المهذب في علم أصول الفقه المقارن 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ
(تحريرٌ لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً)
المؤلف: عبد الكريم بن علي بن محمد النملة
عدد الأجزاء: 5
 
 
ثانيهما: على فرض أن المطالبة بالدليل تعتبر دليلاً، فإنا قد أثبتنا
أدلة من إجماع الصحابة، وأهل اللغة، واستعمالاتهم على أن تلك
الصيغ تفيد العموم بمجردها.
الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ لكم أن الآحاد لا يحتج به على إثبات
القواعد الأصولية، بل خبر الواحد يثبت تلك القواعد بشرط: أن
تكون تلك القواعد وسيلة إلى العمل، قياسا على العمل بالآحاد في
الفروع.
فنتج: أن هذه الصيغ قد ثبتت بالآحاد؛ لأنها وسيلة إلى العمل.
الدليل الثاني: أن الأدلة متعارضة، والاحتمالات متقاومة،
والجزم بواحد ترجيح بلا مرجح، ولو قدرنا أن يكون هناك مرجح،
لكن لا نزاع أن هذا المرجح ليس بقاطع؛ حيث إنه يحتمل الخطأ،
فوجب التوقف.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ أن الأدلة المثبتة للخصوص في قوة الأدلة المثبتة
للعموم، بل إن أدلة القائلين: إن تلك الصيغ حقيقة في العموم أقوى
من أدلة المذاهب الأخرى - كما سبق بيانه - وإذا كان الأمر كذلك
فإن كونها للعموم أرجح، والعمل بالراجح واجب، وحينئذٍ لا
داعي لهذا التوقف.
المذهب الخامس: أن تلك الصيغ والألفاظ حقيقة في العموم في
الأمر والنهي - فقط - ولا يعلم هل هي حقيقة أو مجاز في الأخبار.
وهو مذهب لبعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن الأوامر والنواهي تكليف بعمل، فلو لم نعرف المراد بها لاقتضى
(4/1483)
 
 
تكليف ما لا يطاق، فوجب حمل تلك الصيغ والألفاظ على أنها
حقيقة في العموم.
بخلاف الخبر من الوعد والوعيد، وغير ذلك، فإنه لا يقتضي
وجوب شيء يحتاج أن يعمل به.
جوابه:
أنا لا نُسَلِّمُ ذلك، بل إن تلك الصيغ والألفاظ حقيقة في العموم
مطلقا، سواء كانت أمراً أو نهيما أو خبراً، ولا فرق بين الأوامر
والنواهي والأخبار.
ودلَّ على عدم التفريق بينهما ما يلي من الوجوه:
الأول: أن الحال فيهما واحدة؛ حيث إنه يخاطب بالخبر لفائدة
كالأمر، فالمكلف مطالب بالعلم بمراد الشارع منهما.
الثاني: أن الطريق إلى إثبات أحدهما هو الطريق إلى إثبات
الآخر، فالممتنع من أحد الأمرين يلزمه الامتناع من الآخر بدليل: أن
أهل اللغة يستعملون الأمرين على وجه واحد.
الثالث: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - كانوا يرجعون في
أوامر اللَّه تعالى ونواهيه، وأخباره إلى ظاهر الخطاب، ولا يفرقون
بينها.
بيان نوع الخلاف:
ابخلاف - هنا - معنوي، وهو ظاهر، فأصحاب المذهب الأول -
وهم الجمهور - يحملون أي صيغة من الصيغ السابقة على العموم
بدون أي قرينة، ولا يحملونها على الخصوص إلا بقرينة، ويعملون
على هذا بدون توقف، ولا يفرقون بين الأوامر والنواهي والأخبار.
(4/1484)
 
 
أما أصحاب المذهب الثاني والرابع فهم لا يحملون تلك الصيغ
على العموم ولا على الخصوص، ولا يعملون بشيء منهما حتى ترد
قرينة ترجح أحد الأمرين، ولا يفرقون بين الأوامر والنواهي والأخبار.
أما أصحاب المذهب الثالث: فهم يحملون أيَّ صيغة من الصيغ
على أنها حقيقة في الخصوص بدون قرينة، ولا يحملونها على
العموم إلا بقرينة ويعملون على ذلك بدون توقف، ولا يفرقون في
ذلك بين الأوامر والنواهي والأخبار.
أما أصحاب المذهب الخامس: فإنهم يفرقون: فإن كانت الصيغة
وردت في سياق أمر أو نهي، فإنهم يحملونها على العموم، وإن
وردت في سياق الإخبار، فإنهم يض وقفون.
وطبق على ذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ،
فأصحاب المذهب الأول يقولون: إنه عام لجميع الناس دون استثناء.
وأصحاب المذهب الثالث يقولون: إنه خاص لبعض الناس، ولا
يحمل على جميع الناس إلا بقرينة.
وأصحاب المذهب الثاني والرارج: لا يحملونه على العموم ولا
على الخصوص حتى تأتي قرينة ترءجح أحدهما.
وأصحاب المذهب الخامس يقولون: إنه عام؛ لأنه أمر، وهكذا.
(4/1485)
 
 
المطلب السادس في صيغ العموم
بعد أن عرفنا أن للعموم صيغة في اللغة خاصة، موضوعة له، تدل
على العموم حقيقة: نريد أن نبين في هذا المطلب تلك الصيغ، فأقول:
هي كما يلي:
الصيغة الأولى: أدوات الاستفهام.
الصيغة الثانية: أدوات الشرط.
الصيغة الثالثة: " كل " و " جميع ".
الصيغة الرابعة: الجمع المعرف بـ " أل ".
الصيغة الخامسة: الجمع المعرف بالإضافة.
الصيغة السادسة: " واو " الجماعة.
الصيغة السابعة: " النكرة في سياق النفي ".
الصيغة الثامنة: المفرد المحلى بـ " أل ".
الصيغة التاسعة: المفرد المعرف بالإضافة.
الصيغة العاشرة: الاسم الموصول.
الصيغة الحادية عشرة: " سائر " المشتق من سور المدينة.
(4/1487)
 
 
وإليك بيان تلك الصيغ، مع الاستدلال على كل واحدة منها، وبيان
المتفق عليه والمختلف فيه منها.
وقد ذكر بعضهم: أن الصيغ أكثر من هذا، ولكن كل ما ذكروه
يرجع إلى ما ذكرناه، فأقول:
(4/1488)
 
 
الصيغة الأولى: أدوات الاستفهام، وهي أنواغ:
النوع الأول: " من " المستعملة للعقلاء كقولك: " من عندك من
الطلاب؟ ".
النوع الثاني: " ما " المستعملة لغير العقلاء كقولك: " ما عندك
من البهائم؟ ".
النوع الثالث: " أي " المستعملة للعقلاء كقولك: " أي العلماء
قابلت؟ "، والمسنعملة لغير العقلاء كقولك: " أي الدواب
ركبت؟ ".
النوع الرابع: " متى " الزمانية كقولك: " متى تزورني؟ ".
النوع الخامس: " أين " المكانية كقولك: " أين تذهب؛ ".
النوع السادس: " أيان " الزمانية كقوله تعالى: (يسألونك عن
الساعة أيان مرساها) ، وغير ذلك.
دليل إفادة هذه الصيغة للعموم:
دل على أن أدوات الاستفهام تفيد العموم: أن تلك الألفاظ
والصيغ إما أن تكون للعموم فقط، أو للخصوص فقط، أو لهما
معاً بالاشتراك اللفظي، أو لا تكون لكل واحد منهما، والكل باطل
إلا الأول.
بيان ذلك:
أنه لا يصح أن تكون موضوعة للخصوص فقط، إذ لو كانت
موضوعة له: لما حسن من المجيب أن يجيب بلفظ كل أو جميع؛
لأن الجواب يجب أن يكون مطابقاً للسؤال، لكن لا نزاع في ذلك،
(4/1489)
 
 
فإذا قال: " من عندك؟ " يمكن للمجيب أن يقول: " عندي جميع
أو كل الطلاب "، فلو كانت للخصوص لما صح ذلك.
ولا يصح أن تكون موضوعة للخصوص والعموم بالاشتراك
اللفظي؛ لأنه يكون مجملاً، والمجمل لا يمكن أن يجاب عنه
بجواب معين إلا بعد عدة استفهامات عن الأقسام الممكنة، فمثلاً إذا
قال: " من عندك؟ "، فإذا كانت " من " مشتركة بين الخصوص
والعموم، فإن المجيب - لا بد أن يقول له: " أتسألني عن الرجال
أم عن النساء؟ "، فإذا قال: أسألك عن الرجال، فلا بد أن
تقول: أتسألني عن رجال العرب أو عن رجال العجم؟ ، فإذا قال:
أسألك عن رجال العرب، فلا بد أن تقول: أتسألني عن رجال
ربيعة، أو مضر؟
وهلم جرا إلى أن يأتي على جميع أحياء العرب
وقبائلهم، ثم يأتي على جميع أصنافها من العلماء، والجهال،
والشيوخ، والكهول، والبيض، والسود، وغير ذلك.
فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات، لكنها غير
واجبة؛ لأمرين:
أولهما: أنه لا عام إلا وتحته عام آخر، وإذا كان كذلك: كانت
التقسيمات الممكنة غير متناهية، والسؤال عنها على سبيل التفصيل
محال.
ثانيهما: أنا علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان: أنهم
يستقبحون مثل هذه الاستفهامات، فبطل كون تلك الصيغ موضوعة
للعموم والخصوص بالاشتراك اللفظي.
ولا يصح أن لا تكون تلك الصيغ موضموعة للعموم
(4/1490)
 
 
ولا للخصوص بالاتفاق؛ لأن هذا يؤدي إلى أنه يوجد في الكتاب
والسّنَّة ألفاظ لا تفيد شيئاً، وهذا غير ممكن.
فلما بطلت الأقسام الثلاثة: لم يبق إلا الأول - وهو أنها
موضوعة للعموم - وهو الصحيح.
***
الصيغة الثانية: أدوات الشرط، وهي أنواع:
النوع الأول: " من " المستعملة للعقلاء كقوله تعالى: (ومن
يتوكل على اللَّه فهو حسبه) .
النوع الثاني: " ما " المستعملة لغير العقلاء كقوله تعالى:
(ما عندكم ينفد) .
النوع الثالث: " أي " المستعملة للعقلاء كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت نفسها فنكاحها باطل "،
والمستعملة لغير العقلاء كقولك:
"أي بهيمة رأيتها فاشترها "،
و" أي " عامة فيما تضاف إليه من
الأشخاص، والأزمان، والأمكنة، والأطوال.
النوع الرابع: " أين " المكانية كقوله تعالى:
(أينما تكونوا يدرككم الموت) .
النوع الخامس: " متى " الزمانية كقولك: " متى تجلس أجلس ".
ونحو ذلك.
الأدلة على إفادة تلك الصيغة للعموم:
دل على أن أدوات الشرط تفيد العموم ما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: صحة الاستثناء مما دخلت عليه أداة الشرط، فيصح
أن يقول: " من دخل داري فأكرمه إلا زيداً "، والاستثناء يخرج من
الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن " من " الشرطية للعموم.
(4/1491)
 
 
الدليل الثاني: إجماع الفقهاء وأهل اللسان على ترتب الأحكام
العامة إذا عبر بلفظ من هذه الألفاظ الشرطية، فمثلاً لو قال: " من
دخل من عبيدي هذه الدار فهو حر "، فإن الفقهاء وأهل اللسان قد
أجمعوا على أنه يعتق كل عبد له دخل الدار، ولهذا يجوز لكل من
سمع هذا ورأى دخول العبد الدار أن يستخدمه، ويستأجره،
ويشتري منه ويبيع عليه، دون إجازة مولاه.
الدليل الثالث: توجيه الاعتراض والذم إلى من خالف الأمر العام
بها، وسقوطه عمن جرى على موجب العموم، فمثلاً لو قال
السيد لعبده: " من دخل داري فأكرمه "، فإن أكرم جميع الداخلين
فإنه يستحق المدح والثواب، وإن أكرم بعض الداخلين فقط دون
البعض الآخر، فإنه يستحق الاعتراض من السيد، وذمه وعقوبته فلو
جاء عقلاء أهل اللغة وهو يعاقبه فقالوا: لماذا تفعل به هذا؛ فقال
لهم: إني قد أمرته بأمر عام، فلم ينفذ ذلك الأمر العام، فهنا
يوافقونه على هذا الذم، وهذا يدل على أن أداة الشرط تفيد العموم.
الصيغة الثالثة: " كل "، و " جميع ":
مثل قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ،
وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) .
والفرق بين " كل " و " جميع ":
أن " كل " تقتضي الاستغراق والعموم مطلقا، سواء أضيفت إلى
نكرة نحو قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) .
أو أضيفت إلى معرفة وهي جمع كقولك: " كل الرجال ".
(4/1492)
 
 
أو أضيفت إلى معرفة وهي مفرد كقولك: " كل غزال جميل ".
ولذلك كانت " كل " أصرح صيغ العموم؛ لشمولها العاقل
وغيره، والمذكر والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والجمع، وسواء ذكر
المضاف إليه كما سبق، أو حذف المضاف إليه نحو قوله تعالى:
(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) .
أما " جميع " فهي مثل " كل " إلا أنها لا تضاف إلا إلى معرفة
فقط، فتقول: " جميع الرجال "، ولا تقول: " جميع رجل "،
أما " كل " فيجوز ذلك.
الأدلة على إفادة هذه الصيغة للعموم:
دل على أنهما يفيدان العموم: ما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير والغوص في
الاستغراق، فإنهم يفزعون إلى استعمال لفظ " كل "، و " جميع "
ولو لم يفيدا العموم لما فزعوا إليهما وتركوا غيرهما.
الدليل الثاني: أنه لما سمع عثمان بن مظعون قول لبيد:
... ... ... ... ... وكل نعيم لا محالة زائل
قال له: " كذبت نعيم الجنة لا يزول "، فلولا أن " كل " تفيد
العموم لما صح هذا التكذيب، وقد سبق هذا.
الدليل الثالث: لو قال السيد: " أعتقت كل - أو جميع -
عبيدي وإمائي "، ومات في الحال، ولم يعلم منه أمر آخر سوى
هذه العبارة: فإن الفقهاء قد أجمعوا على أن جميع عبيده وإمائه قد
عتقوا، ولهذا يجوز أن يتصرف معهم بأي نوع من أنواع التصرف
بدون الرجوع إلى الورثة.
الدليل الرابع: أن لفظ " كل " و " بعض " موضوع أحدهما
(4/1493)
 
 
للعموم، والآخر موضوع للخصوص، و "كل " مقابل للبعض، واتفق
على أن لفظ " بعض " للخصوص، فيكون لفظ " كل " للعموم.
الدليل الخامس: سقوط الاعتراض عن المطيع بالأمر بهما،
وتوجيهه على العاصي، بيانه:
أن السيد لو قال لعبده: " أكرم كل من دخل داري "، فإن أكرم
جميع الداخلين، فإنه يسقط الاعتراض عنه، ويستحق المدح، فلو
قال السيد لعبده: " أنت أفنيت دراهمي بإكرامك جميع الداخلين
وإنما قصدت من عبارتي: إكرام العلماء فقط "، فيقول العبد
- مدافعاً عن نفسه -: " أنت ما أمرتني بإكرام العلماء، وإنما أمرتني
بإكرام جميع الداخلين "، فعقلاء أهل اللغة يوافقون العبد على
تصرفه، ويخالفون السيد، فلو لم تكن " كل " مفيدة للعموم لما
صح ذلك.
وكذلك لو أن العبد أعطى كل الداخلين إلا واحداً، فقال له
السيد: لماذا لم تعطه؛ فقال العبد: لأنه جاهل - مثلاً - فإن العبد
يستوجب التأديب من قبل السيد، ومن قبل عقلاء أهل اللغة، لأنه
لم يمتثل الأمر على العموم، ولو لم تكن " كل " تفيد العموم لما
صح ذلك.
***
الصيغة الرابعة: الجمع المعرف بـ " أل " مثل: " الرجال "
و" المسلمين " و " الناس ":
إن كان هناك معهود، فإنه ينصرف إلى المعهود مثل قولهم:
"جمع الأمير الصاغة "، وإن لم يكن هناك معهود، فقد اختلف
العلماء هل يفيد العموم أو لا؛ على مذهبين:
(4/1494)
 
 
المذهب الأول: أنه يفيد العموم.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لما قال بعض الأنصار: " منا أمير ومنكم أمير "
قال أبو بكر - رضي اللَّه عنه -: إني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" الأئمة من قريش "، فسلم الأنصار ذلك وانسحبوا، ولو لم يدل
الجمع المعرف بـ " أل " - وهو هنا " الأئمة " على العموم لما صحت تلك
الدلالة، ولما انسحب الأنصار - ولما وافقه بقية الصحابة على ذلك،
وقد سبق.
الدليل الثاني: أنه لما عزم أبو بكر على قتال مانعي الزكاة، قال
له عمر: أليس قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه - فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "،
فهنا قد احتج عليه بعموم لفظ " الناس "، ولم ينكر
عليه أبو بكر ولا أحد من الصحابة إفادته للعموم، بل عدل أبو بكر
إلى الاستثناء، فقال: أليس قد قال: " إلا بحقها "، وأن الزكاة
من حقها.
الدليل الثالث: أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي العموم، كقوله
تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) ، فلو لم يفد العموم لما
جاز تأكيده بـ كل، وبـ أجمع.
الدليل الرابع: صحة الاستثناء من الجمع المعرف بـ " أل " فتقول.:
"أكرم الرجال إلا زيداً"، ولو لم يكن مفيداً العموبم لما صح الاستثناء
منه.
الدليل الخامس: الجمع المعرف أعلى في الكثرة من الجمع المنكر؛
لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف، ولا ينعكس: فيجوز أن تقول:
(4/1495)
 
 
" رجال من الرجال "، ولا يجوز أن تقول: " الرجال من رجال "،
ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع.
المذهب الثاني: أن الجمع المعرف بـ " أل " لا يفيد العموم، بل هو
يحتمل العموم والخصوص، وهو مذهب قد حكي عن أبي هاشم
المعتزلي.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن " أل " يحتمل أن تكون استغراقية، ويحتمل أن
تكون عهدية، والاحتمالان متساويان، فيكون الجمع المعرف بأل
مشتركا بين العموم والخصوص.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن " أل " للتعريف، فينصرف إلى ما يعرفه
السامع، فإن كان هناك عهد، فالسامع به أعرف، فيصرفه إليه،
وإن لم يكن هناك عهد كان السامع أعرف بالكل من البعض؛ لأن
الكل واحد، والبعض كثير مختلف، فيكون الجمع المعرف بـ أل
منصرفا إلى الكل.
الجواب الثاني: إنما يقال ذلك: إذا كان لا يتبادر من الجمع
المعرف بـ " أل " أي معنى من المعنيين، وهذا غير صحيح هنا؛ لأنه يتبادر
من الجمع المعرف بـ " أل " الاستغراق، فيكون يقتضيه حقيقة، ولا يحمل
على العهد إلا بقرينة.
الدليل الثاني: أنه يقال: " جمع الأمير العلماء "، فإنه معلوم:
أنه ما جمع جميع العلماء الذين على وجه الأرض، والأصل في
(4/1496)
 
 
الكلام الحقيقة، فتكون هذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق،
فوجب أن لا تكون حقيقة في الاستغراق.
جوابه:
أن هذا القول صحيح، ولكنه مخصص بالعرف، فهو جمع
العلماء الذين يمكنه جمعهم عرفا، كما يقال: " من دخل داري
أكرمته "، فإنه لا يتناول الملائكة واللصوص.
الدليل الثالث: أنه لو كان الجمع المعرف بـ " أل " يفيد العموم: للزم
أن يكون قولنا: " رأيت كل الناس " خطأ؛ لأنه تكرار للفظين
يؤديان معنى واحداً وهما: " كل "، و " الناس "، حيث يفيدان
العموم.
وللزم أن يكون قولنا: " رأيت بعض الناس " خطأ؛ لأنه
تناقض، حيث إن لفظ " بعض " مناقض للفظ: " الناس ".
جوابه:
لا نسلم أن الأول يكون تكراراً، بل يكون تأكيداً.
ولا نسلم أن الثاني يكون نقضا، بل يكون تخصيصا.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي وهو ظاهر، فإنه على المذهب الأول يكون
لفظ " الرجال "، أو " المؤمنون " مفيداً للعموم بدون قرائن، أما
على المذهب الثاني فإنه لا يفيد العموم إلا بقرينة.
فلو حلف ليصومن الأيام، فإنه بناء على المذهب الأول: يحمل
(4/1497)
 
 
على جميع أيام العمر، وبناء "على المذهب الثاني: لا يحمل على
شيء حتى تأتي قرينة تبين المراد، وهكذا.
***
الصيغة الخامسة: الجمع المعرف بالإضافة يفيد العموم:
دلَّ على ذلك ما يلي:
الدليل الأول: صحة الاستثناء، فيجوز أن تقول: " أكرم طلاب
الكلية إلا زيداً ".
الدليل الثاني: لو قال: " أعتقت عبيدي وإمائي "، و " طلقت
نسائي "، فإنه يعم جميع العبيد، والإماء، والنساء بإجماع العلماء.
الدليل الثالث: سقوط الاعتراض عن المطيع بالأمر بهذه الصيغة
وتوجهه على العاصي.
وكل هذه الأدلة قد سبق بيانها.
***
الصيغة السادسة: " واو " الجمع تفيد العموم، فإذا أمر جمعا
بصيغة الجمع فإنه يكون للعموم:
يدل على ذلك: أن السيد لو قال لعبيده: " قوموا "، فإن قاموا
جميعا، فإنهم يستحقون المدح، وإن قام بعضهم، دون بعض،
فإن الذين قاموا يستحقون المدح، أما الذين لم يقوموا فإنهم
يستحقون الذم والتأديب.
فاستحقاق هؤلاء للمدح، وهؤلاء للذم دليل على أن الصيغة
للعموم.
(4/1498)
 
 
أثر هذه الصيغة:
أنه لو قال - مثلاً - لوكلائه: " أعطوا زيداً مما في أيديكم
عشرة"، فإن كل واحد مأمور بإعطاءه شيئاً، ويفهم أيضا من كلامه:
أن كل واحد مأمور بإعطاءه عشرة غير ما يعطيه صاحبه.
***
الصيغة السابعة: النكرة في سياق النفي هل تفيد العموم؟
مثاله: " لا أحد في الدار "، أو " ما قام أحد " ونحو ذلك.
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: صحة الاستثناء من هذه النكرة، فيجوز أن تقول:
" لا رجل في الدار إلا زيداً "، و " ما قام أحد إلا زيداً "،
والاستثناء دليل على أن المستثنى منه عام.
الدليل الثاني: أنه لو لم تكن النكرة في سياق النفي تعم لما كان
قول الموحد: " لا إله إلا اللَّه " نفيا لجميع الآلهة سوى اللَّه تعالى.
الدليل الثالث: أن " لا " في قولهم: " لا رجل في الدار "
مسماة بـ " لا الجنس "، وإنما ينتفي الجنس بانتفاء كل فرد من أفراده،
وذلك يدل على أنه يفيد الاستغراق.
المذهب الثاني: أن النكرة في سياق النفي لا تفيد العموم إلا
بشرط أن تكون النكرة مسبوقة بـ " من " الجارة، سواء كانت ظاهرة
كقوله تعالى: (وما من إله إلا الله) ، أو مقدرة كقوله: (لا إله إلا الله) ، والتقدير: ما من إله يعبد بحق إلا اللَّه.
(4/1499)
 
 
وهو مذهب بعض النحاة كأبي البقاء العكبري، وبعض اللغويين.
دليل هذا المذهب:
أن النكرة في سياق النفي إذا خلت من حرف " من " تكون غير
صريحة في إفادتها للعموم؛ حيث يجوز الزيادة عليها فتقول مثلاً:
" ما عندي رجل بل رجلان "، وهذا لا يؤدي إلى التناقض؛ حيث
إنه قصد: أن ما عنده رجل واحد، بل عنده رجلان، لذلك لا تعم.
أما إذا قال: " ما عندي من رجل "، فإنه يعم؛ لامتناع إثبات
الزيادة عليه، فلا يمكنه أن يقول: " ما عندي من رجل بل رجلان "
صمان قاله: وقع تناقض، ولا فرق بين الصورتين إلا إثبات " منْ "
وعدمها، فدل على أن " من " هي المؤثرة في العموم.
جوابه:
يجاب عن هذا بجواب إجمالي، وتفصيلي:
أما الجواب الإجمالي فهو أن يقال: إن هذا مخالف لإجماع
العلماء في الفقه والعقيدة.
أما مخالفته لما أجمع عليه العلماء في الفقه، فهو أن العلماء قد
أجمعوا على أن الشخص لو حلف وقال: " والله لا آكل رغيفا "
فإنه يحنث إذا أكل رغيفين، وتجب عليه كفارة يمين، فلو كان قولكم
صحيحا: لما حنث؛ حيث إنه يؤول - على زعمكم - بأنه حلف أن
لا ياكل رغيفا واحداً، ولم يحلف على أنه لا ياكل رغيفين.
أما مخالضه لما أجمعت عليه الأُمَّة في العقيدة فبيانه أن يقال:
لو كان يجوز أن يقال: " ما عندي رجل بل رجلان " لجاز أن
يقال في قوله تعالى: (ولم تكن له صاحبة) بل صاحبتان.
(4/1500)
 
 
ولجاز أن يقال في قوله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ، بل
يظلم اثنين، لأنه ورد فيها كلها نكرة، ولم يتوفر فيها شرطكم،
وهو: كونها مسبوقة بـ مِن، لذلك ما تقتضي العموم على زعمكم،
وهذا ظاهر البطلان، بل يؤدي إلى الكفر.
أما الجواب التفصيلي فهو أن يقال: إن النكرة إذا أطلقت - أي:
لم تقيد بأي قرينة - فإنها تكون مستعملة فيما وضعت له حقيقة،
وهو العموم مثل قولنا: "ما عندي رجل "، و " لا رجل في الدار".
أما إذا لم تطلق بل قيدت بقرينة، فإنها تكون لما اقتضته هذه
القرينة، فتكون لغير ما وضعت له، وهو المجاز، أي: الخصوص
مثل قوله: " ما عندي رجل بل رجلان "، فقوله: " بل رجلان "
قرينة لفظية صرفت اللفظ، وهي: النكرة في سياق النفي من كونها
مفيدة للعموم إلى أنها للخصوص، فإذا زالت هذه القرينة، فإن
الصيغة وهي: النكرة في سياق النفي تعود لما وضعت له أصلاً،
وهو: العموم، قياساً على أسماء الحقائق، فلو قال مثلاً: " رأيت
أسداً "، فإن السامع يحمل لفظ " الأسد " على ما وضع له حقيقة
وهو: الحيوان المفترس، فإذا قال المتكلم: " رأيت أسداً يخطب "
فإن السامع يحمل لفظ " الأسد " على غير ما وضع له، وهو:
الرجل الشجاع بسبب تلك القرينة، وهي لفظ " يخطب "، فلو
زالت القرينة، فإن السامع يحمل لفظ " الألممد " على الحقيقة،
وهو الحيوان المفترس.
كذلك هنا: فإن لفظ " بل رجلان " إذا وجد لم تفد النكرة في
سياق النفي العموم، وصارت للخصوص، وإذا عدم هذا اللفظ
أفادت النكرة في سياق النفي العموم.
(4/1501)
 
 
اعتراض على هذا الجواب:
قال قائل - معترضاً -: إن كلامكم يدل على أن " من " الجارة لا
تأثير لها في العموم، ووجودها في بعض الآيات، كقوله تعالى:
(مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) لا فائدة منه، مما يؤدي إلى أن نقول: إن
هناك حروفاً في القرآن قد وردت عبثا.
جوابه:
نحن لا نقول: إن لفظ: " من " لا فائدة لها، بل لها فائدة
وهي: أنها مؤكدة للعموم، أي: أن النكرة في سياق النفي المسبوقة
بـ " من " اَكد من النكرة في سياق النفي التي لم تسبق بـ " من "،
وفائدة التوكيد في الكلام: رفع اللبس، وإزالة الاتساع في الفهم.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها:
ما سبق من أنه إذا قال: " والله لا آكل رغيفاً "، فإنه بناء على
المذهب الأول يحنث إذا أكل رغيفاً فأكثر، وبناء على المذهب الثاني
فإنه لا يحنث إذا اكل رغيفين.
***
الصيغة الثامنة: المفرد المحلى بـ " أل " هل يفيد العموم؛
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يفيد العموم.
وهو مذهب كثير من العلماء وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: صحة الاستثناء من المفرد المحلى بال، وقد ورد
ذلك في القرآن كقوله تعالى: (إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا) .
(4/1502)
 
 
فاستثنى اللَّه تعالى هذا الجم الغفير - وهم المؤمنون - من
لفظ " الإنسان "، وهو مفرد محلى بـ أل، فلو لم يكن المفرد المحلى
بـ أل مفيداً للعموم لما جاز الاستثناء منه.
الدليل الثاني: أنه يؤكد بما يؤكد به العموم، وقد ورد ذلك في
قوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) ، فلفظ
"الطعام " مفرد محلى بـ " أل "، وأكد بلفظ " كل "، فلو لم يكن المفرد
المحلى بـ " أل " مفيداً للعموم لما جاز تاكيده بما يؤكد به العموم.
الدليل الثالث: أنه ينعت بما ينعت به العموم، وورد ذلك بقوله
تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) ، فهنا
قد نعت لفظ " الطفل " وهو مفرد محلى بـ " أل " بالجمع، وهو قوله:
(الذين) ، فلو لم يكن المفرد المحلى بـ " أل " مفيداً للعموم: لما جاز
ذلك.
المذهب الثاني: أن المفرد المحلى بـ " أل " لا يفيد العموم.
وهو مذهب كثير من العلماء كفخر الدين الرازي، وأكثر أتباعه،
وأبي هاشم.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه لو كان المفرد المحلى بـ " أل " يفيد العموم للزم أنه
إذا قال: " لبست الثوب "، أو " شربت الماء " أنه لا يصدق إلا إذا
لبس جميع ثياب العالم، وشرب جميع مياه الدنيا، وهذا لا يمكن،
فدل على أن المفرد المحلى بـ " أل " لا يفيد العموم.
جوابه:
إن هذه الأقوال مفيدة للعموم، لكنها مخصصة بالعرف، ودليل
(4/1503)
 
 
العقل، وهما مخصصان للعموم، فهو لم يلبس إلا الثوب المتعارف
عليه أن يلبس، ولم يشرب إلا الماء الذي يرويه عرفا.
الدليل الثاني: أن المفرد المحلى بـ " أل " لا ينعت بما ينعت به الجمع،
فلا يقال: " جاءني الطالب الفضلاء "، فلو كان مفيداً للعموم لجاز
ذلك.
جوابه:
أنا أثبتنا أن المفرد المحلى بـ " أل " ينعت بما ينعت به الجمع، وهذا ثبت
عن طريق النقل من كتاب الله، ومن كلام العرب:
أما الكتاب، فقد قال تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على
عورات النساء) .
أما كلام العرب فقد قالوا: " أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم
البيض "، فهنا قد نعت المفرد المحلى بـ " أل " وهو: " الدينار "،
و"الدرهم " بالجمع، وهو " الصفر "، و " البيض "، ولم يقولوا:
" أهلك الناس الدينار الأصفر والدرهم الأبيض " مما يدل على أن
المفرد المحلى بـ " أل " يفيد العموم، أما ما ذكرتموه فهو من إنشاءكم لا
يقوى على معارضة ما ذكرناه.
بيان نوع الخلاف:
هذا الخلاف معنوي؛ حيث إنه أثر في بعض الفروع، ومنها:
1 - أنه لو قالت المرأة: " قد أذنت للعاقد بهذا البلد أن يزوجني "
فإنه على المذهب الأول: يجوز لكل عاقد أن يزوجها، أما على
المذهب الثاني: فلا يجوز.
2 - أنه لو قال: " إذا قدم الحاج فأنت طالق ".، فعلى المذهب
(4/1504)
 
 
الأول: أنها لا تطلق إلا إذا قدم جميع حجاج هذه البلدة، فلو مات
أحد حجاج هذه البلدة، أو لم يرجع فإنها لا تطلق.
أما على المذهب الثاني: فإنها تطلق إذا قدم واحد من الحجاج.
3 - إذا نوى التيمم بتيممه الصلاة وأطلق، ولم ينو فرضاً ولا
نفلاً - وقلنا: إن التيمم يبيح الصلاة ولا يرفع الحدث - فهل يتناول
هذا التيمم الفرض والنفل؛ فبناء على المذهب الأول: أنه يتناول
الأمرين، وبناء على المذهب الثاني: فإنه يتناول النفل فقط.
الصيغة التاسعة: المفرد المعرف بالإضافة يفيد العموم:
وهذا دلَّ عليه: صحة الاستثناء، فتقول مثلاً: " أكرم عالم هذه
المدينة إلا زيداً "، والاستثناء دليل على أن المستثنى منه عام.
أثر هذه الصيغة:
1 - إذا قال: " زوجتي طالق وعبدي حر "، ولم ينو معيناً: فإن
جميع زوجاته طوالق، وجميع عبيدء أحرار؛ استدلالاً بهذه القاعدة.
2 - إذا قال: " وقفت هذه الدار على ولدي "، فإنه يتناول
جميع أولاده الذكور والإناث؛ بناء على هذه القاعدة.
***
الصيغة العاشرة: الاسم الموصول، سواء كان مفرداً كالذي،
والتي، أو مثنى كاللذين، أو جمعاً كاللذين، واللاتي، واللائي
يفيد العموم:
دل على ذلك ما يلي:
الدليل الأول: صحة الاستثناء فتقول: "أكرم الذي نجح إلا زيداً".
(4/1505)
 
 
الدليل الثاني: سقوط الاعتراض من السيد لعبده إذا أمر بأمر فيه
اسم موصول، وامتثل العبد أمر السيد، وتوجهه إذا لم يمتثل.
وهذا إذا قال للعبد: " أكرم الذي يدخل الدار ".
وقد سبق بيان ذلك مراراً.
***
الصيغة الحادية عشرة: " سائر ":
وهي المشتقة من سور المدينة، أي: الشامل.
أما " سائر " التي بمعنى الباقي فليست من صيغ العموم، ومنه
قوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان الثقفي لما أسلم وتحته عشر من النسوة -: " اختر منهن أربعاً وفارق سائرهن " أي: باقيهن.
ويدل على أن " سائر " من صيغ العموم ما يلي:
الدليل الأول: استعمال فصحاء العرب لها على أنها تفيد العموم
كقول أبي العلاء المعري:
أشرب العالمون حبك طبعا ... فهو فرض في سائر الأديان
وقال:
فظن بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن على سر فؤادا
الدليل الثاني: صحة الاستثناء، وقد ورد ذلك في قول ذي الرمة:
معرسا في بياض الصبح وقعته ... وسائر السير إلا ذاك منجذب.
فسائر هنا بمعنى: جميع، بدليل أنه استثني منه.
(4/1506)
 
 
المطلب السابع الجمع المنكر هل يفيد العموم إذا لم يقع في سياق النفي؟
لقد اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يفيد العموم، وهو مذهب أكثر العلماء،
وهو الحق عندي؛ لأن الجمع المنكر صالح لكل مرتبة من مراتب
الجماعة التي تبتدي من الثلاثة إلى العشرة، فيصح أن تقول:
"رجال ثلاثة وأربعة وخمسة"، وهذا كله جائز، لكن لا تشير بذلك
إلى أقل من ثلاثة، إذن الثلاثة لا بد منها، فثبت أنها تفيد الثلاثة
فقط؛ لأنه أقل الجمع، ولا يحمل على ما زاد عليه إلا بدليل.
المذهب الثاني: أنه يفيد العموم.
وهو مذهب الجبائي.
دليل هذا المذهب:
أن المرتبة المستغرقة لهذه المراتب إحدى مراتب الجمع المنكر،
فيحمل عليها؛ لأنه أحوط، فإن ما عداها داخل فيها، أما هي فلا
تدخل في غيرها، وما دام الجمع المنكر يصح حمله على المرتبة
المستغرقة لجميع المراتب كان عاما؛ لأنه يصدق عليه تعريف العام،
وهو: أنه لفظ استغرق جميع ما يصلح له.
جوابه:
لا نسلم أن الأحوط هو حمل الجمع المنكر على المرتبة المستغرقة،
(4/1507)
 
 
بل هذا ممنوع؛ لجواز أن يكون الأحوط هو حمله على أقل مراتبه،
خصوصاً إذا وقع الجمع في جانب الأمر؛ لأن ذلك فيه براءة الذمة
بخلاف حمله على المرتبة المستغرقة، فإن ذلك يكون شغل الذمة بما
لم يقم الدليل على شغلها به، والأصل أن الذمة بريئة من
التكاليف.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، وهو ظاهر، فلو قال السيد لعبده: " أكرم
علماء "، فإنه بناء على المذهب الأول: يكرم العبد ثلاثة فقط وتبرأ
ذمته، وبناء على المذهب الثاني: فإنه لا تبرأ ذمة العبد إلا بعد أن
يكرم جميع العلماء.
(4/1508)
 
