الموافقات 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الموافقات
المؤلف: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ)
عدد الأجزاء: 7
 
التَّفْرِيعِ عَلَيْهَا، فَلَوْ وَقَعَ فِي أَصْلٍ مِنَ الأصول اشتباه؛ لزم سريانه في سائرها1؛ فَلَا يَكُونُ الْمُحْكَمُ أُمَّ الْكِتَابِ، لَكِنَّهُ كَذَلِكَ؛ فَدَلَّ2 عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكِتَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَقَعَ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الزَّائِغِينَ عَنِ الْحَقِّ إِنَّمَا زَاغُوا فِي الْأُصُولِ لَا فِي الْفُرُوعِ، وَلَوْ كَانَ زَيْغُهُمْ فِي الْفُرُوعِ؛ لَكَانَ الْأَمْرُ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُصُولِ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ، كَانَتْ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَوْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ الْكُلِّيَّةِ لَا الْجُزْئِيَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّشَابُهَ وَقَعَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا [وَقَعَ] 3 فِي فُرُوعِهَا؛ فَالْآيَاتُ الْمُوهِمَةُ لِلتَّشْبِيهِ وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ مِثْلُهَا4 فَرُوعٌ عن أصل التنزيه الذي هو
__________
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "جميعها".
2 لا يخفى ما في هذا البيان من الخطابة. "ف".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
4 دندن المصنف على المتشابه، ثم تكلم على الصفات، ثم ألمح في قوله هذا أن آيات وأحاديث الصفات من المتشابه.
وصرح الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" "16/ 218" أن الصفات من باب المتشابه، ونقل ذلك عن الغزالي في "المستصفى، وأقره عليه؛ فقال في مبحث المتشابه: "ويطلق على ما ورد في صفات الله تعالى مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه، ويحتاج إلى تأويل".
وهذا هو القول بتفويض المعنى الذي جنح إليه، بل صرح به النووي في "شرحه" أكثر من مرة، وسبق أن أشرنا إلى أن السلف الصالح كفوا عن الخوض في البحث في كيفية الصفة الواردة في الآية القرآنية أو الحديث النبوي، وقالوا كلمات في معانيها لها معان مفهومة وصحيحة، ولا يليق أن يكون مذهبهم فيها أن تكون آيات الصفات بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم أحد معناه؛ فإنهم رحمهم الله تكلموا في جميع آيات الصفات، وفسروها بما يوافق معناها ودلالتها، ولم يسكتوا عن بيان معنى آية ما، سواء في ذلك المحكم والمتشابه.
وهنا لا بد لنا من كلمة عن المحكم والمتشابه، وهل الراسخون في العلم يعلمون معنى =
(3/323)
 
 
.........................................................
__________
= المتشابه أم يفوضون العلم فيه إلى الله؟ وبمعنى آخر: هل الوقوف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] لازم، وما معنى التأويل فيها؟
يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الوقف على لفظ الجلالة؛ لأن التأويل المذكور في الآية هو معرفة الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ورأى آخرون أن التأويل الوارد فيها بمعنى المآل والعاقبة، وشاركوا شيخ الإسلام في القول بالوقف المذكور؛ لأن الراسخين في العلم لا يعلمون مآل أخبار القرآن وعواقب أمره على سبيل التفصيل والتحديد والكنه والحقيقة، وهذا قريب من قول شيخ الإسلام؛ إذ هذه الأمور من الغيب الذي استأثر الله به، بينما رأى فريق ثالث أن التأويل مستعمل عند السلف بمعنى التفسير والبيان؛ فقال هؤلاء بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وكلا الفريقين مصيب فيما ذهب إليه؛ لأن أصحاب القول بالوقف على لفظ الجلالة يستبعدون أن يكون هناك بشر يشارك الله في علم غيوبه، وأصحاب القول بالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يستبعدون أن يكون تفسير القرآن وبيان معناه لا يعلمه إلا الله، في الوقت الذي أنزل فيه ليفهم ويتدبر.
ولم يقف فريق آخر من علماء الكلام والفقه والتفسير على مأخذ كل رأي من الآراء المذكورة، وعلى الأصل الذي بنوا عليه رأيهم، ووجدوا بين أيديهم روايات مختلفة عن السلف، كل يختار رأيًا في الوقف؛ فصوروا أن في المسألة نزاعًا وخلافًا بين السلف، وليس الأمر على التحقيق كذلك، وكان عليهم أن يمعنوا النظر أكثر وأكثر؛ فإن المسألة ليست محل نزاع لو عرف مأخذ كل رأي وأصل كل قول؛ فإن جميع الأقوال التي رويت على أن الوقف على لفظ الجلالة محمولة على أن المراد بالتأويل في الآية عواقب أخبار القرآن ومصائرها، وجميع ما روي على أن الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} محمول على أن التأويل المذكور هو التفسير والبيان.
وبهذا يزول الإشكال والاشتباه الذي نشأ بين المتأخرين لعدم تفرقتهم بين معنى الآية وبين تأويلها، وعدم إدراكهم ما قد يترتب على إهمال التفرقة بين المعنيين من آراء ربما قد احتجموا عنها لو تنبهوا إلى ذلك.
تعرض السلفيون -وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- لهذه المشكلة التي فرقت كلمة العلماء، ووضعوا أيديهم على بدايتها متعمقين في أسبابها، باحثين عن نتائجها، =
(3/324)
 
 
......................................................
__________
= متسائلين: هل يجوز عقلا أن يتكلم الله بكلام لا معنى له عند المخاطب، وهل يجوز كذلك أن يقول الرسول لأمته: إن ربكم قد خاطبكم بكلام لا يعلم معناه إلا هو، وهل يجوز أن يقول لهم: إن القرآن أنزل ليتدبر في الوقت الذي لا يعلم معناه إلا الله؟
إن المشكلة تزداد خطورة خصوصًا في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية حين يرى أن وظيفة الرسول هي البلاغ الموصوف بأنه {بَلاغٌ مُبِينٌ} ، وأن وظيفة القرآن أنه أنزل: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} ، ثم يكون الرسول نفسه لا يفهم معنى ما تكلم به بدعوى أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وبدعوى أن الصفات من المتشابه.
لعل هذه المشكلة كانت سببًا في أن ابن تيمية قد خصص حياته لخدمتها من قريب ومن بعيد؛ فهو إن خاض غمار الفلسفة أو علم الكلام، أو ناقش الفقهاء والصوفية؛ فسلاحه في كل ميدان هو آيات الكتاب، أو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح؛ لأنه ليس هناك آية لا معنى لها، أو مصروفة عن ظاهرها، بل كل آيات القرآن واضحة في معناها، وليس هناك لبس ولا خفاء، ولقد تتبع ابن تيمية أقوال السلف تتبع الخبير بمصادرها، واضعًا أدلة هؤلاء وهؤلاء أمام النصوص؛ فظهر له الغث من السمين، والصحيح من الخطأ، والسليم من السقيم.
وفي القول السابق ادعاء أنه يوجد في ظاهر النصوص ما يوهم التشبيه، وهذا ليس بصحيح،
والخلاصة أنه ما من قول يدعي أن هذه الآية أو تلك من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله؛ إلا وقد تكلم السلف في بيان معناها، حتى من أطلق المتشابه على نصوص الصفات مريدا بذلك حقائقها وكيفياتها التي هي عليها، فهذا يسوغ أن يسمى متشابها؛ لأن حقائق الصفات وما هي عليه من الكيفيات لا يعلمه إلا الله، وهذا هو تفويض الكيفية الذي يقول به السلف؛ إلا أننا على الرغم من ذلك نعلم معنى الاسم والصفة؛ فنعلم معنى سميع وبصير وعليم، ومعنى السمع والبصر والعلم، ونعلم معنى أن له يدين ووجها، كل هذا ونحوه نعلم معناه بمقتضى لغة التخاطب، ولا يقتضي علمنا بمعاني هذه النصوص أن تكون مثل ما في الشاهد من سمع المخلوق وبصره وعلمه ويديه ووجهه، ومع هذا كله؛ فلا ينبغي إطلاق لفظ المتشابه على الصفات لأجل هذا إلا به، ولهذا لم يؤثر عن السلف إطلاقه عليها.
وكذا إذا تتبعنا أقوال العلماء في معنى المتشابه؛ فلا نجد رأيًا إلا وقد بين السلف معناه ووضحوه، فإذا جعلنا المتشابه هو المنسوخ كما روي عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي =
(3/325)
 
 
قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، كَمَا أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ وَتَشَابُهَهَا وَاقِعٌ ذَلِكَ فِي بَعْضِ فُرُوعٍ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، بَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي التَّشَابُهِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمَنَاطِ؛ فَإِنَّ الْإِشْكَالَ الْحَاصِلَ فِي الذَّكِيَّةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالْمَيْتَةِ مِنْ بَعْضِ فُرُوعِ أَصْلِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْمَنَاطَاتِ البينة، وهي الأكثر، فإذا اعتبر هذا
__________
= وغيرهم؛ علمنا يقينا أن العلماء يعلمون معنى المتشابه لأنهم يعلمون معنى المنسوخ، سواء كان منسوخا لفظه أو لفظه ومعناه، وهذا يدل على كذب من قال عن ابن عباس وابن مسعود أن الراسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه.
وإذا جعلنا المتشابه أخبار القيامة وما فيها؛ فمعلوم بين المسلمين أن وقت قيام الساعة وحقيقة أمرها لا يعلمه إلا الله، لكن ذلك لا يدل على أننا لم نفهم معنى الخطاب الذي خوطبنا به في ذلك، والفرق واضح بين معرفة الخبر وبين حقيقة المخبر عنه.
وإذا جعلنا المتشابهات أوائل السور المفتتحة بحروف المعجم؛ فهذه الحروف ليست كلاما تاما مكونا من الجمل الاسمية والفعلية، ولهذا؛ فلا تعرف لأن الإعراب جزء من المعنى، بل ينطق بها موقوفة كما يقال: أب ت، ولهذا تكتب في صورة الحروف المقطعة لا بصورة اسم الحرف.
يقول ابن تيمية: "فإذا كان على هذا كل ما سوى هذه محكمًا حصل المقصود؛ فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله وكلام رسوله.
وانظر موقف شيخ الإسلام من المتشابه ورده على مفوضة المعنى في: "تفسير سورة الإخلاص" "ص143 وما بعدها"، و"الحموية" "160-163"، "مجموعة الرسائل "1/ 189"، و"مجموع الفتاوى" "3/ 54-67 و5/ 35-37، 234، 347-439 و10/ 560 و13/ 279-280، 374-375، 384-385 و16/ 173، 407-422"، و"الإمام ابن تيمية وموقفه من التأويل" "ص164 وما بعدها"، وقد أخطأ رشيد رضا في "تفسير المنار" "3/ 165" عندما نقل عن ابن تيمية أن المتشابه عنده آيات الصفات خاصة، ومثلها أحاديث الصفات.
وانظر في المسألة: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة "ص62، 73"، و"منهج ودراسات" "ص23-24" للشنقيطي، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 472-500"، وكتابنا "الردود والتعقبات" "ص77-82"، و"التيسير في قواعد علم التفسير" "ص188 وما بعده" للكافيجي.
(3/326)
 
