تقديم لكتاب الأدلة الصوارم

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، مَن يَهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد؛ فقد اطَّلعتُ على كتاب "الأدلة الصوارم على ما يجب سَتْره من المرأة عند النساء والمحارم" من تأليف أخينا الشيخ: علي بن عبدالله النمي، فوجدته كتابًا نفيسًا في بابه، عظيمًا في محتواه، وقد أجاد في عرض هذه المسألة، واستوفى الأدلة من الكتاب والسنَّة التي تُبيِّن هذه المسألة.

وقبل أن أذكر ما يتعلَّق بهذه المسألة أُبيِّن لباس المرأة عند الرجال الأجانب باختصار[1]، فأقول وبالله التوفيق:

لقد نهى الله - تبارك وتعالى - المرأة أن تبدي زينتها للرجال الأجانب، إلا ما ظهر منها، وأمَرَها بالاحتجاب عنهم.

ولا تكون المرأة مُحتجبة عن الرجال الأجانب إلا بأن تَستُر جميع جسمها، ومن ذلك الوجه، والأدلة على وجوب ذلك كثيرة؛ منها:


الدليل الأول:

قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 53].

وهذه الآية الكريمة وإن كانت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وسبب نزولها في ذلك؛ كما جاءت به الأحاديث الصحيحة، إلا أنها عامة في جميع النساء، ويؤيد ذلك ما يلي:

1- ما جاء في الآية من تعليل الحكم: ﴿ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ فيُحمَل على العموم؛ لأنه حكمٌ مرتَّبٌ على وصفٍ مُناسب له، فيقتضي كون هذا الحكم مُعللاً بذلك الوصف، فوجب أن يَعُمَّ؛ لعموم العلة، كما هو مقرر في الأصول.

قال القاضي أبو يعلى: "إذا ورد النص بحكمٍ شرعي معللاً، وجب الحكم في غير المنصوص عليه، إذا وجدت فيه العلة المذكورة"[2]، وهذه المسألة محلُّ خلاف بين أهل العلم.

وصورتها:

إنه عندما ينصُّ الله - عز وجل - على العلة في واقعة ما، وتحقَّقت هذه العلة بعينها في واقعة أخرى، فهل إلحاق هذه الواقعة الجديدة بالأولى المنصوص عليها، يكون من قبيل النص؛ فيكون الحكم عامًّا لغير محلِّ التنصيص؟ أم تكون مُلحَقة بها على سبيل القياس؟ قولان.

والأقرب في هذا التفصيل؛ حيث إن هذه المسألة على ثلاث صور:


الصورة الأولى:

أن تكون العلة في الواقعة الجديدة أكبر وأظهر منها في الواقعة الأولى، فلا شكَّ أن حُكْمها مثل الأولى، فيكون منصوصًا عليها، وليسَت مُلحَقة بها على سبيل القياس.

والخلاف في هذه الصورة ضعيف، وإنما يُخالِف في هذا أبو محمد بن حزم وأمثاله.

ومثال ذلك: أن الله - عز وجل - نهى الإنسان أن يقول لوالدَيه كلمة أفٍّ؛ كما في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾ [الإسراء: 23] فمَن ضربَهما - والعياذ بالله - فيكون داخلاً في نصِّ النهي من باب أولى.

ومثاله أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الراكد، فمَن تغوَّط فيه فإنه يكون داخلاً في نصِّ النهي من باب أولى.

وهذه المسألة التي معنا من هذه الصور، فإنه إذا كان في الحجاب طهارة لقلوب الصحابة رضي الله عنهم - وهم مَن هم في الفضل وعلوِّ المكانة - ولقلوب زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم - وهنَّ مَن هنَّ في الطهارة والعفة - فكيف بمن جاء بعدهم وبعدهنَّ، ممَّن هو دونهم ودونهن بكثير، فمن باب أولى أن يعمَّهم الحكم.


الصورة الثانية:

أن تكون العلَّة في الواقعة الجديدة مثلها في الواقعة الأولى، فهذه فيها الخلاف السابق.

وهو خلافٌ صوري؛ إذ نتيجة الحكم واحدة، وهو أن حكم الواقعة الجديدة كالأولى، إلا أن بعضهم يراه من قبيل العموم، وبعضهم يراه من قبيل القياس، والله أعلم.


الصورة الثالثة:

أن تكون العلة في الواقعة الجديدة أقل منها في الواقعة الأولى، فهذه لا تلحق بها في الحكم.

2- إن الله تعالى لم يُفرِّق بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهنَّ، فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾[الأحزاب: 59]، قال ابن جرير: "وإذا سألتم أزواج رسول الله، ونساء المؤمنين - اللواتي لسْنَ لكم بأزواج - متاعًا ﴿ فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ يقول: من وراء سترٍ بينكم وبينهنَّ"[3].

وقال القرطبي: "ويَدخُل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمَّنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة"[4].

وإدناء الجلباب في لغة العرب مُستخدَم عادة في الوجه، يُقال - إذا زلَّ الثوب عن وجه المرأة-: أدنِ ثوبك على وجهكِ[5].

3- ومما يؤكد عموم الحكم: ما جاء في قوله تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 32، 33].

فهل يقول أحد: إن غير نساء النبي صلى الله عليه وسلم يجوز لهنَّ الخضوع بالقول - وغيره مما نُهين عنه - رضي الله عنهنَّ؟!

لم يقل بذلك أحدٌ من المسلمين.


الدليل الثاني:

رواه نافع - مولى ابن عمر رضي الله عنهما - عن صفية بنت أبي عبيد؛ أنها أخبرته عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت حين ذُكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله؟ قال: ((تُرخيه شبرًا))، قالت أم سلمة: إذًا ينكشف عنها، قال: ((فذراعًا، لا تزيد عليه)).

وفي لفظٍ عند أحمد: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذيول النساء؟ فقال: ((شِبرًا))، فقلت: إذًا تَخرج أقدامهن يا رسول الله! قال: ((فذراعٌ، لا تزدْن عليه))، وهذا حديثٌ صحيح؛ صحَّحه الترمذي وابن حبان، ووقع في إسناده اختلافٌ لا يَضُر[6].

ووجه الدلالة من هذا: أن قدم المرأة عورة يَجب ستره، وقد أباح الشارع للمرأة الإسبال - وهو مُحرَّم - وذلك لئلا تتكشَّف قدماها الواجب سَتْرها.

قال البيهقي عند هذا الحديث: "وفي هذا دليل على وجوب ستر قدمَيها"[7].

وقال ابن عبدالبر عند هذا الحديث أيضًا: "وفي ذلك دليل على أن ظهور قدم المرأة عورة لا يَجوز كشفه في الصلاة...وجرُّ ذَيل الحُرَّة معروف في السنَّة، مشهور عند الأمة؛ ألا ترى إلى قول عمر بن أبي ربيعة في أبيات له:

كُتبَ القتل والقتال علينا          وعلى المُحصَنات جرُّ الذُّيول[8] 

قلت: وليس معنى كلام ابن عبدالبر أن قدم المرأة عورة في الصلاة فقط، بل معناه - والله أعلم - أن هذا الحديث دليل على أن قدم المرأة عورة مطلقًا، وبالتالي لا يجوز كشفه في الصلاة.

فإذا تقرَّر هذا: فَسِترُ وجه المرأة من باب أولى؛ لأنه مَجمَع الزينة، ولا يتصوَّر من الشارع الحكيم أن يأمر المرأة بستر قدميها، ثم يُبيح لها كشف وجهها!


الدليل الثالث:

قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ﴾ [النور: 31].

قال أبو الفداء ابن كثير:

"كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تَمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوته ضربت برجلِها الأرض فيسمع الرجال طنينَه، فنهى الله المؤمنات عن مِثْل ذلك، وكذا إذا كان شيءٌ من زينتِها مستورًا فتحرَّكت بحركة لتُظهِر ما هو مخفيٌّ؛ دخل في هذا النهي"[9].

وقال أبو محمد ابن حزم في هذه الآية: "نصٌّ على أن الرِّجلَين والساقين مما يُخفى ولا يَحِلُّ إبداؤه"[10].

قلت: فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالرِّجل؛ لئلا تُعلم الزينة المَخفيَّة كالخلخال، فمن باب أولى ستر الوجه؛ لأنه مجمع الزينة كما تقدم، هو أعظم فتنة من الخلخال بالنسبة للرجال.

فهذه الأدلة وغيرها تدلُّ على وجوب ستر المرأة لجميع جسمها، ومنه الوجه.

وفي هذا الحكمة البالِغة، والمصلحة التامة، من صيانة المرأة والحفاظ عليها، وفيه الحفاظ على الرجال من الوقوع في الفتنة، وهذا بدَوره يؤدِّي إلى حفظ المجتمع وصيانته، فعلى المرأة التزام هذا والعمل به، وعلى وليِّها أَمرُها بذلك.

ثم أين هؤلاء الذين يُفتون بجواز كشف الوجه في هذا الوقت، من النظر في الواقع، والتأمُّل في تصرفات النساء اليوم من كشفهِنَّ لوجههنَّ، وتساهلِهنَّ بشروط ذلك.

وإذا أخذ العالم والمفتي في اعتباره مواطن الاتفاق التالية:

• أن تغطية الوجه هو الأفضل، فهو يدور بين الوجوب والاستحباب.

• إذا صاحب كشف الوجه فتنة، فإن كشف الوجه محرَّم، ومن الفتنة: كون المرأة شابة جميلة.

• عند فساد الزمان وكثرة الفُسَّاق، حرُم كشف الوجه.

• إذا صاحب كشف الوجه: تبرجٌ بزينة؛ حُرم.

• لا يجوز إخراج شيء غير حدود الوجه لغة، فالشَّعر والنحر لا يجوز كَشفُهما بحال.

فقد حكى ابن رسلان: اتفاق المسلمين على منع النساء أن يَخرُجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفُسَّاق[11].

أقول: إذا نظر العاقل في مواطن الاتفاق هذه، وتأمل واقع النساء اليوم، علم - ضرورةً - أن المنع من كشف وجه المرأة في هذا الوقت هو المتعيَّن؛ إذ إن النساء المتقيدات بهذه الشروط: نَدرة، وأحكام الشريعة تُناط بالأعمِّ الأغلب، والنادر يَنسحِب عليه حكم الغالب؛ مما يتعيَّن أمرها بتغطية وجهها.

وقريب من هذا ويُشبِهه ما ذكره أبو العباس ابن تيمية مراعيًا - في الفتيا - واقع الناس وأحوالهم، فقال: "وقد كان الإماء على عهد الصحابة رضي الله عنهم يَمشين في الطرقات مكشوفات الوجوه، ويَخدمن الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يَمشين بين الناس في هذه البلاد والأوقات لكان من باب الفساد"[12].

أما عن لباس المرأة عند محارمها والنساء: فللمرأة أن تكشفَ عند النساء وعند محارمها ما جرت العادة بكشفِه؛ كالوجه والشعر والكفَّين والقدمين، ودليل ذلك قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ﴾ [النور: 31]، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ [الأحزاب: 55].

ووجه الدَّلالة من هذه الآية أن الله - سبحانه وتعالى - لم يُفرِّق في إظهار الزينة للمرأة بين ما تُظهره لمثيلاتها من النساء وما تُظهِره لمحارمها من الرجال، فدَلَّ هذا على أن حُكْمهما واحد، ومن المعلوم أن الذي يجوز للمرأة أن تُبديَه عند محارمها من الرجال ما جرت به العادة من الوجه والكفَّين والقدمين على ما تقدم، ودليل ذلك:
أولاً: ما رواه مسلم[13] بإسناده إلى صفية بنت شيبة، قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أيرجع الناس بأجرَين وأرجع بأجر؟ "فأمر عبدالرحمن بن أبي بكر أن يَنطلِقَ بها إلى التنعيم"، قالت: فأردفني خلفه على جمل له، قالت: فجعلتُ أرفع خماري أحسرُه عن عنقي، فيضرب رجلي بعِلَّةِ الراحلة[14]، قلت له: وهل ترى من أحد؟ وقد بوَّب عليه النسائي في السنن الكُبرى: "النظر إلى شَعرِ ذي المحرم"[15]، ففيه جواز كشف الشَّعر والعنُق للمحرم.

ثانيًا: ما رواه مالك[16] عن ابن شهاب، أنه سُئل عن رضاعة الكبير؟ فقال: أخبرني عروة بن الزبير، وذكر حديث سالم مولى أبي حذيفة، وفيه أن سَهلة بنت سُهَيل وهي امرأة أبي حذيفة، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، كنا نرى سالمًا ولدًا، وكان يدخل عليَّ، وأنا فضْل، وليس لنا إلا بيت واحد، فماذا ترى في شأنه؟[17]

قال ابن الأثير في النهاية: "أي متبذِّلة في ثياب مهنتي، يقال: تفضَّلت المرأة إذا لبست ثياب مهنتِها، أو كانت في ثوب واحد، فهي فضل، والرجل فضل أيضًا".

وقال امرؤ القيس:

فَجِئتُ وَقَد نَضت لنَومٍ ثيابَها              لَدَى الستر إلا لِبسَةَ الُمتَفَضَّلِ 

قال ابن الأنباري [ت: 328هـ،] في شرح هذا البيت: "ليس عليها مِن الثياب إلا شعارها، وهو ثوبها الذي يَلي جسدها، وتقوم وتقعد فيه وتنام...والمتفضِّل الذي في ثوب واحد، وهو الفُضل"[18].

ثالثًا: ما رواه البخاري ح: 7214 بسنده عن عائشة قالت: "وما مسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة إلا امرأة يَملِكها"، وقد بوَّب عليه النسائي: مُصافَحة ذي محرم، السنن الكبرى 8/ 291، فدلَّ على عدم مصافحة الأجانب، وأن المصافحة تكون للمحارم، وذلك يَستلزِم جواز كَشْف الكفِّ.

ولم يقل أحد من أهل العلم أن عورة المرأة عند المحارم ما بين السرة والركبة فقط، والقول بأن للمرأة أن تَكشِف ما فوق السرة وتحت الركبة عند النساء، ولا يجب عليها أن تستر إلا ما بين ذلك، قول غير صحيح، وما يستدل به على ذلك من حديث فإنه لا يصحُّ، وهذا ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين.

قال الطبري[19]: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ [النور: 31] إلى قوله: ﴿ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ﴾ [النور: 31] قال: "الزينة التي يُبدينها لهؤلاء: قرطاها وقلادتها وسوارها"، ورجاله ثقات، ولكنه مُنقطِع ما بين علي بن أبي طلحة وابن عباس، وقيل بينهما مجاهد، وهذا ليس على إطلاقه، ومع ذلك فروايته عن ابن عباس مما يُعتبَر بها.

وأسند أيضًا عن إبراهيم النخعي، فقال: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبدالرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن طلحة بن مصرف، عن إبراهيم: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ ﴾ [النور: 31] قال: "هذه ما فوق الذراع"، وهذا إسناد رجاله كلهم من المشاهير، ولكن رواه شعبة عن منصور عن رجل عن طلحة.

وروى عبدالرزاق[20] عن معمر، عن الزهري، قال: "لا بأس أن ينظر الرجل إلى قصَّة المرأة من تحت الخمار، إذا كان ذا محرَم، فأما أن تَسلُخ خمارها عنده فلا"، وهذا إسناده صحيح.

ويُشترَط ألا تكون هذه الثياب مما يَصِف حجمَ أعضاء المرأة؛ لحديث أسامة بن زيد عند أحمد[21] قال: حدثنا أبو عامر، حدثنا زهير - يعني: ابن محمد - عن عبدالله - يعني: ابن محمد بن عقيل - عن ابن أسامة بن زيد، أن أباه أسامة، قال: كساني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي، فكسوتُها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مالك لم تلبَس القبطية))؟ قلت: يا رسولَ الله، كسوتُها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مُرْها فلتجعل تحتها غلالة، إني أخاف أن تَصِف حجم عظامها)).

