عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الإِسْلَامُ لَا يَتَغَيَّرُ
قَالَ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا). قَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَاتَ".
وَقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ بِالإِجْمَاعِ القَطْعِيِّ - الَّذِي مَنْ خَالَفَهُ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ – عَلَى أَنَّ الأُمَّةَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى دِينٍ غَيْرِ الدِّينِ الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَأَنَّهُ لَا إِسْلَامَ غَيْرُ الإِسْلَامِ الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 
فَهُوَ الإِسْلَامُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ، فَلَا يَقْبَلُ إِسْلَامًا سِوَاهُ، فَهُوَ النِّعْمَةُ التَّامَّةُ، وَالمِنَّةُ الكَامِلَةُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَطْوِيرٍ أَوْ تَغْيِيرٍ، وَلَا إِلَى تَرْمِيمٍ أَوْ تَجْدِيدٍ، وَلَا إِلَى تَبْدِيلٍ أَوْ تَعْدِيلٍ، وَلَا إِلَى إِضَافَةٍ أَوْ حَذْفٍ.
فَمَنْ رَامَ إِلَى ذَلِكَ خَطْوَةً - وَلَوْ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَقَصْدُهُ المَصْلَحَةُ - فَقَدْ أَغْضَبَ اللهَ وَاسْتَحَقَّ عِقَابَهُ وَانْتِقَامَهُ، قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ).
فَاللهُ هُوَ المُشَرِّعُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ، فَشَرْعُ اللهِ مُحْكَمٌ، وَأَحْكَامُهُ صَالِحَةٌ لِكُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ، وَزَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلَيْسَ هُوَ بِنِظَامٍ أَوْ قَانُونٍ خَاضِعٍ لِلتَّصْوِيتِ، وَلَا بِوَصَفَاتٍ طِبِّيَّةٍ تَتَغَيَّرُ حَسَبَ الاكْتِشَافَاتِ، وَلَا بِتَصْمِيمَاتٍ هَنْدَسِيَّةٍ تُجَدَّدُ لِتُوَاكِبَ التَّغَيُّرَاتِ الحَضَارِيَّةَ، وَلَا بِاخْتِرَاعَاتٍ تِقْنِيَّةٍ تُطَوَّرُ لِلتَّنَافُسِ مَعَ الشَّرِكَاتِ المُصَنِّعَةِ. 
 
 فَدِينُ اللهِ رَبَّانِيٌّ سَمَاوِيٌّ، دِينُ مِلَّةٍ وَدَوْلَةٍ، لَيْسَ دِينًا مُحَرَّفًا، وَلَا فِكْرًا مُغْلَقًا، وَلَا تَعْلِيمَاتٍ بَشَرِيَّةً جَامِدَةً، تَمْنَعُ مِنَ التَّقَدُّمِ الحَضَارِيِّ، وَتَحُولُ دُونَ التَّطَوُّرِ الصِّنَاعِيِّ؛ حَتَّى يُخْرَجَ عَلَيْهِ فَيُمَيَّعَ، وَيُفْصَلَ عَنِ الدَّوْلَةِ، وَيُحْجَرَ عَلَيْهِ فِي المَسَاجِدِ؛ بَلْ هُوَ دِينٌ حَضَّ عَلَى كُلِّ تَطَوُّرٍ وَتَقَدُّمٍ وَقُوَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَ التَّطَوُّرِ وَالتَّقَدُّمِ وَالقُوَّةِ: التَّغْيِيرُ فِي دِينِ اللهِ، وَالتَّطَاوُلُ عَلَى شَرْعِهِ.
لَقَدْ خَتَمَ اللهُ النُّبُوَّةَ، فَقَالَ: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)، وَقَطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّرِيقَ عَلَى كُلِّ مُقَدِّمٍ لِلْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ، وَعَلَى كُلِّ صَاحِبِ رَأْيٍ وَهَوًى؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وَثَبَتَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ وَالطَّائِفَةِ المَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، قَالَ: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
لَقَدْ أَخْرَجَ اللهُ بِالإِسْلَامِ الأَصِيلِ العَرَبَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالعَيْلَةِ وَالضَّعْفِ إِلَى أَنْ فَتَحُوا البِلَادَ، وَذَلَّتْ لَهُمُ العِبَادُ، وَمَلَكُوا عَرْشَ كِسْرَى عَظِيمِ الفُرْسِ، وَعَرْشَ قَيْصَرَ عَظِيمِ الرُّومِ، وَأُنْفِقَتْ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَمَا جَعَلَ اللهُ عَلَى الأُمَّةِ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَرَخَّصَ لَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَعَذَرَهَا حَالَ الإِكْرَاهِ، وَنَدَبَهَا إِلَى ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ وَأَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ، وَتَقْدِيمِ أَقَلِّ المَفْسَدَتَيْنِ دُونَ تَشْرِيعٍ وَإِبَاحَةٍ عَلَى الدَّوَامِ. 
 
قَالَ تَعَالَى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ)، وَقَالَ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ)؛ أَيْ: يُطِيعُونَهُمْ فِي تَحْلِيلِ الحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الحَلَالِ.
وَالأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ نَوْعَانِ: أَدِلَّةٌ نَقْلِيَّةٌ وَأَدِلَّةٌ عَقْلِيَّةٌ؛ فَالنَّقْلِيَّةُ هِيَ: الكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعُ، وَالعُرْفُ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ. وَالعَقْلِيَّةُ هِيَ: القِيَاسُ، وَالمَصَالِحُ المُرْسَلَةُ، وَالاسْتِحْسَانُ، وَالاسْتِصْحَابُ، وَالذَّرَائِعُ.
فَالأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً، وَتَجْرِيَ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَمُرَادِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 
وَالأَدِلَّةُ العَقْلِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُطَبَّقَ وَفْقَ مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ، لَا إِلَى الهَوَى وَشَهَوَاتِ النَّاسِ، وَمَجَالُ العَمَلِ بِهَا فِيمَا يَسَعُ فِيهِ الاجْتِهَادُ، لَا مَا كَانَ فِيهِ نَصٌّ مِنَ الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ. قَالَ تَعَالَى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
وَقَدِ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَعُلَمَاءُ الأُمَّةِ عَلَى أَنَّ العِبْرَةَ بِمَا قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنَصَّ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ أَقْوَالَهُمْ تُعْرَضُ عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ مَا خَالَفَهُمَا يُضْرَبُ بِهِ عُرْضُ الحَائِطِ، وَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ رِوَايَاتٍ أَوْ قَوْلٍ قَدِيمٍ وَقَوْلٍ جَدِيدٍ، إِنَّمَا هُوَ لِوُقُوفٍ عَلَى دَلِيلٍ أَوْ لِرُجُوعٍ، حَيْثُ اسْتَبَانَ لَهُمْ ثُبُوتُ الحَدِيثِ أَوْ ضَعْفُهُ، أَوْ لِفَهْمٍ حَادِثٍ أَدَقَّ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَحْتَمِلُ مِثْلَ ذَلِكَ، لَا أَنَّ الفَتْوَى القَائِمَةَ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ.
قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: لَقَدْ أَلَّفْتُ هَذِهِ الكُتُبَ وَلَمْ آلُ جُهْدًا فِيهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا الخَطَأُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). فَمَا وَجَدْتُمْ فِي كُتُبِي هَذِهِ مِمَّا يُخَالِفُ الكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ، فَقَدْ رَجَعْتُ عَنْهُ.
أَلَا فَاعْلَمْ - يَا رَعَاكَ اللهُ - أَنَّ نَفْسَكَ وَعِرْضَكَ وَمَالَكَ وَنَسْلَكَ قَطْعًا لَا تَقْبَلْ فِيهَا إِلَّا حُكْمَ اللهِ وَشَرْعَهُ، لَا اجْتِهَادَ مُجْتَهِدٍ، وَلَا رَأْيًا وَلَا فِكْرًا؛ لِئَلَّا تَخْسَرَ فِي لَحْظَةٍ شَيْئًا مِنْهَا، كَذَلِكَ فَلْيَكُنْ قَوْلُكَ فِي أَمْرِ دِينِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ أَلْطَفُ بِكَ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ وَأَرْحَمُ مِنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ.