رثاء فضيلة الشيخ علي النمي لشيخه عبدالله بن جبرين رحمه الله

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020


فُجِعَت الأمة الإسلامية بخبر مرض شيخنا العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، ثم صُعِقَت بنعيه وإعلان وفاته، وربط الله على قلوبنا، وثبّت أفئدتنا بقوله: “كل نفس ذائقة الموت”.
وعزاء الأمة في كل مصيبة أن تتذكر موت فلذة كبدها، وروح جسدها، نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي ليس للأمة منه خلف مثله، ولله در القائل:
تذكرت لما فرق الدهر بيننا *** فعزيت نفسي بالنبي محمد
وقلت لها: إن المنايا سبيلنا *** ومن لم يمت في يومه مات في غد
وما إن قبض الشيخ – رحمه الله – وغابت شمسه، وأفل بدره، إلا وبكته المجالس العلمية، والمنابر التعليمية، لقد فقدت رمزًا من رموزها، وعلمًا من أعلامها، فإنا لله وإنا إليه راجعون!، ولا يعني هذا أن دين الله – جل وعلا – سيتأثر بموت الشيخ أبدًا؛ فإن دين الله قائم، لا يتعلق مستقبله بحياة شخص ولا بوفاته، ولكن موت القيادات الدينية رزية من الرزايا، وبلية من البلايا.

لعمرك ما الرزية فقد مال *** ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حبر *** يموت لموته خلق كثير

إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، وإذا شاء الله أن يقيض للأمة خلفًا قيض.
قال يحيى بن سعيد: لما مات زيد بن ثابت، قال أبو هريرة – رضي الله عنه -: مات حبر هذه الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا.
إن موت العالم يعني دفن ثروة علمية، ودروس تربوية.
قال عمار بن أبي عمار: لما مات زيد بن ثابت، جلسنا إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: هكذا ذهاب العلماء، دفن اليوم علم كثير.
وليست كارثة الأمة منحصرة في ذلك العلم، وتلك الدروس التربوية، المواراة بالتراب، ولكن موت العالم صدع في هيكل الأمة المحمدية.
قال ابن عباس – رضي الله عنهما – في قول الله تعالى: (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) [الرعد: 41]، قال: خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها. وكذا قال مجاهد: هو موت العلماء. وفي هذا المعنى أنشد أحمد بن غزال لنفسه:

الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها *** متى يمت عالم منها يمت طرف

ولسنا نقصد من وراء هذا إدخال الهموم والغموم والأحزان على الأمة الإسلامية، ولكننا نستنهض الهمم لطلب العلم؛ كي تسد تلك الثغرات التي فتحت بعد موت القيادات العلمية المتلاحقة في الحقبة الزمنية المتأخرة هذه.

وإن لشيخنا – رحمه الله – سيرة عطرة، وترجمة حافلة بالمحامد، ومناقبه أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، وثروته العلمية من دروس وفتاوى ومحاضرات، وكتابات ناطقة بلسان فصيح، برسوخ الشيخ، وعلو مقامه، وشرف جاهه، ولنكحل أعيننا، ونشنف أسماعنا بمعرفة أهم الأصول التي تدور عليها رحى حياة الشيخ العلمية، وفاء لحقه، ودعوة للاقتداء بسيرته، فقد امتاز الشيخ – رحمه الله – بمزايا حسنة كثيرة، يعرفها طلابه الذين ظفروا بصحبته وملازمته، أذكر منها ما شاهدته عيانًا، مقتصرًا على رؤوس أقلام، وخطوط عريضة، فأقول:

1- من سمات الشيخ أنه سلفي في منهجه ومعتقده وسلوكه، صلب في دينه، وتمسكه بالسنة، وإعراضه عن أهل البدع والأهواء.
2- من سمات الشيخ: سعة استظهاره، وشدة استحضاره، فكم يستظهر من المحفوظات في مختلف الفنون على كبر سنه، يظهر هذا واضحًا في دروسه اليومية وشروحاته الارتجالية.
3- من سمات الشيخ: أهليته العلمية، فلا تنزل بالمسلمين نازلة إلا ويبادر بالفتوى فيها، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولتجرده عن الخلفيات يثق الآخرون بفتواه.
4- من سمات الشيخ: أنه هَيِّن لَيِّن، يتمتع بروح الأبوية، فمن قصده في حاجة، كطلب تزكية، أو شفاعة، أو غير ذلك، كان في حاجته ما لم تتجاوز إطار المشروع، وهذه السمة ميزت الشيخ عن غيره.
5- من سمات الشيخ: أنه قدوة في سيرته الدينية، وعلاقته التعبدية، وإمام في خصال كثيرة، وجدانية وسلوكية، سهل الأخلاق، حسن المعاشرة.
6- من سمات الشيخ: أنه له دروس علمية كثيرة متنوعة في أماكن متعددة، مما ساعد طلاب العلم المبتدئين وغيرهم أن يجدوا بغيتهم في سلسلة دروسه اليومية، وهذه السمة ميزت الشيخ عن غيره.
7- من سمات الشيخ: أنه موسوعة علمية، يثري مجالسه بمتين العلم ومليحه، والذي يثير الدهشة، ويبعث على الإعجاب: ملكته العلمية في توجيه المسائل، وفك العبارات، وتفسير المصطلحات، دون تحضير سابق، فوقت الشيخ لا يتسع للتحضير؛ لكثرة الدروس اليومية، طيلة أيام الأسبوع، وهذه السمة ميزت الشيخ عن غيره.
8- من سمات الشيخ: أنه لا يكاد يأتيه طاالب علم مبتدئ أو متعمق، يطلب أن يقرأ على الشيخ إلا لبى له طلبه، فكان هذا خير دافع للطالب، وهذه السمة ميزت الشيخ عن غيره.
9- من سمات الشيخ: أنه مهتم بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصدره رحب لقاصديه من أهل الحِسْبة.
10- من سمات الشيخ أنه له يد طولى في التنفيس عن المكروبين، فيجري على يده مساعدات إغاثية كثيرة.
11- من سمات الشيخ: أنه سهل في إجابة الدعوة، وتلبية الرغبة في حضور حفلة أو مناسبة، يدفعه إلى ذلك حب إدخال السرور على أصحابها، وهذه سمة ميزت الشيخ عن غيره.
12- من سمات الشيخ: بذله للعلم واحتسابه في ذلك، ومروره أيام العطل الصيفية على كثير من المناطق والمدن في المملكة؛ لتعليمهم وتذكيرهم، فجدوله التجوالي مضغوط.
13- من سمات الشيخ: أنه حافظ للسانه، لا يتعرض لأهل الصلاح بالجرح والقدح، بل من تورعه أنه يذكر اختيارات نظرائه وأقرانه في دروسه.
14- من سمات الشيخ: القناعة والورع، وإيثار خمول الذكر، والتخلق بأخلاق العالم، ومجانبته الأغراض المنافية لآداب العلم.
15- من سمات الشيخ: أنه يملك شعبية صادقة، وله مكانة في قلوب الناس، شرقًا وغربًا، ومصداق ذلك جنازته المشهودة بالجمع القادم من كل حدب وصوب، رجالًا وركبانًا؛ للصلاة عليه، وارتجاج المسجد بالدعاء والبكاء.

هذا فيض من غيض، وقليل من كثير، نسأل الله – جل وعلا – أن يتغمد الشيخ بواسع رحمته، وأن يجمعنا به في الفردوس الأعلى، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إمام وخطيب جامع خبيب بن عدي

بقلم فضيلة الشيخ المحدث: علي بن عبد الله النمي حفظه الله