نور القرآن (2)

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

قَالَ تَعَالَى: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ).
التَّذْكِيرُ بِالقُرْآنِ لِلنَّاسِ عَامَّةً، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ - مَنْ هُوَ فِي عِلْمِ اللهِ - لَا تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى، وَلَا يَنْتَفِعُ بِالتَّذْكِيرِ، وَاعْلَمْ - يَا رَعَاكَ اللهُ - أَنَّ بَيَانَ الحُجَّةِ أَخَذَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَفَهْمُ الحُجَّةِ يَعُودُ إِلَى فَضْلِ اللهِ وَعَدْلِهِ.
وَمَنْ خَافَ وَعِيدَ اللهِ، وَرَجَا وَعْدَهُ، هُوَ الأَحَقُّ بِالبَلَاغِ وَالتَّذْكِيرِ؛ لِأَنَّهُ المُنْتَفِعُ بِالقُرْآنِ فِي إِيعَادِهِ وَمَوعُودِهِ؛ لِخَوْفِهِ مِنَ العَذَابِ، وَرَجَائِهِ فِي الثَّوَابِ. وَالقُلُوبُ السَّلِيمَةُ إِذَا ذُكِّرَتْ خَافَتْ، وَإِذَا خُوِّفَتْ تَذَكَّرَتْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ). [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَاللَّالَكَائِيُّ، وَقَدْ صُحِّحَ].

قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).
هَوَّنَ اللهُ لَفْظَ القُرْآنِ، وَسَهَّلَ مَعْنَاهُ؛ لِيَتَذَكَّرَ بِهِ العَاقِلُ، وَيُذَكَّرَ بِهِ الغَافِلُ، وَيُبَشَّرَ بِهِ المُتَّقِي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَوْلَا أَنَّ اللهَ يَسَّرَهُ عَلَى لِسَانِ الآدَمِيِّينَ، مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مِنَ الخَلْقِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). 
وَإِنَّ مِنْ تَيْسِيرِ اللهِ أَنَّ الصِّغَارَ وَالعَجَائِزَ يَقْرَأُونَهُ وَيَحْفَظُونَهُ، فَمَا عَلَى المُسْلِمِ إِلَّا أَنْ يَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ، وَيَنْزَجِرَ بِزَوَاجِرِهِ، وَيَمْتَثِلَ لِأَوَامِرِهِ. 
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ، وَالعَمَلَ بِهِنَّ». 
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: (كُنَّا إِذَا تَعَلَّمْنَا العَشْرَ مِنَ القُرْآنِ لَمْ نَتَعَلَّمْ العَشْرَ التِي بَعْدَهَا، حَتَّى نَتَعَلَّمَ حَلَالَهَا، وَحَرَامَهَا، وَأَمْرَهَا، وَنَهْيَهَا).

قَالَ تَعَالَى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ).
إِذَا كَانَ الجَبَلُ عَلَى غِلْظَتِهِ وَقَسَاوَتِهِ، لَوْ أُفْهِمَ هَذَا القُرْآنَ لَخَشَعَ وَتَصَدَّعَ خَوْفًا مِنَ اللهِ، وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَهْبِطُ مِنْ رَأْسِ الجَبَلِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِنَا أَيُّهَا المُسْلِمُونَ أَلَّا تَخْشَعَ قُلُوبُنَا، وَتَهْبِطَ أَفْئِدَتُنَا، وَكَانَ الأَحْرَى بِنَا مَعَ القُرْآنِ أَنْ تَلِينَ قُلُوبُنَا، وَتَقْشَعِرَّ جُلُودُنَا، وَتَدْمَعَ عُيُونُنَا.
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَعْقُوبَ: (وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ): كَثْرَةُ البُكَاءِ. (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ): قَلِيلُ البُكَاءِ. (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ): بُكَاءُ القَلْبِ.

قَالَ تَعَالَى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ).
أَحْكَمَ اللهُ كِتَابَهُ، وَفَصَّلَهُ، وَبَيَّنَهُ؛ لِيُقْرَأَ عَلَى النَّاسِ عَلَى تُؤَدَةٍ، فَيُرَتَّلُ وَيُحَبَّرُ؛ لِيُفْهَمَ وَيُتَدَبَّرَ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: (سَافَرْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، فَكَانَ يَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ، فَيَقْرَأُ القُرْآنَ حَرْفًا حَرْفًا، ثُمَّ يَبْكِي حَتَّى تَسْمَعَ لَهُ نَشِيجًا).
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لَا تَهُذُّوا القُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَتَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ مِنَ السُّورَةِ آخِرَهَا).
وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ المُبَارَكِ قَرَأْتُ البَارِحَةَ القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: لَكِنِّي أَعْرِفُ رَجُلًا لَمْ يَزَلْ البَارِحَةَ يُكَرِّرُ "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ" إِلَى الصُّبْحِ، مَا قَدَرَ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا؛ يَعْنِي: نَفْسَهُ.

قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ).
لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ مَخْلُوقٍ، لَا جَمَاعَةٍ، وَلَا فَرْدٍ، مَهْمَا أُوتِي مِنَ الفَصَاحَةِ، وَالبَلَاغَةِ، وَالأَدَبِ، وَمَهْمَا أُعْطِيَ مِنَ الذَّكَاءِ، وَالدَّهَاءِ، وَالمَعْرِفَةِ، فَكَمْ فِي القُرْآنِ مِنَ الإِعْجَازِ وَالغَيْبِ، وَلَا مَدْخَلَ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ سِيَاقِهِ، وَلَا أَحْكَامِهِ، وَلَا أَخْبَارِهِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَصَدَقَ اللهُ: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
وَفِي القُرْآنِ مِنَ الإِعْجَازِ الرُّوحِيِّ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مَصَحَّاتُ الدُّنْيَا، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، فَفِيهِ السَّكِينَةُ لِلنُّفُوسِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ لِلْقُلُوبِ، وَالتَّثْبِيتُ لِلْأَفْئِدَةِ، وَالشِّفَاءُ الظَّاهِرِيُّ وَالبَاطِنِيُّ، لِأَعْصَى الأَمْرَاضِ، وَأَشَدِّهَا فَتْكًا.

قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
فِي هَذَا القُرْآنِ العَرَبِيِّ المُبِينِ: (أَحْسَنُ الْقَصَصِ، وأَحْسَنُ الْحَدِيثِ)، فِيهِ عَنِ الأَخْبَارِ المَاضِيَةِ، وَأَنْبَاءِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَنِهَايَاتِ الدُّوَلِ الخَالِيَةِ، مَا يَكْفِي عِبْرَةً وَعِظَةً، وَيَدْعُو لِلانْتِبَاهِ مِنَ الغَفْلَة، وَالاستِيقَاظِ مِنَ الرَّقْدَةِ، وَصَدَقَ اللهُ (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ). نَعَمْ وَاللهِ، لَا تُغْنِي شَيْئًا مَا دَامَتِ القُلُوبُ خَالِيَةً، وَالأَرْوَاحُ خَاوِيَةً، وَالأَفْئِدَةُ مَرِيضَةً، وَالنُّفُوسُ مَيِّتَةً، (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)؛ أَيْ: لَكَانَ هَذَا القُرْآنَ، (بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا).

قَالَ تَعَالَى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا).
فَمَنْ كَانَ حَيَّ القَلْبِ، نَاضِجَ العَقْلِ، وَتَدَبَّرَ القُرْآنَ؛ وَجَدَ فِيهِ أَشْكَالًا مِنَ البَلَاغِ وَالتَّذْكِيرِ، وَأَنْوَاعًا مِنَ الوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ، وَأَلْوَانًا مِنَ العِبْرَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، فَانْتَفَعَ بِذَلِكَ. 
أَمَّا مَنْ كَانَ مَيِّتَ القَلْبِ، فَمَا لِمَيِّتٍ سَمَاعٌ يَنْفَعُهُ، وَلَوْ سَمِعَ صَرِيخَ مَنْ فِي القُبُورِ، وَعَوِيلَ مَنْ فِي دَارِ الثُّبُورِ.
إِنَّ مَنْ لَمْ يُحْيِ قَلْبَهُ بِالقُرْآنِ فَلَا حَيَاةَ لَهُ؛ فَلَيْسَ بَعْدَ القُرْآنِ وَاعِظٌ، قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ: فُتِحَتِ المَدِينَةُ بِالقُرْآنِ. يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَهَا إِنَّمَا دَخَلُوا فِي الإِسْلَامِ بِسَمَاعِ القُرْآنِ، حِينَ بَعَثَ النَّبيُّ - ﷺ - مُصْعَبَ بْنَ عُمَيرٍ قَبْلَ الهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، فَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى الإِسْلَامِ بِتِلَاوَةِ القُرْآنِ عَلَيْهِمْ، فَأَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.

قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا تُلِيَ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ مَا فِيهِ، اعْمَلْ بِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: اتَّبِعْ حَلَالَهُ، وَاجْتَنِبْ حَرَامَهُ.
هَذَا هُوَ المَطْلُوبُ مِنْ قَارِئِ القُرْآنِ، وَالمُسْتَمِعِ لَهُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَقْرَأُ القُرْآنَ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يُسقِطُ مِنْهُ حَرْفًا، وَقَدْ أَسْقَطَ العَمَلَ بِهِ. 
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ)؛ خَرَج نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الغِرْبَانُ مِنْ أكْسِيَةٍ سُودٍ يَلْبَسْنَهَا.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ)؛ انْقَلَب رِجَالٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى نِسَائِهِمْ يَتْلُونَهَا عَلَيْهِنَّ، فَقَامَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ إِلَى مُرْطِهَا، فَصَدَعَتْ مِنْهُ صَدْعَةً، فَاخْتَمَرَتْ بِهَا.

قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (جَزَّءُوهُ فَجَعَلُوهُ أَعْضَاءً، فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ، وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ).
لَا يُفَرِّقُ أَحَدٌ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ فِي القُرْآنِ، فَيُسَلِّمُ بِهَذَا، وَيَرُدُّ ذَاكَ، إِلَّا كَافِرٌ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. فَالقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَمَا فِيهِ أَمْرٌ، أَوْ نَهْيٌ، أَوْ حَلَالٌ، أَوْ حَرَامٌ، إِلَّا وَهُوَ صِدْقٌ وَعَدْلٌ، صَالِحٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "كِتَابُ اللَّهِ: فِيهِ حُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".

قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)
القُرْآنُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا القُرْآنُ؟ (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) تَمَيَّزَ القُرْآنُ بِأَنَّهُ كَامِلٌ فِي أَحْكَامِهِ، تَامٌّ فِي إِرْشَادَاتِهِ، مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، عَلِيمٍ بِالأُمُورِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا، فَخَبَرُهُ هُوَ الصِّدْقُ المَحْضُ، وَحُكْمُهُ هُوَ العَدْلُ التَّامُّ، فَالأَرْعَنُ الَّذِي لَا مُنْتَهَى لِحُمْقِهِ وَغَبَاوَتِهِ مَنِ اسْتَعَاضَ عَنْهُ بِزُبَالَةِ الأَفْكَارِ، وَقَوَانِينِ العُقُولِ البَشَرِيَّةِ الظَّلُومَةِ الجَهُولَةِ الجَشِعَةِ المُسْتَحْوِذَةِ.
وَقَدْ شَهِدَ مُنْصِفُو الغَرْبِ، وَعُقَلَاؤُهُمْ، بِإِعْجَازِ القُرْآنِ، وَمَكَانَتِهِ، وَعَدْلِهِ، وَإِنْصَافِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَنْظِيمِ شُؤُونِ الحَيَاةِ البَشَرِيَّةِ تَنْظِيمًا لَا يُسَاوِيهِ تَنْظِيمٌ، وَإِنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ لِلْعَرَبِ خَاصَّةً.

قَالَ تَعَالَى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).
يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَعَاهَدَ القُرْآنَ، فَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: (كَانَ أَقْوِيَاءُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - يَقْرَءُونَ القُرْآنَ فِي سَبْعٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ). وَقَالَ النَّوَوِيُّ: (وَأَمَّا الَّذِينَ خَتَمُوا القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ: فَلَا يُحْصَوْنَ؛ لِكَثْرَتِهِمْ). وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «كَيْفَ تَخْتِمُ؟»، قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، فَمَا زَالَ مَعَهُ حَتَّى قَالَ لَهُ: اقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً»، وَفِي رِوَايَةٍ: (فِي ثَلَاثٍ). قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ خَتْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلَا عُذْرٍ، نَصّض عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو سَأَلَ النَّبِيَّ - ﷺ - فِي كَمْ يُخْتَمُ القُرْآنُ؟، فَقَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا. [رواه أبو داود].

