِأَنَّ الدِّمَاءَ فِي الْعُرُوقِ الَّتِي فِي " جِلْدِ " اللَّحْمِ لَيْسَتْ " بِنَجِسَةٍ " فَإِذَا سَفَحَ وَسَالَ حَكَمَ بِالنَّجَاسَةِ وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِالدَّمِ " فَإِنَّا " إذَا قَطَعْنَا بِنَجَاسَةِ الْبَوَاطِنِ وَتَرَدَّدْنَا فِي جَوَازِ " الْبَيْعِ " فَلَا وَجْهَ إلَّا مَا نَذْكُرُهُ وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ الْبَيْضَةِ طَاهِرٌ وَالنَّجَاسَةُ مُسْتَتِرَةٌ اسْتِتَارَ خِلْقَةٍ وَالْبَيْضَةُ فِي نَفْسِهَا صَائِرَةٌ إلَى " رُتْبَةِ " الْفَرْخِ فَيُضَاهِي " امْتِنَاعَ الْعُصْفُورِ " وَجَنَّبُوهُ النَّجَاسَةَ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، وَكَذَلِكَ الْعُنْقُودُ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ وَمَقْصُودُهُ آيِلٌ إلَى " الْحُمُوضَةِ " وَهُوَ مُنْتَظَرٌ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ بِأَنَّ بَاطِنَ الْبَيْضَةِ الْمَذِرَةِ طَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ الصَّلَاةَ مَعَهَا.
(3/261)
 
 
قُلْنَا: جَوَازُ الصَّلَاةِ لَا يَسْتَلْزِمُ طَهَارَةَ بَوَاطِنِهَا فَإِنَّهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ الْعُصْفُورِ الَّذِي فِي بَاطِنِهِ النَّجَاسَةُ فَتَصِحُّ فِيهَا وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِاسْتِتَارُ الْخِلْقِيُّ.
 
فَرْعٌ
هَلْ يَجُوزُ كِتَابَةُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ " يَمْحُوهُ وَيَشْرَبُهُ " بِالْمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا يَجُوزُ لِمَا يُلَاقِي مِنْ النَّجَاسَةِ الَّتِي فِي بَاطِنِ الْمَعِدَةِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ بِجَوَازِ أَكْلِ الطَّعَامِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ، قَالَ: وَمَا يُكْتَبُ عَلَى الْحَلْوَى وَالْأَطْعِمَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهَيْنِ مِنْهُ.
 
" الْعَاشِرُ ": كُلُّ مَا نَجَّسَ الْمَاءَ الْقَلِيلَ " نَجَّسَ " الْمَائِعَ، أَمَّا مَا لَمْ يُنَجِّسْ الْمَاءَ الْقَلِيلَ " هَلْ " يُنَجِّسُ الْمَائِعَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ " قَدْ " صَرَّحُوا بِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا نَفْسَ لَهَا سَائِلَةٌ، وَذَكَرَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ فِي صُورَةِ الْهِرَّةِ أَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ، وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فَكَلَامُ الْمِنْهَاجِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَسَمِعْت بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَحْكِي التَّصْرِيحَ بِهِ عَنْ الْإِيضَاحِ " لِلْجَاجَرْمِيِّ ". وَالْحَيَوَانُ إذَا كَانَ بِمَنْفَذِهِ نَجَاسَةٌ فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُنَجِّسُهُ فِي الْأَصَحِّ وَلَوْ
(3/262)
 
 
وَقَعَ فِي الْمَائِعِ فَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ.
 
" الْحَادِي عَشَرَ ": النَّجِسُ هَلْ يَتَنَجَّسُ؟ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، لَكِنِّي " اسْتَخْرَجْتهَا " مِنْ الْخِلَافِ فِي فُرُوعٍ: مِنْهَا لَوْ تَنَجَّسَ الْإِنَاءُ بِالْوُلُوغِ ثُمَّ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ أُخْرَى فَهَلْ تَكْفِي السَّبْعُ أَمْ يُغْسَلُ لَهَا ثُمَّ يُغْسَلُ لِلْكَلْبِ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَقِفْ النَّوَوِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى نَقْلِ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ يَكْفِي بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَمِنْهَا: لَوْ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ " نَجِسٍ " فَهَلْ يَتَعَيَّنُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَجَرِ كَمَا قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ لَا يَتَأَثَّرُ بِالنَّجَاسَةِ فَيَبْقَى حُكْمُهُ كَمَا كَانَ كَذَا عَلَّلَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ قَدْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِ وَالْحَجَرُ تَخْفِيفٌ فَمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا يَلْحَقُ بِهِ.
وَمِنْهَا: لَوْ وَقَعَ فِي الْخَمْرِ نَجَاسَةٌ مُجَاوِرَةٌ كَالْعَظْمِ، وَنُزِعَ " مِنْهَا " ثُمَّ انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا لَمْ تَطْهُرْ بِلَا خِلَافٍ قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ وَعَزَاهُ لِصَاحِبِ التَّتِمَّةِ وَفِي هَذَا جَزَمَ بِتَنْجِيسِ النَّجِسِ وَفِي الثَّانِي " بِتَرْجِيحِهِ " وَفِي الْأَوَّلِ بِخِلَافِهِ وَالضَّابِطُ: أَنَّ النَّجَاسَةَ إمَّا أَنْ تُرَدَّ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا وَتَحْتَهُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُرَدَّ الْمُغَلَّظَةُ عَلَى الْمُخَفَّفَةِ فَالْعَمَلُ لَا بِالْمُغَلَّظَةِ " قَطْعًا " كَمَا لَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي إنَاءٍ ثُمَّ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ فَيَكْفِي غَسْلُهُ سَبْعًا " مَعَ " التَّعْفِيرِ وَلَوْ
(3/263)
 
 
اسْتَنْجَى بِجِلْدِ كَلْبٍ لَا يُجْزِيهِ الْحَجَرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَالَ وَالصَّوَابُ غَسْلُهُ سَبْعًا.
الثَّانِي: أَنْ تُرَدَّ الْمُخَفَّفَةُ عَلَى الْمُغَلَّظَةِ فَفِيهَا الْخِلَافُ وَالْأَصَحُّ إلْغَاءُ الْمُخَفَّفَةِ، وَأَمَّا أَنْ تُرَدَّ عَلَى جِنْسِهَا فَإِنْ كَانَتْ مُغَلَّظَةً عَلَى مِثْلِهَا فَخِلَافٌ كَمَا وَلَغَ كَلْبٌ ثُمَّ وَلَغَ آخَرُ فَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَكْفِي لِلْجَمِيعِ سَبْعٌ.
وَلَوْ وَلَغَ كَلْبٌ ثُمَّ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أُخْرَى مِنْ فَضَلَاتِهِ قَبْلَ غَسْلِهِ فَيُحْتَمَلُ جَرَيَانُ الْأَوْجُهِ فِيمَا إذَا تَعَدَّدَ وُلُوغُ كِلَابٍ، " وَنَظِيرُهُ " الْوَجْهُ الثَّالِثُ هُنَا أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الْمُتَكَرِّرُ وُقُوعُهَا مِنْ كَلْبٍ وَاحِدٍ وَيُحْتَمَلُ الِاكْتِفَاءُ بِالسَّبْعِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ غَلَّظَ فِي أَمْرِ الْوُلُوغِ حَتَّى لَا " يُسْتَثْنَى " الْكِلَابُ. وَلِهَذَا اخْتَارَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ يَكْفِي فِي سَائِرُ فَضَلَاتِ الْكَلْبِ مَا عَدَا الْوُلُوغَ مَرَّةً وَاحِدَة قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ النَّجَاسَاتِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُخَفَّفَةً أَوْ مُتَوَسِّطَةً عَلَى مِثْلِهَا فَلَا أَثَرَ لِلتَّعَدُّدِ قَطْعًا إلَّا فِي صُورَةٍ فِيهَا خِلَافٌ وَهِيَ الْبَوْلُ يُصِيبُ الْأَرْضَ يُعْتَبَرُ عَدَدُ الْبَائِلِينَ فَإِذَا بَالَ عَلَيْهِ شَخْصٌ آخَرُ اُعْتُبِرَ ذَنُوبَانِ وَهَكَذَا تَتَعَدَّدُ الذَّنُوبُ " بِتَعَدُّدِ " الْأَشْخَاصِ.
 
