عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

إنكم إذن مثلهم
١- قال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ).
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ الآيَةِ، الدَّلَالَةُ الوَاضِحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ البَاطِلِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ.
وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ فِي المَجْلِسِ مِنَ الكَذِبِ لِيُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ، فَيَسْخَطُ اللهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، فَقَالَ: صَدَقَ أَبُو وَائِلٍ، أَوَ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ؟ وَتَلَا هَذِهِ الآيَةَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: "أَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ قَوْمًا عَلَى شَرَابٍ فَضَرَبَهُمْ، وَفِيهِمْ صَائِمٌ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا صَائِمٌ! فَتَلَا: "فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ".
فَيَا بَاغِيَ الخَيْرِ اجْتَهِدْ فِي طَلَبِ مَجَالِسِ العِلْمِ وَالقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَمَوَاقِعِهَا الإِلِكْتُرُونِيَّةِ، فَإِذَا اسْتَفَدْتَ مِنْ أَهْلِهَا حُضُورِيًّا أَوْ عَنْ بُعْدٍ، فَإِنَّكَ إِذًا مِثْلُهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَالقُرْبَةِ.

 ٢- قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
قَالَ مُجَاهِدٌ: "نُهِيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى، فَإِذَا ذَكَرَ فَلْيَقُمْ". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
فَهَذَا نَهْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِأَفْضَلِ أَنْبِيَائِهِ وَإِمَامِ أَوْلِيَائِهِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العَبْدِ الشَّاكِرِ الَّذِي غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَكَيْفَ بِأَمْثَالِنَا وَقَدْ أَحَاطَتْ ذُنُوبُنَا بِنَا إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ مِنَّا.
فَلَا نَحْمِلُ يَا عِبَادَ اللهِ أَوْزَارًا مَعَ أَوْزَارِنَا بِقُعُودِنَا فِي المَجَالِسِ الَّتِي يُعْصَى اللهُ فِيهَا جِهَارًا نَهَارًا.
قَالَ القُرْطُبِيُّ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ): "فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ المَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ".
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَعَلَيْكَ - يَا رَعَاكَ اللهُ - بِرِيَاضِ الجَنَّةِ، أَعْنِي مَجَالِسَ الذِّكْرِ، وَمَا أَكْثَرَهَا - وَللهِ الحَمْدُ - حُضُورِيًّا وَإِلِكْتُرُونِيًّا!

 ٣- قال تعالى: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... الآية).
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَوْلُهُ: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؛ أَيْ: إِذَا تَجَنَّبُوهُمْ فَلَمْ يَجْلِسُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ بَرِئُوا مِنْ عُهْدَتِهِمْ، وَتَخَلَّصُوا مِنْ إِثْمِهِمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَذَكَرَ إِسْنَادَهُ إِلَى أَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قَوْلُهُ: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، قَالَ: مَا عَلَيْكَ أَنْ يَخُوضُوا فِي آيَاتِ اللهِ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ؛ أَيْ: إِذَا تَجَنَّبْتَهُمْ وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا)؛ أَيْ: دَعْهُمْ وَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.
فَالوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ فَيَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُنْكِرَ بِقَلْبِهِ إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَعْتَزِلَ أَمَاكِنَ المُنْكَرَاتِ، فَإِنْ شَهِدَهَا فَهُوَ مِنْهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُمْ، وَفِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ مَا يَشْغَلُ عَنْهُمْ.


 ٤- قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).
عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)، قَالَ: لَا يَسْمَعُونَ الغِنَاءَ.
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)، قَالَ: الْغِنَاءَ وَاللَّهْوَ. 
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَوْلَى الأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِهِ أَنْ يُقَالَ: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ شَيْئًا مِنَ البَاطِلِ، لَا شِرْكًا، وَلَا غِنَاءً، وَلَا كَذِبًا، وَلَا غَيْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ)، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِاللَّغْوِ هَا هُنَا: المَعَاصِي كُلُّهَا.
وَأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: اللَّغْوُ كُلُّهُ الْمَعَاصِي.
وَمَعْنَى الآيَةِ: وَإِذَا مَرُّوا بِمُنْكَرٍ فَسَمِعُوهُ أَوْ رَأَوْهُ غَيَّرُوا بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَإِلَّا كَرِهُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَتَرَكُوا مَكَانَهُ، وَهَجَرُوا أَصْحَابَهُ هَجْرًا جَمِيلًا، حَتَّى لَا يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي الإِثْمِ.
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَلْتَمِسَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ لِتَحُفَّهُ المَلَائِكَةُ، وَتَغْشَاهُ الرَّحْمَةُ، وَتَنْزِلَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَيَذْكُرَهُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ.

 ٥- قَالَ تَعَالَى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
لَقَدِ اسْتَحَقَّ هَؤُلَاءِ الوَاقِعُونَ فِي المَعْصِيَةِ وَالعُدْوَانِ اللَّعْنَ الرَّبَّانِيَّ، وَهُوَ الطَّرْدُ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَمِثْلُهُمْ مَنْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ، وَمَنْ شَهِدَ مُنكَرَهُمْ، وَكَثَّرَ سَوَادَهُمْ، وَدَاهَنَهُمْ تَهَاوُنًا بِمَآثِمِهِمْ وَمَحَارِمِهِمْ. 
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: لَعَنَهُمْ: مَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ أَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ: الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ مُسِخُوا قِرَدَةً، وَالَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى مُسِخُوا خَنَازِيرَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَعَنْ جَدِّ عَدِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ، حَتَّى يَرَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَذَّبَ اللهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ".
وَاللَّبِيبُ مَنْ يَقْصِدُ أَمَاكِنَ الذِّكْرِ الَّتِي تُحْيِي القُلُوبَ، لَا أَمَاكِنَ اللَّهْوِ وَالذُّنُوبِ.


 ٦- قَالَ تَعَالَى: (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ).
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "أَيْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ فِي مَجَالِسِهِمْ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ فِيهَا، لَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ". انتهى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الأُمُورُ - يَعْنِي المُنْكَرَة - فِي بَعْضِ عُصَاةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَالتَّنَاهِي وَاجِبٌ. انتهى.
لَقَدْ عَمَّتِ الآيَةُ أَهْلَ النَّادِي بِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ فِي مَجَالِسِهِمُ المُنْكَرَ، وَلَمْ تَسْتَثْنِ مَنْ يَشْهَدُ دُونَ أَنْ يَفْعَلَ، وَفِي هَذَا العُمُومِ إِشَارَةٌ وَتَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَشْهَدُ المُنْكَرَ لِيَقْعُدَ وَيَنْظُرَ مِثْلُهُمْ آثِمٌ، فَهُمُ الحُثَالَةُ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ.
وَلَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ أَهْلَ سَدُومٍ، فَمَا نَجَا إِلَّا لُوطٌ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ – وَأَهْلُهُ، إِلَّا امْرَأَتَهُ هَلَكَتْ مَعَ مَنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُمَالِئُهُمْ عَلَى المُنْكَرَاتِ.
فَمَا أَعْظَمَهَا مِنْ عِبْرَةِ، وَمَا أَبْلَغَهَا مِنْ عِظَةٍ!
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: "إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَمَرَ بِقَرْيَةٍ أَنْ تُعَذَّبَ، فَضَجَّتِ الْمَلَائِكَةُ، قَالَتْ: إِنَّ فِيهِمْ عَبْدَكَ فُلَانًا، قَالَ: أَسْمِعُونِي ضَجِيجَهُ، فَإِنَّ وَجْهَهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ غَضَبًا لِمَحَارِمِي". رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ فِي "الشُّعَبِ"، وَقَالَ: "هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنْ قَوْلِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا".