 
المطلب الثامن هل نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواة
بينهما من كل الوجوه؟
فمثلاً إذا قلنا: " لا يستوي زيد وعمر "، فهل هذا يقتضي نفي
المساواة في جميع الوجوه: في الكرم والعلم، والخلق، وغير ذلك
أو هو: يقتضي نفي المساواة من بعض الوجوه - فقط - كالكرم،
أو نحو ذلك؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواة
بينهما من كل الوجوه التي يمكن نفيها عنهما.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الحق عندي؛ لأن هذا من قبيل النكرة في سياق النفي،
والنكرة في سياق النفي من صيغ العموم - كما سبق - وهي تفيد
العموم من جميع الوجوه.
المذهب الثاني: أن نفي المساواة بين الشيئين لا يقتضي نفي المساواة
بينهما من كل الوجوه، بل من بعضها - فقط -.
وهو مذهب بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، والبيضاوي،
وكثير من الحنفية.
دليل هذا انذهب:
أن نفي المساواة بين الشيئين يحتمل احتمالين هما:
(4/1509)
 
 
الاحتمال الأول: نفي المساواة بينهما من كل الوجوه.
الاحتمال الثاني: نفي المساواة بينهما من بعض الوجوه.
ومعلوم أن المقسم - وهو نفي المساواة - أعم من القسمين،
وبذلك يكون نفي المساواة أعم، وكل واحد من القسمين أخص،
والأعم لا يدل على الأخص من حيث خصوصه، فلا يكون نفي
المساواة عاماً في نفيها من كل الوجوه.
جوابه:
نسلم أن الأعم لا يدل على الأخص في جانب الإثبات؛ لأن
ثبوت الأعم لا يعتبر ثبوتاً للأخص، فمثلاً: لو قال شخص:
"رأيت حيواناً " لا يدل على أنه رأى إنسانا.
أما في جانب النفي فلا نسلم ما ذكرتموه، فإن الأعم يدل على
الأخص، لأن المراد بالنفي هو: نفي الماهية، والماهية لا تنتفي إلا
بانتفاء جميع أفرادها، فلو بقي فرد من أفرادها لتحققت الماهية فيه،
وحينئذٍ لايتحقق ما قصد من اللفظ.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، حيث إنه أثر في بعض الفروع، ومنها:
إذا قتل المسلمُ الكافر الذمي فهل يقتل المسلم به؟
اختلف في ذلك على قولين -:
القول الأول: إن المسلم لا يقتل بالكافر الذمي؛ لقوله تعالى:
(لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) ، ونفي الاستواء
يقتضي نفيه من جميع الوجوه، فلو قتل المسلم بالكافر: لحصل
(4/1510)
 
 
بينهما استواء في القصاص، والذمي غير مساو للمسلم، بل هو أقل
منه في العصمة.
القول الثاني: أن المسلم يقتل بالكافر الذمي، واستدلوا بآثار،
منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلما بذمي وقال:
" أنا أحق من وفى بذمته ".
ولما قيل لهم: إن هذا ينافي نص الآية التي نفت المساواة بينهما،
وهذا النفي عام للدنيا والآخرة.
قالوا: إن المراد بنفي المساواة في الآية، هو: نفي المساواة من
وجه واحد وهو: نفيها في الفوز بالجنة بدليل قوله:
(أصحاب الجنة هم الفائزون) .
فعند أصحاب القول الثاني: إن المساواة متحققة بين المسلم
والكافر الذمي في الدنيا، فالذمي دمه معصوم كالمسلم، فمن قتله
قتل به، ولو كان مسلما.
(4/1511)
 
 
المطلب التاسع الفعل المتعدي إلى مفعول هل له عموم
بالنسبة إلى مفعولاته أو لا؟
المسألة مفروضة فيما إذا كان الفعل متعديا، ولم يذكر مفعوله،
ووقع الفعل في سياق النفي كقوله: " والله لا آكل "، أو وقع في
سياق الشرط كقوله: " إن أكلت فأنتِ طالق "، فهل يكون هذا
عاما في جميع المأكولات أو لا؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يكون عاماً في جميع المأكولات، وإذا كان
كذلك فإنه يقبل التخصيص؛ حيث إنه: إن نوى المتكلم مأكولاً
معيناً، فإنه لا يحنث بأكل غيره.
وهذا مذهب جمهور العلماء وهو الحق، للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن الفعل من باب النكرة، والنكرة إذا وقعت في
سياق النفي فإنها تعم، كذلك الفعل إذا وقع في سياق الشرط فإنه
يعم، وقد سبق أنهما - أي: أن النكرة في سياق النفي،
والشروط - من صيغ العموم، إذن الفعل في سياق النفي، والشرط
عام، ومتى ثبت عمومه فإنه يقبل التخصيص.
الدليل الثاني: أن الفعل المنفي في قوله: " والله لا آكل " يقصد
منه نفي الماهية، والماهية - كما قلنا سابقاً - لا تنتفي إلا بانتفاء
جميع أفرادها، حيث إنه لو بقي فرد لتحققت الماهية فيه، فيكون
اللفظ - على هذا - عام، والعام يقبل التخصيص.
(4/1512)
 
 
المذهب الثاني: أنه لا يكون عاما في جميع المأكولات، وإذا كان
كذلك فإنه لا يقبل التخصيص، وهو مذهب كثير من الحنفية.
دليل هذا المذهب:
قياس الفعل المتعدي في مفعوله على الزمان والمكان، بيان ذلك:
أنه لو عم الفعل المتعدي في مفعوله: للزم من ذلك: أن يعم
كذلك في الزمان والمكان؛ قياساً على ذلك، والجامع: أن كلًّا من
هذه الأمور يعتبر لازماً من لوازم الفعل، فالفعل المتعدي لا يتحقق
إلا بمفعول، وهو كذلك لا يتحقق إلا في زمان ومكان، لكن الفعل
المتعدىِ لا يعم بالنسبة للزمان، ولا المكان، فلذلك لا يقبل
التخصيص فيها، فكذلك ما نحن فيه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ عدم عموم الفعل في الزمان والمكان؛
بل هو عام فيهما، وإذا كان كذلك فإنه يقبل التخصيص، فمن قال
لزوجته: " إن كلمت زيداً فأنت طالق "، ثم قال: " قصدت
التكليم شهراً "، فإنه يقبل منه ذلك، ونقل هذا عن الإمام الشافعي
وهذا صريح في عموم الزمان وقبوله التخصيص، والمكان مثله.
الجواب الثاني: أن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق،
ووجه الفرق: أن ذكر الفعل المتعدي يعتبر ذكراً للمفعول به، فكأنه
موجود في اللفظ، فإذا قال: " والله لا آكل "، فإن الأكل قد ذكر
في اللفظ، فيوصف بالعموم، ويرد عليه التخصيص، أما ذكر
الفعل فلا يعتبر ذكراً لزمانه ولا لمكانه، فلا يكون كل منهما مذكوراً
في اللفظ، فلا يوصفان بالعموم، ولذا لا يقبل التخصيص.
-
(4/1513)
 
 
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، قد أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها:
1 - لو قال: " والله لا أضرب " ونوى الضرب بالعصا مثلاً،
فإنه لا يحنث بالضرب بالسوط أو غيره؛ لأن كلامه عام وخصصه
بالنية، وهذا بناء على المذهب الأول.
أما بناء على المذهب الثاني، فإنه يحنث بالضرب بأي آلة؛ لأن
كلامه لا يعم؛ لذلك لا تقبل التخصيص.
2 - لو قال: " إن أكلت فأنت طالق "، ونوى أكلاً معينا
كالتفاح، فإنها لا تطلق إذا أكلت البرتقال، أو غير التفاح؛ لأن
كلامه عام، وخصصه بالنية؛ لأن العام يقبل التخصيص، هذا بناء
على المذهب الأول.
أما على المذهب الثاني: فإنها تطلق باكل أي أكل؛ لأن كلامه لا
يعم، لذلك لا يقبل التخصيص.
(4/1514)
 
 
المطلب العاشر دلالة العام هل هي ظثية أو قطعية؟
لقد قلنا: إن للعموم صيغاً مستعملة فيه تدل عليه، وهي تلك
الصيغ التي ذكرناها، لكن هل إفادتها للعموم ظنية، أو قطعية؛
أي: هل تلك الألفاظ والصيغ تدل على العموم مع احتمال أن
المقصود بها الخصوص، أو أنها تدل على العموم مع عدم احتمال
الخصوص؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن دلالة العام ظنية، أي: أن تلك الصيغ
والألفاظ تدل على العموم والخصوص، لكن دلالتها على العموم
أرجح من دلالتها على الخصوص.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن هذه الصيغ
تستعمل للعموم كما سبق الاستدلال عليه - ومع ذلك فقد كثر
إطلاقها وإرادة الخصوص كثرة لا تحصى حتى اشتهر قولهم: " ما من
عام إلا وقد خصِّص " إلا قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ،
واستعمال تلك الألفاظ والصيغ في الخصوص كثيراً تجعل دلالتها على
العموم ظنية؛ لأن احتمال إرادة الخصوص بها وارد وثابت بدليل،
وهو ما سبق.
المذهب الثاني: أن دلالة العام قطعية، أي: أن تلك الصيغ
والألفاظ تدل على العموم دلالة قطعية، فلا يحتمل الخصوص.
وهو مذهب أكثر. الحنفية.
(4/1515)
 
 
دليل هذا المذهب:
أن تلك الصيغ وضعت للعموم، دون الخصوص، فلا يفهم منها
عند إطلاقها إلا ما وضعت له - وهو العموم -، واحتمال
الخصوص منها احتمال عقلي مجرد عن الدليل، والاحتمال المجرد
عن الدليل لا ينافي قطعية الدلالة.
جوابه:
لا نسلم أن احتمال الخصوص منها احتمال عقلي مجرد عن الدليل
بل إرادة الخصوص منها هو احتمال ناشى عن دليل - وهو: كثرة
استعمالها في الخصوص حتى قيل: ما من عام إلا وقد خصص،
والاحتمال الناشئ عن دليل ينافي القطعية بالمدلول.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، له أثره؛ حيث إنه بناء على المذهب الأول:
فإن القياس وخبر الواحد يقويان على تخصيص العام؛ لأن دلالته
عند هؤلاء ظنية، ودلالة خبر الواحد والقياس ظنية، والظني يقوى
على تخصيص الظني.
أما بناء على المذهب الثاني: فإن القياس وخبر الواحد لا يقويان
على تخصيص العام؛ لأن دلالته عند هؤلاء قطعية، ودلالة القياس
وخبر الواحد ظنية، والظني لا يقوى على تخصيص القطعي.
وانبنى على ذلك بعض الفروع التي سيأتي ذكرها في المخصصات
إن شاء اللَّه.
(4/1516)
 
 
المطلب الحادي عشر أقل الجمع ما هو؟
لتحرير محل النزاع في هذه المسألة لا بد أن أذكر ما يلي:
أولاً: ليس محل النزاع في هذه المسألة في معنى لفظ " الجمع "
المركب من " ج، م، ع "، وذلك لأن موضوع هذا اللفظ يقتضي
ضم شيء إلى شيء، وهذا منطبق على الاثنين والثلاثة، وما زاد
بلا خلاف.
ثانيا: وليس محل لخلاف في لفظ " الجماعة " في غير صلاة،
فإن أقله ثلاثة بلا خلاف.
ثالثاً: وليس محل الخلاف في تعبير الاثنين عن نفسيهما، أو
الواحد عن نفسه بضمير الجمع، سواء كان ضمير المتكلم متصلاً
كقوله: "فعلنا"، أو منفصلاً كقوله: " نحن ".
رابعاً: وليس محل الخاث ف مدلول مثل قوله تعالى:
(فقد صغت قلوبكما) ، وقول اسقائل: " ضربت رؤوس الرجلين "،
و"وطئت بطونهما "، وذلك لأن التعبير عن عضوين من جسدين
بلفظ الجمع يقصد منه التخفيف، فإنه لو قيل: " قلباكما " لثقل
اجتماع ما يدل على التثنية فيما هو كالكلمة الواحدة مرتين.
خامسا: وليس محل التخفيف هو الجمع المعرف بـ " أل " كالرجال،
فإنه للاستغراق.
إذن ما هو محل النزاع؟
(4/1517)
 