" الثَّانِي عَشَرَ " فِي النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا وَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا " مَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَهُوَ دَمُ الْبَرَاغِيثِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَكَذَا دَمُ الْقَمْلِ وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ لَكِنْ " لَهُ شَرْطَانِ ":
(3/264)
 
 
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ بِفِعْلِهِ فَلَوْ كَانَ بِفِعْلِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ فَتَلَوَّثَ بِهِ أَوْ لَمْ يَلْبَسْ الثَّوْبَ بَلْ حَمَلَهُ وَكَانَ كَثِيرًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ وَيَلْتَحِقُ بِالْبَرَاغِيثِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ دَمُ الْبَثَرَاتِ وَقَيْحُهَا وَصَدِيدُهَا حَتَّى لَوْ " عَصَرَهُ " وَكَانَ الْخَارِجُ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ دَمُ الدَّمَامِيلِ وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ مِنْهُ.
" وَثَانِيهِمَا " أَنْ لَا يَتَفَاحَشَ بِالْإِهْمَالِ فَإِنَّ لِلنَّاسِ عَادَةً فِي غَسْلِ الثِّيَابِ كُلَّ حِينٍ فَلَوْ تَرَكَ غَسْلَ الثَّوْبِ سَنَةً مَثَلًا وَهُوَ يَتَرَاكَمُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلِّ الْعَفْوِ قَالَهُ الْإِمَامُ وَمِنْ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ الْبَلْغَمُ إذَا كَثُرَ وَالْمَاءُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ فَمِ النَّائِمِ إذَا اُبْتُلِيَ بِهِ وَنَحْوُهُ، وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ الدَّائِمُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَسَلِسِ الْبَوْلِ، وَكَذَا أَوَانِي الْفَخَّارِ الْمَعْمُولَةِ بِالزِّبْلِ لَا تَطْهُرُ، وَقَدْ سُئِلَ " الْإِمَامُ " الشَّافِعِيُّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " بِمِصْرَ فَقَالَ: إذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ " وَسَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ".
الثَّانِي: مَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ وَهُوَ دَمُ الْأَجْنَبِيِّ إذَا انْفَصَلَ عَنْهُ ثُمَّ أَصَابَهُ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ " يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الْأَصَحِّ دُونَ كَثِيرِهِ قَطْعًا، وَكَذَلِكَ طِينُ الشَّوَارِعِ الْمُتَيَقَّنِ بِنَجَاسَتِهَا " يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ، وَالْقَلِيلُ مَا يَتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُتَغَيِّرُ بِالْمَيْتَةِ الَّتِي لَا نَفْسَ لَهَا سَائِلَةٌ لَا يُعْفَى عَنْ التَّغَيُّرِ الْكَثِيرِ فِي الْأَصَحِّ.
الثَّالِثُ: مَا يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ دُونَ عَيْنِهِ وَهُوَ أَثَرُ الْمَخْرَجَيْنِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ وَكَذَلِكَ بَقَاءُ رِيحِ النَّجَاسَةِ أَوْ لَوْنِهَا إذَا عَسِرَ زَوَالُهُ.
(3/265)
 
 
الرَّابِعُ: مَا لَا يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ وَلَا عَيْنِهِ وَلَا قَلِيلِهِ وَلَا كَثِيرِهِ وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ.
تَقْسِيمٌ آخَرُ: الْمَعْفُوُّ عَنْهُ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَذَلِكَ فِي عِشْرِينَ صُورَةً: مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَالْمَيْتَةُ الَّتِي لَا دَمَ لَهَا كَالدُّودِ وَالْخُنْفُسَاءِ أَصْلًا، أَوْ لَهَا دَمٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَسِيلُ كَالْوَزَغِ، وَغُبَارِ النَّجَاسَةِ الْيَابِسَةِ، وَقَلِيلِ دُخَّانِ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ أُوقِدَ نَجَاسَةٌ تَحْتَ " الْمَاءِ " وَاتَّصَلَ بِهِ قَلِيلُ دُخَّانٍ لَمْ يَنْجُسْ وَقَلِيلُ الشَّعْرِ، وَقَلِيلُ الرِّيشِ النَّجِسِ لَهُ حُكْمُ الشَّعْرِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ إلَّا أَنَّ أَجْزَاءَ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا حُكْمُ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْهِرَّةُ إذَا وَلَغَتْ بَعْدَ أَكْلِهَا فَأْرَةً، وَأَلْحَقَ الْمُتَوَلِّي السَّبُعَ بِالْهِرَّةِ، وَخَالَفَهُ الْغَزَالِيُّ لِانْتِفَاءِ الْمَشَقَّةِ لِعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْوَاهِ الصِّبْيَانِ مَعَ تَحَقُّقِ نَجَاسَتِهَا خَرَّجَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَفْوَاهُ الْمَجَانِينِ كَالصِّبْيَانِ، وَإِذَا " وَقَعَ " فِي الْمَاءِ طَيْرٌ عَلَى مَنْفَذِهِ نَجَاسَةٌ " يَتَعَذَّرُ " صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِانْكِمَاشِهِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي الرَّوْضَةِ بِأَنَّا لَوْ تَحَقَّقْنَا وُصُولَ الْمَاءِ إلَى مَنْفَذِ الطَّيْرِ وَعَلَيْهِ ذَرْقٌ عُفِيَ عَنْهُ.
وَإِذَا نَزَلَ الطَّائِرُ فِي الْمَاءِ وَغَاصَ وَذَرَقَ فِيهِ الْعَفْوُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ طَرَفُ الْمَاءِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَيَدُلُّ لَهُ " مَا " سَنَذْكُرُهُ فِي السَّمَكِ " عَنْ " الْقَاضِي الْحُسَيْنِ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ سَمَكًا فِي جُبٍّ مَا ثُمَّ مَعْلُومٌ أَنَّهُ " يَبُولُ " فِيهِ " أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ. وَفِي تَعْلِيقِ الْبَنْدَنِيجِيِّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ نَجِسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ " عَنْهُ " لَا يُمْكِنُ، وَحَكَى الْعِجْلِيُّ عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ
(3/266)
 
 
أَنَّ وُقُوعَ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ الْمُنْفَذِ فِي الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ عَدَمُ التَّنْجِيسِ مُسْتَدِلًّا " بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِمَقْلِ الذُّبَابِ ". ثُمَّ قَالَ: وَلِلْقَاضِي أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ وَنِيمَ الذُّبَابِ يَسِيرٌ وَلِأَنَّهُ لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَإِذَا شَرِبَ مِنْ الْمَاءِ طَائِرٌ عَلَى فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تَتَخَلَّلْ " عَيْنَيْهِ " فَيَنْبَغِي إلْحَاقُهُ بِالْمُنْفَذِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِهِ عَنْهُ وَوَنِيمُ الذُّبَابِ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ لِعُسْرِ صَوْنِهِ.
وَمِثْلُهُ بَوْلُ الْخُفَّاشِ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَوْ الْمَائِعِ وَغُسَالَةُ النَّجَاسَةِ إذَا انْفَصَلَتْ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ وَلَا زَائِدَةٍ الْوَزْنِ فَإِنَّهَا تَكُونُ طَاهِرَةً مَعَ أَنَّهَا لَاقَتْ نَجِسًا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَاءِ دُونَ الثَّوْبِ كَالْمَيْتَةِ الَّتِي لَا دَمَ لَهَا " سَائِلٌ " وَخُرْءِ السَّمَكِ وَمُنْفَذِ الطَّائِرِ.
الثَّالِثُ: مَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الثَّوْبِ دُونَ الْمَاءِ وَهُوَ الدَّمُ الْيَسِيرُ مِنْ سَائِر الدِّمَاءِ إلَّا دَمُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِهِ طِينُ الشَّارِعِ الْمُتَيَقَّنِ نَجَاسَتُهُ، فَلَوْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ " أَوْ غَمَسَ " يَدَهُ فِي الْمَاءِ وَعَلَيْهَا قَلِيلُ دَمِ بُرْغُوثٍ أَوْ قَمْلٍ، أَوْ غَمَسَ فِيهِ ثَوْبًا فِيهِ دَمُ بُرْغُوثٍ تَنَجَّسَ وَفَرَّقَ " الْعِمْرَانِيُّ " بَيْنَ الثِّيَابِ وَالْمَاءِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثِّيَابَ لَا يُمْكِنُ صَوْنُهَا عَنْ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ الْأَوَانِي فَإِنَّ صَوْنَهَا مُمْكِنٌ بِالتَّغْطِيَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ غَسْلَ الثِّيَابِ كُلَّ وَقْتٍ يَقْطَعُهَا فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يُمْكِنُ
(3/267)
 
 
وُقُوعُهَا فِيهَا بِخِلَافِ الْمَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ الثَّوْبُ الَّذِي فِيهِ دَمُ بُرْغُوثٍ يُصَلَّى فِيهِ وَلَوْ وَضَعَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ " يُنَجِّسُهُ " فَيَحْتَاجُ الَّذِي يَغْسِلُهُ أَنْ يُطَهِّرَهُ " بَعْدَ " الْغَسْلِ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ وَكَذَلِكَ مَا عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ يُعْفَى عَنْهُ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ حَتَّى لَوْ سَالَ بِعَرَقٍ وَنَحْوِهِ وَوَقَعَ فِي الثَّوْبِ " عُفِيَ عَنْهُ فِي الْأَصَحِّ " وَلَوْ اتَّصَلَ بِالْمَاءِ نَجَّسَهُ.
الرَّابِعُ: مَا لَا يُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا أَدْرَكَهُ الطَّرَفُ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ " وَغَيْرِهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ. وَمِنْهُ: الْفَأْرَةُ الْمَيِّتَةُ وَقَلِيلُ دَمِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ " بِخِلَافِ الْيَسِيرِ مِنْ شَعْرِهِمَا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَإِنَّ إطْلَاقَهُمْ يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْعَفْوِ عَنْهُ مُطْلَقًا.
 
" الثَّالِثَ عَشَرَ ".
فِي النَّجَاسَاتِ الْمُسْتَحِيلَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ: فَمِنْهَا: مَا يَسْتَحِيلُ حَيَوَانًا فَيَطْهُرُ وَفِيهِ وَجْهٌ فِي دُودِ الْمَيْتَةِ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَوَلَّدَ حَيَوَانٌ مِنْ نَجَاسَةٍ مُغَلَّظَةٍ كَالْكَلْبِ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ فَدُودُ الْمَيْتَةِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ مُتَنَجِّسُ الظَّاهِرِ.
" وَمِنْهَا ": الْبَيْضَةُ إذَا صَارَتْ دَمًا فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ فِي الْأَصَحِّ وَإِذَا " اسْتَحَالَتْ " فَرْخًا طَهُرَتْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْرَى فِيهَا الْوَجْهُ السَّابِقُ وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ. وَمِنْهَا: الْعَذِرَةُ إذَا أَكَلَهَا التُّرَابُ وَصَارَتْ تُرَابًا أَوْ أُلْقِيَ كَلْبٌ فِي مَلَّاحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا لَمْ يَطْهُرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ فِي الْبَيَانِ وَجْهًا.
(3/268)
 
 
وَقَدْ يَسْتَحِيلُ الطَّاهِرُ نَجِسًا كَالْبَيْضَةِ تَصِيرُ دَمًا، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ طَاهِرًا مَأْكُولًا " يَسْتَحِيلُ " " إلَى " الْحَيَاةِ فَلَا يُؤْكَلُ كَبَيْضِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَإِنَّ الْأَصَحَّ جَوَازًا أَكْلُهُ مَا دَامَ بَيْضًا، وَإِذَا اسْتَحَالَ حَيَوَانٌ حَرُمَ أَكْلُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاةَ قِسْمَانِ: رُوحَانِيَّةٌ وَنَبَاتِيَّةٌ، وَاسْتِحَالَةُ الْحَيَاةِ " إلَى " الْأُولَى مُقْتَضِيَةٌ لِلطَّهَارَةِ وَاسْتِحَالَتُهَا إلَى الثَّانِيَةِ كَالزَّرْعِ النَّابِتِ بِالنَّجَاسَةِ " قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ " الْمُجَاوِرَةِ، فَإِذَا غُسِلَ طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ قَطْعًا وَلَا حَاجَةَ إلَى غَسْلِهَا وَهَكَذَا الْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَنَحْوُهُمَا يَكُونُ طَاهِرًا وَلَا حَاجَةَ لِغَسْلِهِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَهَكَذَا الشَّجَرَةُ إذَا سُقِيَتْ مَاءً نَجِسًا فَأَغْصَانُهَا وَأَوْرَاقُهَا وَثِمَارُهَا طَاهِرَةٌ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ فَرْعُ الشَّجَرَةِ.
وَنَمَاؤُهَا.
انْتَهَى، " وَحَكَى الْعِمْرَانِيُّ " عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّ الْبَقْلَ النَّابِتَ فِي النَّجَاسَةِ نَجِسُ الْعَيْنِ كَقَوْلِهِ فِي دُودِ الْمَيْتَةِ: إنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ.
ثُمَّ عَلَى الْمَذْهَبِ " ظَاهِرُ " مَا أَطْلَقُوهُ الطَّهَارَةُ مُطْلَقًا وَيَظْهَرُ تَقْيِيدُهَا وَتَقْيِيدُ حِلِّ الْأَكْلِ بِمَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْحَبِّ أَوْ الْبَقْلِ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ، وَكَذَا فِي الثِّمَارِ الْمَسْقِيَّةِ بِالنَّجِسِ لَا سِيَّمَا شَجَرَ الْعِنَبِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنْ تَغَيَّرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ خِلَافُ الْجَلَّالَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ إذَا بَلَّ الْفُولَ بِمَاءٍ نَجِسٍ لَمْ يَطْهُرْ حَتَّى يُجَفَّفَ وَيُنْقَعَ ثَانِيًا " فِي مَاءٍ " طَهُورٍ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ تَشَرُّبِ الْحَبِّ النَّجَاسَةَ مِنْ الْأَرْضِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَزْرُوعًا وَبَيْنَ مَا يَشْرَبُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ فَرَّقَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا لِتَرْبِيَةِ الزَّرْعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّنْجِيسَ كَمَا لَوْ احْتَاجَ إلَى عَلَفِ الْجَلَّالَةِ يَنْجُسُ فَإِنَّ فِيهَا الْخِلَافَ وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ " يُنْقَعَ " الْحَبُّ إذَا تَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ بِسَبَبِ النَّجَاسَةِ.
(3/269)
 
 
الرَّابِعَ عَشَرَ " يُصَلِّي مَعَ النَّجَاسَةِ فِي صُوَرٍ مِنْهَا: مَا لَا تَجِبُ مَعَهُ الْإِعَادَةُ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى ثِيَابٍ دَمُ الْبَرَاغِيثِ، أَوْ بَقِيَ أَثَرُ مَوْضِعِ الِاسْتِجْمَارِ.
وَمِنْهَا: مَا تَجِبُ مَعَهُ الْإِعَادَةُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَغْسِلُهَا بِهِ أَوْ " وَجَدَ " - وَخَافَ التَّلَفَ أَوْ عَلِمَ بِهَا ثُمَّ " نَسِيَهَا " أَوْ جَهِلَ مُلَابَسَتَهُ إيَّاهَا ثُمَّ عَلِمَ.
 
[النَّذْرُ الْمُطْلَقُ]
ُ هَلْ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ أَوْ جَائِزِهِ؟ قَوْلَانِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ: وَقَوْلُهُمْ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ جَائِزِ الشَّرْعِ أَيْ فِي الْأَحْكَامِ مَعَ وُجُوبِ الْأَصْلِ، وَعَنَوْا بِجَائِزِ الشَّرْعِ هَا هُنَا الْقُرُبَاتِ الَّتِي " جُوِّزَ " تَرْكُهَا انْتَهَى.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ النَّذْرِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ حُكْمَهُ كَالْجَائِزِ فِي الْقُرُبَاتِ أَوْ كَالْوَاجِبِ فِي أَصْلِهِ. قُلْت: " وَالْأَرْجَحُ غَالِبًا " حَمْلُهُ " عَلَى الْوَاجِبِ، وَلِهَذَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ فَرْضٍ وَمَنْذُورَةٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وَلَا يُصَلِّي الْمَنْذُورَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَلَا قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ عَلَى الْأَصَحِّ " فِيهَا ".
(3/270)
 
 
وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً مُطْلَقَةً " لَزِمَهُ " رَكْعَتَانِ وَجَبَ عَلَى مَنْ نَذَرَ الصَّوْمَ التَّبْيِيتُ مِنْ اللَّيْلِ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ: إذَا قُلْنَا: يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ جَائِزِ الشَّرْعِ صَحَّ مِنْ النَّهَارِ كَالتَّطَوُّعِ، حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ وَإِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ يَجِبُ كَمَا فِي رَمَضَانَ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ خِلَافًا لِمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالْمِنْهَاجِ.
وَلَوْ نَذَرَ هَدْيَ شَيْءٍ مِنْ النَّعَمِ اُشْتُرِطَ فِيهِ شُرُوطُ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ الْمَنْذُورَةِ كَمَا لَا يَأْكُلُ مِنْ الْوَاجِبَةِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ كَدَمِ التَّمَتُّعِ وَنَحْوِهِ.
وَلَوْ نَذَرَ بَدَنَةً فَفِي قِيَامِ بَقَرَةٍ أَوْ سَبْعِ شِيَاهٍ مَقَامَهَا أَوْجُهٌ.
أَحَدُهَا: لَا " وَالثَّانِي: نَعَمْ وَالْأَصَحُّ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَجِدَ الْإِبِلَ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا أَوْ لَا يَجِدُ فَيَجُوزُ.
وَيُسْتَثْنَى صُوَرٌ: إحْدَاهَا: لَوْ نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ لَمْ تُشْتَرَطْ فِيهَا السَّلَامَةُ مِنْ " عُيُوبِ الْكَفَّارَةِ " فِي الْأَصَحِّ.
الثَّانِيَةُ: لَوْ نَذَرَ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِتَشَهُّدٍ أَوْ تَشَهُّدَيْنِ " جَازَ " فِي الْأَصَحِّ.
الثَّالِثَةُ: لَوْ نَذَرَ صَوْمًا كَفَاهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ حَمْلًا عَلَى الْجَائِزِ، وَقِيلَ: يَكْفِيهِ بَعْضُ يَوْمٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ " صَوْمِ " ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَمْلًا عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ.
الرَّابِعَةُ: لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ كَفَاهُ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ.
الْخَامِسَةُ: لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ لَمْ يُشْرَعْ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَغَلِطَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ فِي تَخْرِيجِهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَزَادَ وَلَا يُقَالُ: " الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ " لَكِنْ فِي التَّتِمَّةِ أَنَّهُ يُقَالُ.
(3/271)
 
 
السَّادِسَةُ: لَوْ أَصْبَحَ مُمْسِكًا غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ نَذَرَ أَنْ يَنْوِيَ وَيَصُومَ لَزِمَهُ فِي الْأَصَحِّ وَلَيْسَ لَنَا صَوْمٌ وَاجِبٌ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ إلَّا هَذَا وَيُنَزَّلُ ذَلِكَ عَلَى جَائِزِ الشَّرْعِ وَهُوَ صِحَّةُ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً " فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا رَكْعَةٌ تَنْزِيلًا عَلَى الْجَائِزِ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا " فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ " الْقِيَامُ " وَلَا يَنْبَغِي تَخْرِيجُ ذَلِكَ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْجَائِزِ فَإِنَّ الْخِلَافَ هُنَاكَ " مِنْ " النَّذْرِ الْمُطْلَقِ.
السَّابِعَةُ: لَوْ أَفْطَرَ فِي صَوْمِ النَّذْرِ عَامِدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ " الْيَوْمِ " عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَالْمِنْهَاجِ وَجَعَلَا الْإِمْسَاكَ مِنْ خَصَائِصِ رَمَضَانَ وَكَانَ يَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، حَتَّى إنَّهُ يَجِبُ إذَا " سَلَكْنَا " بِهِ مَسْلَكَ الْوَاجِبِ وَقَدْ سَبَقَ عَنْ نَصِّ الْبُوَيْطِيِّ.
 