 
الْمَعْنَى؛ لَمْ يُوجَدِ التَّشَابُهُ فِي قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ وَلَا فِي أَصْلٍ عَامٍّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤْخَذَ التَّشَابُهُ عَلَى أَنَّهُ الْإِضَافِيُّ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ [لَا] 1 فَرْقَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ حَصَلَ فِي الْعَقَائِدِ الزَّيْغُ والضلال، وليس هو المقصود2 ههنا، ولا هو مقصود صريح باللفظ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ تعالى قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الآية [آل عمران: 7] ؛ فَأَثْبَتَ فِيهِ مُتَشَابِهًا، وَمَا هُوَ رَاجِعٌ لِغَلَطِ3 النَّاظِرِ لَا يُنْسَبُ إِلَى الْكِتَابِ حَقِيقَةً، وَإِنْ نسب إليه؛ فبالمجاز.
__________
1 سقطت إلا من "ط"، ولذا قال "د": "لعله سقط منه لفظ "لا"؛ أي: فعند ملاحظة التشابه الإضافي لا يوجد فرق بين الأصول والفروع، وقوله: "ومن تلك الجهة"؛ أي: وبسبب التشابه الإضافي في الأصول جاء الزيغ في العقائد؛ كما تقدم له أمثلته". ونحوه عند "م".
2 أي: إنما المقصود بنفيه عن الأصول هو التشابه الحقيقي، وليس الإضافي مقصودا في هذا المبحث، كما أنه ليس مقصودا بلفظ الآية وإن كان داخلا فيها بالمعنى كما ذكره سابقا. "د".
3 الناشئ من عدم ضمه لأطراف الأدلة بعضها إلى بعض كما سبق؛ فليس في نفس الأدلة اشتباه، إنما هو من تقصيره أو اتباع هواه. "د".
(3/327)
 
 
المسألة الخامسة 1:
تسليط التأويل على المتشابه فيه تفصيل فيا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ مِنَ الْإِضَافِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْإِضَافِيِّ؛ فَلَا بُدَّ مِنْهُ إِذَا تَعَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَمَا بُيِّنَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ، وَالْمُطْلَقُ بِالْمُقَيَّدِ، وَالضَّرُورِيُّ بِالْحَاجِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَجْمُوعَهُمَا هُوَ الْمُحْكَمُ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْحَقِيقِيِّ؛ فَغَيْرُ لَازِمٍ تَأْوِيلُهُ؛ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي بَابِ الْإِجْمَالِ وَالْبَيَانِ أَنَّ الْمُجْمَلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا2 لِأَنَّهُ3 إِمَّا أَنْ يَقَعَ بَيَانُهُ بِالْقُرْآنِ الصَّرِيحِ أَوْ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ، أَوْ لَا، فَإِنْ وَقَعَ بَيَانُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ؛ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّشَابُهِ، وَهُوَ الْإِضَافِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَالْكَلَامُ فِي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَسَوُّرٌ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ لَمْ يَعْرِضُوا4 لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا تَكَلَّمُوا فِيهَا بِمَا يقتضي تعيين
__________
1 انظر: "الاعتصام" "1/ 221"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 145، 275-276 و17/ 378 و389-390".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "موحدا"، وعلق "د": "راجع المسألة الثانية عشرة في باب البيان والإجمال تجد في أولها أنه؛ إما لا يتعلق بالمجمل تكليف، وإما أنه لا وجود له، أي: إذا وقفنا على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وعليه؛ فلعل الأصل هنا إن كان "موجودا"؛ أي: على فرض وجود المجمل بمعنى المتشابه الحقيقي".
3 الضمير للحال والشأن كما يعلم بالتأمل؛ لأن هذا التشقيق لا يجيء في المجمل الحقيقي الذي يقول فيه: "إن كان موجودا"، وكذا الضمير في "بيانه" للمجمل مطلقا. "د".
قلت: قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "17/ 386": "وقد قال كثير من السلف: إن المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به"، وانظر الآثار الواردة في ذلك عند ابن جرير في "التفسير" "3/ 185-186".
4 أي: لم يتعرضوا ويتصدوا له في باب ضرب، من قولهم: عرض له أشد العرض واعترض له؛ قابله بنفسه كما في "شرح القاموس". "د".
قلت: انظر الموقف السليم من المتشابه: "القواعد الحسان لتفسير القرآن" "ص70-71" للسعدي، و"إعلام الموقعين" "2/ 294-295، 304".
(3/328)
 
 
تَأْوِيلٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهُمُ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ، وإلى ذَلِكَ؛ فَالْآيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} الآية [آل عمران: 7] .
ثُمَّ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْلَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُمَّةِ إِلَى تَسْلِيطِ التَّأْوِيلِ عَلَيْهَا أَيْضًا رُجُوعًا إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ اتِّسَاعِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا، مِنْ جِهَةِ الْكِنَايَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالتَّمْثِيلِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاتِّسَاعِ؛ تَأْنِيسًا لِلطَّالِبِينَ، وَبِنَاءً عَلَى اسْتِبْعَادِ الْخِطَابِ بِمَا لَا يُفْهَمُ، مَعَ إِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وَهُوَ أَحَدُ1 الْقَوْلَيْنِ لِلْمُفَسِّرِينَ؛ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْغَزَّالِيُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِأُمُورٍ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِـ"إِلْجَامُ العوام"2؛ فطالعه من هنالك.
__________
1 وعليه؛ فلا يوجد المتشابه بالمعنى الحقيقي. "د".
قلت: انظر تعليقنا على "ص323-326".
2 "ص34".
(3/329)
 
 
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
إِذَا تَسَلَّطَ التَّأْوِيلُ عَلَى الْمُتَشَابِهِ؛ فَيُرَاعَى فِي الْمُؤَوَّلِ بِهِ أَوْصَافٌ ثَلَاثَةٌ: أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَعْنًى صَحِيحٍ فِي الِاعْتِبَارِ، مُتَّفَقٍ1 عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَيَكُونُ اللَّفْظُ الْمُؤَوَّلُ قَابِلًا لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمُؤَوَّلَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَقْبَلَهُ اللَّفْظُ أَوْ لَا2، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ؛ فَاللَّفْظُ نَصٌّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ، فَلَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَإِنْ قَبِلَهُ اللَّفْظُ؛ فإما أن يجري على مقتضى العلم3 أو لا، فإن جرى على ذلك؛ فلا
__________
1 هذا هو الوصف الثاني، ولم يبن عليه شيئًا في بيانه الآتي، وكأنه لازم للوصف الأول، وهو صحة المعنى في الاعتبار؛ لأنه لا يكون كذلك إلا حيث يتفق عليه في الجملة وإن خولف في التفصيل؛ فرجع الأمر إلى شرطين:
الأول: صحة المعنى في الاعتبار بأن يكون متفقًا مع الواقع المعترف به إجمالًا ممن يعتد بهم.
والثاني: أن يكون وضع اللفظ قابلًا له لغة بوجه من وجوه الدلالة حقيقة أو مجازًا أو كناية، جاريًا في ذلك على سنن اللغة العربية. "د".
قلت: مما ينبغي التنبه له في الأول: معرفة مراد المتكلم بكلامه، لا معرفة ما يحتمله اللفظ من المعاني من جهة اللغة فحسب، وفي الثاني أن يعلم أن ورود اللفظ بمعنى لا يلزم منه أن يكون هذا المعنى ملازمًا له في جميع النصوص الأخرى، وإن اختلف السياق، وكذا الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في النصوص؛ فغلبته فيه دليل على عدم خروجه عن معنى النص؛ فالحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره، انظر في هذا كله ومع التمثيل عليه: "مجموع فتاوى ابن تيميه" "6/ 13، 14، 366 و7/ 286"، و"الصواعق المرسلة" "1/ 192، 193"، و"إرشاد الفحول" "ص176"، و"أضواء البيان" "1/ 328"، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 552-555". وفي "د" "إذ تسلط..".
2 في الأصل و"ف": "أم لا".
3 يعني أن اللفظ إذا كان قابلًا بحسب اللغة للمعنى المؤول به ينظر: هل معنى التركيب بعد اعتبار هذا التأويل يجري على مقتضى ما نعلمه في هذه القضية من الخارج، أم لا يجري بل يخالف الواقع المعلوم لنا من طريق غير هذا الخبر؟ فإن جرى على ذلك؛ فلا يصح طرحه لأن =
(3/330)
 
 
إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَابِلٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنَ اللَّفْظِ لَا يَأْبَاهُ؛ فَاطِّرَاحُهُ إِهْمَالٌ لِمَا هُوَ مُمْكِنُ الِاعْتِبَارِ قَصْدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى إِهْمَالِهِ أَوْ مَرْجُوحِيَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْمِلَهُ اللَّفْظُ عَلَى حَالٍ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مَعَ تَرْكِ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ2 رُجُوعًا إِلَى الْعَمَى، وَرَمْيًا فِي جَهَالَةٍ؛ فَهُوَ تَرْكٌ لِلدَّلِيلِ لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَبَاطِلٌ.
هَذَا وَجْهٌ.
وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى الدَّلِيلِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ؛ فَالنَّاظِرُ3 بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُبْطِلَ الْمَرْجُوحَ جُمْلَةً اعْتِمَادًا عَلَى الرَّاجِحِ، وَلَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ الْجَمْعَ، وَهَذَا نَظَرٌ يُرْجَعُ إِلَى مِثْلِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ على الجملة، وإما
__________
= الشرطين قد تحققا؛ فاللفظ قابل، والمعنى المقصود من التركيب لا يأباه، أي: لا يأبى اعتبار هذا التأويل في مفرد من مفرداته؛ لأن المعنى المقصود من التركيب مع اعتبار هذا التأويل في مفرد من مفرداته يرجع إلى معنى صحيح في الواقع لا يخالف المعلوم لنا من قبل، وبهذا يتبين أن اللفظ في قوله: "والمعنى المقصود من اللفظ" ليس هو اللفظ المفرد الذي فيه التأويل، وإلا؛ لكان حاصله أن المعنى المقصود من اللفظ المؤول لا يأبى المعنى المؤول به اللفظ؛ فيتحد الآبي والمأبي، بل اللفظ هو اللفظ الخبري، والمعنى المقصود منه هو المعنى التركيبي. "د".
1 أي: ولو قبله اللفظ. "د". قلت: في "ط": "حال الدليل" بدون "و".
2 وهو اللفظ المتشابه الظاهر في معناه الوضعي، أي: تركه إلى معنى لا يجري على اعتبار صحيح في مقتضى العلم يكون رجوعًا إلى عدم صرف، وقوله: "ترك الدليل"؛ أي: وهو اللفظ الظاهر المتشابه. "د".
قلت: انظر في هذا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 191".
3 أي: أن الناظر في أمر تعارض عليه دليلان، أحدهما راجح والآخر مرجوح، له طريقان في التخلص من المعارضة؛ إما أن يهدر المرجوح بما يقتضي إهداره، وإما أن يحمله على معنى يكون صحيحًا متفقًا عليه، ولا يعارض دليله الراجح، أما أنه يحمل المرجوح على وجه آخر لا يعارض الراجح، ولكنه لا يكون صحيحًا في ذاته أو لا يوافقه عليه الخصم؛ فعمل باطل حقيقة أو صناعة. "د".
(3/331)
 
 
أَنْ لَا يُبْطِلَهُ وَيَعْتَمِدَ الْقَوْلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ، فَذَلِكَ الْوَجْهُ إِنْ صَحَّ وَاتَّفَقَ1 عَلَيْهِ؛ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ؛ فَهُوَ نَقْضُ الْغَرَضِ لأنه رام تصحيح دليله المرجوح بشيء2 لَا يَصِحُّ؛ فَقَدْ أَرَادَ تَصْحِيحَ الدَّلِيلِ بِأَمْرٍ باطل، وذلك يقتضي بطلانه عندما رَامَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، هَذَا خُلْفٌ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ3، وَهُوَ أَنَّ تَأْوِيلَ الدَّلِيلِ مَعْنَاهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَلِيلًا فِي الجملة؛ فرده إلى ما لا يَصِحُّ رُجُوعٌ إِلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ لَا يَصِحُّ عَلَى وَجْهٍ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَمِثَالُهُ تَأْوِيلُ4 مَنْ تَأَوَّلَ لَفَظَ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النِّسَاءِ: 125] بِالْفَقِيرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيَّ غَيْرَ صَحِيحٍ5، وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ غَوَى مِنْ قَوْلِهِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّه
__________
1 أي: حتى يسلم الخصم صحة المعنى في ذاته؛ فيتأتى له دعوى حمل المرجوح عليه. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "لشيء".
3 لا يبعد عما قبله. "د".
4 انظر طائفة من الأمثلة القرآنية أولت تأويلًا فاسدًا في "التحبير" للسيوطي "باب غرائب التفسير، النوع الثاني والتسعون، ص335-336"؛ ففيه أمثلة أظهر، وفيه: "هذا النوع من زياداتي".
قال أبو عبيدة: وفي كُنَّاشاتي "قصاصاتي المنثورة" أمثلة كثيرة، وكذا في تأويلات خاطئة لأحاديث نبوية، عسى أن أنشط لجمعها في تأليف مستقل، يسر الله ذلك بمنه وكرمه، وسيذكر المصنف في "4/ 225 وما بعدها" أمثلة على هذا الموضوع.
5 لأن إبراهيم الذي يقدم العجل السمين المشوي لضيوفه من عند أهله لا يصح أن يعد فقيرًا؛ فهذا غير صحيح في الاعتبار، لم يجر على مقتضى العلم، وما بعده تخلف فيه شرط قبول اللفظ المؤول له، ومثال بيان تخلف فيه الجميع؛ لأن اللفظ لا يقبله، لا من الإشارة في "هذا"، ولا من العطف في قوله: "وهدى ... إلخ"، ولا يجري على مقتضى العلم. "د".
(3/332)
 
 
فَغَوَى} [طه: 121] أَنَّهُ مِنْ غَوِيَ1 الْفَصِيلُ لِعَدَمِ صِحَّةِ غَوَى بِمَعْنَى غَوِيَ2؛ فَهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْوِيلُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَمِثَالُ مَا تَخَلَّفَتْ فِيهِ الْأَوْصَافُ تَأْوِيلُ بَيَانِ3 بْنِ سَمْعَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آلِ عمران: 138] .
فصل
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِبَابِ التَّأْوِيلِ، بَلْ هُوَ جارٍ فِي بَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ4 قَدْ يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، فَيَفْتَقِرُ إلى الترجيح فيهما؛ فذلك ثانٍ عن قَبُولِ الْمَحَلِّ لَهُمَا، وَصِحَّتِهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَالدَّلِيلُ في الموضعين واحد.
__________
1 بالكسر: إذا بَشِم من شرب اللبن؛ أي: فالتأويل فاسد لأن ما في القرآن بالفتح، وسيأتي له هذا في المسألة التاسعة من الطرف الثاني من الأدلة. "د"، ونحوه في "م".
قلت: كتب في هامش الأصل ما نصه: "في المصباح": غوى غيًا من باب ضرب؛ انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد، وغوي الفصيل، غوي من باب تعب؛ فسد جوفه من شرب اللبن، وفساد هذا التأويل ظاهر".
2 انظر: "الاعتصام" "1/ 301 - ط ابن عفان" للمصنف.
3 يأتي للمؤلف في المسألة التاسعة المشار إليها آنفًا بيان عن بيان هذا. انظر "4/ 225، 226".
وقال "ف": "هو بيان بن سمعان التميمي الهندي اليمني الشيعي، وله شرذمة تنسب إليه تسمى البيانية، تنتحل نحلًا باطلة".
قلت: انظر عن حاله وكفره "الفصل" "4/ 185" لابن حزم، و"الملل والنحل" "152"، و"الفرق بين الفرق" "236"، و"لسان الميزان" "2/ 69".
4 لعل الأصل: "الدليلين"، وسيأتي بسطه في مبحث التعارض من كتاب الاجتهاد. "د".
قلت: قال ابن القيم في "الصواعق المرسلة" "1/ 187": "وبالجملة؛ فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد، ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك".
(3/333)
 
 
[الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ.
وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى] 1:
اعْلَمْ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ هي الموضوعة أولًا، وهي التي2 نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ تَبِعَهَا أَشْيَاءُ بِالْمَدِينَةِ، كَمُلَتْ بِهَا تِلْكَ الْقَوَاعِدُ الَّتِي وُضِعَ أَصْلُهَا بِمَكَّةَ، وَكَانَ أَوَّلُهَا3 الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ثُمَّ تَبِعَهُ مَا هُوَ مِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ4، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا هُوَ كُفْرٌ أَوْ تَابِعٌ لِلْكُفْرِ؛ كَالِافْتِرَاءَاتِ الَّتِي افْتَرَوْهَا مِنَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ [تَعَالَى، وَمَا جُعِلَ لِلَّهِ] وَلِلشُّرَكَاءِ الَّذِينَ ادَّعَوْهُمُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَسَائِرُ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَوْجَبُوهُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ مِمَّا يَخْدِمُ أَصْلَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ، وَنَحْوِهَا، وَنَهَى عَنْ مَسَاوِئِ الأخلاق من الفحشاء، والمنكر، والبغي،
__________
1 ما بين المعقوفين سقط من "ط".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "والذي نزل ... ".
3 أي: القواعد المكية. "ف".
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 160 و17/ 126".
(3/335)
 
 
وَالْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالتَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، والفساد في الأرض، والزنى، وَالْقَتْلِ، وَالْوَأْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ سَائِرًا فِي دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْجُزْئِيَّاتُ الْمَشْرُوعَاتُ بِمَكَّةَ قَلِيلَةً، وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ كَانَتْ فِي النُّزُولِ وَالتَّشْرِيعِ أَكْثَرُ.
ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ1 الْإِسْلَامِ؛ كَمُلَتْ2 هُنَالِكَ الْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ عَلَى تَدْرِيجٍ؛ كَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، وَتَحْرِيمِ3 الْمُسْكِرَاتِ، وَتَحْدِيدِ الْحُدُودِ الَّتِي تَحْفَظُ الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ وَمَا يُكَمِّلُهَا وَيُحَسِّنُهَا، وَرَفْعِ الْحَرَجِ بِالتَّخْفِيفَاتِ4 وَالرُّخَصِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، [وَإِنَّمَا ذَلِكَ] كُلُّهُ تَكْمِيلٌ لِلْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ.
فَالنَّسْخُ إِنَّمَا وَقَعَ مُعْظَمَهُ بِالْمَدِينَةِ؛ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي تَمْهِيدِ الْأَحْكَامِ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَجِدُ مُعْظَمَ النُّسَخِ إِنَّمَا هُوَ لما كان فيه تأنيس أولًا للقريب
__________
1 الخطة: بوزن سدرة، وجمعها خطط كسدر؛ أي: اتسعت بلاده. "ف".
2 تراجع المسألة الثامنة من كتاب الأدلة ليفهم معنى كمال تلك الأصول، وأنه ليس الغرض أن هناك أصولا لم تكن حاصلة رأسا في مكة ثم أنشئت في المدينة، ويدل عليه أيضا قوله أول مسألتنا: "التي وضع أصلها بمكة". "د".
3 تقدم في المسألة الثامنة أن تحريم المسكر داخل إجمالا في حفظ النفس؛ فالذي كان بالمدينة في ذلك إكماله بالتصريح بتحريمه، ووضع الحدود في شربه، والنص على تحريم القليل منه من باب التكميل أيضا. "د"
4 لا ينافي هذا قوله الآتي: "إنما هو لما كان فيه تأنيس.... إلخ" الذي يقتضي أنه روعي أولًا التخفيف ثم روعي التشديد بالمدينة؛ لأن التخفيف بالرخص إنما جاء بعد تفصيل التكاليف التي كانت مطلقة، وتفصيلها اقتضى اقترانها بمشقات وحرج في بعض الأحيان، فروعيت الرخص؛ فهي حتى مع الرخص أشد منها حينما كانت بمكة بدون رخص، ويحسن بك أن تراجع المسألة الخامسة من باب النسخ في كتاب "الأحكام" "3/ 196" للآمدي؛ لتزداد بصيرة في هذا الموضوع، وتعرف الخلاف في جواز نوع النسخ الذي جعله المؤلف معظم النسخ. "د"
(3/336)
 
 
الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَاسْتِئْلَافٌ لَهُمْ، مِثْلَ كَوْنِ الصَّلَاةِ كَانَتْ صَلَاتَيْنِ ثُمَّ صَارَتْ خَمْسًا، وَكَوْنِ إِنْفَاقِ الْمَالِ مُطْلَقًا بِحَسَبِ الْخِيَرَةِ1 فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ صار محدودًا مقدارًا، وأن القبلة كانت بالمدينة ببيت الْمَقْدِسِ ثُمَّ صَارَتِ الْكَعْبَةَ، وكحِلّ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ2 ثُمَّ تَحْرِيمِهِ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ ثُمَّ صَارَ ثَلَاثًا، وَالظِّهَارُ كَانَ طَلَاقًا ثُمَّ صَارَ غَيْرَ3 طَلَاقٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ أَصْلُ الْحُكْمِ فِيهِ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُزِيلَ، أَوْ كَانَ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ قَرِيبًا خَفِيفًا ثم أحكم.
__________
1 أي: في نوعه ومقداره، وإلا؛ فالإنفاق مطلوب من أول التشريع لا خيرة فيه بمعنى الإباحة، وهذا معنى قوله: "في الجملة". "د"
وكتب "ف": "بفتح الياء، بمعنى: الخيار".
2 التحقيق أن نكاح المتعة أبيح في غزوة الفتح ثلاثة أيام ثم حرم؛ فالتحليل كان لضرورة وقتية ثم نسخ، وكلاهما كان بالمدينة؛ فالمثال على ما ترى. "د".
وقال "ف": "أي: مؤبدًا إلى يوم القيامة؛ فالحل منسوخ خلافًا لمن زعم عدم نسخه".
3 يعني: وهو أشد لأنه يحتاج لكفارة بخلاف الطلاق. "د".
(3/337)
 
 
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ بِمَكَّةَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ فِي الدِّينِ عَلَى غَالِبِ الْأَمْرِ؛ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ النَّسْخَ فِيهَا1 قَلِيلٌ لَا كَثِيرٌ؛ لِأَنَّ2 النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي الْكُلِّيَّاتِ وُقُوعًا، وَإِنْ أَمْكَنَ عَقْلًا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ3 الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ شَيْءٌ، بَلْ إِنَّمَا أَتَى بِالْمَدِينَةِ مَا يُقَوِّيهَا وَيُحْكِمُهَا وَيُحَصِّنُهَا، وَإِذَا كَانَ كذلك؛ لم يثبت نسخ
__________
1 أي: على أن النسخ لا يكون في الكليات، لا على أصل الدعوى؛ فهو استدلال على مقدمة الدليل. "د".
2 ذكر المؤلف ثلاثة أوجه في الاستدلال على أن النسخ فيما نزل بمكة قليل -أو نادر كما يقول بعد-:
أ- وجه خاص، وهو أن أكثر ما نزل بها كليات، وهي لا نسخ فيها، أما أن أكثر ما نزل بها كليات؛ فقد تقرر في المسألة الأولى، وأما أن الكليات لا نسخ فيها؛ فدليله الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنية ... إلخ، وإذا صحت المقدمتان؛ ثبت أنه لا نسخ في أكثر الأحكام المكية، بل في القليل منها، وهو المطلوب.
ب- ما أضافه بقوله: "وإلى هذا؛ فإن الاستقراء....إلخ"، وحاصله أن من تتبع الناسخ والمنسوخ من الأحكام الجزئية نفسها تبين له أن ما نسخ من الجزئيات أقل من المحكم منها، وهذا كما يصح دليلًا على قلة النسخ في الأحكام المكية يدل على قلته في الأحكام المدنية أيضًا، وإن كان سياقه للاستدلال على المكي.
ج- في قوله: "ووجه آخر وهو أن الأحكام ... إلخ"، وهو كسابقه عام للمكي والمدني، ولذلك أحال عليهما في الفصل عند الاستدلال على أن الأمر كذلك في سائر الأحكام. "د".
3 أي: في الأحكام المنزلة بمكة، لا في الأحكام الكلية؛ حتى لا يتنافى مع قوله بعد: "لا يكون فيها وقوعًا ... إلخ"، وقوله: "لم يثبت نسخ لكلي"، ولو قال فيه؛ لكان نصًا في المراد. "د".
(3/338)
 
 
لِكُلِّيٍّ أَلْبَتَّةَ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ كُتُبَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ تحقق هذا المعنى؛ فإنما يكون النسخ من الجزيات منها، والجزيات المكيه قليلة.
وإلى هذا؛ فإن الاستقرار يُبَيِّنُ أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ الْفَرْعِيَّةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَقِيَ مُحْكَمًا قَلِيلَةٌ، وَيَقْوَى1 هَذَا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمَنْسُوخَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرَ الْمَنْسُوخِ مِنَ الْمُحْكِمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] .
فَدُخُولُ النُّسَخِ فِي الْفُرُوعِ المكية قليل، وهي قَلِيلَةٌ؛ فَالنُّسَخُ فِيهَا قَلِيلٌ [فِي قَلِيلٍ] ، فَهُوَ إِذًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ نَادِرٌ2.
وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِذَا ثَبَتَتْ عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ فَادِّعَاءُ النَّسْخِ فِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ3 لِأَنَّ ثُبُوتَهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ أَوَّلًا مُحَقَّقٌ؛ فَرَفْعُهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ4 الْقُرْآنَ وَلَا الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْمَقْطُوعِ بِهِ بِالْمَظْنُونِ؛ فاقتضى
__________
1 لأنه حينئذ يكون مقابلًا للمحكم الذي نصت الآية على أنه أم الكتاب وأصله والغالب فيه. "د".
2 أي: لأنه قليل فيما هو في ذاته قليل. "د".
3 يشبه كلام ابن النحاس الآتي بعد؛ فلعله مأخذه. "د".
4 نعم هو قول الأكثرين، وحجتهم واضحة، وإنما قبلوا تخصيص المتواتر بالآحاد ولم يقبلوا نسخه به لأن الأول بيان وجمع بين الدليلين، بخلاف النسخ؛ فإنه إبطال. "د".
قلت: انظر توسعا في المسألة في: "الرسالة" "106"، و"التبصرة" "264"، و"المنخول" "292"، و"المستصفى" "1/ 80" و"أصول السرخسي" "2/ 67"، و"المحصول" "3/ 519"، و"الإحكام" "4/ 617" لابن حزم، و"الإحكام" "7/ 217" للآمدي، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 195-197"، و"البحر المحيط" "4/ 97-98"، و"كشف الأسرار" "7/ 175"، و"المسودة" "201-204"، و"تيسير التحرير" "3/ 203"، و"إرشاد الفحول" "191" و"مذكرة في أصول الفقه" "84".
(3/339)
 
 
هَذَا أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ يَدَّعِي نَسْخَهُ لَا يَنْبَغِي قَبُولُ تِلْكَ الدَّعْوَى فِيهِ إِلَّا مَعَ قَاطِعٍ بِالنَّسْخِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَلَا دَعْوَى الْإِحْكَامِ فِيهِمَا.
فَصْلٌ
وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مَكِّيَّةٌ كَانَتْ أَوْ مَدَنِيَّةٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ1 مَا ادُّعِيَ فِيهِ النَّسْخُ إِذَا تَأَمَّلْ2؛ وَجَدْتَهُ مُتَنَازِعًا فِيهِ، وَمُحْتَمَلًا، وَقَرِيبًا مِنَ التَّأْوِيلِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ، مِنْ كَوْنِ الثَّانِي بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، أَوْ تَخْصِيصًا لِعُمُومٍ، أَوْ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ الْإِحْكَامِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.
وَقَدْ أَسْقَطَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ "النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ"3 كَثِيرًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: "أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فُرِضَتْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا".
قَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: "فَلَمَّا ثَبَتَتْ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْأَحَادِيثِ4 الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَالَ إِلَّا بِالْإِجْمَاعِ أَوْ حَدِيثٍ يُزِيلُهَا ويبين نسخها، ولم
__________
1 ومنه يعلم أن الطريقة التي جرى عليها مثل الجلالين في "التفسير" ليست على ما ينبغي، وإن كان جريًا على الاصطلاح الآتي في المسألة بعد؛ فهو تساهل في التعبير غير محمود في بيان كلام الله تعالى. "د".
2 في "م" و"ط": "تؤمل".
3 طبع في مجلدين سنة "1413هـ" عن مكتبة الثقافة الدينية بمصر، بتحقيق د. عبد الكبير المدعري.
4 في مطبوع "الناسخ والمنسوخ" و"ط": " ... وبالأسانيد".
(3/340)
 
 
يأتِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ"1 انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ.
وَوَجْهٌ رَابِعٌ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ النَّسْخِ وَنُدُورِهِ؛ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا هُوَ مُبَاحٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ2 كَالْخَمْرِ وَالرِّبَا؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُمَا3 بَعْدَ مَا كَانَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لَا يُعَدُّ نَسْخًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ4 الْأَصْلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي حَدِّ النَّسْخِ: إِنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ5 بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ، وَمِثْلُهُ رَفْعُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِدَلِيلٍ.
وَقَدْ كَانُوا فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى أَنْ نَزَلَ6: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238] .
__________
1 "الناسخ والمنسوخ" "ص294".
2 انظر له: "حاشية التفتازاني" "2/ 185".
3 في "ط": "كالخمر والزنا فإن تحريمها ... ".
4 يدل على أن الخمر كان مباحا بحكم الأصل قبل نزول تحريمه بالمدينة، وهذا يحتاج إلى الجمع بينه وبين ما سبق له أن تحريمه داخل في الأصل المكي إجمالًا وهو حرمة الجناية على النفس والأعضاء. "د".
5 أي: والمباح بحكم الأصل والعادة الجارية قبل الشرع لا يعتبر حكمًا شرعيًا. "د".
قلت: انظر في تعريفات النسخ: "الإحكام" "7/ 180" للآمدي، و"الإحكام" "4/ 59" لابن حزم، و"البرهان" "2/ 56" للزركشي، وأثبت الدكتور مصطفى زيد في كتابه "النسخ في القرآن الكريم" "1/ 60 وما بعدها" الأقوال التي ذكرت في حده، وناقشها مناقشة مطولة؛ فانظره فإنه مفيد.
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} ، 8/ 198/ رقم 4534"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 2/ 383/ رقم 539" عن زيد بن أرقم؛ قال: "كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة؛ حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238] ؛ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام". لفظ مسلم.
قال ابن حبان في "صحيحه" "6/ 27-28 - مع الإحسان": "هذا الخبر يوهم من لم يطلب العلم من مظانه أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة"، قال: "وذاك أن زيد بن أرقم من =
(3/341)
 
 
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْتَفِتُونَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أن نزل1 "قوله": {الَّذِينَ هُم
__________
= الأنصار، وقال: كنا نتكلم في الصلاة بالحاجة، وليس مما يذهب إليه الواهم فيه في شيء منه، وذلك أن زيد بن أرقم كان من الأنصار الذين أسلموا بالمدينة، وصلوا بها قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إليهما، وكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم، فلما نُسخ ذلك بمكة؛ نُسخ كذلك بالمدينة؛ فحكى زيد ما كانوا عليه، لا أن زيدًا حكى ما لم يشهده".
وقال "ف": "القنوت هنا: الإمساك عن الكلام".
1 أخرج الحاكم في "المستدرك" "2/ 393"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 283" "والحازمي في "الاعتبار" "60"، وابن جرير في "التفسير" "18/ 3"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص227" عن ابن سيرين؛ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء، تدور عيناه ينظر ههنا وههنا؛ فأنزل الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ؛ فطأطأ ابن عون رأسه، ونكس في الأرض".
وصله الحاكم عن أبي هريرة، وقال البيهقي عن المرسل: "هذا هو المحفوظ"، وقال: "ورواه حماد بن زيد عن أيوب مرسلا، وهذا هو المحفوظ"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولولا خلاف فيه على محمد؛ فقد قيل عنه مرسلًا"، قال الذهبي: "الصحيح مرسل" "وهذا الذي رجحه شيخنا في "الإرواء" "2/ 71-73/ رقم 354"، وعزاه ابن ضويان في "منار السبيل" "1/ 92" لأحمد في "الناسخ والمنسوخ"، وسعيد بن منصور في "السنن". وانظر: "زاد المعاد" "1/ 249"؛ فالحديث ضعيف.
وسرد ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 308" ما ورد عن ابن سيرين، وأتبعه بقوله: "وروي عن غيره أن المؤمنين كانوا يلتفتون في الصلاة ويتكلمون؛ فنسخ الله ذلك"، ثم قال "2/ 309": "وحديث ابن سيرين باطل، وما روى غيره لا أصل له، إنما روي في "الصحيحين": "إنا كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} ؛ فأُمرنا بالسكوت".
قلت: قضية الكلام مضى تخريجها في الحديث السابق، والمصنف نقل عن ابن العربي ولم ينقل حكمه على الحديث، ومثل هذا يقع كثيرا له؛ فهو لا يفلِّي الأخبار، ولا يمحص الآثار، ولا يبحث عن ناقليها، وشاب كتابه -وهو جوهرة عديمة النظير-بمثل هذا، عفا الله عنا وعنه بمنه وكرمه، وألمح ابن العربي أيضا في "أحكام القرآن" "3/ 1295" لتضعيف هذا الحديث، والله الموفق. وفي "ط": "نزلت".
(3/342)
 
 
فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 2] ، قَالُوا: وَهَذَا إِنَّمَا نَسَخَ أَمْرًا1 كَانُوا عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ2 عَلَى ذَلِكَ، مَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ؛ فَهُوَ مِمَّا لَا يُعَدُّ نَسْخًا، وَهَكَذَا كُلُّ مَا أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ مِنْ أَحْكَامِ3 الْجَاهِلِيَّةِ.
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ، وَنَظَرْتَ إِلَى الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لَمْ يَتَخَلَّصْ فِي يَدِكَ مِنْ مَنْسُوخِهَا إِلَّا مَا هو نادر، على أن ههنا مَعْنًى يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ لِيُفْهَمَ اصْطِلَاحُ الْقَوْمِ في النسخ، وهي:
__________
1 أي: فليس نسخًا لحكم شرعي، بل تعمير للذمة بعد أن كانت غير مشغولة، وقد تفنن في تسمية هذا النوع تحريم ما هو مباحة بالإباحة الأصلية، أو رفع براءة الذمة بدليل، أو نسخ أمر كانوا عليه، وهي عبارات ثلاث استعملها في معنى واحد زيادة في إيضاح الفرق بينه وبين نسخ الحكم الشرعي. "د".
2 أي: أكثر تشريع القرآن رفع ونقض لما كانوا عليه، وإن كان أمهلهم مدة وأخذهم بالتدريج في تشريع ما به إصلاح عاداتهم وعبادتهم؛ فلا يعد نسخًا لأنه إنشاء لأحكام لم يسبقها تشريع في موضوعها. "د".
3 في "م": "الأحكام".
(3/343)
 
 
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ النَّسْخَ عِنْدَهُمْ فِي الْإِطْلَاقِ أَعَمُّ مِنْهُ فِي كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ1؛ فَقَدْ يُطْلِقُونَ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ نَسْخًا، وَعَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ نَسْخًا، وَعَلَى بَيَانِ الْمُبْهَمِ وَالْمُجْمَلِ نَسْخًا، كَمَا يُطْلِقُونَ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ نَسْخًا؛ لِأَنَّ جميع ذلك مشترك في معنى واحدًا، وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِ اقْتَضَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا جِيءَ بِهِ آخِرًا؛ فَالْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَارٍ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ مَعَ مُقَيِّدِهِ؛ فَلَا إِعْمَالَ لَهُ فِي إِطْلَاقِهِ، بَلِ الْمُعْمَلُ هُوَ الْمُقَيَّدُ، فَكَأَنَّ2 الْمُطْلَقَ لَمْ يُفِدْ مَعَ مُقَيِّدِهِ شَيْئًا؛ فَصَارَ مِثْلَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَكَذَلِكَ الْعَامُّ مَعَ الْخَاصِّ؛ إِذْ كَانَ ظَاهِرُ الْعَامِّ يَقْتَضِي شُمُولَ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، فَلَمَّا جَاءَ الْخَاصُّ أَخْرَجَ حُكْمَ ظَاهِرِ الْعَامِّ عَنِ الِاعْتِبَارِ؛ فأشبه الناسخ والمنسوخ؛ إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَمْ يُهْمَلْ مَدْلُولُهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا أُهْمِلَ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ3 الخاص،
__________
1 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 29-30، 272-273"، و"الإحكام" لابن حزم "4/ 67"، و"فهم القرآن" "398" للمحاسبي، و"إعلام الموقعين" "1/ 29"، و"تفسير القرطبي" "2/ 288"، و"الفوز الكبير في أصول التفسير" "ص112-113" للدهلوي، و"النسخ في دراسات الأصوليين" "521"، و"أحكام القرآن" "1/ 197"، ومقدمة محقق "الناسخ والمنسوخ" "1/ 197" لابن العربي، و"محاسن التأويل" "1/ 13"، و"الإتقان" "2/ 22" لنادية العمري، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص88-90" لمكي بن أبي طالب.
2 إنما قال "كأن"؛ لأن الواقع أن المطلق لم يهمل مدلوله جملة كما سيأتي في العام بعد؛ فيقال نظيره هنا، أي أن الذي أهمل إنما هو الاحتمالات الأخرى لغير المقيد. "د".
3 أي: أهمل منه ما دل الخاص على إهماله، وهو ما عدا مدلول الخاص. "د". قلت: في الأصل: "وإنما العمل عليه ... ".
(3/344)
 
 
وَبَقِيَ السَّائِرُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَالْمُبَيَّنُ مَعَ الْمُبْهَمِ1 كَالْمُقَيَّدِ مَعَ الْمُطْلَقِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ؛ استهل إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّسْخِ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِرُجُوعِهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.
وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ2 أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الْإِسْرَاءِ: 18] إِنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشُّورَى: 20] .
وَعَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ تقييد لمطلق؛ إذ كَانَ قَوْلُهُ: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} مُطْلَقًا، وَمَعْنَاهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي "الْآيَةِ" الْأُخْرَى: {لِمَنْ نُرِيد} ، وَإِلَّا فَهُوَ إِخْبَارٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا3 النسخ.
__________
1 كما يأتي مثاله بعد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} مع قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم} الآية. "د".
2 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص254" بإسناد ضعيف، وقال: "والقول الآخر إنها غير منسوخة، وهو الذي لا يجوز غيره؛ لأن هذا خبر ... ".
وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 355" لابن العربي، و"نواسخ القرآن" "219-220" لابن الجوزي.
3 أي: لا يدخل النسخ مدلول الخبر وثمرته إن كان مما لا يتغير؛ كالإخبار بوجود الإله وبصفاته؛ فدخول النسخ في هذا المدلول محال بإجماع، أما إذا كان مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو؛ ففيه خلاف، والمختار جوازه، وأما نسخ تلاوة الخبر أو نسخ تكليفنا به كما إذا كلفنا بأن نخبر بشيء ثم ورد نسخ التكليف بذلك؛ فكل من هذين جائز لأنه من التكليف فيدخله النسخ، فانظر معنى الآية: هل هو مما يتغير فيدخله النسخ على المختار، أم لا يتغير فلا يدخله؟ وقالوا: إن من أمثلة ما لا يتغير أن تقول: أهلك الله زيدًا؛ لأنها حادثة واحدة تقع مرة واحدة؛ فلا يتأتى فيها التغيير، والتحقيق أن بعض الأخبار يجوز في مدلولها النسخ كما إذا كان الخبر عامًا؛ فيأتي الثاني يبين تخصيصه وقصره على البعض كما في الآية؛ إلا أنه يكون على اصطلاح المتقدمين لا اصطلاح الأصوليين، وكلامه في هذا. راجع "الإحكام" "3/ 163" للآمدي. "د".
(3/345)
 
 
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون....} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُون} [الشُّعَرَاءِ: 224-226] : هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} 1 الآية [الشعراء: 227] .
قال مكي2: "وقد ذكر ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهَا حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ؛ أَنَّهُ قَالَ: مَنْسُوخٌ".
قَالَ: "وَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى3 مُرْتَبِطٌ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بيّنَه حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ4 فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ الَّذِينَ عَمَّهُمُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ، وَالنَّاسِخُ
__________
1 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص240" بإسناد ضعيف، وقال بعد كلام: "..... هذا الذي تسميه العرب استثناء لا نسخا....".
وأخرج أبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر، رقم "5016" من طريق علي بن حسين بن واقد المروزي -وهو صدوق يهم- عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس؛ قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون} ؛ فنسخ من ذلك واستثنى؛ فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} .
وأخرج نحوه ابن جرير في "التفسير" "19/ 179"، وابن النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص240" عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهذا إسناد حسن.
والشاهد أن النسخ هنا بمعنى التخصيص؛ كما هو ظاهر من قوله: "واستثنى"، وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 323" لابن العربى.
2 في كتابه "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص373-374".
3 في مطبوع "الإيضاح": "الاستثناء".
4 قال "ف": "الأنسب: "بيّن حرف الاستثناء أنه ... " إلخ، أو "نبه حرف الاستثناء أنه" ا. هـ.
رد عليه "د" بقوله: "إنه بدل من الضمير في بينه؛ فالكلام واضح لا يحتاج لتصحيح كما ظن". قلت: نص عبارة مكي في "الإيضاح" "ص374": " ... بالمستثنى منه، يليه حرف الاستثناء الذي يلزمه؛ فبين أنه في بعض الأعيان ... "، ومنه يظهر صواب ما عند "ف".
(3/346)
 
 
منفصل1 من الْمَنْسُوخِ رَافِعٌ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ بِغَيْرِ حَرْفٍ".
هَذَا مَا قَالَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ النَّسْخِ؛ إِذْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النُّورِ: 27] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَة} الآية [النور: 29] 2.
وَلَيْسَ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ؛ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ] يُثْبِتُ3 أَنَّ الْبُيُوتَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْمَسْكُونَةُ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] : إنه منسوخ4
__________
1 لأنه قد أخذ في تعريفه أن يكون الدليل الناسخ متأخرًا عن المنسوخ، ويلزمه أن يكون بغير حروف الاستثناء. "د". وفي "د": "منفصل عن ... "، وفي مطبوع "الإيضاح" "ص314": "منفصل من المنسوخ، وهو رافع لحكم المنسوخ، وهو بغير حرف الاستثناء".
2 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص231" بإسناد ضعيف، وقال المحاسبي في "فهم القرآن" "ص426": "وقد كان بعض من مضى يرى أن آية الاستئذان منسوخة، والعلماء اليوم مجمعة أنها ثابتة؛ إلا أن بعضهم رأى أن دق الباب يجري من الاستئذان".
وانظر: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 316-317"، وأحكام القرآن "3/ 1347-1352"، كلاهما لابن العربي.
3 بل في نفس الآية الأخرى ما يثبت أنها خاصة بالمسكونة؛ لأن قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} يقتضي ذلك. "د". في "ط": "بينت" بدل "يثبت"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 وبه قال عطاء، وهو مبني على أن الآية الثانية في الجهاد، وقد بين الفخر مع هذا أنه لا يلزم النسخ، وقيل: إنها في أحكام التفقه في الدين لا دخل لها بالجهاد كما قاله المؤلف؛ إلا أنه لا داعي إذن لقوله: "ولكنه نبه.... إلخ" لأن هذا هو معنى النسخ. "د".
(3/347)
 
 
بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة} 1 [التَّوْبَةِ: 122] ، وَالْآيَتَانِ فِي مَعْنَيَيْنِ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ لَا يَجِبَ النَّفِيرُ عَلَى الْجَمِيعِ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول} [الْأَنْفَالِ: 1] : مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} [الْآيَةَ] 2 [الْأَنْفَالِ: 41] ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بَيَانٌ لِمُبْهَمٍ3 فِي قَوْلِهِ: {لِلَّهِ وَالرَّسُول} .
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْء} [الْأَنْعَامِ: 69] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} الآية4 [النساء: 140] ، وَآيَةُ الْأَنْعَامِ5 خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَالْأَخْبَارُ لَا
__________
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في نسخ نفير العامة، رقم 2505"، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 385"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 47"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص201" من طرق عنه، ولا تسلم أي طريق من طرقه من ضعف، ولكن الضعف يسير في كل منها، وهو قابل للجبر، والله الموفق.
وانظر لزامًا: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 248-251" لابن العربي، و"فهم القرآن" "ص463-464" للحارث المحاسبي، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" "ص315".
2 أخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 400"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 217"، وذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص182"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 224"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "464"، ومكي في "الإيضاح" "ص295"" وما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة.
3 في "م": "المبهم".
4 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص168-169" بإسناد ضعيف، وانظر: "فهم القرآن" "ص416-417"، و"الإيضاح" "ص282".
5 نزل بمكة: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُون} الآية؛ فشكا المسلمون أنهم يحرمون =
(3/348)
 
 
تَنْسَخ وَلَا تُنْسَخ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين
__________
= من المسجد الحرام والطواف؛ إذ كان كلما حصل من المشركين خوض واستهزاء تركوا المكان الذي يجلسون فيه، وهذا حرج؛ فنزلت الرحمة والرخصة بقوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُون} ؛ أي: الشرك والمعاصي، {مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى} ؛ فأبيح لهم البقاء في أماكنهم مع تذكير الخائضين وإرشادهم، ثم إن المنافقين في المدينة كانوا يجالسون أحبار اليهود ويسمعون منهم الهزء والطعن في الإسلام والقرآن؛ فنزلت الآية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب} خطابا للمنافقين بأنه نزل عليكم في القرآن أن إذا سمعتم آيات الله ... إلخ إلى أن قال: إنكم أيها المنافقون إذًا مثل هؤلاء الأحبار الكفار، وعليه؛ فالمراد بما أنزل عليهم في الكتاب هو آية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُون} إلخ الموجبة لقيامهم من مجلس الخائضين. راجع الفخر الرازي في الآيتين، وعلى ما قاله يكون حصل نسخ مرتين: نسخ لعزيمة القيام بالتخفيف وإباحة الجلوس مع الذكرى، وكل من الناسخ والمنسوخ في سورة الأنعام، ونسخ للتخفيف ثانيًا بآية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَاب} إلخ في سورة النساء، وقد قالوا: إن هذا لا يعهد مثله في الشريعة؛ كما قاله ابن القيم في غير موضع من كتابه "زاد المعاد"، هذا ثم لا يخفى أن قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُون} يفيد حكمًا شرعيًا هو رفع الحرج؛ فيصح أن يكون ناسخًا ومنسوخًا لأنه ليس بخبر معنى، خلافًا لما قاله المؤلف أولًا وآخرًا، وسيأتي مثله في الأمر غير الصريح. "د".
قلت: نقل ابن العربي في "ناسخه" "2/ 211" أن الذي عليه أهل التفسير أنه لا نسخ في هذه الآية، قال: "لأنه خبر، والآيتان محكمتان، ومعنى الآية أنه إذا نهى عن المنكر؛ فليس عليه حساب من فعله"، ثم تعقب هذا القول بكلام شديد، قال: "هذه غباوة ظاهرة، ليس هذا بخبر، بل هو صريح أمر؛ لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه} ، فإن نسيت فتذكرت؛ فقم ساعة تذكارك عنهم، ولا تقعد بعد ذلك معهم، وهذا منسوخ بأمره بالقتل والقتال بلا إشكال، والآية التي في النساء مثلها؛ فإنه نهاهم الله أن يجالسهم إذا سمعهم يكفرون، وهذه أيضًا منسوخة بالأمر بالقتال إذا كان مأجورًا أن يقوم عنهم إذا سمعهم يستهزئون بآيات الله ويكفرون، وصار بعد ذلك مأمورًا بأن يقاتلهم ويقيم الحد بالقتل في ذلك عليهم، وهذا نسخ بين".
(3/349)
 
