مذكرة في أصول الفقه

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: مذكرة في أصول الفقه
المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: 1393هـ)
عدد الأجزاء: 1
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدي للمتقين} ، يهدي للتي هي أقوم، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم إلى صراط مستقيم.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وامام المتقين بلغ الرسالة وأدى الامانة وبين للناس ما نزل إليهم وترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وقد أرسي قواعدها وقعد أصولها، ورضي الله تعالى عن أصحابه الأطهار الذين اقتدوا به وسمعوا منه وبلغوا عنه، ورضي الله عن التابعين الذين سلكوا منهجهم واهتدوا بهديهم ونقلوا هذا الدين عمن قبلهم لمن بعدهم.
وقد تلقت الامة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علما وعملا وسار الناس في ظل هذين الأصلين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي عصر الصحابة والتابعين حتى توالت الفتوحات وتمصرت الأمصار ودخل في الإسلام أمم وجماعات واتسعت ميادين الحياة ووجدت أمور لم تكن من قبل دفعت العلماء للاجتهاد في ايجاد أحكام لها ومعرفة أحكامها.
(1/3)
 
 
ومعلوم أن النصوص لن تلاحق الأحداث فكان على المجتهدين أن يبحثوا عن عمومات وكليات تندرج فيها تلك الجزيئات، وكان ذلك مبني على الإجتهاد والإستنباط ومعتمد على ذلك على الملكة والفكر والتحصيل ومعرفة مدارك النصوص.
ولما كانت النصوص فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين، وما إلى ذلك كان لا بد من قواعد ومنهج ينظم هذا الإجتهاد، ويصنف مباحثه في أبواب وفصول فكان من ذلك علم الأصول.
وكان أول من سارع إليه وكتب فيه الإمام الشافعي رحمه الله، ثم توالت على هذا الفن أقلام، وتناولته عقول حتى تطور واكتمل واستقل، ولكن دخلته اصطلاحات المتكلمين ليثبتوا بعض ما تناولوه بطريق العقل على زعمهم أن العقل مقدم على غيره. كما خالطته طرق الفقهاء ليؤيدوا به فروع مذاهبهم إذا تعارضت مع غيرها.
وهكذا أصبح لكل مذهب قواعد ومنهج، وتعددت كتب الأصول بتعدد المذاهب. وأصبح من اللازم لكل ناظر في مذهب من مذاهب الأئمة أن يعرف قواعده وأصوله، وعلى كل دارس للكتاب والسنة أن يقرأ أصول هذا الفن وقواعده وخاصة إذا أراد معرفة استنباط الأحكام السابقة، أو تقديم بعض النصوص المتعارضة أو نحو ذلك، مما لا يتأتي الا عن طريق قواعد وأصول هذا الفن.
(1/4)
 
 
فكان أصول الفقه تبعا لذلك في مقدمة الفنون التي عني به العلماء في كل زمان ومكان، ولقد كانت هذه البلاد حافلة بهذا الفن آهلة بعلمائه طيلة وجود النهضة العلمية بها، ومنذ زمن غير قليل إنصرفت عنه الهمم لصعوبته، وتقاصر الناس عنه وقل المشتغلون به، وتقلصت دراسته، حتى خيف ان داسه، فيما عدا الحرمين الشريفين على قلة إلى أن قيض الله لهذه البلاد من يقوم بهذه النهضة العلمية الدينية الحديثة وأرسيت قواعدها في مدينة الرياض في تأسيس المعاهد العلمية سنة 1371هـ برعاية سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
رحمه الله، واختير لهذه المؤسسة الجليلة أجلة العلماء من داخل البلاد وخارجها، وشملت مناهجها أهم العلوم الدينية والعربية وفى طليعتها علم الأصول، وسارت الدراسة النظامية في تلك المؤسسة وبجانبها دراسة الحلق في المساجد على العهد الأول بخيره وبركته، ولمسيس الحاجة لعلم الأصول رأي سماحة المفتى نشر هذا العلم على طلاب الحلق فى المساجد فقرر كتاب قواعد الأصول ومعاقد الفصول في مسجد الشيخ (بدخنة) يدرسه فضيلة السيخ محمد الأمين حفظه الله فنفع الله به وكان بدء إحياء هذا العلم، وبدء عهد جديد له من سماحة
المفتى رحمه الله على يد فضيلة المؤلف حفظه الله.
ثم فتحت الكليات سبة 1374 هـ بدأت بكلية الشريعة وقرر فيها كتاب روضة الناظر للعلامة إبن قدامة من أشهر أئمة الحنابلة اختير لسعته وملاءمته وعنايته بقواعد مذهب الإمام أحمد رحمه الله مع بيانه لأصول بقية المذاهب فيما فيه الخلاف.
(1/5)
 
 
ولما كانت دراسة هذا الفن آنذاك جديدة كان الطلاب يجدونه غريبا وصعبا، ولا سيما والكتاب المقرر بأسلوبه المتقدم، وتفريعاته الواسعة، كان لا بد للطلاب من مذكرة علمية تحل أشكاله وتكشف غموضه وتجمع شتاته، وتفصل مجمله.
وكان الذى تولى تدريسه هو فضيلة المؤلف حفظه الله، فأملى هذه المذكرة التي نقدم لها وذلك فى السنوات الأولى من تدريسه في الرياض وظل الطلاب يتناقلونها فيما بينهم دون أن تطبع لهم إلى أن تخرجت الدفعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة.
وفي عام 1380 هـ افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رئاسة سماحة المفتى بنيابة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وانتقل فضيلة المؤلف إلى الجامعة منذ عامها الأول وتولى تدريس المادة في نفس الكتاب "روضة الناظر"
وتناقل الطلبة هذه المذكرة.
فكانت هذه المذكرة المباركة هي الأساس لجميع المتخرجين من كليات الإدارة العامة للمعاهد والكليات لآل الشيخ، وقد عم نفعها ولله الحمد حتى تصبح لطلابها المتخرجين عليها مؤلفات في هذا الفن ضمن مقررات المعاهد العلمية التي درسوا فيها ومعهد الجامعة الإسلامية ومعاهد اخرى ثانوية خارج هذه البلاد.
وقد شملت هذه المذكرة روضة الناظر كلها ما عدا المقدمة المنطقية التي افتتح بها المؤلف كتابه وضمنها ما لا بد منه من إصطلاحات المتكلمين المداخلة لهذا الفن تسهيلا لفهمها، ومسايرة
(1/6)
 
 
لمنهج دراسة هذا الفن وقد شملت مباحث الحد والبرهان، وأنواع الدلالة، وأقسام القضايا ونحو ذلك، فلم تتعرض هذه المذكرة لها.
وقد ألف فضيلة الشيخ حفظه الله رسالة مستقلة فى هذا الغرض أوسع وأشمل وأبسط وأسهل جعلها مقدمة لآداب البحث والمناظرة المقرر فى الجامعة الإسلامية.
وقد كانت تلك المذكرة متناثرة الأطراف لدى الطلاب لا تكاد توجد مجتمعة عند أحدهم. وقد لمست فيها من مهام هذا الفن، وتوجيهات قضاياه ما حملنى على جمعها كلها والعناية بها.
وقد رغبت الجامعة الإسلامية في طبعها مكتملة بعد تحقيقها، وتدقيقها وتصحيحها على فضيلة المؤلف حفظه الله لتكون أثرا من آثارها المجيدة. فكان ذلك نعمة متجددة لى بدراستها واتقانها.
وها هى بين يدى الطلاب آمل أن يجدوا فيها أكثر ما تصبوا إليه نفوسهم وتتطلع إليه أفكارهم فى هذا الفن مما يمكن أن تغنيهم عن غيرها ولا يكاد يغنى غيرها عنها، ولا سيما في مواطن الترجيح والمباحث العقلية حيث يجدونها بعيدة عن تعقيد الفلسفة وخالصة من شوائب السفسطة، ناصعة بنور الحق على هدى الكتاب والسنة وعقيدة سلف الأمة يدرسونها مطمئنين ويتلقونها بيقين لما لفضيلة مؤلفها حفظه الله من يد طولى وأثر حميد في هذا الفن وما يتصل به من عقائد ونصوص وأحكام وعلوم اللسان والمنطق والبيان مما يجعل مباحثها وافية شاملة.
(1/7)
 
 
والجدير بالذكر أن الكتاب المقرر "روضة الناظر " متأثر كثيرا بكتاب المستصفى للغزالى فى أصول الشافعية وهذه المذكرة متاثرة ايضا بمراقى السعود فى أصول المالكية وبهذا التأثر المزدوج تكون المذكرة مفيدة أصالة فى المذاهب الثلاثة الحنبلى، والشافعى، والمالكى.
وفى المذهب الحنفى فى مواطن الخلاف حينما تتعرض له.
وأحب أن أوصي الطلاب الراغبين في هذا الفن أن يولوه عنايتهم وأن يكون إقدامهم عليه بقوة وعزيمة وأن يعيدوا فيه النظر ويعملوا فيه الفكرة وأن تكون دراستهم إياه بتدبر وتعقل.
والله أسال أن يعم نفعها ويجزى بأحسن الجزاء مؤلفها ويفيد بوافر الثواب كل من سعى في طبعها ونشرها.
وأن تاريخ العلم ليسجل للجامعة الإسلامية فضل هذا العمل على يد رئيسها العالم الفاضل محب العلم وأهله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله كما سيحتفظ للمؤلف بيد بيضاء في هذا الأثر الدائم نفعه المتواصل أجره. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبها تلميذ المؤلف:
عطية محمد سالم
12-5-1391 هـ
(1/8)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الحكم وأقسامه
اعلم أنه رحمه الله - ترجم هذه الترجمة التي لفظها (حقيقة الحكم وأقسامه) ولم يبين حقيقة الحكم ولا أقسامه، وانما ذكر منها الأقسام الشرعية فقط، ونحن نبين كل ذلك إن شاء الله تعالى.
اعلم أن الحكم في اللغة هو المنع ومنه قيل للقضاء حكم لأنه يمنع من غير المقضي تقول حكمه كنصره وأحكمه كاكرمه وحكمه بالتضعيف بمعنى منعه.
ومنه قول جرير:
أبنى حنيفة احكموا سفهاءكم ... انى أخاف عليكمو أن أغضبا
أبنى حنيفة إننى إن أهجكم ... أدع اليمامة لا توارى أرنبا
وقول حسان بن ثابت رضى الله عنه:
لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافى من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء
ومن الحكم بمعنى المنع حكمة اللجام وهى ما أحاط بحنكى الدابة سميت بذلك لأنها تمنعها من الجرى الشديد والحكمة أيضا حديدة فى اللجام تكون على أنف الفرس وحنكة تمنعه من مخالفة راكبه، وكانت العرب تتخذها من القد وهو الأبق وهو القنب ومنه قول زهير:
القائد الخيل منكوباً دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا
(1/9)
 
 
والحكم فى الاصطلاح هو (اثبات أمر لأمر أو نفيه عنه) نحو زياد قائم وعمرو ليس بقائم وهو ينقسم بدليل الاستقراء إلى ثلاثة أقسام:
حكم عقلى وهو ما يعرف فيه (العقل) النسبة ايجاباً أو سلباً نحو الكل أكبر من الجزء ايجاباً.
الجزء ليس أكبر من الكل سلباً.
حكم عادى: وهو ما عرفت فيه النسبة بالعادة نحو السيقمونيا مسهل للصفراء والسكنجبين مسكن لها.
حكم شرعى: وهو المقصود وحده جماعة من أهل الأصول بأنه (خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث انه مكلف به) .
فخرج بقوله (خطاب الله) خطاب غيره لأنه لا حكم شرعيا الا لله وحده جل وعلا فكل تشريع من غيره باطل، قال تعالى:
(
ان الحكم الا لله) (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) (فان تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول) الآية.
وخرج بقوله (المتعلق بفعل المكلف ما تعلق بذات الله تعالى نحو "لا اله الا الله" وما تعلق بفعله نحو قوله تعالى: "خالق كل شيء " وما يتعلق بذوات المكلفين نحو "ولقد خلقناكم ثم صورناكم " الآية. وما تعلق بالجمادات نحو "ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة".
وخرج بقوله (المتعلق بفعل المكلف) خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف لا من حيث انه مكلف به كقوله تعالى "يعلمون ما تفعلون" فأنه خطاب من الله متعلق بفعل المكلف من حيث ان
(1/10)
 
 
الحفظة يعلمونه لا من حيث انه مكلف به، واعلم أن عبارات الأصوليين اضطربت في تعريف الحكم الشرعى. وسبب اضطرابها أمران: أحدهما أنبعض المكلفين غير موجود وقت الخطاب والمعدوم ليس بشيء حتى يخاطب:
ثانيهما زعمهم أن الخطاب هو نفس المعنى الازلى القائم بالذات المجرد عن الصيغة وسنين ان شاء الله تعالى غلطهم الذى سبب لهم تلك الاشكالات فى مبحث الأمر.
واعلم أن الحكم الشرعى قسمان: أولهما تكليفى وهو خمسة أقسام - (الواجب والمندوب والمباح والحرام) .
والثانى خطاب الوضع وهو أربعة أقسام (العلل والأسباب والشروط والموانع) وأدخل بعضهم فيه الصحة والفساد والرخصة والعزيمة وبعضهم بجعل الصحة والفساد من خطاب التكليف اذا علمت ذلك فهذه تفاصيل لأحكام الشرعية.
قال المؤلف - رحمه الله -:
أقسام أحكام التكليف خمسة (واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحظور) .
التكليف لغة هو الزام ما فيه كلفة أي مشقة.
ومنه قول الخنساء:
يكلفه القوم ما نابهم ... وان كان أصغرهم مولدا
وقول علقمة بن عبدة التميمى:
تكلفنى ليلى وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب
وحده فى الاصطلاح قيل (الزام ما فيه مشقة) وقيل طلب ما فيه مشقة فعلى الاول لا يدخل فى حده الا الواجب والحرام اذ لا الزام بغيرهما وعلى
(1/11)
 
 
الثانى يدخل معهما المندوب والمكروه لان الاربعة مطلوبة، وأما الجائز فلا يدخل فى تعريف من تعاريف التكليف اذ لا طلب به أصلا،
فعلا ولا تركان وانما أدخلوه في أقسام التكليف مسامحة وتكميلا للقسمة المشار إليها بقول المؤلف (وجه هذه القسمة أن خطاب الشرع اما أن برد باقتضاء الفعل أو الترك أو التخير بينهما فالذى سرد باقتضاء الفعل أمر فأن اقترن به اشعار بعدم العقاب على الترك فهو ندب والا فيكون ايجابا والذى يرد باقتتضاء الترك نهى فان أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة والا فحظر) كلامه واضح.
ثم قال وحد الواجب (ما توعد بالعقاب على تركه) وقيل (ما يعاقب تاركه) وقيل ما (يلزم تاركه شرعا العقاب) اعلم أولا أن الوجوب فى اللغة هو سقوط الشيء لازما محله كسقوط الشخص ميتا فأنه يسقط لازما محله لانقطاع حركته بالموت، ومنه قوله تعالى: "فاذا وجبت جنوبها" أي سقطت ميتة لازمة محلها، وقوله فى الميت: (فاذا وجب فلا تبكين باكية) .
وقول قيس بن الخطيب:
أطاعت بنو عوف أميراً نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
ويطلق الوجوب على اللزوم وفى الاصطلاح عرفه المؤلف بأنه (ما توعد بالعقاب على تركه) والوعيد بالعقاب على تركه لا ينافى المغفرة كما بينه تعالى بقوله:"ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وان شئت قلت فى حد الواجب (ما أمر به أمرا حازما) وضابطه أن فاعله موعود بالثواب وتاركه متوعد بالعقاب كالصلاة والزكاة والصوم.قال المؤلف رحمه الله (والفرض هو الواجب على احدى الروايتين) .
فحاصل كلامه أن الفرض هو الواجب على احدى الروايتين وهو قول
(1/12)
 
 
الشافعى ومالك.
وعلى الرواية الأخرى فالفرض آكد من الواجب فالفرض ما ثبت بدليل قطعى كالصلاة، والواجب ما ثبت بدليل ظنى كالعمرة عند من أوجبها، وهو قول أبى حنيفة وقيل: (الفرض ما لا يسامح بتركه عمداً ولا سهواً) كاركان الصلاة، والواجب ما يسامح فيه ان وقع من غير عمد كالصلاة بالنجاسة عند من يقول بالمسامحة في ذلك واصطلح كثير من العلماء من مالكية وشافعية وحنابلة على اطلاق الواجب على السنة المؤكدة تأكيدا قويا.
(فصل)
قال المؤلف - رحمه الله -:
(الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم فى أقسام محصورة..) .
اعلم أن الواحب ينقسم ثلاثة تقسيمات: ينقسم باعتبار ذاته إلى واجب معين لا يقوم غيره مقامه كالصوم والصلاة، وإلى مبهم فى أقسام محصورة فهو واجب لا بعينه كواحدة من خصال الكفارة فى قوله تعالى: "فكفارته اطعام عشرة مساكين". الآية.
فالواجب واحد منها لا بعينه فأي واحد فعله الحانث أجزأه وزعم المعتزلة أن التخيير مطلقا ينافى ذلك الوجوب باطل، لانه لم يخير بين الفعل والترك تخييرا مطلقا حتى ينافى ذلك الوجوب، بل لا يجوز ترك بعضها الا مشروطا بفعل بعض آخر منها، فلو ترك جميعها لكان آثما ولا خيار له فى ترك
الجميع، ولا يجب عليه فعل جميعها اجماعا فتبين أن الواجب واحد منها لا بعينه لان كل واحد منها يفى بالمقصود الشرعى ولا يحصل
(1/13)
 
 
دون واحد منها وكذلك غير المحصورة كاعتاق رقبة فى الظهار أو اليمين فان تزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفأين الخاطبين وعقد الامامة لأحد الرجلين الصالحين فان كان ذلك يجب فيه واحد لا بعينه، ولا يمكن أن يقال فيه بايجاب الجميع ولا بسقوط ايجاب الجميع كما ترى.
وينقسم الواجب أيضا باعتبار وقته إلى مضيق وموسع، فالواجب المضيق هو ما وقته مضيق وضابط ما وقاه مضيق واجبا كان أو غيره هو ما لا يسع وقته أكثر من فعله كصوم رمضان فى الواجب، وستة من شوال عند من يقول بأنها لا بد أن تكون متتابعة تلى يوم الفطر، وهو ظاهر حديث أبى أيوب، وحديث ثوبان، والأيام البيض فى غير الواجب، والواجب الموسع هو ما يسع وقته أكثر من فعله كالصلواة الخمس، ومثاله فى غير الواجب الوتر وركعتا الفجر والعيدان والضحى.
والوقت في الاصطلاح هو الزمن الذى قدره الشارع للعبادة وما زعمه بعضهم من أن الواجب الموسع مستحيل زاعما أن التخيير فى فعل العبادة ذات الوقت الموسع فى أول الوقت ووسطه ينافى الوجوب اذ الواجب حتم لا تخيير فيه ولا يجوز تركه فهو باطل ـ أي الزعم بأن الواجب الموسع مستحيل ـ لان الواجب الموسع من قبيل الواجب المبهم فى واحد لا بعينه كالصلاة يجب أن تؤدى فى حصة من حصص الوقت من أوله أو وسطه أو آخره فعل فيها الصلاة أجزأته كما أن أي واحدة من خصال الكفارة فعلها أجزأته.
وقد أجمع العلماء على أم من أدى الصلاة فى أول وقتها أنه يثاب ثواب الفرض وتلزمه نية الفرض ـ محل الاستدلال لزوم نية الفرض مع جواز
(1/14)
 
 
التأخير ـ فدل ذلك على بطلا قول من قال انها لو وجبت فى أول الوقت لما جاز ترك أدائها إلى وسط الوقت، لان التخيير فى ذلك الوقت إلى ما بعده ينافى الوجوب، ولا شك أن ذلك كله باطل كما بينا.
وينقسم الواجب أيضا باعتبار فاعله إلى واجب عينى وواجب على الكفاية فالواجب العينى هو ما ينظر فيه الشارع إلى ذات الفاعل كالصلاة والزكاة والصوم، لان كل شخص تلزمه بعينه طاعة الله عز وجل لقوله تعالى: (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)
وأما الواجب على الكفاية فضابطه أنه ينظر فيه الشارع إلى نفس الفعل، بقطع النظر عن فاعله، كدفن الميت، وانقاذ الغريق ونحو ذلك، فان الشارع لم ينظر إلى عين الشخص الذى يدفن الميت أو ينقذ الغريق، اذ لا فرق عنده فى ذلك بين زيد وعمرو، وانما ينظر إلى نفس الفعل الذى هو
الدفن والانقاذ مثلا وستأتى مسألة فرض الكفاية فى مباحث الامر ان شاء الله تعالى.
(فصل)
قال المؤلف: اذا أخر الواجب الموسع فمات فى أثناء وقته قبل ضيقه لم يمت عاصيا.. الخ. خلاصة ما ذكره المؤلف فى هذا الفصل أن المكلف اذا مات فى أول الوقت أو وسطه والحال أنه لم يؤد الصلاة لم يمت عاصيا لان الوقت الموسع يجوز للانسان أن يأتى بالصلاة فى أية حصة شاءها
(1/15)
 
 
من حصصه سواء كانت من أوله أو وسطه، كالمحكوم عليه بالقتل مع تعيين وقت التنفيذ، لأن الوقت يضيق فى حقه بسبب ظن الموت، فلو تخلف الظن وسلم من الموت وأدى
الصلاة فى آخر الوقت فهل تكون صلاته أداء وهو الظاهر لوقوعها فى الوقت، ضاق فى حقه بسبب ظن الموت، بدليل أنه لو مات فى الوقت مع ظن الموت ولم يبادر بالصلاة مات عاصيا.
(فصل)
قال المؤلف:
ما لا يتم الواجب الا به ينقسم إلى ما ليس داخل تحت قدرة المكلف كالقدرة واليد فى الكتابة وحضور الامام والعدد فى الجمعة فلا يوصف بوجوب. وإلى ما هو داخل تحت قدرة العبد فيما يتعلق باختيار العبد كالطهارة للصلاة، والسعى للجمعة، وغسل جزء من الرأس وامساك جزء من الليل مع النهار فى الصوم فهو واجب.. الخ..
حاصل معنى كلامه رحمه الله أن ما لا يتم الواجب الا به قسمان:
قسم ليس تحت قدرة العبد كزوال الشمس لوجوب الظهر وككون من تعينت عليه الكتابة مقطوع اليدين، وكحضور الامام والعدد الذى لا تصح الجمعة بدونه، فلا قدرة للمكلف على قهر الامام على الحضور إلى المساجد، فهذا النوع لا يوصف بوجوب الا على قول من جوز التكليف بما لا يطاق وهو مذهب باطل مردود.
(1/16)
 
 
وقسم تحت قدرة العبد، كالطهارة، والسعى للجمعة، وغسل جزء من الرأس، اذ لا يتحقق تعميم غسل الوجه الا بغسل جزء يسير من الرأس، وامساك جزء من الليل مع النهار اذ لا يتحقق الامساك فى جميع نهار رمضان الا بأمساك جزء يسير من الليل، بناء على أن الغاية فى قوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الابيض) . الآية. خارجة وهو الصحيح، لأن من أخر الامساك عن جميع أجزاء الليل بتمامها فهو متناول للفطر قطعا فى نهار رمضان، اذ لا واسطة بين الليل والنهار.
وما جاء من الأحاديث موهما جواز تناول المفطر بعد الصبح فهو محمول على أن المراد به أنه فى آخر جزء من الليل لشدة قربه من النهار. وهذا القسم الاخير أعنى ما هو تحت قدرة المكلف قال المؤلف انه واجب هذا حاصل معنى كلامه رحمه الله، قال مقيده عفا الله عنه وهذا التقسيم غير جيد وحاصل تحرير المقام أن يقال: ما لا يتم الواجب الا به ثلاثة أقسام:
قسم ليس تحت قدرة العبد كما مثلنا له آنفا.
وقسم تحت قدرة العبد عادة الا أنه لم يؤمر بتحصيله كالنصاب ـ لوجوب الزكاة والاستطاعة لوجوب الحج والاقامة لوجوب الصوم، وهذان القسمان لا يجبان اجماعا.
القسم الثالث ما هو تحت قدرة العبد مع أنه مأمور به كالطهارة للصلاة والسعى للجمعة.. الخ.. وهذا واجب على التحقيق وان شئت قلت: (ما لا يتم الواجب المطلق الا به فهو واجب) كالطهارة للصلاة و (ما لا يتم الواجب المعلق ـ على شرط كالزكاة معلقة على ملك النصاب، والحج على الاستطاعة ـ الا به فليس
(1/17)
 
 
بواجب) كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج، وأوضح من هذا كله أن نقول: (ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب كالطهارة للصلاة) وما لا يتم الوجوب الا به فليس بواجب كالنصاب للزكاة.
(تنبيه)
اعلم أن الطهارة للصلاة واجبة اجماعا كما لا يخفى، وحينئذ فعلى أن ما لا يتم الواجب المطلق الا به واجب، فجميع النصوص الموجبة للصلاة توجب الطهارة لأنها لا تتم الا بها. وما لا يتم الواجب الا به واجب، وان كانت الطهارة واجبة بأدلة أخرى اذ لا مانع من تعدد الأدلة، وعلى العكس فالطهارة واجبة بالنصوص الأخرى فقط دون النصوص الموجبة للصلاة.
(فصل)
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(واذا اختلطت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة حرمنا الميتة بعلة الموت والأخرى بعلة الاشتباه) . هذه المسألة يترجم لها علماء الأصول بقولهم: (ما لا يتم ترك الحرام الا بتركه فتركه واجب) فان اختلطت ميتة بمذكاة أو أخته بأجنبية فلا يتم ترك الحرام الذى هو أكل الميتة فى الاول ونكاح الأخت فى الثانى الا بترك الجميع، فترك الجميع واجب.
وقول المؤلف رحمه الله حرمنا الميتة بعلة الموت والأخرى بعلة الاشتباه فيه نظر لأن الميتة غير معروفة بعينها، فالجميع محرم لأنه لا يتم ترك الحرام الا بترك الجميع، فكل واحدة أكل منها احتمل أن تكون هى الميتة، وقول من قال ان المذكاة حلال لكن يجب الكف عنها ظاهر التناقض كما بينه المؤلف.
(1/18)
 
 
(فصل)
قال المؤلف:
الواجب الذى لا يتقيد بحد محدود كالطمأنينة فى الركوع والسجود، الخ، اعلم أولا أن الزيادة على الواجب لها حالتان:
(الاولى) : أن تكون الزيادة على الواجب متميزة عنه كصلاة النافلة بالنسبة إلى الصلوات الخمس، وهذه الزيادة غير واجبة كما هو واضح.
(الثانية) : أن تكون الزيادة غير متميزة عن الواجب كالزائد على قدر الفرض من الطمأنينة فى الركوع والسجود ونحو ذلك، فقال قوم الزيادة هنا واجبة لأن الجميع امتثال للأمر الواجب ولم يتميز فيه واجب عن غيره فالكل واجب لانه امتثال للواجب والحق أن الزائد غير واجب، والدليل على ذلك جواز تركه والاقتصار على ما يحصل به الفرض فقط من الطمأنينة من غير شرط ولا بدل.
قال المؤلف الثانى (المندوب) خلاصة ما ذكره المؤلف فى هذا المبحث أن المندوب هو ما فعله الثواب وليس فى تركه عقاب وهذا أجود التعريفين اللذين ذكرهما المؤلف، وان شئت قلت: (ما أمر به أمراً غير جازم والتحقيق أن المندوب مأمور به لان الأمر قسمان) :
أمر جازم أي فى تركه العقاب وهو الواجب.
وأمر غير جازم، أي لا عقاب فى تركه وهو المندوب.
والدليل على شمول الأمر للمندوب قوله تعالى: "وافعلوا الخير"
(1/19)
 
 
أي ومنه المندوب وامر بالمعروف، أي ومنه المندوب: "ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى "، أي ومن الاحسان وايتاء ذى القربى ما هو مندوب، واحتج من قال ان الندب غير مأمور به بقوله: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب إليهم " قالوا فى الآية التوعد على مخالفة الأمر بالفتنة والعذاب الأليم، والندب لا يستلزم تركه شيئا من ذلك، والحديث: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) مع أنه ندبهم إلى
السواك قالوا فدل ذلك على أن الندب غبر مأمور به والجواب أن الأمر فى الآية والحديث المذكورين يراد به الأمر الواجب، فلا ينافى أن يطلق الامر أيضا على غير الواجب، فلا ينافى أن يطلق الامر أيضا على غير الواجب، وقد قدمنا أن الامر يطلق على هذا وهذا وزعم من قال ان الندب تخيير بدليل جواز تركه والامر استدعاء وطلب. والتخيير والطلب متنافيان، زعم غير صحيح، لان الندب ليس تخييرا مطلقا بدليل أن الفعل فيه أرجح من الترك للثواب فى فعله وعدم الثواب فى تركه،
ولان المندوب أيضا مطلوب الا أن طلبه غير جازم والندب فى اللغة الدعاء إلى الفعل، ومنه قوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا
والثواب فى اللغة الجزاء مطلقا ومنه قوله:
لكل أخى مدح ثواب علمته ... وليس لمدح الباهلى ثواب
أي جزاء، وزعم أن الثواب يختص بجزاء الخير بالخير غير صحيح، بل يطلق الثواب أيضا على جزاء الشر بالشر فى اللغة، ومنه قوله تعالى:
(قل هل انبؤكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) . الآية.
(1/20)
 
 
وقوله تعالى (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) ، والعقاب فى اللغة التنكيل على المعصية، ومنه قول النابغة الذبيانى:
ومن عصاك فعاقبة معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
(المباح)
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
القسم الثالث (المباح) وحده، ما أذن الله فى فعله وتركه غير مقترن بدم فاعله وتاركه ولا مدحه وهو من الشرع.. الخ.. كلامه.
اعلم أن الاباحة عند أهل الأصول قسمان:
الاولى: اباحة شرعية أي عرفت من قبل الشرع كانباحة الجماع فى ليإلى رمضان المنصوص عليها بقوله: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " ونسمى هذه الاباحة الاباحة الشرعية.
الثانية: اباحة عقلية وهى تسمى فى الاصطلاح البراءة الأصلية والاباحة العقلية وهى بعينها (استصحاب العدم الأصلى حتى يرد دليل ناقل عنه) ومن فوائد الفرق بين الاباحتين المذكورتين أن رفع الاباحة الشرعية يسمى نسخا كرفع اباحة الفطر فى رمضان، وجعل الاطعام بدلا عن الصوم المنصوص فى قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فانه منسوخ بقوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". وأما الاباحة العقلية فليس رفعها نسخا لأنها ليست حكما شرعيا بل عقليا، ولذا لم يكن تحريم الربا ناسخا لاباحته فى أول الاسلام لأنها اباحة عقلية، وأمصال ذلك كثيره جدا.
(1/21)
 
 
والمباح فى اللغة: هو ما ليس دونه مانع يمنعه، ومنه قول عبيد بن الأبرص:
ولقد أبحنا ما حميت ... ولا مبيح لما حمينا
(تنبيه)
قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الاصلي حجة على عدم المؤاخذة بالفعل حتى يرد دليل ناقل عن العدم الاصلى، من ذلك أنهم كانوا يتعاملون بالربا. فلما نزل تحريم الربا خافوا من أكل الاموال الحاصلة منه بأيديهم قبل تحريم الربا، فأنزل الله فى ذلك: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله من سلف وأمره إلى الله " فقوله تعالى: "فله ما سلف" يدل على أن ما تعاملوا به من الربا على حكم البراءة الاصلية قبل نزول التحريم لا مؤاخذة عليهم به، ونظير ذلك قوله: " وأن تجمعوا بين الأختين الا ما قد سلف " فان قوله
تعالى "الا ما قد سلف" فى الموضعين استثناء منقطع، أي لكن ما سلف قبل التحريم على حكم البراءة الاصلية فهو عفو.
ونظائر هذا فى القرآن الكريم كثيرة ومن أصرح الآيات فى ذلك قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) .
فانهم لما استغفروا لموتاهم المشركين فنزل قوله تعالى:
(ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى) .
(1/22)
 
 
ندموا على استغفارهم للمشركين، فأنزل الله الآية مبينة أن ما فعلوه من الاستغفار لهم على حكم البراءه الأصلية قبل نزول التحريم، لا مؤاخذة عليهم به حتى يحصل بيان ما ينهى عنه.
(فصل)
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
واختلف فى الأفعال وفى الاعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها.. الخ..
اعلم أن خلاصة ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى فى هذا المبحث، أن حكم الأفعال والأعيان أي الذوات المنتفع بها قبل أن يرد فيهل حكم من الشرع فيها ثلاثة مذاهب:
الاول: أنها على الاباحة وهو الذى يميل إليه المؤلف واستدل بقوله تعالى: " هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا" فانه تعالى امتن على خلقه بما فى الارض جميعا ولا يمتن الا بمباح، اذ لا منة فى محرم واستدل لاباحتها أيضا بصيغ الحصر فى الآيات كقوله:
(قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها ومابطن)
وقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير..) الآية.
(1/23)
 
 
(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..) الآية.
واستدل لذلك أيضا بحديث (الحلال ما أحله الله فى كتابه والحرام ما حرمه الله فى كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه) .
المذهب الثانى: أن ذلك على التحريم حتى يرد دليل الاباحة واستدل لهذا بأن الأصل منع التصرف فى ملك الغير بغير اذنه وجميع الاشياء ملك لله جل وعلا، فلا يجوز التصرف فيها الا بعد اذنه، ونوقش هذا الاستدلال بأن منع التصرف فى ملك الغير، انما يقبح عادة فى حق من يتضرر بالتصرف في ملكه، وأنه يقبح عادة المنع ممالا ضرر فيه كان لاستظلال بظل حائط انسان والانتفاع بضوء ناره والله جل وعلا لا يلحقه
ضرر من انتفاع مخلوقاته بالتصرف فى ملكه.
المذهب الثالث: التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للحكم فيه.
واعلم أن لعلماء الأصول فى هذا المبحث تفصيلا لم يذكره المؤلف ولكنه أشار إليه اشاره خفية وهو أنهم يقولون: الأعيان مثلا، لها ثلاث حالات:
1_ اما أن يكون فيها ضرر محض ولا نفع فيها البتة كان كل الأعشاب السامة القاتلة.
2_ واما أن يكون فيها نفع محض ولا ضرر فيها أصلا.
3_ واما أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة، فان كان فيها الضرر وحده، ولانفع فيها أو مساويا له فهى حرام لقوله: (لا ضرر ولا ضرار) ، وان كان نفعها خالصا لا ضرر معه أو معه ضرر خفيف والنفع أرجح منه، فأظهر الأقوال الجواز، وقد أشار المؤلف إلى هذا التفصيل بقوله (المنتفع بها) فمفهومه أن ما لا نفع فيه لا يدخل فى كلامه.
(1/24)
 
 
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(المباح غير مأمور به..الخ..)
من المعلوم أن المباح لم يؤمر به لا تركان ولا فعلا وقد قدمنا أنه لا يدخل فى تعريف التكليف بوجه من الوجوه وانما عدوه من أقسام الحكم التكليفى مسامحة وتكميلا للقسمة كما تقدم.
(المكروه)
قال المؤلف _ رحمه الله ـ:
القسم الرابع المكروه وهو (ما تركه خير من فعله وقد يطلق ذلك على المحظور، وعلى ما نهى تنزيه فلا يتعلق بفعله عقاب.. الخ..) كلامه واضح.
والمكروه فى اللغة اسم مفعول كرهه اذا أبغضه ولم يحبه، فكل بغيض إلى النفوس فهو مكروه فى اللغة، ومنه قوله تعالى: "كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها" وقول عمرو بن الأطانبة:
واقدامى على المكروه نفسى ... وضربى هامة البطل المشيح
واعلم أن المكروه قد يطلق على الحرام لانه بغيض إلى النفوس العارفة وذلك هو معنى قول المؤلف: وقد يطلق ذلك على المحظور والحرام، ومراده أن الكراهة قد تطلق على كراهة التنزيه كما هو معروف فى كلام العلماء.
وعرف المكروه فى الاصطلاح بأنه هو ما تركه خير من فعله، وان شئت قلت هو ما نهى عنه نهياً غير جازم.
(1/25)
 
 
(فصل)
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
الأمر المطلق لا يتناول المكروه لان الامر استدعاء وطلب، والمكروه غير مستدعاً ولا مطلوب ولان الامر ضد النهى فيستحيل أن يكون الشيء مأموراً به ومنهياً عنه، واذا قلنا ان المباح ليس بمأمور فالنهى عنه أولى) .
ايضاح معنى كلامه رحمه الله:
أن المأمور به اذا كان بعض جزئياته منهياً عنه نهى تنزيه أو تحريم لا يدخل ذلك المنهى عنه منها فى المأمور به لأن النهى ضد الامر والشيء لا يدخل فى ضده خلافاً لبعض الحنفية القائلين بدخوله فيه، فتحية المسجد مثلا مأمور بها، فاذا دخل المسجد وقت نهى فتلك الصلاة المنهى عنها لوقت النهى لم تدخل فى الأمر للمضادة التي بين الأمر والنهى وهكذا.
وقال الشافعى _ رحمه الله _ ان الصلوات ذوات الأسباب الخاصة لم يتناولها النهى فهى داخلة فى الامر لانها لم تدخل فى النهى.
(الحرام)
قال المؤلف _ رحمه الله _:
القسم الخامس (الحرام ضد الواجب)
اعلم أن الحرام صفة مشبهة باسم الفاعل لانه الوصف من حرم الشيء فهو حرام والحرام فى اللغة هو الممنوع ومنه قول امرئ القيس:
(1/26)
 
 
جالت لتضرعى فقلت لها اقصرى انى امرؤ صرعى عليك حرام
وقول الآخر:
حرام على عينى أن تطعما الكرى وأن ترقئا حتى ألاقيك يا هند
وقوله تعالى: "وحرمنا عليه المراضع من قبل " وقوله تعالى: "فانها محرمة عليهم أربعين سنة" وقوله تعالى: "وحرام على قرية أهلكناها ". الآيات.
وقوله ضد الواجب يعنى أن الحرام فى الاصطلاح هم (ما فى تركه الثواب وفى فعله العقاب) وان شئت قلت ما نهى عنه نهياً جازما.
وقول المؤلف رحمه الله (فيستحيل أن يكون الشيء الواحد واجبا حراما طاعة ومعصية من وجه واحد الا أن الواحد بالجنس ينقسم إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعين أي بالعدد.. الخ..) ايضاح معنى كلامه _ رحمه الله _ أن الوحدة ثلاثة أقسام:
وحدة بالجنس.
وحدة بالنوع.
وحدة بالعين.
أما الوحدة بالجنس أو النوع فلا مانع من كون بعض أفراد الواحد بهما حراما وبعضها حلالا بخلاف الوحدة بالعين فلا يمكن أن يكون فيها بعض الافراد حراما وبعضها حلالا.
مثال الوحدة بالجنس: وحدة البعير والخنزير لأنهما يشملهما جنس واحد هو الحيوان فكلاهما حيوان فهما متحدان جنساً ولا اشكال فى حرمة
(1/27)
 
 
الخنزير واباحة البعيرة ومثال الوحدة بالنوع السجود فانه نوع واحد فالسجود لله والسجود للصنم يدخلان فى نوع واحد هو اسم السجود ولا اشكال فى أن السجود للصنم كفر ولله قربة، كما قال تعالى:
(
لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن ان كنتم اياه تعبدون) .
ومثال الوحدة بالعين عند المؤلف _ رحمه الله _: الصلاة فى الارض المغصوبة فلا يمكن عنده أن يكون بعض أفرادها حراما وبعضها مباحا. وايضاح مراده أن المصلى فى الدار المغصوبة اذا قام إلى الصلاة شغل بجسمه الفراغ الذى هو كانئن فيه وشغله الفراغ المملوك لغيره بجسمه تعدياً غصب فهو حرام، فهذا الركن الذى هو كائن فيه فى ركوعه، واذا سجد شغل الفراغ الذى هو كائن فيه فى سجوده وهكذا، وشغل الفراغ المملوك لغيره تعدياً غصب، فلا يمكن أن يكون
قربة لامتناع كون الواحد بالعين واجبا حراما قربة معصية لاستحالة اجتماع الضدين فى سيء واحد من جهة واحده فيلزم بطلان الصلاة المذكورة ومنع هذا القائلون بصحة الصلاة فى الأرض المغصوبة وهم الجمهور، قالوا: الصلاة فى الارض المغصوبة فعل له جهتان، والواحد بالشخص يكون له جهتان هو طاعة من احداهما ومعصية من احداهما، فالصلاة فى الارض المغصوبة من حيث هي صلاة (قربة) ومن حيث هى غصب معصية، فله صلاته وعليه غصبه، فيقول من قال ببطلانها: الصلاة فى المكان المغصوب ليست من أمرنا فهى رد، للحديث الصحيح: (من أحدث
فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) فيقول خصمه الصلاة فى نفسها من أمرنا فلست برد وانما الغصب هو الذى ليس من أمرنا فهو رد.
(1/28)
 
 
واعلم أن حاصل أقوال العلماء فى الصلاة فى المكان المغصوب أربعة مذاهب.
الأول: أنها باطلة يجب قضاؤها وهو أصح الروايتين عن الأمام أحمد _ رحمه الله _.
الثانى: أنها باطلة ولا يجب قضاؤها لان النهى يقتضى البطلان ولان السلف لن بكونوا يأمرون بقضاء الصلاة فى المكان المغصوب وممن قال به الباقلانى والرازى ولا يخفى بعده.
الثالث: أنها صحيحة وهى رواية أخرى عن أخرى عن أحمد وعليه الجمهور منهم مالك والشافعى وأكثر أهل العلم وأكثرهم على أنها صحيحة لا أجر فيها كالزكاة اذا أخذت منه قهراً.
الرابع: أنها صحيحة وله أجر صلاته وعليه اثم غصبه وهذا أقيس.
(فصل)
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
مصححوا الصلاة فى الدار المغصوبة قسموا النهى ثلاثة أقسام إلى آخره، اعلم أن حاصل كلام أهل الاصول فى هذه المسألة أن المنهى عنه اما أن تكون جهة النهى فيه منفردة، أعنى أنه لم تكن له جهة أخرى مأمور به منها كالشرك بالله والزنا، فان النهى
عنهما لم يخالطه أمر من جهة أخرى، وهذا النوع واضح لا اشكال فى أنه باطل على كل حال، واما أن يكون له جهتان: جهة مأمور به منها وجهة منهى عنه منها، وهم يقولون ى مثل هذا ان انفكت جهة الامر عن جهة النهى، فالفعل صحيح وان لم تنفك عنها الفعل باطل لكنهم عند التطبيق يختلفون.
(1/29)
 
 
فيقول الحنبلى: الصلاة فى الارض المغصوبة منهى عنها من جهة الغصب مأمور بها من جهة الصلاة الا أن الجهة هنا غير منفكة لان نفس الحركة فى أركان الصلاة عين شغل الفراغ المملوك لغيره تعدياً، وذلك عين الغصب، فأفعال الصلاة لا تنفك عن
كونها غصباً.
والصلاة يشترط فيها نية التقرب وتلك الأفعال التي هى شغل الفراغ المملوك لغيره غصب لا يمكن فية نية التقرب اذ لا يمكن أن يكون متقربا بما هو عاص به، أما اذا انفكت الجهة فالفعل صحيح كالصلاة بالحرير فان الجهة منفكة لا لبس الحرير منهى عنه مطلقا فى الصلاة وغيرها، فالمصلى بالحرير صلاته صحيحة وعليه اثم لبسه الحرير، فيقول المالكى والشافعى مثلا: لا فرق البتة بين الصلاة فى المكان المغصوب وبين الصلاة بالحرير، فالغصب أيضا حرام فى الصلاة وفى غيرها، فصلاته صحيحة وعليه اثم غصبه.
ويقول المالكى مثلا: مثال الجهة غير المنفكة، صوم يوم العيد أو الفطر لأن الصائم فيهما معرض عن ضيافة الله، لأن الأعراض عنهما هو الامتناع عن الأكل والشرب فلا يمكن انفكاك الجهة، فيقول الحنفى: الجهة منفكة أيضا لأن الصوم من حيث أنه صوم قربة ومن حيث كونه فى يوم العيد منهى عنه فالجهة منفكة ولذا لو نذر أحد أن يصوم يوم العيد فنذره عنده صحيح منعقد ويلزمه صيام يوم آخر غير يوم العيد ينائ على انفكاك الجهة عنده.
وقول المؤلف رحمه الله فى هذا المبحث: قسموا النهى إلى ثلاثة أقسام:
ايضاح معناه أن المنهى عنه اما أن يكون النهى عنه لذاته أو لوصفه القائم به أو لخارج عنه، زاد بعض المحققين قسما رابعا وهو أن المنهى عنه لخارج عنه قد تكون فيه جهة النهى غير منفكة عن جهة الأمر وقد تكون منفكة عنها
(1/30)
 
 
فتكون الاقسام أربعة مثال المنهى عنه لذاته الشرك والزنا ومثال المنهى عنه لوصفه القائم به الخمر بالنسبة إلى الاسكار ومثل له المؤلف بالصلاة فى حالة السكر لانها منهى عنها لوصف السكر القائم بالمصلى، ومثال المنهى عنه لخارج غير لازم، الصلاة بالحرير، ومثال المنهى عنه لخارج لازم عند المؤلف،
الصلاة فى المكان المغصوب والنهى يقتضى البطلان فى ثلاثة منها وهى ما نهى عنه لذاته أو لوصفه القائم به أو لخارج عنه لازم له لزوما غير منفك. أما الرابع فلا يقتضى البطلان وهو ما كان النهى عنه لخارج غير لازم وقد قدمنا اختلافهم فى انفكاك الجهة وقد بين صاحب مراقى السعود بعض المسائل التي اختلفوا فى انفكاك الجهة فيها وعدمه بقوله:
مثل الصلاة بالحرير والذهب أو فى مكان الغصب والوضوء انقلب
ومعطن ومنهج ومقبره كنيسة وذى حميم مجزره
والمؤلف رحمه الله يرى أن الصلاة فى الأمكنة المنهى عنها باطلة والخلاف فيها مشهور.
(فصل)
قال المؤلف _رحمه الله _:
الأمر بالشىء نهى عن ضده من حيث المعنى فأما الصيغة فلا، فان
(1/31)
 
 
قوله (قم) غير قوله لا تقعد وانما النظر فى المعنى وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب برك القعود إلى آخره.
اعلم أن كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده فيه ثلاثة مذاهب: الأول أن الأمر بالشىء هو عين النهى عن ضده وهذا قول جمهور المتكلمين، قالوا أسكن مثلا، السكون المأمور به فيه، هو عين ترك الحركة، قالوا وشغل الجسم فراغاً هو عين تفريغه للفراغ الذى انتقل عنه، والبعد من المغرب هو عين القرب من المشرق وهو بالنسية إليه أمر، وإلى الحركة نهى، والذين قالوا بهذا القول اشترطوا فى الأمر كون المأمور به معيناً وكون وقته مضيقاً ولم يذكر ذلك المؤلف، أما اذا كان غير معين كالأمر بواحد من خصال الكفارة فلا يكون نهياً عن
ضده، فلا يكون فى آية الكفارة نهى عن ضد الاعتاق، مثلا، لجواز ترك الاعتاق من أصله والتلبس بضده والتكفير بالاطعام مثلا، وذلك بالنظر إلى ما صدقه أي فرده المعين كما مثلنا لا بالنظر إلى مفهومه وهو الأحد الدائر بين تلك الاشياء.
ذى حميم: أي الحمام لوجود الماء الحار. ومنه قوله تعالى: (وسقوا ماء حميماً) .
فان الأمر حينئذ نهى عن ضد الأحد الدائر، وضده هو ما عدا تلك الأشياء المخير بينها وكذلك الوقت الموسع فلا يكون الامر بالصلاة فى أول الوقت نهياً على التلبس بضدها في أول الوقت وتأخيرها إلى وسطه أو آخره بحكم توسيع الوقت.
قال مقيده عفا الله عنه:
الذى يظهر والله أعلم أن قول المتكلمين ومن وافقهم من الأصوليين أن الامر بالشىء هو عين النهى عن ضده، مبنى على زعمهم الفاسد أن الأمر قسمان: نفسى ولفظى، وأن الامر النفسى، هو المعنى القائم بالذات
(1/32)
 
 
المجرد عن الصيغة وبقطعهم النظر عن الصيغة، واعتبارهم الكلام
النفسي، زعموا أن الامر هو عين النهى عن الضد، مع أن متعلق الأمر طلب، ومتعلق النهى ترك، والطلب استدعاء أمر موجود، النهى استدعاء ترك، فليس استدعاء شىء موجود، وبهذا يظهر أن الامر ليس عين النهى عن الضد وأنه لا يمكن القول بذلك الا على زعم أن الامر هو الخطاب النفسى القائم بالذات المجرد عن الصيغة، ويوضح ذلك اشتراطهم فى كون الامر نهياً عن الضد أن يكون الامر نفسياً يعنون الخطاب النفسى المجرد عن الصيغة، وجزم ببناء هذه المسألة على الكلام النفسي صاحب الضياء اللامع وغيره، وقد أشار المؤلف إلى هذا
بقوله من حيث المعنى، وأما الصيغة فلا ولم ينتبه لان هذا من المسائل التي فيها النار تحت الرماد، لان أصل هذا الكلام مبنى على زعم باطل وهو أن كلام الله مجرد المعنى القائم بالذات المجرد عن الحروف والألفاظ، لان هذا القول الباطل يقتضى أن ألفاظ كلمات القرآن بحروفها لم يتكلم بها رب السموات والارض، وبطلان ذلك واضح وسيأتى له ان شاء الله زيادة ايضاح فى مباحث القرآن ومباحث الأمر.
المذهب الثانى: ان الأمر بالشىء ليس عين النهى عن ضده، ولكنه يستلزمه، وهذا هو أظهر الأقوال لان قولك أسكن مثلا يستلزم نهيك عن الحركة لان المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده لاستحالة اجتماع الضدين وما لا يتم الواجب الا به واجب كما تقدم، وعلى هذا القول أكثر أصحاب مالك، وإليه رجع الباقلانى فى آخر مصنفاته وكان يقول بالأول:
المذهب الثالث: أنه ليس عينه ولا يتضمنه وهو قول المعتزلة والأبيارة من المالكية، وامام الحرمين والغزإلى من الشافعية، واستدل من قال بهذا بأن الآمر يجوز أن يكون وقت الأمر ذاهلا عن ضده واذا كان ذاهلا عنه
(1/33)
 
 
فليس ناهياً عنه اذ لا يتصور النهى عن الشىء مع عدم خطوره بالبال أصلا، ويجاب عن هذا بأن الكف عن الضد لازم لأمره مستلزم ضرورة للنهى عن ضده لاستحالة اجتماع الضدين قالوا ولا تشترط ارادة الآمر كما أشار إليه المؤلف رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه:
قولهم هنا ولا تشترط ارادة الآمر فى هذا المبحث غلط، لان المراد بعدم اشتراط الارادة فى الامر ارادة الآمر وقوع المأمور به أما ارادته لنفس اقتضاء الطلب المعبر عنه بالامر، فلا بد منها على كل حال وهى محل النزاع هنا ومن المسائل التي تنبنى على الاختلاف فى هذه المسألة قول الرجل لأمرأته ان خالفت نهيى فأنت طالق، ثم قال قومى فقعدت فعلى أن الامر بالشيء نهى عن ضده، فقوله قومى هو عين النهى عن القعود فيكون قعودها مخالفة لنهيه المعبر عنه بصيغة الامر فتطلق وعلى أنه مستلزم له فيتفرع على الخلاف المشهور فى لازم
القول هل هو قول أولا، وعلى أنه ليس عين النهى عن الضد ولا مستلزما له فانها لا تطلق، ومن المسائل المبينة عليها أيضاً ما لو سرق المصلى فى صلاته أو لبس حريراً أو نظر محرما، فعلى أن الامر بالشىء نهى عن ضده فيكون الامر بالصلاة هو عين النهى عن السرقة مثلا فتبطل الصلاة، بناء على أن النهى يستلزم الفساد، فعين السرقة منهى عنها فى الصلاة بنفس الامر بالصلاة، فعلى أن النهى يقتضى الفساد فالصلاة باطلة. وسيأتى لهذا زيادة ايضاح ان شاء الله تعالى وخلاف العلماء فى مثل هذه الفروع مشهور.
(1/34)
 
 
(تنبيه)
تكلم المؤلف رحمه الله على الأمر بالشيء الذى له أضداد متعددة وحكمها واحد فالأمر بالشيء نهى عن الضد الواحد أو مستلزم له إلى آخره، ونهى عن جميع الأضداد المتعددة أو مستلزم لها إلى آخره مثال الواحد ضد السكون، وهو الحركة ومثال المتعددة النهى عن القيام فضده القعود والإضطجاع.
(فصل)
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
التكليف فى اللغة الزام ما فيه كلفه أي مشقة قالت الخنساء:
يكلفه القوم ما نابهم وان كان أصغرهم مولدا
فقد عرفنا التكليف لغة واصطلاحاً فيما تقدم، وقوله وهو فى الشريعة الخطاب بأمر أو نهى قد بينا فيما تقدم وجه ادخال الجائز فى أقسام التكليف مع أنه ليس مكلفاً فعلا ولا تركان.
قال المؤلف _ رحمه الله _:
وله شروط بعضها يرجع إلى المكلف وبعضها يرجع إلى نفس الفعل المكلف به إلى آخره، أما شروط التكليف الراجعة إلى المكلف فذكر منها العقل والبلوغ وعدم النسيان وعدم النوم فجعل السكران الذى لا يعقل غير مكلف ولم يجعل عدم الاكراه شرطا فالمكره عنده مكلف، وذكر الخلاف فى اشتراط عدم الكفر بالنسبة إلى فروع الاسلام،
ولذا ذكر أن
(1/35)
 
 
الكفار اختلف فى خطابهم بفروع الاسلام، وذكر ثلاثة شروط راجعة إلى نفس الفعل المكلف به، وهى علم المكلف المأمور به، فلا يصح تكليفه بما لا يعلمه.
الثانى: كون الفعل المأمور به معدوماً لان التكليف بتحصيل الموجود تحصيل حاصل وهو محال.
الثالث: كونه ممكناً فلا يصح التكليف بالمجال.
هذا حاصل ما ذكره من شروط التكليف ودونك تحقيق المقام فى الشروط المذكورة أما اشتراط العقل فى التكليف فلا خلاف فيه بين العلماء اذ لا معنى لتكليف من لا يفهم الخطاب، وأما لزوم قيم المتلفات وأروش الجنايات لمن لا عقل له، كالصبى الصغير والمجنون فهو من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف، وأما الصبى المميز فجمهور العلماء على أنه غير مكلف بشيء مطلقاً لأن القلم مرفوع عنه حتى يبلغ، وعن أحمد رواية مرجوحة بتكليف الصبى المميز، ومذهب مالك وأصحابه تكليف الصبى بالمكروه والمندوب فقط دون الواجب والحرام، قالوا
للاجماع على أنه لا اثم عليه بترك واجب ولا بارتكاب حرام لرفع القلم عنه، وأما المكروه والمندوب، فاستدلوا لتكليفه بهما بحديث الخثعمية التي أخذت بضبعى صبى، وقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر. وأما النائم والناسى فاختلف فى تكليفهما، فقيل غير مكلفين كما درج عليه المؤلف، للاجماع على سقوط الاثم عنهما، ولو كانا مكلفين كانا آثمين بترك العبادة حتى فات وقتها لأجل النوم والنسيان، وقيل هما مكلفان بدليل الاجماع فلى وجوب القضاء عليهما، اذ لو كانت الصلاة غير واجبة عليهما فى وقت النوم أو
النسيان لما وجب قضاءها عند اليقظة والذكر، لأن ما لم يجب لا يجب قضاءه، وجمع بعض محققى الأصوليين من المالكية بين
(1/36)
 
 
القولين بأن قال ان عدم النوم والنسيان شرط فى الأداء لا فى الوجوب، فالصلاة واجبة عليهما مع أنهما غير مكلفين بنفس أدائها فالتمكن من الأداء بعد النوم، والنسيان شرط فى الأداء فقط لا فى الوجوب ومرادهم بشرط الايجاب أنه شرط في الايجاب الأعلامى الذى المقصود منه اعتقاد وجوب ايجاد الفعل ومرادهم بشرط الأداء الايجاب الالزامى الذى المقصود منه الامتثال الذى لا بحصل الا بالاعتقاد والايجاد معاً،
واعلم أن ما جزم به المؤلف رحمه الله من كون الناسى والنائم غير مكلفين، يشكل عليه وجوب قضاء الصلاة والأجماع على أنها قضاء، وقد يجاب عنه بأن القضاء وجب بانعقاد سبب الوجوب، وان منع من تمامه مانع النوم أو النسيان والله تعالى أعلم.
وأما السكران الذى لا يعقل فجزم المؤلف بأنه غير مكلف وبين أن لزوم الطلاق للسكران، ولزوم قيم المتلفات للنائم والناسى أن ذلك من خطاب الوضع وذلك هو مراده بقوله من قبيل ربط الأحكام بالأسباب لأن ذلك بعينه من خطاب الوضع، واعلم أن العلماء اختلفوا فيما يلزم السكران، ومما قيل
فى ذلك التفصيل لأن السكر قد يذهب جميع عقله حتى يكون لا يعقل شيئاً، وهو المعروف بالسكران الطافح، وقد يذهب بعض عقله ويبقى معه بعضه، فالأظهر فى الطافح أنه لا يلزمه شيء من العقود ولا العتق ولا الطلاق ولا الجنايات الا ما كان من خطاب الوضع كغرم قيمة المتلف، وأما الذى لم يفقد جميع عقله فهو الذى فيه قول من قال:
لا يلزم السكران اقرار عقود بل ما جنى عتق طلاق وحدود (1)
(1/37)
 
 
فان قيل قد دل القرآن على تكليف السكران فى قوله تعالى: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" لأن قوله وأنتم سكارى جملة حالية العامل فيها لا تقربوا وصاحبها الضمير الذى هو الواو والمعروف فى علم العربية أن الحال ان كانت غير مقدرة، فوقتها هو بعينه وقت عاملها فيلزم من ذلك أن وقت النهى عن قربان الصلاة هو وقت السكر بعينه ونهى السكران في وقت سكره يدل على أنه مكلف، فالجواب عن هذا الاشكال من الجهتين اللتين ذكرهما المؤلف.
الاولى: أن المراد بالنهى، النهى عن شرب الخمر فى أول الأسلام قبل تحريمها قرب أوقات الصلاة بحيث يغلب على الظن أنها يدخل وقتها وهو سكران، لأن من شرب المسكر فى وقت يظن فيه أنه يأتى وقت الصلاة وهو سكران فكانه عالم بأن صلاته تكون فى وقت سكره، ودليل هذا الوجه أن الآية لما نزلت كانوا لا يشربونها الا فى وقتين بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح، وفيما بين الصبح والظهر، وأما فى غير ذينك الوقتين فلا يشربونها لأن وقت الصلاة فى غيرهما يدخل قبل صحو السكران وهو واضح.
(1/38)
 
 
(تنبيه)
قد أشار تعالى إلى ما يعرف به زوال السكر، وهو أن يكون فاهماً لما يتكلم به غير طائش عنه، وذلك فى قوله " حتى تعلموا ما تقولون..) الآية. وأما المكره فجزم المؤلف رحمه الله بأنه مكلف واطلاقه تكليفه من غير تفصيل لا يخلو من نظر، اذ الاكراه قسمان:
قسم لا يكون فيه المكره مكلفاً بالاجماع كمن حلف لا يدخل دار زيد مثلا، فقهره من هو أقوى منه، وكبله بالحديد، وحمله قهراً حتى أدخله فيها فهذا النوع من الاكراه صاحبه غير مكلف كما لا يخفى، اذ لا قدرة له على خلاف ما أكره عليه.
وقسم هو محل الخلاف الذى ذكره المؤلف، وهو ما اذا قيل له افعل كذا مثلا والا قتلتك، جزم المؤلف بأن المكره هذا النوع من الاكراه مكلف، وظاهر كلامه أنه لو فعل المحرم الذى أكره عليه هذا النوع من الاكراه لكان آثماً والظاهر أن فى ذلك تفصيلا.
فالمكره على القتل بان قبل أقتله والا قتلتك أنت، لا يجوز له قتل غيره، وان أدى ذلك إلى قتله هو، وأما فى غير حق الغير الظاهر أن الاكراه عذر يسقط التكليف، بدليل قوله تعالى: "الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ".
وفى الحديث: (ان الله تجاوز لى عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
والحديث وان أعله أحمد وابن أبى حاتم فقد تلقاه العلماء بالقبول وله شواهد ثابتة فى الكتاب والسنة، وأما خطاب الكفار بفروع الاسلام
(1/39)
 
 
فاختلف فيه، فقيل غير مخاطبين بها، واحتج من قال بأنهم لو فعلوها فى حال كفرهم لم تقبل منهم ولا يجب قضاؤها عليهم بعد الاسلام وما لم يقيل منهم فلا يخاطبون به، وهذا الاحتجاج مردود لأنهم مخاطبون بها وبما لا تصح الا به وهو الاسلام، كالمحدث يخاطب بالصلاة وبما لا تصح الصلاة الا به كالطهاره كما قدمنا من
أن ما لا يتم الواجب الا به واجب.
والحق أنهم مكلفون بها لدلالة النصوص على ذلك فمن الأدلة عليه قوله تعالى:
(ما سلككم سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين) . الآية. ففى الآية التصريح بأن من الاسباب النى سلكتم فى سقر عدم اطعام المسكين، وهو فرع من الفروع ونظيره قوله تعالى:
(خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم فى سلسة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه) .
ثم بين السبب بقوله تعالى:
(انه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين) . الآية.
ومن الادلة على ذلك قوله تعالى:
والذين لا يدعون مع الله الهآ آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق) إلى قوله تعالى:
(يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا) . الآية. لان الآية نص فى مضاعفة العذاب
(1/40)
 
 
فى حق من جمع بين المحظورات.
واعلم أن المسألة فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أنهم مخاطبون بها وهو الحق.
الثانى: أنهم غير مخاطبين بها مطلقاً.
الثالث: أنهم مخاطبون بالنواهى لصحة الكف عن الذنب منهم دون الأوامر وحجة من قال بالاطلاق أن الكف عن المنهى عنه وان صدر منهم فلا أجر لهم فيه، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة.
وأما الجواب عن كونها لا تقضى بعد الاسلام، فهو أن الاسلام يجب ما قبله. قال المؤلف رحمه الله فأما الشروط المعتبرة لفعل المكلف به فثلاثة، أحدهما أن يكون معلوماً للمأمور به حتى يتصور قصده إليه وأن يكون معلوماً كونه مأموراً به من جهة الله تعالى، حتى يتصور فيه قصد الطاعة والامتثال، وهذا يختص بما يجب ته قصد الطاعة والتقرب.
ايضاح معنى هذا الشرط الاول أن الفعل المكلف به يشترط فى صحة التكليف به شرعاً أن يكون المكلف يعلمه فيشترط لتكليفه بالصلاة علمه بحقيقة كيفية الصلاة لان التكليف بالمجهول من تكليف ما لا يطاق، اذ لو قيل للمكلف أفعل ما أضمره فى نفسى أنك تفعله والا عاقبتك، فقد كلف بفعل ما لا طاقة له به لأن اهتداءه إلى الفعل المطلوب من غير علم ليس فى طاقته كما هو واضح.
واعلم أن الأحكام الشرعية قسمان: قسم منها تعبدى محض، وقسم معقول المعنى. فالتعبد كالصلاة والزكاة والصوم، فيشترط فى التكليف به العلم بحقيقة الفعل المكلف به كما بينا، ويزاد على ذلك العلم بأنه مأمور
(1/41)
 
 
به من الله تعالى، اذ لا بد من نية التقرب به إلى الله تعالى ونية التقرب إليه عز وجل لا تمكن الا بعد معرفة أن الأمر المتقرب به إليه أمر منه جل وعلا، وأما معقول المعنى فلا يشترط فى صحة فعله نية التقرب ولكن لا أجر له فيه البته الا بنية التقرب إلى الله تعالى.
ومثال ذلك رد الأمانة، والمغصوب وقضاء الدين، والانفاق على الزوجة. فمن قضى دينه وأدى الأمانة ورد المغصوب مثلا لا يقصد بشيء من ذلك وجه الله بل لخوفه من عقوبة السلطان مثلا ففعله صحيح دون النية وتسقط به المطالبة فلا يلزمه الحق فى الآخرة بدعوى أن قضاءه فى الدنيا غير صحيح لعدم نية التقرب بل القضاء صحيح والمطالبة ساقطة على كل حال ولكن لا أجر له الا بنية التقرب، وهذا هو مراد المؤلف بقوله وهذا يختص بما يجب به قصد الطاعة والتقرب.
قال المؤلف:
(الثانى) أن يكون معدوماً أما الموجود فلا يمكن ايجاده فيستحيل الأمر به.
ايضاح معنى هذا الشرط أنه يشترط فى المطلوب المكلف به أن يكون الفعل المطلوب معدوماً، فالصلاة والصوم المأمور بهما وقت الطلب لا بد أن يكونا غير موجودين، والمكلف ملزم بايجادهما على الوجه المطلوب، أما الموجود الحاصل فلا يصح التكليف به كما لو كان صلى ظهر هذا اليوم بعينه صلاة تامة من كل جهاتها، فلا يمكن أمره بايجاد تلك الصلاة بعينها التي أداها على أكمل وجه لأن الأمر بتحصيلها معناه أنها غير حاصلة والفرض أنها حاصلة فيكون تناقضاً،
ومن هنا قالوا تحصيل الحاصل محال لأن السعى فى تحصيله معناه أنه غير حاصل بالفعل وكونه حاصلا بالفعل ينافى ذلك فصار المعنى هو غير حاصل هو حاصل. وهذا تناقض واجتماع القيضين مستحيل.
(1/42)
 
 
(تنبيه)
مثل قوله تعالى: "يا أيها النبى اتق الله ". الآية. صريح فى الأمر بما هو حاصل وقت الطلب لأنه متق وقت أمره بالتقى.
والجواب أن أمره بالتقوى يراد به الدوام على ذلك أو أمر أمته بأمره لأنه قدوة لهم.
قال المؤلف _ رحمه الله _:
(الثالث) أن يكون ممكنا فان كان محالا كالجمع بين الضدين ونحوه لم يجز الأمر به، وقال قوم يجوز ذلك بدليل قوله تعالى: " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به "، والمحال لا يسأل دفعه، لأن الله تعالى، علم أن أبا جهل لا يؤمن وقد أمره بالايمان وكلفه اياه إلى آخر.
اعلم أن هذه المسألة هى المعروفة عند أهل الأصول بمسألة التكليف بما لا يطاق، وبعضهم يقول التكليف بالمحال وفيها تفصيل لا بد منه ولم ذكره المؤلف رحمه الله تعالى، ولكنه أشار إليه اشارة خفيفة فى آخر كلامه.
اعلم أن حاصل تحقيق المقام فى هذه المسألة عند أهل الأصول أن البحث فيهل من جهتين:
الأولى: من جهة الجواز العقلى، أي هل يجوز عقلا أن يكلف الله عبده بما لا يطيقه أو يمتنع ذلك عقلا.
الثانية: هل يمكن ذلك شرعاً أو لا، اعلم أن أكثر الأصوليين على جواز التكليف عقلا بما لا يطاق، قالوا وحكمته ابتلاء الانسان، هل يتوجه إلى
(1/43)
 
 
الامتثال ويتأسف على عدم القدرة ويضمر أنه لو قدر لفعل، فيكون مطيعاً لله بقدر طاقته، أو لا يفعل ذلك فيكون حكم العاصى.
ومنهم من يقول لا يلزم ظهور الحكمة فى أفعال الله لأنهم يزعمون أن أفعاله لا تعلل بالأغراض والحكم وسيأتى ان شاء الله تعالى ايضاح ابطال ذلك فى الكلام على علة القياس، وأكثر المعتزلة وبعض أهل السنة منعوا التكليف بما لا يطاق لا فائدة فية فهو محال عقلا، قالوا لأن الله يشرع الأحكام لحكم ومصالح،
والتكليف بما لا يطاق لا فائدة فيه فهو محال عقلا. أما بالنسبة إلى الامكان الشرعى ففى المسألة التفصيل المشار إليه آنفاً وهو أن المستحيل أقسام. فالمستحيل عقلا قسمان: قسم مستحيل لذاته كوجود شريك لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وكاجتماع النقيضين والضدين فى شيء واحد من جهة واحدة.
ويسمى هذا القسم المستحيل الذاتى، وايضاحه أن العقل اما أن يقبل وجود الشيء فقط، أي ولا يقبل عدمه أو يقبل عدمه فقط ولا يقبل وجوده أو يقبلهما معاً فان قبل وجوده فقط ولا يقبل وجوده أو يقبلهما معاً، فان قبل وجوده فقط ولم يقبل عدمه بحال فهو الواجب الذاتى المعروف بواجب الوجود كذات الله جل وعلا، متصفاً بصفات الكمال والجلال، وان قبل عدمه فقط دون وجوده فهو المستحيل المعروف بالمستحيل عقلا كوجود شريك لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وان قبل العقل وجودوه وعدمه، فهو المعروف بالجائز عقلا وهو الجائز الذاتى كقدوم زيد يوم الجمعة وعدمه. فالمستحيل الذاتى أجمع العلماء على أن التكليف به لا يصح شرعاً لقوله تعالى: " لا يكلف الله نفساً الا وسعها "، وقوله تعالى: " فاتقوا الله ما استطعتم " ونحو ذلك من أدلة الكتاب والسنة.
القسم الثانى من قسمى المستحيل عقلا هو ما كان مستحيلا لا لذاته
(1/44)
 
 
بل لتعلق علم الله بأنه لا يوجد، لأن ماسبق فى علم الله أنه لا يوجد مستحيل عقلا أن يوجد لاستحالة تغير ما سبق به العلم الأزلى وهذا النوع يسمونه المستحيل العرضى، ونحن نرى أن هذه العبارة لا تنبغى لأن وصف استحالتة بالعرض من أجل كونها بسبب تعلق العلم الأزلى لا يليق بصفة الله، فالذى ينبغى أن يقال أنه مستحيل لأجل ما سبق فى علم الله من أنه لا يوجد ومثال هذا النوع ايمان أبى لهب فان ايمانه بالنظر إلى مجرد ذاته جائز عقلا الجواز الذاتى لأن
العقل يقبل وجوده وعدمه، ولو كان ايمانه مستحيلا عقلا لذاته لاستحال شرعاً تكليفه بالايمان مع أنه مكلف به قطعاً اجماعاً، ولكن هذا الجائز عقلا الذاتى، مستحيل من جهة أخرى، وهى من حيث تعلق الله فيما سبق أنه لا يؤمن لاستحالة تغير ما سبق به العلم الأزلى، والتكليف بهذا النوع من المستحيل واقع شرعاً باجماع المسلمين لأنه جائز ذاتى لا مستحيل ذاتى، والأقسام بالنظر إلى تعلق العلم قسمان واجب ومستحيل فقط، لان العلم اما أن يتعلق بالوجود فهو واجب أو بالعدم فهو مستحيل ولا واسطة، والمستحيل العادى كتكليف
الانسان بالطيران إلى السماء بالنسبة إلى الحكم الشرعى كالمستحيل العقلى هذا هو حاصل كلام أهل الأصول فى هذه المسألة، والآية لا دليل فيها على جواز التكليف شرعاً بما لا يطاق لأن المراد بما لا طاقة به هى الآصار والأثقال التي كانت على من قبلنا، لان شدة مشقتها وثقلها تنزلها منزلة ما لا طاقة به.
(فصل)
قال المؤلف:
والمقتضى بالتكليف فعل وكف، فالفعل، فالفعل كالصلاة والكف كالصوم
(1/45)
 
 
وترك الزنا وشرب الخمر إلى آخره.
اعلم أن لله جل وعلا انما يكلف بالأفعال الأختيارية وهى باستقراء الشرع أربعة أقسام:
الاول: الفعل الصريح كالصلاة.
الثانى: فعل اللسان وهو القول والدليل على أن القول فعل قوله تعالى: (زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه) .الآية.
الثالث: الترك والتحقيق أنه فعل وهو كف النفس وصرفها عن المنهى عنه، خلافاً لمن زعم أن الترك أمر عدمى لا وجود له، والعدم عبارة عن لا شيء والدليل على أن الترك فعل الكتاب والسنة واللغة.
وأما دلالة الكتاب على أن الترك فعل ففى آيات من القرآن العظيم كقوله تعالى: " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون "، فسمى الله جل وعلا عدم نهى الربانيين والأحبار لهم صنعاً والصنع أرخص مطلقاً من الفعل فدل على أن ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فعل بدليل تسمية الله له صنعاً.
وكقوله تعالى:" كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " فسمى عدم تناهيهم عن المنكر فعلا وهو واضح ولم أر من الأصوليين من انتبه لدلالة هذه الآيات على أن الترك فعل، وقال السبكى فى طبقاته ان قوله تعالى
:" وقال الرسول يا رب ان قومى اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ".
يدل على أن الترك فعل، قال لان الأخذ التناول والمهجور المتروك فصار المعنى تناولوه متروكان أي فعلوا تركة هكذا قال.
وأما دلالة السنة ففى
(1/46)
 
 
أحاديث كقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فسمى ترك الأذى اسلاماً وهو يدل على أن الترك فعل أما اللغة فكقول الراجز.
لان قهدنا والنبى يعمل لذاك منا العمل المضلل
فمعنى قعدنا تركنا الاشتغال ببناء المسجد، وقد سمى هذا الترك عملا فى قوله لذاك منا العمل المضلل وبنبنى على الخلاف فى الترك هل هو فعل أو لا.
فروع كثيرة فى المذاهب كمن منع مضطراً فضل طعام أو شراب حتى مات، فعلى أن الترك فعل فانه يضمن ديته، وعلى أنه ليس بفعل فلا ضمان عليه، وكمن منع صاحب جدار خاف سقوطه عمدا عنه حتى سقط، ومن أمسك وثيقة حق حتى تلف الحق. وأمثال هذا كثيرة جداً فى الفروع فعلى أن الترك فعل فانه يضمن فى الجميع، وعلى أنه ليس بفعل فلا ضمان عليه، وأشار إلى هذا صاحب مراقى السعود بقوله:
ولا يكلف بغير الفعل باعث ... الأنبيا ورب الفضل
فكفنا بالنهى مطلوب النبى ... والكف فعل فى صحيح المذهب
له فروع ذكرت فى المنهج ... وسردها من بعد ذا البيت يجى
من شرب أو خيط ذكانة فضل ما ... وعمد رسم وشهادة وما
عطل ناظر وذو الرهن كذا ... مفرط فى العلف فادر المأخذا
الرابع: العزم المصمم على الفعل والدليل على أنه فعل قوله فى حديث أبى بكرة الثابت فى الصحيح اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار، قالوا يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول، قال انه كان حريصاً على قتل صاحبه،
(1/47)
 
 
فالحديث يدل دلالة لا لبس فيها على أ، عزم هذا المقتول المصمم على قتل صاحبه فعل، دخل بسببه النار لأنهم قالوا له: قد
عرفنا القاتل أي عرفنا الموجب الذى دخل بسببه النار، وهو قتل المسلم فما بال المقتول، أي ما تشخيص الذنب الذى دخل بسببه النار لانه لم يحصل منه قتل بالفعل، فأجابهم:
بأن سبب دخوله النار هو حرصه على قتل صاحبه فدل ذلك بدلالة الايماء والتنبيه على أن حرصه على قتل صاحبه هو الفعل الذى دخل بسببه النار كما هو واضح، وقول المؤلف رحمه الله فى هذه المسألة، والمقتضى بالتكليف هو بفتح الضاد بصيغة اسم المفعول أي الشيء المقتضى بالتكليف فعل وكف كما أوضحناه.
قال المؤلف _ رحمه الله _:
الضرب الثاني من الأحكام ما يتلقى من خطاب الوضع والأخبار وهو أقسام أيضاً:
اعلم أن ما ذكر من أقسام خطاب الوضع ستة أقسام:
القسم الأول: ما يظهر به الحكم هو نوعان: العلل والأسباب.
الثالث: الشرط. الرابع: الموانع الخامس: الصحة، السادس: الفساد وأنجر الكلام إلى الرخصة والعزيمة والقضاء والأداء والعادة، وهذه تفاصيل ذلك كله.
اعلم أولاً أن خطاب الوضع انما سمي خطاب الوضع لان الشرع وضع الخطاب بالاسباب والشروط والموانع مثلاً بمعنى أنه يقول اذا زالت الشمس مثلاً فقد وضعت وجوب الصلاة وإذا تم النصاب والحول فقد وضعت وجوب الزكاة، واذا حصل الحيض فقد وضعت سقوط الصلاة والصوم وقس على هذا.
(1/48)
 
 
واعلم أنه يفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع بفارقين ظاهرين وهما أن خطاب الوضع علامته أنه اما ألا يكون في قدرة المكلف أصلاً كزوال الشمس والنقاء من الحيض أو يكون في قدرته، ولا يؤمر به كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج وعدم السفر للصوم، وبهذا
تعرف أن خطاب التكليف علامته أمران أن يكون في قدرة المكلف، ويؤمر به فعلاً كالوضوء للصلاة أو تركان كسائر المنهيات، وخطاب الوضع أعم من خطاب التكليف لأن كل تكليف معه خطاب وضع اذ لا يخلو من شرط أو مانع مثلاً، وقد يوجد خطاب الوضع حيث لا تكليف كلزوم غرم المتلفات وآروش الجنايات لغير المكلف كالصبي، وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه واعتمده القرافي في الفروق.
أما العلة فهي في اللغة: عبارة عما اقتضى تغييراً ومنه سميت علة المريض لأنها اقتضت تغير الحال، ومنه قول زهير:
ان تلق يوماً على علاته هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقا
أي ان تلقه على علاته أي حالاته المقتضية تغيير الوجود كالفقر والجدب تلقه متصفاً بالجود والسماحة على كل حال، والعلة العقلية عبارة عما يوجب الحكم لا محالة كتأثير حركة الاصبع في حركة الخاتم وتأثير الكسر في الانكسار والتسويد في السواد والفقهاء يستعملون العلة في ثلاثة أشياء:
الأول: ما يوجب الحكم لا محالة أي اذا وجد قطعاً وهو المجموع المركب من مقتضى الحكم، وشرطه ومحله وأهله كوجوب الصلاة فانه حكم شرعي ومقتضيه أمر الشارع بالصلاة وشرطه أهنية المصلي لتوجه الخطاب عليه بأن يكون بالغاً عاقلاً ومحله الصلاة وأهله المصلى، فاذا وجد هذا المجموع وجدت الصلاة ويطلق على هذا المجموع اسم العلة تشبيهاً بالعلة العقلية، وقول المؤلف في هذا البحث: والاهل والمحل: وصفان من
(1/49)
 
 
أوصافها إلى آخره صوابه أن يقول: ركنان من أركانها لان الأهل والمحل ركنان من أركانها على هذا التفسير لها.
الثاني: من الأشياء التي يطلقون عليها العلة هو العلة التي تخلف شرطها أو وجد مانعها كاليمين مع عدم الحنث بالنسبة لوجوب الكفارة، فاليمين علة الكفارة وشرط وجوبها بها الحنث فتسمى اليمين دون الحنث علة وهي علة تخلف شرطها، وهكذا في نحوه وهذا أولى عند المؤلف.
الثالث: من الأشياء التي يطلقون عليها اسم العلة هو: الحكمة وضابط الحكمة أنها هي المعنى الذي من أجله صار الوصف علة فعلة تحريم الخمر مثلاً الاسكار، وحكمته حفظ العقل لان حفظ العقل هو الذي صار من أجله الاسكار علة للتحريم في الخمر، قال صاحب مراقي
السعود في تعريف الحكمة:
وهي التي من أجلها الوصف جرى ... علة حكم عند كل من درى
وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله كقولهم المسافر يترخص لعلة المشقة لان علة الرخصة بالقصر وعدم الصوم هي السفر والحكمة رفع المشقة لأنها هي التي من أجلها صار السفر علة للرخصة.
واما السبب فهو كل ما توصلت به إلى شيء.
ومنه قوله زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها ... ولو رام أسباب السماء بسلم
ويروي أسباب المنايا ينلنه أي طرقها الموصلة إليها.
والسبب يطلق عند الفقهاء على أربعة أشياء:
(1/50)
 
 
الأول: ما يقابل المباشرة كالحفر مع التردية فالحافر يسمى صاحب سبب والمردي الذي هو المباشر صاحب علة، وكمن قدم طعام شخص إلى آخر فأكله فالمقدم متسبب والآكل مباشر والقاعدة عند الفقهاء تقديم المباشر في الضمان فان تعذر تضمينه لموت أو فلس ضمن المتسبب ولا يخلو تضمينه من خلاف.
الثاني: علة العلة يسمونها علة كالرمي فانه علة لاصابة السهم بدن الشخص المرمي واصابته اياه علة لقتله، فالرمي علة لعلة القتل تسمى سببا.
الثالث: العلة التي تخلف شرطها كنصاب الزكاة بدون الحول.
الرابع: العلة الشرعية نفسها وعليه أكثر أهل الأصول قال في مراقي السعود:
ومع علة ترادف السبب ... والفرق بعضهم إليه قد ذهب
وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة ايضاح معنى العلة الشرعية في مبحث العلة من كتاب القياس.
وأما الشرط في اللغة فهو العلامة، ومنه قوله تعالى: " فقد جاء اشراطها " الآية. وقول أبي الاسود الدؤلي:
لان كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو
والشرط الشرعي في الاصطلاح عند أهل الاصول هو ما لا يلزم من وجوده لذاته وجود ولا عدم، ولكنه يلزم من عدمه عدم المشروط كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فان وجود الطهارة لا يلزم منه وجود الصلاة ولا عدمها لأن المتطهر قد يصلي وقد لا يصلي بخلاف عدم الطهارة فانه يلزم منه عدم الصلاة الشرعية، واعلم أن الشرط قسمان:
(1/51)
 
 
شرط وجوب، وشرط صحة:
فشرط الوجوب كالزوال لصلاة الظهر، وشرط الصحة كالوضوء للصلاة، وضابط الفرق بين شرط الوجوب وشرط الصحة هو عين الفرق المتقدم بين خطاب التكليف وخطاب الوضع لان شرط الوجوب من خطاب الوضع وشرط الصحة من خطاب التكليف الا أن صحة الواجب قد تشترط لها شروط الوجوب من حيث هي شروط في الوجوب وزاد بعض العلماء شرطاً ثالثاً وهو شرط الأداء، وقد قدمنا الاشارة إليه في أقسام التكليف واعلم أن الشرط من حيث هو شرط ثلاثة أقسام:
الأول: الشرط الشرعي وهو المذكور آنفاً وهو المقصود في الأصل.
الثاني: الشرط اللغوي كان دخلت الدار فأنت طالق وهو واضح.
الثالث: الشرط العقلي وهو مالا يمكن المشروط في العقل دونه ومثل له المؤلف بالحياة للعلم والعلم للإرادة.
المانع
وأما المانع فهو في اللغة اسم فاعل منعه وفي اصطلاح أهل الأصول هو ما لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم ولكنه يلزم من وجوده عدم الحكم كالحيض بالنسبة للصلاة والصوم مثلاً فان عدم الحيض لا يلزم منه وجودهما ولا عدمهما لان المرأة الطاهرة قد تصلي وتصوم وقد لا تفعل ذلك بخلاف وجود الحيض فانه مانع من الصلاة والصوم.
تنبيه
المانع ثلاثة أقسام:
(1/52)
 
 
1 ـ مانع للدوام والابتداء معاً كالرضاع بالنسبة إلى النكاح فانه مانع منه ابتداء ودواماً ومعنى منعه ابتداء أنه يمنع من ابتداء عقد النكاح اذ لا يجوز عقد النكاح ابتداء على امرأة هي أخته من الرضاعة ومعنى منعه الدوام أنه لو تزوج رضيعة ليست له بمحرم ثم بعد عقد النكاح أرضعتها أمه أو أخته مثلاً فان هذا الرضاع الطارئ على العقد يمنع من الدوام على العقد بل يجب فسخه حالاً.
2 ـ مانع للابتداء فقط دون الدوام كالاحرام بالنسبة إلى النكاح فان الاحرام يمنع ابتداء عقد النكاح مادام محرماً ولا يمنع من الدوام على نكاح قبله.
3 ـ مانع للدوام دون الابتداء كالطلاق فانه مانع من الدوام على النكاح الاول ولا يمنع ابتداء نكاح ثاني.
وأما الصحة فهي في اللغة السلامة وعدم الاختلال ومنه قوله:
وليل يقول المرء من ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها
والصحة في اصطلاح الفقهاء تطلق في العبادات وفي المعاملات فالصحة عندهم في العبادات هي الأجزاء واسقاط القضاء فكل عبادة فعلت على وجه يجزئ ويسقط القضاء فهي صحيحة.
والصحة عندهم في المعاملات هي ترتب الأثر المقصود من العقد على العقد.
فكل نكاح أباح التلذذ بالمنكوحة فهو صحيح وكل بيع أباح التصرف في المبيع فهو صحيح وهكذا.
وأما عند المتكلمين فضابط الصحة مطلقاً في العبادات وغيرها هي موافقة ذي الوجهين الشرعي منهما، وايضاحه أن كل فعل، عبادة كان
(1/53)
 
 
أو معاملة، لا يخلو من أحد أمرين، اما أن يكون موافقاً للوجه الشرعي أو مخالفاً له فان وقع موافقاً له فهو الصحيح والقائلون بهذا القول منهم من قال ان الموافقة للوجه الشرعي لابد أن تكون واقعة في نفس الأمر ولا يكفي فيها ظن المكلف الموافقة، ان كانت غير حاصلة في نفس الأمر، ومنهم من قال تكفي الموافقة في اعتقاد المكلف وان لم تحصل في نفس الأمر كمن صلى يظن أنه متطهر وهو محدث،
فالموافقة للوجه الشرعي حاصلة في ظنه لا في نفس الأمر فمن قال يكفي في ذلك اعتقاده قال صلاته صحيحة وهو قول بعض المتكلمين وبعضهم يقول هي صحيحة ولكن يجب قضاؤها وبعضهم يقول هي صحيحة لا يجب قضاؤها وعامة الفقهاء على أنها باطلة لاختلال شرط الصحة وهو الطهارة وقول المؤلف في هذا المبحث وهذا يبطل بالحج الفاسد فانه يؤمر باتمامه وهو فاسد، ايضاح مراده أن قول المتكلمين أن الصحة موافقة ذي الوجهين الشرعي منهما يقدح فيه بأن اتمام الحج الفاسد بعد فساده مأمور به فتتميمه موافق للوجه الشرعي ولو كانت الصحة موافقته
لكان صحيحاً مع أنه فاسد ويجاب عن هذا بأن الحج انما فسد لانه وقع مخالفاً للوجه الشرعي بارتكاب ما يفسده أولاً وهو واضح.
وأما الفساد فهو في اللغة ضد الصلاح وهو في اصطلاح الفقهاء يعرف من تعريف الصحة المتقدم فالفساد في اصطلاح الفقهاء في العبادات هو عدم الأجزاء وعدم اسقاط القضاء وكل عبادة فعلت على وجه لم يجزئ ولم يسقط القضاء فهي فاسدة.
وفي المعاملات عدم ترتب الأثر المقصود من العقد على العقد فكل نكاح لم يفد اباحة التلذذ بالمنكوحة فهو فاسد وكل شراء لم يفد اباحة التصرف في المشترى فهو فاسد، وعند المتكلمين فالفساد هو مخالفة
(1/54)
 
 
ذي الوجهين الشرعي منهما (والفاسد والباطل مترادفان) فمعناهما واحد عند الجمهور وخالف في ذلك الامام أبو حنيفة النعمان بن ثابت فجعل الباطل هو ما منع بوصفه وأصله كبيع الخنزير بالدم وجعل الفاسد هو ما شرع بأصله ومنع بوصفه كبيع الدرهم بالدرهمين فهو مشروع بأصله وهو بيع درهم بدرهم ممنوع بوصفه الذي هو الزيادة التي سببت
الربا ولذا لو حذف الدرهم الزائد عنده صح البيع في الدرهم الباقي بالدرهم على أصل بيع الدرهم بالدرهم يداً بيد قال في مراقي السعود:
وقابل الصحة بالبطلان ... وهو الفساد عند أهل الشان
وخالف النعمان فالفساد ... ما نهيه بالوصف يستفاد
وأما الاعادة فهي في اللغة تكرير الفعل مرة أخرى ومنه قول توبة بن لحمير:
من الخفرات البيض وجليسها ... اذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وهي في اصطلاحهم فعل العبادة مرة أخرى اما لبطلانها مثلاً فتعاد في الوقت وبعده واما لغير ذلك كاعادتها لفضل الجماعة في الوقت.
واما القضاء في اللغة فيأتي لمعاني كثيرة، ومنها فعل العبادة كيف ما كان في وقتها أم لا.
لقوله تعالى: " فاذا قضيتم الصلاة.. الآية ": " فاذا قضيتم مناسككم.. الآية ": " فاذا قضيت الصلاة.. الآية "، وهو في اصطلاح أهل الأصول فعل جميع العبادة المؤقتة خارج الوقت المقدر لها وقولنا جميع العبادة لأنها ان فعل بعضها في الوقت كانت أداء على الأصح.
(1/55)
 
 
وأما الأداء في اللغة فهو اعطاء الحق لصاحب الحق ومنه قوله تعالى: " ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " وقوله تعالى: " ومن أهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده إليك ".
والأداء في الاصطلاح هو ايقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعاً لمصلحة تشتمل عليها في الوقت وعرفه صاحب مراقي السعود بقوله:
 
فعل العبادة بوقت عينا ... شرعا لها باسم الأداء قرنا
وكونه بفعل بعض يحصل ... لعاضد النص هو المعول
وقيل ما في وقته أداء ... وما يكون خارجا قضاء
 
وعرف القضاء بقوله:
وضده القضا تداركان لما ... سبق الذي أوجبه قد علما
وعرف الوقت بقوله:
والوقت ما قدره من شرعا ... من زمن مضيقا موسعا
وعرف الاعادة بقوله:
وانتفيا في النفل والعبادة ... تكريرها لو خارجا اعادة
(تنبيه)
قد يجتمع الأداء والقضاء في العبادة كالصلوات الخمس فانها تؤدي في وقتها وتقضي بعد خروجه وقد ينفرد الأداء دون القضاء كصلاة الجمعة فانها تؤدى في وقتها ولا تقضى بعد خروج الوقت بل يجب قضاؤها ظهراً.
(1/56)
 
 
وقد ينفرد القضاء دون الأداء كما في صوم الحائض فان أداءه حرام وقضاأه واجب، وقد ينتفيان معاً في النوافل التي ليس لها أوقات معينة ولا يخفى أن القضاء في الاصطلاح انما هو فيما فات وقته المعين له وقد سبق له وجوب في وقته فما لم يعين له وقت لا يسمى قضاء كالزكاة اذا أخرها عن وقتها وكمن لزمه قضاء صلاة على الفور فأخرها فلا يقال ان صلاته بعد التأخير قضاء القضاء.
وهنا سؤال معروف وهو أن يقال الحائض في بعض أيام رمضان يجب عليها القضاء اجماعاً مع أن الوقت فات والصوم عليها حرام فكيف يجب قضاء ما فات وقته وهو حرام.
وكذلك يقال في الناسي والنائم لأنهما فات عليهما وقت الصلاة وهي غير واجبه عليهما، بدليل الاجماع على سقوط الاثم عنهما، وقد تكلمنا فيما سبق على مسألة الناسي والنائم بما يغني عن اعادة الكلام هنا، وأما الحائض فقد اختلف في اطلاق وجوب الصوم عليها زمن الحيبض وعدمه فأكثر العلماء على أن انعقاد السبب مع وجود المانع يكفي في اطلاق الوجوب على العبادة المنعقد
سببها المانع منها مانع. وقال بعضهم انعقاد سبب الوجوب مع وجوب المانع لا اثر له فلا يوصف بوجوب الا ما توفرت شروطه وانتفت موانعه وعلى قول الجمهور أنه يكفي في اطلاق اسم الوجوب عليه انعقاد سببه وان منع منه مانع فالفعل الثاني قضاء للاول وعلى قول من قال انه لا يطلق عليه اسم الوجوب فالفعل الثاني أداء بأمر جديد وليس قضاء للأول.
وفرق بعض العلماء بين النائم والناسي والمسافر وبين الحائض فقال الفعل في غير زمن الحيض كزمن النوم والنسيان والسفر يوصف بالوجوب ففعله الثاني قضاء لذلك الواجب.
(1/57)
 
 
وأما الحيض فالصوم فيه حرام فلا يمكن وصفه بالوجوب فصوم الحائض عدة من أيام أخر على هذا أداء بأمر جديد لا قضاء. وذكر ابن رشد في المقدمات ان هذا التفصيل هو الراجح عند المالكية وعليه درج في المراقي بقوله:
هل يجب الصوم على ذي العذر ... كحائض وممرض وسفر
وجوبه في غير الأول رجح ... وضعفه فيه لديهمو وضح
وهذا القول بأن صوم الحائض ما فاتها من رمضان اذا طهرت أداءاً لا قضاءاً هو الذي رد المؤلف بقوله:
وهذا فاسد لوجوه ثلاثة:
1 ـ ما روى عن عائشة رضي الله عنها (كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نطهر فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة) .
2 ـ أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنهم ينوون القضاء.
3 ـ ان العبادة متى أمر بها في وقت مخصوص فلم يجب فعلها فيه لا يجب بعده.. إلخ.
هذه الأوجه الثلاثة التي رد بها المؤلف ذلك:
القول الأول منها لا دليل فيه لأن اطلاق عائشة رضي الله عنها اسم القضاء على صوم الحائض ما فاتها من رمضان لا دليل فيه لأن القضاء يطلق في اللغة على فعل العبادة مطلقاً في وقتها أم لا.
وتخصيصه بفعلها بعد خروج الوقت اصطلاح خاص للأصوليين والفقهاء فلا دليل قطعاً في لفظ عائشة المذكور لأن الاصطلاح المذكور حادث بعدها.
(1/58)
 
 
وأما الوجه الثاني وهو الاجماع على أنهم ينوون القضاء فهو الدليل الجيد المعتمد في محل النزاع مع أن بعض أهل العلم ناقش هذا الدليل قائلاً انه لم ينعقد فيه اجما عوانه لا مانع من قصد الحائض الأداء بأمر جديد.
وعليه أي الخلاق في ذلك درج في المراقي بقوله:
وهو في وجوب قصد للأداء ... أو ضده لقائل به بدا
والاكتفاء بانعقاد سبب الصوم مثلاً في وجوب القضاء وان منع من تمام الوجوب مانع كالحيض هو مارد المؤلف بقوله:
ولا يمتنع وجوب العبادة في الذمة بناء على وجود السبب مع تعذر فعلها كما في النائم والناسي وكما في المحدث تجب عليه الصلاة مع تعذر فعلها منه في الحال وديون الآدميين تجب على المعسر مع عجزه عن أدائها وهذا واضح كما ترى.
وأما العزيمة فقد عرفها المؤلف رحمه الله في اللغة بقوله: العزيمة في اللسان القصد المؤكد ومنه قوله تعالى: "ولم نجد له عزما".
"فاذا عزمت فتوكل على الله" وعرفها أيضاً ي عرف حملة الشرع بقوله: فالعزيمة الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي وقيل ما لزم بايجاب الله تعالى والتعريف الأول أكمل.
لأن العزيمة تشمل الواجب والمندوب والحرام والمكروه وكثير من أهل الأصول يطلق اسم العزيمة على كل ما ليس برخصة كما سيأتي:
وأما الرخصة، فهي، في اللغة النعومة واللين، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
(1/59)
 
 
ونديا مثل حق العاج رخصاً ... ... حصاناً من أكف اللامسين
وعرفها المؤلف لغة بأنها السهولة واليسر، قال ومنه رخص السعر اذا تراجع وسهل الشراء، وعرفها في اصطلاح أهل الأصول بأنها استبحاة المحظور مع قيام الحاظر. وقيل ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وهذا التعريف الأخير الذي حكاه بقيل أجود من الأول. ومثاله اباحة الميتة للمضطر، ففيها استباحة المحظور الذي هو أكل الميتة مع قيام الحاظر أي المانع الذي هو خبث الميتة الذي حرمت من أجله، وهو أيضاً ثابت على خلاف دليل شرعي هو " حرمت عليكم الميتة" لمعارض راجح كقوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم "
الآية. ونحوها من الآيات ومن أجود تعاريف الرخصة، ما عرفها به بعض أهل الأصول من أنها هي الحكم الشرعي الذي غير من صعوبة إلى سهولة لعذر اقتضى ذلك مع قياس سبب الحكم الأصلي، فخرج بالتغيير ما كان باقياً على حكمه الأصلي كالصلوات الخمس وخرج بالسهولة نحو حرمة الاصطياد بالاحرام بعد اباحته قبله لأنه تغيير من سهولة إلى صعوبة، وكذلك الحدود والتعازير، مع تكريم (1) الآدمي المقتضي للمنع من ذلك قبل وروده وخرج بالعذر، ما تغير من صعوبة إلى سهولة، لا لعذر كترك تجديد الوضوء لكل صلاة، فان التجديد لكل صلاة كان لازماً ثم غير إلى سهولة، هي أنه يصلي بوضوء
واحد كل الصلوات مالم يحدث إلا أن هذا التغيير لا يسمى رخصة اصطلاحاً لأنه لم يكن لعذر جديد، وخرج بقيام سبب الحكم الأصلي النسخ، كتغير ايجاب مصابرة المسلم الواحد ال