 
محل النزاع هو: جمع القلة المنكر، وهي التي تكون على وزن
أربعة أمور هي كما يلي:
1 - أفعلة كأرغفة
2 - أفعل كأرجل.
3 - أفعال كأثواب
4 - فِعْلَة كصبية.
وكذلك جمع المذكر السالم المنكر كمسلمين، وجمع المؤنث
السالم كـ " مسلمات ".
وكذلك جمع الكثرة المنكر كرجال.
وكذلك " واو الجمع " مثل الواو في قوله: " خرجوا ".
فاختلف العلماء في أقل الجمع هل هو ثلاثة أو اثنان أو واحد على
مذاهب هي كما يلي:
المذهب الأول: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ويطلق على الاثنين
والواحد مجازاً.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: ما روي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أنه
دخل على عثمان - رضي اللَّه عنه - فقال له: إن الأخوين لا يردان
الأم إلى السدس، إنما قال تعالى: (فإن كان له أخوة فلأمه السدس) ، والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة، فقال عثمان:
"لا أستطيع أن أنقض أمراً كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في
الأمصار ".
وجه الدلاله: أن ابن عباس - وهو من أرباب اللسان وأهل اللغة
والفصاحة والبلاغة، وترجمان القرآن وحبر الأمة - قد بيَّن أن أقل
الجمع ثلاثة في اللغة، وعثمان - وهو أيضاً من أهل اللسان واللغة -
(4/1518)
 
 
قد وافقه على ذلك، فلم ينكر عليه ذلك، وإنما اعتذر عنه بأنه ترك
مقتضى اللسان في هذه المسألة الفرعية - وهي مسألة حجب الأم من
الثلث إلى السدس - بسبب وجود قرينة صرفت اللفظ من كونه
لثلاثة إلى كونه يحمل على اثنين، وهذه القرينة والدليل هو:
إجماع من قبله على خلافه، فلما عدل عن ذلك بالإجماع دلَّ على
صحة ما قاله ابن عباس من أن الأخوين ليسا بأخوة في لغة العرب،
فدل على أن الجمع لا يطلق على الاثنين حقيقة، فدل على أن أقل
الجمع ثلاثة حقيقة.
ما اعترض به على هذا الدليل:
الاعتراض الأول: أن هذا الأثو ضعيف من حيث سنده؛ لأنه من
رواية شعبة بن دينار، وهذا قد تكلم فيه أئمة الحديث، والحديث
الضعيف لا يمكن أن يستدل به على إثبات قاعدة أصولية ككون أقل
الجمع ثلاثة.
جوابه:
لا نسلم ضعف هذا الأثر؛ حيث إن الحاكم قد صحَّحه في
"المستدرك "، فقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "،
وقد وافقه الذهبي على ذلك في " تعليقه على المستدرك "، ونقل
الذهبي في " ميزان الاعتدال " أن أحمد بن حنبل قال في شعبة هذا:
إنه ما به بأس.
الاعتراض الثاني: على فرض صحة هذا الأثر، فإنه معارض بما
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "، والحاكم في " المستدرك " عن
خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه كان يقول. " الإخوة في كلام
العرب أخوان فصاعداً ".
(4/1519)
 
 
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن هذا الأثر المنقول عن زيد بن ثابت قد ورد في
سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهذا الرجل قد تكلم فيه بعض
أئمة الحديث، فقال الإمام أحمد بن حنبل: " إنه مضطرب الحديث "
وقال يحيى بن معين: " ابن أبي الزناد لا يحتج بحديثه "، وهذا
الكلام في هذا الرجل قد ضعَّف من هذا الأثر مما جعله لا يقوى
على معارضة الأثر الوارد عن ابن عباس وعثمان.
الجواب الثاني: على فرض صحة ما نقل عن زيد ومعارضته لما
نقل عن ابن عباس وعثمان، فإنا نرجح الأثر المروي عن عثمان وابن
عباس؛ وذلك نظراً لكثرة وعظم مرتبة ابن عباس وعثمان - رضي
الله عن الجميع - وعلمهما الواسع في الشريعة واللغة.
الجواب الثالث: سلمنا صحة نسبة الأثر إلى زيد: فإنه يمكن
الجمع بينه وبين الأثر المروي عن ابن عباس وعثمان بطرق، أحسنها:
أن الأثر المروي عن عثمان وابن عباس يحمل على إطلاق اللغة
بصورة عامة، فإنها تقتضي أن أقل الجمع ثلاثة في جميع أبواب
الفقه، أما كلام زيد فإنه يحمل على أن الجمع يطلق علي الاثنين في
هذه المسألة فقط، وهي: " حجب الأم من الثلث إلى السدس
بالأخوين "، وهناك أجوبة أخرى وطرق للجمع قد ذكرتها في كتابي
" أقل الجمع عند الأصوليين "، فارجع إليه.
الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"الراكب شيطان، والراكبان شيطانان والثلاثة ركب ".
وجه الدلالة: أن - صلى الله عليه وسلم - قد فصل بين التثنية والجمع، وجعل
(4/1520)
 
 
للاثنين اصطلاحاً خاصا دون الجمع، فعلم أن التثنية ليست بجمع
حقيقة.
الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"الشيطان يهم بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم ".
وجه الدلالة: نفس السابق.
الدليل الرابع: أن الثلاثة تنعت بالجمع، والجمع ينعت بالثلاثة
فيقال: " ثلاثة رجال "، و " رجال ثلاثة "، لكن التثنية لا تنعت
بالجمع، ولا ينعت الجمع بالتثنية، فلا يقال " اثنان رجال "،
ولا يقال: " رجال اثنان "، فلو كان الاثنان أقل الجمع: لجاز نعت
أحدهما بالآخر، لكن ذلك لا يجوز، فلا يكون الاثنان جمعا.
الدليل الخامس: أن العرب جعلت مراتب الأعداد ثلاثة أقسام:
" الواحد "، ثم " التثنية "، ثم " الجمع "، فقالوا: " رجل "،
و" رجلان "، و " رجال ".
فلو كان الجمع يطلق على الاثنين حقيقة: لكانت مراتب الأعداد
منحصرة في ضربين هما: " الواحد "، و " الجمع "، وهذا مما لا
يجوز؛ لأنه خلاف ما استقر عليه وضع لغة العرب.
الدليل السادس: أن أهل اللغة قد فرَّقوا بين التثنية والجمع في
الضمير المتصل، فقالوا في التثنية: " فعلا "، و " افعلا "، وقالوا
في الجمع: " فعلوا "، و " افعلوا "، فلو كان الجمع يطلق على
التثنية: لما فرقوا بينهما، ولقالوا لكل منهما: " فعلوا " أو " افعلوا"
ولكنهم لم يقولوا ذلك مما يدل على أن التثنية ليست بجمع، فينتج:
أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة.
الدليل السابع: أن أهل اللغة قد فرقوا بين التثنية والجمع في
(4/1521)
 
 
الضمير المنفصل، فقالوا في الجمع: " هم فعلوا "، وقالوا في
التثنية: " هما فعلا "، فلو كانت التثنية جمعا لما فرقوا بينهما في
ذلك، ولقالوا: " هم فعلوا " للجمع والتثنية.
الدليل الثامن: أن أهل اللغة قد فرَّقوا بين التثنية والجمع بالتأكيد،
فقالوا في الجمع: " جاء الزيدون أنفسهم "، وقالوا في التثنية:
"جاء الزيدان أنفسهما "، فلو كان الجمع يطلق على التثنية وأن الاثنين
أقل الجمع: لجاز تأكيد أحدهما بالآخر.
الدليل التاسع: أن ما فوق الاثنين هو المتبادر إلى الفهم من صيغة
الجمع، والتبادر إلى الفهم من علامات الحقيقة، بخلاف عدد
الاثنين، فإنه لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ الجمع، وهذا يدل
على، أن الجمع يكون حقيقة في الزائد على الاثنين، وهو: الثلاثة
فما فوقها، فيكون أقل الجمع ثلاثة.
المذهب الثاني: أن أقل الجمع اثنان حقيقة، ويطلق على الواحد
مجازاً.
وهو مذهب القاضي الباقلاني، والباجي، وابن الماجشون،
وداود الظاهري، وابنه محمد، وأبي إسحاق الإسفراييني، وهو
اختيار علي بن عيسى النحوي، ونفطويه، والخليل بن أحمد.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أطلق ضمير الجمع وهو الوارد
بقوله: " معكم "، والمراد: موسى وهارون - عليهما السلام -
(4/1522)
 
 
وهما اثنان، والمراد بالإطلاق الحقيقة، فلو لم يكن الاثنان جمعا لما
أطلق عليهما ضمير الجمع وأرجعه إليهما.
جوابه:
إن الضمير الوارد في قوله: (معكم) لم يرجع إلى اثنين - كما
زعمتم -، بل هو راجع إلى ثلاثة وهم: موسى، وهارون،
وفرعون، والمقصود بالمعية هنا: هي: معية العلم، أي: أن اللَّه لما
أمر موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون، فلما وصلوا إليه فهو معهم
بالعلم لما يقولون - أي: مع موسى وهارون والذي ذهبوا إليه،
وهو فرعون.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (عسى اللَّه أن يأتيني بهم جميعا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أطلق ضمير الجمع، وهو الوارد
في قوله: (بهم) ، وأرجعه إلى اثنين، وهما: " يوسف "
وشقيقه " بنيامين ".
فلو لم يكن الاثنان جمعا: لما جمع الضمير، ولقال: " بهما"،
ولكنه سبحانه لم يقل ذلك، بل قال: " بهم " مما يدل على أن
التثنية جمع، فيكون أقل الجمع اثنين.
جوابه:
إن الضمير في قوله: " بهم " لم يرجع إلى اثنين - كما زعمتم -
بل رجع إلى ثلاثة، وهم: " يوسف "، و " بنيامين "، وأخيهم
الأكبر: " شمعون " القائل: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) فيكون على وجهة.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ)
(4/1523)
 
 
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد استعمل لفظ " الجمع " في قوله:
(إِذْ تَسَوَّرُوا) في الاثنين وهما الملكان، وهما الخصمان، بدليل
قوله: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) إلى قوله: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) ، فلو لم يكن الاثنان
جمعا لما أرجع ضمير الجمع في (تَسَوَّرُوا) إليهما، فيكون أقل
الجمع اثنين.
جوابه:
إن الضمير في قوله: (تَسَوَّرُوا) لم يرجع إلى اثنين، بل
رجع إلى أكثر، حيث إنه يجوز أنه حضر مع جبريل وميكائيل
جماعة من الملائكة، ورد الضمير بلفظ الجمع إلى الجميع، فقال:
(إِذْ تَسَوَّرُوا) .
الدليل الرابع: قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
فأصلحوا بينهما) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد رد ضمير الجمع في قوله:
(اقتتلوا) إلى التثنية، وهما: (الطائفتان) ، فدل على أن التثنية
جمع، فيكون أقل الجمع اثنين.
جوابه:
إن هذه الآية لا تصلح للاستدلال بها على أن أقل الجمع اثنان؛
لأن المراد بالطائفة - هنا - الجمع، وليس المفرد، يؤيد ذلك سبب.
نزول هذه الآية، حيث قال سعيد بن جبير: إن الأوس والخزرج كان
بينهم على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قتال بالسيف والنعال ونحوه، فأنزل اللَّه هذه الآية فيهم، وقال مجاهد: تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية، وقيل في سبب نزولها غير ذلك، وكل ما ذكر
(4/1524)
 
 
من سبب يدل دلالة واضحة على أن المراد بالطائفة هنا هو جمع
وليس مفرداً.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد جمع الضمير في قوله:
(لِحُكْمِهِمْ) مع أن المراد به اثنان هما: " سليمان "، و " داود " مما
يدل على أن صيغة الجمع تتناول الاثنين حقيقة، فيكون أقل الجمع
اثنين.
جوابه:
إن ضمير الجمع الوارد في قوله: (لِحُكْمِهِمْ) لم يرجع إلى
اثنين، بل هو راجع إلى أربعة وهم: الحاكمان وهما: " داوود "،
و" سليمان "، والمحكوم له وهو صاحب الزرع، والمحكوم عليه
وهو صاحب الغنم.
اعتراض على هذا الجواب:
قال قائل - معترضا -: سلمنا أن الحكم يضاف إلى الحاكم،
لكن لا نُسَلِّمُ أن الحكم يضاف إلى المحكوم عليه أو له.
جوابه:
يجوز في لغة العرب نسبة الحكم إلى المحكوم عليه أوله عن طريق
المجاز، يقال للذي له قضية في محكمة: " هل صدر حكمه؟ "
فمثل هذا الإطلاق يجوز لغة، ولا مانع منه، وهو محكوم له أو
عليه، والقرآن نزل بلغة العرب.
وهناك ستة أجوبة عن الاستدلال بهذه الآية قد ذكرتها في كتابي:
(4/1525)
 
 
" أقل الجمع عند الأصوليين وأثر الاختلاف فيه "، فارجع إليه إن
شئت.
الدليل السادس: قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد عبر عن الإخوة بالأخوين،
وهذا يدل على أن التثنية جمع، فلو لم تكن التثنية جمعا لما قال
ذلك، فيدل على أن أقل الجمع اثنان.
جوابه:
المراد بلفظ " الأخوين " هنا: الطائفتان، أو القبليتان، أو
الجماعتان؛ لأن اسم الأخوين يقع على ذلك، قال الشاعر:
فألحق بحلفك في قضاعة إنما ... قيس عليك وخندق إخوان
فسمى القبيلتين أخوين.
الدليل السابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"الاثنان فما فوقهما جماعة ".
وجه الدلالة: أن هذا نص في أن أقل الجمع اثنان؛ حيث إن
الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الاثنين جماعة، والرسول - عز وجل - من أهل اللغة، بل أبلغهم وأفصحهم، فلو نقل هذا عن واحد من الأعراب لكان حُجة، فعن صاحب الشرع أوْلى.
جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا الحديث ضعيف؛ حيث روي هذا الحديث
من طرق كثيرة كلها ضعيفة، وقد بيَّنت هذه الطرق في كتابي " أقل
الجمع عند الأصوليين "، وإليك بعضا من ذلك:
أن في سنده: " الربيع بن بدر " قال عنه النسائي: " متروك
(4/1526)
 
 
الحديث "، وقال يحى بن معين: " ليس بشيء "، وقال ابن أبي
حاتم الرازي: " الربيع بن بدر لا يشتغل به، ولا بروايته، فإنه
ضعيف الحديث "، وقال ابن كثير في " تحفة الطالب ": " الربيع
اتفق أئمة الجرح والتعديل على جرحه ".
وقيل غير ذلك.
وإذا كان كذلك فلا يصلح للاستدلال به على إثبات قاعدة أصولية
وهي: أن أقل الجمع اثنان.
الجواب الثاني: على فرض صحة هذا الحديث فإنه لا يدل على أن
أقل الجمع اثنان مطلقا، بل يحمل على أن المراد حصول فضيلة
الصلاة جماعة من حيث الحكم الشرعي، لا من حيث اللفظ
اللغوي؛ لأن الشارع إنما يبين الأحكام التي بعث لبيانها لا اللغات
التي عرفت من غيره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لبيان الشرعيات.
وبهذا يكون هذا الحديث - إن صح - دليلاً لنا، لا لهم؛ حيث
إنه لو كان الاثنان جمعا حقيقة: لما احتاج إلى البيان؛ لأنه يعرف
ذلك من اللغة ما يعرفه.
المذهب الثالث: أن أقل الجمع واحد حقيقة.
وهو مذهب أبي حامد الإسفراييني، ونسبه بعضهم إلى إمام
الحرمين، ولكن هذه النسبة ليست صحيحة كما بينت ذلك في كتابي
" أقل الجمع عند الأصوليين ".
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .
(4/1527)
 
 
وجه الدلالة: أنه سبحانه وحده منزل الذكر، فإذا ثبتت العبارة
بلفظ الجمع عن الواحد لم يستنكر حمل معلوم المخصص على
الواحد حقيقة.
جوابه:
إن هذا ليس في محل النزاع؛ حيث قلنا: إن الواحد الذي يُعبِّر
عن نفسه بلفظ الجمع، فإنه تعبير صحيح، لكن جاء عن طريق
المجاز.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) .
وجه الدلالة: هو نفسه ما سبق.
جوابه:
هو نفس الجواب السابق.
الدليل الثالث: أن إطلاق لفظ الجمع على الواحد قد ورد في
كلام العرب، فمثلاً: إذا برزت امرأة لرجل واحد حَسُنَ من زوجها
أن يقول - في توبيخها -: " أتتبرجين للرجال يا لكعاء "، وهو لم
ير إلا رجلاً واحداً.
جوابه:
إنه لا يعني بلفظ " الرجال " رجلاً واحداً، بل استعمل لفظ
الجمع، وهو " الرجال " بدلاً من لفظ " الواحد "، لأن غرض
الزوج لم يتعلق بذلك الرجل الواحد، بل تعلق غرضه بجنس
الرجال لظنه أنها ما تبرجت لواحد إلا وقد تبرجت لغيره، فتبرجها
لواحد سبب للإطلاق.
(4/1528)
 
 
المذهب الرابع: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ويطلق على الاثنين
مجازاً، ولا يطلق على الواحهد لا حقيقة ولا مجازاً.
دليل هذا المذهب:
أولاً: استدل أصحاب هذا المذهب على أن أقل الجمع ثلاثة
جقيقة بأدلة أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور -.
ثانيا: واستدلوا على أنه يطلق على الاثنين مجازاً بما استدل به
أصحات المذهب الأول؛ حيث إنهم يطلقون الجمع على الثلاثة،
ولا يمنعون من إطلاقه على الاثنين مجازاً.
ثالثاً: استدلوا على أن الجمع لا يطلق على الواحد مجازاً بقولهم:
إن المجاز لا بد فيه من قرينة وعلاقة، ولا علاقة بين المعنى الحقيقي
- وهو الثلاثة - والمعنى المجازي - وهو الواحد - فلا يصح إطلاق
الجمع عليه مجازاً.
جوابه:
إن الجمع يطلق على الواحد مجازاً، كما في الواحد ينزل نفسه
منزلة الجمع كقوله: " نحن فعلنا "، وهذا معروف أنه مجاز - كما
قلنا ذلك في المذهب الثالث -.
والعلاقة بين المعنى الحقيقي وهو: الجمع، والمعنى المجازي وهو:
الواحد موجودة، وهي اليتعدد الصادق بالتعدد الواقعي كما في
الجمع، والتعدد التقديري كما في الواحد الذي يقوم بما تقوم به
الجماعة.
المذهب الخامس: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ولا يطلق على
الاثنين حقيقة ولا مجازاً.
(4/1529)
 
 
أدلة هذا المذهب:
أولاً: استدل أصحاب هذا المذهب على أن أقل الجمع ثلاثة
حقيقة بما استدل به أصحاب المذهب الأول، وهم الجمهور.
ثانياً: واستدلوا على أن الجمع لا يطلق على الاثنين لا حقيقة،
ولا مجازاً بالأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لا علاقة بين الاثنين والجمع، وعند فقد العلاقة
يمتنع المجاز، وذلك لأن المجاز لا بد فيه من العلاقة.
جوابه:
أن الجمع يطلق على الاثنين بطريق المجاز، والعلاقة بين الاثنين
والجمع موجودة وهي: التعدد الواقعي؛ حيث إن الاثنين فيهما
تعدد، والجمع فيه تعدد كذلك.
الدليل الثاني: أنه لو صح إطلاق الجمع على الاثنين، ولو
مجازاً: لصح نعت التثنية بالجمع وبالعكس، لكن لا يجوز أن
يقال: " جاءني رجلان عالمون "، ولا " جاء رجال عالمان ".
جوابه:
إن العرب كانت تراعي صورة اللفظ محافظة للتماثل بين الصفة
والموصوف، فلهذا لم يجوزوا نعت المثنى بالجمع ولا العكس.
وقد التزم بعضهم النعت مع الاختلاف مجازاً.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا معنوي، قد أثر في بعض المسائل الفقهية، ومنها:
1 - لو حلف وقال: " والله لا أكلم بني آدم ".
(4/1530)
 
 
فإنه لا يحنث إلا إذا كلم ثلاثة؛ بناء على المذهب الأول وهو:
أن أقل الجمع ثلاثة.
وقيل: يحنث إذا كلم اثنين، بناء على المذهب الثاني وهو: أن
أقل الجمع اثنان.
ويلزم على المذهب الثالث - وهو: أن أقل الجمع واحد: أنه
يحنث إذا كلم واحداً.
2 - الصلاة على الميت.
قيل: لا بد أن يصلي عليه ثلاثة؛ بناء على أن أقل الجمع ثلاثة.
وقيل: يكفي أن يصلي عليه اثنان؛ بناء على أن أقل الجمع اثنان.
وقيل: يكفي أن يصلي عليه واحد؛ بناء على أن أقل الجمع واحد.
3 - لو قال الزوج: " إن تزوجت نساء فأمرأتى طالق ": لم
تطلق إلا إذا تزوج ثلاث نسوة؛ بناء على أن أقل الجمع ثلاثة.
ويلزم على المذهب الثاني - وهو: أن أقل الجمع اثنان -: إن
امرأته تطلق إذا تزوج امرأتين.
ويلزم على المذهب الثالث - وهو؛ أن أقل الجمع واحد -: إن
امرأته تطلق إذا تزوج امرأة واحدة.
4 - إذا نذر صوم أيام - ولم يبين مقصده - فإنه يلزمه ثلاثة أيام؛
بناء على أن أقل الجمع ثلاثة.
ويلزمه يومان؛ بناء على أن أقل الجمع اثنان.
ويلزمه يوم واحد؛ بناء على أن أقل الجمع واحد.
(4/1531)
 
 
5 - لو قال لزوجته: " أنت طالق طلقات " - ولم يبين مقصده -
فإنه يلزمه ثلاث طلقات، بناء على أن أقل الجمع ثلاثة.
ويلزمه طلقتان، بناء على أن أقل الجمع اثنان.
ويلزمه طلقة واحدة؛ بناء على أن أقل الجمع واحد.
وقد أفردت هذه المسألة بمصنف مستقل - لما رأيت أهميتها لطالب
العلم - سميته: " أقل الجمع عند الأصوليين وأثر الاختلاف فيه " قد
توسعت بذكر المذاهب، وأدلتهم، والمناقشة، وأثر الخلاف الفقهي
والأصولي، فارجع إليه إن شئت فهو مطبوع بمجلد.
(4/1532)
 
 
المطلب الثاني عشر هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟
إذا ورد لفظ عام على سبب خاص - واللفظ مستقل بنفسه دون
سببه - فهل يسقط السبب عموم اللفظ أو لا؟
فمثلاً إذا حدثت حادثة فوردت في حكمها آية أو حديث بلفظ عام
من الألفاظ، والصيغ السابقة الذكر، فهل يكون هذا الحكم خاصا،
نظراً إلى سببه، أو عاماً نظراً إلى لفظه؛ أي: إن كان الجواب عاما
والسؤال خاصا، فهل خصوص السبب يخصص العام، أو لا؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
أي: أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص لا يختص به، بل
يكون عاماً لمن تسبَّب في نزول الحكم ولغيره.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما يلي من
الأدلة:
الدليل الأول: أن الحجة في لفظ الشارع:
فإن أورد الشارع الحكم وهو مشتمل على صيغة من صيغ العموم
- السابقة الذكر -: جعلنا الحكم عاماً سواء نزل ذلك الحكم
بسبب، أو بغير سبب، وإن أورد الشارع الحكم بلفظ خاص:
خصصنا ذلك الحكم.
(4/1533)
 
 
فالمعتبر هو اللفظ، وقد أجمع العلماء على ذلك في بعض الصور.
فمثلاً لو كان لرجل أربع نساء فقلن له: " طلفنا جميعاً "، فقال
هو: فلانة طالق، فإنه لا تطلق إلا واحدة، وهي المعينة، فلم
ينظر إلى السؤال العام، بل نظرنا إلى لفظ الزوج.
كذلك لو قالت واحدة منهن: " طلقني "، فقال: " كل نسائي
طوالق "، فهنا: جميع نسائه يطلقن؛ حيث نظرنا إلى لفظ الزوج،
ولم ينظر إلى سبب هذا القول.
الدليل الثاني: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على تعميم
الأحكام الواردة على أسباب خاصة، بيان ذلك:
أن أكثر العمومات - قد وردت على أسباب خاصة، فمثلاً:
آيات الظهار نزلت في شأن أوس بن الصامت وزوجته، وآيات
اللعان نزلت في شأن عويمر العجلاني وزوجته، وقيل: إنها نزلت
في هلال بن أمية وزوجته، وآية السرقة قد نزلت في سرقة رداء
صفوان بن أمية، وآية القذف نزلت في شأن عائشة - رضي اللَّه عن
الجميع - والأمثلة كثيرة.
والصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد عمموا أحكام هذه الآيات من
غير نكير، فدل على أن الأحكام لا تخصص بأسبابها، ولو كانت
مخصصة بأسبابها: لكان إجماع الصحابة على التعميم خلاف
الدليل، وهذا لم يقل به أحد.
الدليل الثالث: أن المقتضي للعمل بالعموم موجود، وهو اللفظ
العام الذي يشمل السبب وغيره وضعا، والمانع له غير موجود؛
حيث لا يوجد بين السبب والعام تنافي؛ نظراً لإمكان العمل بالعام
(4/1534)
 
 
في السبب وفي غيره، ومتى وجد المقتضي وانتفى المانع وجب العمل
بالعام على عمومه؛ لوجود المقتضي السالم عن المعارض.
المذهب الثاني: أن العبرة بخصوص السبب، لا بعموم اللفظ.
أي: أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص يختص به.
أي: أن خصوص السبب يخصص العام، ويجعله مراداً به هذا
السبب بخصوصه، فلا يعمل بالعام على عمومه.
وهو مذهب الإمام مالك في رواية عنه، واختاره بعض الشافعية
كالمزني، والدقاق، والقفال، وحكي عن الإمام الشافعي، وحكي
عن أبي ثور.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه لو كان الخطاب الوارد على سبب عاما: لجاز
إخراج السبب عن العموم بالاجتهاد، كما في غيره من الصور
الداخلة تحت العموم ضرورة تساوي نسبة العموم إلى الكل، وهو
خلاف الإجماع.
فمثلاً: نزلت آية اللعان بسبب قصة عويمر العجلاني، وهي بلفظ
عام، فإن حكم اللعان يختص بعويمر؛ لأنه لو لم يختص حكم
اللعان به - وهو سبب نزوله - لجاز إخراج السبب - أي: إخراج
عويمر - بالتخصيص كأي فرد من أفراد العموم، ولكنه لا يجوز
إخراجه؛ لأن الآيات نزلت بشأنه أصلاً، وما دام أنه لا يخرج بأي
حال، بينما غيره من الأفراد يجوز إخراجه، فثبت أن اللفظ مختص
بسببه وهو عويمر.
جوابه:
إنا لما قلنا: إن الحكم الوارد بلفظ عام على سبب خاص يجب
(4/1535)
 
 
تعميمه لما ورد بشأنه ولغيره، فإن هذا لا يلزم منه: جواز إخراج
السبب - وهو ما ورد الحكم بشأنه كعويمر في آيات اللعان - وذلك
لأنه لا خلاف في أن كلام الشارع في آيات اللعان - مثلاً - هو بيان
لحكم ما وقع لعويمر، ولكن هل هذه الآيات الواردة في اللعان بيان
لعويمر خاصة، أو بيان له ولغيره مما شابه ذلك؛ هذا هو محل
النزاع.
فعندنا: أن اللفظ الوارد في حكم اللعان يعم عويمر ويعم غيره،
لكن الفرق بينه وبين غيره: أن اللفظ تناوله تناولاً قطعيا، وتناول
غيره تناولاً ظنيا، لذلك قلنا - هناك -: إن دلالة العام ظنية، وما
دام أن الخطاب في حق عويمر قطعي، فلا يمكن أن يخصص أو
يخرج بحال، أما غيره فيجوز خصيصه بدليل معتبر.
الدليل الثاني: أن الراوي حرص على نقل سبب نزول الحكم ولا
فائدة من حرصه على نقل السبب إلا لأن الحكم مختص به، فلو كان
الحكم عاما: لكان نقل السبب وعدم نقله سواء في عدم الفائدة.
جوابه:
لا نسلم ما قلتموه، بل إن لنقل الراوي للسبب فائدتان هما:
الفائدة الأولى: امتناع إخراج السبب - وهو عويمر مثلاً - من
آيات اللعان بحكم التخصيص بالاجتهاد، وذلك لأنه تناوله قطعا
- فذكره للسبب ينبه على ذلك - وقد سبق بيان ذلك.
الفائدة الثانية: معرفة أسباب نزول الآيات، وورود الأحاديث،
وهذا يتضمن فوائد، منها:
أولاً: معرفة سير الصحابة وما جرى بينهم، لنقتدي بالحسن من
(4/1536)
 
 
الوقائع التي وقعت في عصرهم، والتأسي بصبرهم على ما ألم بهم
من مصائب.
ثانياً: معرفة معاني النصوص الشرعية من الكتاب والسنَّة، فإن
العارف بسبب نزول هذه الآية أعلم بمراد الشارع من غير العارف.
ثالثا: معرفة مقاصد الشارع في كل آية أو حديث.
رابعا: التوسع في علم الشريعة؛ حيث إن العالم بأسباب نزول
الآيات أقدر على استنباط الأحكام منها من غيره.
الدليل الثالث: أنه لو لم يكن للسبب تأثير في الحكم لما أخر
الشارع بيان الحكم إلى حالة وقوع تلك الواقعة.
أي: أن الشارع قد أنزل حكم الظهار - مثلاً - بعد وقوع حادثة
أوس بن الصامت وزوجته مباشرة، وهذا يدل على أن حكم الظهار
مختص بأوس وامرأته؛ إذ لو كان الحكم عاماً لأوس وزوجته
وغيرهما لأنزل حكم الظهار قبل وقوع تلك الواقعة، أو أخره عن
وقوع الحادثة، ولكن لم يفعل ذلك، فثبت أن نزول الحكم بهذا
الوقت بالذات يدل على اختصاصه بالحادثة التي وقعت فيه.
جوابه:
يجاب عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن قولكم - في هذا الدليل - تحكم على الله
تعالى، وليس لنا التحكم عليه، وسؤاله: لمَ فعل كذا؛ ولِمَ لم
يفعل كذا؛ وما فائدة نزول هذا في هذا الوقتَ؛ إلى آخر الأسئلة
التي لو سمح بمثلها لأدى إلى الكفر والظلال، فلا يجوز طلب
الفائدة لأفعال اللَّه تعالى، فهو معلوم أنه لا يفعل شيئاً إلا وفيه فوائد
(4/1537)
 
 
ومصالح: فقد يدركها بعض العلماء، أو يدرك بعضها، وقد لا
يدركها فتكون تعبدية، فله سبحانه أن ينشئ التكليف في أي وقت
شاء؛ لعلمه سبحانه أن مصلحة العباد والبلاد تقتضي ذلك، قال
تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) .
الجواب الثاني: أن قولكم: " إنه ما أخر بيان الحكم إلى وقوع
الواقعة إلا لأن الحكم مختص بهذه الواقعة " يلزم منه: أن يختص
الرجم بماعز، واللعان بعويمر وزوجته، أو هلال وزوجته، والسرقة
بمن نزلت فيهم؛ لأن اللَّه أخر بيان تلك الأحكام إلى وقوع وقائعهم،
وذلك كله خلاف إجماع الصحابة، فيكون ظاهر البطلان.
الجواب الثالث: على فرض أن سؤالكم صحيح: فإنا نقول - في
الجواب عن ذلك -: إن اللَّه علم أن مصلحة العباد والبلاد تقتضي نزول
اَيات اللعان - مثلاً - في هذا الوقت، فأراد إيقاع واقعة لينزل الحكم
بشأنها، فأحدث واقعة عويمر مع زوجته، فأنزل آيات اللعان،
لتكون حكما له ولغيره ممن شابهه.
اعتراض على ذلك:
قال قائل - معترضا - لِمَ أحدث حادثة لأجل إنزال حكم اللعان،
ولِمَ لم ينزله ابتداء كغيره؟
جوابه:
إن اللَّه أحدث بعض الحوادث، وأنزل بشأنها أحكاما شرعية،
لأمرين:
أولهما: أن إنزال الحكم والجواب بعد حدوث الحادثة أوقع في
النفوس من إنزال الحكم ابتداء.
(4/1538)
 
 
ثانيهما: ليعلم الناس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بشيء من عنده، بل إن كل ما جاء به من القرآن والسُّنَّة هو من عند اللَّه وحده، قال
تعالى: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) ، ولذلك
كان يتوقف عن جواب بعض الأسئلة حتى ينزل به وحي.
الدليل الرأبع: أن الحكم جواب، والواقعة والحادثة سؤال، ومن
شرط الجواب: أن يكون مطابقا للسؤال لا يزيد عنه ولا ينقص، فلو
كان الجواب عاماً والسؤال خاصا لم يكن الجواب مطابقا للسؤال،
والأصل المطابقة؛ لكون الزيادة عديمة التأثير فيما يتعلق به غرض
السائل.
جوابه:
إن أردتم بمطابقة الجواب للسؤال: الكشف عنه، وبيان حكمه،
وأن يكون متناولاً له: فهذا نسلمه لكم، وقد وجد وحصل.
أما إن أردتم بمطابقة الجواب للسؤال: أن يكون مطابقا له تمام
المطابة: بدون زيادة بعض البيانات لغير ما سئل عنه: فلا نسلم؛
وذلك لأنه قد ثبت في الشريعة أن الشارع يسأل عن شيء فيجيب عنه
وعن غيره، كما ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الوضوء بماء البحر قال:
" هو الطهور ماؤه الحل ميتته "،
فهنا قد تعرض لحل الميتة، ولم يكن مسؤولاً عنها.
بيان نوع الخلاف:
قد يبدو أن الخلاف - هنا - لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين
على أن أحكام اللعان، والظهار، والسرقة، والرجم، وغيرها مما
نزلت بسبب حوادث خاصة: هي عامة لمن نزلت بسببهم،
ولغيرهم، لكن أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور - قالوا:
(4/1539)
 
 
أخذنا هذا العموم عن طريق اللفظ العام: ولم يلتفتوا إلى كونه نزل
بسبب أو بغير سبب، أما أصحاب المذهب الثاني فقد قالوا: إن
تلك الأحكام لا شك أنها عامة، لكن لم نأخذ عمومها عن طريق
اللفظ العام الوارد في النص؛ لأن هذا اللفظ العام مختص بسببه،
ولكن أخذنا ذلك العموم عن طريق القياس، أي: قياس الحوادث
المشابهة على ما حدث لعويمر، وهلال، وأوس.
كذلك لو نظرنا إلى الدلالة، فقد اتفق أصحاب المذهبين على أنها
ظنية؛ لأن دلالة العام ظنية، ودلالة القياس ظنية.
ولكن الحق: أن الخلاف معنوي؛ لأن أصحاب المذهب الأول
قصدوا أن تلك الأحكام قد ثبتت للحوادث المشابهة لما حدث لعويمر
وأوس، وهلال عن طريق النص واللفظ.
أما أصحاب المذهب الثاني فقد قصدوا: أن تلك الأحكام قد
ثبتت للحوادث المشابهة لعويمر وأوس عن طريق القياس.
والفرق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياس
من وجهين هما:
أولهما: أن الحكم الثابت عن طريق عموم النص أقوى من الحكم
الثابت عن طريق القياس.
ثانيهما: أن الحكم الثابت عن طريق النص ينسخ، ويُنسخ به،
أما الحكم الثابت عن طريق القياس فلا ينسخ، ولا ينسخ به - كما
سبق بيانه -.
(4/1540)
 
 
المطلب الثالث عشر حكاية الصحابي للحادثة بلفظ عام هل يفيد العموم؟
إذا حكى الصحابي ما شاهده من الحوادث بلفظ عام كقوله:
"نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة،
وأمر بوضع الجوائح، وقضى بالشفعة للجار،
فهل يؤخذ بعموم قوله أو لا؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن قول الصحابي: أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، أو نهى، أو قضى، أو حكم يقتضي العموم، وهو مذهب كثير من
العلماء، واختاره سيف الدين الآمدي، وهو الحق عندي؛ لإجماع
الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء السلف والخلف على أن قوله
يفيد العموم: فقد عرفنا - بالاستقراء والتتبع - أنهم كانوا يرجعون
إلى هذه الألفاظ، ويحتجون بها في عموم الصور التي تحصل في
أزما انهم: فقد قال ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: " كنا نخابر
أربعين سنة حتى أخبرنا رافع أن - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة "، وإذا رأى أحد منهم شخصا يبيع بالمزابنة أو المحاقلة منعوه مستدلين بقول
الصحابي: " نهى رسول اللَّه لمجيم عن المزابنة والمحاقلة، وكانوا
يمنعون عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه مستدلين بقول الصحابي:
"نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه "، وكذلك فقد أخذوا بقول الصحابي: " أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجوائح "،
وبقوله: " رخص رسول اللَّه في السلم "، وبقوله: " رخص
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في العرايا "، وقوله: " قضى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -
(4/1541)
 