 ٧- قَالَ تَعَالَى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: النَّاسُ رَجُلَانِ: فَرَجُلٌ مُحْسِنٌ، فَخُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ إِحْسَانِهِ، وَلَا تُكَلِّفْهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَلَا مَا يُحْرِجُهُ. وَإِمَّا مُسِيءٌ، فَمُرْهُ بِالمَعْرُوفِ، فَإِنْ تَمَادَى عَلَى ضَلَالِهِ، وَاسْتَعْصَى عَلَيْكَ، وَاسْتَمَرَّ فِي جَهْلِهِ، فَأَعْرِضْ عَنْهُ.
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)؛ أَيْ: إِذَا أَقَمْتَ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ، وَأَمَرْتَهُمْ بِالمَعْرُوفِ، فَجَهِلُوا عَلَيْكَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّهُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا عَمِلَ فِيهِمُ الْعَامِلُ الْخَطِيئَةَ، فَنَهَاهُ النَّاهِي تَعْذِيرًا، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَالَسَهُ وَوَاكَلَهُ وَشَارَبَهُ، كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ عَلَى خَطِيئَةٍ بِالْأَمْسِ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْتَنْهُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى أَيْدِي الْمُسِيءِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ، وَفِيهِ: "نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ ... الحَدِيث". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، إِلَّا أَنَّ القَاعِدَ مُتَهَاوِنًا فِي مَجْلِسٍ يُعْصَى اللهُ فِيهِ، هُوَ أَيْضًا عَاصٍ فِي كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.


 ٨- قَالَ تَعَالَى: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ).
أَيْ: فَنَادَتْ ثَمُودُ رَئِيسَهُمْ عَاقِرَ النَّاقَةِ "قُدَارَ بْنَ سَالِفٍ"؛ لِيَعْقِرَ نَاقَةَ نَبِيِّهِمْ صَالِحٍ، الَّتِي أَخْرَجَهَا اللهُ مِنَ الصَّخْرَةِ آيَةً لَهُمْ وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ، (فَتَعَاطَى فَعَقَرَ)؛ فَتَنَاوَلَ النَّاقَةَ بِيَدِهِ فَعَقَرَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ).
فَالعُقُوبَةُ عَمَّتْهُمْ جَمِيعًا؛ إِذِ الرَّاضِي مِثْلُ الفَاعِلِ، بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا)؛ أَيْ: أَشْقَى القَبِيلَةِ، وَاسْمُهُ "قُدَار"، رَجُلٌ وَاحِدٌ قَامَ بِعَقْرِ النَّاقَةِ، قَالَ تَعَالَى: (فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا)، نَسَبَ العَقْرَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لِرَضَاهُمْ عَنْ عَقْرِهِ لِلنَّاقَةِ. 
وَقَوْلُهُ: (فَسَوَّاهَا)؛ أَيْ: سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي العُقُوبَةِ، فَالرَّاضِي مِثْلُ المُبَاشِرِ فِي الغَضَبِ وَالإِهْلَاكِ، وَكَذَلِكَ الحَاضِرُ المُتَهَاوِنُ؛ لِأَنَّ فِي حُضُورِهِ تَأْيِيدًا وَتَشْجِيعًا.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا)، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أُحَيْمِرَ ثَمُودَ أَبَى أَنْ يَعْقِرَهَا، حَتَّى بَايَعَهُ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، فَلَمَّا اشْتَرَكَ القَوْمُ فِي عَقْرِهَا دَمْدَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا.

 ٩- قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
إِجْمَالِيُّ الآيَاتِ: أَنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَلَا - أَهْلَكَ الوَاقِعِينَ فِي المَعْصِيَةِ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ قَبُولِهِمُ النَّصِيحَةَ، وَأَنْجَى وَمَدَحَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى الوَعْظِ لَهُمْ وَاعْتِزَالِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَسَكَتَ عَنِ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ فَتْرَةً وَاعْتَزَلُوهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْهُمْ فَيُثْنِيَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ سَكَتُوا، وَلَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى وَعْظِهِمْ، حَيْثُ يَئِسُوا مِنْهُمْ وَعَلِمُوا أَنَّ اللهَ سَيُهْلِكُهُمْ أَوْ يُعَذِّبُهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ أَهْلَكَهُمْ مَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِاقْتِرَافِ المَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالانْقِطَاعِ عَنْ وَعْظِ العُصَاةِ. 
وَلِابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: أَنَّهُمْ هَلَكُوا، أَنَّهُمْ نَجَوْا، التَّوَقُّفُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَجَا النَّاهُونَ، وَهَلَكَ الفَاعِلُونَ، وَلَا أَدْرِي مَا صَنَعَ بِالسَّاكِتِينَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا أَدْرِي: أَنَجَى الَّذِينَ قَالُوا: "أَتَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ"، أَمْ لَا؟ قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَرَّفْتُهُ أَنَّهُمْ نَجَوْا، فَكَسَانِي حُلَّةً.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَعَدَتْ طَائِفَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَأَبْنَائِهَا وَنِسَائِهَا، وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ ذَاتَ الْيَمِينِ وَتَنَحَّتْ، وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ ذَاتَ الْيَسَارِ وَسَكَتَتْ .. إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلٌّ قَدْ كَانُوا يَنْهَوْنَ، فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللهِ نَجَتِ الطَّائِفَتَانِ، وَأَهْلَكَ اللهُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ - وَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ -: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا أَثْلَاثًا: ثُلُثٌ نَهَوْا، وَثُلُثٌ قَالُوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ)، وَثُلُثٌ أَصْحَابُ الخَطِيئَةِ، فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنَّ رُجُوعَهُ إِلَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ فِي نَجَاةِ السَّاكِتِينَ، أَوْلَى مِنَ القَوْلِ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ حَالُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.


 ١٠- قَالَ تَعَالَى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
لَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ رُؤُوسَ الإِفْسَادِ فِي مَدِينَةِ ثَمُودَ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ تِسْعَةً، وَأَهْلَكَ المُتَوَاطِئِينَ مَعَهُمْ وَالرَّاضِينَ بِمَعْصِيَتِهِمْ.
وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا المُؤْمِنُونَ صَالِحٌ – عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَنْصَارُهُ الَّذِينَ اتَّقَوُا اللهَ، فَكَرِهُوا فِعْلَهُمْ، وَاعْتَزَلُوا مُنْكَرَهُمْ، وَقَامُوا بِوَاجِبِ النَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ حَسَبَ الاسْتِطَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (وَلَيسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 إنكم إذن مثلهم
١١- عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بأَوَّلِهِم وَآخِرِهِمْ". قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بَأَوَّلِهِم وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنهُمْ؟ قَالَ: "يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِم وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ: "يُخْسَفُ بِهِ، وَلَكِنْ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ". أَيْ: يُخْسَفُ بِالْجَمِيعِ لِشُؤْمِ الْأَشْرَارِ، ثُمَّ يُعَامَلُ كُلُّ أَحَدٍ عِنْدَ الْحِسَابِ بِحَسَبِ قَصْدِهِ. 
قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّ مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فِي الْمَعْصِيَةِ مُخْتَارًا، أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَلْزَمُهُ مَعَهُمْ. قَالَ: وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَالِكٌ عُقُوبَةَ مَنْ يُجَالِسُ شَرَبَةَ الْخَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ. انتهى.

 ١٢- عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ»، وَعَقَدَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ عَشَرَةً، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: "الْخَبَثُ"؛ أَيِ: المَعَاصِي، وَمَعْنَاهُ أَنَّ المَعَاصِيَ إِذَا كَثُرَتْ فَقَدْ يَحْصُلُ الْهَلَاكُ الْعَامُّ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ صَالِحُونَ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: عَبَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنَامِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَنَعْتَ شَيْئًا فِي مَنَامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ! فَقَالَ: «الْعَجَبُ، إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ بِالْبَيْتِ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ، قَالَ: «نَعَمْ، فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ، وَالْمَجْبُورُ، وَابْنُ السَّبِيلِ، يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أَمَّا الْمُسْتَبْصِرُ فَهُوَ الْمُسْتَبِينُ لِذَلِكَ، الْقَاصِدُ لَهُ عَمْدًا، وَأَمَّا الْمَجْبُورُ فَهُوَ الْمُكْرَهُ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ، فَالْمُرَادُ بِهِ سَالِكُ الطَّرِيقِ مَعَهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَيَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا؛ أَيْ: يَقَعُ الْهَلَاكُ فِي الدُّنْيَا عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَيَصْدُرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَصَادِرَ شَتَّى؛ أَيْ: يُبْعَثُونَ مُخْتَلِفِينَ عَلَى قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ، فَيُجَازَوْنَ بِحَسَبِهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ: التَّبَاعُدُ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وَمُجَالَسَةِ الْبُغَاةِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْمُبْطِلِينَ؛ لِئَلَّا يَنَالَهُ مَا يُعَاقَبُونَ بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُمْ فِي ظَاهِرِ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا. انتهى.