وفيه ضَعْف، ويشهَد له حديث دحية بن خليفة الكلبي عن أبي داود[22]، قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، وأحمد بن سعيد الهمداني، قالا: أخبَرَنا ابن وهب، أخبرنا ابن لهيعة، عن موسى بن جبير، أن عبيدالله بن عباس، حدثه عن خالد بن يزيد بن معاوية، عن دحية بن خليفة الكلبي، أنه قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباطي فأعطاني منها قبطية، فقال: ((اصدَعها صدعين، فاقطع أحدهما قميصًا وأعطِ الآخر امرأتك تختمر به)) فلمَّا أدبر، قال: ((وأمرْ امرأتك أن تجعل تحته ثوبًا لا يصفها))، قال أبو داود: رواه يَحيى بن أيوب، فقال: عباس بن عبيدالله بن عباس اهـ، وفيه ضعف أيضًا، ولكن يُقوِّي أحدهما الآخر، ويشهد له حديث أبي هريرة عند مسلم[23]، قال: حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صِنفان من أهل النار لم أرَهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مُميلات، مائلات، رؤوسهنَّ كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدْنَ ريحها، وإن ريحها ليُوجَد من مسيرة كذا وكذا)).

وهذا من دلائل النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، ومعنى: ((كاسيات عاريات)): إما أنهن يلبسْنَ ثيابًا قصيرة أو رقيقة تَصِف ما تحتها، فلتحذر المرأة المسلمة أن تكون داخلة تحت هذا الوعيد الشديد الذي جاء في هذا الحديث.

وروى البخاري من طريق هند بنت الحارث عن أمِّ سلَمَة، قالت: استَيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من الليل وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ماذا أُنزل الليلة من الفتنة، ماذا أُنزل من الخزائن، مَن يوقظ صواحب الحجرات، كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة؟)) قال الزهري: ((وكانت هند لها أزرار في كمَّيها بين أصابعها))[24].

قال ابن حجر: "والمعنى أنها كانت تَخشى أن يبدو من جسدها شيء بسبب سعة كمَّيها، فكانت تُزرِّر ذلك لئلا يبدو منه شيء فتدخل في قوله: كاسية عارية"[25].

قال ابن تيمية - رحمه الله -: "ولهذا أمرت المرأة أن تَختمِر في الصلاة، وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نُهيَت عن إبداء ذلك للأجانب، لم تُنهَ عن إبدائه للنساء ولا لذوي المحارم"، فعلم أنه ليس من جنس عورة الرجل مع الرجل والمرأة مع المرأة التي نُهي عنها؛ لأجل الفحش وقبح كشف العورة، بل هذا من مقدمات الفاحشة، فكان النهي عن إبدائها نهيًا عن مقدمات الفاحشة؛ كما قال في الآية: ﴿ ذَلِكُم أَزكَى لَكُم ﴾ [البقرة: 232]، وقال في آية الحجاب: ﴿ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 53] فنَهى عن هذا؛ سدًّا للذريعة؛ لا أنه عورة مُطلقة لا في الصلاة ولا غيرها، فهذا هذا، وأمر المرأة في الصلاة بتغطية يديها بعيد جدًّا، واليدان يَسجُدان كما يسجد الوجه، والنساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لهنَّ قمُصٌ، وكنَّ يَصنعن الصنائع والقمصُ عليهنَّ، فتبدي المرأة يديها إذا عجنَت وطحنت وخبزت، ولو كان ستر اليدين في الصلاة واجبًا لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك القدمان وإنما أمر بالخمار فقط مع القميص، فكن يُصلِّين بقمُصهنَّ وخمرهن: "وأما الثوب التي كانت المرأة ترخيه وسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((شِبرًا))، فقلنَ: إذًا تبدو سوقهنَّ، فقال: ((ذراعًا لا يزدن عليه))، وقول عمر بن أبي ربيعة:

كُتِب القتلُ والقتال علينا             وعلى الغانيات جرُّ الذُّيولِ 

فهذا كان إذا خرجْنَ من البيوت؛ ولهذا سُئل عن المرأة تجر ذيلها على المكان القذر فقال: "يُطهِّره ما بعده"، وأما في نفس البيت فلم تكن تلبس ذلك، كما أن الخفاف اتخذها النساء بعد ذلك لستر السوق إذا خرجْنَ، وهنَّ لا يلبسنها في البيوت؛ ولهذا قلْن: إذًا تبدو سوقهن، فكان المقصود تغطية الساق؛ لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين بدا الساق عند المشْي"[26].

أما لباس المرأة عند زوجها فليس بين المرأة وزوجها عورة ولا حجاب، وقد جاء من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه، قال: قلتُ يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكَتْ يَمينك)) قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ((إن استطعتَ ألا يرينَّها أحد فلا يرينها)) قال: قلتُ: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: ((الله أحق أن يَستحيا منه من الناس))؛ رواه أبو داود ح: 4017، وأحمد ح20030 وإسناده جيد.

وهذا، وقد استوفى الشيخ علي - وفَّقه الله - الأدلة على ما تقدَّم، وذكر المفاسِد المترتِّبة على لبس النساء للقصير والضيِّق والشفَّاف، ومن هذه المفاسد - بالإضافة لما ذكرَه - أن المرأة قد يَحصُل لها حادث فتَنكشِف عند الرجال الأجانب، وقد يتوفَّاها الله تعالى وهي على هذه الحالة.

ومن المفاسد أيضًا أن المرأة المُتعرية - ولو كانت في بيتِها وحدها - فقد يُؤذيها الشيطان بسبب ذلك، فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: كانت ابنة عوف بن عفراء مُستلقيَة على فراشها، فما شعرتُ إلا بزنجيٍّ قد وثَب على صدرِها ووضَع يده على حَلقِها، [قالت]: فإذا صحيفة تَهوي بين السماء والأرض، حتى وقعت على صدري، فأخذها فقرأها، فإذا فيها: من رب لُكَيْنَ إلى لُكَيْنَ، اجتنِب ابنة الصالح، فإنه لا سبيل لك عليها، فقام وأرسل يدَه من حلقي وضرَب بيده على ركبتي، فاستورمَت حتى صارت مثل رأس الشاة، قالت: فأتيتُ عائشة فذكرت ذلك لها، فقالت: يا ابنة أختي، إذا خفتِ فاجمعي عليك ثيابك، فإنه لا يضرُّك - إن شاء الله تعالى - قال: فحفظَها الله بأبيها، إنه كان قُتل يوم بدر شهيدًا[27]؛ لذا بيَّن الله تعالى أن التعري من الشيطان؛ قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 27]، كما أن التستُّر من الرحمن - جلَّ وعلا - قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26].

وقد كنَّ النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يُرخين ذيولهنَّ تحقيقًا لأمر الله - عز وجل لهنَّ بالتستُّر - وقد جاء من طريق محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم، عن محمد بن إبراهيم، عن أم ولد لإبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، أنها سألت أمَّ سلَمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أُطيل ذَيلي، وأمشي في المكان القذر فقالت أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطهره ما بعده))؛ كما رواه مالك (يَحيى 41، الزهري 57)، وأبو داود ح: 383 والترمذي ح: 143 وابن ماجه ح: 531 والنسائي في مسند مالك، ويشهد له ما جاء من طريق موسى بن عبدالله بن يَزيد، عن امرأة من بني عبدالأشهل قالت: قلتُ: يا رسول الله، إن لنا طريقًا إلى المسجد مُنتنة فكيف نفعل إذا مُطِرنا؟ قال: ((أليس بعدها طريق هي أطيَبُ منها؟)) قالت: قلتُ: بلى، قال: ((فهذه بهذه))؛ رواه أبو داود ح: 384، وابن ماجه ح: 533 وغيرهما، والحديثان قوَّاهُما ابن الجارود ح: 142، 143، والثاني منهما إسناده كلُّهم ثقات، وجهالة الصحابية لا تضرُّ.

وكذلك ما رواه البخاري ح: 5825 بسنده عن عكرمة: إن رفاعة طلَّق امرأته، فتزوجها عبدالرحمن بن الزبير القرظي، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها، وأرتها خضرة بجلدها، ففيه دلالة على تستر النساء مع بعضهِنَّ، وأنه يجوز كشْفُ بعض الشيء عند الحاجة، كما أرتها هذا الموضِع من بدنها لأجل أن تُبيِّن أن زوجها ضربها ضربًا مبرحًا.

وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أملاه:

عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد

4/11/1433هـ


[1] حالات المرأة من حيث الحِجاب على أقسام ثلاثة كما بين المؤلف - وفقه الله.

[2] العدة في أصول الفقه (4: 1372)، وينظر: المحصول (2: 602)، والبحر المحيط (4: 30).

[3] جامع البيان (22: 39).

[4] الجامع (14: 227).

[5] الكشاف (3: 569)؛ للزمخشري.

[6] هذا الحديث رواه نافع، ورواه عنه ستة؛ وقد اختلفوا عليه على الأوجه التالية:

الوجه الأول: رواه اثنان عنه عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة به، وهما:

1- أيوب بن موسى: وهو ثقة خرَّج له الجماعة، وقال ابن عبدالبر: وكان حافظًا، أخرجه النسائي (5338)، والطبراني (13: 416 - 417)، وأبو يعلى (12: 316).

2- ابن إسحاق: وهو صدوق لا بأس به له بعض الأوهام، وهو مدلِّس، ولم أقِفْ على تصريح له بالسماع في هذا الخبر، أخرجه النسائي في الكبرى (5: 495)، وأحمد (6: 295 - 309)، ومن طريقه ابن عبدالبر في التمهيد (24: 148)، والدارمي (2644)، والبيهقي في الكبرى (2: 233)، والطبراني (23: 358).

الوجه الثاني: رواه أبو بكر بن نافع - وهو صدوق - عن أبيه به... مرسلاً، وسيأتي تفصيل روايته.

الوجه الثالث: رواه عبيدالله بن عمر - وهو ثقة حافظ - موصولاً؛ أخرجه أحمد (6: 293، 315) وأبو داود (4118)، والنسائي (5339)، وابن ماجه (3580)، وابن أبي شيبة (12: 519)، والطبراني (23: 384)، والبيهقي في الشعب (6142)؛ ولكنه خالفهم في شيخ نافع، فقال: "عنه عن سليمان بن يسار عن أم سلمة به"، هذا الاختلاف لا يضر؛ لأن الإسناد أينما دار فإنما يدور على ثقة؛ لأن سليمان بن يسار وصفية بنت أبي عبيد كلاهما من الثقات، ويحتمل أن نافعًا رواه عن كليهما؛ لأن كلا الوجهَين ثابت عن نافع، وأما من حيث الترجيح فرواية الجماعة أولى.

الوجه الرابع رواه يحيى بن أبي كثير - وهو ثقة مشهور - موصولاً بذكر أم سلمة، ولكنه منقطع؛ حيث أسقط الواسطة بينها وبين نافع، أخرجه النسائي (5337)؛ فقال: عن نافع عن أم سلمة، ورواية الجماعة أولى؛ لأنهم أكثر، وقد زادوا، والزيادة منهم مقبولة؛ لاجتماعهم.

الوجه الخامس رواه محمد بن عجلان - وهو صدوق له أوهام - عنه عن عبدالله بن عمر أن أم سلمة فذكره، أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد (24: 148) من طريق: ابن لهيعة، وهذا خطأ كما أشار له ابن عبدالبر؛ لأمور:

• إن الراوي عنه ابن لهيعة وهو لا يُحتجُّ به.

• إنه مخالف لكل الروايات المتقدِّمة.

• إنه سلك الجادة في حديث نافع، وهم قد خالفوها، فيقدمون عليه؛ لأن معهم زيادة ضبط.

تنبيهات:

التنبيه الأول: تقدم أن أبا بكر بن نافع رواه عن أبيه عن صفية مرسلاً؛ ورواية الوصل أرجح؛ لأن أيوب بن موسى أوثق من أبي بكر بن نافع، وقد وصَله، وتابعه على ذلك محمد بن إسحاق، فيزداد الوصل قوة، وتابعَهما عبيدالله بن عمر على وصله بذكر أم سلمة في الإسناد، وإن كان خالفهما في شيخ نافع، وقد تقدم الكلام على ذلك، ويُمكِن أن نعتبر رواية يَحيى بن أبي كثير معضِّدة لروايتهم؛ لأنه اتفق معهم على ذكر أم سلمة في الإسناد وإن كان خالفهما من وجه آخر بإسقاط شيخ نافع، فتبيَّن مما تقدم أن هذا الحديث صحيح، وقد صحَّحه كبار الحفاظ؛ كأبي عيسى الترمذي (1734)، وأبي حاتم وابن حبان.