[النِّسْيَانُ عُذْرٌ فِي الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ]
ِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إيجَادَ الْفِعْلِ فَمَا (لَمْ) يُفْعَلْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْكَفَّ. فَالْمَفْعُولُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَلَا قَصْدٍ.
قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَلِأَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ (يُمْكِنُهُ) تَلَافِيهِ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ (فَلَزِمَهُ) وَلَمْ يُعْذَرْ فِيهِ بِخِلَافِ (الْمَنْهِيِّ) إذَا ارْتَكَبَهُ (فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ) تَلَافِيهِ إذْ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ نَفْيُ فِعْلٍ حَصَلَ فِي الْوُجُودِ فَعُذِرَ فِيهِ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْأَمْرِ رَجَاءُ الثَّوَابِ فَإِذَا لَمْ (يَأْتَمِرْ) لَمْ يُرْجَ لَهُ ثَوَابُهُ
(3/272)
 
 
بِخِلَافِ النَّهْيِ فَإِنَّ سَبَبَهُ خَوْفُ الْعِقَابِ؛ لِأَنَّهُ لِهَتْكِ الْحُرْمَةِ، وَالنَّاسِي لَا يَقْتَضِي فِعْلُهُ هَتْكَ حُرْمَةٍ فَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الْعِقَابُ.
فَمِنْ الْأَوَّلِ عَدَمُ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْكَلَامِ نَاسِيًا (وَالصَّوْمُ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا) وَكَمَا فِي الْمُحْرِمِ إذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا (وَكَأَنْ يُعْذَرَ) فِي الْيَمِينِ لِلَّهِ (تَعَالَى) أَوْ بِالطَّلَاقِ بِالنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَمِنْ الثَّانِي: النِّيَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَلَوْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ نَاسِيًا لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ، وَلَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ، وَلَوْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ أَوَّلً الْوُضُوءِ تَدَارَكَهَا فِي أَثْنَائِهِ وَلَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ تَذَكَّرَ أَعَادَ، أَوْ نَسِيَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَصَلَّى ثُمَّ ذَكَرَ أَعَادَ، أَوْ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ وَهُوَ نَاسٍ لَهُ وَصَلَّى عُرْيَانًا ثُمَّ ذَكَرَ أَوْ كَانَ عِنْدَهُ رَقَبَةٌ وَهُوَ نَاسٍ فَصَامَ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّقَبَةَ، وَلَوْ مَرَّ مِنْ الْمِيقَاتِ وَلَمْ يُحْرِمْ مِنْهُ نَاسِيًا لَزِمَهُ دَمٌ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ، نَعَمْ إذَا قُلْنَا: يَجِبُ الْإِحْرَامُ عَلَى الدَّاخِلِ مَكَّةَ فَتَرَكَهُ نَاسِيًا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ نَاسِيًا مَعَ أَنَّهَا مِنْ الْمَأْمُورَاتِ.
وَلَوْ تَعَاطَى سَبَبَ الْحَدَثِ نَاسِيًا كَاللَّمْسِ وَنَحْوِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الصَّوْمِ فَإِنَّهُ عِنْدَنَا مِنْ قَبِيلِ الْمَأْمُورِ.
وَلِهَذَا تَجِبُ النِّيَّةُ فِيهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ
(3/273)
 
 
قِيَاسِ الْمَأْمُورَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ مَأْمُورًا بَلْ هُوَ مِنْ الْمَنْهِيِّ إذْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَرْكٌ وَيُتَصَوَّرُ مِنْ النَّائِمِ جَمِيعُ النَّهَارِ فَأَسْقَطَ الشَّرْعُ غَفْلَةَ النَّاسِي.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إنَّمَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا " أَنْ لَا يَكْثُرَ فَإِنْ كَثُرَ ضَرَّ كَمَا فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَا الْأَكْلُ فِي الصَّوْمِ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ، وَخَالَفَهُ النَّوَوِيُّ وَهَلْ يَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا عُذِرَ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ فِيهِ نَظَرٌ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَسْبِقَهُ تَصْرِيحٌ بِالْتِزَامِ حُكْمِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ الدَّارَ عَامِدًا وَلَا نَاسِيًا فَدَخَلَهَا نَاسِيًا حَنِثَ قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ يُسْتَشْكَلُ بِالْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ مَا وَسَّعَهُ الشَّرْعُ فَضَيَّقَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ فَهَلْ يَتَضَيَّقُ كَمَا لَوْ نَذَرَ النَّفَلَ قَائِمًا أَوْ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ وَالْأَصَحُّ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَيَّقُ.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ حَالَةٌ مُذَكِّرَةٌ يُنْسَبُ مَعَهَا لِتَقْصِيرٍ وَإِلَّا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَلِهَذَا لَوْ أَكَلَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا لَا تَبْطُلُ مَا لَوْ عَلَّقَ الظِّهَارَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَفَعَلَ نَاسِيًا لِلظِّهَارِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَكُونُ عَائِدًا؛ لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَتَذَكَّرَ تَصَرُّفَهُ فَلَا يُعْذَرُ فِي نِسْيَانِ الظِّهَارِ، وَرَأَى الْبَغَوِيّ تَخْرِيجَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي حِنْثِ النَّاسِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ.
(3/274)
 
 
الثَّانِي: النِّسْيَانُ يَرْفَعُ الْإِثْمَ فِي الْإِتْلَافَاتِ لَا الضَّمَانُ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَيَجِبُ الْجَزَاءُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ نَاسِيًا.
الثَّالِثُ: يَلْحَقُ بِالنَّاسِي الْغَالِطُ إذَا أَتَى بِالْمُبْطِلِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ عَامِدًا وَعِنْدَهُ قَدْ تَحَلَّلَ مِنْ الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ (فِيهَا) نَاسِيًا، وَلَوْ جَامَعَ الصَّائِمُ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَبَانَ خِلَافُهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَالنَّاسِي.
 
[النَّظَرُ إلَى الظَّاهِرِ أَوْ إلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ]
ِ عَلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: إلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَطْعًا كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي مَرَضٍ مَخُوفٍ فَبَرِئَ نَفَذَ قَطْعًا.
الثَّانِي: إلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ.
كَالْمَعْضُوبِ إذَا اسْتَنَابَ وَهُوَ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ ثُمَّ بَرِئَ فَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ اعْتِبَارًا بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَعَكْسُهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِزِيَادَةِ مَرَضٍ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
(3/275)
 
 
أَعْتَقَ مَنْ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ صَارَ بِصِفَةِ الْإِجْزَاءِ صَحَّ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الْإِمَامِ.
إذَا رَأَوْا سَوَادًا فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ قَضَوْا فِي الْأَصَحِّ.
الثَّالِثُ: النَّظَرُ لِلظَّاهِرِ فِي الْأَصَحِّ. كَالْهَرَمِ إذَا أَطْعَمَ عَنْ الصَّوْمِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْهَرَمَ عَارِضٌ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَكَذَلِكَ إذَا زَنَى الْمَرِيضُ مَرَضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ فَحَدُّهُ بِعِثْكَالٍ عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ ثُمَّ بَرِئَ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
 
[النَّفَلُ فِيهِ مَبَاحِثُ]
ُ الْأَوَّلُ: هُوَ قِسْمَانِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ أَوْ سَبَبٍ.
وَيَتَخَالَفَانِ فِي أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا حَصْرَ لِلنَّفْلِ وَذَلِكَ مَحْصُورُ الْعَدَدِ.
ثَانِيهَا: يَكْفِي فِيهِ نِيَّةُ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمُقَيَّدِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّعْيِينِ.
ثَالِثُهَا: لَا يَجُوزُ فِعْلُ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ وَلَا يَنْعَقِدُ فِي الْأَصَحِّ بِخِلَافِ الْمُؤَقَّتِ.
(3/276)
 
