مقدمة نقض الدعاوى الكيدية حول انتماء الإمام لطعن الدعوة التجديدية

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد:

فهذه رسالة لطيفة مختصرة، تنقضُ تلك الدَّعاوَى المثارة حول انتماء شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله تعالى - لغرضِ الطعن في دعوته الإصلاحية، وحاجبةٌ فخوخًا ومَصالِي بشريَّة، أوقدت جَذْوتها طائفةٌ ممن يشنأ التوحيد ويمقت أهله، صلت نارُها مساكينَ لا تمييزَ لهم، وتُبيِّن مزايا الجهات التي ينتمي إليها الشيخ، وهذا ظاهر من عنوان الرسالة: (نقض الدعاوى الكيدية حول انتماء الإمام لطعن الدعوة التجديدية).

لكن قبل الشروع فيما يتعلق بانتمائه، أذكر أيامه قائلًا:

لقد عاشت نجد، بل الجزيرة العربية والعالم الإسلامي أجمع ردحًا من الزمن حاضرتها وباديتها، انحرافًا عن جادة التوحيد؛ بسبب انفراج زاوية عصر اليقظة العلمية وعصر الغَفْوة والتِّيه، كثير في جاهلية جهلاء، وهمجيَّةٍ عمياء، يعيشون في مستنقع آسِنٍ، ووَجِيل (حفرة) الماء الآجِن، عصَفت بهم رياح الجهل والهوى، فتنكَّبوا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم، إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين.

لقد فشا الشرك، وانتشرت البدع، وظهر الفسق، وضُيِّعت كثير من الواجبات، وانتُهكِت كثير من المحرَّمات، لقد آل الشرك بأهله إلى أسوأ دركاته:

• أشركوا في الشدة والرخاء.

• قصدوا بعضَ الفُسَّاق.

• جعلوا للأولياء حظًّا من الربوبية والألوهية.

لقد عشعش الشِّرك في أرجاء العالم الإسلامي، حتى عاد الإسلام غريبًا كما بدأ، وتحوَّل ذلك المجتمع إلى الحضيض؛ بسبب ذلك الركام الهائل من العقائد الفاسدة المنحرفة عن دين الرسل، والتي يَدين بها طوائف المفتونين بالشرك والبدع والشهوات.

قومٌ يَدينون دينًا ما سمِعتُ به ♦♦♦ عن الرسولِ ولا جاءَتْ به الكُتُبُ

ومع هذه الموجة الجاهلية العرمة، والغَيبة عن كثير من تعاليم الدين، لا تزال نجد، والجزيرة العربية، والعالم الإسلامي، تحتضن الموحِّدين المتمسِّكين بتعاليم الدين الإلهي، المعظِّمين لشعائره، إلا إنه لا حول لهم ولا قوة، ونشاطهم الدعوي شبه مشلول بسبب ضغوط متنوعة.

وكانت بلاد نجد كغيرِها من بلدان العالم الإسلامي، يوجد بها مظاهر الشرك والبدع، وخاصة عند البادية، ويصور لنا الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت: 1182هـ) رحمه الله ذلك الواقع المؤلم في قصيدته المشهورة الطويلة نحوًا من سبعين بيتًا، قال فيها:

أعادُوا بها معنى سُواعٍ ومثلِه         يغوثَ ووُدٍّ، بئسَ ذلك من وُدِّ 

وقد هتَفوا عند الشدائدِ باسمِها      كما يهتفُ المضطرُّ بالصَّمدِ الفردِ 

وكم نحَروا في سوحِها من نحيرةٍ      أُهلَّتْ لغيرِ اللهِ جهرًا على عمدِ 

وكم طائف حولَ القبورِ مقبِّلًا          ويَستلِمُ الأركانَ منهنَّ باليدِ 

ويأبى اللهُ إلا أن يُتمَّ نوره، ويُعلي كلمته، ويكون الدينُ كله له سبحانه وتعالى، وفي هذه الأثناء فجأة وجدتْ نجدٌ نفسها داخل منعطفٍ سلوكي حاسم، وانقلاب ديني شامل لشؤون الحياة، وكأنه يُعلن ميلادًا جديدًا لنجدٍ، وقدوم صبح جلا ليلًا بهيمًا وغبَشًا مظلمًا، فاستيقظوا من رقدتِهم، وتنبَّهوا من غفلتهم.

لقد قيَّض الله شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحَه - في القرن الثاني عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ليُجدِّدَ لأهل نجد ولغيرِهم دينَهم دينَ إبراهيم عليه السلام، الملَّة الحنيفيَّة، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم الشريعة الإسلامية[1].

فغاض (قلَّ ونضب) نبعُ البدعة، وسد فُرْضَة (ثُلْمة) نهرها، وجاءت دعوته كالسَّيل العَرِمَ، دكَّت معاقلَ الشرك، فعادت حميل السيل.

لقد لقيت دعوة الشيخ في نجد مناخًا ملائمًا، فمنذ سمع سكان نجد بالدعوة التجديدية، ورأَوْها ترفع رايةَ التوحيد عاليةً، استبشر كثيرٌ ببوادرها، وتهلَّلتْ وجوههم فرحًا وسرورًا بها، ورحَّبوا بها ترحيب الخليل بخليله، واحتضنوها احتضان الأم لولدها، وتبنَّوها تبنِّي الأب لابنه، كان كثيرٌ منهم يعيشون في حظيرة أصول التوحيد ودعائمه العظام، غير أنهم لا يشكلون قوة.

وبعد أن كانت شمس التوحيد ضعيفةً ونبتتُه مصفرَّة؛ بسبب الجهل والهوى، أشَعَّت شمسه من جديد وقوِي ضوؤها، حتى عمَّ نورها أرجاءَ نجد وما حولها، ورجعت الحياة إلى تلك النَّبتة الطيبة فاخضرَّت وأزهرت وانتعشت نجد، وكأنما وُلدت من جديد.

بل إن نجدًا أنجدت بدعوة الشيخ وقفزتْ قفزة ميمونةً؛ حيث أعاد لها ما انطمس من معالم التوحيد ومذهب السلف الصالح، وأعاد مسيرة التاريخ إلى أصولها، وأعلى منار الإسلام، وسادت الملَّة الإبراهيمية والشريعة المحمدية، وانقشعَتْ غمامةُ الانحراف، وانحسر ظلام الجهل، فعادت نجد به إلى مركزيَّتها مخصبة مريعة، ورجعت الهُوِيَّة الحنيفية إلى سكانها، وما ذلك إلا استجابة لدعوته؛ فقد (وقف في الملتزم وسأل الله تعالى أن يُظهِر هذا الدين بدعوته، وأن يرزقه القَبول من الناس)[2]، فتحققت أمنيتَه، وأصبح ركنًا في الإصلاح، وصدق عليه قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدِّدُ لها دينَها))[3].

قال العلقمي في معنى التجديد: إحياء ما اندرَس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما[4].

 

لقد غبطت نجد بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؛ حيث هدى الله به من الضلالة، وبصَّر به من العمى، وفتح به أعينًا عُميًا، وآذانا صُمًّا، في زمن كثرت فيه المحادثات، وغلب فيه الهوى، واستأسَدت فيه الشهوات، وغاض العلم، وفاض الجهل.