قَالَ تَعَالَى: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، غَيْرُ مُخْتَلِفٍ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: غَيْرُ مُتَضَادٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرُ ذِي لَبْسٍ.
وَالمُهِمُّ أَنَّ القُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، تَكَلَّمَ بِهِ حَرْفًا وَصَوْتًا، لَا تَنَاقُضَ فِيهِ، وَلَا تَضَادَّ، وَلَا اخْتِلَافَ، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فِيهِ مِنَ الوَعْدِ وَالوَعِيدِ؛ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الكُفْرَ، وَالفُسُوقَ، وَالعِصْيَانَ. 
قَالَ كَعْبُ الأَحْبَارِ: "عَلَيْكُمْ بِالقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ فَهْمٌ لِلْعَقْلِ، وَنُورُ الحِكْمَةِ، وَأَحْدَثُ الكُتُبِ عَهْدًا بِالرَّحْمَنِ، وَلِعَظِيمِ مَا فِيهِ مِنَ البَرَكَاتِ كَانَتْ تِلَاوَتُهُ وَاسْتِمَاعُهُ مِنْ أَعْظَمِ القُرُبَاتِ، وَالاشْتِغَالُ بِتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ أَسْمَى الطَّاعَاتِ، وَكَانَ لِأَهْلِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَأَوْفَى الكَرَامَاتِ".

قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا).
القُرْآنُ نَذِيرٌ لِلْعَرَبِ وَالعَجَمِ، وَلِأَهْلِ الحِجَازِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَلَى العَرَبِ، وَبِالأَخَصِّ أَهْلُ بِلَادِ الحَرَمَيْنِ، مَهْبِطِ الوَحْيِ، أَكْبَرَ مَسْؤُولِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِتَعَلُّمِ القُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ، وَالعَمَلِ بِهِ، وَتَبْلِيغِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الأَذَى فِيهِ.
فَإِنْ قَامُوا بِذَلِكَ فَلَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ أَجْرًا، وَإِنْ فَرَّطُوا فَعَلَيْهِمْ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ وِزْرًا.
وَالقُرْآنُ فِيهِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَقِصَصِ الأُمَمِ وَالدُّوَلِ، وَنِهَايَاتِهَا المُؤْلِمَةِ، مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ مُعْتَبِرٍ، وَعِظَةٌ لِكُلِّ مُتَّعِظٍ، قَالَ وُهَيْبُ بْنُ الوَرْدِ: "نَظَرْنَا فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ، فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا أَرَقَّ لِلْقُلُوبِ، وَلَا أَشَدَّ اسْتِجْلَابًا لِلْحُزْنِ، مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَتَفَهُّمِهِ، وَتَدَبُّرِهِ".

قَالَ تَعَالَى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
القُرْآنُ بَيِّنُ الأَغْرَاضِ، فَصِيحُ الأَلْفَاظِ، حُجَجُهُ وَاضِحَةٌ، وَبَرَاهِينُهُ سَاطِعَةٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الأَرْضِ – وَيَا لَلْأَسَفِ - قُلُوبُهُمْ فِي أَكِنَّةٍ، وَآذَانُهُمْ فِيهَا وَقْرٌ، وَأَعْيُنُهُمْ عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لَا يَعْقِلُونَ؛ لِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِالقُرْآنِ، فَزَادَهُمْ خَسَارًا.
أَمَّا أَصْحَابُ الفِطَرِ وَالقُلُوبِ السَّلِيمَةِ، أَهْلُ العُقُولِ وَالأَفْهَامِ الصَّافِيَةِ، فَقَدْ وَجَدُوا فِيهِ ضَالَّتَهُمْ، وَحَصَّلُوا مِنْهُ بُغْيَتَهُمْ، وَمِنْهُمْ رَاسِخُونَ فِي العِلْمِ، عَلِمُوا مُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ، وَحَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَكَانَ لَهُمْ رَحْمَةً. 
قَالَ قَتَادَةُ: «مَا جَالَسَ القُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا فَارَقَهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ».

قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)
عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: (أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ؟، "الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ"، هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ). [رواه البخاري].
وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الزَّبُورِ، وَلَا فِي الفُرْقَانِ، مِثْلُهَا». [رواه الترمذي وصحَّحَه]. 
وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: أَنْزَلَ اللهُ مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، وَجَمَعَهَا فِي: ”إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ“، مَنْ قَرَأَهُمَا، وَحَقَّقَ مَا فِيهِمَا عِلْمًا وَعَمَلًا؛ فَإِنَّمَا يَكُونُ قَدْ عَمِلَ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللهِ.