وجوب العمل بسنة الرسول وكفر من أنكرها

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها
المؤلف: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420هـ)
عدد الأجزاء: 1
 
[المقدمة]
وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها تأليف سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
(/)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد المرسل رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، وعلى آله وأصحابه الذين حملوا كتاب ربهم سبحانه وسنَّة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إِلى من بعدهم، بغاية الأمانة والإتقان، والحفظ التام للمعاني والألفاظ - رضي الله عنهم وأرضاهم - وجعلنا من أتباعهم بإِحسان.
أما بعد: فقد أجمع العلماء قديمًا وحديثًا على أن الأصول المعتبرة في إِثبات الأحكام، وبيان الحلال والحرام في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من
(1/3)
 
 
بين يديه ولا من خلفه، ثم سنَّة رسول الله - عليه الصلاة والسلام - الذي لا ينطق عن الهوى إِن هو إِلا وحي يوحى، ثم إِجماع علماء الأمة، واختلف العلماء في أصول أخرى أهمها القياس وجمهور أهل العلم على أنه حجة إِذا استوفى شروطه المعتبرة، والأدلة على هذه الأصول أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر:
 
[الأصول المعتبرة في إِثبات الأحكام]
[الأصل الأول كتاب الله العزيز]
أما الأصل الأول: فهو كتاب الله العزيز، وقد دل كلام ربنا - عز وجل - في مواضع من كتابه على وجوب اتباع هذا الكتاب والتمسك به والوقوف عند حدوده قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]
(1/4)
 
 
وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42] وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] وقال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52] والآيات في هذا المعنى كثيرة وقد جاءت الأحاديث الصحاح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمرة بالتمسّك بالقرآن والاعتصام به دالة على أن من تمسك به كان على الهدى ومن تركه كان على
(1/5)
 
 
الضلال ومن ذلك ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته في حجة الوداع: «إِنِّي تاركٌ فيكُمْ مَا لَنْ تضلوا إِن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللهِ» ، رواه مسلم في صحيحه، وفي صحيح مسلم أيضا عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنِّي تارك فِيكُمْ ثِقْلَين أَوَّلهُما كِتابُ الله فيهِ الهُدَى والنُّور فَخُذوا بِكتَابِ اللهِ وَتَمَسّكُوا بِهِ» ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: «وَأَهْلُ بَيْتي أذَكِّركُمُ الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي» ، وفي لفظ قال في القرآن: «هو حبل الله من تمسك به كان على الهدى ومن تركه كان على الضلال» .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي إِجماع أهل العلم والإِيمان من الصحابة ومن بعدهم على
(1/6)
 
 
وجوب التمسك بكتاب الله والحكم به والتحاكم إِليه مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي ويشفي عن الإِطالة في ذكر الأدلة الواردة في هذا الشأن.
 
[الأصل الثاني ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم] من أهل العلم والإِيمان
 
[مما ورد في ذلك من الآيات]
أما الأصل الثاني: - من الأصول الثلاثة المجمع عليها فهو ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من أهل العلم والإِيمان، يؤمنون بهذا الأصل الأصيل ويحتجون به ويعلمونه الأمة، وقد ألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة وأوضحوا ذلك في كتب أصول الفقه والمصطلح، والأدلة على ذلك لا تحصى كثرة، فمن ذلك ما جاء في كتاب الله العزيز من الأمر باتباعه وطاعته، وذلك موجه إِلى أهل عصره ومن بعدهم لأنه رسول الله إِلى الجميع، ولأنهم
(1/7)
 
 
مأمورون باتباعه وطاعته حتى تقوم الساعة، ولأنه - عليه الصلاة والسلام - هو المفسر لكتاب الله والمبين لما أجمل فيه بأقواله وأفعاله وتقريره، ولولا السنَّة لم يعرف المسلمون عدد ركعات الصلوات وصفاتها وما يجب فيها، ولم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات والمحرمات وما أوجب الله بها من حدود وعقوبات.
ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] وقوله تعالى في سورة النساء:
(1/8)
 
 
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
وقال تعالى في سورة النساء أيضًا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] وكيف تمكن طاعته ورد ما تنازع فيه الناس إِلى كتاب الله وسنَّة رسوله إِذا كانت سنَّته لا يحتج بها أو كانت كلها غير محفوظة، وعلى هذا القول يكون الله قد أحال عباده إِلى شيء لا وجود له وهذا من أبطل الباطل ومن أعظم الكفر بالله وسوء الظن به، وقال - عز وجل - في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]
(1/9)
 
 
وقال فيها أيضاً آية: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] فكيف يكل الله سبحانه إِلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - تبيين المنزل إِليهم وسنَّته لا وجود لها أو لا حجة فيها؟ ومثل ذلك قوله تعالى في سورة النور: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وقال تعالى في السورة نفسها: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]
وقال في سورة الأعراف:
(1/10)
 
 
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]
وفي هذه الآيات الدلالة الواضحة على أن الهداية والرحمة في اتباعه - عليه الصلاة والسلام - وكيف يمكن ذلك مع عدم العمل بسنَّته أو القول بأنه لا صحة لها أو لا يعتمد عليها، وقال - عز وجل - في سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وقال في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على وجوب طاعته - عليه الصلاة والسلام - واتباع ما جاء به كما
(1/11)
 
 
سبقت الأدلة على وجوب اتباع كتاب الله والتمسك به وطاعة أوامره ونواهيه وهما أصلان متلازمان من جحد واحدًا منهما فقد جحد الآخر وكذب به وذلك كفر وضلال وخروج عن دائرة الإِسلام بإجماع أهل العلم والإِيمان.
 
[مما ورد في ذلك من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم]
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجوب طاعته واتباع ما جاء به وتحريم معصيته وذلك في حق من كان في عصره وفي حق من يأتي بعده إِلى يوم القيامة، ومن ذلك ما ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقد أَطَاعَ الله ومَن عَصَانِي فقد عَصَى الله» ، وفي صحيح البخاري عنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلّ أمَّتي يَدخُلونَ
(1/12)
 
 
الجنةَ إِلا مَن أَبَى قِيلَ يا رسولَ اللهِ ومَن يَأبَى قَالَ مَن أَطَاعَني دَخَلَ الجنة ومَن عَصَاني فَقد أَبَى» ، وخرج أحمد وأبو داود، والحاكم بإِسناد صحيح عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أَلا إٍني أوتِيتُ الكِتابَ ومِثْلَه مَعَهُ أَلا يُوشِكُ رَجلٌ شَبْعانُ على أريكَتِهِ يَقولُ عَليكمْ بِهذا القُرآنِ فَما وَجَدْتُمْ فيهِ مِن حَلال فأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُم فيِه مِن حَرامٍ فَحَرِّمُوهُ» .
وخرج أبو داود، وابن ماجه بسند صحيح: عن ابن أبي رافع عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أَلْفَينَّ أَحَدَكُم مُتّكِئًا عَلى أَريكتِهِ يَأتِيهِ الأمْرُ مِن أَمْري مَمّا أَمَرْتُ بِهِ أو نَهَيْتُ عَنْهُ فَيقولُ لا ندْري، ما وَجَدْنا في كِتابِ اللهِ اتَّبَعْنَاه» .
(1/13)
 
 
وعن الحسن بن جابر قال سمعت المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - يقول: «حَرّمَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ خَيْبَر أَشْياءَ ثم قَالَ يُوشِكُ أَحَدُكُم أَن يُكذِّبَني وَهو مُتّكِئ يُحًدّث بحدِيثي فَيقولُ بَيْنَنا وَبَيْنكُم كِتابُ اللهِ فما وَجَدْنَا فِيهِ من حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنا فيه من حَرام حَرّمْنَاهُ أَلا إِنَّ مَا حَرّمَ رسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرّمَ الله» أخرجه الحاكم والترمذي وابن ماجه بإِسناد صحيح. وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته أن يبلغ شاهدهم غائبهم ويقول لهم ربّ مبلغ أوعى من سامع ومن ذلك ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الناس في حجة الوداع في يوم عرفة وفي يوم النحر قال لهم:
(1/14)
 
 
«فليبلغ الشاهد الغائب فرب من يبلغه أوعى له ممن سمعه» ، فلولا أن سنَّته حجة على من سمعها وعلى من بلغته، ولولا أنها باقية إِلى يوم القيامة لم يأمرهم بتبليغها، فعلم بذلك أن الحجة بالسنة قائمة على من سمعها من فيه - عليه الصلاة والسلام - وعلى من نقلت إِليه بالأسانيد الصحيحة.
وقد حفظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنته - عليه الصلاة والسلام - القولية والفعلية وبلغوها من بعدهم من التابعين ثم بلغها التابعون من بعدهم، وهكذا نقلها العلماء الثقات جيلًا بعد جيل وقرنًا بعد قرن، وجمعوها في كتبهم وأوضحوا صحيحها من سقيمها، ووضعوا لمعرفة ذلك قوانين وضوابط معلومة بينهم
(1/15)
 
 
يعلم بها صحيح السنَّة من ضعيفها وقد تداول أهل العلم كتب السنة من الصحيحين وغيرهما وحفظوها حفظًا تامًا كما حفظ الله كتابه العزيز من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وتحريف المبطلين تحقيقًا لما دل عليه قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ولا شك أن سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحي منزل فقد حفظها الله كما حفظ كتابه وقيض الله لها علماء نقادًا، ينفون عنها تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين ويذبون عنها كل ما ألصقه بها الجاهلون والكذابون والملحدون لأن الله سبحانه جعلها تفسيرًا لكتابه الكريم وبيانًا لما أجمل فيه من الأحكام وضمنها أحكامًا أخرى لم ينص عليها الكتاب العزيز،
(1/16)
 
 
كتفصيل أحكام الرضاع وبعض أحكام المواريث وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها إِلى غير ذلك من الأحكام التي جاءت بها السنَّة الصحيحة ولم تذكر في كتاب الله العزيز.
 
[مما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم]
ذكر بعض ما ورد عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم في تعظيم السنة ووجوب العمل بها. . في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتد من ارتد من العرب قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فقال له عمر - رضي الله عنه -: كيف تقاتلهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمِرْتُ أَنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حَتى يَقُولُوا لا إِلهَ إِلا الله فَإِذا قَالوها عَصَمُوا مِني دِمَاءَهُم
(1/17)
 
 
وَأَموَالَهُم إِلا بحقَّها» ؛ فقال أبو بكر الصديق: أليست الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها فقال عمر - رضي الله عنه -: فما هو إِلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق، وقد تابعه الصحابة - رضي الله عنهم - على ذلك فقاتلوا أهل الردة حتى ردوهم إِلى الإِسلام وقتلوا من أصر على ردته، وفي هذه القصة أوضح دليل على تعظيم السنَّة ووجوب العمل بها، وجاءت الجدة إِلى الصديق - رضي الله عنه - تسأله عن ميراثها فقال لها: ليس لك في كتاب الله شيء ولا أعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى لك بشيء وسأسأل الناس ثم سأل - رضي الله عنه - الصحابة
(1/18)
 
 
فشهد عنده بعضهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الجدة السدس قضى لها بذلك، وكان عمر - رضي الله عنه - يوصي عماله أن يقضوا بين الناس بكتاب الله فإِن لم يجدوا القضية في كتاب الله فبسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما أشكل عليه حكم إِملاص المرأة وهو إِسقاطها جنينًا ميتًا بسبب تعدي أحد عليها سأل الصحابة - رضي الله عنهم - عن ذلك فشهد عنده محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهما - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في ذلك بغرة عبد أو أمة فقضى بذلك - رضي الله عنه -. ولما أشكل على عثمان - رضي الله عنه - حكم اعتداد المرأة في بيتها بعد وفاة زوجها وأخبرته فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
(1/19)
 
 
أمرها بعد وفاة زوجها أن تمكث في بيته حتى يبلغ الكتاب أجله قضى بذلك - رضي الله عنه - وهكذا قضى بالسنَّة في إِقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة، ولما بلغ عليًّا - رضي الله عنه - أن عثمان - رضي الله عنه - ينهى عن متعة الحج أهل علي - رضي الله عنه - بالحج والعمرة جميعاً وقال لا أدع سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد من الناس، ولما احتج بعض الناس على ابن عباس - رضي الله عنهما - في متعة الحج بقول أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - في تحبيذ إِفراد الحج قال ابن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر، فإِذا كان من خالف السنَّة لقول أبي بكر وعمر تخشى عليه
(1/20)
 
 
العقوبة فكيف بحال من خالفها لقول من دونهما أو لمجرد رأيه واجتهاده، ولما نازع بعض الناس عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في بعض السنة قال له عبد الله: هل نحن مأمورون باتباع عمر أو باتباع السنة؟ ولما قال رجل لعمران بن حصين - رضي الله عنهما -: حدثنا عن كتاب الله وهو يحدثهم عن السنة غضب - رضي الله عنه - وقال: إِن السنَّة هي تفسير كتاب الله ولولا السنَّة لم نعرف أن الظهر أربع والمغرب ثلاث والفجر ركعتان ولم نعرف تفصيل أحكام الزكاة إِلى غير ذلك مما جاءت به السنة من تفصيل الأحكام، والآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - في تعظيم السنَّة ووجوب العمل بها والتحذير من مخالفتها كثيرة جدًّا، ومن
(1/21)
 
 
ذلك أيضاً أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لما حدَّث بقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» قال بعض أبنائه: والله لنمنعهن فغضب عليه عبد الله وسبه سبًّا شديدًا وقال: أقول قال رسول الله وتقول والله لنمنعهن، ولما رأى عبد الله بن المغفل المزني - رضي الله عنه - وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أقاربه يخذف نهاه عن ذلك وقال له إِن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى الخذف وقال إٍنه لا يصيد صيدًا ولا ينكأ عدوا ولكنه يكسر السن ويفقأ العين» ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال والله لا كلمتك أبدًا أخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الخذف ثم تعود؟ وأخرج البيهقي عن أيوب السختياني التابعي الجليل أنه قال: إذا حدثت الرجل بسنَّة فقال
(1/22)
 
 
دعنا من هذا، وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال، وقال الأوزاعي - رحمه الله - السنَّة قاضية على الكتاب أو تقييد ما أطلقه أو بأحكام لم تذكر في الكتاب كما في قول الله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وسبق قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا إِني أوتِيتُ الكِتابَ ومثلَه مَعَهُ» ، وأخرج البيهقي عن عامر الشعبي - رحمه الله - أنه قال لبعض الناس: «إِنما هلكتم في حين تركتم الآثار» يعني بذلك الأحاديث الصحيحة، وأخرج البيهقي أيضاً عن الأوزاعي - رحمه الله - أنه قال لبعض أصحابه إِذا بلغك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث فإِياك أن تقول بغيره فإن رسول الله كان مبلغاً عن الله تعالى، وأخرج البيهقي عن الإِمام
(1/23)
 
 
الجليل سفيان بن سعيد الثوري - رحمه الله - أنه قال إِنما العلم كله العلم بالآثار، وقال مالك - رحمه الله - ما منا إِلا راد ومردود عليه إِلا صاحب هذا القبر وأشار إِلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إِذا جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين وقال الشافعي - رحمه الله -: متى رويتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً صحيحاً فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب وقال أيضاً - رحمه الله - إِذا قلتُ قولا وجاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فاضربوا بقولي الحائط، وقال الإِمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - لبعض أصحابه: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وخذ من حيث أخذنا، وقال أيضاً - رحمه الله -: عجبتُ لقوم عرفوا
(1/24)
 
 
الإِسناد وصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذهبون إِلى سفيان والله سبحانه يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قال أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إِذا رد بعض قوله - عليه الصلاة والسلام - أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، وأخرج البيهقي عن مجاهد بن جبر التابعي الجليل أنه قال في قوله سبحانه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قال: الرد إِلى الله إِلى كتابه والرد إِلى الرسول الرد إِلى السنَّة، وأخرج البيهقي عن الزهري - رحمه الله - أنه قال: كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنَّة نجاة، وقال موفق الدين بن قدامة - رحمه الله - في كتابه روضة الناظر: في
(1/25)
 
 
بيان أصول الأحكام ما نصه، والأصل الثاني من الأدلة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة لدلالة المعجزة على صدقه وأمر الله بطاعته وتحذيره من مخالفة أمره. انتهى المقصود، وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] أي عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنَّته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عَليهِ أَمْرُنا فَهُوَ رَدّ» أي
(1/26)
 
 
فليخشى وليحذر من خالف شريعة الرسول باطنًا وظاهرًا: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك، كما روى الإِمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثَلي وَمثَلُكمْ كمَثَلِ رجلٍ اسْتَوْقَدَ ناراً فَلمّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الفراشُ وهَذِهِ الدّوابُّ اللائِي يَقَعْنَ في النَّار يَقَعْنَ فِيهّا وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتحِمْنَ فِيَها قَالَ فَذَلِك مَثَلي وَمَثَلَكمْ أَنا آخُذُ بحَجْزِكُم عَن النَّار هَلُمّ عَن النارِ فَتَغْلِبُوني وَتقْتَحِمُونَ فِيهَا» أخرجاه من حديث عبد الرزاق وقال السيوطي
(1/27)
 
 
- رحمه الله - في رسالته المسماة مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ما نصه:
" اعلموا - رحمكم الله - أن من أنكر أن كون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قولًا كان أو فعلًا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإِسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة " انتهى المقصود. والآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم في تعظيم السنَّة ووجوب العمل بها والتحذير من مخالفتها كثيرة جدًّا وأرجو أن يكون في ما ذكرنا من الآيات والأحاديث والآثار كفاية ومقنع لطالب الحق ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه والسلامة من أسباب
(1/28)
 
 
غضبه، وأن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم إِنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رحمه الله
(1/29)