التنبيه الثاني: الراوي عن أبي بكر بن نافع في هذا الحديث هو مالك، وقد اختلف عليه:

فوصله: يَحيى الليثي (في الموطأ بروايته: 2658) عن مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن صفيَّة عن أم سلمة رضي الله عنها به موصولاً.

وخالفه الجماعة: عبدالله القعنبي (ومن طريقه أبو داود في سننه: 4117، والجوهري في مسند الموطأ: 843، والبيهقي في الشعب: 6143)، وأبو مصعب الزهري (في الموطأ بروايته: 1917، ومن طريقه: ابن حبان: 12: 265، والبغوي في شرح السنة: 12: 13)، وسويد بن سعيد (في الموطأ بروايته: 691)، ويَحيى بن بكير، وعبدالأعلى بن حماد - ومن طريقهما ابن عدي في الكامل (7: 298)، خمستهم رووه عن: مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن صفية بنت أبي عبيد أن أم سلمة رضي الله عنها به، مُرسلاً.

والصواب عن مالكٍ الإرسالُ؛ لاجتماع هؤلاء الخمسة على ذلك، وفيهم ثقة حافظ مقدَّم في مالك؛ كالقعنبي، وأبي مصعب.

على أن صفية بنت أبي عبيد تابعية كبيرة، وقيل: إنها صحابية، والصحيح الأول.

وقد وقع خلاف: هل أدركت الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ذهب ابن منده إلى الأول، وذهب الدارقطني إلى الثاني.

وإدراكها لعهد النبوة محتمل احتمالاً كبيرًا، ويؤيد ذلك: ما رواه الواقدي عن موسى بن ضمرة بن سعيد المازني عن أبيه أنها تزوَّجت عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في خلافة أبيه عمر رضي الله عنه؛ التهذيب لابن حجر (4: 679)، وهذا يرجح كلام ابن منده - المتقدم - حيث يَغلب على الظن أنها حين تزوَّجت ابن عمر، كان عمرها نحو 15 سنة أقل أو أكثر بقليل، وخلافة الصديق رضي الله عنه سَنتان وأشهر، وخلافة عمر رضي الله عنه عشر سنوات، فإدراكها لعهد النبوة متجه، والله أعلم.

ونخلص من هذا إلى قوة هذا المرسل، وأنها أخذته من أم سلمة رضي الله عنها.

ويؤيد هذا: ما تقدم من رواية محمد بن إسحاق، وأيوب بن موسى، كلاهما عن نافع عن صفية عن أم سلمة موصولاً.

التنبيه الثالث: روى النسائي في الكبرى (5: 496) عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث عن عبيدالله عن نافع عن سليمان بن يسار أن أم سلمة.. مرسلاً، والصواب الوصل؛ فقد رواه جمع عن عبيدالله موصولاً كما تقدم.

[7] الكبرى (2: 233).

[8] التمهيد (24: 148 - 149).

[9] تفسير القرآن العظيم (6: 49).

[10] المحلى (3: 217).

[11] ينظر: نيل الأوطار (6: 245).

[12] مختصر الفتاوى المصرية (ص: 30)، الفتاوى (15: 418)، (21: 250).

[13] في صحيحه (1211).

[14] فيَضرِب رجلي بعِلَّة الراحلة: المعنى أنه يضرب رجل أخته بعود بيدِه عامدًا لها في صورة من يضرب الراحلة حين تكشف خمارها غيرة عليها؛ (المؤلف).

[15] في عشرة النساء (8: 290).

[16] في الموطأ (2: 605).

[17] وصله عبدالرزاق وغيره، وينظر الاختلاف على مالك في التمهيد.

[18] شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات (ص: 52).

[19] جامع البيان (17: 264).

[20] المصنف (12829).

[21] في مسنده (ح: 21786).

[22] السنن (4116).

[23] في صحيحه (ح: 2128).

[24] صحيح البخاري (ح: 5844).

[25] فتح الباري 10: 303.

[26] مجموع الفتاوى (22: 117 - 119).

[27] أخرجه ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان (ح: 8) (ص: 28) والبيهقي في الدلائل (7: 116) وقال ابن حجر: (بسند صحيح)؛ بذْل الماعون (ص: 152).