لقد جهد الإمام في دعوة أهلَ ذلك الإقليم، حتى ضرب الإسلام بجِرانه، وأخذت السلفيةُ معناها الصحيح ومدلولَها السليم، ولا تزال بحمد الله قويةً جذورها غضَّة أفنانُها، ﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ [إبراهيم: 25].

أبعد ذلك تُلامُ نجدٌ أن تعتز بعبقريِّها ورَيحانتِها، وقد نهض بها نهضة دينية ومدنية معًا؟!

قال الشيخ حسين بن أبي بكر بن غنام:

تجرُّ به نجدٌ ذُيولَ افتخارِها ♦♦♦ وحقٌّ لها بالألمعيِّ ترفُّعُ

لقد أصبحت نجدٌ - ببركة دعوة الشيخ - حجرًا خَشِنًا، تحطَّمت عليه جيوش الشيطان ورؤوس الكفر والطغيان، فكان بحق مجدِّدًا.

وقد شهِد له بتجديد الإسلام في نجد وما حولها فحولُ العلماء وكبار الأذكياء من مختلف أقطار الأرض من العرب والعجم، داخل الجزيرة وخارجها، ولولا خشيةُ الإطالة لسقتُ كثيرًا، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

قال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي من علماء عسير:

وبعَث اللهُ لنا مجدِّدا                   من أرضِ نجدٍ عالمًا مجتهدا 

شيخُ الهدى محمَّدُ المحمَّدِي        الحنبليُّ الأثريُّ الأَحْمَدي 

وقال الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني:

وقد جاءتِ الأخبارُ عنه بأنه ♦♦♦ يُعيدُ لنا الشرعَ الشريفَ بما يُبْدي

وقال الشيخ محمد بن علي الشوكاني (ت: 1255هـ) رحمه الله في مرثيته للشيخ محمد:

لقد أشرقَتْ نجدٌ بنورِ ضيائهِ          وقام مقاماتُ الهدى بالدلائلِ 

فما هو إلَّا قائمٌ في زمانهِ              مقامَ نبيٍّ في إماتةِ باطلِ 

وقال الشيخ حسين بن غنام في مدح الشيخ محمد:

لقد جدَّدَ الإسلامَ بعدَ اندثارهِ ♦♦♦ فقام منارُ الدينِ وانخفض الأشَرّ

وقال محمد رشيد رضا: "لم يَخْلُ قرنٌ من القرون التي كثرت فيها البدع من علماءَ ربانيين، يُجدِّدون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ كما ورد في الحديث، ولقد كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب النجديُّ من هؤلاء العدول المجدِّدين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحدَه بما شرعه في كتابه، وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة، فنهدتْ مناهضته واضطهاده القُوَى الثلاث: قوة الدولة والحكام، وقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الطِّغام[5].

وقال (لوثروب ستودارد الأمريكي) في كتابه حاضر العالم الإسلامي المترجم إلى اللغة العربية بقلم الأستاذ عجاج نويهض: "كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظمَ مبلغ، ومن التدلِّي والانحطاط أعمقَ دركة - وذكر ما انتشر في العالم الإسلامي من فساد الأخلاق والاستغراق في الشهوات والشركيَّات - إلى أن قال: وعلى الجملة، فقد بدَّل المسلمون غيرَ المسلمين، وهبطوا مهبطًا بعيدَ القرار، فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهى الإسلام، لغضِب وأطلق اللعنة على من استحقَّها من المسلمين، كما يُلعَن المرتدُّون وعبدةُ الأوثان، وفيما العالم الإسلامي مستغرقٌ في هَجْعته ومدلجٌ في ظلمته، إذا بصوت قد دوَّى من قلب صحراء شبه الجزيرة مهدِ الإسلام، يُوقِظ المؤمنين ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، فكان الصارخ هذا الصوت إنما هو المصلح المشهور محمد بن عبدالوهاب"؛ انتهى.

وبنحو ما قاله هذا الكاتبُ الغربي قاله كثيرٌ من كُتَّاب الغرب؛ كفيكتور فيندي السويدي، وكارل بروكلمان الألماني، وغيرهما.

إن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله حين حاز وسام التجديد وبلغ رتبة المجدِّد، لم تكن من قبيل الحظ المجرد، ولكنه - بعد توفيق الله وإنعامه - كان آخذًا بالأسباب الموصلة إلى ذلك، والتي من أهمها تربية نفسه تربية سامية.

لقد ربَّى الشيخ نفسَه على دروس تربوية جبارة، مستمدة من الكتاب والسنة، جعلته دؤوبًا في دعوته، ومن تلك الدروس على سبيل المثال، قوله في كتابه (ثلاثة الأصول): "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل:

الأولى: العلم؛ وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.

الثانية: العمل به.

الثالثة: الدعوة إليه.

الرابعة: الصبر على الأذى فيه.

واعلم - فهمني الله وإياك - أن تجديد الدين، إنما هو بالنسبة إلى الأمة التي طرأ عليها الانحراف، لا بالنسبة للدين الذي شرعه الله لعباده وأكمله".

فدعوة الشيخ تجديدية بهذا الاعتبار، وإلا فهي دعوة أثريَّة سلفيَّة إصلاحية، ليست وليدة عصره، ولا تمخَّضت عن فكره، ولا دعا إلى نفسه ولا إلى قوله ورأيه.

ولم تكن له أطماع سياسية أو مادية، ولا مصالح ذاتية، بل يطمع في ثواب الله وأجره، ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ [هود: 29]، وأهدافه شريفة، وغاياته نبيلة، فأقواله وأفعاله وكتبه ناطقة بإراداته: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾ [هود: 88]، يقول الشيخ محمد الحفظي مثنيًا على دعوة الشيخ:

ولم يَزَلْ يدعو إلى دينِ النبي ♦♦♦ ليس إلى نفسٍ دعا أو مَذْهبِ

وقال الشيخ محمد الشوكاني:

أفيقوا أفيقوا إنه ليس داعيًا            إلى دين آباءٍ له وقبائلِ 

دعا لكتابِ اللهِ والسنةِ التي            أتانا بها طه النبي خيرُ قائلِ 

ولصدق قصد الشيخ ونزاهة إرادته، لم يُؤسِّسْ له حزبًا ولا مذهبًا ولا طائفة، وهذه نجد بلده وحاضنته، لا يوجد بها طائفة تسمَّى (الوهابية)، ولا امتحن الشيخُ ولا أتباعه الناسَ على لقب أو شعار يُعرفون به، وإذا سئل أحدهم - وإلى هذا اليوم - على أي ملة؟ أجاب: على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا مسلم مُتَّبِعٌ لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتنادون بالمسلمين المؤمنين عباد الله.

فمن تسمَّى بالإسلام وعمِل بمقتضاه، فهو منهم وأخ لهم، له ما لهم، وعليه ما عليهم، عربيًّا كان أو أعجميًّا، أبيض أو أسود، يسكن نجدًا أم يسكن خارجها.

ولقب (الوهَّابية) إنما أطلقه حذَّاق منجنيق السب والشتم - سلاح المفلسين - أولئك الذين تبرَّموا بدعوة الشيخ وضاقوا بها ذرعًا؛ حيث سببت لهم قلقًا وضجرًا وأقضَّت مضاجعَهم.

أجل، إنها دعت الناس إلى ما جاءت به الرسل الإلهية، ونزلت به الكتب السماوية، بعدما اندرستْ معالمها، وترك العمل بهما، وهم أعداء دين الرسل؛ لذلك استثقلوها، فما كان من خفافيش البصائر إلا أن يحتالوا كما احتال أسلافهم، ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 52]، فأطلقوا لقب (الوهَّابية) على أتباع الشيخ؛ تنفيرًا من دعوته التجديدية، قال أبو ذؤيب الهُذلي:

وعيَّرها الواشونَ أنِّي أحبُّها ♦♦♦ وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عارُها

وفي الحقيقة لا وجودَ لطائفة تُدعَى الوهَّابية، بل هي الغول أو العنقاء، فأذن لهذه الحيلة قطيعُ السُّذَّج، وفرُّوا من دعوة الشيخ فرارَهم من الأسد، ثم هؤلاء الَهمَجُ - لفرط جهلهم - قالوها للآخرين كما تقول الببغاء، نسأل الله لنا ولهم الهداية.

أما أصحاب العقول الناضجة، فأجابوا عن بَوَاءٍ واحد[6]: (شِنْشِنَة عرَفناها مِن أخزم).

قد كان المشركون ينبزون مَن أسلم بالصابئِ، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون، وكان أبو جهل يتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم وهو يدعو الناس إلى أن يمنعوه، فيقول: لا تطيعوا هذا الصابئ.

فالعاقل لا يمنعه من الدخول في دين الإسلام أن يطلق عليه الشانئون صابئًا، ولا يمنعه من التمسُّك بالتوحيد الذي جاءت به الرسل أن يطلق عليه الحاقدون وهابيًّا.

ولله در الإمام الشافعي رحمه الله؛ حيث قال:

يا راكبًا قِفْ بالمحصَّبِ من منًى               واهتفْ بقاعدِ خيفِها والناهضِ 

سَحَرًا إذا فاضَ الحجيج إلى منًى              دفعًا كمُلتَطِمِ الفُراتِ الفائضِ 

إن كان رفضًا حبُّ آلِ محمَّدٍ                     فليَشْهَدِ الثَّقلانِ أنِّي رافضِي 

نعم ليشهد الثِّقلان أننا من أهل التوحيد وعشَّاقه، ولن نتخلى عنه ولا عن أهله مهما كلَّفنا ذلك، ومهما نبزنا به النابزون حتى يَلِج الجمل في سَمِّ الخِياط، ولَتزحزحُ أُحُدٍ عن مكانه بنفخِ الأفاعي أقربُ من تزحزحِنا عن التوحيد بشُبهاتكم بعون الله تعالى، فموتوا بغيظكم أيها المتحايلون.

ومما قاله الشيخ الفاضل المحقق ملا عمران بن رضوان صاحب لنجة:

إن كان تابعُ أحمدٍ مُتوهِّبًا ♦♦♦ فأنا المقرُّ بأنني وهَّابي

ثم لا ننسى الدور الذي لعِبه رؤساء الضلالة في الصدِّ عن دعوة الشيخ الإصلاحية، ومحاولة خنقها، والقضاء عليها في مهدها؛ خوفًا من زوال مناصبهم القائمة على الباطل والابتزاز، ذلك الدور المغلف بألوان الاستخفاف، فيا لله كم قتيل لهم:

إلى ديَّان يومِ الدينِ نمضي ♦♦♦ وعندَ اللهِ تجتَمِعُ الخصومُ

يقول محمد رشيد رضا - وهو واحد من ألوف رجَعوا بعدما تبيَّنوا -:

"كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابيَّة المستمدَّة من رسالة دحلان هذا ورسائل أمثاله، فنُصدِّقُها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونُصدِّق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربَتْهم وخضدت شوكتَهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر والاطِّلاع على تاريخ الجَبَرْتي وتاريخ الاستقصا في أخبار الغرب الأقصى، فعلمتُ منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكَّده الاجتماع بالمطَّلعين على التاريخ من أهلها، ولا سيما تواريخ الإفرنج الذين بحثوا عن حقيقة الأمر فعلموها، وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذًا لتجدَّد مجدُه، وعادت إليه قوتُه وحضارتُه، وأن الدولة العثمانية ما حاربَتْهم إلا خوفًا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتَها الأولى"[7].

ولقد أيَّد الله هذا الدين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة، وبأحمد بن تيميَّة يوم البدعة، وبمحمد بن عبدالوهَّاب يوم الفتنة، ومَن لم تقرَّ عينه بهؤلاء فلا قرَّتْ عينُه.

ويجدر بنا - وقد أشدنا ببَدْء الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب - أن نشيد بثنيانها[8] أمير الدرعية محمد بن سعود: (ت: 1179ه) رحمه الله، ناهيك من أمير! استأحد بنصرة الإمام، فكان ثاني اثنين وأحدَ المحمَّدين المجددين لمعالم التوحيد.

كان الأزهران وجهينِ لعملة واحدة؛ حيث تعاهَدا على نشر التوحيد، وصبرا على مخالفة مَن خالفهم، وإيذاء مَن آذاهم، وعداوة كل مَن عادى هذا الدين.

لقد أعلى الله بهذا الإمام منارَ الإسلام، وهذا شيء يُذكر فيُشكر، لقد قُتل ابناه - فَيْصل وسعود - في الحروب الدائرة بينه وبين أعداء الدين ودعوة المرسلين، فما زاده ذلك إلا تصلُّبًا للحق والمضي قُدُمًا، فلله درُّه.

ألا أيها الجندي الناشئ على التوحيد، المتربِّي في رحابه، المستظل بظلاله، المستنشق لأزهاره، الجاني لثماره؛ ادعُ الله من أعماق قلبك لهذينِ الإمامين، فإن لهما باعًا حافلًا في هذه النشأة.

فسبحان ربي، كم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من فضل علينا! وما هذان المصلحان إلا قطرة من بحر جُوده صلى الله عليه وسلم، وغصن من دَوْحة ملأت الأُفُق.

بل كم لله جل وعلا من المنَّة على أهل التوحيد أجمع! فله الفضل كله، وله الحمد كله.

وعَودًا على بَدْء أقول: إذا تقرَّر أن دعوة الشيخ ما هي إلا دعوة الأنبياء والمرسلين؛ فبدهيٌّ أن يَشرَق بدعوته مَن تضلَّع بصديدِ الشرك، وأن يغصَّ بها مَن امتدَّت خاصرتاه وتكوَّن سَنامُه بأموال الجهلة المساكين، ولا بد ألا يسلم من الخصوم والأعداء.

قال وَرَقة بن نَوفل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: "لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثلِ ما جئتَ به إلا عُودي"[9].

وفي صحيح مسلم حديث أصحاب الأخدود الطويل، وفيه قول الراهب للغلام: ((أَيْ بُنَي، أنت اليوم أفضل مني، فقد بلغ مِن أمرك ما أرى، وإنك ستُبْتلى))[10].

فابتلاء المصلحين بكثرة المخالفين، وإلصاق التهم بهم بما تشمئزُّ منه القلوب، ونِسْبتهم إلى البدعة والضلالة، سنةٌ قدرية وإرادة كونية، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 31]؛ أي: لكل نبي وتابع نبي.

والحقُّ منصورٌ ومُمتَحَنٌ فلا ♦♦♦ تعجَبْ فهَذِي سنةُ الرحمنِ

يقول الشاطبي بعد ذكر أنواع كثيرة من التهم، وما لُقِّب به الإمام الشهير عبدالرحمن بن بطَّة الحافظ، من أهل زمانه، قال: فقلَّما تجد عالمًا مشهورًا أو فاضلًا مذكورًا، إلا وقد نُبِذ بهذه الأمور أو بعضها[11].

ويقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن رحمه الله:

واقتضَتْ حكمته الإلهية ومشيئته الربانية، أن يبتلي وَرَثة رسله وأنبيائه، بحسب ميراثهم عن صفوته وأوليائه، فأكثرُهم ميراثًا أشدُّهم متابعةً، وأعظمهم اقتداءً هو أكبر محنة، وأعظمهم بلية وأصعبهم أضدادًا[12].

قال مقيده - عفا الله عنه -: وإذا نظرنا نظرة فاحصة في وجود الأنداد والأضداد، أدركنا أن في وجودِهم حكمةً إلهية بالغة؛ فإن الحجج والبراهين تظهر أكثر وأكثر بالمناظرات والمعارضات، ويتبين الحق ويهيمن على الباطل، قال تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]، وما تلك التَّرِكةُ الكبيرة من المؤلفات التي ورِثناها عن العلماء الأفذاذ، وما فيها من الكم الهائل من العلوم النافعة المفيدة، إلا لوجود الخصوم والأنداد، ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32].

ومِن تلك الحكم معرفة أهل الحق، ولذا أقول: انتصار شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهَّاب رحمه الله على مخالِفيه وظهوره عليهم، دليل صحة عقيدته ومنهجه وسلامة دعوته؛ لأن الطائفة القائمة بالحق مِن هذه الأمة هي الظاهرة المنصورة.

وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن رحمه الله:

وقد أصبح أهل جزيرة العرب بدعوته؛ كما قال قتادة رحمه الله عن حال أول هذه الأمة: إن المسلمين لما قالوا: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون وكَبُرتْ عليهم، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيَها ويظهرها، ويفلجها وينصرها على مَن ناوأها[13].

والسيلُ إن أحكمتَ سدَّ طريقَهُ ♦♦♦ دكَّ الحصونَ فعُدْنَ كالأطلالِ

وقد كان لدعوة الشيخ الأثر الحسن على نجد وعلى العالم الإسلامي أجمع، فما أحسن أثره على الناس، وأقبح أثر الناس عليه، وهذه حال عباد الله المتَّقين، وصفهم الله ببذل الندى واحتمال الأذى.

لقد لقي الشيخ من معارضيه الأَزَابيَّ[14]، لقد ركب أولئك الأقزام كل صعب وذلول، وتمسكوا بكل ضعيف ومهول، وأزبدوا وأرعدوا كالمصروعين، وخبطوا خبطَ عشواءَ؛ للنَّيل من ذلك العملاق، وأجلبوا عليه بخيلِ الشيطان ورَجْله، ونشطوا في تشويهِ سمعته، والصد عن دعوته، بألسنة مسعورة، وأقلام موتورة، فكان لهم جولات وصولات، يبغونها عوجًا فخسئوا:

كناطحٍ صخرةً يومًا ليُوهِنَها ♦♦♦ فلم يَضِرْهَا وأوهى قرنَهُ الوَعلُ

وكتائب السنة لهم بالمرصاد، يكشفون تلك الشبهات المثارة، ويُفنِّدون تلك الافتراءات الملصقة، ويُبطلون تلك الاعتراضات الموجهة، فانقلبت بحمد الله إليهم خاسئة حَسيرة، وكأنها لم تتجاوز نطع أفواههم[15].

إيه، لقد نال شرفَ التصدي لتلك الحُثالةِ المعادية لدعوة الشيخ رِبِّيُّون كثيرٌ، وانتصب لها ثلةٌ من الغيورين على دينهم من العلماء والمفكرين والمؤرخين والشعراء والكتَّاب، وتنوَّعت ردودهم، فتجرد كل واحد منهم إلى ثغر من الثغور، فأعمل قلمه في الذب عن الشيخ ودعوته؛ نصحًا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم.

وقد ضرب لنا الشيخ المنجَّذُ سليمان بن سحمان (ت: 1349هـ) رحمه الله أروعَ الأمثلة في مجاهدة أعداء هذه الدعوة السلفية، فقد انبرى [اعترض] للعاملي فيما كتبه ونظمه مناوأةً لدعوة الشيخ، بكتاب ومنظومة دمغت مكتوب العاملي ومنظومه (إن كنت رِيحًا فقد لاقيت إعصارًا)، وهو على فراش الموت، وكان يبتهل إلى الله الذي قواه ومكنه من الرد عليها، فلله دره.

ويهًا يا أهل السنة، هكذا ينبغي أن نكون، (إن الحديد بالحديد يُفلَح).

ولما حمل الإمام محمد بن عبدالوهاب على أهل الشرك والبدع، وأفحمهم بالحجج الواضحات الدامغات والبينات الساطعات، رأَوا أن مقاومته مما لا سبيل إليها، فراغوا رَوغانَ الثعلب، وعمدوا إلى نافقاء[16] المحجوجين حُوشِي الكلام [وَحْشيُّه وغريبه] شُبَه لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

فما يستوي داعي الضلالةِ والهدَى ♦♦♦ ولا حجَّة الخصمَيْنِ حقٌّ وباطلُ

إلا أن تلك الشُّبَه وقفت حجر عَثْرةٍ في طريق الجهلة المريدين للحق، يعرف ذلك من دعا إلى التوحيد، فكان الواجب تفتيتَها.

وإن من جملة الافتراءات، ومسلسل الشبهات الفارغة التي تهوَّعها أعداء السلفية، وقاموا بها على قَدَم وساق؛ للتنفير من الشيخ ودعوته (الطعن في انتماء الشيخ)، ويدور هذا الطعن على محورين:

المحور الأول: الانتماء الإقليمي، وتتجه مُقَلُ الطاعنين إلى أن الشيخ ينتمي للأقطار التالية:

1- المشرق.

2- نجد.

3- اليمامة.

أما المشرق، فقد ذمَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((رأس الكفر نحو المشرق))؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه[17].

وأما نجد، فقد ورد في ذم نجد الحجاز - زعَموا - ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لنا في شامِنا، اللهم بارك لنا في يمنِنا))، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا، قال: ((اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا))، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: ((هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان)).

وأما اليمامة، فهي بلاد مُسَيلمة الكذَّاب المدَّعي للنبوة.

هذا ما تمسَّكوا به ولا متمسك لهم فيه، وقال قائل منهم - كذبًا وزورًا -: إن لغةَ أهل اليمامة أركُّ اللغات، فأين تأتي لهم الفصاحة والمعرفة[18].

ولقد أمرُّ على اللئيمِ يَسبُّنِي ♦♦♦ فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنِيني

ومن صناديد هذه الدعوى: ابن جرجيس، ودحلان، وابن عفالق، والحداد، واللكنهوري، والنَّبهاني، والعاملي، والغماري، وزلق في هذا الخندق المشؤوم مؤلِّف كتاب (فصل الخطاب أو الصواعق الإلهية) - فكانت فلتة ثم رجع - ومؤلف كتاب (جلاء الغمة)، فقد فرط منه ما فرط من هذه الاعتراضات، نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، ويتوب الله على من تاب.

المحور الثاني: الانتماء القَبَلي:

قالوا - واعجَبْ يا ذا الحجا -: إن الشيخ محمد بن عبدالوهاب من (قبيلة بني تَميم)، و(عبدالله بن ذي الخُوَيصرة) تميميٌّ، فهما من أصل وعشيرة ومعدِن واحد، ويحتمل أنه من نسله وعقبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: ((إنه يخرج من ضئضئ هذا قومٌ يتلون كتاب الله رطبًا، لا يُجاوز حناجرهم، يمرُقون من الدِّين كما يمرُق السهم من الرميَّة - وأظنه قال - لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتلَ ثمود))[19].

وقالوا: أُنزِل في بني تميم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحجرات:4].

هذا ما تمسكوا به فسبحان الله! أي تمسُّك لهم فيه؟ لكنه الهوى، والذي تولى كِبَرَ هذه الدعوى الآثمة: العاملي، ودحلان، وغيرهما[20].

وهذه الاعتراضات شبه الريح، ولا يمكن اعتبارُها إلا بعد إثبات مقدمات ستمرُّ بها في موضعها إن شاء الله، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات، فكيف بإثباتها كلها، وسيمرُّ بك نسفُ هذه الاعتراضات وإبطالها، والجواب عليها بأجوبة مجملة ومفصلة إن شاء الله تعالى.

حُججٌ تهافَتُ كالزجاجِ تخالُها ♦♦♦ حقًّا وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ

وإن تعجب فاعجَبْ لهذه العقول المعترِضة على الشيخ ودعوته بهذه الاعتراضات المتهافتة، الباعثة على السخرية، لقد أضحكت العاقل حتى زجا [انقطع ضحكه] وَيْكأنَّهم لا يعلمون أنه طيب الأرومة، وهب أنه من أصل دنيءٍ - وحاشاه - أُيتْرَكُ دينُ الله وتوحيدُه ودعوة رسله لأجل ذلك؟! لقد بلغ هؤلاء المعترِضون نصَّ الجهل [منتهاه].

وقد كنت أرغب بنفسي عن ردِّ مثل هذه الترَّهات، لكن أضَّنِي [ألجأني واضطرني] إلى ردِّها معرفتي بوجود شريحةٍ من الناس وابصة سمع [يثق بكل ما يسمعه] بهذه الزمرة، تتبعها كيعاسيب النحل، وقد جأجأت وهأهأت بهم[21]، وصدق ظني، لقد اغتر كثيرون بزخرف قولهم، ووقعوا في حبائلهم ومكائدهم.

وعذرُ هذه الطائفة المحسورة واضحٌ جليٌّ: هو الإفلاس من الحجة والبرهان فـ(أين يضع المخنوق يده)، قال أبو حيان فيما كتبه في الرد على الزمخشري:

ويشتمُ أعلامَ الأئمةِ ضلةً                       ولا سيَّما أنْ أوردُوه المَوارِدا 

ويُسهِبُ في المعنى الوجيزِ دلالةً            بتكثيرِ ألفاظِ تسمَّى الشقاشقا 

وهذه الاعتراضات ليست مرحلة مرَّت وانتهت وذهبت أدراج التاريخ، كلا، بل لا تزال، وما زال ينشأ متزعمون لها يذكونها ويحاولون إعادتها جذعة كما كانت.

صحيحٌ أن حدَّة تلك الدعاوَى تتفاوت حيث تشتدُّ رائحتها النتنة تارةً، وتضعف أخرى، غير أن إهابَها لم يُطوَ قطُّ منذ عهد الشيخ إلى يومنا هذا.

ومتى يُطوَى إهابُها وهي تتجدد وتتردد على الألسنة؟! ويتناقلها المُغرضون بقصد التشويه؟! ويتوارثها المنحرفون على حد قول القائل:

أُساجِلُك العداوةَ ما بَقِينا ♦♦♦ وإن مُتْنَا نُورِّثُها البَنِينا

ويزيد الطينُ بِلةً، أن تلك الكتب المدوَّنة فيها تلك المقالات يُعاد طبعها مرة بعد مرة، ولها صداها في بعض المجتمعات.

يقول الشيخ عبدالعزيز العبداللطيف: "إن دعاوى الخصوم واعتراضاتهم ضد دعوة الشيخ الإمام في زمنه، يتلقفها من بعدهم، ثم الذين يَلُونهم، وهكذا إلى زمننا هذا"[22].

ولا أكتمُك سرًّا أخي، إننا هذا الأيام في حاجة ملحَّة إلى وجود رسالة مستقلَّة تجمع تلك الدَّعاوَى وتُفنِّدُها، بطريقة علمية منهجية، وتظهر منزلة انتماء الشيخ؛ لتُكْعَم[23] أفواه المتحاملين عليه وعلى دعوته الإصلاحية.

إننا والله في الساعة الحاسمة واللحظة الحرجة، مع هذه الحملة الشرسة ضد الإسلام وعقيدة التوحيد ودعوة الشيخ، والتي سخرت لها وسائل الإعلام ونزع من أجلها أمان اللسان، وأطلقت الأقلام، فلقائلٍ أن يقول ما شاء، ولكاتب أن يكتب ما يريد، تحت المظلة الخاسرة (حرية الرأي والتعبير)!

إن جمهور أولئك المتحاملين على الشيخ المتجهِّمين لانتمائه، لا يجهلهم حقيقة الأمر، والشأن كما قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾ [البقرة: 89]، وفي المثل: (لا تَعدَمُ الحسناءُ ذامًا).

حسَدوا الفتى إِذْ لم ينالوا سعيَهُ               فالكلُّ أعداءٌ له وخصومُ 

كضرائرِ الحسناءِ قُلْنَ لوجهِها                     حسدًا وبَغيًا إنه لَدمِيمُ 

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "الحاسد لم يحمله على معاداة المحسود جهلُه بفضله أو كماله، وإنما حمله على ذلك فسادُ قصده وإرادته، كما هي حال أعداء الرسل مع الرسل".

ومثل هذه الشبه - وإن كانت باطلة، ونوعًا من الجهل والهذيان - بيدَ أن لها آذانًا مُصْغِية وفئامًا مُصيخةً ولكل ساقطةٍ لاقطةٌ، وقد تُروَّجُ على أوغاد الناس، فلا بد من دحضها

قد قيل ما قيل إنْ صدقًا وإنْ كذبًا ♦♦♦ فما اعتذارُك مِن قولٍ إذا قيلا

وبهذا يتبين أن هذه السطور إنما أكتبُها لطبقةٍ خاصة، حال دون قناعتهم بالدعوة الإصلاحية تلك البلابل المثارة حول انتماء الشيخ الإقليمي والقبلي، لا إلى طبقة الصيارفة الذين يُميِّزون بين الحق والباطل بالميزان الصحيح، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الحق أبلج لا يخفى على فطن)، وإن كان الكثير يسجدون - إن شاء الله - فيما كتبته ونقلته فوائد عظيمة ربما لم تخطر ببالهم.

وقد ذكَّرتني هذه التهم الجذماء، والمحاولات البتراء، بمقالة الكوثري ومحاولته الفاشلة في الحطِّ من الإمامين الجليلين: الإمام مالك بن أنس الأصبحي مولى التيميين بالحلف رحمه الله، حيث اتهمه بأنه من الموالي، والإمام محمد بن إدريس الشافعي القرشي المطَّلبي رحمه الله؛ حيث حاول الكوثري خدش الإجماع على قرشيته[24]، ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ ﴾ [الذاريات: 53]؟! إنها سبيل مَن انحرف عن الجادة ﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [البقرة: 118].

ثم إن فريق الطاعنين في انتماء الشيخ، لما أثاروا تلك الأكاذيب، وقعوا في ورطة، وحاق بهم مكرهم السيئ، لقد لَفَتوا الانتباه إلى قضية مهمة، وكأنهم يقولون: (يا نائم، استيقظ)، و(يا غافل، انتبه)، إلى أسلوب جديد من خلاله تدفع شبهة وتظهر حجة، فالشيخ وسلالته، بل ومعظم تلاميذه من الجزيرة العربية ذات الخصائص في الإسلام، ومن العرب، بل وعرب الجزيرة، ومن قبيلة بني تميم أشد الناس على الدجال، وعلى جنسه من الدجَّالين، وهذا من دواعي كتابة هذه الرسالة، وأملي أن يلحق هذا الجهد المتواضع بسلسلة الجهود الإسلامية المبذولة في الذب عن الإمام ونصرة دعوته.

 

ومَن نظر نظرة واعية عميقة، أدرك ما في إظهار تلك الخصائص والسمات التي حَظِيت بها ملة الإسلام وعقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم، وما تميزت به الجزيرة العربية وأقاليمها - ومنها نجد واليمامة - والفضائل والمناقب الواردة في العرب عمومًا، وعرب الجزيرة خصوصًا، وفي قبيلة بني تميم - قبيلة الشيخ - وجمعها في كتيب مستقل (جمع العاقل الذي غرضه الخير ويتحرَّاه جهده)، من فوائد جليلة تتعلَّق بدعوة الشيخ؛ من أهمها:

1- إبراز بِنْية الشيخ التحتية المؤلَّفة من عدة عناصر دينية وطبيعية حسنة، وما قامت به من دور كبير في تكوين عقلية الشيخ وتحريك عواطفه وإرادته.

2- إظهار حسن اعتقاد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وحسن منهجه الناتج عنهما البركة في حصيلته العلمية، والتوفيق والتسديد في دعوته الإصلاحية.

3- تطهير الدعوة السلفية من شُبَه المناوئين، فالذبُّ عن رائدِها وحامل لوائها ذبٌّ عنها.

4- إبطال محاولات خَدْش بائسة، قام بها بعض الهابطين من خصوم الشيخ؛ للتشكيك في علوم ودعوة الشيخ وأبنائه وأحفاده وتلامذتهم[25]، فدِهْليز الطعن في هذه الأمور القدحُ في الشيخ.

5- أن صفاتِ الشيخ وسجاياه نابعة عن جِبلَّة واكتساب.

6- أن جهاد الشيخ في صدِّ باطل الدَّجَاجِلة من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فالشيخ من بني تميم، (إن الشِّراك قُدَّ من أديمه).

7- أن دعوة الشيخ في إظهار التوحيد والسنة وقمع الشرك والبدعة من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أيضًا.

8- أن السلفية باقية إلى آخر الزمان.

9- التعريف بمكانة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله الدينية والعلمية والعِرقية، وصدق أبو تمام؛ حيث قال:

وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلةٍ                طُوِيَتْ أتاح لها لسانَ حَسُودِ 

لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورتْ         ما كان يُعرفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ 

فتلخَّصَ لنا أن إظهار فضائلِ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وكشف الشبهات المناوئة له، سبب في ودِّه والبعدِ عن سبِّه.

قال عثمان بن صالح السهمي: كان أهل مصر ينتقصون عثمانَ، حتى نشأ فيهم الليثُ بنُ سعدٍ، فحدَّثهم بفضائل عثمان، فكفوا عن ذلك.

وكان أهل حمصٍ ينتقصون عليًّا، حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش، فحدَّثهم بفضائله، فكفوا عن ذلك[26].

وبهذا تتضح أهمية هذه الرسالة، فإن أهمية الشيء بحسب ثمرته ومقصوده.

لقد جمعتُ بين دفتَيْ هذه الرسالة المختصرة - تذكرةً وذخيرةً للمستفيد - مادةً علمية كافية للاعتراف بفضل جزيرة العرب، وإقليم نجد واليمامة، وبفضل فرقة العرب، وقبيلة بني تميم.

وفي كل هذا دلالة واضحة على أن جذور الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله جذورٌ مباركة.

وهذه مهمة هذه الرسالة.

إن هذه الخلفية المؤلَّفة من تلك الفضائل القائمة على الدين الحق والعقيدة الصحيحة والمنهج السلفي، ساهمت في تشكيلِ عقل الشيخ، وتكوين شخصيته العلمية الدعوية، وإعداده ونشأته، (لا ينتطح في ذلك كَبْشان)؛ فقلِّبْ ناظرَيْكَ في مزايا تلك الخلفية بوعيٍ وإنصاف تُدرِكْ أن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ما مَثَله إلا كمَثَل البقلة المباركة بالأرض الطيبة يمدُّها الماء العذب.

أيها القارئ النبيل، اعلم - أرشدني الله وإياك - أنه مهما يجول قلمي في تقرير تلك المزايا المذهبية والإقليمية والعِرقية، فإن آخِيَّته[27] التي يرجع إليها ليُجلِيَها وذبَّ عنها دعوةَ الشيخ التجديدية.

 

وقبل أن أضع قلمي من هذه المقدمة، أحب أن أُجلِّي للقارئ الكريم منهجي في هذه الرسالة في نقاط:

• خرجت الأحاديث، وحكمتُ على ما يسَّر الله لي منها على طريقة المحدثين، وما تقتضيه قواعدُهم.

وفي المبحث الثاني من الفصل الثالث شيء من التوسع في الجمع والتخريج[28].

• ذكرت ما يحتاج إليه كل حديث؛ من بيان لمعنى لفظ غريب، أو تعليق على معنى ذي صلة بموضوع البحث.

أما الخطة التي سِرْتُ عليها:

فقد سِرْتُ على تقسيم الرسالة إلى أقسام وفصول مُعنونةٍ حسب صناعة التصنيف؛ للتسهيل على القارئ؛ فاشتملت على مقدمة، وقسمين، وخاتمة، وفهارس، على النحو التالي:

المقدمة: وتشتمل على: الافتتاحية، والداعي لكتابة الرسالة، وأهميتها ومهمتها، ومنهجها، والخطة التي سرت عليها، وكل ذلك بشكل موجز.

التمهيد: تأثير الأصل على الإنسان.

الأقسام: وهي كالتالي:

القسم الأول: ترجمة موجزة للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله؛ ويتكون من توطئة، وثلاثة فصول:

التوطئة: الوسطية في الشيخ.

الفصل الأول: اسمه ونسبه - كنيته ووالدته - مولده ووفاته - أسرته - عصره.

الفصل الثاني: نشأته العلمية - رحلاته - سَعَة علمه - أقوال العلماء فيه - صفاته وأخلاقه - شيوخه وتلامذته.

الفصل الثالث: حقيقة دعوته - جهاده وصبره في تبليغ دعوته - مؤلفاته - أصول أقواله وفتاويه - أسباب عداوته.

 

القسم الثاني: انتماء الشيخ، ويتكون من ثلاثة فصول:

الفصل الأول: انتماء الشيخ المذهبي - وهو تاج هذه الرسالة - وينتظم في توطئة وثلاثة مباحث:

المبحث الأول: المذهب الاعتقادي.

المبحث الثاني: المذهب المنهجي.

المبحث الثالث: المذهب الفقهي.

الفصل الثاني: انتماء الشيخ الإقليمي، وينتظم في توطئة، وثلاثة مباحث:

المبحث الأول: الجزيرة العربية، ويحتوي على مطلبين:

المطلب الأول: حدودها.

المطلب الثاني: خصائصها.

المبحث الثاني: نجد، ويحتوي على مطلبين:

المطلب الأول: حدودها.

المطلب الثاني: أهميتها.

المبحث الثالث: اليمامة، ويحتوي على مطلبين:

المطلب الأول: حدودها.

المطلب الثاني: أهميتها.

الفصل الثالث: انتماء الشيخ العِرقي، وينتظم في توطئة، ومبحثين:

المبحث الأول: الفرقة (العرب)؛ ويحتوي على مطلبين:

المطلب الأول: حد العرب.

المطلب الثاني: فضل العرب؛ وفيه فرعان:

أ- العرب عامة.

ب- عرب الجزيرة.

المبحث الثاني: القبيلة (تميم)، مزاياها ومناقبها وفضائلها.

الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي أمكن التوصل إليها من البحث.

أهم التوصيات: اقتصرت على أربع وصايا مهمة.

الفهارس، وتشتمل على:

1- فهرس الآيات القرآنية.

2- فهرس الأحاديث النبوية.

3- فهرس الآثار.

4- فهرس المصادر والمراجع.

5- فهرس الموضوعات.

ولا أدَّعي أنني استكملتُ جميع جوانب البحث، ولكن ما لا يُدرك كله لا يترك كله ﴿ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 233].

وأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذه الرسالة مؤلفَها وقارئَها، وأن نُعذر عما فيها من قصور، ولا بد أن يوجد فيها هذا الأمر، فإن الكمال لكتاب الله وحده، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

وما منا إلا ناقِد ومنتَقَدٌ، والناقد بصيرٌ، والمُوفَّقُ مَن كَثُر صوابُه وقلَّ خطؤُه.

فإن تَجِدْ عيبًا فسُدَّ الخَلَلَا ♦♦♦ فجَلَّ مَن لا عيبَ فيه وعَلَا

وأقول كما قال البهوتي في مقدمة كتابه (الكشاف):

أستغفر الله تعالى مما يقع لي من الخلل في بعض المسائل المسطورة، وأعوذ بالله من شر حاسد يريد أن يُطفِئَ نور الله، ويأبى الله إلا أن يُتم نوره، ومن عثر على شيء مما طغَى به القلم، أو زلَّتْ به القدم، فليَدرَأْ بالحسنة السيئة، ويحضر بقلبه أن الإنسان محلُّ النسيان، وأن الصفح عن عثرات الضعاف من شيم الأشراف، وأن الحسنات يذهبن السيئات، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب[29].

وإني على يقينٍ تامٍّ أن هذه الرسالة لو راجعتُها مرة أخرى لبدَّلْتُ فيها وعدَّلْتُ، ولحذفتُ منها وأضفتُ، وهذه جادة مَن كتب:

كم من كتاب قد تصفحتُه                   وقلتُ في نفسيَ صَحَّحْتُه 

ثم إذا طالعتُه ثانيًا                             رأيتُ تصحيفًا فأصلحتُه 

قال الربيع بن سليمان: قرأتُ كتاب (الرسالة المصرية) على الشافعي نيفًا وثلاثين مرة، فما من مرة إلا كان يُصحِّحُه، ثم قال الشافعي في آخره: أبى الله أن يكون كتابٌ صحيحٌ غيرَ كتابه، قال الشافعي: يدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82][30].

وقال العماد الأصفهاني:

"إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيد هذا لكان يُستحسَنُ، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضلَ، ولو تُرِكَ هذا لكان أجملَ، هذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر"؛ اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد كلام سابق عن بعض المصنفات، وما يوجد فيها من أحاديث غلط فيها بعض رواتها -: "ومثل هذا يوجد في غالب كتب الإسلام، فلا يسلم كتاب من الغلط إلا القرآن"[31].

وبعد هذه الديباجة، وتشنيف الآذان بقول الأعيان، فيا أيها القارئ الكريم، إن كان هناك فائدةٌ ترى إلحاقها، أو هفوةٌ ترى إصلاحَها، فبصدر رحب أتلقَّاها، وحقُّك عليَّ الدعاء والثناء، وليس عيبًا الإلحاق ولا الإصلاح.

قال الإمام الشافعي رحمه الله:

"إذا رأيتَ الكتاب فيه إلحاق وإصلاح، فاشهَد له بالصحة"[32]، وإني أعترف كل الاعتراف بقصر باعي، وقلة بضاعتي، والمُوفَّقُ مَن وفَّقه الله.

وختامًا ألفتُ الانتباه إلى أن جميع ما قلت ونقلت؛ من مناقب وفضائل قطرٍ أو جنس أو قبيلة أو شخص، لا يفهم من فحواه - إطلاقًا - الغض مما عداه، معاذ الله! ومَن سبق إلى فهمه شيء من ذلك، وأن هناك إيماءً وإشارة إلى غمط أحد، فقد أبعد النجعة.

نزلوا بمكةَ في قبائلِ هاشمٍ ♦♦♦ ونزلتُ بالبيداءِ أبعدَ منزلِ

وأعود مرة أخرى مؤكدًا، فأقول: اقتضائي إلى الكلام في الخصائص والفضائل ما أحدثه المناوئون من همز الشيخ في انتمائه، والتداعيات السيئة لذلك الهمز الكاذب، ولولا ذلك لما أقحمتُ نفسي في حمأةِ الانتماء، ألا فليَعْلَمْ هذه الحقيقة كلُّ قارئ لهذا الكتاب.

وأسأل الله جل وعلا أن يخلص له قصدي، ويصوب عملي، ويصلح نيتي

وقد آن الشروع في المقصود، فبالله نستعين

بقلم فضيلة الشيخ المحدث: علي بن عبد الله النمي حفظه الله


[1] يراجع في حال نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وبعد دعوته ما كتبه كلٌّ من: حسين بن أبي بكر بن غنام ت: 1225هـ، ومحمد بن عمر الفاخري ت: 1277هـ، وعثمان بن أحمد بن بشر ت: 1367هـ، في تواريخهم؛ حيث استوعبوا أخبار نجد، ووصفوا حال أهلها وصفًا مطولًا.

[2] عبدالرحمن آل الشيخ: المطلب الحميد، المقامات ص11.

[3] حسن: رواه أبو داود 4291، والطبراني في الأوسط 6523، وابن عدي في الكامل 1/ 114، والحاكم في المستدرك 4/ 522، وأبو عمرو الداني في الفتن 364، والبيهقي في المعرفة 422 ومناقب الشافعي 1/ 55، والخطيب في تاريخ بغداد 2/ 61 - 62، والهروي في ذم الكلام 1107، والحسن بن سفيان في مسنده؛ عون المعبود: 11385، وابن حجر في التأسيس ص 46، كلهم من طريق ابن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه فيما أعلم، عن رسول الله صلى الله عيه وسلم به.

عند الحاكم والهروي شرحبيل، وتحرف عند الطبراني أبو طلحة بدل أبي علقمة، قال الطبراني: لا يُروَى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن وهب.

وقال أبو داود: رواه عبدالرحمن بن شريح الإسكندراني لم يُجِز به شراحيل.

قال السخاوي المقاصد الحسنة 238: سعيد الذي رفعه أولى بالقبول لأمرين: أحدهما أنه لم يختلف في توثيقه بخلاف عبدالرحمن، فقد قال فيه ابن سعد: إنه منكر الحديث، والثاني أن معه زيادة علم على مَن قطعه، وفي عون المعبود 11/ 397: قال المنذري: الراوي لم يجزم برفعه؛ انتهى.

قلتُ: نعم، ولكن مثل ذلك لا يقال من قِبل الرأي، إنما هو من شأن النبوة، فتعيَّن كونه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم؛ اهـ، وقال السخاوي المقاصد الحسنة 238: وقوله فيما أعلم، ليس بشك في وصله؛ بل قد جعل وصله معلومًا له، وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث؛ اهـ، والحديث، قال في عون المعبود 11/ 396: سكت عنه المنذري، وقال العلقمي في شرح الجامع الصغير: قال شيخنا: اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح، وممن نص على صحته من المتأخرين: أبو الفضل العراقي وابن حجر، ومن المتقدمين: الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل؛ انتهى، وصححه الصفدي "النوافح العطرة" 345، والألباني الصحيحة: 599، وذكره الشيخ مقبل في كتابه الصحيح المسند من دلائل النبوة ص525، وجوَّد إسناده شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله.

[4] أبو الطيب: عون المعبود 11/ 386.

[5] محمد رشيد: مقدمة التعريف بكتاب صيانة الإنسان؛ ص 26 - 27.

[6] أي: جوابًا واحدًا.

[7] محمد رشيد: مقدمة التعريف بكتاب صيانة الإنسان ص 38.

[8] البدء: السيد الأول في السيادة، والثنيان: الذي يليه في السُّؤدد.

[9] البخاري 3، مسلم 160 من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.

[10] مسلم 3005: حدثنا هداب بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به.

[11] الشاطبي: الاعتصام 1/ 37 - 38.

[12] عبداللطيف آل الشيخ: مصباح الظلام ص14.

[13] عبدالرحمن آل الشيخ: فتح المجيد ص 5.

[14] الأَزَابِي: واحدها أُزْبِيٌّ، وهو الشر والأمر العظيم.

[15] النِّطَع: هو الغار الأعلى من الفم.

[16] موضع يجعله اليربوع في مؤخر الجُحرِ رقيقًا يعده للخروج، إذا أتى من باب الجحر دفعه برأسه وخرج منه.

[17] مالك 2/ 970، ومن طريقه البخاري 3125، ومسلم 52، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة به.

[18] انظر: مصباح الظلام ص 234 - 235؛ لعبداللطيف آل الشيخ.

[19] متفق عليه.

[20] انظر: مصباح الظلام لعبداللطيف آل الشيخ ص 234 - 235، ودعاوى المناوئين؛ إعداد: عبدالعزيز العبداللطيف ص 178 - 183، وصيانة الإنسان للسهسواني ص 563، 568.

[21] جأجأت بالإبل: إذا دعوتها للشرب، وهأهأت بها: إذا دعوتها للعلف.

[22] عبدالعزيز العبداللطيف: دعاوى المناوئين ص 11.

[23] الكعام: شيء يجعل على فم البعير؛ قال ابن بري: وقد يجعل على فم الكلب لئلَّا ينبح.

[24] انظر: التنكيل ص 607، وص 618 - 628.

[25] ومن أبرز أبناء الشيخ وأحفاده ممن سار على مدرجته وسلكوا سبيله، وكان لهم الفضل الكبير في الدعوة إلى توحيد المرسلين ونشر الدين وقمع المبتدعين: الشيخ: عبدالله بن الشيخ محمد ت: 1244هـ، وابنه الشيخ سليمان بن عبدالله ت: 1233هـ، والشيخ عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد ت: 1285هـ، وابنه الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن ت: 1293هـ، وابنه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف بن عبدالرحمن ت: 1339هـ والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن ت: 1389

وتلاميذ الشيخ من غير سلالته وتلاميذ تلاميذه لهم جهود جبارة في الدعوة إلى التوحيد والقضاء على مظاهر الشرك والبدع، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

لقد جاهدوا في الله حق جهاده               إلى أن أقاموا بالضبا كلَّ مائلِ 

لقد نصَروا دين الإلهِ وحزبَهُ                     كما دمغوا داعِي الهوا بالقنابلِ 

عليهم سلامُ اللهِ ما ذرَّ شارق                  وما اهتزَّت الأزهار في صبح هاطلِ 

[26] المزي: تهذيب الكمال 24/ 271.

[27] الآخِيَّةُ: حبيل أو عويد يعرض في الحائط ويُدفن طرفاه فيه، ويصير وسطه كالعُروة وتشد فيها الدابة؛ النهاية: 1/ 29.

[28] وذلك لأنها كانت رسالة مستقلة بعنوان: (تميم ما لها وما عليها في حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم)، قد أنهيتها عام 1418هـ، وتناولها مني مَن تناولها مسوَّدة، وفي أثناء العام نفسه قمتُ بعرضها على بعض الفضلاء؛ منهم الشيخ عائض بن عبدالله القرني الذي ساهم فيها - جزاه الله خيرًا - ببعض الأبيات الشعرية، كتبها بيده، ستمر بك في موضعها - إن شاء الله تعالى - فأحببت أن ألحقها على وضعها، إلا أني تصرفت فيها قليلًا،  وأضفت إليها، وحذفت منها شيئًا يسيرًا.

[29] البهوتي: كشاف القناع 1/ 10.

[30] البيهقي: مناقب الشافعي 2/ 36.

[31] ابن تيمية: الفتاوى 18/ 71 - 72.

[32] البيهقي: مناقب الشافعي 2/ 36.