عدد الزوار 7 التاريخ Wednesday, July 16, 2025 11:30 PM
فَأَجَابَ: السَّعْيُ فِي طَلَبِ المَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُخْرَوِيَّةِ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة: ٩-١٠]
وَقَالَ تَعَالَى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم: ٢٢]
قَالَ القُرْطُبِيُّ: الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ وَإِنْ كَانَ مَحْتُومًا؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَكَلَ ابْنَ آدَمَ إِلَى سَعْيِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ مَرْيَمَ بِهَزِّ النَّخْلَةِ لِتَرَى آيَةً، وَكَانَتِ الآيَةُ تَكُونُ بِأَلَّا تَهُزَّ.
الثَّالِثَةُ: الأَمْرُ بِتَكْلِيفِ الكَسْبِ فِي الرِّزْقِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، خِلَافًا لِمَا تَقُولُهُ جُهَّالُ المُتَزَهِّدَةِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا المَعْنَى وَالخِلَافُ فِيهِ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ غَيْرِ تَكَسُّبٍ، كَمَا قَالَ: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ...) الآيَةَ. فَلَمَّا وَلَدَتْ أُمِرَتْ بِهَزِّ الجِذْعِ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا كَانَ قَلْبُهَا فَارِغًا فَرَّغَ اللهُ جَارِحَتَهَا عَنِ النَّصَبِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى وَتَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِحُبِّهِ، وَاشْتَغَلَّ سِرُّهَا بِحَدِيثِهِ وَأَمْرِهِ، وَكَلَهَا إِلَى كَسْبِهَا، وَرَدَّهَا إِلَى العَادَةِ بِالتَّعَلُّقِ بِالأَسْبَابِ فِي عِبَادِهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) [الملك: ١٥]
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ: فَسَافِرُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَتَرَدَّدُوا فِي أَقَالِيمِهَا وَأَرْجَائِهَا فِي أَنْوَاعِ المَكَاسِبِ وَالتِّجَارَاتِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَعْيَكُمْ لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يُيَسِّرَهُ اللهُ لَكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) فَالسَّعْيُ فِي السَّبَبِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ هُبَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ أَبَا تَمِيمٍ الجَيْشَانِيَّ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَأَثْبَتَ لَهَا رَوَاحًا وَغُدُوًّا لِطَلَبِ الرِّزْقِ، مَعَ تَوَكُّلِهَا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ المُسَخِّرُ المُسَيِّرُ المُسَبِّبُ. انْتَهَى.
فَالأَخْذُ بِالأَسْبَابِ دُونَ الاعْتِمَادِ عَلَيْهَا مِنْ كَمَالِ الإِيمَانِ، وَأَعْظَمُ الأَسْبَابِ التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَتَحْقِيقُ كَمَالِهِ بِالأَخْذِ بِالأَسْبَابِ، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ اللهَ وَحْدَهُ هُوَ المُدَبِّرُ، وَأَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَأْتِي مِنَ اللهِ بِلَا سَبَبٍ، وَقَدْ يُؤْخَذُ بِالسَّبَبِ وَلَا يَأْتِي.
قَالَ تَعَالَى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات: ٢٢]