 
الثَّانِي: النَّفَلُ أَوْسَعُ بَابًا مِنْ الْفَرْضِ.
وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِيَامُ وَلَا الِاسْتِقْبَالُ فِي السَّفَرِ وَلَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ.
وَكَذَا لَوْ صَلَّى إلَى جِهَةٍ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ دَخَلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى، أَوْ أَرَادَ قَضَاءَ فَائِتَةٍ أُخْرَى لَزِمَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ ثَانِيًا وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِلنَّافِلَةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ (التَّهْذِيبِ) ، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَوْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ (الْفَرِيضَةِ) لَا يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ وَلَوْ كَانَ فِي نَافِلَةٍ فَوَجْهَانِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حُرْمَةِ (الْفَرِيضَةِ) وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ.
وَقَدْ (يُضَيَّقُ النَّفَلُ فِي صُوَرٍ) (تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ) وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا جَازَ فِي (الْفَرْضِ لِلضَّرُورَةِ) .
مِنْهَا: يَمْتَنِعُ النَّفَلُ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يُصَلِّي الْفَرْضَ (لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) .
وَمِنْهَا: تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْ الْمَعْضُوبِ فِي حَجِّ الْفَرْضِ وَيَمْتَنِعُ فِي النَّفْلِ.
وَمِنْهَا: تُصَلِّي الْمُتَحَيِّرَةُ الْفَرْضَ وَتُمْنَعُ مِنْ النَّفْلِ عَلَى وَجْهٍ قَوِيٍّ (وَيَجُوزُ) التَّيَمُّمُ فِي الْفَرْضِ وَفِي النَّفْلِ خِلَافٌ وَسُجُودُ السَّهْوِ يُجْزِئُ فِي الْفَرْضِ
(3/277)
 
 
وَلِلشَّافِعِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) قَوْلٌ غَرِيبٌ: إنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِلنَّفْلِ.
الثَّالِثُ: مَنْ عَلَيْهِ فَرْضٌ هَلْ لَهُ (التَّنَفُّلُ) قَبْلَ أَدَائِهِ بِجِنْسِهِ أَمْ لَا؟ هُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا " الْعِبَادَاتُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنْ كَانَتْ مُوَسَّعَةً جَازَ قَطْعًا وَإِنْ كَانَتْ مُضَيَّقَةً امْتَنَعَ إذَا ضَاقَ وَقْتُ الْفَرْضِ فَلَوْ خَالَفَ وَفَعَلَ فَالْقِيَاسُ بُطْلَانُهُ كَالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ.
وَمِنْهَا: لَوْ شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ لَا يَبْتَدِئُ النَّافِلَةَ، وَفِي مَعْنَى الشُّرُوعِ قُرْبُ إقَامَتِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ وَالْخَطِيبُ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ لَمْ يُصَلِّ التَّحِيَّةَ؛ لِئَلَّا يَفُوتَهُ أَوَّلُ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ.
وَمِنْهَا رَمَضَانُ لَا يُقْبَلُ غَيْرُهُ فَلَوْ نَوَاهُ لَمْ يَصِحَّ.
وَمِنْهَا لَيْسَ لَهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَدَاءِ الْفَرْضِ فَلَوْ فَعَلَ انْصَرَفَ إلَى الْفَرْضِ.
الثَّانِي: الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ إذَا فَعَلَهَا مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِمَّا لَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ فَلَا يَحِلُّ تَرْكُهُ لِسُنَّةٍ وَعَلَى هَذَا فَهَلْ يَمْلِكُهُ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ؟ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَهِبَةِ الْمَاءِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْمُرَجَّحِ.
وَمِنْهَا: لَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ.
(3/278)
 
 
[النَّقْدُ]
ُ وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ قِيَمُ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي بَابِ السَّرِقَةِ فَإِنَّ الذَّهَبَ أَصْلٌ وَالْفِضَّةَ عُرُوضٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي الْأُمِّ وَقَالَ: لَا أَعْرِفُ مَوْضِعًا نَزَلَ الدِّرْهَمُ فِيهِ مَنْزِلَةَ الْعُرُوضِ إلَّا فِي السَّرِقَةِ، وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ يُضْمَنُ بِغَيْرِ النَّقْدِ إلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: الْمُصَرَّاةُ.
وَالثَّانِيَةُ: إذَا جَنَى عَلَى عَبْدٍ فَعَتَقَ وَمَاتَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِلسَّيِّدِ الْأَقَلَّ مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ وَنِصْفَ الْقِيمَةِ مِنْ إبِلِ الدِّيَةِ.
ثُمَّ فِي جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ إذَا رَاجَتْ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ يَجُوزُ عَلَى عَيْنِهَا وَيَمْتَنِعُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ قَطْعًا، وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِيهَا عَلَى الْأَقْوَى عِنْدَ النَّوَوِيِّ وَيَمْتَنِعُ الْقِرَاضُ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَيَلْزَمُ النَّوَوِيَّ طَرْدُ اخْتِيَارِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ، وَأَمَّا قَرْضُهَا فَقَالَ فِي الْبَحْرِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَحَكَاهُ فِي الْبَيَانِ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ وَهُوَ قَضِيَّةُ مَا فِي التَّبْصِرَةِ لِلْجُوَيْنِيِّ وَكَأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الْقِرَاضِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَنْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ التَّعَامُلِ بِهَا فِي الذِّمَّةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُ التَّبْصِرَةِ وَالْمُخْتَارُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ فِي الْإِقْرَاضِ إرْفَاقًا.
(وَلِهَذَا يَجُوزُ فِيهِ أَخْذُ الزَّائِدِ) وَالنَّاقِصِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَا يُلْحَقُ بِالْمُعَاوَضَاتِ، وَأَمَّا ضَمَانُهَا إذَا تَلِفَتْ فَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: إذَا أُتْلِفَتْ الْمَغْشُوشَةُ لَا
(3/279)
 
 
تُضْمَنُ بِمِثْلِهَا بَلْ قِيمَةُ الدَّرَاهِمِ ذَهَبًا وَقِيمَةُ الذَّهَبِ دَرَاهِمُ وَادَّعَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرَهُ فِي الدَّعْوَى بِهَا أَنَّهُ يَذْكُرُ قِيمَتَهَا مِنْ النَّقْدِ الْآخَرِ وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا جَعَلْنَاهَا مُتَقَوِّمَةً، وَقَدْ حَمَلَ الرَّافِعِيُّ فِي الدَّعَاوَى كَلَامَ أَبِي حَامِدٍ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَعَلَّهُ جَوَابٌ عَلَى أَنَّ الْمَغْشُوشَ مُتَقَوِّمٌ إنْ جَعَلْنَاهُ مِثْلِيًّا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا نَشْتَرِطَ التَّعَرُّضَ لِلْقِيمَةِ، وَقَدْ قَالَ الْمُتَوَلِّي إنْ جَوَّزْنَا الْمُعَامَلَةَ بِالْمَغْشُوشَةِ فَهِيَ مِثْلِيَّةٌ وَإِلَّا فَمُتَقَوِّمَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا قَالَهُ فَالْأَصَحُّ جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِهَا وَبِهِ يَتَرَجَّحُ كَوْنُهَا مِثْلِيَّةً، فَقَوْلُ ابْنِ الرِّفْعَةِ - لَا خِلَافَ فِيهِ - مَرْدُودٌ. ضَابِطٌ فِي التَّعَامُلِ بِالْمَغْشُوشِ. هُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْلَمُ الْخَالِصُ مِنْهُ لِلْمُتَعَامِلِينَ وَغَيْرِهِمْ فَيَجُوزُ عَيْنًا وَذِمَّةً. وَالثَّانِي:
يُجْهَلُ وَيَنْقَسِمُ إلَى مَا غِشُّهُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي قِيمَتِهِ كَالنُّحَاسِ وَإِلَى مَا يَكُونُ مُسْتَهْلَكًا غَيْرَ مَقْصُودٍ كَالزِّئْبَقِ وَالزِّرْنِيخِ، وَالْأَوَّلُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَمْتَزِجُ بِالْآخَرِ وَإِلَى مَا لَا يَمْتَزِجُ فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ غَيْرَ مُمَازِجَةٍ لِلْغِشِّ مِنْ النُّحَاسِ وَإِنَّمَا الْفِضَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فَالْمُعَامَلَةُ بِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لَا عَيْنًا وَلَا فِي الذِّمَّةِ لِاسْتِتَارِ بَعْضِ الْمَقْصُودِ وَالْجَهَالَةِ بِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُمَازِجَةً لَمْ تَجُزْ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهَا فِي الذِّمَّةِ كَمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَعْجُونَاتِ الْمَقْصُودَةِ أَجْزَاؤُهَا وَفِي جَوَازِهِ عَلَى
(3/280)
 
 
الْأَعْيَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ لِلْجَهَالَةِ بِأَجْزَائِهَا كَتُرَابِ الصَّاغَةِ (وَأَصَحُّهُمَا) يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَعْجُونَاتِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ إذَا شُوهِدَتْ وَخَالَفَ تُرَابَ الصَّاغَةِ فَإِنَّهُ اخْتَلَطَ الْمَقْصُودُ بِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ بِغَيْرِ (مَقْصُودٍ فَإِنْ امْتَزَجَا لَمْ يَجُزْ فِي الذِّمَّةِ وَالْعَيْنِ كَتُرَابِ الصَّاغَةِ وَإِنْ لَمْ يَمْتَزِجَا بَلْ كَانَ الْغِشُّ) فِي بَاطِنِهَا وَالْفِضَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا جَازَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى عَيْنِهَا دُونَ الذِّمَّةِ، وَلَا يَجُوزُ (بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَلَا بَيْعُهَا بِالْخَالِصَةِ) لِلرِّبَا، وَلَوْ أَتْلَفَهَا رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهَا وَلَزِمَهُ قِيمَتُهَا.
وَهَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ زَكَاةِ النَّقْدِ.
 
[النَّكِرَةُ إذَا أُعِيدَتْ كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى]
كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] . وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) : (لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ) . وَمِنْ فُرُوعِهِ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَتَانِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الطَّلْقَةَ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ أَضَافَهُ لِطَلْقَةٍ وَعَطَفَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ وَالْعَطْفُ
(3/281)
 
 
يَقْتَضِي التَّغَايُرَ وَيَمْنَعُ مِنْ التَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: لَا يَقَعُ إلَّا طَلْقَةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلْقَةِ وَإِنْ كُرِّرَ فَيَحْتَمِلُ التَّأْكِيدَ، وَالْقَاعِدَةُ الْبَيَانِيَّةُ تَشْهَدُ لِلْمُرَجِّحِ إلَّا أَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ قَالَ: إنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ إنَّمَا دَخَلَ فِي الْأَبْعَاضِ لَا فِي الطَّلْقَاتِ وَالْأَبْعَاضُ مُتَغَايِرَةٌ وَإِنَّمَا تَغَايَرَتْ الطَّلْقَاتُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الطَّلْقَاتُ غَيْرَ مُتَغَايِرَةٍ لَأَتَى فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ قَالَ: وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ إذَا لَمْ يُعْطَفْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ أَنَّ الثُّلُثَ الَّذِي لَمْ نَعْطِفْهُ عَلَى النِّصْفِ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ لَفْظُ الْإِيقَاعِ وَلَا عُطِفَ عَلَى مَا لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ الْإِيقَاعِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ؛ لَمْ تَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ.
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْت رَجُلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ كَلَّمْت فَقِيهًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ كَلَّمْت شَيْخًا فَأَنْتِ طَالِقٌ - فَكَلَّمَتْ (مَنْ اجْتَمَعَ فِيهِ الْكُلُّ وَقَعَ ثَلَاثٌ لِاجْتِمَاعِ الصِّفَاتِ فِيهِ) وَقِيَاسُ الْقَاعِدَةِ اعْتِبَارُ التَّعَدُّدِ. وَلِهَذَا لَوْ عَلَّقَ بِأَكْلِ رَغِيفٍ أَوْ رُمَّانَةٍ فَأَكَلَتْ نِصْفَيْ رُمَّانَتَيْنِ أَوْ نِصْفَيْ رَغِيفَيْنِ لَمْ يَقَعْ وَمِنْ مُشْكِلِهِ أَيْضًا مَا لَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفٍ فِي يَوْمٍ آخَرَ لَزِمَهُ أَلْفٌ فَقَطْ، وَلَوْ عَلَّقَ بِأَكْلِ رُمَّانَةٍ وَعَلَّقَ بِنِصْفٍ بِأَنْ قَالَ: إنْ أَكَلْت (رُمَّانَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ أَكَلْت نِصْفَ رُمَّانَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ - فَأَكَلَتْ رُمَّانَةً) فَطَلْقَتَانِ لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ.
(3/282)
 
 
وَلَوْ بَاعَ بِنِصْفٍ وَثُلُثٍ وَسُدُسٍ لَا يَلْزَمُهُ دِينَارٌ صَحِيحٌ بَلْ لَهُ دَفْعُ شَيْءٍ مِنْ كُلٍّ، كَذَا أَطْلَقُوهُ وَهُوَ كَذَلِكَ إذَا صَرَّحَ بِالدِّرْهَمِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، أَمَّا لَوْ صَرَفَهُ كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ دِينَارٌ صَحِيحٌ.
 
[النُّكُولُ مَعَ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ]
ِ كَالْإِقْرَارِ أَوْ كَالْبَيِّنَةِ؟ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا الْأَوَّلُ وَقَدْ أَطْلَقُوهُ وَلَهُ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِآدَمِيٍّ فَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا كَمَنْ نَكَلَ عَنْ (الْحَلِفِ) عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزْنِ لَا يُحَدُّ وَلَوْ اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ كَالسَّرِقَةِ فَوَجْهَانِ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَالِفِ وَالنَّاكِلِ وَأَمَّا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ فَلَا يَتَعَدَّى لِيَخْرُجَ مَنْ نَكَلَ عَنْ يَمِينِ نَفْيِ الْقَتْلِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ إذَا حَلَفَ الْمُسْتَحِقُّ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمُورِ التَّقْدِيرِيَّةِ لَا التَّحْقِيقِيَّةِ. ثُمَّ إذَا جَعَلْنَاهَا كَالْبَيِّنَةِ فَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَمُنَزَّلَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ إقْرَارُهُ مَقْبُولًا فِي حَقِّهِ قُبِلَتْ قَطْعًا كَمَا إذَا ادَّعَى عَلَى الْمُفْلِسِ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا فَأَنْكَرَ فَرُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ، سُمِعَتْ وَكَذَلِكَ كَالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِتْلَافِ أَوْ الدَّيْنِ قَبْلَ الْحَجْرِ لَقُبِلَتْ فَلْتُقْبَلْ (الْبَيِّنَةُ) أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا كَالْإِقْرَارِ وَأَوْلَى وَإِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ الْإِقْرَارُ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لَمْ تُسْمَعْ فِي الْأَصَحِّ.
(3/283)
 
 
مِثَالُهُ ادَّعَى عَلَى الرَّاهِنِ أَنَّ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ جَنَى فَأَنْكَرَ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ فَإِنْ قُلْنَا: كَالْإِقْرَارِ لَمْ يُسْمَعْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يُسْمَعُ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ فَوَجْهَانِ الْأَصَحُّ لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَدَّى إلَى ثَالِثٍ وَإِقْرَارُ الْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُنَفَّذُ.
 
[النِّيَّةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا مَبَاحِثُ]
ُ الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَتِهَا، وَهُوَ رَبْطُ الْقَصْدِ بِمَقْصُودٍ مُعَيَّنٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مُطْلَقُ الْقَصْدِ إلَى الْفِعْلِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هِيَ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ فَإِنْ قَصَدَهُ وَتَرَاخَى عَنْهُ فَهُوَ عَزْمٌ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: أَمْرُ النِّيَّةِ سَهْلٌ فِي الْعِبَادَاتِ (وَإِنَّمَا يَتَعَسَّرُ بِسَبَبِ الْجَهْلِ) ؟ بِحَقِيقَةِ النِّيَّةِ أَوْ الْوَسْوَسَةِ فَحَقِيقَةُ النِّيَّةِ الْقَصْدُ إلَى الْفِعْلِ وَذَلِكَ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ الْفِعْلُ اخْتِيَارِيًّا كَالْهُوِيِّ إلَى السُّجُودِ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَارَةً بِقَصْدِهِ وَتَارَةً يَكُونُ بِسُقُوطِ الْإِنْسَانِ عَلَى وَجْهِهِ بِصَدْمَةٍ فَهَذَا الْقَصْدُ يُضَادُّهُ الِاضْطِرَارُ وَالْقَصْدُ الثَّانِي كَالْعِلَّةِ لِهَذَا الْقَصْدِ وَهُوَ الِانْبِعَاثُ لِإِجَابَةِ الدَّاعِي كَالْقِيَامِ عِنْدَ رُؤْيَةِ إنْسَانٍ فَإِنْ قَصَدْت احْتِرَامَهُ فَقَدْ نَوَيْت تَعْظِيمَهُ وَإِنْ نَوَيْت الْخُرُوجَ (إلَى الطَّرِيقِ فَقَدْ نَوَيْت الْخُرُوجَ) فَالْقَصْدُ إلَى الْقِيَامِ لَا يَنْبَعِثُ مِنْ النَّفْسِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْقِيَامِ غَرَضٌ، فَذَلِكَ الْغَرَضُ هُوَ الْمَنْوِيُّ، وَالنِّيَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ فِي الْغَالِبِ
(3/284)
 
 
أُرِيدَ بِهَا انْبِعَاثٌ لِلْقَصْدِ مُوَجَّهًا إلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ، فَالْغَرَضُ عِلَّةٌ وَقَصْدُ الْفِعْلِ لَا يَنْفَكُّ عِنْدَ الْخَطَرِ إذْ اللِّسَانُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ كَلَامٌ مَنْظُومٌ اضْطِرَارًا، وَالْفِكْرُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْ النِّيَّةِ فَهَذَا يُفِيدُك أَنَّ النِّيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ إجَابَةِ الْبَاعِثِ الْمُتَحَرِّكِ فَهَذَا تَحْقِيقُ نَوْعَيْ الْقَصْدِ، فَالْقَصْدُ الْأَوَّلُ يَسْتَدْعِي عِلْمًا فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْقِيَامَ وَلَا التَّكْبِيرَ لَا يَقْصِدُ، وَالْقَصْدُ الثَّانِي أَيْضًا يَسْتَدْعِي الْعِلْمَ بِأَنَّ الْغَرَضَ إنَّمَا يَكُونُ بَاعِثًا فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ الْغَرَضَ فَيُرْجَعُ إلَى الثَّانِي وَهُوَ النِّيَّةُ وَهِيَ خَطِرَةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَعَدُّدٌ حَتَّى يَعْسُرَ جَمْعُهَا وَيُمْكِنُ اسْتِدَامَتُهَا بَلْ يَجِبُ مِنْ أَوَّلِ التَّكْبِيرِ إلَى آخِرِهِ وَتَنْقَطِعُ اسْتِدَامَتُهَا بِضِدِّهَا وَهُوَ قَصْدٌ لِشَيْءٍ آخَرَ.
الثَّانِي: النِّيَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى نِيَّةِ (التَّقَرُّبِ) وَنِيَّةِ التَّمْيِيزِ.
فَالْأُولَى: تَكُونُ فِي الْعِبَادَاتِ وَهُوَ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ (تَعَالَى) .
وَالثَّانِيَةُ: تَكُونُ فِي الْمُحْتَمَلِ لِلشَّيْءِ وَغَيْرِهِ وَذَلِكَ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ إذَا أَقْبَضَهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ هِبَةً وَقَرْضًا وَدِيعَةً وَإِبَاحَةً فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ تَمَيُّزِ إقْبَاضِهِ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِقْبَاضِ، وَلَا يُشْتَرَطُ (نِيَّةُ التَّقَرُّبِ) ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فِي مَوَاضِعَ، وَقَالَ فِي بَابِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ: إنَّ مَنْ عَلَيْهِ أَلْفُ.
(3/285)
 
 
دِرْهَمٍ دَيْنًا فَسَلَّمَهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا لَا يَقَعُ عَنْ الدَّيْنِ مَا لَمْ يَقْصِدْ أَدَاءَهُ وَمِثْلُهُ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ وَيَتِيمِهِ فَإِذَا أُطْلِقَ الشِّرَاءُ يَنْصَرِفُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا (بِالنِّيَّةِ الَّتِي تُمَيِّزُهُ) عَنْ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ.
وَلَوْ وَكَّلَ عَبْدًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ مَالًا آخَرَ صَحَّ فِي الْأَصَحِّ قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: وَيَجِبُ أَنْ يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْمُوَكِّلِ وَإِلَّا فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْعِتْقِ لَا يَنْدَفِعُ بِالنِّيَّةِ.
وَكَلَامُ الْجُرْجَانِيِّ فِي الشَّافِي يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَجِبُ التَّسْمِيَةُ وَأَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إنْ صَدَّقْنَاهُ صَحَّ الْبَيْعُ لِلْمُوَكَّلِ.
وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ: اشْتَرِ لِي نَفْسِي مِنْ سَيِّدِي فَفَعَلَ صَحَّ وَيُشْتَرَطُ التَّصْرِيحُ بِالْإِضَافَةِ لِلْعَبْدِ عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ فَلَوْ أُطْلِقَ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ لَا يَرْضَى بِعَقْدٍ يَتَضَمَّنُ الْإِعْتَاقَ قَبْلَ تَوَفُّرِ الثَّمَنِ وَالنِّيَّةُ الْأُولَى تَمْتَنِعُ مِنْ الْكَافِرِ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ.
وَلِهَذَا لَوْ ظَاهَرَ صَحَّ وَيُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ النِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ إذَا حَاضَتْ الْكَافِرَةُ وَاغْتَسَلَتْ لِتَحِلَّ لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَنْوِيَ إبَاحَةَ الِاسْتِمْتَاعِ، فَإِنْ لَمْ تَنْوِ لَا يُبَاحُ وَطْؤُهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لِلتَّقَرُّبِ وَاخْتُلِفَ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الزَّكَاةُ هَلْ شُرِطَتْ النِّيَّةُ فِيهَا لِلْعِبَادَةِ أَوْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ؟ عَلَى
(3/286)
 
 
وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا (الدَّارِمِيُّ) فِي الِاسْتِذْكَارِ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا مَا لَوْ دَفَعَ إلَى الْإِمَامِ وَلَمْ يَنْوِ هَلْ يُجْزِيهِ وَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْفَرْضِيَّةِ. الثَّانِي: النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الْأَوْلَى أَنْ لَا تُجْعَلَ النِّيَّةُ فِيهِ لِلْقُرْبَةِ بَلْ لِلتَّمْيِيزِ وَلَوْ كَانَتْ لِلْقُرْبَةِ لَمَا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَدَاءِ الْوُضُوءِ وَحَذْفِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِلْفَرْضِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى أَدَاءَ الْوُضُوءِ كَفَاهُ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَهَذَا مِنْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَكْسٌ لِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ جَعَلَ الِاكْتِفَاءَ بِأَدَاءِ الْوُضُوءِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ قُرْبَةٌ، وَالرَّافِعِيُّ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قُرْبَةٍ، وَعِبَارَةُ الْإِمَامِ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ أَنَّ نِيَّةَ الْوُضُوءِ مِنْ نِيَّةِ الْقُرُبَاتِ (وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ) أَوْجَبَ النِّيَّةَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوُضُوءَ قُرْبَةٌ، وَمَا قَطَعَ بِهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِنِيَّةِ أَدَاءِ الْوُضُوءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّتَهُ نِيَّةُ الْقُرُبَاتِ، وَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْوُضُوءَ يَقَعُ تَنْظِيفًا وَيَقَعُ مَأْمُورًا بِهِ فَالْغَرَضُ مِنْ النِّيَّةِ إيقَاعُهُ مَأْمُورًا كَانَ ظَنًّا بَعِيدًا.
 
الثَّالِثُ: مِنْ الْأَفْعَالِ مَا تَدْخُلُهُ النِّيَّةُ وَمِنْهَا مَا لَا تَدْخُلُهُ
فَمِنْ الْأَوَّلِ الْعِبَادَاتُ، فَأَمَّا الْوَاجِبُ الَّذِي لَمْ يُشْرَعْ عِبَادَةً، كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ وُصُولُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِدُونِهَا، وَأَمَّا الْمَنْدُوبَاتُ فَتَفْتَقِرُ إلَى قَصْدِ إيقَاعِهَا طَاعَةً لِيُثَابَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ نَعَمْ إنْ أُرِيدَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا افْتَقَرَتْ إلَيْهَا.
(3/287)
 
 
وَأَمَّا) الْمُحَرَّمَاتُ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ فَإِنْ قَصَدَ الثَّوَابَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ الِامْتِثَالِ خُصُوصًا إذَا اشْتَهَتْهُ النَّفْسُ وَصَرَفَهَا عَنْهُ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا يُعْلَمُ حُكْمُ الْمَكْرُوهَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ التُّرُوكُ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَلِهَذَا تَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَكَذَا مَا تَعَيَّنَ لِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَمِنْ هُنَا قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَجِبُ النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ صِفَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لِلْمَاءِ، وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: لَا مَدْخَلَ لِلنِّيَّةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَدَفْنِ الْمَيِّتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْإِقْلِيدِ: أَدَاءُ الدَّيْنِ وَرَدُّ الْوَدِيعَةِ وَالْأَذَانُ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارُ وَهِدَايَةُ الطَّرِيقِ وَإِمَاطَةُ الْأَذَى وَنَحْوُهَا مِنْ الْأَعْمَالِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَقَعُ تَارَةً طَاعَةً وَغَيْرَ طَاعَةٍ أُخْرَى بِدَلِيلِ ذِكْرِ الْهِجْرَةِ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا هَذِهِ الْقُرُبَاتُ وَنَحْوُهَا مِمَّا شُرِعَ لِمَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ قَصْدًا أَوْ كَانَ بِصُورَتِهِ عِبَادَةً فَعَدَمُ وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهَا لِعَدَمِ إرَادَتِهَا أَوْ لِخُرُوجِهَا عَنْ الْإِرَادَةِ حِسًّا
(3/288)
 
 
كَصُورَةِ (الْعَمَلِ) إنْ قِيلَ بِعُمُومِ الْأَعْمَالِ لِلطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ انْتَهَى.
وَقَدْ اسْتَثْنَى الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، وَالْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ النِّيَّةُ مِنْ الْعِبَادَاتِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْوَاجِبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ النَّظَرُ الْمَعْرُوفُ بِوُجُوبِ النَّظَرِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَصْدُ إلَى إيقَاعِهِ طَاعَةً إلَّا إذَا عُرِفَ وُجُوبُهُ وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يُعْرَفْ وُجُوبُهُ فَيَسْتَحِيلُ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِيهِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
الثَّانِي: إرَادَةُ الطَّاعَةِ فَإِنَّهَا لَوْ افْتَقَرَتْ إلَى إرَادَةٍ أُخْرَى لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَفِيمَا قَالَهُ نِزَاعٌ وَمِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَّةُ التَّذْكِيَةُ، فَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ سِكِّينٌ فَسَقَطَتْ وَاحْتَكَّتْ بِهَا شَاةٌ فِي الْمَذْبَحِ حَتَّى مَاتَتْ فَحَرَامٌ خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ مِنْهُ شَبَكَةٌ (فَتَعَلَّقَ بِهَا) صَيْدٌ فَهُوَ حَرَامٌ فِي الْأَصَحِّ لِعَدَمِ الْقَصْدِ.
وَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِقَصْدِ اصْطِيَادِ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَوَقَعَ فِيهَا مَأْكُولٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ فِي الْمِلْكِ وَجْهَانِ مِنْ نَظِيرِهِ، فَمَا لَوْ رَمَى إلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ غَيْرَ صَيْدٍ فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ فِي الْأَصَحِّ.
وَقَدْ يُكْتَفَى بِهَيْئَةِ الْعِبَادَةِ عَنْ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَتَسَحَّرُ لِأَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ غَدًا، فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي النِّيَّةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الِاعْتِكَافِ لَوْ خَرَجَ عَلَى نِيَّةٍ أَنَّهُ يَعُودُ لَا يَحْتَاجُ عِنْدَ الْعَوْدِ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ كَمَا سَيَأْتِي.
(3/289)
 
 
الرَّابِعُ: أَصْلُ تَشْرِيعِ النِّيَّةِ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ عَنْ الْعَادَةِ.
وَأَمَّا تَعْيِينُهَا فَنَقَلَ (الْإِمَامُ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ شُرِعَ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا مِنْ الصَّلَاةِ فَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا لَمْ تَكُنْ صَلَاةٌ أَوْلَى بِالِانْعِقَادِ مِنْ صَلَاةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِيهِ لِعَقْدِ مَا يَبْغِيهِ الْمُصَلِّي مِنْ ضُرُوبِ الصَّلَوَاتِ.
وَبُنِيَ عَلَى هَذَا أَنَّ أَصْلَ النِّيَّةِ يَجِبُ فِي الصَّوْمِ وَلَا يَجِبُ تَعْيِينُهَا قَالَ: وَهُوَ فِقْهٌ ظَاهِرٌ.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ دَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا نَذْرٌ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ فَرْضُ الْوَقْتِ فَإِذَا نَوَى الْفَرْضَ عَلَيْهِ فَكَانَ يَصِحُّ كَالْكَفَّارَةِ لَا يَجِبُ تَعْيِينُهَا، فَإِنْ أَوْجَبُوا التَّعْيِينَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ نَقَلْنَا الْكَلَامَ إلَى الصَّوْمِ، ثُمَّ اخْتَارَ الْإِمَامُ أَنَّ إيجَابَ التَّعْيِينِ فِي النِّيَّةِ شُرِعَ لِلتَّعَبُّدِ لَا لِمَا ذَكَرَهُ، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ: " إنَّ النِّيَّةَ شُرِعَتْ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْعَادَاتِ أَوْ لِمَرَاتِبِ الْعِبَادَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ " نَزْعَةٌ حَنَفِيَّةٌ، فَمِمَّا لَا يَجِبُ فِيهِ التَّعْيِينُ الْكَفَّارَةُ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجِبُ تَعْيِينُهُ وَالزَّكَاةُ وَالْوَكَالَةُ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَا يَجِبُ تَعْيِينُ الْمَيِّتِ وَالْأَحْدَاثُ لَا يَجِبُ تَعْيِينُهَا فِي الرَّفْعِ.
(3/290)
 
 
الْخَامِسُ: فِي شُرُوطِهَا وَهِيَ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمُعَيَّنٍ إلَّا فِي مَوَاضِعَ اكْتَفَوْا فِيهَا بِأَصْلِ النِّيَّةِ تَوَسُّعًا فِي الْعِبَادَةِ.
فَمِنْهُ الِاعْتِكَافُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُ مُدَّةٍ، وَإِذَا أُطْلِقَ كَفَتْهُ نِيَّتُهُ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ.
وَمِنْهُ النَّفَلُ الْمُطْلَقُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ نِيَّةُ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ وَيَنْقُصَ بِشَرْطِهِ.
وَمِنْهُ الْحَجُّ إذَا أُطْلِقَ الْإِحْرَامُ صَحَّ وَانْصَرَفَ إلَى فَرْضِهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ قَالَ الْإِمَامُ: وَسُقُوطُ أَثَرِ التَّعْيِينِ فِي النِّيَّةِ فِي عُسْرٍ مُشْكِلٌ، وَلَكِنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ أَنَّ قَصْدَ التَّطَوُّعِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَوُجُوبُ تَقْدِيمِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ ثَابِتٌ فَيَنْتَظِمُ مِنْ ذَلِكَ صِحَّةُ الْحَجِّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُسْتَحَقِّ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَسَادِ النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا عَظُمَ وَضْعُ الْإِشْكَالِ لِانْضِمَامِ مُشْكِلٍ إلَى مُشْكِلٍ أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّعْيِينِ وَالثَّانِي اسْتِحْقَاقُ التَّرْتِيبِ وَهُوَ أَعْوَصُ مِنْ الْأَوَّلِ لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي.
(3/291)
 
 
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَأْخَذَ فِي وُجُوبِ التَّعْيِينِ قَصْدُ التَّمْيِيزِ.
هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ يَجِبُ التَّعْيِينُ فِي النِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَمْيِيزٌ بَلْ الْقَصْدُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِخْلَاصِ وَإِتْعَابُ الْقَلْبِ بِالْحُضُورِ فِي صُوَرٍ: مِنْهَا: صَلَاةُ الْجِنَازَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ الْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا.
وَمِنْهَا: نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ تُشْتَرَطُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْجُمُعَةُ لَا تَنْعَقِدُ مُنْفَرِدَةً.
وَمِنْهَا: تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي رَمَضَانَ بِالْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ لَا يُقْبَلُ غَيْرُهُ مِنْ تَطَوُّعٍ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ تَعَيَّنَ فِي الْأَصَحِّ وَشُرِطَتْ فِيهِ النِّيَّةُ، وَكَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ إذَا صَحَّ نَذْرُهُ فَتَعَيَّنَ وَيُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ.
وَلَوْ قَالَ: جَعَلْت هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً تَعَيَّنَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ عِنْدَ الذَّبْحِ مَعَ أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَتْ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ فِيهِ نَظَرٌ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْجَزْمُ بِتَعَلُّقِهَا وَقَدْ يُغْتَفَرُ التَّرَدُّدُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَنِدَ التَّعْلِيقُ إلَى أَصْلٍ مُسْتَصْحَبٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُ فُرُوعِهِ فِي حَرْفِ التَّاءِ فَاسْتَحْضَرَهُ هُنَا.
وَمِنْهُ إذَا نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخَمْسُ وَاغْتُفِرَ التَّرَدُّدُ فِي
(3/292)
 
 
النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا الْوُجُوبُ، وَأَمَّا صِحَّةُ صَلَاةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَصَوْمِهَا مَعَ عَدَمِ جَزْمِ النِّيَّةِ لِلتَّرَدُّدِ فِي الْوُجُوبِ فَلِأَنَّ أَيَّامَ الطُّهْرِ أَغْلَبُ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَلَا يَكُونُ التَّرَدُّدُ بَيْنَهُمَا مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ.
وَثَانِيهِمَا: مَوْضِعُ الضَّرُورَةِ كَمَنْ شَكَّ هَلْ الْخَارِجُ مِنْ ذَكَرِهِ مَنِيٌّ أَوْ مَذْيٌ فَإِنَّهُ يَغْتَسِلُ احْتِيَاطًا وَلَيْسَ بِجَازِمٍ، وَكَذَا فِيمَنْ مَلَكَ إنَاءً بَعْضُهُ فِضَّةٌ وَبَعْضُهُ ذَهَبٌ وَجَهِلَ أَكْثَرَهُمَا زَكَّى الْأَكْثَرَ ذَهَبًا وَفِضَّةً، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَفِيهِ إشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَزْمِ النِّيَّةِ إلَّا فِي نِصَابٍ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّقْدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مِلْكِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ اُسْتُشْكِلَ الْأَوَّلُ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَبَاحِثِ الشَّكِّ وَجَوَابُهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُسَوَّغُ لِلْحَاجَةِ، وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ (الْإِمَامُ) الشَّافِعِيُّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) لِلْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ الِاغْتِسَالَ عَنْ الْجَنَابَةِ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ حُصُولَهَا فِي حَالِ جُنُونِهِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْمُقَارَنَةُ لِأَوَّلِ الْوَاجِبِ كَالْوُضُوءِ يَجِبُ قَرْنُهَا بِأَوَّلِ مَغْسُولٍ مِنْ الْوَجْهِ وَكَالصَّلَاةِ يَجِبُ قَرْنُهَا بِالتَّكْبِيرِ وَقَدْ لَا يُشْتَرَطُ فِي مَوْضِعِ الْمَشَقَّةِ وَكَالصَّلَاةِ يَجِبُ قَرْنُهَا بِالتَّكْبِيرِ وَقَدْ لَا يُشْتَرَطُ فِي مَوْضِعِ الْمَشَقَّةِ، كَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ نِيَّتُهُ مُتَرَاخِيَةً عَنْ
(3/293)
 
 
الْعَمَلِ إنْ كَانَ تَطَوُّعًا وَمُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ إنْ كَانَ فَرْضًا قَالَ (صَاحِبُ الْخِصَالِ) : لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ إلَّا فِ