عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

قَالَ تَعَالَى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ).
فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِظَمِ القُرْآنِ، وَعِظَمِ بَرَكَتِهِ، حَيْثُ أَنْزَلَهُ الرَّبُّ العَظِيمُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَنَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ، أَعْظَمُ المَلَائِكَةِ قَدْرًا، وَأَوْفَرُهُمْ بَرَكَةً، عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - ﷺ -، أَعْظَمِ الأَنْبِيَاءِ مَنْزِلَةً، وَأَكْثَرِهِمْ بَرَكَةً، فِي مَكَّةَ، بَلَدٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ، فِي رَمَضَانَ، شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ، فِي لَيْلَةِ القَدْرِ، أَشْرَفِ اللَّيَالِي، وَأَعْظَمِهَا بَرَكَةً.
فَحَظُّكَ يَا عَبْدَ اللهِ مِنَ الشَّرَفِ وَالبَرَكَةِ بِقَدْرِ عِلْمِكَ وَعَمَلِكَ بِهَذَا القُرْآنِ العَظِيمِ المُبَارَكِ.
قَالَ - ﷺ -: "إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ - وَفِي رِوَايَةٍ: القُرْآنِ – أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ". [رواه مسلم، والدارمي].

قَالَ تَعَالَى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).
تَأَمَّلْ فِي بَرَاهِينِ القُرْآنِ، وَحُجَجِهِ، وَمَوَاعِظِهِ، وَعِبَرِهِ، وَقَصَصِهِ، وَأَحْكَامِهِ، وَحَلَالِهِ، وَحَرَامِهِ.
فَمَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ آيَاتِ القُرْآنِ، وَيَتَأَمَّلْ مَعَانِيَهُ، فَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِلْحُجُبِ وَالأَقْفَالِ التِي عَلَى قَلْبِهِ، وَلَنْ تَنْفَكَّ عَنْهُ إِلَّا بِإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، قَالَ: "لَأَنْ أَقْرَأَ فِي لَيْلَتِي حَتَّى أُصْبِحَ بِـ (إِذَا زُلْزِلَتْ) وَ(القَارِعَةُ) لَا أَزِيدُ عَلَيْهِمَا، وَأَتَرَدَّدُ فِيهِمَا، وَأَتَفَكَّرُ؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَهُذَّ القُرْآنَ.

قَالَ تَعَالَى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ).
القُرْآنُ أَعْظَمُ نَذِيرٍ، وَأَصْدَقُ مُخْبِرٍ، وَأَبْلَغُ دَاعٍ، وَأَنْصَحُ مُرْشِدٍ، وَأَقْوَى وَاعِظٍ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَتَخْوِيفِهِ وَتَهْدِيدِهِ؛ فَلَا تُبَالِ فِي أَيِّ وَادٍ هَلَكَ. 
وَعَنْ حَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: سَأَلْتُ لَيْثًا: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ؟، قَالَ: كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: حَيْثُمَا يَأْتِي القُرْآنُ فَهُوَ دَاعٍ، وَهُوَ نَذِيرٌ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: (وَمَنْ بَلَغَ)، قَالَ: مَنْ بَلَغَهُ القُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ - ﷺ - وَكَلَّمَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أَصْغُوا لِلْقُرْآنِ سَمْعَكُمْ، وَلَا تَلْغَوْا فِيهِ؛ لِتَتَذَوَّقُوا أَلْفَاظَهُ، وَتَتَفَهَّمُوا مَعَانِيَهُ، وَتَتَعَقَّلُوا آيَاتِهِ، وَتَتَدَبَّرُوا تَوْجِيهَاتِهِ. 
كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قُرِئَ القُرْآنُ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يُفْرَغَ مِنْهُ.
فَإِذَا اتَّعَظْتُمْ بِمَوَاعِظِهِ، وَاعْتَبَرْتُمْ بِعِبَرِهِ، رَحِمَكُمْ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَعَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَحَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ.

قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
القُرْآنُ دَالٌّ عَلَى أَقْوَمِ الطُّرُقِ، وَأَوْضَحِ السُّبُلِ، فَمَنْ جَعَلَ القُرْآنَ مَصْدَرَهُ وَمَرْجِعَهُ، وُفِّقَ لِلَّتِي هِيَ أَصْوَبُ وَأَصْلَحُ، لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ عَلَّامِ الغُيُوبِ، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مَا يُنَاسِبُ خَلْقَهُ، فَمَنْ أَوْجَدَ الدَّاءَ أَعْلَمُ بِالدَّوَاءِ، وَمَنْ كَتَبَ الابْتِلَاءَ فَمِنْ عِنْدِهِ الشِّفَاءُ، مَنْ جَعَلَ القُرْآنَ دَلِيلَهُ سُدِّدَ وَأُرْشِدَ، وَمَنْ هَجَرَهَ ضَلَّ وَأُبْعِدَ، تَأَمَّلِ المُجْتَمَعَاتِ التِي لَا تَحْكُمُ بِالقُرْآنِ، تَجِدْهَا فَوْضَوِيَّةً فِي حَيَاتِهَا، بَهِيمِيَّةً فِي شَهَوَاتِهَا، ضَيَاعٌ فِي نِظَامِ الأُسْرَةِ، وَتِيهٌ فِي عَلَاقَةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، عَنَاءٌ فِي الدُّنْيَا، وَشَقَاءٌ فِي الآخِرَةِ.

قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ).
وَعَظْنَاهُمْ فِيهِ مِنْ كُلِّ عِظَةٍ، وَاحْتَجَجْنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ بِكُلِّ حُجَّةٍ؛ بَيَّنَّا، وَوَضَّحْنَا، وَنَوَّعْنَا، وَأَجْمَلْنَا، وَفَصَّلْنَا؛ لِيَعْتَبِرُوا، وَمَعَ ذَلِكَ قِلَّةٌ قَلِيلَةٌ المُتَّعِظُونَ. 
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ : (لَقَدْ عِشْنَا دَهْرًا طَوِيلًا وَأَحَدُنَا يُؤْتَى الإِيمَانَ قَبْلَ القُرْآنِ، فَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ - ﷺ - فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا، وَحَرَامَهَا، وَآمِرَهَا، وَزَاجِرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهَا، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ القُرْآنَ قَبْلَ الإِيمَانِ، فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، لَا يَدْرِي مَا آمِرُهُ، وَلَا زَاجِرُهُ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهُ، يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ!!)

قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا).
هَذِهِ هِيَ العُقُوبَةُ عَلَى الحَقِيقَةِ؛ أَنْ تُحْجَبَ القُلُوبُ عَنْ فَهْمِ آيَاتِ القُرْآنِ، فَالآذَانُ تَسْمَعُ وَتَتَلَذَّذُ بِصَوْتِ القَارِئِ، وَتَطْرَبُ لِلْأَصْوَاتِ الجَمِيلَةِ، وَلَكِنَّ القُلُوبَ لَا تَفْقَهُ وَلَا تَعِي، فَأَيُّ حِرْمَانٍ يَعْدِلُ هَذَا الحِرْمَانَ؟، وَأَيُّ دَاءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الدَّاءِ؟، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ أَكِنَّةِ القُلُوبِ وَأَقْفَالِهَا، وَوَقْرِ الآذَانِ وَصَمَمِهَا، وَالمُصِيبَةُ العُظْمَى أَيْضًا أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ العُقُوبَةِ لَا يَدْرِي أَنَّ مَا يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ لَا يَخْلُصُ إِلَى قَلْبِهِ، وَلَا يَشْعُرُ بِأَنَّ مَا فَقُهَ بِلِسَانِهِ لَا يَتَجَاوَزُ حَنْجَرَتَهُ.
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ، وَالقُرْآنُ يَلْعَنُهُ).
قَالَ تَعَالَى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙوَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا).
القُرْآنُ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَصَدَّقَ بِوَصْفِهِ، شَفَاهُ اللهُ بِهِ مِنْ أَمْرَاضِ القُلُوبِ، وَعَافَاهُ بِهِ مِنْ آفَاتِ الأَفْئِدَةِ، فَلَا مَكَانَ لِلشُّكُوكِ وَالوَسَاوِسِ، وَلَا مَجَالَ لِلشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ.
وَمَنْ كَفَرَ بِهِ، أَوْ أَعْرَضَ عَنْهُ، غَرِقَ فِي بَحْرِ الأَهْوَاءِ وَالأَدْوَاءِ، وَهَلَكَ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. 

