عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 

شخصيات في القرآن

1- قَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ).
فَالشَّخْصِيَّاتُ المَوْجُودَةُ فِي القُرْآنِ، مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ، وَمِنْهُمُ الكُفَّارُ، وَمِنْهُمُ الأَبْرَارُ، وَمِنْهُمُ الفُجَّارُ، فَفِي القُرْآنِ أَفْضَلُ الخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَفِيهِ أَشْقَى الخَلْقِ وَأَرْذَلُهُمْ وَأَقْبَحُهُمْ، وَهُوَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ، المَطْرُودُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّ العَالَمِينَ. 
وَفِي القُرْآنِ النَّبِيُّ وَالوَلِيُّ وَالشَّقِيُّ، وَشَخْصِيَّاتٌ صَالِحَةٌ، وَأُخْرَى طَالِحَةٌ، وَالمَقْصُودُ مِنَ المُرُورِ عَلَى مَنْ ذَكَرَهُمُ اللهُ فِي كِتَابِهِ: الاقْتِدَاءُ بِالأَخْيَارِ، وَالحَذَرُ مِنْ مُشَابَهَةِ الأَشْرَارِ، وَالوَلَاءُ لِلصَّالِحِينَ، وَالبَرَاءُ مِنَ المُجْرِمِينَ، وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا: (يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ)، فَنَسْأَلُهُ الهِدَايَةَ إِلَى صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ.

 
2- قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا)
لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَشَرَّفَهُ بِأُمُورٍ عَدِيدَةٍ؛ مِنْهَا: خَلْقُهُ لَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَنَفْخُهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمْرُهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَتَعْلِيمُهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِسْكَانُهُ وَزَوْجُهُ الجَنَّةَ السَّمَاوِيَّةَ، وَتَوْبَتُهُ عَلَيْهِ وَاجْتِبَاؤُهُ إِيَّاهُ، بَعْدَ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ عَنِ الأَكْلِ مِنْهَا، وَاصْطَفَاهُ نَبِيًّا. 
وَكَرَّمَ بَنِيهِ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ، وَأَذَلَّ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ وَأَخْزَاهُ، وَطَرَدَهُ هُوَ وَذُرِّيَّتَهُ المَرَدَةَ أَعْدَاءَ الإِنْسَانِيَّةِ.
 
3- قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)
فَهَذَا الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ وَالطَّرْدَ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ)، وَلِأَنَّ نَفْسَهُ خَبِيثَةٌ شِرِّيرَةٌ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ وَتَكَبَّرَ، وَأَخَذَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَصُدَّ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَكَانَ تَبْرِيرُهُ لِمَعْصِيَتِهِ فِي غَايَةِ القُبْحِ.
فَمَعَاذَ اللهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا العُنْصُرُ النَّارِيُّ الشِّرِّيرُ مِنَ العُنْصُرِ النُّورِيِّ المَلَائِكِيِّ. 
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ".
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ".

 
4- قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)؛ يَعنِي جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَاحِبَ المَكَانَةِ العَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الحَاجِبِ مِنَ المَلِكِ، وَهُوَ أَفْضَلُ المَلَائِكَةِ وَأَشْرَفُهُمْ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ إِلَى نَبِيِّهِ بِالقُرْآنِ وَالحَدِيثِ اللَّذَيْنِ هُمَا رُوحُ الحَيَاةِ الحَقِيقِيَّةِ، فَكَانَ جِبْرَائِيلُ رُوحًا وَرَحْمَةً، كَمَا أَنَّهُ فِي مُنْتَهَى القُوَّةِ، قَالَ تَعَالَى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ)، فَحَازَ شَرَفَ التَّعْلِيمِ وَالقُوَى المُتَعَدِّدَةِ، فَقَدْ حَمَلَ قَرْيَةَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَى جَنَاحِهِ، وَسَدَّ الأُفُقَ بِأَجْنِحَتِهِ، فَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَحَسْبُهُ شَرَفًا وَرُتْبَةً قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي وَصْفِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)؛ يَعْنِي جِبْرِيلَ، (ذِي قُوَّةٍ)؛ أَيْ: لَا تَعْدِلُهَا قُوَّةٌ، (عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)، فَهُوَ ذُو مَكَانَةٍ عِنْدَ اللهِ، (مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)، فَالمَلَائِكَةُ تُطِيعُهُ، وَهُوَ أَمِينٌ عِنْدَ رَبِّهِ عَلَى وَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ وَمَا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ، فَأَيُّ شَرَفٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الشَّرَفِ؟!

 
5- قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا)، وَقَالَ تَعَالَى لَهُ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا).
فَخَلِيلُ اللهِ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اصْطَفَاهُ اللهُ، فَهُوَ إِمَامُ المُوَحِّدِينَ، وَوَالِدُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَالأُسْوَةُ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ:
وَلَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدِ
فَهُوَ أَفْضَلُ الخَلْقِ بَعْدَ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ خَصَّهُمَا اللهُ تَعَالَى بِذِكْرِنَا إِيَّاهُمَا فِي الصَّلَاةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "الكَلِمَاتُ الَّتِي ابْتَلَى اللهُ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ فَأَتَمَّهُنَّ: فِرَاقُ قَوْمِهِ فِي اللهِ حِينَ أُمِرَ بِمُفَارَقَتِهِمْ، وَمُحَاجَّتُهُ نُمْرُودَ فِي اللهِ، وَصَبْرُهُ عَلَى قَذْفِهِ إِيَّاهُ فِي النَّارِ لِيَحْرِقُوهُ فِي اللهِ، وَالهِجْرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَطَنِهِ وَبِلَادِهِ فِي اللهِ، حِينَ أَمَرَهُ بِالخُرُوجِ عَنْهُمْ، وَمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الضِّيَافَةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ".
قَالَ تَعَالَى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ)؛ أَيْ: فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ، عَلَى أَكْمَلِ قَصْدٍ، وَأَتَمِّ فِعْلٍ، وَأَسْلَمَ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

 
6- قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
هَذَا الطَّاغُوتُ يُقَالُ لَهُ: نُمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ كُوشَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، اسْتَجْهَلَ قَوْمَهُ وَاسْتَخَفَّ بِعُقُولِهِمْ، فَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّةَ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا. 
قَالَ قَتَادَةُ: يُقَالُ لَهُ نُمْرُودُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَلِكٍ تَجَبَّرَ فِي الأَرْضِ، وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ بِبَابِلَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَلَكَ الأَرْضَ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَالمُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَذُو القَرْنَيْنِ، وَالكَافِرَانِ: بُخْتَنَصَّرُ، وَنُمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ، لَمْ يَمْلِكْهَا غَيْرُهُمْ.
لَقَدْ أَقَامَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الحُجَّةَ عَلَى هَذَا الكَافِرِ بِالنِّعْمَةِ، الجَاحِدِ لِلْمِلَّةِ، بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الرَّبُّ الخَالِقُ المُدَبِّرُ، المُسْتَحِقُّ لِلْأُلُوهِيَّةِ، المُتَفَرِّدُ بِالعُبُودِيَّةِ، فَلَمَّا تَكَبَّرَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِ - أَحْقَرَ خَلْقِهِ، وَأَصْغَرَ جُنْدِهِ – بَعُوضَةً، فَدَخَلَتْ فِي مِنْخَرِهِ، حَتَّى صَارَ يُضْرَبُ بِالمِرْزَبَّةِ عَلَى رَأْسِهِ لِيَهْدَأَ أَلَمُهَا، فَلَا يَهْدَأُ إِلَى أَنْ مَاتَ.

 
7- قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)؛ يَعْنِي يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا، وَجِهَارًا. 
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، قَالَ الحَسَنُ: "هَذَا حَبِيبُ اللهِ، هَذَا وَلِيُّ اللهِ، هَذَا صِفْوَةُ اللهِ، هَذَا خِيرَةُ اللهِ، هَذَا أَحَبُّ الخَلْقِ إِلَى اللهِ". 
وَقَدْ مَدَحَ اللهُ نُوحًا بِالعُبُودِيَّةِ، وَكَثْرَةِ الحَمْدِ وَالشُّكْرِ، قَالَ تَعَالَى: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)، قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ، وَلِبَاسِهِ، وَشَأْنِهِ كُلِّهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: "النَّاسُ كُلُّهُمْ ذُرِّيَةُ مَنْ أَنْجَى اللهُ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ مَا نَجَا فِيهَا يَوْمَئِذٍ غَيْرُ نُوحٍ وَامْرَأَتِهِ، وَثَلَاثِ نِسْوَةٍ، وَثَلَاثَةِ بَنِينَ لَهُ، وَهُمْ: سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ؛ فَأَمَّا سَامٌ: فَأَبُو العَرَبِ؛ وَأَمَّا حَامٌ: فَأَبُو الحَبَشِ؛ وَأَمَّا يَافِثُ: فَأَبُو الرُّومِ.
 
8- قَالَ تَعَالَى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ).
فَيَامُ بْنُ نُوحٍ أَغْرَقَهُ اللهُ لِكُفْرِهِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَ الحَسَنِ، فَقَالَ: "نَادَى نُوحٌ ابْنَهُ"، لَعَمْرُ اللهِ مَا هُو ابْنُهُ! «يَعْنِي الحَسَنُ أَنَّهُ رَبِيبُهُ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، يَقُولُ: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ، وَتَقُولُ: لَيْسَ بِابْنِهِ؟! قَالَ: أَفَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الَّذِينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُنَجِّيَهُمْ مَعَكَ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الكِتَابِ أَنَّهُ ابْنُهُ. قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الكِتَابِ يَكْذِبُونَ". 
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هُوَ ابْنُهُ، مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ". 
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَكَ ابْنَ نُوحٍ، أَبْنُهُ؟ فَسَبَّحَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يُحَدِّثُ اللهُ مُحَمَّدًا: "وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ" وَتَقُولُ: لَيْسَ مِنْهُ؟! وَلَكِنْ خَالَفَهُ فِي العَمَلِ، فَلَيْسَ مِنْهُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ.

 
9- قَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا).
لَقَدْ أَثْنَى اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ إِدْرِيسَ بِأَنَّهُ صِدِّيقٌ نَبِيٌّ، رَفِيعُ المَكَانَةِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَوَصَفَهُ اللهُ بِأَنَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. 
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ خَيَّاطًا، فَكَانَ لَا يَغْرِزُ إِبْرَةً إِلَّا قَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ"، فَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ أَفْضَلَ عَمَلًا مِنْهُ".
وَقِيلَ: كَانَ أَوَّلَ بَنِي آدَمَ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ بَعْدَ آدَمَ وَابْنِهِ شِيثَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، فِي الْإِسْرَاءِ: أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. (يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالابْنِ الصَّالِحِ). 
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيضًا: بَابُ ذِكْرِ إِدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَهُوَ جَدُّ أَبِي نُوحٍ، وَيُقَالُ: جَدُّ نُوحٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -.

 
10- قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).
قَالَ المُفَسِّرُونَ: إِلْيَاسُ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ، نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - وَلَيْسَ هُوَ إِدْرِيسَ - مِنْ نَسْلِ شِيثَ بْنِ آدَمَ، وَاخْتُلِفَ فِي مَوْطِنِهِمَا، فَقِيلَ: إِدْرِيسُ بِبَابِلَ، وَإِلْيَاسُ بِبَعْلَبَكَّ. 
وَقَالَ البُخَارِيُّ: "وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ". وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَيُؤَيِّدُ أَنَّ إِدْرِيسَ لَيْسَ هُوَ إِلْيَاسَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: أَنَّ إِدْرِيسَ قَبْلَ نُوحٍ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الكَثِيرُ؛ بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ آدَمَ، مَا يَزِيدُ عَنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ.
وَمَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ كَانُوا عَلَى الإِسْلَامِ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ.
 
١١- قال تعالى: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ).
فَأَوَّلُ تَسَاؤُلٍ: لِمَ خَصَّ اللَّهُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ قَدْ عَمَّهُمَا؟
وَالْجَوَابُ: خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمَا.
وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ..." الْحَدِيث. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَتَخْصِيصُ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ بِالذِّكْرِ لِعَظِيمِ شَأْنِهِمْ؛ فَجِبْرِيلُ أَمِينُ الْوَحْيِ مُوَكَّلٌ بِالْهُدَى، وَمِيكَائِيلُ أَمِينُ الْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ مُوَكَّلٌ بِالرِّزْقِ، وَإِسْرَافِيلُ الْمُوَكَّلُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّوْرِ.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ: "مَا لِي لَا أَرَى مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ؟!" قَالَ: "مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ".
قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْمَدَنِيِّينَ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.

 
١٢- قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
فَأَيُّ تَزْكِيَةٍ بَعْدَ هَذِهِ التَّزْكِيَةِ الرَّبَّانِيَّةِ؟ فَأَنْعِمْ وَأَكْرِمْ بِنَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ، كَانَ كَثِيرَ الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ، رَجَّاعًا إِلَى اللَّهِ، تَوَّابًا إِلَيْهِ.
وَهُوَ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الَّذِي جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، بَيْنَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ). فَقَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِمُلْكٍ لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَنْ يَحْصُلَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ.
قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ).
فَجَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ نَعِيمِ الدُّنْيَا - فَلَا يَصِلُ أَحَدٌ إِلَى مِثْلِهِ - وَنَعِيمِ الآخِرَةِ.
 
١٣- قَالَ تَعَالَى: (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ).
وَقَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ). 
فَدَاوُدُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ مَلِكٌ، قَدْ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مَا لَمْ يُسَخِّرْ لِغَيْرِهِ، إِلَّا مَا سَخَّرَ اللَّهُ لِابْنِهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
لَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مُلْكًا عَظِيمًا، وَحُكْمًا نَافِذًا، وَفَهْمًا ثَاقِبًا.
وَقَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِقُوَّةٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: "أُعْطِيَ قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ، وَفِقْهًا فِي الْإِسْلَامِ". 
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَانَ لَا يَمْضِي سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِلَّا وَأَهْلُ بَيْتِهِ فِي عِبَادَةٍ. 
وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)؛ وَهَذِهِ قُوَّةٌ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: (خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ – أَيِ: الزَّبُورُ -، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، يَعْكُفُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالدَّوَابُّ عَلَيْهِ.
وَيَكْفِيهِ شَرَفًا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ - إِلَى قَوْلِهِ: - أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).
 
١٤- قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ).
فَهَذِهِ وَاللَّهِ مَكَانَةٌ عَالِيَةٌ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَدْ أَدْنَاهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ، وَأَعْلَى مَنْزِلَتِهِ، وَجَعَلَهُ نَبِيًّا مُقَرَّبًا، وَمَلِكًا مُوَقَّرًا، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا). 
وَقَدْ خَصَّ آدَمُ ابْنَهُ دَاوُدَ؛ بِأَنْ زَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا هِبَةً مِنْ عُمْرِهِ الْبَالِغِ أَلْفَ عَامٍ؛ لِيُصْبِحَ عُمْرُ دَاوُدَ مِائَةَ عَامٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: كَانَ دَاوُدُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ أَغْلَقَ الْأَبْوَابَ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ. قَالَ: فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَغُلِّقَتِ الدَّارُ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ: مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ؟!، وَاللهِ لَنَفْتَضِحَنَّ بِدَاوُدَ. فَجَاءَ دَاوُدُ فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ فِي وَسَطِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنا الَّذِي لَا أَهَابُ الْمُلُوكَ، وَلَا أُمْنَعُ مِنَ الْحِجَابِ. فَقَالَ دَاوُدُ: أَنْتَ وَاللهِ إِذَنْ مَلَكُ الْمَوْتِ، مرْحَبًا بِأَمْرِ اللهِ. ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى قُبِضَتْ رُوحُهُ، فَلَمَّا غُسِّلَ وَكُفِّنَ، وَفُرِغَ مِنْ شَأْنِهِ، طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ: أَظِلِّي عَلَى دَاوُدَ.
فَأَظَلَّتْهُ الطَّيْرُ حَتَّى أَظْلَمَتْ عَلَيْهِ الأَرْضُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ: اقْبِضِي جَنَاحًا جَنَاحًا.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِينَا كَيْفَ فَعَلَتِ الطَّيْرُ، وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ. وَهِيَ الصُّقُورُ الطِّوَالُ الْأَجْنِحَةِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
 
١٥- قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
فَاصْطِفَاءُ اللَّهِ لَطَالُوتَ مِنْ بَيْنِ أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَثْرِيَائِهِمْ؛ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ لِمَنْقَبَةٍ لَهُ، وَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ، وَفَضَّلَهُ بِاعْتِدَالِ الْقَامَةِ، وَقُوَّةِ الْبَدَنِ وَصِحَّتِهِ.
وَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى قِلَّةِ مَنِ اسْتَجَابَ لَهُ؛ فَعَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: "كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ، الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَمِائَةٍ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
لَقَدْ صَبَرُوا عَلَى الِابْتِلَاءِ، وَنَجَحُوا فِي الِامْتِحَانِ، فَلَمْ يَشْرَبُوا مِنَ النَّهْرِ إِلَّا غَرْفَةً.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ نَهْرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ؛ يَعْنِي: نَهْرَ الشَّرِيعَةِ الْمَشْهُورَ. وَقَدْ تَهَيَّبُوا عَدُوَّهُمْ جَالُوتَ لِكَثْرَةِ جُنُودِهِ الْكَفَرَةِ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ ثَبَّتُوهُمْ بِأَنَّ النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ وَلَيْسَ بِالْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، فَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ فَنَصَرَهُمْ، وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ أَمِيرَ الْعَمَالِقَةِ، فَقَدَّمَهُ النَّاسُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَآلَ إِلَيْهِ الْمُلْكُ الَّذِي بِيَدِ طَالُوتَ، وَآلَتْ إِلَيْهِ النُّبُوَّةُ مِنْ بَعْدِ شَمْوِيلَ.

 
١٦- قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
لَقَدْ تَوَارَثَتِ الفَرَاعِنَةُ مِنَ العَمَالِيقِ مُلْكَ مِصْرَ، فَكَانَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، وَاسْمُهُ عَلَى مَا قِيلَ: "الوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ"، أَعْتَى الفَرَاعِنَةِ مَرَّ عَلَيْهَا، وَأَكْفَرَهُمْ وَأَفْجَرَهُمْ وَأَظْلَمَهُمْ وَأَغْلَظَهُمْ وَأَقْسَاهُمْ، وَأَسْوَأَهُمْ مَلْكَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَذَاقَهُمْ أَلْوَانَ الإِهَانَةِ وَالإِذْلَالِ، فَجَعَلَهُمْ خَدَمًا، وَاسْتَعْمَلَهُمْ فِي شُؤُونِهِ، فَسَامَهُمْ كَمَا قَالَ اللهُ: «سُوءَ الْعَذابِ»، وَعُمِّرَ فِيهِمْ عُمْرًا طَوِيلًا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِ فِرْعَوْنَ، أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا فِي مَنَامِهِ، أَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ، فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْرَبَتْ بُيُوتَ مِصْرَ، فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْقَافَةَ وَالْحَازَةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَاهُ، فَقَالُوا لَهُ: يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ الَّذِي جَاءَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهُ - يَعْنُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ - رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ هَلَاكُ مِصْرَ، فَأَمَرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا يُولَدَ لَهُمْ غُلامٌ إِلا ذَبَحُوهُ".
وَصَوَّرَ القُرْآنُ قِصَّةَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ عَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ أَبْدَعَ تَصْوِيرٍ بِدَايَةً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)، قَالَ تَعَالَى: (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ).
 
لَقَدْ تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ هَذَا الطَّاغُوتُ المَثْبُورُ الحَقِيرُ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَكَذَّبَ وَعَصَى، وَعَلَا فِي الأَرْضِ، وَسَعَى فِيهَا بِالفَسَادِ، أَسْرَفَ فِي القَتْلِ وَالبَطْشِ وَالتَّعْذِيبِ، بَغْيًا وَعُدْوَانًا وَظُلْمًا وَاسْتِبْدَادًا، وَأَلْحَدَ بَلِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَالأُلُوهِيَّةَ مَعَ عِلْمِهِ وَاسْتِيقَانِهِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَاسْتَخَفَّ ضَعَفَةَ العُقُولِ مِنْ قَوْمِهِ فَأَطَاعُوهُ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: (أَشْهَرُ مَنْ عُرِفَ تَجَاهُلُهُ وَتَظَاهُرُهُ بِإِنْكَارِ الصَّانِعِ فِرْعَونُ، وَقَدْ كَانَ مُسْتَيْقِنًا فِي البَاطِن). انتهى.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى)، قَالَ: أَمَّا الأُولَى فَحِينَ قَالَ: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، وَأَمَّا الآخِرَةُ فَحِينَ قَالَ: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى).
لَقَدْ عَاقَبَ اللهُ فِرْعَوْنَ وَأَتْبَاعَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)، وَقَالَ تَعَالَى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
فَأَرْوَاحُهُمْ فِي الحَيَاةِ البَرْزَخِيَّةِ تُعْرَضُ عَلَى النَّارِ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ اجْتَمَعَتْ أَرْوَاحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ فِي النَّارِ.
 
١٧- قَالَ تَعَالَى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).
قَالَ القُرْطُبِيُّ: "وَكَانَ اسْمُ امْرَأَةِ نُوحٍ وَالِهَةَ، وَاسْمُ امْرَأَةِ لُوطٍ وَالِعَةَ؛ قَالَهُ مُقَاتِلٌ".
وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ امْرَأَةَ نُوحٍ فِي الطُّوفَانِ؛ لِكَوْنِهَا مِنَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: "الْمُدْرِكُونَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَانَ الْغَرَقُ عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ مَصِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ".
وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ امْرَأَةَ لُوطٍ مَعَ قَوْمِهَا الظَّالِمِينَ مِنْ أَهْلِ سَدُومَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: (فَخَانَتَاهُمَا)، قَالَ: "مَا زَنَتَا، أَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ نُوحٍ فَكَانَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. وَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ لُوطٍ فَكَانَتْ تَدُلُّ عَلَى الضَّيْفِ؛ فَتِلْكَ خِيَانَتُهَا".
وَعَنْهُ، قَالَ: "كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى غَيْرِ دَينِهِمَا، فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَطَّلِعُ عَلَى سِرِّ نُوحٍ، فَإِذَا آمَنَ مَعَ نُوحٍ أَحَدٌ أَخْبَرَتْ الْجَبَابِرَةَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا؛ وَأَمَّا امْرَأَةُ لُوطٍ، فَكَانَتْ إِذَا ضَافَ لُوطٌ أَحَدًا خَبَّرَتْ بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ يَعْمَلُ السُّوءَ". 
١٨- قَالَ تَعَالَى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ اسْمُهَا آسِيَةُ ابْنَةُ مُزَاحِمٍ. وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: قِيلَ لِفِرْعَوْنَ: (ذِي الْأَوْتَادِ)؛ لِأَنَّهُ ضَرَبَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًى عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، قَالَ: "كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْأَلُ: مَنْ غَلَبَ؟ فَيُقَالُ: غَلَبَ مُوسَى وَهَارُونُ. فَتَقُولُ: آمَنْتُ بِرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فِرْعَوْنُ، فَقَالَ: اُنْظُرُوا أَعْظَمَ صَخْرَةٍ تَجِدُونَهَا، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى قَوْلِهَا فَأَلْقُوهَا عَلَيْهَا، وَإِنْ رَجَعَتْ عَنْ قَوْلِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا أَتَوْهَا رَفَعَتْ بَصَرَهَا إِلَى السَّمَاءِ فَأَبْصَرَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ، فَمَضَتْ عَلَى قَوْلِهَا، وَانْتَزَعَ رُوحَهَا، وَأُلْقِيَتْ الصَّخْرَةُ عَلَى جَسَدٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ".
فَقَوْلُهَا: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ)، قَالَ العُلَمَاءُ: اخْتَارَتِ الجَارَ قَبْلَ الدَّارِ.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي "الدُّرِّ المَنْثُورِ": أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الإيمانِ»، عَنْ سَلْمانَ، قالَ: كانَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ، فَإذا انْصَرَفُوا عَنْهَا أظَلَّتْهَا المَلَائِكَةُ بِأجْنِحَتِها، وَكَانَتْ تَرَى بَيْتَهَا فِي الجَنَّةِ.
وَأَخْرَجَ أبُو يَعْلَى، والبَيْهَقِيُّ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ فِرْعَوْنَ وَتَدَ لِامْرَأتِهِ أرْبَعَةَ أوْتادٍ فِي يَدَيْهَا ورِجْلَيْهَا، فَكَانُوا إذا تَفَرَّقُوا عَنْهَا أظَلَّتْهَا المَلائِكَةُ، فَقَالَتْ: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا في الجَنَّةِ﴾، فَكَشَفَ لَهَا عَنْ بَيْتِهَا فِي الجَنَّةِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ فِرْعَوْنَ وَتَدَ لِامْرَأتِهِ أرْبَعَةَ أوْتادٍ، وَأَضْجَعَهَا عَلى صَدْرِهَا، وَجَعَلَ عَلَى ظَهْرِها رَحًى، وَاسْتَقْبَلَ بِهَا عَيْنَ الشَّمْسِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّماءِ، فَقالَتْ: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ﴾، إِلَى: ﴿الظَّالِمِينَ﴾، فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْ بَيْتِهَا فِي الجَنَّةِ فَرَأَتْهُ. انتهى.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. 
١٩- قَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
قَالَ البَغَوِيُّ: (امْرَأَتُ عِمْرَانَ): "هِيَ حَنَّةُ بِنْتُ قَافُوذَا أُمُّ مَرْيَمَ، وَعِمْرَانُ هُوَ ابْنُ مَاثَانَ، وَلَيْسَ بِعِمْرَانَ أَبِي مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبَيْنَهُمَا أَلْفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَكَانَ بَنُو مَاثَانَ رُءُوسَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارَهُمْ وَمُلُوكَهُمْ.
لَقَدْ نَذَرَتْ أُمُّ مَرْيَمَ أَنْ تَجْعَلَ الَّذِي فِي بَطْنِهَا خَالِصًا لِلَّهِ مُفَرَّغًا لِعِبَادَتِهِ، فَلَمَّا وَلَدَتْهَا وَجَدَتْهَا بِنْتًا، فَسَمَّتْهَا مَرْيَمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ كَرَامَتَهُ، فَاخْتَارَهَا اللَّهُ وَاجْتَبَاهَا، قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، فَكَانَتْ أَمَةً شَكُورَةً؛ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهَا كَانَتْ تُكْثِرُ الصَّلَاةَ وَتُطِيلُهَا، حَتَّى وَرِمَ كَعْبَاهَا.
وَمَدَحَهَا اللَّهُ بِأَنَّهَا صِدِّيقَةٌ، فَقَالَ تَعَالَى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ). 
وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ أَمَّا لِنَبِيِّهِ الْوَجِيهِ الْمُقَرَّبِ الصَّالِحِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا يُنْسَبُ إِلَّا إِلَيْهَا، لَا إِلَى أَبٍ، فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوْحٌ مِنْهُ، صَاحِبُ الْمُعْجِزَاتِ الْخَارِقَةِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ». وَأَشَارَ وَكِيعٌ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: (سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ، فَاطِمَةُ، وَخَدِيجَةُ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُ الْكَبِيرِ رِجَالُ الصَّحِيحِ، غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ الذُّهْلِيِّ؛ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: «أفْضَلُ نِساءِ أهْلِ الجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرانِيُّ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
 
20- قَالَ تَعَالَى: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ). 
أَيْ: وَمَا كَانُوا لِيَفُوتُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ أَدْرَكَهُمُ العَذَابُ، وَعَاجَلَتْهُمُ العُقُوبَةُ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالآيَاتِ الوَاضِحَاتِ، وَيَنْقَادُوا لَهَا، لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ بَابِ الكِبْرِ.
لَقَدْ غَرَّ فِرْعَوْنَ الطَّاغُوتَ طَاغِيَةَ مِصْرَ مُلْكُهُ فَأَغْرَقَهُ اللهُ.
وَغَرَّ هَامَانَ وَزَارَتُهُ، فَهُوَ وَزِيرُ سُوءٍ لِفِرْعَوْنَ وَبِطَانَتِهِ الفَاسِدَةِ، فَأَهْلَكَهُ اللهُ مَعَ فِرْعَوْنَ. وَغَرَّ قَارُونَ وَهُوَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى وَابْنُ عَمِّهِ مَالُهُ، حَيْثُ كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ مَالًا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: كَانَتْ مَفَاتِحُ قَارُونَ تُحْمَلُ عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ" بِأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ بِسِتِّينَ رَجُلًا يَنْقُلُونَ مَفَاتِحَهُ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِهَا.
وَنِهَايَةُ كُفْرِهِ وَعَاقِبَةُ عَدَمِ شُكْرِهِ قَالَ تَعَالَى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ). 
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةَ، قَالَا: بَلَغَنَا أَنَّهُ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
 
21- قال تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا).
لَقَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بِالهِدَايَةِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ بِالعِتْقِ مِنَ الرِّقِّ، وَكَانَ وَالِدُ زَيْدٍ قَدِمَ مَكَّةَ فِي طَلَبِ ابْنِهِ زَيْدٍ، فَاخْتَارَ زَيْدٌ البَقَاءَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَبَنَاهُ رَسُولُ اللهِ. 
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ القُرْآنُ، (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) [الأحزاب: 5]». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَزَوَّجَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ ابْنَةَ عَمَّتِهِ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَقَدْ زَوَّجَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْلَاتَهُ أُمَّ أَيْمَنَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ. 
وَزَيْدٌ أَسْبَقُ المَوَالِي إِلَى الإِسْلَامِ، وَلَمْ يُسَمِّ اللهُ تَعَالَى فِي القرآن صَحَابِيًّا بِاسْمِهِ إِلَّا هُوَ.
وَشَهِدَ زَيْدٌ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ بَقِيَ لَاسْتَخْلَفَهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْهَا.
وَعَقَدَ رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْدٍ عَلَى النَّاسِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ، فَقَاتَلَ، حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَتْ مُؤْتَةُ فِي جُمَادَى الأُوْلَى، سَنَةَ ثَمَانٍ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَةً.
وَعَنْ أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْدِ بنِ حَارِثَةَ: (يَا زَيْدُ! أَنْتَ مَوْلَايَ، وَمِنِّي، وَإِلَيَّ، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ سَعْدٍ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ - يَعْنِي زَيْدًا - لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا - يَعْنِي ابْنَهُ أُسَامَةَ - لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَفِي الإِصَابَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَرَضَ عُمَرُ لِأُسَامَةَ أَكْثَرَ مِمَّا فَرَضَ لِي، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنْكَ، وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَبِيكَ. صَحِيحٌ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ فِي التُّحْفَةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ أَحَدٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ: وعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟، فَقَالَ: (أَبُوهَا)، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فَاسْتَقْبَلَتْنِي جَارِيَةٌ شَابَّةٌ. فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. 
قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
 
22- قَالَ تَعَالَى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ).
لَمَّا جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، قَامَ الشَّقِيُّ أَبُو لَهَبٍ، عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاسْمُهُ عَبْدُ العُزَّى بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْـزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "قَالَ أَبُو لَهَبٍ - عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ – لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، فَنَزَلَتْ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَالُأُولَى دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِيَةُ خَبَرٌ عَنْهُ، فَقَدْ كَانَ كَثِيرَ الأَذِيَّةِ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَمِنْ شَقَاوَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتْبَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلَامِ، فَيَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ.
وَقَدْ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِ مَرَضَ العَدَسَةِ فَمَاتَ، وَخَافَ ابْنَاهُ أَنْ يَقْتَرِبَا مِنْهُ لِيَدْفِنَاهُ، فَيُصَابَا بِالمَرَضِ، فَتَرَكَاهُ ثَلَاثًا حَتَّى أَنْتَنَ، خَشْيَةً مِنْ هَذِهِ القُرْحَةِ، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَأَسْنَدُوهُ إِلَى جِدَارٍ، ثُمَّ رَمَوْهَ بِالحِجَارَةِ.
فَهَذَا جَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي البَرْزَخِ فَإِنَّ قَبْرَهُ حُفْرَةٌ مِنَ النَّارِ، وَأَمَّا فِي الآخِرَةِ فَإِنَّهُ يُقَاسِي حَرَّ جَهَنَّمَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ". 
فَمَا أَغْنَى عَنْ هَذَا الشَّقِيِّ لَا مَالٌ وَلَا وَلَدٌ، وَلَا زَوْجٌ وَلَا حَسَبٌ وَلَا نَسَبٌ؛ بَلْ إِنَّ زَوْجَتَهُ حَمَّالَةَ الذُّنُوبِ أُمَّ جَمِيلٍ "العَوْرَاءَ أُمَّ قَبِيحٍ"، أَرْوَى بِنْتَ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ أُخْتَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَتْ عَوْنًا لِزَوْجِهَا عَلَى كُفْرِهِ وَأَذِيَّتِهِ، وَكَانَتْ تَضَعُ الشَّوْكَ فِي طَرِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، قَدْ عَاقَبَهَا اللهُ وَعَاقَبَهُ بِأَنْ تَكُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَوْنًا عَلَى عَذَابِ زَوْجِهَا أَبِي لَهَبٍ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَيْثُ تَجْمَعُ الحَطَبَ فِي النَّارِ لِإِحْرَاقِهِ. 
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: كَانَتْ لَهَا قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ، فَقَالَتْ: لَأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ؛ يَعْنِي: فَأَعْقَبَهَا اللهُ بِهَا حَبْلًا فِي جِيدِهَا مِنْ مَسَدِ النَّارِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: فِي عُنُقِهَا حَبْلٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، تُرْفَعُ بِهِ إِلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ يُرْمَى بِهَا إِلَى أَسْفَلِهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ دَائِمًا، وَعَبَّرَ بِالمَسَدِ عَنْ حَبْلِ الدَّلْوِ.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) أَقْبَلَتِ العَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا، وَدِينَهُ قَلَيْنَا، وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا ... إِلَى آخِرِهِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ مُرَّةُ الهَمَدَانِيُّ: كَانَتْ أُمُّ جَمِيلٍ تَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ بِإِبَّالَةٍ مِنَ الحَسَكِ، فَتَطْرَحُهَا عَلَى طَرِيقِ المُسْلِمِينَ، فَبَيْنَمَا هِيَ حَامِلَةٌ ذَاتَ يَوْمٍ حُزْمَةً أَعْيَتْ، فَقَعَدَتْ عَلَى حَجَرٍ لِتَسْتَرِيحَ، فَجَذَبَهَا المَلَكُ مِنْ خَلْفِهَا فَأَهْلَكَهَا.
فَالعِقَابُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ جَزَاءً وَفَاقًا.
 
23- قَالَ تَعَالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
شَخْصِيَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فِي تَقْوَى اللهِ وَخَوْفِهَا مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُمَا ابْنَانِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، فَأَمَّا الَّذِي تَقَبَّلَ اللهُ مِنْهُ القُرْبَانَ فَهُوَ هَابِيلُ، وَقُرْبَانُهُ شَاةٌ طَابَتْ بِهَا نَفْسُهُ للهِ تَعَالَى، وَاخْتَارَهَا مِنْ أَطْيَبِ غَنَمِهِ وَأَحْسَنِهَا، فَتَقَبَّلَ اللهُ مِنْهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّارَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَهُوَ أَخُوهُ قَابِيلُ، لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَقْدِيمِ القُرْبَانِ، فَاخْتَارَ شَرَّ زَرْعِهِ وَأَرْدَاهُ، فَلَمْ يَتَقَبَّلِ اللهُ مِنْهُ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ.
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نُهِيَ أَنْ تَنْكِحَ المَرْأَةُ أَخَاهَا تَوْأَمَهَا، وَأُمِرَ أَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرُهُ مِنْ إِخْوَتِهَا، وَكَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ وُلِدَ لَهُ امْرَأَةٌ وَضِيئَةٌ، وَوُلِدَ لَهُ أُخْرَى قَبِيحَةً دَمِيمَةً، فَقَالَ أَخُو الدَّمِيمَةِ: أَنْكِحْنِي أُخْتَكَ وَأُنْكِحُكَ أُخْتِي. قَالَ: لَا، أَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي، فَقَرَّبَا قُرْبَانًا، فَتُقُبِّلَ مِنْ صَاحِبِ الكَبْشِ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ، فَقَتَلَهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) فَقَرَّبَا قُرْبَانَهُمَا، فَجَاءَ صَاحِبُ الغَنَمِ بِكَبْشٍ أَعْيَنَ أَقْرَنَ أَبْيَضَ، وَصَاحِبُ الحَرْثِ بِصُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَقَبِلَ اللهُ الكَبْشَ فَخَزَنَهُ فِي الجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَهُوَ الكَبْشُ الَّذِي ذَبَحَهُ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ، كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ حَرْثٍ وَالآخَرُ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَإِنَّهُمَا أُمِرَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَإِنَّ صَاحِبَ الغَنَمِ قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا، طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَإِنَّ صَاحِبَ الحَرْثِ قَرَّبَ أَشَرَّ حَرْثِهِ الْكَوْدَنَ وَالزُّوَانَ غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -، تَقَبَّلَ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْغَنَمِ، وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْحَرْثِ، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنْ مَنَعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ إِلَى أَخِيهِ.