 
بالشفعة للجار "، وكانوا يفعلون ذلك، ويستدلون بتلك الألفاظ
دون نكير من أحد، فصار هذا إجماعا منهم على الاحتجاج بمثل
ذلك في عموم الصور، وعلى العمل بها.
المذهب الثاني: أن قول الصحابي: أمر رسول اللَّه، أو نهى،
أو قضى لا يفيد العموم.
وهو مذهب أكثر العلماء.
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن قول الراوي: أمر، أو نهى هو حكاية للراوي لما شاهده،
وهذه الحكاية محتملة لاحتمالات هي كما يلي:
الاحتمال الأول: أن يكون قد سمع لفظاً عاماً، فحكاه كما
سمع.
الاحتمال الثاني: أن يكون قد سمع لفظا خاصا فظنه عاماً،
فحكاه على أنه عام.
الاحتمال الثالث: أن يكون قد شاهد أمراً خاصا، ولكنه فهم
العموم، فحكاه بصيغة العموم.
وهذه الاحتمالات متساوية، فلا يرجح أحدها إلا بمرجح، ولا
يوجد مرجح، فالتمسك بعموم هذا هو تمسك بتوهم العموم، لا
بلفظ عرف عمومه، وقيل: إن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط
به الاستدلال.
جوابه:
إن هذه الاحتمالات تنقدح في الذهن، ولكن رجحنا إفادة ما
يقوله للعموم، لأمرين:
(4/1542)
 
 
أولهما: إجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف والخلف - كما
سبق بيانه -.
ثانيهما: أن الحاكي - وهو الصحابي - عربي فصيح عارف
بدلالات الألفاظ، فهذا يبعد عنه احتمال أن يفهم ما ليس عاما أنه
عام حتى يحكيه بصيغة العموم.
وكذلك هو - أي: الحاكي وهو الصحابي - قد شهد اللَّه له
ورسوله بالعدالة، فهو ذو ورع ودين وتقوى، وهذا كله يمنعه من
حكاية العموم، وهو غير متيقن له، لأنه يعلم أن ذلك يوقع الناس
في لبس دمابهام.
وعلى فرض أن هذا الراوي الصحابي لم يقطع بالعموم، فلا
يمكن أن ينقل ما يقتضي العموم إلا وقد ظهر له العموم، والغالب
إصابته فيما ظنه ظاهراً وراجحاً، والعمل - بالغالب الظاهر واجب،
فيجب العمل بما ظهر منه، ومهما ظن صدق الراوي فيما نقله عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب اتباعه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي، بيان ذلك: أن أصحاب المذهبين قد اتفقا على
أن النهي عن المزابنة، والمخابرة، والمحاقلة، والمنابذة، والملامسة،
والغرر، والأمر بوضع الجوائح، والقضاء بالشفعة فيما لم يقسم
- إلى آخر ذلك عام وشامل للأشخاص الذين نهوا، وأمروا،
وقضي في حقهم ولمن جاء بعدهم ممن شابههم.
ولكن اختلفوا في طريق ذلك: فأصحاب المذهب الأول قالوا:
استفدنا ذلك العموم عن طريق لفظ الصحابي ونصه، أما أصحاب
(4/1543)
 
 
المذهب الثاني فقالوا: قد استفدنا تعميم الأحكام من دليل خارجي،
وهو القياس، أي قياس غيرهم عليهم.
والفرق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياس
من وجهين قد ذكرناهما في مسألة: " هل العبرة بعموم اللفظ أو
بخصوص السبب ".
(4/1544)
 
 
المطلب الرابع عشر حكاية الراوي لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "كان " هل يفيد العموم؛ وأن هذا الفعل يتكرر منه - صلى الله عليه وسلم -، أو لا؟
إذا قال الراوي: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا "،
فهل هذا يفيد العموم والتكرار أو لا؟
اختلف فيه على مذهبين:
المذهب الأول: أن هذا يفيد العموم.
وهو لبعض العلماء، وهو الحق؛ لأن الراوي إنما يحكي الفعل
والحادثة بلفظ " كان " إذا ثبت عنده تكرار ذلك الفعل، حيث لا
يفهم من لفظ " كان " إلا التكرار في مخاطباتنا فتقول - مثلاً -:
"كان زيد يأتي هذه المكتبة "، لا يمكن أن يقول ذلك إلا إذا كان زيد
يتردد عليها أكثر من مرة.
المذهب الثاني: أن هذا لا يفيد العموم، وهو مذهب جمهور
العلماء.
دليل هذا المذهب:
أن الفعل إنما يفيد الماهية من حيث هي بقطع النظر عن المرة أو
التكرار، وحيث لا موجب للتكرار، فلا يكون هذا القول دالًّا على
التكرار، بل يكون التكرار مستفاداً من دليل خارجي.
جوابه:
إن هناك موجبا للتكرار، وهو ما ذكرناه في دليلنا.
(4/1545)
 
 
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي؛ حيث إن المعبر بلفظ " كان " يدل تعبيره على أن
فعل - صلى الله عليه وسلم - الذي حكاه هذا الراوي بلفظ " كان " متكرر؛ بناء على المذهب الأول.
أما بناء على المذهب الثاني: فإن تعبيره بلفظ " كان " لا يدل على
تكرار الفعل، بل يدل على المرة الواحدة فقط.
ولا شك أن ما تكرر وقوعه من فعله - صلى الله عليه وسلم - أقوى مما وقع مرة واحدة.
(4/1546)
 
 
المطلب الخامس عشر هل يدخل العبد في الخطاب المضاف إلى الناس
والمؤمنين، والأمة، والمسلمين؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن العبد يدخل تحت خطاب التكليف بالألفاظ
العامة المطلقة مثل: " الناس "، و " المؤمنين "، و " المسلمين "،
و"الأمة "، فهو كالحر، فلا يخرج منها إلا بقرينة.
وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن العبد من جملة
من يتناوله اللفظ؛ فهو من " الناس "، ومن " المؤمنين "، ومن
"المسلمين "، ومن " الأُمَّة "، بدليل: أنه يوصف فيقال: هذا العبد
مسلم، ومؤمن، ومن الناس، والأُمَّة، ولا يوجد مانع من دخوله
لا شرعي ولا عقلي.
المذهب الثاني: أن العبد لا يدخل تحت تلك الخطابات إلا بدليل
وقرينة تدخله، وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض المالكية.
دليل هذا المذهب:
أن أكثر الأوامر الشرعية لم يدخل العبد فيها كالأمر بصلاة الجمعة،
والأمر بالزكاة، والأمر بالحج، والأمر بالجهاد، ونحو ذلك، مما
يدل على أن تلك الخطابات موجهة إلى كاملي التكليف، وهم
الأحرار.
(4/1547)
 
 
أي: أنه نظراً إلى خروج العبد عن بعض التكاليف، فإنه لا
يدخل ضمن الخطابات العامة إلا بدليل وقرينة.
جوابه:
إن خروج العبد عن بعض التكاليف لا يلزم منه: عدم دخوله في
الخطابات العامة؛ لأن هذه التكاليف التي سقطت ورفعت عنه: قد
سقطت ورفعت عنه لعذر، وهو: كونه رقيقا مما جعله فقيراً مشتغلاً
بخدمة سيده، فإذا زال هذا العذر - وهو الرق - عادت إليه
التكاليف كاملة، قياساً على المريض والمسافر والحائض والنفساء،
فإن هؤلاء تسقط عنهم بعض التكاليف كأداء صوم رمضان في وقته
لعذر، وهو التلبس بالمرض، أو السفر، أو الحيض، أو النفاس،
فإذا زال هذا العذر عاد إليهم هذا التكليف.
وقياساً على الحائض، والنفساء، حيث تسقط عنهما الصلاة في
وقتها لعذر وهو: الحيض، والنفاس، ولا يقضيان، فإذا زال
الحيض أو النفاس عاد إليهما وجوب الصلاة.
ولم يقل أحد: إن المريض، والمسافر، والحائض، والنفساء لا
يدخلون تحت لفظ " الناس "، و " المؤمنين "، و " المسلمين "،
و" الأمَّة "، وهم في حالة عذرهم، فكذلك العبد يدخل تحت لفظ
الناس والمؤمنين، وغيرها من الخطابات، وهو في حالة الرق، ولا
فرق بين العبد وهؤلاء، والجامع: أن كلًّا من العبد والمريض
والمسافر والحائض والنفساء قد زال عنه التكليف لعذر، وهو الرق
بالنسبة للعبد، والمرض، والسفر، والحيض، والنفساء، فإذا زال
هذا العذر عادت إلى هؤلاء جميعاً التكاليف كاملة.
(4/1548)
 
 
اعتراض على هذا:
قال قائل - معترضاً -: إن الصلاة والصيام قد سقطت عن
المسافر، والحائض، والمريض، والنفساء؛ نظراً لوجود السبب
السقط وهو: وجود مشقة الجمع بين هذه التكاليف والمرض،
والسفر، والحيض، والنفاس، أما العبد فلا توجد هذه المشقة
فيستطيع أن يصلي الجمعة، ويحج، ويزكي، ويجاهد، ومع ذلك
فقد أسقطت عنه تلك التكاليف، فلم تسقط عنه تلك إلا لأنه لا
يدخل تحت الخطابات الموجهة إلى الأحرار.
جوابه:
كذلك العبد قد أسقطت عنه هذه التكاليف لأسباب، وهي كما
يلي:
أما سبب سقوط صلاة الجمعة عمه فهو: أنه مأمور بخدمة سيده؛
حيث إنه يعتبر من مال السيد، فلا بد أن يسخر لهذه الخدمة.
والخدمة لا تتم إلا إذا كان خادماً في كل الأوقات، ومنها وقت
صلاة الجمعة؛ حيث إنه يبقى في المنزل ويجهزه استعداداً لقدوم سيده
من الصلاة، ثم إنه قد أخرج أبو داود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض ".
فاستثناء هؤلاء يدل على أنهم يدخلون في الخطابات، كما دخل
غيرهم، وإنما خرج العبد بالاستثناء؛ لما ذكرناه من السبب.
أما سبب سقوط الزكاة عنه فهو: أن الزكاة تجب على من ملك
نصابا وحال عليه الحول، والعبد لا يملك المال، بل كله مملوك؛
(4/1549)
 
 
قياساً على الحر الفقير الذي لا يملك نصابا، فإنه لا تجب عليه
الزكاة، ومع ذلك فقد دخل تحت تلك الخطابات، فكذلك العبد.
أما سبب سقوط الحج عنه فهو: ما قلناه في سبب سقوط صلاة
الجمعة عنه.
ولأن الحج مشروط بالاستطاعة المالية، والعبد لا يملك شيئاً،
لذلك سقط عنه الحج، قياساً على الحر الذي لا يملك ما يحج به،
فإنه يسقط عنه الحج، ومع ذلك يدخل تحت الخطابات، فكذلك
العبد.
أما سبب سقوط الجهاد عنه فهو: أن رقبته مال، والمالية التي فيه
للسيد، وفي الجهاد تعرض للتلف، والسيد له حفظ ماله من التلف.
المذهب الثالث: أن العبد لا يدخل في الخطابات العامة المتعلقة
بحقوق الآدميين، أما الخطابات العامة المتعلقة بحقوق اللَّه، فيدخل.
حكي هذا عن أبي بكر الجصاص.
دليل هذا المذهب:
أن العبد لا يملك فعل شيء من حقوق الآدميين كالعقود
والإقرارات، ونحو ذلك، فلم يدخل في الخطاب بها، أما حقوق
الله فإنه يملك أن يتعبد اللَّه سبحانه.
جوابه:
إن العبد لم يمبك التصرف في العقود والإقرارات بسبب: كونه
رقيقاً وملكاً لسيده، وهذا لا يمنع من دخوله في الخطاب بها وبغيرها،
ثم يخص بدليل، وذلك كصيغة العموم، فإنها تستغرق جميع
الأفراد، وإن جاز أن يخصص فرداً، وتخصيص هذا الفرد لا يبطل
(4/1550)
 
 
ما وضع له، وكذلك حقوق اللَّه تعالى يتوجه إليه الخطاب بها،
وكثير منها لا يملك فعله - كما سبق بيانه - ومع ذلك لا يمنع دخوله
تحت تلك الخطابات.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف معنوي؛ وذلك لأن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن
العبد يدخل ضمن الخطابات الموجهة إلى الأحرار كالناس، والأُمَّة،
والمسلمين، والمؤمنين دخولاً أصلياً، ولا يخرج عن ذلك الخطاب إلا
بدليل، وهي الأسباب التي ذكرناها سابقاً.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا: أن العبد لا يدخل
ضمن تلك الخطابات أصلاً، وما دخل فيها فإنه دخل بدليل مثل
القياس.
أما أصحاب المذهب الثالث فهم وافقوا أصحاب المذهب الأول
بالنسبة لحقوق اللَّه تعالى، ووافقوا أصحاب المذهب الثاني بالنسبة
لحقوق الآدميين.
ويلزم من ذلك: بناء على المذهب الأول أنه تجب على العبد صلاة
الجمعة إذا أذن له سيده في حضورها؛ لأن المانع كان من جهة السيد
وقد ا