قَالَ تَعَالَى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى). 
عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: يَا حَمَلَةَ القُرْآنِ، مَاذَا زَرَعَ القُرْآنُ فِي قُلُوبِكُمْ؟، فَإِنَّ القُرْآنَ رَبِيعُ المُؤْمِنِ، كَمَا أَنَّ الغَيْثَ رَبِيعُ الأَرْضِ.
قَالَ تَعَالَى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا).
القُرْآنُ مُعْجِزَةُ اللهِ، وَفِيهِ أَنْوَاعُ الإِعْجَازِ، تَكَلَّمَ بِهِ رَبُّ العَالَمِينَ، فَعَجَزَ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ، أَوْ بِسُورَةٍ جَمِيعُ المَخْلُوقِينَ، مَعَ وُجُودِ الفُصَحَاءِ، وَالبُلَغَاءِ، وَنَحَارِيرِ الشُّعَرَاءِ، وَفِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ حَاقِدِينَ وَحَانِقِينَ، إِنَّهُ لَدَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَبُرْهَانٌ سَاطِعٌ، عَلَى عَظَمَةِ هَذَا القُرْآنِ، فَمَنْ نَفَعَهُ اللهُ بِمَا بَيْنَ دَفَّتَيْهِ، وَاتَّخَذَهُ زَادَهُ فِي طَرِيقِ هِجْرَتَيْهِ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَإِلَّا فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَتَّهِمُ إِلَّا قَلْبَهُ. 
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ).

قَالَ تَعَالَى: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ).
أَنْزَلَ اللهُ القُرْآنَ هُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، فِيهِ الرَّاحَةُ النَّفْسِيَّةُ، وَالسَّعَادَةُ الأَبَدِيَّةُ، وَالنَّجَاةُ السَّرْمَدِيَّةُ.
قَالَ الآجُرِّيُّ: وَبِالجْمْلَةِ: فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لِلْقَلْبِ مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الذِي يُورِثُ المَحَبَّةَ وَالشَّوْقَ، وَالخَوْفَ وَالرَّجَاءَ، وَالإِنَابَةَ وَالتَّوَكُّلَ، وَالرِّضَى وَالتَّفْوِيضَ، وَالشُّكْرَ وَالصَّبْرَ، وَسَائِرَ الأَحْوَالِ التِي بِهَا حَيَاةُ القَلْبِ وَكَمَالُهُ، وَكَذَلِكَ يَزْجُرُ عَنِ الصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ المَذْمُومَةِ التِي بِهَا فَسَادُ القَلْبِ وَهَلَاكُهُ. فَإِذَا قَرَأَ بِالتَّفَكُّرِ حَتَّى مَرَّ بِآيَةٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فِي شِفَاءِ قَلْبِهِ، كَرَّرَهَا وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَلَوْ لَيْلَةً؛ فَقِرَاءَةُ آيَةٍ بِتَفَكُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَفَهُّمٍ.

قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا).
تَرْكُ العَمَلِ بِالقُرْآنِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ، فِي جَمِيعِ شُؤُونِ الحَيَاةِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ، هَجْرٌ لَهُ، فَالقْرْآنُ آخية المُسْلِمِ لِتَنْظِيمِ حَيَاتِهِ الفَرْدِيَّةِ وَالمُجْتَمَعِيَّةِ، صَالِحٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَمَنْ لَمْ يُذْعِنْ لِهَذَا، وَيُسَلِّمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فِي نَفْسِهِ؛ فَقَدْ هَجَرَ القُرْآنَ، وَهَجْرُ القُرْآنِ أَنْوَاعٌ: 
أَحَدُهَا: هَجْرُ تِلَاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ.
وَالثَّانِي: هَجْرُ العَمَلِ بِهِ. 
وَالثَّالِثُ: هَجْرُ تَحْكِيمِهِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ.
وَالرَّابِعُ: هَجْرُ تَدَبُّرِهِ، وَتَفَهُّمِهِ.
وَالخَامِسُ: هَجْرُ الاسْتِشْفَاءِ، وَالتَّدَاوِي بِهِ.

قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).
يُواجِهُ قَلْبُ المُسْلِمِ فِي حَيَاتِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الاضْطِرَابَاتِ المُتَمَثِّلَةِ فِي التَّغَيُّرَاتِ، حَيْثُ يَتَأَرْجَحُ بَيْنَ الحُبِّ وَالكُرْهِ، وَالأَمْنِ وَالخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ وَاليَأْسِ، وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، فَجَاءَتْ آيَاتُ القُرْآنِ؛ لِتُسَكِّنَ القَلْبَ، وَتُطَمْئِنَ الفُؤَادَ، وَتُثَبِّتَهُ، وَتُقَوِّيَهُ، شَرِيطَةَ أَنْ يَتَرَسَّلَ القَارِئُ فِي تِلَاوَتِهِ، وَيَتَدَبَّرَ آيَاتِهِ، وَيَتَأَمَّلَ إِشَارَاتِهِ، وَيَقِفَ عِنْدَ تَنْبِيهَاتِهِ وَتَوْجِيهَاتِهِ. 
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إِنَّ هَذِهِ القُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَاشْغَلُوهَا بِالقُرْآنِ، وَلَا تَشْغَلُوهَا بِغَيْرِهِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "اعْمُرُوا بِالقُرْآنِ قُلُوبَكُمْ وَبُيُوتَكُمْ".

قَالَ تَعَالَى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ).
أَهَمُّ وَظِيفَةٍ فِي حَيَاةِ المُسْلِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ مُرَبِّيًا، وَمُعَلِّمًا، وَدَاعِيَةً، لِنَفْسِهِ، وَلِأَهْلِهِ، وَلَا أَنْفَعَ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ؛ لِيَنْفَعَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَيُسْمِعَ أَهْلَهُ، فَالحَاجَةُ إِلَى القُرْآنِ أَشَدُّ مِنَ الحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَلْ مِنَ الأُكْسُجِينِ الذِي يَتَنَفَّسُهُ الإِنْسَانُ، كَيْفَ لَا وَاللهُ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ).
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَغَيْرُهُ: "مَنْ لَمْ يَعِظْهُ القُرْآنُ، لَوْ تَنَاطَحَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ الجِبَالُ مَا اتَّعَظَ". وَلِذَا كَانَ السَّلَفُ يُكْثِرُونَ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَيَخْتِمُونَهُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً.
لِمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ الوَفَاةُ بَكَتْ أُخْتُهُ، فَقَالَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟، انْظُرِي إِلَى تِلْكَ الزَّاوِيَةِ التِي فِي البَيْتِ، قَدْ خَتَمَ أَخُوكِ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ القُرْآنَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ خَتْمَةٍ.

قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
مَا أَعْظَمَهَا مِنْ آيَةٍ أَفَادَتْ أَنَّ المُسْلِمِينَ لَنْ يُغْلَبُوا مَا دَامَ القُرْآنُ دُسْتُورَ حَيَاتِهِمْ، وَقَدْ أَدْرَكَ ذَلِكَ أَعْدَاءُ الإِسْلَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَأَجْلَبُوا بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ عَلَى صَدِّ المُسْلِمِينَ عَنْ هَذَا القُرْآنِ، وَصَرْفِهِمْ عَنْهُ، حَتَّى لَا يَقْرَأُوهُ، وَلَا يَعْمَلُوا بِهِ، فَصَدَّرُوا لِمُجْتَمَعِ المُسْلِمِينَ الشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَوَاتِ، وَالمُلْهِيَاتِ، وَالمُغْرِيَاتِ، وَأَشْغَلُوهُمْ بِالدَّعَوَاتِ، وَالشِّعَارَاتِ المُضَلِّلَةِ. 
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا؛ كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ). [رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ].

قَالَ تَعَالَى عَنِ الجِنِّ: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ).
هَذَا القُرْآنُ عَجِيبٌ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَفِي تَنْظِيمِهِ وَتَرَاكِيبِهِ، وَفِي تَرَابُطِ آيَاتِهِ وَتَنَاسُقِ تَوْجِيهَاتِهِ، وَمَوَاعِظُهُ بَلِيغَةٌ، فَتَحَ اللهُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَأَمْرُهُ، وَنَهْيُهُ، وَحَلَالُهُ، وَحَرَامُهُ، وَمَا فِيهِ مِنْ عَقِيدَةٍ، وَأَحْكَامٍ، وَآدَابٍ، وَحُدُودٍ، كُلُّهَا رُشْدٌ، لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ، لَمَّا قَامَ بِحَقِّهِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ، يَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ؛ دَانَتْ لَهُمُ العَرَبُ، وَأَدَّتْ إِلَيهِمُ الجِزْيَةَ العَجَمُ، وَفَتَحُوا فَارِسًا وَالرُّومَ، وَأَنْفَقُوا كُنُوزَ قَيْصَرَ وَكِسْرَى فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَلَغَ مُلْكُهُمْ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا.