عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الآيات الموصوفة

حلقة ١

عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَا أَبَا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَعْظَمُ؟ "قُلْتُ: (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ)، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: "لِيَهْنِكَ العِلْمُ أَبَا المُنْذِرِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَآيَةُ الكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ الآيَاتِ، وَأَفْضَلُهَا، وَأَعْظَمُهَا، وَفَضَائِلُهَا كَثِيرَةٌ، وَمَعَانِيهَا جَزِيلَةٌ، وَفِيهَا اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ، وَالتَّوْحِيدُ الأَتَمُّ، وَاشْتَمَلَتْ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ الكَامِلَةِ، وَالأُلُوهِيَّةِ الخَالِصَةِ، وَعَلَى أَسْمَاءٍ للهِ حُسْنَى، وَصِفَاتٍ للهِ عُلْيَا، وَهِيَ الشِّفَاءُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَالحِصْنُ مِنْ كُلِّ إِيذَاءٍ، وَالحَافِظَةُ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ.

وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي الصَّبَاحِ وَالمَسَاءِ، وَعِنْدَ النَّوْمِ، وَفِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ.

وَلَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ مَعَانِيَهَا حَقَّ التَّدَبُّر؛ِ لَكَفَتْهُمْ عَنْ مَصَحَّاتٍ نَفْسِيَّةٍ، وَعِيَادَاتٍ صِحِّيَّة.

حلقة ٢

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَحْكَمُ وَأَعْدَلُ وَأَجْمَعُ آيَةٍ لِخَيْرٍ يُمْتَثَلُ، وَلِشَرٍّ يُجْتَنَبُ فِي الْقُرْآنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). "يُنْظَرُ: جَامِعُ البَيَانِ، وَتَفْسِيرُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالمُسْتَدْرَكُ."

فَالعَدْلُ - وهُوَ الوَسَطِيَّةُ وَالمُوَازَنَةُ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ -، وَالإِحْسَانُ - وَهُوَ مُرَاقَبَةُ اللهِ فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَمُشَاهَدَةُ الرَّبِّ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ وَالقَلْبِ -: مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ، فَالعَدْلُ وَالإِحْسَانُ مِيزَانُ اسْتِقَامَةِ العَقَائِدِ، وَالأَحْكَامِ، وَالأَقْوَالِ، وَالأَعْمَالِ، وَالأَخْلَاقِ، وَالآدَابِ مَعَ النَّفْسِ، وَالقَرِيبِ، وَالبَعِيدِ، وَالحَبِيبِ، وَالبَغِيضِ، فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَاليُسْرِ وَالعُسْرِ، وَبِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.

وَيَأْمُرُ اللهُ فِي الآيَةِ عَبْدَهُ بِإِيثَارِ حَقَّهُ - تَعَالَى - عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَقْدِيمِ رِضَا مَوْلَاهُ عَلَى هَوَاهُ، وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَيَنْهَى عَنْ مَسَاوِئِ الأَخْلَاقِ وَسَفَاسِفِهَا، وَلَوْ تَفَكَّرَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الآيَةِ لَوَجَدُوهَا جَامِعَةً مَانِعَةً.

قَالَ قَتَادَةُ: "لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ وَيَسْتَحْسِنُونَهُ إِلَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ خُلُقٍ سَيِّئٍ كَانُوا يَتَعَايَرُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ".

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: العَدْلُ هُوَ كُلُّ مَفْرُوضٍ، وَالإِحْسَانُ هُوَ كُلُّ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ.

وَلَمَّا سَمِعَهُنَّ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ المُلَقَّبُ بِحَكِيمِ العَرَبِ، قَالَ: "إِنِّي قَدْ أَرَاهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، فَكُونُوا فِي هَذَا الأَمْرِ رُءُوسًا، وَلَا تَكُونُوا فِيهِ أَذْنَابًا."

وَلَمَّا سَمِعَهَا الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، قَالَ: "وَاللهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَمُورِقٌ، وَأَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ بَشَر."

وَلَمَّا سَمِعَهَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَقَرَّ الإِيمَانُ فِي قَلْبِي، وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.

 حلقة ٣

جَاءَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ وَصَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الآيَةَ: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) بِـ (الفَاذَّةِ الجَامِعَةِ).

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، وأَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَحْكَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَخْوَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ - قَوْلُهُ تَعَالَى – وَذَكَرَهَا.

فَاللَّبِيبُ يَحْسِبُ لِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ حِسَابًا، فَرُبَّمَا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الخَيْرِ سَبَبٌ فِي النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَرُبَّمَا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الشَّرِّ سَبَبٌ فِي دُخُولِ النَّارِ، فَمَا بَالُكَ بِاجْتِمَاعِ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنَ الخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ؟!

وَثَبَتَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى حَمَلُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

 

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) قَالَ: مِثْقَالَ نَمْلَةٍ حَمْرَاءَ. قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: وَزَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الدُّودَةَ الحَمْرَاءَ لَيْسَ لَهَا وَزْنٌ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، يُفَسِّرُ هَذِهِ الآيَةَ: "مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ مِنْ كَافِرٍ يَرَ ثَوَابَهَا فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ خَيْرٌ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ شرٍّ مِنْ مُؤْمِنٍ يَرَ عُقُوبَتَهَا فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَخْرُجَ وَلَيْسَ لَهُ شَرّ."

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "فَهَذِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُنْبِئُ عَنْ أَنَّ المُؤْمِنَ إِنَّمَا يَرَى عُقُوبَةَ سَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَثَوَابَ حَسَنَاتِهِ فِي الآخِرَةِ، وَأَنَّ الكَافِرَ يَرَى ثَوَابَ حَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَعُقُوبَةَ سَيِّئَاتِهِ فِي الآخِرَة.

 حلقة ٤

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

أَخْرَجَهُ السِّلَفِيُّ فِي "الْمُخْتَارِ"، وعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي "تَفْسِيرِهِ"، وَأَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ، قَالَ: "مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَعْظَمَ فَرَجًا مِنْ هَذِهِ الآيَةِ."

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَرْجَى؟ فَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآيَة.

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَقُولُونَ: أَرْجَى آيَةٍ فِي القُرْآنِ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآيَة.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَوْسَعَ مِنْ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآيَة.

قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أُنَاسًا أَصَابُوا ذَنُوبًا عِظَامًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَشْفَقُوا أَنْ لَا يُتَابَ عَلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَجَدَهَا تَدْعُو مَنْ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَعَاصِي، وَإِنْ كَانَتْ شِرْكًا وَسُكْرًا وَفَاحِشَةً، أَنْ لَا يَقْنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا.

وَقَدْ حَثَّ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى أَنْ يُنِيبُوا إِلَيْهِ، وَلَا يُبْطِئُوا بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذَلِكَ الْإِسْرَافِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا وَكَثِيرًا.

قَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْآيَةِ: (وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ).

فَمَنْ مَاتَ عَلَى الكُفْرِ وَالشِّرْكِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ مَاتَ مُسْلِمًا مُصِرًّا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ، إِنْ شَاءَ عَامَلَهُ بِفَضْلِهِ فَغَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَامَلَهُ بِعَدْلِهِ فَعَاقَبَهُ.

 حلقة ٥

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَشدَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ: مَا هِيَ يَا عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، فَقَالَ: هُوَ مَا يُصِيبُ العَبْدَ مِنَ السُّوءِ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا. وَلَهُ شَوَاهِدُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ.

وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَهَنَّادٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَشَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ). فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: المَصَائِبُ وَالأَمْرَاضُ وَالْأَحْزَانُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ. وَلَهُ طُرُقٌ يَتَقَوَّى بِهَا، فَالحَدِيثُ ثَابِتٌ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَحْزَنُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ). أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي "تَفْسِيرِهِ"، والسِّلَفِيُّ فِي "الْمُخْتَارِ".

وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْتَشِرِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنِّي لَأَعْرِفُ أَشَدَّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، فَقَالَ عُمَرُ: لَبِثْنَا حِينَ نَزَلَتْ مَا يَنْفَعُنَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَخَّصَ: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا).

لَقَدْ شَقَّتِ الآيَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، حَتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَكَيْنَا وَحَزِنَّا. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.

وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِأَوْلِيَائِهِ: أَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ المَصَائِبِ الصِّغَارِ وَالكِبَارِ بِسَبَبِ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، هُوَ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، وَحَسَنَاتُهُمْ مُدَّخَرَةٌ؛ بَلْ تُضَاعَفُ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ.

وَأَمَّا الكَافِرُ: فَإِنَّهُ يُوَسَّعُ عَلَيْهِ فِي دُنْيَاهُ جَزَاءَ إِحْسَانِهِ، وَتُدَّخَرُ سَيِّئَاتُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَيُجْزَى بِهَا، وَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا.

‏حلقة ٦

أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، وَقَالَ لَهُ: (لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ). يَعْنِي: لَوْ حَقَّقُوا التَّقْوَى وَالتَّوَكُّلَ؛ لَاكْتَفَوْا بِذَلِكَ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَكْثَرَ تَفْوِيضًا مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الْآيَة.

أَيْ: كَافِيهِ هَمَّ أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَمَصَالِحَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَحَامِيهِ مِنْ كُلِّ مَا يَخْشَاهُ، وَحَفِظَ لَهُ دِينَهُ وَعِرْضَهُ وَعَقْلَهُ وَنَسْلَهُ وَمَالَهُ، وَكَانَ لَهُ عَوْنًا وَنَصِيرًا وَمُؤَيِّدًا وَظَهِيرًا.

قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.)

قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا.

وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا». رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

مَعْنَاهُ: تَذْهَبُ أوَّلَ النَّهَارِ خِماصًا: أَيْ ضَامِرةَ الْبُطونِ مِنَ الْجُوعِ، وترْجِعُ آخِرَ النَّهَارِ بِطَانًا: أيْ مُمْتَلِئةَ الْبُطُونِ.

‏حلقة ٧

قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى عِنْدِي مِنْهَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، قَالَ: اِتَّعَدَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَجْتَمِعَا، قَالَ: وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ شَبَبَةٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ أَرْجَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا إِنْ كُنْتَ تَقُولُ إِنَّهَا، وَإِنَّ أَرْجَى مِنْهَا لِهَذِهِ الأُمَّةِ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَمْرٍو - وَذَكَرَهُ -. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ الحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: فِيهِ انْقِطَاعٌ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَضِيَ مِنْهُ قَوْلَهُ: (بَلَى)، قَالَ: فَهَذَا لِمَا يَعْتَرِضُ فِي الصَّدْرِ مِمَّا يُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ.

وَلَقَدْ سَأَلَ إِمَامُ المُوَحِّدِينَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي المَوْتَى؛ لِيَزْدَادَ يَقِينًا عَلَى يَقِينِهِ وَإِيمَانًا عَلَى إِيمَانِهِ، فَيَنْتَقِلَ مِنْ عِلْمِ اليَقِينِ إِلَى عَيْنِ اليَقِينِ وَحَقِّ اليَقِينِ؛ إِذْ لَيْسَ الخَبَرُ كَالمُعَاينَةِ، وَلِأَجْلِ أَنْ يُوصِدَ البَابَ عَلَى الشَّيْطَانِ فَلَا يَشْغَلَ صَدْرَهُ بِالوَسْوَسَةِ، وَفِي مُدَافَعَةِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ أَظْهَرُ بُرْهَانٍ عَلَى صَرِيحِ الإِيمَانِ.

وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَلُطْفِهِ: أَنَّهُ تَعَالَى رَضِيَ مِنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ كَلِمَةَ (بَلَى) الدَّالَّةَ عَلَى التَّصْدِيقِ البَاطِنِيِّ وَالإِقْرَارِ الظَّاهِرِيِّ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ شَدِيدٍ وَثَقِيلٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْوَسْوَسَةِ، قَالَ: «تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

حلقة 8

أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَقُولُونَ: أَرْجَى آيَةٍ فِي القُرْآنِ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآيَة، لَكِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ نَقُولُ: إِنَّ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي»، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟» فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: "يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: «إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤْلًا»، أَوْ قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فَاسْتُجِيبَ، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي العِزِّ شَارِحُ الطَّحاوِيَّةِ أَنْوَاعَ شَفَاعَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِي:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الشَّفَاعَةُ الْأُولَى، وَهِيَ الْعُظْمَى، الْخَاصَّةُ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَأْتَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ.

النَّوْعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنَ الشَّفَاعَةِ: شَفَاعَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَقْوَامٍ قَدْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَيَشْفَعُ فِيهِمْ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَفِي أَقْوَامٍ آخَرِينَ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: شَفَاعَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِيهَا فَوْقَ مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ.

النَّوْعُ الْخَامِسُ: الشَّفَاعَةُ فِي أَقْوَامٍ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

النَّوْعُ السَّادِسُ: الشَّفَاعَةُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّهُ.

النَّوْعُ السَّابِعُ: شَفَاعَتُهُ أَنْ يُؤْذَنَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.

النَّوْعُ الثَّامِنُ: شَفَاعَتُهُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ، مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا.

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ)؛ فَالنَّبِيُّ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِضَاهُ فِي رِضَا اللهِ، وَلَا يَسُوؤُهُ مَا فِيهِ رِضَا مَوْلَاهُ، وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، أَنَّ مِنْ عُصَاةِ المُوَحِّدِينَ مَنْ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ مُدَّةً لِمَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، وَأَنَّ الكُفَّارَ مَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، فَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّار.

حلقة 9

أَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: "أَشَدُّ آيَةٍ عَلَى أَهْلِ النَّارِ: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا)، وَأَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ)."

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ – وَحَسَّنَهُ -، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: أَحَبُّ آيَةٍ إِلَيَّ فِي الْقُرْآنِ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الْآيَة.

وَبَعْدُ: فَالكُفَّارُ لَهُمْ فِي النَّارِ عَذَابٌ شَدِيدٌ، بَعْدَهُ عَذَابٌ أَشَدُّ عَلَى الدَّوَامِ لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ جَزَاءً وِفَاقًا.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: لَمْ تَنْـزِلْ عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ: (فَذُوقُوا فَلَنْ نـزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا)، قَالَ: فَهُمْ فِي مَزِيدٍ مِنَ العَذَابِ أَبَدًا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ثَلَاثَةٌ: فَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ. فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ، أَوْ صَلَاةٍ تَرَكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ذَلِكَ، وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، الْقِصَاصُ لَا مَحَالَةَ». تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ فِيهَا ضَعْفٌ، يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، فَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ وَالعِرَاقِيُّ. وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِيهِ صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى وَكَانَ صَدُوقًا، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.

فَمَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ المَعَاصِي تَحْتَ مَشِيئَةِ الرَّبِّ، إِنْ شَاءَ عَفَا رَحْمَةً، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ عَدْلًا، فَلَا يَغْتَرُّ أَحَدٌ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ وَعَفْوِهِ، فَقَدْ حَكَمَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ وَرَجْمِ الزَّانِي وَجَلْدِ الشَّارِبِ، وَأَدْخَلَ امْرَأَةً النَّارَ بِسَبَبِ هِرَّةٍ، وَأَشْعَلَ الشَّمْلَةَ نَارًا عَلَى غَالِّهَا فِي قَبْرِهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: مَنْ كَانتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْه الْيَوْمَ، قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

 ‏حلقة ١٠

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، أَنَّ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ)، إِلَى قَوْلِهِ: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

فَالمُؤْمِنُ يَجْتَهِدُ فِي طَاعَةِ اللهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ، وَإِنْ أَذْنَبَ فَلْيُبَادِرْ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى عَفُوٌّ يُحِبُّ العَفْوَ وَيُثِيبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَجْوَدُ الأَجْوَدِينَ وَأَكْرَمُ الأَكْرَمِينَ، وَأَوْسَعُ عَفْوًا وَرَحْمَةً وَمَغْفِرَةً، وَهُوَ القَائِلُ: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).

أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ تَحْتَ الآيَةِ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَحَاجَتِهِ: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا، وَلَا أَنْفَعُهُ بِنَفْعٍ أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهَا مَا أَدْخَلَ، قَالَتْ: فَأَنْـزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) ... الآيَةَ. قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَّعَ إِلَى مِسْطَحٍ نَفَقَتَهُ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنْـزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.

حلقة ١١

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى عِنْدِي لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ"، يَقُولُ: لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَ"عَسَى" مِنَ اللهِ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: سَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ".

"إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، يَقُولُ: إِنَّ اللهَ ذُو صَفْحٍ وَعَفْوٍ لِمَنْ تَابَ عَنْ ذُنُوبِهِ. انتهى.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ)؛ أَيْ: أَقَرُّوا بِهَا، وَاعْتَرَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ أُخَرُ صَالِحَةٌ، خَلَطُوا هَذِهِ بِتِلْكَ، فَهَؤُلَاءِ تَحْتَ عَفْوِ اللهِ وَغُفْرَانِهِ.

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَا: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَابْتَعَثَانِي، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ، وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا، قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَا لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قَالَا: أَمَّا القَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ قَوْمٌ تَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمُ النَّارَ، وَقَصُرَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ، قَالُوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ، قَالَ: «قُومُوا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». رَوَاهُ الحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: "وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الأَعْرَافِ."

وَبَعْدُ: فَإِنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ:

الأَوَّلُ: مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللهِ.

وَالثَّانِي: رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ، إِنْ شَاءَ عَامَلَهُمْ بِعَدْلِهِ فَعَذَّبَهُمْ بِقَدْرِ سَيِّئَاتِهِمْ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، وَإِنْ شَاءَ عَامَلَهُمْ بِرَحْمَتِهِ فَعَفَا عَنْهُمْ، وَغَفَرَ لَهُمْ، وَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّةَ.

وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الأَعْرَافِ، وَالأَظْهَرُ أَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّهُمْ، وَيَصِيرُونَ بَعْدَ الوُقُوفِ إِلَى الجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَعَفْوِهِ.

 حلقة ١٢

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي قَوْلِهِ: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ): إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدِي أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ)، وَلَمْ يَقُلْ: عَلَى "إِحْسَانِهِمْ".

يَقُولُ تَعَالَى: فَهَلْ يُهْلِكُ اللهُ بِعَذَابِهِ إِذَا أَنْـزَلَهُ إِلَّا القَوْمَ الَّذِينَ لَا خَيْرَ فِيهِمْ؛ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، مَعَ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَتَرْغِيبِهِ وَتَهْدِيدِهِ، وَكَفَرُوا بِهِ بَعْدَ الإِعْذَارِ وَالإِنْذَارِ، فَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ.

وَأَخْبَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ صَاحِبُ سِتْرٍ عَلَى النَّاسِ، فَيَسْتُرُ ذُنُوبَ التَّائِبِينَ الصَّادِقِينَ، وَإِنْ كَثُرَتْ وَتَكَرَّرَتْ، وَيَصْفَحُ لَهُمْ عَنْ عِقَابِهِمْ عَلَيْهَا عَاجِلًا وَآجِلًا، وَيُمْهِلُ الْمُذْنِبِينَ الْغَافِلِينَ عَنْ التَّوْبَةِ؛ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ.

قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).

وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ: أَنَّهُ لَا يُجَازِي عَلَى جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ؛ بَلْ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، كَمَا قَالَ: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).

وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُدْخِلُ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَيَغْفِرُ إِذَا شَاءَ لِمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ، وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ - وَلَوْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً - اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَلَكِنَّهُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِمَغْفِرَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ بِعَدْلِهِ.

وَأَمَّا الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ؛ فَهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا رَادَّ لِقَضَاءِ اللَّهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.

‏حلقة ١٣

عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟: "(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ". قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "«فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ»" بَدَلَ "عَلَيْهِمْ"، وَفِيهِ أَزْهَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا السُّيُوطِيُّ فَحَكَمَ عَلَى الحَدِيثِ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ.

وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ أَرْجَى آيَةٍ فِي القُرْآنِ.

وَقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ مَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي دِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، بِسَبَبِ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي، مَعَ عَفْوِ اللَّهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَكَثِيرِ الْجَوَادِ الْكَرِيمِ: كَثِيرٌ جِدًّا.

وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ: مَا جَاءَ عنْ أَبي سَعيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خطَايَاهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

"النَصَبُ": الإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ.

وَ"الْوَصَبُ": الْمَرَضُ.

وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمؤمِنَةِ، فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ". رَوَاهُ التِّرْمِذيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَصَحَّحَهُ المُنْذِرِيُّ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ.

 ‏حلقة ١٤

قَالَ تَعَالَى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).

قَالَ الشِّبْلِيُّ: إِذَا كَانَ اللَّهُ أَذِنَ لِلْكَافِرِ بِدُخُولِ الْبَابِ إِذَا أَتَى بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّهَادَةِ، أَفَتَرَاهُ يُخْرِجُ الدَّاخِلَ فِيهَا وَالْمُقِيمَ عَلَيْهَا؟!.

فَأَخْبَرَ اللهُ أَنَّ الكُفَّارَ إِنْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ فَيُنِيبُوا إِلَى الإِيمَانِ، فَإِنَّ مَا مَضَى لَهُمْ مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي يُغْفَرُ.

وَعَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، يَبَكِي طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟» وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ كَرَمِ اللهِ بِمَنْ أَحْسَنَ فِي إِسْلَامِهِ، وَتَابَ مِنْ آثَامِهِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فِي أَيَّامِهِ، مَا وَعَدَ فِي قُرْآنِهِ، قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).

 حلقة ١٥

أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: جُعِلَتْ كَفَّارَةُ ذُنُوبِكُمْ قَوْلًا تَقُولُونَهُ، تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ آيَةً لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

فَمَا أَرْحَمَ اللَّهَ بِعِبَادِهِ! لَيْسَ عَلَى مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَاقْتَرَفَ مَعْصِيَةً - وَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ مِرَارًا وَتَكْرَارًا، مَعَ عَزْمِهِ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ - إِلَّا أَنْ يُتْبِعَهُ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى، قَالَ: "أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَفعَلْ مَا شَاءَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: "فَلْيَفْعلْ مَا شَاءَ"؛ أَيْ: مَا دَامَ يَفْعَلُ هَكَذا؛ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ وَشَيْطَانُهُ فيُذْنِبُ، وَيَتُوبُ مِنْ قَلْبِهِ صَادِقًا فَأَغْفِرُ لَهُ، فَإِنَّ التَّوبَةَ تَهِدِمُ مَا قَبْلَهَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ صِفَاتِهِ العَفْوُ وَالصَّفْحُ وَالمَغْفِرَةُ؛ فَهَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيَغْفِرُ اللهُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ؟

‏ حلقة ١٦

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثَمَانِي آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، هُنَّ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ:

أَوَّلُهُنَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ).

وَالثَّانِيَةُ: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ).

وَالثَّالِثَةُ: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ).

وَالرَّابِعَةُ: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا).

وَالْخَامِسَةُ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا).

وَالسَّادِسَةُ: (وَمَن يَعْمَلْ سُوٓءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا).

وَالسَّابِعَةُ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا).

وَالثَّامِنَةُ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).

فَدَلَّتِ الآيَاتُ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَوَادٌ كَرِيمٌ، غَفُورٌ رَحِيمٌ، يُرِيدُ بِعِبَادِهِ الهِدَايَةَ، وَاليُسْرَ، وَالتَّخْفِيفَ، وَيُحِبُّ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ، وَتَكْفِيرَ سَيِّئَاتِهِمْ، وَمُضَاعَفَةَ حَسَنَاتِهِمْ، وَرَفْعَ دَرَجَاتِهِمْ، لَكِنْ لِيَبْتَعِدُوا عَنِ الشِّرْكِ، وَالبِدْعَةِ، وَكَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَالإِصْرَارِ عَلَى صَغَائِرِهَا، وَعَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالاسْتِغْفَارِ.

‏حلقة ١٧

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالُوا: رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِهِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

فَالمَعْنَى: أَنَّهُمْ شَهِدُوا للهِ بِالوَحْدَانِيَّةِ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالأُلُوهِيَّةِ الخَالِصَةِ، فَلَمْ يَمِيلُوا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا عَنِ التَّوْحِيدِ الخَالِصِ.

وَفَضْلُ التَّوْحِيدِ عَظِيمٌ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ، وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ»، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ.

وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ كَانَتْ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ أَنَّهُ قَالَهَا وَاحْتَفَّتْ بِهَا أُمُورٌ، كَالعِلْمِ وَاليَقِينِ وَالإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكَفَّرَتْ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ ذُنُوبٍ، وَقَدْ يَرْحَمُ اللهُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَيُثَقِّلُ مِيزَانَهُ.

وَكَمْ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِمَّنْ شَهِدَ الشَّهَادَتَيْنِ فَعُذِّبَ بِذُنُوبِهِ مُدَّةً ثُمَّ دَخَلَ الجَنَّةَ!، وَكَمْ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ مِمَّنْ شَهِدَ الشَّهَادَتَيْنِ نِفَاقًا فَهُوَ خَالِدٌ فِي عَذَابِ النَّارِ!

‏حلقة ١٨

أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدَّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَالَ: "مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَخْوَفَ عِنْدِي مِنْهَا: أَنَّا لَا نَنْهَى".

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ": فُقَهَاؤُهُمْ وَقُرَّاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، مَا أَخْوَفَنِي مِنْ هَذِهِ الآيَةِ!

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "كَانَ العُلَمَاءُ يَقُولُونَ: مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدَّ تَوْبِيخًا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ، وَلَا أَخْوَفَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا".

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَبِئْسَ الصَّنِيعُ سُكُوتَ هَؤُلَاءِ العُمَّالِ أَصْحَابِ المَنَاصِبِ مِنَ الأَئِمَّةِ وَالقَادَةِ المُرَبِّينَ وَالمُفَكِّرِينَ، وَالدُّعَاةِ المُصْلِحِينَ وَالمُرْشِدِينَ، وَالعُلَمَاءِ المُعَلِّمِينَ، وَالفُقَهَاءِ المُفْتِينَ، فِي تَرْكِهِمْ نَهْيَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ مِنْهُمْ فِي المُحَرَّمَاتِ القَوْلِيَّةِ وَالعَمَلِيَّةِ، وَالاعْتِدَاءَاتِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ - مِنْ رِشْوَةٍ وَغَيْرِهَا - مُقَابِلَ العُدُولِ عَنْ حُكْمِ اللهِ إِلَى حُكْمِ الشَّيْطَانِ المُوَافِقِ لِهَوَاهُمْ وَالمُؤَيِّدِ لِظُلْمِهِمْ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، قَالَ: خَطَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِرُكُوبِهِمُ المَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ، فَلَمَّا تَمَادَوْا فِي المَعَاصِي وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ أَخَذَتْهُمُ العُقُوبَاتُ، فَمُرُوا بِالمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ لَا يَقْطَعُ رِزْقًا وَلَا يُقَرِّبُ أَجَلًا.

وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَمِّ مَنْ لَا يُغَيِّرُ، مَعَ القُدْرَةِ عَلَى مَنْ يَعْمَلُ المَعَاصِيَ عَلَانِيَةً، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ العُلَمَاءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ.

وَإِنَّ مِنَ المَصَايِبِ وَالمَعَايِبِ تَرْكَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ عَجْزًا وَخَوَرًا؛ بَلْ بَعْضُ المَفْتُونِينَ يَأْمُرُ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَى عَنِ المَعْرُوفِ تَزَلُّفًا وَبَغْيًا، وَأَسْوَأُ مِنْهُ مَنْ يَرَى المُنْكَرَ مَعْرُوفًا وَالمَعْرُوفَ مُنْكَرًا، وَيَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَيَحْمِلُ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَيَضِلُّ وَيُضِلُّ.

 ‏حلقة ١٩

قَالَ البُخَارِيُّ: بَابُ الرَّجَاءِ مَعَ الخَوْفِ.

وَقَالَ سُفْيَانُ: "مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ: (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

إِنَّ القُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَبِعَهُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ..

وَإِقَامَتُهُ أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللهِ، وَنُقِيمَ حُرُوفَهُ وَحُدُودَهُ وَحُقُوقَهُ، وَنَعْمَلَ بِمُحْكَمِهِ، وَنُؤْمِنَ بِمُتَشَابِهِهِ، وَنُقِيمَ فَرَائِضَهُ، وَنُحِلَّ حَلَالَهُ، وَنُحَرِّمَ حَرَامَهُ.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ، وَأَخَذَ بِهِ، كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ."

وَقَدْ أَخْطَأَهُ أَهْلُ البِدَعِ وَالضَّلَالَةِ، فَأَقَامُوا لَفْظَهُ، وَعَطَّلُوا مَعْنَاهُ وَالعَمَلَ بِهِ؛ فَعَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قُلْتُ لِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي الْخَوَارِجِ شَيْئًا، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ - وَأَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ الْعِرَاقِ -: ‏"يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ‏"‏‏.‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ.‏ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ‏"‏فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ، أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِي‏"،‏ قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ - يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ‏"‏إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ‏"‏‏.‏‏‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 ‏حلقة ٢٠

أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ عِنْدَهُمْ أَخْوَفَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ: هَذَا المُنَافِقُ، يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَسِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ، وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَجْمَعَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَـزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ صِفَتُهُمْ.

وَمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ فِيهِ شَبَهٌ بِأَهْلِ النِّفَاقِ، يُخَالِفُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ، وَيَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَا يُصَدِّقُهُ عَمَلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ وَلَكِنْ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ أَوْ الْمُتَابَعَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً)، وَأَخْرَجَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِدِيرِ رَاهِبٍ، قَالَ: فَنَادَاهُ: يَا رَاهِبُ، يَا رَاهِبُ، فَأَشْرَفْ. قَالَ: فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْكِي. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا يُبْكِيكَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً)؛ فَذَاكَ الَّذِي أَبْكَانِي.

ثُمَّ إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي الإِسْلَامَ وَهُوَ لَا يَعْمَلُ بِهِ، أَوْ مُقِيمٌ عَلَى نَوَاقِضِهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُسِيءُ وَلَا يُحْسِنُ فِي أَدَاءِ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ.

رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ، فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ لَهُ جِدَةٌ وَلَمْ يَحُجَّ، فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ."

وَرَأَى حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، قَالَ: «مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ، الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي سِتِّينَ سَنَةً، مَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ، لَعَلَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا يُتِمُّ السُّجُودَ، وَيُتِمُّ السُّجُودَ وَلَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَخْرَجَهُ الأَصْبَهَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا، وَقَدْ حُسِّنَ.

 ‏حلقة ٢١

عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ -، قَالَ: أَخْوَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).

قَالَ صَاحِبُ الكَشَّافِ: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ يَقُولُ: هِيَ أَخْوَفُ آيَةٍ فِي القُرْآنِ، حَيْثُ أَوْعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِالنَّارِ المُعَدَّةِ لِلْكَافِرِينَ، إِنْ لَمْ يَتَّقُوهُ فِي اجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ». انتهى.

وَفِي الآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الكَبَائِرَ وَسِيلَةٌ وَذَرِيعَةٌ إِلَى الكُفْرِ، وَتَوَعَّدَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا إِنْ لَمْ يَتَّقِ اللهَ بِالنَّارِ الَّتِي هَيَّأَهَا لِلْكَافِرِينَ، فَالرِّبَا وَغَيْرُهُ مِنَ المُحَرَّمَاتِ العَظِيمَةِ، قَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي نَزْعِ الإِيمَانِ مِنَ الإِنْسَانِ.

وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا زَنَى الرَّجُلُ، خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ، كَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ، فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ العِرَاقِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ، حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الوَرَّاقُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرُ مَا يُنْزَعُ الإِيْمَانُ مِنَ العَبْدِ عِنْدَ المَوْتِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَنَظَرْنَا فِي الذُّنُوبِ الَّتِي تَنْزِعُ الإِيمَانَ، فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا أَسْرَعَ نَزْعًا لِلْإِيمَانِ مِنْ ظُلْمِ العِبَادِ.

حلقة 22

ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْوَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ)، قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ سَمِعْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ خَفِيرِ الْحَارَةِ لَمْ أَنَمْ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَعِيدٌ مِنَ اللهِ لِعِبَادِهِ وَتَهْدِيدٌ، كَقَوْلِ القَائِلِ الَّذِي يَتَهَدَّدُ غَيْرَهُ وَيَتَوَعَّدُهُ، وَلَا شُغْلَ لَهُ يَشْغَلُهُ عَنْ عِقَابِهِ: لَأَتَفَرَّغَنَّ لَكَ، وَسَأَتَفَرَّغُ لَكَ، بِمَعْنَى: سَأَجِدُّ فِي أَمْرِكَ وَأُعَاقِبُكَ .. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -: (سَنَفْرغُ لَكُمْ): سَنُحَاسِبُكُمْ، وَنَأْخُذُ فِي أَمْرِكُمْ أَيُّهَا الإِنْسُ وَالجِنُّ، فَنُعَاقِبُ أَهْلَ المَعَاصِي، وَنُثِيبُ أَهْلَ الطَّاعَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَعِيدٌ مِنَ اللهِ لِلْعِبَادِ، وَلَيْسَ بِاللهِ شُغْلٌ، وَهُوَ فَارِغٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ دَنَا مِنَ اللهِ فَرَاغٌ لِخَلْقِهِ.

فَاسْتَعِدَّ يَا عَبْدَ اللهِ لِمَشْهَدِ الآخِرَةِ، وَمَجِيءِ اللهِ لِفَصْلِ القَضَاءِ. قَالَ تَعَالَى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: (هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

‏حلقة ٢٣

فِي النَّوَادِرِ لِأَبِي زَيْدٍ: قَالَ مَالِكٌ: أَشَدُّ آيَةٍ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَوْلُهُ: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، فَتَأَوَّلَهَا عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نَصْرٍ فِي "الْإِبَانَةِ"، وَالخَطِيبُ فِي "تَارِيخِهِ"، وَاللَّالَكَائِيُّ فِي "السُّنَّةِ"، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: "صَارُوا فِرْقَتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لِمَنِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، فَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ، حَيْثُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَهُمُ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَأَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ، فَبَيَّضَ اللهُ وُجُوهَهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ."

وَالمَوْعِظَةُ هِيَ أَنَّ أَصْحَابَ الكُفْرِ وَأَهْلَ الأَهْوَاءِ لَهُمُ الخِزْيُ، وَالذِّلَّةُ، وَالمَهَانَةُ، وَالتَّوْبِيخُ، وَسَوَادُ الوُجُوهِ، وَالعَذَابُ المُؤْلِمُ المُوجِعُ.

وَأَمَّا أَصْحَابُ الإِيمَانِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَة، فَلَهُمُ الشَّرَفُ، وَالعِزَّةُ، وَالتَّكْرِيمُ، وَبَيَاضُ الوُجُوهِ، وَالنَّعِيمُ المُقِيمُ.

 ‏حلقة ٢٤

أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أَتَى أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا: مَا نَزَلَ عَلَيْنَا آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) الآيَةُ، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: (آمَنَ الرَّسُولُ) الآيَةَ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، "قَالَ: نَعَمْ"، (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)، "قَالَ: نَعَمْ"، (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، "قَالَ: نَعَمْ"، (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، "قَالَ: نَعَمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَعْلَمُ حَدِيثَ النَّفْسِ، وَمَا تَهِمُّ وَتُوَسْوِسُ بِهِ، وَمَا يُوَسْوِسُ لَهَا الشَّيْطَانُ، وَلَا يُحَاسِبُ اللهُ عَلَى الهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ الهَمَّ للهِ أُجِرَ، وَمُدَافَعَةُ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ صَرِيحُ الإِيمَانِ.

حلقة 25

أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: صَعِدَ أَبُو بَكْرٍ مِنْبَرَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لَتَتْلُونَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ وَتَعُدُّونَهَا رُخْصَةً، وَاللهِ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَشَدَّ مِنْهَا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَعُمَّنَّكُمُ اللهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ.

وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ وَشَوَاهِدُ، فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَهُ الضِّيَاءُ فِي "المُخْتَارَةِ مِنَ الأَحَادِيثِ الجِيَادِ"، وَقَدْ رَجَّحَ رَفْعَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ نَحْوُهُ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالحَاكِمُ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: إِذَا أَمَرْتَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ، فَلَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ مِثْلُهُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.

وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ فِي وَاجِبِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ كَثِيرَةٌ، وَحَسْبُنَا أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ المُحَمَّدِيَّةَ فَازَتْ بِالخَيْرِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ البَرِيَّةِ؛ لِقِيَامِهَا بِهَذَا الوَاجِبِ بِجِدِيَّةٍ.

قَالَ تَعَالَى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).

 ‏حلقة ٢٦

أَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)، قَالَ: مَا نَزَلَتْ عَلَيْنَا آيَةٌ كَانَتْ أَشَدَّ عَلَيْنَا مِنْهَا، وَلَا أَعْظَمَ عَلَيْنَا مِنْهَا، فَقُلْنَا: مَا هَذَا إِلَّا مِنْ سُخْطَةٍ أَوْ مَقْتٍ، حَتَّى نَزَلَتْ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، قَالَ: ذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتِ اشْتَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَأَوْا أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَ، فَأَنْزَلَ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).

وَمَعْنَى الآيَةِ: فَأَعْرِضْ يَا مُحَمَّدُ عَنْهُمْ، لَا يَلُومُكَ رَبُّكَ عَلَى تَفْرِيطٍ كَانَ مِنْكَ فِي الإِنْذَارِ، فَقَدْ أَنْذَرْتَ وَبَلَّغْتَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ.

نَعَمْ وَاللهِ لَقَدْ بَلَّغَ نَبِيُّنَا الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، حَتَّى تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ: مَنْ وَجَدَ لِلذِّكْرَى فِي قَلْبِهِ مَوْقِعًا، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، قَالَ اللهُ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤمنِينَ).

فَالتَّذْكِيرُ بِاللهِ وَبِمَا فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا غِنَى لِأَحَدٍ عَنْهُ، فَإِمَّا جَاهِلٌ فَيَتَعَلَّمُ، أَوْ غَافِلٌ فَيَتَنَبَّهُ، أَوْ ذَاكِرٌ فَيَتَشَجَّعُ وَيَتَحَمَّسُ.

أَمَّا مَنْ أَغْفَلَ اللهُ قَلْبَهُ عَنِ الذِّكْرِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، فَلَنْ يَنْتَفِعَ بِالذِّكْرِ.

 ‏حلقة ٢٧

أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبِ الإِيمَانِ"، عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ "المُسَبِّحَاتِ" قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، وَقَالَ: إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ المُسَبِّحَاتِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً هِيَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ. قَالَ يَحْيَى: فَنَرَاهَا الْآيَةَ الَّتِي فِي آخِرِ الْحَشْرِ.

وَآخِرُ آيَةٍ: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ تَحْتَ: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): وَهَذِهِ الآيَةُ هِيَ المُشَارُ إِلَيْهَا فِي حَدِيثِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ.

وَعَنْ سُهَيْلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا، إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ، أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ)، وَكَانَ يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ مُسْلِمٌ ..

‏حلقة ٢٨

أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى لِأَهْلِ النَّارِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (خَالِدين فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ)، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا زَمَانٌ تُخْفَقُ أَبْوَابُهَا.

لَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِافْتِرَاقِ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى مُؤْمِنٍ سَعِيدٍ بِإِيمَانِهِ، وَبِالنَّعِيمِ مِنْ رَبِّهِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. وَإِلَى كَافِرٍ شَقِيٍّ بِكُفْرِهِ، وَبِالعَذَابِ مِنْ رَبِّهِ الَّذِي لَا يَنْتَهِي؛ بَلْ يَزِيدُ فَيَلْبَثُ فِي النَّارِ حِقَبًا بَعْدَ حِقَبٍ، لَا حَدَّ لَهُ وَلَا آخِرَ. أَوْ مُسْلِمٍ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَشَقِيَ بِذُنُوبِهِ وَبِاللَّبْثِ فِي النَّارِ أَحْقَابًا - أَيْ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ مَحْدُودَةً - قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ.

قَالَ تَعَالَى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) ۞ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

وَقَوْلُهُ: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، ذَلِكَ أَنَّ العَرَبَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَصِفَ الشَّيْءَ بِالدَّوَامِ أَبَدًا قَالَتْ: هَذَا دَائِمٌ دَوَامَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ دَائِمٌ أَبَدًا.

وَقَوْلُهُ: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ)، قَالَ ابْنُ سِنَانٍ، وَخَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، وَغَيْرُهُمَا: "اسْتِثْنَاءٌ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ."

وَهَذَا الاسْتِثْنَاءُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ يُفِيدُ أَنَّ اللهَ قَدْ يَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، وَقَدْ يُعَاقِبُهُمْ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، فَيَأْتِي عَلَى نَارِ المُوَحِّدِينَ المُعَذَّبِينَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ وَذُنُوبِهِمْ يَوْمٌ تُصْفَقُ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.

وَعَلَيْهِ فَالآيَةُ أَرْجَى آيَةٍ لِعُصَاةِ المُوَحِّدِينَ المُعَذَّبِينَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.