 
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} الآية [النساء: 8] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ1.
وَقَالَ مِثْلَهُ الضَّحَّاكُ والسُّدِّي وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ".
وَقَالَ ابن المسيِّب: "مسخه الْمِيرَاثُ وَالْوَصِيَّةُ"2.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مُمْكِنٌ؛ لِاحْتِمَالِ [حَمْلِ] 3 الْآيَةِ عَلَى النَّدْبِ، وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْقُرْبَى مَنْ لَا يَرِثُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ} [فقيد] كما
__________
1 أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه -كما في "فتح الباري" "8/ 242"- والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص115"، وابن الجوزي في "الناسخ والمنسوخ" "ص199" من أوجه ضعيفة؛ كما قال ابن حجر.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} ، 5/ 388/ رقم 4576" عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال عن الآية: "هي محكمة، وليست بمنسوخة".
وأخرج البخاري أيضًا في "صحيحه" "كتاب الوصايا، باب قوله الله عز وجل {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} ، 5/ 388/ رقم 2759" عن ابن عباس؛ قال: "إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، ولا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس، هما واليان: وال يرث وذاك الذي يرزق، ووال لا يرث؛ فذاك الذي يقول بالمعروف، يقول: لا أملك لك أن أعطيك".
وأخرج نحوه الحاكم في "المستدرك" "2/ 302-303"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 266-267".
2 قال ابن حجر في "الفتح" "8/ 243": "وصح ذلك -أي: النسخ- عن سعيد بن المسيب، وهو قول القاسم بن محمد وعكرمة وغير واحد، وبه قال الأئمة الأربعة وأصحابهم".
قلت: وأسند النسخ عن الضحاك: سعيد بن منصور في "سننه" "3/ 1172"، وابن جرير في "تفسيره" "8/ 10/ رقم 8680 - ط شاكر"، وفيه جويبر، وهو ضعيف.
وانظر: "تفسير القرطبي" "5/ 48-49"، و"أحكام القرآن" للشافعي "ص147-149"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 146-147"، و"أحكام القرآن" "1/ 329"، كلاهما لابن العربي، و"فهم القرآن" "ص439-440" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص210"، وفيه ما عند المصنف.
3 ما بين المعقوفين سقط من الأصل.
(3/350)
 
 
تَرَى1 الرِّزْقَ بِالْحُضُورِ؛ [فَدَلَّ أَنَّ] 2 الْمُرَادَ غَيْرُ الْوَارِثِينَ، وَبَيَّنَ الْحَسَنُ3 أَنَّ الْمُرَادَ النَّدْبُ أَيْضًا بِدَلِيلِ آيَةِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ فَهُوَ مِنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبْهَمِ.
وَقَالَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 284] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: [ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] ، مَعَ أَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي وُسْعِ الْإِنْسَانِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ] : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 4 [الْبَقَرَةِ:
__________
1 هكذا في "ط" فقط، وسقط ما بين المعقوفتين من الأصل والنسخ المطبوعة، ولذا قال "ف": "في العبارة تحريف، ولعل الأصل بدليل قوله "إذا حضر"، حيث قيد الرزق بالحضور؛ فدل على أن المراد غير الوارثين لأن الوارث يرزق مطلقًا حضر أو غاب". وتابعه "م"، أما "د"؛ فقال: "تحريف، ولعل الأصل: لما شرط الرزق بالحضور كان المراد.... إلخ".
2 كذا في "ط"، وبدله في غيره: "فإن".
3 أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" "1/ 149" -ومن طريقه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "116"- وابن جرير في "تفسيره" "8/ 9/ رقم 8667، 8671"، وسعيد بن منصور في "تفسيره" "3/ 1170/ رقم 579"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص254" من طرق عن الحسن بألفاظ منها: "هي محكمة، وذلك عند قسمة ميراث الميت". لفظ عبد الرزاق.
و"هي ثابتة، ولكن الناس بخلوا وشحوا". أحد ألفاظ ابن جرير.
و"فغير قرابة الميث يرضخ -والرضخ: العطية القليلة- لهم القدح أو الشيء؛ فكان يقول لهم: إنها لم تنسخ". لفظ سعيد بن منصور، وإسناده صحيح.
ويتأكد الندب بما قاله مكي في "الإيضاح" "ص210-211": "ويدل على أنها على الندب قوله في آخر الآية: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} ؛ أي: إن لم تعطوهم شيئًا ولم توصوا لهم؛ فقولوا لهم قولا حسنا، وأيضًا؛ فإنها لو كانت فرضا لكان الذي لهم معلوما محدودا كسائر الفرائض"، ثم ذكر أن الإجماع عليه، وقال: "وهذا هو الصواب إن شاء الله، وهو مذهب مالك وأكثر العلماء"، ثم قال: "فالآية محكمة على الندب والترغيب غير منسوخة".
4 أخرج النسخ عن ابن مسعود: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 506"، وابن جرير =
(3/351)
 
 
286] بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ1 الْآيَةَ بِكِتْمَانِ الشهادة2؛ إذ تقدم3 قوله
__________
= في "التفسير" "6/ 112/ رقم 6478 - ط شاكر".
وأخرجه عن ابن عباس: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 515"، وأحمد في "المسند" "1/ 322"، والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "ص436"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 287"، وابن جرير في "التفسير" "رقم 6458، 6459، 6461، 6462" -وصححه الحاكم ووافقه الذهبي- والشافعي في "مسند" "422 - رواية المزني"، والطبراني في "الكبير" "رقم 10769، 10770"، والطحاوي في "المشكل" "رقم 1626-1628 - ط الجديدة"، وأبو داود في "ناسخه"، وعبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب" -كما في "الدر المنثور" "2/ 128"- وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "فتح الباري" "8/ 206".
1 معنى الآية على كلام ابن عباس: إن تبدوا ما في أنفسكم وما تعلمونه في موضوع الشهادة بأن تقولوا لصاحب الحق: نعلم الشيء ولكنا لا نشهد به عند الحكام، أو تخفوه بألا تطلعوا صاحب الحق على ما تعلمونه؛ يحاسبكم به الله على كل حال لأنه كتمان للشهادة ومضيع للحق، فيكون قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ... } إلخ من باب بيان المجمل لقوله: {وَلا تَكْتُمُوا} ؛ فقد كان يحتمل الأمرين كما يحتمل أحدهما فقط، وعليه لا تكون آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} مرتبطة بهذه الآية؛ فقوله: "بدليل ... إلخ" سقط منه كلام تقديره1: "وليس بمنسوخ بدليل ... "، أما على رواية أنه لما نزلت آية: {وَإِنْ تُبْدُوا} شق الأمر على الصحابة وجثوا على ركبهم أمامه صلى الله عليه وسلم، وقالوا: كلفنا من الأمر ما نطيق، من صوم وصلاة ... إلخ، ولكن نزلت هذه الآية وليس في وسعنا تنزيه النفس عن الهواجس والخواطر السيئة؛ فأنزل الله آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، يعني: فلا يكلفكم بالخواطر وما يكون في النفس غير العزم على الفعل الذي تطيقونه؛ فيكون معنى كونها ناسخة لآية {وَإِنْ تُبْدُواْ} أنها مبينة لإجمالها أو مخصصة لها ببعض ما يشمله قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} .
والحاصل أنه على رأي ابن عباس لا تعلق لآية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} بآية: {وَإِنْ تُبْدُواْ} [البقرة: 283] ، وتكون هذه محكمة ولا تخصيص فيها، بل هي مبينة لإجمال آية: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} ، وأما إذا جرينا على رواية جثو الصحابة على الركب؛ فتكون آية: {لا يُكَلِّفُ} مخصصة أو مبينة لإجمال آية: {وَإِنْ تُبْدُوا} الذي كان بظاهره يشمل الهواجس والخواطر؛ فنزلت الآية =
1 أثبتناه من "ط" وحده بنحوه، وهو بين معقوفتين.
(3/352)
 
 
{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [الْبَقَرَةِ: 283] ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 284] ؛ فَحَصَلَ أَنَّ ذَلِكَ من باب
__________
= مخرجة لما عدا العزم الذي في الوسع اجتنابه، ويكون قوله: "فحصل أن ذلك من باب التخصيص ... إلخ" "صحيحا، لكن بما شرحناه، ويكون في الكلام سقط آخر قبل قوله: "فحصل" تقديره: وعلى فرض رواية الجثو وعدم مسايرة ابن عباس تكون آية: {لا يُكَلِّفُ} مخصصة أو مبينة لآية {وَإِنْ تُبْدُوا} لا ناسخة، ولا يخفى عليك أن الكلام لا يستقيم إلا بتقدير شيء ساقط منه؛ لأن ابن مسعود الذي يقول كما في البخاري ومسلم: "والله الذي لا إله إلا هو؛ ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تعالى تبلغه الإبل؛ لركبت إليه"، الذي يقول ذلك لا يقول: إنها منسوخة بدليل أن ابن عباس فسر الآية، ولكنه إذا قال بالنسخ؛ فإنما يقول بعلمه هو.
هذا وقد روى البغوي* في "تفسيره" [1/ 514] بجملة طرق؛ أن ابن عباس يقول: إنها منسوخة بآية: {لا يُكَلِّفُ} راويا حديث جثو الصحابة وشدة ما لحقهم بسبب هذه الآية، ومعنى كونها منسوخة على رأيه هذا أن تكون مخصوصة أو مبنية بها على ما شرحناه، ولم يذكر البغوي عنه الوجه الذي ذكره المؤلف من رجوعها إلى قوله: {وَلا تَكْتُمُوا} ، بل ذكر وجها آخر عنه: إنها محكمة على أن معنى يحاسبكم يخبركم به، وأن الحساب لا يستلزم العقاب، وأنها تتلاقى مع حديث: "فأما المؤمن؛ فيقول له ربه: ألم تفعل كذا، ألم تفعل كذا؟ ثم يقول: سترتها عليك في الدنيا واليوم أغفرها لك، وأما الفاجر؛ فيحاسبه على شركه وكفره"، وهذا معنى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} ، ولا شك أن هذا غير ما نقله المؤلف عنه هنا. "د".
2 أخرج أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" "رقم 502"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 247"، وابن جرير في "التفسير" "رقم 6450، 6454" من طريق يزيد بن أبي زياد عن مِقْسم عن ابن عباس في هذه الآية؛ قال: "نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها".
ويزيد ضعيف، كبر فتغير، صار يتلقن، وكان شيعيًا، ومقسم صدوق، وكان يرسل؛ فالأثر ضعيف.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 6449" من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس.
3 في "ط": "إذ قد تقدم".
__________
* أورد ذلك من غير إسناد، وقد سبق أن خرجناه؛ فاقتضى التنبيه.
(3/353)
 
 
تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، أَوْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النُّورِ: 31] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ1 بِقَوْلِهِ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الْآيَةَ [النُّورِ: 60] ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُمُومِ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 5] أَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2 [الْأَنْعَامِ: 121] ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ [أَنَّ] 3 طَعَامَهُمْ حَلَالٌ بِشَرْطِ التَّسْمِيَةِ؛ فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ4، لَكِنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ هِيَ آيَةُ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ في الوجه الأول، وفي الثاني بالعكس5.
__________
1 أخرج نحوه ابن جرير في "التفسير" "18/ 165"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص200"، وقال: "وكذلك قال الضحاك، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الآية فيمن يخاف الافتتان بها، وهذه الآية في العجائز؛ فلا نسخ"، وحكاه ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 317-318"، وقال مكي في "الإيضاح" "366": "فهذا بالتخصيص أشبه منه بالنسخ".
2 حكاه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص145"، ومكي في "الإيضاح" "ص261" عن أبي الدرداء وعبادة، وحكاه ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 214-215" عن عكرمة، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "156" عن جماعة منهم الحسن وعكرمة، ورجحوا جميعا أن المراد بالنسخ إن صح؛ التخصيص.
3 زيادة من "د" و"ط"، وسقطت من الأصل و"م" و"ف".
4 في "ف": "تخصيص"، وقال: "لعله التخصيص"، وفي "ط": "تخصيص العموم".
5 إلا أنه يتوقف على صحة تخصيص المتقدم للمتأخر؛ لأن سورة المائدة متأخرة عن الأنعام، وهو رأي الأكثر، يقولون: يخصص العام بالخاص مطلقًا تقدم أو تأخر، وقال بعضهم: لا يخصص الكتاب الكتاب مطلقًا تقدم المخصص أو تأخر، وقال إمام الحرمين وأبو حنيفة: "إنما يتخصص العام بالخاص إذا تقدم العام في التاريخ، وإلا كان العام المتأخر ناسخًا". "د".
(3/354)
 
 
وَقَالَ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الْأَنْفَالِ: 16] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَالِ: 65] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ1، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ، وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ} ؛ فَكَأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وَكَانُوا مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَلَا تَعَارُضَ وَلَا نَسْخَ بِالْإِطْلَاقِ2 الْأَخِيرِ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ [عَلَى] خَالَتِهَا3، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ العموم.
__________
1 حكماء النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص184"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 226-228"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص165-166"، وقال: "وقال آخرون: هي محكمة، وهذا هو الصحيح؛ لأنها محكمة في النهي عن الفرار؛ فيحمل النهي على ما إذا كان العدو أعلى من عدد المسلمين، وقد ذهب إلى نحو هذا ابن جرير".
قلت: وذلك في "تفسيره" "9/ 135"، وخطأ ابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 366" القول بالنسخ، وقال عنه: "وهذا خطأ من قائله؛ لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاث مائة ونيفا، والكفار كانوا تسع مائة ونيفا؛ فكان للواحد ثلاثة، وأما هذه المقابلة -وهي الواحد بالعشر- فلم ينقل أن المسلمين صافوا المشركين عليها قط، ولكن البارئ فرض ذلك عليهم أولا، وعلله بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو الثواب، وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه، ثم نسخ ذلك، قال ابن عباس: كان هذا ثم نسخ بعد مدة طويلة وإن كانت إلى جنبها".
2 في "ط": "بإطلاق".
وانظر: "فهم القرآن" "459-460" للمحاسبي، و"الإيضاح" "ص296-297".
3 انظر: "الناسخ والمنسوخ" "ص122" للنحاس، ومضى تخريج حديث الجمع بين المرأة وعمتها في "ص82" وهو في "الصحيحين"، وأفاد ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 162" ما عند المصنف، وزاد أيضا على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؛ فقال: "ومن حرم من جهة الرضاع غير الأم والأخت".
وانظر: "نواسخ القرآن" "124" لابن الجوزي، و"الإيضاح" "ص218-219" لمكي بن أبي طالب، وما بين المعقوفتين ليست في "د".
(3/355)
 
 
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 5] : نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي غَافِرٍ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 1 [غَافِرٍ: 7] .
وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ آيَةَ غَافِرٍ مُبَيِّنَةٌ لِآيَةِ الشُّورَى؛ إِذْ هُوَ خَبَرٌ مَحْضٌ2، وَالْأَخْبَارُ لَا نَسْخَ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: "هَذَا لَا يَقَعُ فيه3 نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نُسْخَةِ4 تِلْكَ الْآيَةِ، لَا5 فَرْقَ بَيْنَهُمَا، يَعْنِي أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِحْدَاهُمَا تُبَيِّنُ الْأُخْرَى".
قَالَ: "وَكَذَا6 يَجِبُ أَنْ يُتَأَوَّلَ لِلْعُلَمَاءِ، وَلَا يُتَأَوَّلُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ العظيم، إذا كان لما قالوه وجه".
__________
1 أخرجه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص253"، وحكاه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص218" عن ابن منبه والسدي ومقاتل بن سليمان، وقال ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 351، 354-355": "ليس هذا نسخًا، إنما هو تخصيص عموم، والتخصيص يدخل في العموم؛ كان جزاء أو تكليفا باتفاق".
قلت: ويلزم من القول بالنسخ أن الملائكة استغفرت أولا للمشركين، وهذا كذب لأن الله جل وعز يقول: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، ولم يكن الملائكة يشفعون لمن في الأرض ممن قد علموا أن الله لا يغفر له أبدا، قاله المحاسبي في كتابه "فهم القرآن" "474-475"، وانظر كلامه أيضا: "358-359"، وكلام مكي بن أبي طالب في "الإيضاح" "ص399".
وورد في غير "د": "التي في الطور"، وهو خطأ.
2 أي: ولا يؤول إلى تكليف حتى يدخله النسخ؛ إذ لو كان بمعنى الأمر لصح دخول النسخ فيه. "د".
3 هكذا في "الناسخ والمنسوخ" لابن النحاس و"ط"، "وفي الأصل وباقي النسخ: فيها".
4 وهل قرأها ابن النحاس: "نسختها" اسما مبتدأ خبره الآية التي ... إلخ، أم قرأها فعلا؟ الأول أقرب إلى غرضه، وأيسر في تأويله كلامه. "د".
قلت: الكلمة جاءت في "م": "نسق".
5 في "ط": "لأنه لا".
6 في "ط": "وكذلك".
(3/356)
 
 
قَالَ: "وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشُّورَى: 5] ؛ قَالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ"1.
وَعَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ: [التَّوْبَةِ: 34] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 2 [التَّوْبَةِ: 103] ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ3 لِمَا يُسَمَّى كَنْزًا، وَأَنَّ الْمَالَ إِذَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ لَا يُسَمَّى كَنْزًا، وَبَقِيَ مَا لَمْ يُزَكَّ دَاخِلًا تَحْتَ التَّسْمِيَةِ؛ فَلَيْسَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] : إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 4 [التَّغَابُنِ: 16] ، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ5، وَهَذَا مِنَ الطِّرَازِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الآيتين مدنيتان، ولم
__________
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 190" -ومن طريقه النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "253"- والحارث المحاسبي في "فهم القرآن" "ص428".
2 حكاه مكي في "الإيضاح" "ص314"، وابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 930"، و"الناسخ والمنسوخ" "2/ 259"، وأسنده ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "ص154" عن عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ به.
3 بدليل الأحاديث والآثار الكثيرة الواردة في أن الكنز هو الذي لا تؤدى زكاته، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} ، 8/ 324/ رقم 4661" عن خالد بن أسلم؛ قال: "خرجنا مع عبد الله بن عمر؛ فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة؛ فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال".
4 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 128"، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص107"، والمحاسبي في "فهم القرآن" "ص470"، وابن جرير في "التفسير" "7/ 68، 69/ رقم 7557 - ط شاكر"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "107".
5 قاله مكي في "الإيضاح" "ص203"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ =
(3/357)
 
 
تَنْزِلَا إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ الدِّينَ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ مَرْفُوعٌ فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] : فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُنِ: 16] ؛ فَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالنَّسْخِ أَنَّ إِطْلَاقَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مقيدة بِسُورَةِ التَّغَابُنِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [الْبَقَرَةِ: 228] : إِنَّهُ نَسَخَ1 مِنْ ذَلِكَ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، بِقَوْلِهِ: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الْأَحْزَابِ: 49] ، وَالَّتِي يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ بَعْدُ وَالْحَامِلَ بِقَوْلِهِ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُر.....} إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2 [الطَّلَاقِ: 4] .
وقال ابن عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فِي قَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ،
__________
= 126"، والقرطبي في "تفسيره" "4/ 157"، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "108" و"زاد المسير" "1/ 432"، وقال: "قال شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها؛ فالمعتقد نسخها يرى أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} الوقوف مع جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به؛ فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته؛ فكان قوله تعالى: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسرا لـ {حَقَّ تُقَاتِهِ} ، لا ناسخا ولا مخصصا.
1 يريد: وحكمه يجري على ما سبق من أنه بيان وتخصيص. "د".
2 ذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص76"، ومكي في "الإيضاح" "ص176"، وابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 84-85"، وأسنده عن قتادة ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" "86-87"، وقال: "واعلم أن القول الصحيح المعتمد عليه أن هذه الآية كلها محكمة؛ لأن أولها عام في المطلقات، وما ورد في الحامل، والآيسة والصغيرة؛ فهو مخصوص من جملة العموم، وليس على سبيل النسخ، وأما الارتجاع؛ فإن الرجعية زوجة". وانظر: "فهم القرآن" "419-420" للمحاسبي.
(3/358)
 
 
وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الْكَهْفِ: 29] ، وَقَوْلِهِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التَّكْوِيرِ: 28] : إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 29] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُوَ مَعْنَى لَا يَصِحُّ نَسْخُهُ؛ فَالْمُرَادُ1 أَنَّ إِسْنَادَ الْمَشِيئَةِ لِلْعِبَادِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ2.
وَقَالَ فِي قَوْلِ